تفسير سورة الأحزاب

أحكام القرآن للجصاص

تفسير سورة سورة الأحزاب من كتاب أحكام القرآن المعروف بـأحكام القرآن للجصاص.
لمؤلفه الجصَّاص . المتوفي سنة 370 هـ

الشَّافِعِيُّ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ التَّفْسِيرِ مِمَّنْ لَمْ يُسَمِّهِ فِي احْتِجَاجِهِ عَلَى مُحَمَّدٍ فِي نَفْيِ أَنْ يَكُونَ الْوَلَدُ مِنْ رَجُلَيْنِ أَنَّهُ أُرِيدَ بِهَا مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ أَبَوَيْنِ فِي الْإِسْلَامِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ اللَّفْظُ غَيْرُ مُحْتَمِلٍ لِمَا ذُكِرَ لِأَنَّ الْقَلْبَ لَا يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ الْأَبِ لَا مَجَازًا وَلَا حَقِيقَةً وَلَا ذَلِكَ اسْمٌ لَهُ فِي الشَّرِيعَةِ فَتَأْوِيلُ الْآيَةِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى خَطَأٌ مِنْ وُجُوهٍ
وَقَدْ رَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ رَأَى جَارِيَةً مُجِحًّا فَقَالَ لِمَنْ هَذِهِ الْجَارِيَةُ فَقَالُوا لِفُلَانٍ فَقَالَ أَيَطَؤُهَا قَالُوا نَعَمْ قَالَ لَقَدْ هَمَمْت أَنْ أَلْعَنَهُ لَعْنَةَ رَجُلٍ يَدْخُلُ مَعَهُ فِي قَبْرِهِ كَيْفَ يُوَرِّثُهُ وَهُوَ لَا يَحِلُّ لَهُ أَمْ كَيْفَ يَسْتَرِقُّهُ وَقَدْ غَذَاهُ فِي سَمْعِهِ وَبَصَرِهِ
فَقَوْلُهُ قَدْ غَذَّاهُ فِي سَمْعِهِ وَبَصَرِهِ
يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوَلَدَ يَكُونُ مِنْ مَاءِ رَجُلَيْنِ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَعُمَرَ إثْبَاتُ نَسَبِ الْوَلَدِ مِنْ رَجُلَيْنِ وَلَا يُعْرَفُ عَنْ غَيْرِهِمَا مِنْ الصَّحَابَةِ خِلَافُهُ وقَوْله تَعَالَى وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللَّائِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ قَالَ أَبُو بَكْرٍ كَانُوا يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ فَيَقُولُونَ أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي فَأَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهَا لَا تَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ أُمِّهِ فِي التَّحْرِيمِ وَجَعَلَ هَذَا الْقَوْلَ مُنْكَرًا مِنْ الْقَوْلِ وَزُورًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً وَأَلْزَمَهُ بِذَلِكَ تَحْرِيمًا تَرْفَعُهُ الْكَفَّارَةُ وَأَبْطَلَ مَا أَوْجَبَهُ الْمُظَاهِرُ مِنْ جَعْلِهِ إيَّاهَا كَالْأُمِّ لِأَنَّ تحريمها تحريما مؤبدا وقوله تعالى وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ قِيلَ إنَّهُ نَزَلَ فِي زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ تَبَنَّاهُ فَكَانَ يُقَالُ لَهُ زَيْدُ بْنُ مُحَمَّدٍ وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ وَغَيْرِهِمَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ هَذَا يُوجِبُ نَسْخَ السُّنَّةِ بِالْقُرْآنِ لِأَنَّ الْحُكْمَ الْأَوَّلَ كَانَ ثَابِتًا بِغَيْرِ الْقُرْآنِ وَنَسَخَهُ بِالْقُرْآنِ وقَوْله تَعَالَى ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ يَعْنِي أَنَّهُ لَا حُكْمَ لَهُ وَإِنَّمَا هُوَ قَوْلٌ لَا مَعْنَى لَهُ وَلَا حَقِيقَةَ
وقَوْله تَعَالَى ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ فِيهِ إبَاحَةُ إطْلَاقِ اسْمِ الْأُخُوَّةِ وَحَظْرُ إطْلَاقِ اسْمِ الْأُبُوَّةِ مِنْ غَيْرِ جِهَةِ النَّسَبِ وَلِذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُنَا فِيمَنْ قَالَ لِعَبْدِهِ هُوَ أَخِي لَمْ يُعْتَقْ إذَا قَالَ لَمْ أُرِدْ بِهِ الْأُخُوَّةَ مِنْ النَّسَبِ لِأَنَّ ذَلِكَ يُطْلَقُ فِي الدِّينِ وَلَوْ قَالَ هُوَ ابْنِي عَتَقَ لِأَنَّ إطْلَاقَهُ مَمْنُوعٌ إلَّا مِنْ جِهَةِ النَّسَبِ
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ مَنْ ادَّعَى إلَى غَيْرِ أَبِيهِ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ غَيْرُ أَبِيهِ فَالْجَنَّةُ عَلَيْهِ حَرَامٌ
وقَوْله تَعَالَى وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ رَوَى ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ وَلَيْسَ عليكم جناح فيما أخطأتم به قَالَ قِيلَ هَذَا النَّهْيُ فِي هَذَا أَوْ في غيره ولكن ما تعمدت قلوبكم وَالْعَمْدُ مَا آثَرْته بَعْدَ الْبَيَانِ فِي النَّهْيِ فِي هَذَا أَوْ فِي غَيْرِهِ وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الله بن محمد بن إسحاق
قَالَ حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَبِي الرَّبِيعِ الْجُرْجَانِيُّ قَالَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْله تَعَالَى وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ قَالَ قَتَادَةُ لَوْ دَعَوْت رَجُلًا لِغَيْرِ أَبِيهِ وَأَنْتَ تَرَى أَنَّهُ أَبُوهُ لَيْسَ عَلَيْك بَأْسٌ وَسَمِعَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَجُلًا وَهُوَ يَقُولُ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي خَطَايَايَ فَقَالَ اسْتَغْفِرْ اللَّهَ فِي الْعَمْدِ فَأَمَّا الْخَطَأُ فَقَدْ تَجَوَّزَ عَنْك قال يَقُولُ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ الْخَطَأَ وَلَكِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ الْعَمْدَ وَمَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ الْمُقَاتَلَةَ وَلَكِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ التَّكَاثُرَ وَمَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ. أَنْ تَزْدَرُوا أَعْمَالَكُمْ وَلَكِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ أَنْ تَسْتَكْثِرُوهَا
وقَوْله تَعَالَى النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ
حدثنا عبد الله بن محمد بن إسحاق الْمَرْوَزِيِّ قَالَ حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَبِي الرَّبِيعِ الجرجاني قَالَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ فِي قَوْلِهِ النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ أَنَا أَوْلَى بِكُلِّ مُؤْمِنٍ مِنْ نَفْسِهِ فَأَيُّمَا رَجُلٍ مَاتَ وَتَرَكَ دَيْنًا فَإِلَيَّ وَإِنْ تَرَكَ مَالًا فَهُوَ لِوَرَثَتِهِ
وَقِيلَ فِي معنى النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم إنَّهُ أَحَقُّ بِأَنْ يَخْتَارَ مَا دَعَا إلَيْهِ مِنْ غَيْرِهِ وَمِمَّا تَدْعُوهُ إلَيْهِ أَنْفُسُهُمْ وَقِيلَ إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَقُّ أَنْ يَحْكُمَ فِي الْإِنْسَانِ بِمَا لَا يَحْكُمُ بِهِ فِي نَفْسِهِ لِوُجُوبِ طَاعَتِهِ لِأَنَّهَا مَقْرُونَةٌ بِطَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْخَبَرُ الَّذِي قَدَّمْنَا لَا يُنَافِي مَا عَقَّبْنَاهُ بِهِ مِنْ الْمَعْنَى وَلَا يُوجِبُ الِاقْتِصَارَ بِمَعْنَاهُ عَلَى قَضَاءِ الدَّيْنِ الْمَذْكُورِ فِيهِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ أَنَّهُ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ فِي أَنْ يَخْتَارُوا مَا أَدْعُوهُمْ إلَيْهِ دُونَ مَا تَدْعُوهُمْ أَنْفُسُهُمْ إلَيْهِ وَأَوْلَى بِهِمْ فِي الْحُكْمِ عَلَيْهِمْ وَلُزُومِهِمْ اتِّبَاعَهُ وَطَاعَتَهُ ثُمَّ أَخْبَرَ بَعْدَ ذَلِكَ بِقَضَاءِ دُيُونِهِمْ وقَوْله تَعَالَى وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ قيل فيه وجهان أحدهما أنهم كَأُمَّهَاتِهِمْ فِي وُجُوبِ الْإِجْلَالِ وَالتَّعْظِيمِ وَالثَّانِي تَحْرِيمُ نكاحهن وليس المراد أنهم كَالْأُمَّهَاتِ فِي كُلِّ شَيْءٍ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا جَازَ لِأَحَدٍ مِنْ النَّاسِ أَنْ يَتَزَوَّجَ بَنَاتِهِنَّ لِأَنَّهُنَّ يَكُنَّ أَخَوَاتٍ لِلنَّاسِ وَقَدْ زَوَّجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَنَاتِهِ وَلَوْ كُنَّ أُمَّهَاتٍ فِي الْحَقِيقَةِ وَرِثْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَقَدْ رُوِيَ فِي حَرْفِ عَبْدِ اللَّهِ وَهُوَ أَبٌ لَهُمْ وَلَوْ صَحَّ ذَلِكَ كَانَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ كَالْأَبِ لَهُمْ فِي الْإِشْفَاقِ عَلَيْهِمْ وَتَحَرِّي مَصَالِحِهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ وقَوْله تَعَالَى إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي جَوَازِ وَصِيَّةِ الْمُسْلِمِ لِلْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ وَعَنْ الْحَسَنِ أَنْ تَصِلُوا أَرْحَامَكُمْ وَقَالَ عَطَاءٌ هُوَ الْمُؤْمِنُ وَالْكَافِرُ بَيْنَهُمَا قَرَابَةٌ إعْطَاؤُهُ لَهُ
عَلَيْهِ تَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا تُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ وَتَصُومَ رَمَضَانَ وَتَحُجَّ الْبَيْتَ ثُمَّ قَالَ أَلَا أَدُلُّك عَلَى أَبْوَابٍ مِنْ الْخَيْرِ الصَّوْمُ جُنَّةٌ وَالصَّدَقَةُ تُطْفِئُ الْخَطِيئَةَ وَصَلَاةُ الرَّجُلِ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ ثُمَّ قَرَأَ تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ- حتى بلغ- جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ ثُمَّ قَالَ أَلَا أُخْبِرُك بِرَأْسِ الْأَمْرِ وَعَمُودِهِ وَذُرْوَةِ سَنَامِهِ قُلْت بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ رَأْسُهُ الْإِسْلَامُ وَعَمُودُهُ الصَّلَاةُ وَذِرْوَةُ سَنَامِهِ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قَالَ أَلَا أُخْبِرُك بِمَلَاكِ ذَلِكَ كُلِّهِ قُلْت بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ فَأَخَذَ بِلِسَانِهِ فَقَالَ اُكْفُفْ عَلَيْك هَذَا قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ بِهِ قَالَ ثَكِلَتْك أُمُّك يَا مُعَاذُ وَهَلْ يُكَبُّ النَّاسُ عَلَى وُجُوهِهِمْ أَوْ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ إلَّا حَصَائِدَ أَلْسِنَتِهِمْ
وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الله بن محمد بن إسحاق قَالَ حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَبِي الرَّبِيعِ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ قَالَ تَلَا قَتَادَةُ فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ قَالَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى أَعْدَدْت لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ وَرَوَى أَبُو إِسْحَاقَ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قال للذين تتجافى جنوبهم عن المضاجع مالا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ ثُمَّ تَلَا فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَعَطَاءٍ تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ قَالَا الْعِشَاءُ الْآخِرَةُ وَقَالَ الْحَسَنُ تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ كانوا يتنفلون بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ وَقَالَ الضَّحَّاكُ فِي قَوْلِهِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً إنَّهُمْ يَذْكُرُونَ اللَّهَ بِالدُّعَاءِ وَالتَّعْظِيمِ وَقَالَ قَتَادَةُ خَوْفًا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ وَطَمَعًا فِي رَحْمَةِ الله مما رزقناهم ينفقون فِي طَاعَةِ اللَّهِ آخِرَ سُورَةِ السَّجْدَةِ.
سُورَةِ الْأَحْزَابِ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قَوْله تَعَالَى مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رِوَايَةٌ أَنَّهُ كَانَ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ يُدْعَى ذَا الْقَلْبَيْنِ مِنْ دَهَائِهِ وَعَنْ مُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ مِثْلُهُ وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا كَانَ الْمُنَافِقُونَ يَقُولُونَ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَلْبَانِ فَأَكْذَبَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى وَقَالَ الْحَسَنُ كَانَ رَجُلٌ يَقُولُ لِي نَفْسٌ تَأْمُرُنِي وَنَفْسٌ تَنْهَانِي فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ هَذَا وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ أَيْضًا أَنَّ رَجُلًا مِنْ بَنِي فِهْرٍ قَالَ فِي جَوْفِي قَلْبَانِ أَعْقِلُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَفْضَلُ مِنْ عَقْلِ مُحَمَّدٍ فَكَذَّبَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَذَكَرَ أَبُو جَعْفَرٍ الطَّحَاوِيُّ أَنَّهُ لَمْ يُرْوَ فِي تَفْسِيرِهَا غَيْرُ مَا ذَكَرْنَا قَالَ وَحَكَى
أَيَّامَ حَيَاتِهِ وَوَصِيَّتُهُ لَهُ وَحَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَبِي الرَّبِيعِ الْجُرْجَانِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً قَالَ إلَّا أَنْ يَكُونَ لَك ذُو قَرَابَةٍ لَيْسَ عَلَى دِينِك فَتُوصِي لَهُ بِشَيْءٍ هُوَ وَلِيُّك فِي النَّسَبِ وَلَيْسَ وَلِيَّك فِي الدِّينِ
وقَوْله تَعَالَى لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَحْتَجُّ بِهِ فِي وُجُوبِ أَفْعَالِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلُزُومِ التَّأَسِّي بِهِ فِيهَا وَمُخَالِفُو هَذِهِ الْفِرْقَةِ يَحْتَجُّونَ بِهِ أَيْضًا فِي نَفْيِ إيجَابِ أَفْعَالِهِ فَأَمَّا الْأَوَّلُونَ فَإِنَّهُمْ ذَهَبُوا إلَى أَنَّ التَّأَسِّي بِهِ هُوَ الِاقْتِدَاءُ بِهِ وَذَلِكَ عُمُومٌ فِي الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ جَمِيعًا فَلَمَّا قَالَ تَعَالَى لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ وَاجِبٌ إذْ جَعَلَهُ شَرْطًا لِلْإِيمَانِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَنَحْوَهُ مِنْ الْأَلْفَاظِ الْمَقْرُونَةِ إلَى الْإِيمَانِ فَيَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ وَاحْتَجَّ الْآخَرُونَ بِأَنَّ قَوْلَهُ لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ يَقْتَضِي ظَاهِرُهُ النَّدْبَ دُونَ الْإِيجَابِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى لَكُمْ مِثْلَ قَوْلِ الْقَائِلِ لَك أَنْ تُصَلِّيَ وَلَك أَنْ تَتَصَدَّقَ لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى الْوُجُوبِ بَلْ يَدُلُّ ظَاهِرُهُ عَلَى أَنَّ لَهُ فِعْلَهُ وَتَرْكَهُ وَإِنَّمَا كَانَ يَدُلُّ عَلَى الْإِيجَابِ لَوْ قَالَ عَلَيْكُمْ التَّأَسِّي بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى الْوُجُوبِ بَلْ دَلَالَتُهُ عَلَى النَّدْبِ أَظْهَرُ مِنْهَا عَلَى الْإِيجَابِ لِمَا ذَكَرْنَا ومع ذلك وَرَدَ بِصِيغَةِ الْأَمْرِ لَمَا دَلَّ عَلَى الْوُجُوبِ فِي أَفْعَالِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّ التَّأَسِّي بِهِ هُوَ أَنْ نَفْعَلَ مِثْلَ مَا فَعَلَ وَمَتَى خَالَفْنَاهُ فِي اعْتِقَادِ الْفِعْلِ أَوْ فِي مَعْنَاهُ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ تَأَسِّيًا بِهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا فَعَلَهُ عَلَى النَّدْبِ وَفَعَلْنَاهُ عَلَى الْوُجُوبِ كُنَّا غَيْرَ مُتَأَسِّينَ بِهِ وَإِذَا فَعَلَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِعْلًا لَمْ يَجُزْ لَنَا أَنْ نَفْعَلَهُ عَلَى اعْتِقَادِ الْوُجُوبِ فِيهِ حَتَّى نَعْلَمَ أَنَّهُ فَعَلَهُ عَلَى ذَلِكَ فَإِذَا عَلِمْنَا أَنَّهُ فَعَلَهُ عَلَى الْوُجُوبِ لَزَمَنَا فِعْلُهُ عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ لَا مِنْ جِهَةِ هَذِهِ الْآيَةِ إذْ لَيْسَ فِيهَا دَلَالَةٌ عَلَى الْوُجُوبِ لَكِنْ مِنْ جِهَةِ مَا أَمَرَنَا اللَّهُ تَعَالَى بِاتِّبَاعِهِ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْآيَةِ
وقوله تعالى وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ قِيلَ إنَّهُ وَعَدَهُمْ أَنَّهُمْ إذَا لَقُوا الْمُشْرِكِينَ ظَفِرُوا بِهِمْ وَاسْتَعْلَوْا عَلَيْهِمْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَقَالَ قَتَادَةُ الَّذِي وَعَدَهُمْ فِي قَوْلِهِ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ الْآيَةَ وقَوْله تَعَالَى وَما زادَهُمْ إِلَّا إِيماناً وَتَسْلِيماً إخْبَارٌ عَنْ صِفَتِهِمْ فِي حَالِ الْمِحْنَةِ وَأَنَّهُمْ ازْدَادُوا عِنْدَهَا يَقِينًا وَبَصِيرَةً وَذَلِكَ صِفَةُ أَهْلِ الْبَصَائِرِ فِي الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ
وقَوْله تَعَالَى فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ قِيلَ إنَّ النَّحْبَ النَّذْرُ أَيْ قَضَى نَذْرَهُ
الَّذِي نَذَرَهُ فِيمَا عَاهَدَ اللَّهَ عَلَيْهِ وَقَالَ الْحَسَنُ قَضَى نَحْبَهُ مَاتَ عَلَى مَا عَاهَدَ عَلَيْهِ وَيُقَالُ إنَّ النَّحْبَ الْمَوْتُ وَالنَّحْبَ الْمَدُّ فِي السَّيْرِ يَوْمًا وَلَيْلَةً وَقَالَ مُجَاهِدٌ قَضَى نَحْبَهُ عَهْدَهُ قَالَ أَبُو بَكْرٍ لَمَّا كَانَ النَّحْبُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ الْعَهْدَ وَالنَّذْرَ وَقَدْ مَدَحَهُمْ اللَّهُ عَلَى الْوَفَاءِ بِهِ بِعَيْنِهِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مَنْ نَذَرَ قُرْبَةً فَعَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِهِ بِعَيْنِهِ دُونَ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ
وقَوْله تَعَالَى وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ قِيلَ فِي الصَّيَاصِي إنَّهَا الْحُصُونُ الَّتِي كَانُوا يَمْتَنِعُونَ بِهَا وَأَصْلُ الصِّيصَةِ قَرْنُ الْبَقَرَةِ وَبِهَا تَمْتَنِعُ وَتُسَمَّى بِهَا شَوْكَةُ الدِّيكِ لِأَنَّهُ بِهَا يَمْتَنِعُ فَسُمِّيَتْ الْحُصُونُ صَيَاصِيَ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى وَرُوِيَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا بَنُو قُرَيْظَةَ كَانُوا نَقَضُوا الْعَهْدَ وَعَاوَنُوا الْأَحْزَابَ وَقَالَ الْحَسَنُ هُمْ بَنُو النَّضِيرِ وَسَائِرُ الرُّوَاةِ عَلَى أَنَّهُمْ بَنُو قُرَيْظَةَ وَظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ قَالَ تعالى فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً وَلَمْ يَقْتُلْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَنِي النَّضِيرِ وَلَا أَسَرَهُمْ وَإِنَّمَا أَجَلَاهُمْ عَنْ بِلَادِهِمْ
وقَوْله تَعَالَى وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها يَعْنِي بِهِ أَرْضَ بَنِي قُرَيْظَةَ وَعَلَى تَأْوِيلِ مَنْ تَأَوَّلَهُ عَلَى بَنِي النَّضِيرِ فَالْمُرَادُ أَرْضُ بنى النضير وقوله تعالى وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها قَالَ الْحَسَنُ أَرْضُ فَارِسٍ وَالرُّومِ وَقَالَ قَتَادَةُ مَكَّةُ وَقَالَ يَزِيدُ بْنُ رُومَانٍ خَيْبَرُ قَالَ أَبُو بَكْرٍ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَحْتَجُّ بِهِ فِي أَنَّ الْأَرَضِينَ العنوية الَّتِي يَظْهَرُ عَلَيْهَا الْإِمَامُ يَمْلِكُهَا الْغَانِمُونَ وَلَا يَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ يُقِرَّ أَهْلَهَا عَلَيْهَا عَلَى أَنَّهَا مِلْكٌ لَهُمْ لِقَوْلِهِ وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها وَظَاهِرُهُ يَقْتَضِي إيجَابَ الْمِلْكِ لَهُمْ وَلَا دَلَالَةَ فيه على ما ذكروا لأن ظاهره قوله وَأَوْرَثَكُمْ لَا يَخْتَصُّ بِإِيجَابِ الْمِلْكِ دُونَ الظُّهُورِ وَالْغَلَبَةِ وَثُبُوتِ الْيَدِ وَمَتَى وَجَدَ أَحَدٌ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ فَقَدْ صَحَّ مَعْنَى اللَّفْظِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا وَلَمْ يُرِدْ بِذَلِكَ الْمُلْكَ وَأَيْضًا فَلَوْ صَحَّ أَنَّ الْمُرَادَ الْمُلْكُ كَانَ ذَلِكَ فِي أَرْضِ بنى قريظة في قوله وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وأما قوله وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها فَإِنَّهُ يَقْتَضِي أَرْضًا وَاحِدَةً لَا جَمِيعَ الْأَرْضِينَ فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ خَيْبَرَ فَقَدْ مَلَكَهَا الْمُسْلِمُونَ وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ أَرْضَ فَارِسٍ وَالرُّومِ لَقَدْ مَلَكَ الْمُسْلِمُونَ بَعْضَ أَرْضِ فَارِسٍ وَالرُّومِ فَقَدْ وُجِدَ مُقْتَضَى الْآيَةِ وَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى أَنَّ سَبِيلَهُمْ أَنْ يَمْلِكُوا جَمِيعَهَا إذْ كَانَ قوله وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها لَمْ يَتَنَاوَلْ إلَّا أَرْضًا وَاحِدَةً فَلَا دَلَالَةَ فيه على قول المخالف
وقوله تعالى «١٥- احكام مس»
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها الآية
حدثنا عبد الله ابن مُحَمَّدٍ الْمَرْوَزِيِّ قَالَ حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَبِي الرَّبِيعِ الجرجاني قَالَ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ لَمَّا نَزَلَتْ وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ دَخَلَ عَلَيَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَدَأَ بِي فَقَالَ يَا عَائِشَةُ إنِّي ذَاكِرٌ لَك أَمْرًا فَلَا عَلَيْك أَنْ لَا تُعَجِّلِي فِيهِ حَتَّى تَسْتَأْمِرِي أَبَوَيْك قَالَتْ قَدْ عَلِمَ الله تعالى إن أبوى لم يكونا يأمر اننى بِفِرَاقِهِ قَالَتْ فَقَرَأَ عَلَيَّ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ
الْآيَةَ فَقُلْت أَفِي هَذَا أَسْتَأْمِرُ أَبَوَيَّ فَإِنِّي أُرِيدُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ
وَرَوَى غَيْرُ الجرجاني عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ قَالَ مَعْمَرٌ فَأَخْبَرَنِي أَيُّوبُ أَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَا تُخْبِرْ أَزْوَاجَك أَنِّي أَخْتَارُك قَالَ إنَّمَا بُعِثْت مُعَلِّمًا وَلَمْ أُبْعَثْ مُتَعَنِّتًا
قَالَ أَبُو بَكْرٍ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي مَعْنَى تَخْيِيرِ الْآيَةِ فَقَالَ قَائِلُونَ وَهُمْ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ إنَّمَا خَيَّرَهُنَّ بَيْنَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لِأَنَّهُ قَالَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها- إلَى قَوْلِهِ- وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ وَقَالَ آخَرُونَ بَلْ كَانَ تَخْيِيرًا لِلطَّلَاقِ عَلَى شَرِيطَةِ أَنَّهُنَّ إذَا اخْتَرْنَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا كُنَّ مُخْتَارَاتٍ لِلطَّلَاقِ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلًا فَجَعَلَ اخْتِيَارَهُنَّ لِلدُّنْيَا اخْتِيَارًا لِلطَّلَاقِ وَيَسْتَدِلُّونَ عَلَيْهِ أَيْضًا بِمَا رَوَى مَسْرُوقٌ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا سُئِلَتْ عَنْ الرَّجُلِ يُخَيِّرُ امْرَأَتَهُ فَقَالَتْ قَدْ خَيَّرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفَكَانَ طَلَاقًا وَفِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ فَاخْتَرْنَاهُ فَلَمْ يَعُدَّهُ طَلَاقًا قَالُوا وَلَمْ يَثْبُتْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيَّرَهُنَّ إلَّا الْخِيَارَ الْمَأْمُورَ بِهِ فِي الْآيَةِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا قَدَّمْنَاهُ
مِنْ حَدِيثِ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا لَمَّا نَزَلَتْ الْآيَةُ قَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنِّي ذَاكِرٌ لَك أَمْرًا فَلَا عَلَيْك أَنْ لَا تُعَجِّلِي فِيهِ حَتَّى تَسْتَأْمِرِي أَبَوَيْك قَالَتْ قَدْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّ أَبَوَيَّ لَمْ يَكُونَا يَأْمُرَانِنِي بِفِرَاقِهِ ثُمَّ تَلَا عَلَيْهَا الْآيَةَ قَالَتْ إنِّي أُرِيدُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ
فَقَالُوا هَذَا الْخَبَرُ أَيْضًا قَدْ حَوَى الدَّلَالَةَ مِنْ وُجُوهٍ عَلَى أَنَّهُ خَيَّرَهُنَّ بَيْنَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَبَيْنَ اخْتِيَارِهِنَّ الطَّلَاقَ أَوْ الْبَقَاءَ عَلَى النِّكَاحِ لِأَنَّهُ قَالَ لَهَا لَا عَلَيْك أَنْ لَا تُعَجِّلِي حَتَّى تَسْتَأْمِرِي أَبَوَيْك وَمَعْلُومٌ أَنَّ الِاسْتِئْمَارَ لَا يَقَعُ فِي اخْتِيَارِ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ فَثَبَتَ أَنَّ الِاسْتِئْمَارَ إنَّمَا أُرِيدَ بِهِ فِي الْفُرْقَةِ أَوْ الطَّلَاقِ أَوْ النِّكَاحِ وَقَوْلُهَا إنَّ أَبَوَيَّ لَمْ يَكُونَا يَأْمُرَانِنِي بِفِرَاقِهِ وَقَوْلُهَا إنِّي أُرِيدُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَهَذِهِ الْوُجُوهُ كُلُّهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْآيَةَ قَدْ اقْتَضَتْ التَّخْيِيرَ بَيْنَ الطَّلَاقِ وَالنِّكَاحِ وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ لَمْ يَكُنْ تَخْيِيرَ طَلَاقٍ بِقَوْلِهِ تعالى
226
تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سراحا جميلا فَإِنَّمَا أَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُطَلِّقَهُنَّ إذَا اخْتَرْنَ الدُّنْيَا وَلَمْ يُوجِبْ ذَلِكَ وُقُوعَ طَلَاقٍ بِاخْتِيَارِهِنَّ كَمَا يَقُول الْقَائِلُ لِامْرَأَتِهِ إنْ اخْتَرْت كَذَا طَلَّقْتُك يُرِيدُ بِهِ اسْتِئْنَافَ إيقَاعٍ بَعْدَ اخْتِيَارِهَا لِمَا ذَكَرَهُ قَالَ أَبُو بَكْرٍ قَدْ اقْتَضَتْ الْآيَةُ لَا مَحَالَةَ تَخْيِيرَهُنَّ بَيْنَ الْفِرَاقِ وَبَيْنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّ قَوْلَهُ وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ قَدْ دَلَّ عَلَى إضْمَارِ اخْتِيَارِهِنَّ فِرَاقَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها إذْ كَانَ النَّسَقُ الْآخَرُ مِنْ الِاخْتِيَارِ هُوَ اخْتِيَارُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالدَّارِ الْآخِرَةِ فَثَبَتَ أَنَّ الِاخْتِيَارَ الْآخَرَ إنَّمَا هُوَ اخْتِيَارُ فِرَاقِهِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَالْمُتْعَةُ إنَّمَا هِيَ بَعْدَ اخْتِيَارِهِنَّ لِلطَّلَاقِ وَقَوْلُهُ وَأُسَرِّحْكُنَّ إنَّمَا الْمُرَادُ إخْرَاجُهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ بَعْدَ الطَّلَاقِ كَمَا قَالَ تَعَالَى إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ- إلى قوله- سَراحاً جَمِيلًا فَذَكَرَ الْمُتْعَةَ بَعْدَ الطَّلَاقِ وَأَرَادَ بِالتَّسْرِيحِ إخْرَاجَهَا من بيته وقد اختلف السلف فيمن خيرا امْرَأَتَهُ
فَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إنْ اخْتَارَتْ زَوْجَهَا فَوَاحِدَةٌ رَجْعِيَّةٌ وَإِنْ اخْتَارَتْ نَفْسَهَا فواحدة بائنة
وذلك في رواية زادان عَنْهُ
وَرَوَى أَبُو جَعْفَرٍ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهَا إذَا اخْتَارَتْ زَوْجَهَا فَلَا شَيْءَ وَإِنْ اخْتَارَتْ نَفْسَهَا فَوَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ
وَقَالَ عُمَرُ وَعَبْدُ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي الْخِيَارِ وَأَمْرُك بِيَدِك إنْ اخْتَارَتْ نَفْسَهَا فَوَاحِدَةٌ رَجْعِيَّةٌ وَإِنْ اخْتَارَتْ زَوْجَهَا فَلَا شَيْءَ وَقَالَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ فِي الْخِيَارِ إنْ اخْتَارَتْ زَوْجَهَا فَلَا شَيْءَ وَإِنْ اخْتَارَتْ نَفْسَهَا فَثَلَاثٌ وَقَالَ فِي أَمْرُكِ بِيَدِك إنْ اخْتَارَتْ نَفْسَهَا فَوَاحِدَةٌ رَجْعِيَّةٌ وَاخْتَلَفَ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ فِي ذَلِكَ أَيْضًا فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَزُفَرُ وَمُحَمَّدٌ إنْ اخْتَارَتْ زَوْجَهَا فَلَا شَيْءَ وَإِنْ اخْتَارَتْ نَفْسَهَا فَوَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ إذَا أَرَادَ الزَّوْجُ الطَّلَاقَ وَلَا يَكُونُ ثَلَاثًا وَإِنْ نَوَى وَقَالُوا فِي أَمْرُكِ بِيَدِك مِثْلُ ذَلِكَ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ ثَلَاثًا فَيَكُونُ ثلاثا وقال ابن أبى ليلى والشورى وَالْأَوْزَاعِيُّ فِي الْخِيَارِ إنْ اخْتَارَتْ زَوْجَهَا فَلَا شَيْءَ وَإِنْ اخْتَارَتْ نَفْسَهَا فَوَاحِدَةٌ يَمْلِكُ بِهَا الرَّجْعَةَ وَقَالَ مَالِكٌ فِي الْخِيَارِ إنَّهُ ثَلَاثٌ إذَا اخْتَارَتْ نَفْسَهَا وَإِنْ طَلَّقَتْ نَفْسَهَا وَاحِدَةً لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ وَقَالَ فِي أَمْرُكِ بِيَدِك إذَا قَالَتْ أَرَدْت وَاحِدَةً فَهِيَ وَاحِدَةٌ يَمْلِكُ الرَّجْعَةَ وَلَا يُصَدَّقُ فِي الْخِيَارِ أَنَّهُ أَرَادَ وَاحِدَةً وَلَوْ قَالَ اخْتَارِي تَطْلِيقَةً فَطَلَّقَتْ نَفْسَهَا فَهِيَ وَاحِدَةٌ رَجْعِيَّةٌ وَقَالَ اللَّيْثُ فِي الْخِيَارِ إنْ اخْتَارَتْ زَوْجَهَا فَلَا شَيْءَ وَإِنْ اخْتَارَتْ نَفْسَهَا فَهِيَ بَائِنَةٌ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي اخْتَارِي وَأَمْرُك بِيَدِك لَيْسَ بِطَلَاقٍ إلَّا أَنْ
227
يُرِيدَ الزَّوْجُ وَلَوْ أَرَادَ طَلَاقَهَا فَقَالَتْ قَدْ اخْتَرْت نَفْسِي فَإِنْ أَرَادَتْ طَلَاقًا فَهُوَ طَلَاقٌ وَإِنْ لَمْ تُرِدْهُ فَلَيْسَ بِطَلَاقٍ قَالَ أَبُو بَكْرٍ التَّخْيِيرُ فِي نَفْسِهِ لَيْسَ بِطَلَاقٍ لَا صَرِيحٍ وَلَا كِنَايَةٍ وَلِذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُنَا إنَّهُ لَا يَكُونُ ثَلَاثًا وَإِنْ أَرَادَهُنَّ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ
أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيَّرَ نِسَاءَهُ فَاخْتَرْنَهُ
فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ طَلَاقًا وَلِأَنَّ الْخِيَارَ لَا يَخْتَصُّ بِالطَّلَاقِ دُونَ غَيْرِهِ فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَيْهِ وَلَيْسَ هُوَ عِنْدَكُمْ كَقَوْلِهِ اعتدى أن يَكُونُ طَلَاقًا إذَا نَوَى لِأَنَّ الْعِدَّةَ مِنْ مُوجِبِ الطَّلَاقِ فَالطَّلَاقُ مَدْلُولٌ عَلَيْهِ بِاللَّفْظِ وَإِنَّمَا جَعَلُوا الْخِيَارَ طَلَاقًا إذَا اخْتَارَتْ نَفْسَهَا بِالِاتِّفَاقِ وَبِأَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّ تَخْيِيرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نِسَاءَهُ لَمَّا كَانَ بَيْنَ الْفِرَاقِ وَالْبَقَاءِ عَلَى النِّكَاحِ أَنَّهُنَّ لَوْ اخْتَرْنَ أَنْفُسَهُنَّ لوقعت الفرقة لولا ذلك لم يكن للتخيير مَعْنًى وَتَشْبِيهًا لَهُ أَيْضًا بِسَائِرِ الْخِيَارَاتِ الَّتِي تَحْدُثُ فِي النِّكَاحِ كَخِيَارِ امْرَأَةٍ الْعِنِّينَ وَالْمَجْبُوبَ فَيَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ إذَا اخْتَارَتْ الْفُرْقَةَ وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ لَمْ يَجْعَلُوهُ ثَلَاثًا لِأَنَّ الْخِيَارَاتِ الْحَادِثَةَ فِي الْأُصُولِ لَا تَقَعُ بِهَا ثَلَاثٌ.
(فَصْلٌ) قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَحْتَجُّ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي إيجَابِ الْخِيَارِ وَفِي التَّفْرِيقِ لِامْرَأَةِ الْعَاجِزِ عَنْ النَّفَقَةِ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا خُيِّرَ بَيْنَ الدنيا والآخرة فاختار الفقر والآخرة أمر الله بتخير نِسَائِهِ فَقَالَ تَعَالَى يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها الْآيَةَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ لَا دَلَالَةَ فِيهَا عَلَى مَا ذَكَرُوا وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ عَلَّقَ اخْتِيَارَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِفِرَاقِهِنَّ بِإِرَادَتِهِنَّ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَنْ أَرَادَ مِنْ نِسَائِنَا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا لَمْ يُوجِبْ ذَلِكَ تَفْرِيقًا بَيْنَهَا وَبَيْنَ زَوْجِهَا فَلَمَّا كَانَ السَّبَبُ الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ أَوْجَبَ اللَّهُ التَّخْيِيرَ الْمَذْكُورَ فِي الْآيَةِ غَيْرَ مُوجِبٍ لِلتَّخْيِيرِ فِي نِسَاءِ غَيْرِهِ فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى التَّفْرِيقِ بَيْنَ امْرَأَةِ الْعَاجِزِ عَنْ النَّفَقَةِ وَبَيْنَهُ وَأَيْضًا فَإِنَّ اخْتِيَارَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْآخِرَةِ دُونَ الدُّنْيَا وَإِيثَارَهُ لِلْفَقْرِ دُونَ الْغِنَى لَمْ يُوجِبْ أَنْ يَكُونَ عَاجِزًا عَنْ نَفَقَةِ نِسَائِهِ لِأَنَّ الْفَقِيرَ قَدْ يَقْدِرُ عَلَى نَفَقَةِ نِسَائِهِ مَعَ كَوْنِهِ فَقِيرًا وَلَمْ يَدَّعِ أَحَدٌ مِنْ النَّاسِ وَلَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ عَاجِزًا عَنْ نَفَقَةِ نِسَائِهِ بَلْ كَانَ يَدَّخِرُ لِنِسَائِهِ قُوتَ سَنَةٍ فَالْمُسْتَدِلُّ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى مَا ذَكَرَ مُغْفِلٌ لِحُكْمِهَا
قَوْله تَعَالَى يَا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ قِيلَ فِي تَضْعِيفِ عَذَابِهِنَّ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لَمَّا كَانَتْ نِعَمُ اللَّهِ عَلَيْهِنَّ أَكْثَرَ مِنْهَا عَلَى غَيْرِهِنَّ بِكَوْنِهِنَّ أَزْوَاجًا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنُزُولِ الْوَحْيِ فِي بُيُوتِهِنَّ وَتَشْرِيفِهِنَّ بذلك كان
كُفْرَانُهَا مِنْهُنَّ أَعْظَمَ وَأَجْدَرَ بِعِظَمِ الْعِقَابِ لِأَنَّ النِّعْمَةَ كُلَّمَا عَظُمَتْ كَانَ كُفْرَانُهَا أَعْظَمَ فِيمَا يُسْتَحَقُّ بِهِ مِنْ الْعِقَابِ إذْ كَانَ اسْتِحْقَاقُ الْعِقَابِ عَلَى حَسَبِ كُفْرَانِ النِّعْمَةِ أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ لَطَمَ أَبَاهُ اسْتَحَقَّ مِنْ الْعُقُوبَةِ أَكْثَرَ مِمَّا يَسْتَحِقُّهُ مَنْ لَطَمَ أَجْنَبِيًّا لِعِظَمِ نِعْمَةِ أَبِيهِ عَلَيْهِ وَكُفْرَانِهِ لَهَا بِلَطْمَتِهِ وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ قَوْله تَعَالَى فِي نَسَقِ التِّلَاوَةِ وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ
فَدَلَّ عَلَى أَنَّ تَضْعِيفَ الْعَذَابِ عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْصِيَةِ لِأَجْلِ عِظَمِ النِّعْمَةِ عَلَيْهِنَّ بِتِلَاوَةِ آيَاتِ اللَّهِ فِي بُيُوتِهِنَّ وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ عَظُمَتْ طَاعَاتُهُنَّ أَيْضًا بِقَوْلِهِ وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ لِأَنَّ الطَّاعَةَ فِي اسْتِحْقَاقِ الثَّوَابِ بِهَا بِإِزَاءِ الْمَعْصِيَةِ فِي اسْتِحْقَاقِ الْعِقَابِ بِهَا وَالْوَجْهُ الْآخَرُ أَنَّ فِي إتْيَانِهِنَّ الْمَعَاصِيَ أَذًى لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَا يَلْحَقُ مِنْ الْعَارِ وَالْغَمِّ وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَنْ آذَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ أَعْظَمُ جُرْمًا مِمَّنْ آذَى غَيْرَهُ وَقَالَ تَعَالَى إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ ثُمَّ قَالَ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً وَلَمَّا عَظَّمَ اللَّهُ تَعَالَى طَاعَاتِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَوْجَبَ بِهَا الْأَجْرَ مَرَّتَيْنِ دَلَّ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ أَجْرَ الْعَامِلِ الْعَالِمِ أَفْضَلُ وَثَوَابُهُ أَعْظَمُ مِنْ الْعَامِلِ غَيْرِ الْعَالِمِ وقَوْله تَعَالَى وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ قَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ
قَوْله تَعَالَى فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ قِيلَ فِيهِ أَنْ لَا تُلِينَ الْقَوْلَ لِلرِّجَالِ عَلَى وَجْهٍ يُوجِبُ الطَّمَعَ فِيهِنَّ مِنْ أَهْلِ الرِّيبَةِ وَفِيهِ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ حُكْمُ سَائِرِ النِّسَاءِ فِي نَهْيِهِنَّ عَنْ إلَانَةِ الْقَوْلِ لِلرِّجَالِ عَلَى وَجْهٍ يُوجِبُ الطَّمَعَ فِيهِنَّ وَيُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى رَغْبَتِهِنَّ فِيهِمْ وَالدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ الْأَحْسَنَ بِالْمَرْأَةِ أَنْ لَا تَرْفَعَ صَوْتَهَا بِحَيْثُ يَسْمَعُهَا الرِّجَالُ وَفِيهِ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ مَنْهِيَّةٌ عَنْ الْأَذَانِ وَكَذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُنَا وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي آيَةٍ أُخْرَى وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ فَإِذَا كَانَتْ مَنْهِيَّةً عَنْ إسْمَاعِ صَوْتِ خَلْخَالِهَا فَكَلَامُهَا إذَا كَانَتْ شَابَّةً تُخْشَى مِنْ قِبَلِهَا الْفِتْنَةُ أَوْلَى بِالنَّهْيِ عَنْهُ
وقَوْله تَعَالَى وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ رَوَى هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ قَالَ قِيلَ لِسَوْدَةِ بِنْتِ زَمْعَةَ أَلَا تَخْرُجِينَ كَمَا تخرج إخوتك قَالَتْ وَاَللَّهِ لَقَدْ حَجَجْت وَاعْتَمَرْت ثُمَّ أَمَرَنِي الله أن أقر في بيتي فو الله لَا أَخْرُجُ فَمَا خَرَجَتْ حَتَّى أَخْرَجُوا جِنَازَتَهَا وقيل إن معنى وقرن في بيوتكن كن أهل وقار وهدوء وسكينة يقال وقرفلان فِي مَنْزِلِهِ يَقِرُ وُقُورًا إذَا هَدَأَ فِيهِ وَاطْمَأَنَّ بِهِ وَفِيهِ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ النِّسَاءَ مأمورات بلزوم
الْبُيُوتِ مَنْهِيَّاتٌ عَنْ الْخُرُوجِ وقَوْله تَعَالَى وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى رَوَى ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ وَلا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى قَالَ كَانَتْ الْمَرْأَةُ تَتَمَشَّى بَيْنَ أَيْدِي الْقَوْمِ فَذَلِكَ تَبَرُّجُ الْجَاهِلِيَّةِ وَقَالَ سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى يَعْنِي إذَا خَرَجْتُنَّ مِنْ بُيُوتِكُنَّ قَالَ كَانَتْ لَهُنَّ مِشْيَةٌ وَتَكَسُّرٌ وَتَغَنُّجٌ فَنَهَاهُنَّ اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ وَقِيلَ هُوَ إظْهَارُ الْمَحَاسِنِ لِلرِّجَالِ وَقِيلَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى مَا قَبْلَ الْإِسْلَامِ وَالْجَاهِلِيَّةِ الثَّانِيَةِ حَالُ مَنْ عَمِلَ فِي الْإِسْلَامِ بِعَمَلِ أُولَئِكَ فَهَذِهِ الْأُمُورُ كُلُّهَا مِمَّا أَدَّبَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ نِسَاءَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صِيَانَةً لَهُنَّ وَسَائِرُ نِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ مُرَادَاتٌ بِهَا وقَوْله تَعَالَى إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ رُوِيَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي عَلِيٍّ وَفَاطِمَةَ وَالْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ وَقَالَ عِكْرِمَةُ فِي أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّةً وَمَنْ قَالَ بِذَلِكَ
يَحْتَجُّ بِأَنَّ ابْتِدَاءَ الْآيَةِ وَنَسَقَهَا فِي ذِكْرِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهِ وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ فِي أَهْلِ بَيْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي أَزْوَاجِهِ لِاحْتِمَالِ اللَّفْظِ لِلْجَمِيعِ
وقَوْله تَعَالَى وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ فيه الدلالة على أن أوامر الله وَأَوَامِرَ رَسُولِهِ عَلَى الْوُجُوبِ لِأَنَّهُ قَدْ نَفَى بِالْآيَةِ أَنْ تَكُونَ لَنَا الْخِيَرَةُ فِي تَرْكِ أَوَامِرِ اللَّهِ وَأَوَامِرِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْوُجُوبِ لَكُنَّا مُخَيَّرِينَ بَيْنَ التَّرْكِ وَالْفِعْلِ وَقَدْ نَفَتْ الْآيَةُ التَّخْيِيرَ وقَوْله تَعَالَى وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فِي نَسَقِ ذِكْرِ الْأَوَامِرِ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا وَأَنَّ تَارِكَ الْأَمْرِ عَاصٍ لِلَّهِ تَعَالَى ولرسوله صلّى الله عليه وسلّم فقد انتظمت الآية الدلالة عَلَى وُجُوبِ أَوَامِرِ اللَّهِ وَأَوَامِرِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهَا نَفَتْ التَّخْيِيرَ مَعَهُمَا وَالثَّانِي أَنَّ تَارِكَ الْأَمْرِ عاص الله ورسوله
وقوله تَعَالَى وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ الْآيَةَ
رَوَى سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ قَالَ قَالَ لِي عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ مَا كَانَ الْحُسَيْنُ يَقُولُ فِي قَوْله تَعَالَى وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ قَالَ قُلْت كَانَ يَقُولُ إنَّهَا كَانَتْ تُعْجِبُهُ وَإِنَّهُ قَالَ لِزَيْدٍ اتَّقِ اللَّهَ وَأَمْسِكْ عَلَيْك زَوْجَك قَالَ لَا وَلَكِنَّ اللَّهَ أَعْلَمَ نَبِيَّهُ أَنَّ زَيْنَبَ سَتَكُونُ مِنْ أَزْوَاجِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ زَيْدٌ يَشْكُو مِنْهَا قَالَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ وَأَمْسِكْ عَلَيْك زَوْجَك
قَالَ اللَّهُ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَقِيلَ إنَّ زَيْدًا قَدْ كَانَ يُخَاصِمُ امْرَأَتَهُ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدَامَ الشَّرُّ بَيْنَهُمَا حَتَّى ظَنَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُمَا لَا يَتَّفِقَانِ وَأَنَّهُ سَيُفَارِقُهَا فَأَضْمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ إنْ طَلَّقَهَا زَيْدٌ تَزَوَّجَهَا وَهِيَ زَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ وَكَانَتْ بِنْتَ عَمَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم
فَأَرَادَ أَنْ يَضُمَّهَا إلَيْهِ صِلَةً لِرَحِمِهَا وَإِشْفَاقًا عَلَيْهَا فَعَاتَبَهُ اللَّهُ عَلَى إضْمَارِ ذَلِكَ وَإِخْفَائِهِ وقوله لزيد اتق الله أمسك عَلَيْك زَوْجَك وَأَرَادَ أَنْ يَكُونَ بَاطِنُهُ وَظَاهِرُهُ عِنْدَ النَّاسِ سَوَاءً كَمَا قَالَ فِي قِصَّةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدٍ حِينَ قِيلَ لَهُ هَلَّا أَوْمَأْت إلَيْنَا بِقَتْلِهِ فَقَالَ مَا يَنْبَغِي لنبي أن تَكُونَ لَهُ خَائِنَةُ الْأَعْيُنِ وَأَيْضًا فَإِنَّ ذَلِكَ لم يكن مما يجب إخفاءه لِأَنَّهُ مُبَاحٌ جَائِزٌ وَاَللَّهُ تَعَالَى عَالِمٌ بِهِ وَهُوَ أَحَقُّ بِأَنْ يُخْشَى مِنْ النَّاسِ وَقَدْ أَبَاحَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَالنَّاسُ أَوْلَى بِأَنْ لَا يَخْشَوْا فِي إظْهَارِهِ وَإِعْلَانِهِ وَهَذِهِ الْقِصَّةُ نَزَلَتْ فِي زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ وَكَانَ مِمَّنْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِالْإِسْلَامِ وَأَنْعَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ بِالْعِتْقِ وَلِذَلِكَ قِيلِ لِلْمُعْتَقِ مَوْلَى نِعْمَةٍ وقَوْله تَعَالَى فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ الْآيَةَ قَدْ حَوَتْ هَذِهِ الْآيَةُ أَحْكَامًا أَحَدُهَا الْإِبَانَةُ عَنْ عِلَّةِ الْحُكْمِ فِي إبَاحَةِ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَّ ذَلِكَ قَدْ اقْتَضَى إبَاحَتَهُ لِلْمُؤْمِنِينَ فَدَلَّ عَلَى إثْبَاتِ الْقِيَاسِ فِي الْأَحْكَامِ وَاعْتِبَارِ الْمَعَانِي فِي إيجَابِهَا والثاني أن النبوة مِنْ جِهَةِ التَّبَنِّي لَا تَمْنَعُ جَوَازَ النِّكَاحِ وَالثَّالِثُ أَنَّ الْأُمَّةَ مُسَاوِيَةٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحُكْمِ إلَّا مَا خَصَّهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ لِأَنَّهُ أَخْبَرَ أَنَّهُ أَحَلَّ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَكُونَ الْمُؤْمِنُونَ مُسَاوِينَ لَهُ
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ فَإِنَّ الصَّلَاةَ مِنْ اللَّهِ هِيَ الرَّحْمَةُ وَمِنْ الْعِبَادِ الدُّعَاءُ قَالَ الْأَعْشَى:
عَلَيْك مِثْلُ الَّذِي صَلَّيْت فَاغْتَمِضِي نَوْمًا فَإِنَّ لِجَنْبِ الْمَرْءِ مُضْطَجَعَا
وروى معمر عن الحسن في قوله تعالى هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ قَالَ إنَّ بَنِي إسْرَائِيلَ سَأَلُوا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ هَلْ يُصَلِّي رَبُّك فَكَأَنَّ ذَلِكَ كَبُرَ في صدره فسأله فَأَوْحَى اللَّهُ إلَيْهِ أَنْ أَخْبِرْهُمْ أَنِّي أُصَلِّي وَأَنَّ صَلَاتِي رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي فَإِنْ قِيلَ مِنْ أَصْلِكُمْ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِاللَّفْظِ الْوَاحِدِ مَعْنَيَانِ مُخْتَلِفَانِ وَقَدْ جَاءَ فِي الْقُرْآنِ اشْتِمَالُ لَفْظِ الصَّلَاةِ عَلَى مَعْنَى الرَّحْمَةِ وَالدُّعَاءِ جَمِيعًا قِيلَ لَهُ هَذَا يَجُوزُ عِنْدَنَا فِي الْأَلْفَاظِ الْمُجْمَلَةِ وَالصَّلَاةُ اسْمٌ مُجْمَلٌ مُفْتَقِرٌ إلَى الْبَيَانِ فَلَا يَمْتَنِعُ إرَادَةُ الْمَعَانِي الْمُخْتَلِفَةِ فِيمَا كَانَ هَذَا سَبِيلُهُ
قَالَ قَتَادَةُ فِي قوله وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا صَلَاةُ الضُّحَى وَصَلَاةُ الْعَصْرِ وقَوْله تَعَالَى وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً سُمِّيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سِرَاجًا مُنِيرًا تَشْبِيهًا لَهُ بِالسِّرَاجِ الَّذِي بِهِ يُسْتَنَارُ الْأَشْيَاءُ فِي الظُّلْمَةِ لِأَنَّهُ بُعِثَ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم وقد طبقت على الْأَرْضَ ظُلْمَةُ الشِّرْكِ فَكَانَ كَالسِّرَاجِ الَّذِي يَظْهَرُ فِي الظُّلْمَةِ وَكَمَا سُمِّيَ الْقُرْآنُ نُورًا وَهُدًى وَرُوحًا وَسُمِّيَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ رُوحًا لِأَنَّ
231
الرُّوحَ بِهَا يَحْيَى الْحَيَوَانُ وَذَلِكَ كُلُّهُ مَجَازٌ وَاسْتِعَارَةٌ وَتَشْبِيهٌ وقَوْله تَعَالَى تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ قَالَ قَتَادَةُ تَحِيَّةُ أَهْلِ الْجَنَّةِ السَّلَامُ قَالَ أَبُو بَكْرٍ هُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ.
بَابُ الطَّلَاقِ قَبْلَ النِّكَاحِ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلًا قَالَ أَبُو بَكْرٍ قَدْ تَنَازَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي دَلَالَةِ هَذِهِ الْآيَةِ فِي صِحَّةِ إيقَاعِ طَلَاقِ الْمَرْأَةِ بِشَرْطِ التَّزْوِيجِ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ إنْ تَزَوَّجْت امْرَأَةً فَهِيَ طَالِقٌ فَقَالَ قَائِلُونَ قَدْ اقْتَضَتْ الْآيَةُ إلْغَاءَ هَذَا الْقَوْلِ وَإِسْقَاطَ حُكْمِهِ إذْ كَانَتْ مُوجِبَةً لِصِحَّةِ الطَّلَاقِ بَعْدَ النِّكَاحِ وَهَذَا الْقَائِلُ مُطَلِّقٌ قَبْلَ النِّكَاحِ وَقَالَ آخَرُونَ دَلَالَتُهَا ظَاهِرَةٌ فِي صِحَّةِ هَذَا الْقَوْلِ مِنْ قَائِلِهِ وَلُزُومِ حُكْمِهِ عِنْدَ وُجُودِ النِّكَاحِ لِأَنَّهَا حَكَمَتْ بِصِحَّةِ وُقُوعِ الطَّلَاقِ بَعْدَ النِّكَاحِ وَمَنْ قَالَ لِأَجْنَبِيَّةٍ إذَا تَزَوَّجْتُك فَأَنْتِ طَالِقٌ فَهُوَ مُطَلِّقٌ بَعْدَ النِّكَاحِ فَوَجَبَ بِظَاهِرِ الْآيَةِ إيقَاعُ طَلَاقِهِ وَإِثْبَاتُ حُكْمِ لَفْظِهِ وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الصَّحِيحُ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو الْعَاقِدُ لِهَذَا الْقَوْلِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُطَلِّقًا فِي حال العقد أو في حَالِ الْإِضَافَةِ وَوُجُودِ الشَّرْطِ فَلَمَّا اتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى أَنَّ مَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ إذَا بِنْتِ مِنِّي وَصِرْت أَجْنَبِيَّةً فَأَنْتِ طَالِقٌ أَنَّهُ مَوْقِعٌ لِلطَّلَاقِ فِي حَالِ الْإِضَافَةِ لَا فِي حَالِ الْقَوْلِ وَأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ مَنْ أَبَانَ امْرَأَتَهُ ثُمَّ قَالَ لَهَا أَنْتِ طَالِقٌ فَسَقَطَ حُكْمُ لَفْظِهِ وَلَمْ يُعْتَبَرْ حَالُ الْعَقْدِ مَعَ وُجُودِ النِّكَاحِ فِيهَا صَحَّ أَنَّ الِاعْتِبَارَ بِحَالِ الْإِضَافَةِ دُونَ حَالِ الْعَقْدِ فَإِنَّ الْقَائِلَ لِلْأَجْنَبِيَّةِ إذَا تَزَوَّجْتُك فَأَنْتِ طَالِقٌ مَوْقِعٌ لِلطَّلَاقِ بَعْدَ الْمِلْكِ وَقَدْ اقْتَضَتْ الْآيَةُ إيقَاعَ الطَّلَاقِ لِمَنْ طَلَّقَ بَعْدَ الْمِلْكِ وَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ عَلَى ضُرُوبٍ مِنْ الْأَقَاوِيلِ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَزُفَرُ وَمُحَمَّدٌ إذَا قَالَ كُلُّ امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا فَهِيَ طَالِقٌ أَوْ قَالَ كُلُّ مَمْلُوكٍ أَمْلِكُهُ فَهُوَ حُرٌّ أَنَّ مَنْ تَزَوَّجَ تَطْلُقُ وَمَنْ مَلَكَ مِنْ الْمَمَالِيكِ يُعْتَقُ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ مَنْ عَمَّ أَوْ خَصَّ وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى إذَا عَمَّ لَمْ يَقَعْ وَإِنْ سَمَّى شَيْئًا بِعَيْنِهِ أَوْ جَمَاعَةً إلَى أَجَلٍ وَقَعَ وَكَذَلِكَ قَوْلُ مَالِكٍ وَذُكِرَ عَنْ مَالِكٍ أَيْضًا أَنَّهُ إذَا ضَرَبَ لِذَلِكَ أَجَلًا يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَبْلُغُهُ فَقَالَ إنْ تَزَوَّجْت امْرَأَةً إلَى كَذَا وَكَذَا سَنَةً لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ ثُمَّ قَالَ مَالِكٌ وَلَوْ قَالَ كُلُّ عَبْدٍ أَشْتَرِيهِ فَهُوَ حُرٌّ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَقَالَ الثَّوْرِيُّ إذَا قَالَ إنْ تَزَوَّجْت فُلَانَةَ فَهِيَ طَالِقٌ لَزِمَهُ مَا قَالَ وَهُوَ
232
قَوْلُ عُثْمَانَ الْبَتِّيِّ وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ فِيمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ كُلُّ جَارِيَةٍ أَتَسَرَّى بِهَا عَلَيْك فَهِيَ حُرَّةٌ فَتَسَرَّى عَلَيْهَا جَارِيَةً فَإِنَّهَا تُعْتَقُ وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ إذَا قَالَ كُلُّ مَمْلُوكٍ أَمْلِكُهُ فَهُوَ حُرٌّ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ وَلَوْ قَالَ أَشْتَرِيهِ أَوْ أَرِثُهُ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ عَتَقَ إذَا مَلَكَ بِذَلِكَ الْوَجْهِ لِأَنَّهُ خَصَّ وَلَوْ قَالَ كُلُّ امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا فَهِيَ طَالِقٌ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ وَلَوْ قَالَ مِنْ بَنِي فُلَانٍ أَوْ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ أَوْ آلِ كَذَا لَزِمَهُ قَالَ الْحَسَنُ لَا نَعْلَمُ أَحَدًا مُنْذُ وُضِعَتْ الْكُوفَةُ أَفْتَى بِغَيْرِ هَذَا وَقَالَ اللَّيْثُ فِيمَا خَصَّ إنَّهُ يَلْزَمُهُ فِي الطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَا يَلْزَمُهُ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ لَا إذَا خَصَّ وَلَا إذَا عَمَّ وَقَدْ اخْتَلَفَ السَّلَفُ أَيْضًا فِي ذَلِكَ رُوِيَ عَنْ يَاسِينَ الزَّيَّاتِ عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ فِي رَجُلٍ قَالَ كُلُّ امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا فَهِيَ طَالِقٌ قَالَ هُوَ كَمَا قَالَ وَرَوَى مَالِكٌ عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ سُلَيْمٍ الزُّرَقِيِّ أَنَّهُ سَأَلَ الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدٍ عَنْ رَجُلٍ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ قَبْلَ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا فَقَالَ الْقَاسِمُ إنَّ رَجُلًا خَطَبَ امْرَأَةً فَقَالَ هِيَ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي إنْ تَزَوَّجْتهَا فَأَمَرَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا وَلَا يَقْرَبَهَا حَتَّى يُكَفِّرَ كَفَّارَةَ الظِّهَارِ وَرَوَى الثَّوْرِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ قَيْسٍ عَنْ إبْرَاهِيمَ عَنْ الْأَسْوَدِ أَنَّهُ قَالَ إنْ تَزَوَّجْت فُلَانَةَ فَهِيَ طَالِقٌ فَتَزَوَّجَهَا نَاسِيًا فَأَتَى ابْنَ مَسْعُودٍ فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ فَأَلْزَمَهُ الطَّلَاقَ وَهُوَ قَوْلُ النَّخَعِيِّ وَالشَّعْبِيِّ وَمُجَاهِدٍ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَقَالَ الشَّعْبِيُّ إذَا سَمَّى امْرَأَةً بِعَيْنِهَا أَوْ قَالَ إنْ تَزَوَّجْت مِنْ بَنِي فُلَانٍ فَهُوَ كَمَا قَالَ وَإِذَا قَالَ كُلُّ امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا فَلَيْسَ بِشَيْءٍ وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ إذَا قَالَ إنْ تَزَوَّجْت فُلَانَةَ فَهِيَ طَالِقٌ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ وَقَالَ الْقَاسِمُ بن سالم وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ هُوَ جَائِزٌ عَلَيْهِ وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي رَجُلٍ قَالَ إنْ تَزَوَّجْت فُلَانَةَ فَهِيَ طَالِقٌ أَنَّهُ لَيْسَ بِشَيْءٍ وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ وَجَابِرٍ فِي آخَرِينَ مِنْ التَّابِعِينَ قَالُوا لَا طَلَاقَ قَبْلَ نِكَاحٍ وَلَا دَلَالَةَ فِي هَذَا اللَّفْظِ عَلَى مُخَالَفَةِ قَوْلِ أَصْحَابِنَا لِأَنَّ عِنْدَنَا أَنَّ مَنْ قَالَ إنْ تَزَوَّجْت امْرَأَةً فَهِيَ طَالِقٌ أَنَّهُ
مُطَلِّقٌ بَعْدَ النِّكَاحِ وَمَا قَدَّمْنَا مِنْ دَلَالَةِ الْآيَةِ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِنَا كَافٍ فِي الِاحْتِجَاجِ عَلَى الْمُخَالِفِ وَتَصْحِيحِ الْمَقَالَةِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ اقْتَضَى ظَاهِرُهُ إلْزَامَ كُلِّ عَاقِدٍ مُوجَبَ عَقْدِهِ وَمُقْتَضَاهُ فَلَمَّا كَانَ هَذَا الْقَائِلُ عَاقِدًا عَلَى نَفْسِهِ إيقَاعَ طَلَاقٍ بَعْدَ النِّكَاحِ وَجَبَ أَنْ يَلْزَمَهُ حُكْمُهُ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُسْلِمُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ
أَوْجَبَ ذَلِكَ أَنَّ كُلَّ مَنْ شَرَطَ عَلَى نَفْسِهِ شَرْطًا ألزم حكمه عند وجود شرطه ويدله عَلَيْهِ مِنْ طَرِيقِ النَّظَرِ اتِّفَاقُ الْجَمِيعِ عَلَى أَنَّ النَّذْرَ لَا يَصِحُّ إلَّا فِي مِلْكٍ وَأَنَّ مَنْ قَالَ إنْ رَزَقَنِي اللَّهُ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَلِلَّهِ عَلَيَّ
233
أَنْ أَتَصَدَّقَ بِمِائَةٍ مِنْهَا أَنَّهُ نَاذِرٌ فِي مِلْكِهِ مِنْ حَيْثُ أَضَافَهُ إلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَالِكًا فِي الْحَالِ فَكَذَلِكَ الطَّلَاقُ وَالْعِتْقُ إذَا أَضَافَهُمَا إلَى الْمِلْكِ كَانَ مُطَلِّقًا وَمُعْتِقًا فِي الْمِلْكِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ مَنْ قَالَ لِجَارِيَتِهِ إنْ وَلَدْت وَلَدًا فَهُوَ حُرٌّ فَحَمَلَتْ بَعْدَ ذَلِكَ وَوَلَدَتْ أَنَّهُ يُعْتَقُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَالِكًا فِي حَالِ الْقَوْلِ لِأَنَّ الْوَلَدَ مُضَافٌ إلَى الْأُمِّ الَّتِي هُوَ مَالِكُهَا كَذَلِكَ إذَا أَضَافَ الْعِتْقَ إلَى الْمِلْكِ فَهُوَ مُعْتَقٌ فِي الْمِلْكِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مِلْكٌ مَوْجُودٌ فِي الْحَالِ وَأَيْضًا قَدْ اتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى أَنَّهُ إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَدَخَلَتْهَا مَعَ بَقَاءِ النِّكَاحِ أَنَّهَا تَطْلُقُ وَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ قَالَ لَهَا فِي تِلْكَ الْحَالِ أَنْتِ طَالِقٌ وَلَوْ أَبَانَهَا ثُمَّ دَخَلَهَا كَانَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ قَالَ لَهَا فِي تِلْكَ الْحَالِ أَنْتِ طَالِقٌ فَلَا تَطْلُقُ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْحَالِفَ يَصِيرُ كَالْمُتَكَلِّمِ بِالْجَوَابِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْقَائِلُ كُلُّ امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا فَهِيَ طَالِقٌ فَتَزَوَّجَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ تَزَوَّجَ ثُمَّ قَالَ لَهَا أَنْتِ طَالِقٌ فَإِنْ قِيلَ لَوْ كَانَ هَذَا صَحِيحًا لَوَجَبَ أَنَّهُ لَوْ حَلَفَ ثُمَّ جُنَّ فَوُجِدَ شَرْطُ الْيَمِينِ أَنْ لَا يَحْنَثَ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمُتَكَلِّمِ بِالْجَوَابِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ قِيلَ لَهُ لَا يَجِبُ ذَلِكَ لِأَنَّ الْمَجْنُونَ لَا قَوْلَ لَهُ وَقَوْلُهُ وَسُكُوتُهُ بِمَنْزِلَةٍ فَلَمَّا لَمْ يَصِحَّ قَوْلُهُ لَمْ يَصِحَّ إيقَاعُهُ ابْتِدَاءً وَلَمَّا كَانَ قَوْلُهُ قَبْلَ الْجُنُونِ صَحِيحًا لَزِمَهُ حُكْمُهُ فِي حَالِ الْجُنُونِ وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّ الْمَجْنُونَ قَدْ يَصِحُّ طَلَاقُ امْرَأَتِهِ وَعِتْقُ عَبْدِهِ لأنه لو كان مجنون أَوْ عِنِّينًا لَفُرِّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا وَكَانَ طَلَاقًا وَلَوْ وَرِثَ أَبَاهُ عَتَقَ عَلَيْهِ كَالنَّائِمِ لَا يَصِحُّ مِنْهُ ابْتِدَاءً الْإِيقَاعُ وَيَلْزَمُهُ حُكْمُهُ بِسَبَبٍ يُوجِبُهُ مِثْلَ أَنْ يَكُونَ قَدْ وَكَّلَ بِعِتْقِ عَبْدِهِ أَوْ طَلَاقِ امْرَأَتِهِ فَطَلَّقَ وَهُوَ نَائِمٌ فَإِنْ قِيلَ
قَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لا طَلَاقَ قَبْلَ نِكَاحٍ
قِيلَ لَهُ أَسَانِيدُهَا مُضْطَرِبَةٌ لَا يَصِحُّ مِنْ جِهَةِ النَّقْلِ وَلَوْ صَحَّ مِنْ جِهَةِ النَّقْلِ لَمْ يَدُلَّ عَلَى مَوْضِعِ الْخِلَافِ لِأَنَّ مَنْ ذَكَرْنَا مُطَلِّقٌ بَعْدَ النِّكَاحِ وَأَيْضًا فَإِنَّهُ نَفَى بِذَلِكَ إيقَاعَ طَلَاقٍ قَبْلَ النِّكَاحِ وَلَمْ يَنْفِ الْعَقْدَ فَلَمَّا كَانَ قَوْلُهُ لَا طَلَاقَ قَبْلَ نِكَاحٍ حَقِيقَتُهُ نَفْيُ الْإِيقَاعِ والعقد على الطلاق ليس بطلاق لم يتناوله اللَّفْظَ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ إطْلَاقَ ذَلِكَ فِي الْعَقْدِ مَجَازٌ لَا حَقِيقَةٌ لِأَنَّ مَنْ عقد يمينا على طلاق لإيقاع إنَّهُ قَدْ طَلَّقَ مَا لَمْ يَقَعْ وَحُكْمُ اللَّفْظِ حَمْلُهُ عَلَى الْحَقِيقَةِ حَتَّى تَقُومَ دَلَالَةُ الْمَجَازِ وَالثَّانِي أَنَّهُمْ لَمْ يَخْتَلِفُوا أَنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْحَقِيقَةِ فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْمَجَازُ لِأَنَّ لَفْظًا وَاحِدًا لَا يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْحَقِيقَةُ وَالْمَجَازُ
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ الزُّهْرِيِّ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا طَلَاقَ قَبْلَ نِكَاحٍ
إنَّمَا هُوَ أَنْ يُذْكَرَ لِلرَّجُلِ الْمَرْأَةُ فَيُقَالُ لَهُ تُزَوَّجْهَا فَيَقُولُ هِيَ طَالِقٌ أَلْبَتَّةَ فَهَذَا لَيْسَ
234
بِشَيْءٍ فَأَمَّا مَنْ قَالَ إنْ تَزَوَّجْت فُلَانَةَ فَهِيَ طَالِقٌ أَلْبَتَّةَ فَإِنَّمَا طَلَّقَهَا حِينَ تَزَوَّجَهَا وَكَذَلِكَ فِي الْحُرِّيَّةِ وَقَدْ قِيلَ فِيهِ إنَّهُ إنْ أَرَادَ الْعَقْدَ فَهُوَ الرَّجُلُ يَقُولُ لِأَجْنَبِيَّةٍ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ يَتَزَوَّجُهَا فَتَدْخُلُ الدَّارَ فَلَا تَطْلُقُ وَإِنْ كَانَ الدُّخُولُ فِي حَالِ النِّكَاحِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ لَا فَرْقَ بَيْنَ مَنْ خَصَّ أَوْ عَمَّ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ إذَا خَصَّ فَهُوَ مُطَلِّقٌ فِي الْمِلْكِ وَكَذَلِكَ حُكْمُهُ إذَا عَمَّ وَإِنْ كَانَ إذَا عَمَّ غَيْرَ مُطَلِّقٍ فِي مِلْكٍ فَكَذَلِكَ فِي حَالِ الْخُصُوصِ فَإِنْ قِيلَ إذَا عَمَّ فَقَدْ حَرَّمَ جَمِيعَ النِّسَاءِ عَلَى نَفْسِهِ كَالْمُظَاهِرِ لَمَّا حَرَّمَ امْرَأَتَهُ تَحْرِيمًا مُبْهَمًا لَمْ يَثْبُتْ حُكْمُهُ قِيلَ لَهُ هَذَا غَلَطٌ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا أَنَّ الْمُظَاهِرَ إنَّمَا قَصَدَ تَحْرِيمَ امْرَأَةٍ بِعَيْنِهَا وَمِنْ أَصْلِ الْمُخَالِفِ أَنَّهُ إذَا عَيَّنَ وَخَصَّ وَقَعَ طَلَاقُهُ وَإِنَّمَا لَا يُوقِعُهُ إذَا عَمَّ فَوَاجِبٌ عَلَى أَصْلِهِ أَنْ لَا يَقَعَ طَلَاقُهُ وَإِنْ خَصَّ كَمَا لَمْ تُحَرَّمْ الْمُظَاهِرَ مِنْهَا تَحْرِيمًا مُبْهَمًا وَأَيْضًا فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُبْطِلْ حُكْمَ ظِهَارِهِ وَتَحْرِيمِهِ بَلْ حَرَّمَهَا عليه بهذا القول وأثبت عليه حُكْمَ ظِهَارِهِ وَأَيْضًا إنَّ الْحَالِفَ بِطَلَاقِ مَنْ يَتَزَوَّجُ مِنْ النِّسَاءِ غَيْرُ مُحَرِّمٍ لِلنِّسَاءِ عَلَى نَفْسِهِ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجِبْ بِذَلِكَ تَحْرِيمَ النِّكَاحِ وَإِنَّمَا أَوْجَبَ طَلَاقًا بَعْدَ صِحَّةِ النِّكَاحِ وَوُقُوعِ اسْتِبَاحَةِ الْبُضْعِ وَأَيْضًا فَإِنَّهُ إذَا قَالَ كُلُّ امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا فَهِيَ طَالِقٌ مَتَى أَلْزَمْنَاهُ مَا عَقَدَ عَلَيْهِ مِنْ الطَّلَاقِ لَمْ يَكُنْ تَحْرِيمُ الْمَرْأَةِ مُبْهَمًا بَلْ إنَّمَا تَطْلُقُ وَاحِدَةً وَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا ثَانِيًا وَلَا يَقَعُ شَيْءٌ فَهَذِهِ الْوُجُوهُ كُلُّهَا تُنْبِئُ عَنْ إغْفَالِ هَذَا السَّائِلِ فِي سُؤَالِهِ ذَلِكَ وَأَنَّهُ لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِالْمَسْأَلَةِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ إذَا قَالَ إنْ تَزَوَّجْتهَا فَهِيَ طَالِقٌ وَإِنْ اشْتَرَيْته فَهُوَ حُرٌّ أَنَّهُ لَا يَقَعُ إلَّا أَنْ يَقُولَ إذَا صَحَّ نِكَاحِي لَك فَأَنْتِ طَالِقٌ بَعْدَ ذَلِكَ وَإِذَا مَلَكْتُك بِالشِّرَى فَأَنْتَ حُرٌّ وَذَهَبَ إلَى أَنَّهُ إذَا جَعَلَ النِّكَاحَ وَالشِّرَى شَرْطًا لِلطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ فَسَبِيلُ ذَلِكَ الْبُضْعِ وَمَلْكِ الرَّقَبَةِ أَنْ يَقَعَا بَعْدَ الْعَقْدِ وَهَذِهِ هِيَ حَالُ إيقَاعِ الطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ فَيُرَدُّ الْمِلْكُ وَالطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ مَعًا فَلَا يَقَعَانِ لِأَنَّ الطَّلَاقَ وَالْعَتَاقَ لَا يَقَعَانِ إلَّا فِي مِلْكٍ مُسْتَقِرٍّ قَبْلَ ذَلِكَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَهَذَا لَا مَعْنَى لَهُ لِأَنَّ الْقَائِلَ إذَا تَزَوَّجْتُك فَأَنْتِ طَالِقٌ وَإِذَا اشْتَرَيْتُك فَأَنْتَ حُرٌّ مَعْلُومٌ مِنْ فَحَوَى كَلَامِهِ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ إيقَاعَ الطَّلَاقِ بَعْدَ صِحَّةِ النِّكَاحِ وَإِيقَاعِ الْعَتَاقِ بَعْدَ صِحَّةِ الْمِلْكِ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْقَائِلِ إذَا مَلَكْتُك بِالنِّكَاحِ أَوْ مَلَكْتُك بِالشِّرَى فَلَمَّا كَانَ الْمِلْكُ بِالنِّكَاحِ وَالشِّرَى فِي مَضْمُونِ اللَّفْظِ صَارَ ذَلِكَ كَالنُّطْقِ بِهِ فَإِنْ قِيلَ لَوْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْقَائِلُ إنْ اشْتَرَيْت عَبْدًا فَامْرَأَتِي طَالِقٌ فَاشْتَرَى عَبْدًا لِغَيْرِهِ أَنْ لَا تَطْلُقَ امْرَأَتُهُ لِأَنَّ فِي مَضْمُونِ لَفْظِهِ الْمِلْكَ كَأَنَّهُ قَالَ إنْ مَلَكْت بِالشِّرَى قِيلَ لَهُ لَا يَجِبُ ذَلِكَ لِأَنَّ اللَّفْظَ
235
إنما الملك يتضمن فِيمَا يُوقِعُ طَلَاقَهُ أَوْ عِتْقَهُ فَأَمَّا فِي غَيْرِهِمَا فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى حُكْمِ اللَّفْظِ مِنْ غَيْرِ تَضْمِينٍ لَهُ بِوُقُوعِ مِلْكٍ وَلَا غَيْرِهِ
وقوله تعالى مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ قَدْ بَيَّنَّا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ أَنَّ الْخَلْوَةَ مُرَادَةٌ بِالْمَسِيسِ وَأَنَّ نَفْيَ الْعِدَّةِ مُتَعَلِّقٌ بِنَفْيِ الْخَلْوَةِ وَالْجِمَاعِ جَمِيعًا وَفِيمَا قَدَّمْنَا مَا يُغْنِي عن الإعادة وقوله تعالى فَمَتِّعُوهُنَّ إن كان مَنْ لَمْ يُسَمِّ لَهَا مَهْرًا فَهُوَ عَلَى الْوُجُوبِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ الْمَدْخُولَ بِهَا فَهُوَ نَدْبٌ غَيْرُ وَاجِبٍ وَقَدْ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ قَالَ حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَبِي الرَّبِيعِ قَالَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْله تَعَالَى فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها الْآيَةَ قَالَ الَّتِي نُكِحَتْ وَلَمْ يُبَيَّنْ لَهَا وَلَمْ يُفْرَضْ لَهَا فَلَيْسَ لَهَا صَدَاقٌ وَلَيْسَ عِدَّةٌ وَقَالَ قَتَادَةُ عَنْ سَعِيدٍ هِيَ مَنْسُوخَةٌ بقوله في البقرة فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ وقوله تعالى وَسَرِّحُوهُنَّ بَعْدَ ذِكْرِ الطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ إخْرَاجَهَا مِنْ بَيْتِهِ أَوْ مِنْ حِبَالِهِ لِأَنَّهُ مَذْكُورٌ بَعْدَ الطَّلَاقِ فَالْأَظْهَرُ أَنَّ هَذَا التَّسْرِيحَ لَيْسَ بِطَلَاقٍ وَلَكِنَّهُ بَيَانُ أَنَّهُ لَا سَبِيلَ لَهُ عَلَيْهَا وَأَنَّ عَلَيْهِ تَخْلِيَتَهَا مِنْ يَدِهِ وَحِبَالِهِ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ.
بَابُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ تَعَالَى لِرَسُولِهِ مِنْ النِّسَاءِ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ الْآيَةَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ قَدْ انْتَظَمَتْ الْآيَةُ ضُرُوبَ النِّكَاحِ الَّذِي أَبَاحَهُ اللَّه تَعَالَى لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمِنْهَا قَوْلُهُ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ يَعْنِي مَنْ تَزَوَّجَ مِنْهُنَّ بِمَهْرٍ مُسَمًّى وَأَعْطَاهُنَّ وَمِنْهَا مَا مَلَكَتْ الْيَمِينُ بِقَوْلِهِ وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ مِثْلَ رَيْحَانَةَ وَصَفِيَّةَ وَجُوَيْرِيَةَ ثُمَّ أَعْتَقَهُمَا وَتَزَوَّجَهُمَا وَذَلِكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنْ الْغَنِيمَةِ وَذَكَرَ تَعَالَى بَعْدَ ذَلِكَ مَا أَحَلَّ لَهُ مِنْ أَقَارِبِهِ فَقَالَ وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ ثُمَّ ذَكَرَ مَا أَحَلَّ لَهُ مِنْ النِّسَاءِ بِغَيْرِ مَهْرٍ فَقَالَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ وَأَخْبَرَ أَنَّهُ مَخْصُوصٌ بِذَلِكَ دُونَ أُمَّتِهِ وَأَنَّهُ وَأُمَّتَهُ سَوَاءٌ فِيمَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُنَّ وقَوْله تَعَالَى اللَّاتِي هاجَرْنَ مَعَكَ قَالَ أَبُو يُوسُفَ لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى أَنَّ اللَّاتِي لَمْ يُهَاجِرْنَ كُنَّ مُحَرَّمَاتٍ عَلَيْهِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَرَى أَنَّ الْمَخْصُوصَ بِالذِّكْرِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا عَدَاهُ بِخِلَافِهِ وَرَوَى دَاوُد بْنُ أَبِي هِنْدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي مُوسَى عَنْ زِيَادٍ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ قُلْت لَهُ أَرَأَيْت لَوْ هَلَكَ نِسَاءُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكَانَ لَهُ أَنْ يَنْكِحَ قال وما
236
يَمْنَعُهُ أَحَلَّ اللَّهُ لَهُ ضُرُوبًا مِنْ النِّسَاءِ فَكَانَ يَتَزَوَّجُ مِنْهُنَّ مَا شَاءَ ثُمَّ تَلَا يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ الْآيَةَ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَخْصِيصَ اللَّهِ تَعَالَى لِلْمَذْكُورَاتِ بِالْإِبَاحَةِ لَمْ يُوجِبْ عَلَيْهِ حَظْرَ مَنْ سِوَاهُنَّ عِنْدَ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ لِأَنَّهُ أَخْبَرَ أَنَّهُنَّ لَوْ هَلَكْنَ لَكَانَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ غَيْرَهُنَّ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أُمِّ هَانِئٍ خِلَافُ ذَلِكَ
رَوَى إسْرَائِيلُ عَنْ السُّدِّيِّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أُمِّ هَانِئٍ قَالَتْ خَطَبَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاعْتَذَرْت إلَيْهِ بِعُذْرٍ فَأَنْزَلَ اللَّهُ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ- إلى قوله- اللَّاتِي هاجَرْنَ مَعَكَ
قَالَتْ فَلَمْ أَكُنْ أَحِلُّ لَهُ لِأَنِّي لَمْ أُهَاجِرْ مَعَهُ كُنْت مَعَ الطُّلَقَاءِ فَإِنْ صَحَّ هَذَا الْحَدِيثُ فَإِنَّ مَذْهَبَ أُمِّ هَانِئٍ أَنَّ تَخْصِيصَهُ لِلْمُهَاجِرَاتِ مِنْهُنَّ قَدْ أَوْجَبَ حَظْرَ مَنْ لَمْ تُهَاجِرْ وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ قَدْ عَلِمَتْ حَظْرَهُنَّ بِغَيْرِ دَلَالَةِ الْآيَةِ وَأَنَّ الْآيَةَ إنَّمَا فِيهَا إبَاحَةُ مَنْ هَاجَرَتْ مِنْهُنَّ وَلَمْ تَعْرِضْ لِمَنْ لَمْ تُهَاجِرْ بِحَظْرٍ وَلَا إبَاحَةٍ إلَّا أَنَّهَا قَدْ عَلِمَتْ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى حَظْرَهُنَّ قَوْله تَعَالَى وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ الْآيَةَ فِيهَا نَصٌّ عَلَى إبَاحَةِ عَقْدِ النِّكَاحِ بِلَفْظِ الْهِبَةِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ بِلَفْظِ الْهِبَةِ لِغَيْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَزُفَرَ وَمُحَمَّدٍ وَالثَّوْرِيِّ وَالْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ يَصِحُّ النِّكَاحُ بِلَفْظِ الْهِبَةِ وَلَهَا مَا سَمَّى لَهَا وَإِنْ لَمْ يُسَمِّ شَيْئًا فَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا وَذَكَرَ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ قَالَ الْهِبَةُ لَا تَحِلُّ لِأَحَدٍ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنْ كَانَتْ هِبَتُهُ إيَّاهَا لَيْسَتْ عَلَى نِكَاحٍ وَإِنَّمَا وَهَبَهَا لَهُ لِيُحْصِنَهَا أَوْ لَيَكْفِيَهَا فَلَا أَرَى بِذَلِكَ بَأْسًا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَا يَصِحُّ النِّكَاحُ بِلَفْظِ الْهِبَةِ وَقَدْ تَنَازَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ حُكْمَ هَذِهِ الْآيَةِ فَقَالَ قَائِلُونَ كَانَ عَقْدُ النِّكَاحِ بِلَفْظِ الْهِبَةِ مَخْصُوصًا بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي نَسَقِ التلاوة خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَقَالَ آخَرُونَ بَلْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُمَّتُهُ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ بِلَفْظِ الْهِبَةِ سَوَاءً وَإِنَّمَا خُصُوصِيَّةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَتْ فِي جَوَازِ اسْتِبَاحَةِ الْبُضْعِ بِغَيْرِ بَدَلٍ وَقَدْ رُوِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَعَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ لِدَلَالَةِ الْآيَةِ وَالْأُصُولِ عَلَيْهِ فَأَمَّا دَلَالَةُ الْآيَةِ عَلَى ذَلِكَ فَمِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا قَوْلُهُ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ فَلَمَّا أَخْبَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ خَالِصًا لَهُ دُونَ الْمُؤْمِنِينَ مَعَ إضَافَةِ لَفْظِ الْهِبَةِ إلَى الْمَرْأَةِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مَا خُصَّ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ ذَلِكَ إنَّمَا هُوَ اسْتِبَاحَةُ البضع بغير بدل لأنه لو كان المرأة اللَّفْظَ لَمَا شَارَكَهُ فِيهِ غَيْرُهُ لِأَنَّ مَا كَانَ مَخْصُوصًا بِهِ وَخَالِصًا لَهُ فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ تَقَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ
237
غَيْرِهِ فِيهِ شَرِكَةٌ حَتَّى يُسَاوِيَهُ فِيهِ إذْ كَانَتْ مُسَاوَاتُهُمَا فِي الشَّرِكَةِ تُزِيلُ مَعْنَى الْخُلُوصِ وَالتَّخْصِيصِ فَلَمَّا أَضَافَ لَفْظَ الْهِبَةِ إلَى الْمَرْأَةِ فَقَالَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ فَأَجَازَ الْعَقْدَ مِنْهَا بِلَفْظِ الْهِبَةِ عَلِمْنَا أَنَّ التَّخْصِيصَ لَمْ يَقَعْ فِي اللَّفْظِ وَإِنَّمَا كَانَ فِي الْمَهْرِ فَإِنْ قِيلَ قَدْ شَارَكَهُ فِي جَوَازِ تَمْلِيكِ الْبُضْعِ بِغَيْرِ بَدَلٍ وَلَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ خُلُوصَهَا لَهُ فَكَذَلِكَ فِي لَفْظِ الْعَقْدِ قِيلَ لَهُ هَذَا غَلَطٌ لِأَنَّ اللَّهَ أَخْبَرَ أَنَّهَا خَالِصَةٌ لَهُ وَإِنَّمَا جُعِلَ الْخُلُوصُ فِيمَا هُوَ لَهُ وَإِسْقَاطُ الْمَرْأَةِ الْمَهْرَ فِي الْعَقْدِ لَيْسَ هُوَ لَهَا وَلَكِنَّهُ عَلَيْهَا فَلَمْ يُخْرِجْهُ ذَلِكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَا جُعِلَ لَهُ خَالِصًا لَمْ تُشْرِكْهُ فِيهِ الْمَرْأَةُ وَلَا غَيْرَهُ وَالْوَجْهُ الثَّانِي مِنْ دَلَالَةِ الْآيَةِ قَوْله تَعَالَى إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها فَسَمَّى الْعَقْدَ بِلَفْظِ الْهِبَةِ نِكَاحًا فَوَجَبَ أَنْ يَجُوزَ لِكُلِّ أَحَدٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى فَانْكِحُوا مَا طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ وَأَيْضًا لَمَّا جَازَ هَذَا الْعَقْدُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ أُمِرْنَا بِاتِّبَاعِهِ وَالِاقْتِدَاءِ بِهِ وَجَبَ أَنْ يَجُوزَ لَنَا فِعْلُ مِثْلِهِ إلَّا أَنْ تَقُومَ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مَخْصُوصًا بِاللَّفْظِ دُونَ أُمَّتِهِ وَقَدْ حَصَلَ لَهُ مَعْنَى الْخُلُوصِ الْمَذْكُورِ فِي الْآيَةِ مِنْ جِهَةِ إسْقَاطِ الْمَهْرِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مَقْصُورًا عَلَيْهِ وَمَا عَدَاهُ فَغَيْرُ مَحْمُولٍ عَلَى حُكْمِهِ إلَّا أَنْ تَقُومَ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّهُ مَخْصُوصٌ بِهِ وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ خُصُوصِيَّةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَتْ فِي الصداق ما
حدثنا عن عبد الله ابن أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا كَانَتْ تُعَيِّرُ النِّسَاءَ اللَّاتِي وَهَبْنَ أَنْفُسَهُنَّ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ أَلَا تستحي أَنْ تَعْرِضَ نَفْسَهَا بِغَيْرِ صَدَاقٍ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ- إلى قوله- فَلا جُناحَ عَلَيْكَ قالت عائشة رضى الله عَنْهَا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنِّي أَرَى رَبَّك يُسَارِعُ فِي هَوَاك وَيَدُلُّ عَلَى جَوَازِهِ بِلَفْظِ الْهِبَةِ مَا
حُدِّثْنَا عَنْ محمد بن على ابن زَيْدٍ الصَّائِغِ قَالَ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ قَالَ حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو حَازِمٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتْ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ جِئْت لِأَهَبَ نَفْسِي لَك فَنَظَرَ إلَيْهَا فَصَعَّدَ الْبَصَرَ وَصَوَّبَهُ ثُمَّ طَأْطَأَ رَأْسَهُ فَقَامَ رَجُلٌ مِنْ الصَّحَابَةِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنْ لَمْ تَكُ لَك بِهَا حَاجَةٌ فَزَوِّجْنِيهَا وَذَكَرَ الْحَدِيثَ إلَى قَوْلِهِ فَقَالَ مَعِي سُورَةُ كَذَا وَسُورَةُ كَذَا فَقَالَ اذْهَبْ فَقَدْ مَلَّكْتُكهَا بِمَا مَعَك مِنْ الْقُرْآنِ
فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُ عَقَدَ لَهُ النِّكَاحَ بِلَفْظِ التَّمْلِيكِ وَالْهِبَةُ مِنْ أَلْفَاظِ التَّمْلِيكِ فَوَجَبَ أَنْ يَجُوزَ بِهَا عَقْدُ النِّكَاحِ وَلِأَنَّهُ إذَا ثَبَتَ بِلَفْظِ التَّمْلِيكِ بِالسُّنَّةِ ثَبَتَ بِلَفْظِ الْهِبَةِ إذْ لَمْ
238
يُفَرِّقْ أَحَدٌ بَيْنَهُمَا فَإِنْ قِيلَ قَدْ رُوِيَ أَنَّهُ قَالَ قَدْ زَوَّجْتُك بِمَا مَعَك مِنْ الْقُرْآنِ قِيلَ لَهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَكَرَ مَرَّةً التَّزْوِيجَ ثُمَّ ذَكَرَ لَفْظَ التَّمْلِيكِ لِيُبَيِّنَ أَنَّهُمَا سَوَاءٌ فِي جَوَازِ عَقْدِ النِّكَاحِ بِهِمَا وَأَيْضًا لَمَّا أَشْبَهَ عَقْدُ النِّكَاحِ عُقُودَ التَّمْلِيكَاتِ فِي إطْلَاقِهِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ الْوَقْتِ وَكَانَ التَّوْقِيتُ يُفْسِدُهُ وَجَبَ أَنْ يَجُوزَ بِلَفْظِ التَّمْلِيكِ وَالْهِبَةِ كَجَوَازِ سَائِرِ الْأَشْيَاءِ الْمَمْلُوكَةِ وَهَذَا أَصْلٌ فِي جَوَازِ سَائِرِ أَلْفَاظِ التَّمْلِيكِ وَلَا يَجُوزُ بِلَفْظِ الْإِبَاحَةِ لِأَنَّ لِذَلِكَ أَصْلًا آخَرَ يَمْنَعُ جَوَازَهُ وَهُوَ الْمُتْعَةُ الَّتِي حَرَّمَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعْنَى الْمُتْعَةِ إبَاحَةُ التَّمَتُّعِ بِهَا فَكُلُّ مَا كَانَ مِنْ أَلْفَاظِ الْإِبَاحَةِ لَمْ يَنْعَقِدْ بِهِ عَقْدُ النِّكَاحِ قِيَاسًا عَلَى الْمُتْعَةِ وَكُلُّ مَا كَانَ مِنْ أَلْفَاظِ التَّمْلِيكِ يَنْعَقِدُ بِهِ النِّكَاحُ قِيَاسًا عَلَى سَائِرِ عُقُودِ التَّمْلِيكَاتِ لِشَبَهِهِ بِهَا مِنْ الْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرْنَا وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي الْمَرْأَةِ الَّتِي وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رِوَايَةٌ وَعِكْرِمَةَ أَنَّهَا مَيْمُونَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ هِيَ أُمُّ شَرِيكٍ الدوسية وَعَنْ الشَّعْبِيِّ أَنَّهَا امْرَأَةٌ مِنْ الْأَنْصَارِ وَقِيلَ إنَّهَا زَيْنَبُ بِنْتُ خُزَيْمَةَ الْأَنْصَارِيَّةُ قَوْله تَعَالَى قَدْ عَلِمْنا مَا فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ قَالَ قَتَادَةُ فَرَضَ أَنْ لَا يَنْكِحَ امْرَأَةً إلَّا بِوَلِيٍّ وَشَاهِدَيْنِ وَصَدَاقٍ وَلَا يَنْكِحُ الرَّجُلُ إلَّا أَرْبَعًا وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ أَرْبَعٌ قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَقَوْلُهُ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ يَعْنِي مَا أَبَاحَ لَهُمْ بِمَلْكِ الْيَمِينِ كَمَا أَبَاحَهُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَوْلُهُ لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ يَرْجِعُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ إلَى قَوْلِهِ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ وما ذكر بَعْدَهُ فِيمَا أَبَاحَهُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِئَلَّا يُضَيِّقَ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْحَرَجَ الضِّيقُ فَأَخْبَرَ تَعَالَى بِتَوْسِعَتِهِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا أَبَاحَهُ لَهُ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ فِيمَا أَطْلَقَهُ لَهُمْ قَوْله تَعَالَى تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ حدثنا عبد الله بن محمد بن إسحاق قَالَ حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَبِي الرَّبِيعِ قَالَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ مَنْصُورٍ عن أبى رزين في قوله تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ الْمُرْجَاتُ مَيْمُونَةُ وَسَوْدَةُ وَصَفِيَّةُ وَجُوَيْرِيَةُ وَأُمُّ حَبِيبَةَ وَكَانَتْ عَائِشَةُ وَحَفْصَةُ وَأُمُّ سَلَمَةَ وَزَيْنَبُ سَوَاءً فِي الْقَسْمِ وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُسَاوِي بَيْنَهُنَّ وَحَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ محمد بن إسحاق قال حدثنا الحسن ابن أَبِي الرَّبِيعِ قَالَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ فِي قَوْله تَعَالَى تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ قَالَ كَانَ ذَلِكَ حِينَ أَنْزَلَ اللَّهُ أَنْ يُخَيِّرَهُنَّ قَالَ الزُّهْرِيُّ وَمَا عَلِمْنَا رَسُولَ اللَّهِ أَرْجَى مِنْهُنَّ أَحَدًا وَلَقَدْ آوَاهُنَّ كُلَّهُنَّ حَتَّى مَاتَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَعْمَرٌ وَقَالَ قَتَادَةُ جَعَلَهُ اللَّهُ فِي حِلٍّ أَنْ يَدَعَ مَنْ شَاءَ مِنْهُنَّ وَيُؤْوِي إلَيْهِ مَنْ شَاءَ يَعْنِي قَسْمًا وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَسَمَ قَالَ
239
مَعْمَرُ وَأَخْبَرَنَا مَنْ سَمِعَ الْحَسَنَ يَقُولُ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا خطب امْرَأَةً فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَخْطُبَهَا حَتَّى يَتَزَوَّجَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ يَدَعَهَا فَفِي ذَلِكَ نَزَلَتْ تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَرَوَى زَكَرِيَّا عَنْ الشَّعْبِيِّ تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ قَالَ نِسَاءٌ كُنَّ وَهَبْنَ أَنْفُسَهُنَّ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَرْجَى بَعْضَهُنَّ وَدَخَلَ ببعض منهن أم شريك لم تتزوج بَعْدَهُ وَقَالَ مُجَاهِدٌ تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ قَالَ تُرْجِيهِنَّ مِنْ غَيْرِ طَلَاقٍ وَلَا تَأْتِيهِنَّ
وَرَوَى عَاصِمٌ الْأَحْوَلُ عَنْ مُعَاذَةَ العدوية عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم يستأذننا في يوم إحدانا بعد ما أنزل تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَ
فَقَالَتْ لَهَا مُعَاذَةُ فَمَا كُنْت تَقُولِينَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا اسْتَأْذَنَ قَالَتْ كُنْت أَقُولُ إنْ كَانَ ذَلِكَ إلَيَّ لَمْ أُوثِرْ عَلَى نَفْسِي أَحَدًا قَالَ أَبُو بَكْرٍ
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَقْسِمُ بَيْنَ نِسَائِهِ
وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ تَخْصِيصَ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ بِإِخْرَاجِهَا من القسم
حدثنا محمد ابن بَكْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إسْمَاعِيلَ قَالَ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ أَبِي قلابة عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ الْخِطْمِيِّ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْسِمُ فَيَعْدِلُ وَيَقُولُ اللَّهُمَّ هَذَا قَسْمِي فِيمَا أَمْلِكُ فَلَا تَلُمْنِي فِيمَا تَمْلِكُ وَلَا أَمْلِكُ
قَالَ أَبُو دَاوُد يَعْنِي الْقَلْبَ وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ يَعْنِي ابْنَ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ هِشَامِ بْنِ عروة عن أبيه قالت عائشة ابْنَ أُخْتِي كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يُفَضِّلُ بَعْضَنَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْقَسْمِ مِنْ مُكْثِهِ عِنْدَهَا وَكَانَ قَلَّ يَوْمٌ إلَّا وَهُوَ يَطُوفُ عَلَيْنَا جَمِيعًا فَيَدْنُو مِنْ كُلِّ امْرَأَةٍ مِنْ غَيْرِ مَسِيسٍ حَتَّى يَبْلُغَ إلَى الَّتِي هُوَ يَوْمُهَا فَيَبِيتُ عِنْدَهَا
وَلَقَدْ قَالَتْ سَوْدَةُ بِنْتُ زَمْعَةَ حِينَ أَسَنَّتْ وَفَرِقَتْ أَنْ يُفَارِقَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ يَوْمِي لِعَائِشَةَ فَقَبِلَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهَا
قَالَتْ نَقُولُ فِي ذَلِكَ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى وَفِي أَشْبَاهِهَا أَرَاهُ قَالَ وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً
وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَأْذَنَ نِسَاءَهُ فِي مَرَضِهِ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ عَائِشَةَ فَأَذِنَ لَهُ
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ قَدْ كَانَ يَقْسِمُ لِجَمِيعِهِنَّ وَهُوَ أَصَحُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي رَزِينٍ الَّذِي ذَكَرَ فِيهِ أَنَّهُ أَرْجَى جَمَاعَةً مِنْ نِسَائِهِ ثُمَّ لم يقسم لهن وظاهر الآية يقتضى تخير النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي إرْجَاءِ مَنْ شَاءَ مِنْهُنَّ وَإِيوَاءِ مَنْ شَاءَ فَلَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَخْتَارَ إيوَاءَ الْجَمِيعِ إلَّا سَوْدَةَ فَإِنَّهَا رَضِيَتْ بِأَنْ تَجْعَلَ يَوْمَهَا لِعَائِشَةَ قَوْله تَعَالَى وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ يَعْنِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ فِي إيوَاءِ مَنْ أَرْجَى مِنْهُنَّ أَبَاحَ لَهُ بِذَلِكَ أَنْ يَعْتَزِلَ مَنْ شَاءَ مِنْهُنَّ وَيُؤْوِيَ مَنْ شَاءَ وَأَنْ يُؤْوِيَ مِنْهُنَّ مَنْ شَاءَ بَعْدَ الِاعْتِزَالِ وقَوْله تَعَالَى
240
ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ يَعْنِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ إذَا عَلِمْنَ بَعْدَ الْإِرْجَاءِ أَنَّ لَك أَنْ تُؤْوِيَ وَتَرُدَّ إلَى الْقَسْمِ وَهَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقَسْمَ بَيْنَهُنَّ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَّهُ كَانَ مُخَيَّرًا فِي الْقَسْمِ لِمَنْ شَاءَ مِنْهُنَّ وَتَرْكِ مَنْ شَاءَ مِنْهُنَّ
قَوْله تَعَالَى لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ رَوَى لَيْثٌ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ يَعْنِي مِنْ بَعْدِ مَا سُمِّيَ لَك مِنْ مُسْلِمَةٍ وَلَا يَهُودِيَّةٍ وَلَا نَصْرَانِيَّةٍ وَلَا كَافِرَةٍ وَعَنْ مُجَاهِدٍ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ قَالَ لَا بَأْسَ أَنْ تَتَسَرَّى الْيَهُودِيَّةَ وَالنَّصْرَانِيَّة وَرَوَى سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ قَالَ لَمَّا خَيَّرَهُنَّ فَاخْتَرْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ قَصَرَهُ عَلَيْهِنَّ وَهُنَّ التِّسْعُ اللَّاتِي اخْتَرْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ وَرُوِيَ غَيْرُ ذَلِكَ وَهُوَ مَا رَوَى إسْرَائِيلُ عَنْ السُّدِّيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادٍ لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بهن من أزواج قَالَ ذَلِكَ لَوْ طَلَّقَهُنَّ لَمْ يَحِلَّ لَهُ أَنْ يَسْتَبْدِلَ قَالَ وَكَانَ يَنْكِحُ مَا شَاءَ بَعْدَ مَا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ قَالَ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَعِنْدَهُ تِسْعُ نِسْوَةٍ ثُمَّ تَزَوَّجَ أُمَّ حَبِيبَةَ بِنْتَ أَبِي سُفْيَانَ وَجُوَيْرِيَةَ بِنْتَ الْحَارِثِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ ظَاهِرُ الْآيَةِ يُفِيدُ تَحْرِيمَ سَائِرِ النِّسَاءِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سِوَى مَنْ كُنَّ تَحْتَهُ وَقْتَ نُزُولِهَا وَقَدْ رَوَى ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ مَا مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى حَلَّ لَهُ النِّسَاءُ قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَهَذَا يُوجِبُ أَنْ تَكُونَ الْآيَةُ مَنْسُوخَةً وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ مَا يُوجِبُ نَسْخَهَا فَهِيَ إذًا مَنْسُوخَةٌ بِالسُّنَّةِ وَيُحْتَجُّ بِهِ فِي جَوَازِ نَسْخِ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ فَإِنْ قِيلَ قَوْلُهُ لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ خَبَرٌ وَالْخَبَرُ لَا يَجُوزُ النَّسْخُ فِي مُخْبِرِهِ قِيلَ لَهُ إنَّهُ وَإِنْ كَانَ فِي صُورَةِ الْخَبَرِ فَهُوَ نَهْيٌ يَجُوزُ وُرُودُ النَّسْخِ عَلَيْهِ وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ قَالَ لَا تَتَزَوَّجْ بَعْدَهُنَّ النِّسَاءَ فَيَجُوزُ نَسْخُهُ قَوْله تَعَالَى وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ النَّظَرِ إلَى وَجْهِ الْمَرْأَةِ الْأَجْنَبِيَّةِ إذْ لَا يُعْجِبُهُ حُسْنُهَا إلَّا وَقَدْ نظر إليها.
بَابُ ذِكْرُ حِجَابِ النِّسَاءِ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَبِي الرَّبِيعِ قَالَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ وَاسْمُهُ الْجَعْدُ بْنُ دِينَارٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ لَمَّا تَزَوَّجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَيْنَبَ أَهْدَتْ إلَيْهِ أُمُّ سُلَيْمٍ حَيْسًا فِي تَوْرٍ مِنْ حِجَارَةٍ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم اذهب فادع من «١٦- أحكام مس»
241
لَقِيت مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَدَعَوْت لَهُ مَنْ لَقِيت فَجَعَلُوا يَدْخُلُونَ فَيَأْكُلُونَ وَيَخْرُجُونَ فَوَضَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَهُ عَلَى الطَّعَامِ فَدَعَا فِيهِ وَقَالَ فِيهِ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقُولَ وَلَمْ أَدْعُ أَحَدًا لَقِيته إلَّا دَعَوْته فَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا وَخَرَجُوا وَبَقِيَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ فَأَطَالُوا عَلَيْهِ الْحَدِيثَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ- إلى قوله- وَقُلُوبِهِنَ
وَرَوَى بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ عَنْ حُمَيْدٍ الطَّوِيلِ عَنْ أَنَسٍ ذَكَرَ حَدِيثَ بِنَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى الله عليه وسلّم بزينب ووليمته فلما طعم الْقَوْمُ وَكَانَ مِمَّا يَفْعَلُ إذَا أَصْبَحَ لَيْلَةَ بِنَائِهِ دَنَا مِنْ حُجَرِ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ فَسَلَّمَ عَلَيْهِنَّ وَسَلَّمْنَ عَلَيْهِ وَدَعَا لَهُنَّ وَدَعَوْنَ لَهُ فَلَمَّا انْصَرَفَ وَأَنَا مَعَهُ إلَى بَيْتِهِ بَصُرَ بِرَجُلَيْنِ قَدْ جَرَى بَيْنَهُمَا الْحَدِيثُ مِنْ نَاحِيَةِ الْبَيْتِ فَانْصَرَفَ عَنْ بَيْتِهِ فَلَمَّا رَأَى الرَّجُلَانِ انْصِرَافَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْتِهِ وَثَبَا خَارِجَيْنِ فَأُخْبِرَ أَنَّهُمَا قَدْ خرجا فرجع حتى دخل بيته فَأَرْخَى السِّتْرَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ وَأُنْزِلَتْ آيَةُ الْحِجَابِ
وَرَوَى حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَسْلَمَ الْعَلَوِيِّ عَنْ أَنَسٍ قَالَ لَمَّا نَزَلَتْ آيَةُ الْحِجَابِ جِئْت لِأَدْخُلَ كَمَا كُنْت أَدْخُلُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَاءَك يَا أَنَسُ
قَالَ أَبُو بَكْرٍ فَانْتَظَمَتْ الْآيَةُ أَحْكَامًا مِنْهَا النَّهْيُ عَنْ دُخُولِ بَيْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا بِإِذْنٍ وَأَنَّهُمْ إذَا أُذِنَ لَهُمْ لَا يَقْعُدُونَ انْتِظَارًا لِبُلُوغِ الطَّعَامِ وَنُضْجِهِ وَإِذَا أَكَلُوا لَا يَقْعُدُونَ لِلْحَدِيثِ وروى عن مجاهد غير ناظرين إناه قَالَ مُتَحَيِّنِينَ حِينَ نُضْجِهِ وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ بَعْدَ أَنْ يَأْكُلُوا وَقَالَ الضَّحَّاكُ غَيْرَ نَاظِرِينَ إناه قَالَ نُضْجَهُ قَوْله تَعَالَى وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ قَدْ تَضَمَّنَ حَظْرَ رُؤْيَةِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيَّنَ بِهِ أَنَّ ذَلِكَ أَطْهَرُ لِقُلُوبِهِمْ وَقُلُوبِهِنَّ لِأَنَّ نَظَرَ بَعْضِهِمْ إلَى بَعْضٍ رُبَّمَا حَدَثَ عَنْهُ الْمَيْلُ وَالشَّهْوَةُ فَقَطَعَ اللَّهُ بِالْحِجَابِ الَّذِي أَوْجَبَهُ هَذَا السَّبَبُ قَوْله تَعَالَى وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ يَعْنِي بِمَا بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ إيجَابِ الِاسْتِئْذَانِ وَتَرْكِ الْإِطَالَةِ لِلْحَدِيثِ عِنْدَهُ وَالْحِجَابِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ نِسَائِهِ وَهَذَا الْحُكْمُ وَإِنْ نَزَلَ خَاصًّا فِي النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَزْوَاجِهِ فَالْمَعْنَى عَامٌّ فِيهِ وَفِي غَيْرِهِ إذْ كُنَّا مَأْمُورِينَ بِاتِّبَاعِهِ وَالِاقْتِدَاءِ بِهِ إلَّا مَا خَصَّهُ اللَّهُ بِهِ دُونَ أُمَّتِهِ وَقَدْ رَوَى مَعْمَرٌ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لَوْ قُبِضَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَتَزَوَّجْت عَائِشَةَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ مَا ذَكَرَهُ قَتَادَةُ هُوَ أَحَدُ مَا انْتَظَمَتْهُ الْآيَةُ وَرَوَى عِيسَى بْنُ يُونُسَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ صِلَةَ بْنِ زُفَرَ عَنْ حُذَيْفَةَ أَنَّهُ قَالَ لِامْرَأَتِهِ إنْ سَرَّك أَنْ تَكُونِي زَوْجَتِي فِي الْجَنَّةِ إنْ جَمَعَ اللَّهُ بَيْنَنَا فِيهَا فَلَا تَزَوَّجِي بَعْدِي فإن
242
الْمَرْأَةَ لِآخِرِ أَزْوَاجِهَا وَلِذَلِكَ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَى أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَتَزَوَّجْنَ بَعْدَهُ وَرَوَى حُمَيْدٌ الطَّوِيلُ عَنْ أَنَسٍ قَالَ سَأَلَتْ أُمَّ حَبِيبَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَرْأَةُ مِنَّا يَكُونُ لَهَا زَوْجَانِ فَتَمُوتُ فَتَدْخُلُ الْجَنَّةَ هِيَ وَزَوْجُهَا لِأَيِّهِمَا تَكُونُ قَالَ يَا أُمَّ حَبِيبَةَ لِأَحْسَنِهِمَا خُلُقًا كَانَ مَعَهَا فِي الدُّنْيَا فَتَكُونُ زَوْجَتَهُ فِي الْجَنَّةِ يَا أُمَّ حَبِيبَةَ ذَهَبَ حُسْنُ الْخُلُقِ بِخَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ
قَوْله تَعَالَى لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ وَلا أَبْنائِهِنَّ الْآيَةَ قَالَ قَتَادَةُ رَخَّصَ لِهَؤُلَاءِ أَنْ لَا يَجْتَنِبْنَ مِنْهُمْ قَالَ أَبُو بَكْرٍ ذَكَرَ ذَوِي الْمَحَارِمِ مِنْهُنَّ وَذَكَرَ نِسَاءَهُنَّ وَالْمَعْنَى وَاَللَّهُ أَعْلَمُ الحرائر ولا ما ملكت أيمانهن يَعْنِي الْإِمَاءَ لِأَنَّ الْعَبْدَ وَالْحُرَّ لَا يَخْتَلِفَانِ فِيمَا يُبَاحُ لَهُمْ مِنْ النَّظَرِ إلَى النِّسَاءِ
قَوْله تَعَالَى إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً الصلاة من الله هي الرحمة ومن العباد الدُّعَاءُ وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ وَرُوِيَ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ قَالَ صَلَاةُ اللَّهِ عَلَيْهِ عِنْدَ الْمَلَائِكَةِ وَصَلَاةُ الْمَلَائِكَةِ عَلَيْهِ بِالدُّعَاءِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ يَعْنِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ إخْبَارَ اللَّهِ الْمَلَائِكَةَ بِرَحْمَتِهِ لَنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَمَامِ نِعَمِهِ عَلَيْهِ فَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ صَلَاتُهُ عِنْدَ الْمَلَائِكَةِ وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ إن بني إسرائيل سألوا موسى عليه السلام هَلْ يُصَلِّي رَبُّك فَكَأَنَّ ذَلِكَ كَبُرَ فِي صَدْرِهِ فَأَوْحَى اللَّهُ إلَيْهِ أَنْ أَخْبِرْهُمْ أَنِّي أُصَلِّي وَأَنَّ صَلَاتِي أَنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي وَقَوْلُهُ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ قَدْ تَضَمَّنَ الْأَمْرَ بِالصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَظَاهِرُهُ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ وَهُوَ فَرْضٌ عِنْدَنَا فَمَتَى فَعَلَهَا الْإِنْسَانُ مَرَّةً وَاحِدَةً فِي صَلَاةٍ أَوْ غَيْرِ صَلَاةٍ فَقَدْ أَدَّى فَرْضَهُ وَهُوَ مِثْلُ كَلِمَةِ التَّوْحِيدِ وَالتَّصْدِيقِ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَتَى فَعَلَهُ الْإِنْسَانُ مَرَّةً وَاحِدَةً فِي عُمْرِهِ فَقَدْ أَدَّى فَرْضَهُ وَزَعَمَ الشَّافِعِيُّ أَنَّ الصَّلَاةَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرْضٌ فِي الصَّلَاةِ وَهَذَا قَوْلٌ لَمْ يَسْبِقْهُ إلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ فِيمَا نَعْلَمُهُ وَهُوَ خِلَافُ الْآثَارِ الْوَارِدَةِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِفَرْضِهَا فِي الصَّلَاةِ مِنْهَا
حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ حِينَ عَلَّمَهُ التَّشَهُّدَ فَقَالَ إذَا فَعَلْت هَذَا أَوْ قُلْت هَذَا فَقَدْ تَمَّتْ صَلَاتُك فَإِنْ شِئْت أَنْ تَقُومَ فَقُمْ
وَقَوْلُهُ ثُمَّ اخْتَرْ مِنْ أَطْيَبِ الْكَلَامِ مَا شِئْت
وَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا رَفَعَ الرَّجُلُ رَأْسَهُ مِنْ آخِرِ سَجْدَةٍ وَقَعَدَ فَأَحْدَثَ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ فَقَدْ تَمَّتْ صَلَاتُهُ
وَحَدِيثُ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ السُّلَمِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ صَلَاتَنَا هَذِهِ لَا يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ إنَّمَا هِيَ التَّسْبِيحُ وَالتَّهْلِيلُ وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ
وَلَمْ يَذْكُرْ الصَّلَاةَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ اسْتَقْصَيْنَا الْكَلَامَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي شَرْحِ مُخْتَصَرِ الطَّحَاوِيِّ
وقوله وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً يَحْتَجُّ بِهِ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ فِي إيجَابِ فَرْضِ السَّلَامِ فِي آخِرِ الصَّلَاةِ وَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى مَا ذَكَرُوا لِأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ الصَّلَاةَ فَهُوَ عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا فِي الصَّلَاةِ عَلَيْهِ وَيَحْتَجُّونَ بِهِ أَيْضًا فِي فَرْضِ التَّشَهُّدِ لِأَنَّ فِيهِ السَّلَامَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى مَا ذَهَبُوا إلَيْهِ إذْ لَمْ يَذْكُرْ السَّلَامَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ تَأْكِيدَ الْفَرْضِ فِي الصَّلَاةِ عَلَيْهِ بِتَسْلِيمِهِمْ لِأَمْرِ اللَّهِ إيَّاهُمْ بِهَا كَقَوْلِهِ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً قَالَ أَبُو بَكْرٍ قَدْ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ اسْمَهُ وَذَكَرَ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَفْرَدَ نَفْسَهُ بِالذِّكْرِ وَلَمْ يَجْمَعْ الِاسْمَيْنِ تَحْتَ كِنَايَةٍ وَاحِدَةٍ نَحْوَ قَوْلِهِ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ ولم يقل ترضوهما لِأَنَّ اسْمَ اللَّهِ وَاسْمَ غَيْرِهِ لَا يَجْتَمِعَانِ فِي كِنَايَةٍ
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ خَطَبَ بَيْنَ يَدَيْهِ رَجُلٌ فَقَالَ مَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ رَشَدَ وَمَنْ يَعْصِهِمَا فَقَدْ غَوَى فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُمْ فَبِئْسَ خَطِيبُ الْقَوْمِ أَنْتَ لِقَوْلِهِ وَمَنْ يَعْصِهِمَا
فَإِنْ قِيلَ فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ فَجَمَعَ اسْمَهُ وَاسْمَ مَلَائِكَتِهِ فِي الضَّمِيرِ قِيلَ لَهُ إنَّمَا أَنْكَرْنَا جَمْعَهُمَا فِي كِنَايَةٍ يَكُونُ اسْمًا لَهُمَا نَحْوَ الْهَاءِ الَّتِي هِيَ كِنَايَةٌ عَنْ الِاسْمِ فَأَمَّا الْفِعْلُ الَّذِي لَيْسَ بِاسْمٍ وَلَا كِنَايَةٍ عَنْهُ وَإِنَّمَا فِيهِ الضَّمِيرُ فَلَا يَمْتَنِعُ ذَلِكَ فِيهِ وَقَدْ قِيلَ أَيْضًا فِي هذا الموضع أن قوله يُصَلُّونَ ضَمِيرُ الْمَلَائِكَةِ دُونَ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَصَلَاةُ اللَّهِ عَلَى النَّبِيِّ مَفْهُومَةٌ مِنْ الْآيَةِ مِنْ جهة المعنى كقوله انْفَضُّوا إِلَيْها رَدَّ الْكِنَايَةَ إلَى التِّجَارَةِ دُونَ اللَّهْوِ لِأَنَّهُ مَفْهُومٌ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ الْمَذْكُورُ فِي ضَمِيرِ النَّفَقَةِ هُوَ الْفِضَّةُ وَالذَّهَبُ مَفْهُومٌ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى
قَوْله تَعَالَى إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يَعْنِي يُؤْذُونَ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَلْحَقَهُ الْأَذَى فَأَطْلَقَ ذَلِكَ مَجَازًا لِأَنَّ الْمَعْنَى مَفْهُومٌ عِنْدَ الْمُخَاطَبِينَ كما قال وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ وَالْمَعْنَى أَهْلَ الْقَرْيَةِ
وقَوْله تَعَالَى وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا قَدْ قِيلَ إنَّهُ أَرَادَ مَنْ أَضْمَرَ ذِكْرَهُ فِي الْآيَةِ الْأُولَى مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ فَأَظْهَرَ ذِكْرَهُمْ بَعْدَ الضَّمِيرِ وَبَيَّنَ أَنَّهُمْ الْمُرَادُونَ بِالضَّمِيرِ وأخبر عن احتمالهم البهتان والاسم اللَّذَيْنِ بِهِمَا يَسْتَحِقُّونَ مَا ذَكَرَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى مِنْ اللَّعْنِ وَالْعَذَابِ
قَوْله تَعَالَى يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ الْجِلْبَابُ الرِّدَاءُ وَقَالَ ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ يَتَجَلْبَبْنَ لِيُعْلَمَ أَنَّهُنَّ حَرَائِرُ وَلَا يَعْرِضُ لَهُنَّ فَاسِقٌ وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ عَنْ عُبَيْدَةَ يُدْنِينَ
عليهن من جلابيبهن قَالَ تَقَنَّعَ عُبَيْدَةَ وَأَخْرَجَ إحْدَى عَيْنَيْهِ وَحَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَبِي الرَّبِيعِ قَالَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الْحَسَنِ قَالَ كُنَّ إمَاءٌ بِالْمَدِينَةِ يُقَالُ لَهُنَّ كَذَا وَكَذَا يَخْرُجْنَ فيتعرض بهن السفهاء فيؤذونهن وَكَانَتْ الْمَرْأَةُ الْحُرَّةُ تَخْرُجُ فَيَحْسِبُونَ أَنَّهَا أَمَةٌ فَيَتَعَرَّضُونَ لَهَا فَيُؤْذُونَهَا فَأَمَرَ اللَّهُ الْمُؤْمِنَاتِ أَنْ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ أَنَّهُنَّ حَرَائِرُ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ تُغَطِّي الْحُرَّةُ إذَا خَرَجَتْ جَبِينَهَا وَرَأْسَهَا خِلَافَ حَالِ الْإِمَاءِ وَحَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ حَدَّثَنَا الْحَسَنُ قَالَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ أَبِي خيثم عَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ شَيْبَةَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ لَمَا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ خرج نساء من الأنصار كان على رؤسهن الْغِرْبَانُ مِنْ أَكْسِيَةٍ سُودٍ يَلْبَسْنَهَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ المرأة الشابة مأمورة بستر وجها عَنْ الْأَجْنَبِيِّينَ وَإِظْهَارِ السِّتْرِ وَالْعَفَافِ عِنْدَ الْخُرُوجِ لِئَلَّا يَطْمَعَ أَهْلُ الرِّيَبِ فِيهِنَّ وَفِيهَا دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْأَمَةَ لَيْسَ عَلَيْهَا سَتْرُ وَجْهِهَا وشعرها لأن قوله تعالى وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ ظَاهِرُهُ أَنَّهُ أَرَادَ الْحَرَائِرَ وَكَذَا رُوِيَ فِي التَّفْسِيرِ لِئَلَّا يَكُنَّ مِثْلَ الْإِمَاءِ اللَّاتِي هُنَّ غَيْرُ مَأْمُورَاتٍ بِسَتْرِ الرَّأْسِ وَالْوَجْهِ فَجَعَلَ السِّتْرَ فَرْقًا يُعْرَفُ بِهِ الْحَرَائِرُ مِنْ الْإِمَاءِ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَضْرِبُ الْإِمَاءَ ويقول اكشفن رؤسكن وَلَا تَشَبَّهْنَ بِالْحَرَائِرِ
قَوْله تَعَالَى لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ الْآيَةَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ حَدَّثَنَا الْحَسَنُ قَالَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّ نَاسًا مِنْ الْمُنَافِقِينَ أرادوا أن يظهر وانفاقهم فَنَزَلَتْ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ أى لنحرشنك وقال ابن عباس لنغربنك بهم لنسلطنك عليهم ثم لا يجاورونك فِيهَا إلَّا قَلِيلًا بِالنَّفْيِ عَنْهَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْإِرْجَافَ بِالْمُؤْمِنِينَ وَالْإِشَاعَةَ بِمَا يَغُمُّهُمْ وَيُؤْذِيهِمْ يَسْتَحِقُّ بِهِ التَّعْزِيرَ وَالنَّفْيَ إذَا أَصَرَّ عَلَيْهِ وَلَمْ يَنْتَهِ عَنْهُ وَكَانَ قَوْمٌ مِنْ الْمُنَافِقِينَ وَآخَرُونَ ممن لا بصيرة لهم فِي الدِّينِ وَهُمْ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَهُوَ ضَعْفُ الْيَقِينِ يُرْجِفُونَ بِاجْتِمَاعِ الْكُفَّارِ وَالْمُشْرِكِينَ وَتَعَاضُدِهِمْ وَمَسِيرِهِمْ إلَى الْمُؤْمِنِينَ فَيُعَظِّمُونَ شَأْنَ الْكُفَّارِ بِذَلِكَ عِنْدَهُمْ وَيُخَوِّفُونَهُمْ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ فِيهِمْ وَأَخْبَرَ تَعَالَى بِاسْتِحْقَاقِهِمْ النَّفْيَ وَالْقَتْلَ إذَا لَمْ يَنْتَهُوا عَنْ ذَلِكَ فَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ ذَلِكَ سُنَّةُ اللَّهِ وَهُوَ الطَّرِيقَةُ الْمَأْمُورُ بِلُزُومِهَا وَاتِّبَاعِهَا
وقَوْله تَعَالَى وَلَنْ
سورة الأحزاب
معلومات السورة
الكتب
الفتاوى
الأقوال
التفسيرات

سورةُ (الأحزاب) من السُّوَر المدنيَّة، وقد تعرَّضتْ لذِكْرِ كثيرٍ من الأحداث والأحكام؛ على رأسِ تلك الأحداثِ قصةُ غزوة (الأحزاب)، وما تعلق بها مِن عِبَرٍ وعِظات؛ كحُسْنِ الظن بالله، والاعتماد عليه، مشيرةً إلى غَدْرِ اليهود، وأخلاقهم الشائنة، كما اشتملت السورةُ على ذكرِ آية الحِجاب، وذكرِ آداب الاستئذان، والدخول على النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وخُتِمت السورةُ بكثيرٍ من التوجيهات والعِظات للمؤمنين.

ترتيبها المصحفي
33
نوعها
مدنية
ألفاظها
1303
ترتيب نزولها
90
العد المدني الأول
73
العد المدني الأخير
73
العد البصري
73
العد الكوفي
73
العد الشامي
73

* قوله تعالى: {اْدْعُوهُمْ لِأٓبَآئِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اْللَّهِۚ فَإِن لَّمْ تَعْلَمُوٓاْ ءَابَآءَهُمْ فَإِخْوَٰنُكُمْ فِي اْلدِّينِ وَمَوَٰلِيكُمْۚ} [الأحزاب: 5]:

عن عائشةَ أمِّ المؤمنين رضي الله عنها: «أنَّ أبا حُذَيفةَ بنَ عُتْبةَ بنِ ربيعةَ بنِ عبدِ شمسٍ - وكان ممَّن شَهِدَ بَدْرًا مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم - تَبنَّى سالمًا، وأنكَحَه بنتَ أخيه هندَ بنتَ الوليدِ بنِ عُتْبةَ بنِ ربيعةَ، وهو مولًى لامرأةٍ مِن الأنصارِ؛ كما تَبنَّى النبيُّ صلى الله عليه وسلم زيدًا، وكان مَن تَبنَّى رجُلًا في الجاهليَّةِ، دعَاه الناسُ إليه، ووَرِثَ مِن ميراثِه، حتى أنزَلَ اللهُ: {اْدْعُوهُمْ لِأٓبَآئِهِمْ} إلى قولِه: {وَمَوَٰلِيكُمْۚ} [الأحزاب: 5]؛ فرُدُّوا إلى آبائِهم؛ فمَن لم يُعلَمْ له أبٌ، كان مولًى وأخًا في الدِّينِ، فجاءت سَهْلةُ بنتُ سُهَيلِ بنِ عمرٍو القُرَشيِّ ثم العامريِّ - وهي امرأةُ أبي حُذَيفةَ بنِ عُتْبةَ - النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسولَ اللهِ، إنَّا كنَّا نرى سالمًا ولدًا، وقد أنزَلَ اللهُ فيه ما قد عَلِمْتَ...» فذكَر الحديثَ. أخرجه البخاري (5088).

* قوله تعالى: {مِّنَ اْلْمُؤْمِنِينَ رِجَالٞ صَدَقُواْ مَا عَٰهَدُواْ اْللَّهَ عَلَيْهِۖ} [الأحزاب: 23]:

عن حُمَيدٍ الطَّويلِ، عن أنسِ بن مالكٍ رضي الله عنه، قال: «غابَ عَمِّي أنسُ بنُ النَّضْرِ عن قتالِ بَدْرٍ، فقال: يا رسولَ اللهِ، غِبْتُ عن أوَّلِ قتالٍ قاتَلْتَ المشرِكين، لَئِنِ اللهُ أشهَدَني قتالَ المشرِكين لَيَرَيَنَّ اللهُ ما أصنَعُ، فلمَّا كان يومُ أُحُدٍ، وانكشَفَ المسلمون، قال: اللهمَّ إنِّي أعتذِرُ إليك ممَّا صنَعَ هؤلاء - يعني أصحابَه -، وأبرَأُ إليك ممَّا صنَعَ هؤلاء - يعني المشرِكين -، ثم تقدَّمَ، فاستقبَلَه سعدُ بنُ مُعاذٍ، فقال: يا سعدُ بنَ مُعاذٍ، الجَنَّةَ ورَبِّ النَّضْرِ! إنِّي أجدُ رِيحَها مِن دُونِ أُحُدٍ، قال سعدٌ: فما استطَعْتُ يا رسولَ اللهِ ما صنَعَ». قال أنسٌ: «فوجَدْنا به بِضْعًا وثمانينَ ضَرْبةً بالسَّيفِ، أو طَعْنةً برُمْحٍ، أو رَمْيةً بسَهْمٍ، ووجَدْناه قد قُتِلَ، وقد مثَّلَ به المشرِكون، فما عرَفَه أحدٌ إلا أختُه ببنانِه». قال أنسٌ: كنَّا نُرى أو نظُنُّ أنَّ هذه الآيةَ نزَلتْ فيه وفي أشباهِه: {مِّنَ اْلْمُؤْمِنِينَ رِجَالٞ صَدَقُواْ مَا عَٰهَدُواْ اْللَّهَ عَلَيْهِۖ} [الأحزاب: 23] إلى آخرِ الآيةِ». وقال: «إنَّ أختَه - وهي تُسمَّى الرُّبَيِّعَ - كسَرتْ ثَنِيَّةَ امرأةٍ، فأمَرَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بالقِصاصِ، فقال أنسٌ: يا رسولَ اللهِ، والذي بعَثَك بالحقِّ، لا تُكسَرُ ثَنِيَّتُها، فرَضُوا بالأَرْشِ، وترَكوا القِصاصَ، فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إنَّ مِن عبادِ اللهِ مَن لو أقسَمَ على اللهِ لَأبَرَّه»». أخرجه البخاري (٢٨٠٥).

* قوله تعالى: {وَكَفَى اْللَّهُ اْلْمُؤْمِنِينَ اْلْقِتَالَۚ} [الأحزاب: 25]:

عن أبي سعيدٍ الخُدْريِّ رضي الله عنه، قال: «شغَلَنا المشرِكون يومَ الخَنْدقِ عن صلاةِ الظُّهْرِ حتى غرَبتِ الشَّمْسُ، وذلك قبل أن يَنزِلَ في القتالِ ما نزَلَ؛ فأنزَلَ اللهُ عز وجل: {وَكَفَى اْللَّهُ اْلْمُؤْمِنِينَ اْلْقِتَالَۚ} [الأحزاب: 25]، فأمَرَ بِلالًا فأذَّنَ وأقامَ فصلَّى الظُّهْرَ، ثمَّ أمَرَه فأقامَ فصلَّى العصرَ، ثمَّ أمَرَه فأقامَ فصلَّى المغربَ، ثمَّ أمَرَه فأقامَ فصلَّى العِشاءَ». أخرجه النسائي (٦٦١).

* قوله تعالى: {يَٰٓأَيُّهَا اْلنَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَٰجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اْلْحَيَوٰةَ اْلدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحٗا جَمِيلٗا ٢٨ وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اْللَّهَ وَرَسُولَهُۥ وَاْلدَّارَ اْلْأٓخِرَةَ فَإِنَّ اْللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَٰتِ مِنكُنَّ أَجْرًا عَظِيمٗا} [الأحزاب: 28-29]:

عن عبدِ اللهِ بن عباسٍ رضي الله عنهما، قال: «لم أزَلْ حريصًا على أن أسألَ عُمَرَ رضي الله عنه عن المرأتَينِ مِن أزواجِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم اللَّتَينِ قال اللهُ لهما: {إِن ‌تَتُوبَآ إِلَى اْللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَاۖ} [التحريم: 4]، فحجَجْتُ معه، فعدَلَ وعدَلْتُ معه بالإداوةِ، فتبرَّزَ حتى جاءَ، فسكَبْتُ على يدَيهِ مِن الإداوةِ فتوضَّأَ، فقلتُ: يا أميرَ المؤمنين، مَن المرأتانِ مِن أزواجِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم اللَّتانِ قال اللهُ عز وجل لهما: {إِن ‌تَتُوبَآ إِلَى اْللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَاۖ} [التحريم: 4]؟ فقال: واعجبي لك يا بنَ عبَّاسٍ! عائشةُ وحَفْصةُ، ثمَّ استقبَلَ عُمَرُ الحديثَ يسُوقُه، فقال:

إنِّي كنتُ وجارٌ لي مِن الأنصارِ في بني أُمَيَّةَ بنِ زيدٍ، وهي مِن عوالي المدينةِ، وكنَّا نتناوَبُ النُّزولَ على النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فيَنزِلُ يومًا وأنزِلُ يومًا، فإذا نزَلْتُ جِئْتُه مِن خَبَرِ ذلك اليومِ مِن الأمرِ وغيرِه، وإذا نزَلَ فعَلَ مِثْلَه، وكنَّا مَعشَرَ قُرَيشٍ نَغلِبُ النِّساءَ، فلمَّا قَدِمْنا على الأنصارِ إذا هم قومٌ تَغلِبُهم نساؤُهم، فطَفِقَ نساؤُنا يأخُذْنَ مِن أدبِ نساءِ الأنصارِ، فصِحْتُ على امرأتي، فراجَعتْني، فأنكَرْتُ أن تُراجِعَني، فقالت: ولِمَ تُنكِرُ أن أُراجِعَك؟! فواللهِ، إنَّ أزواجَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم لَيُراجِعْنُه، وإنَّ إحداهنَّ لَتهجُرُه اليومَ حتى اللَّيلِ، فأفزَعَني، فقلتُ: خابَتْ مَن فعَلَ منهنَّ بعظيمٍ، ثم جمَعْتُ عليَّ ثيابي، فدخَلْتُ على حَفْصةَ، فقلتُ: أيْ حَفْصةُ، أتُغاضِبُ إحداكنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم اليومَ حتى اللَّيلِ؟ فقالت: نَعم، فقلت: خابَتْ وخَسِرتْ! أفتأمَنُ أن يَغضَبَ اللهُ لغضَبِ رسولِه صلى الله عليه وسلم فتَهلِكِينَ؟! لا تَستكثري على رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، ولا تُراجِعيه في شيءٍ، ولا تهجُريه، واسأليني ما بدا لكِ، ولا يغُرَّنَّكِ أن كانت جارتُك هي أوضأَ منك، وأحَبَّ إلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم - يريدُ عائشةَ -.

وكنَّا تحدَّثْنا أنَّ غسَّانَ تُنعِلُ النِّعالَ لغَزْوِنا، فنزَلَ صاحبي يومَ نَوْبتِه، فرجَعَ عِشاءً، فضرَبَ بابي ضربًا شديدًا، وقال: أنائمٌ هو؟! ففَزِعْتُ، فخرَجْتُ إليه، وقال: حدَثَ أمرٌ عظيمٌ، قلتُ: ما هو؟ أجاءت غسَّانُ؟ قال: لا، بل أعظَمُ منه وأطوَلُ، طلَّقَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم نساءَه، قال: قد خابَتْ حَفْصةُ وخَسِرتْ، كنتُ أظُنُّ أنَّ هذا يُوشِكُ أن يكونَ، فجمَعْتُ عليَّ ثيابي، فصلَّيْتُ صلاةَ الفجرِ مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فدخَلَ مَشرُبةً له، فاعتزَلَ فيها، فدخَلْتُ على حَفْصةَ فإذا هي تَبكِي، قلتُ: ما يُبكِيكِ؟ أوَلَمْ أكُنْ حذَّرْتُكِ؟! أطلَّقَكنَّ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟! قالت: لا أدري! هو ذا في المَشرُبةِ، فخرَجْتُ، فجِئْتُ المِنبَرَ، فإذا حَوْلَه رَهْطٌ يَبكِي بعضُهم، فجلَسْتُ معهم قليلًا، ثم غلَبَني ما أجدُ، فجِئْتُ المَشرُبةَ التي هو فيها، فقلتُ لغلامٍ له أسوَدَ: استأذِنْ لِعُمَرَ، فدخَلَ، فكلَّمَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم، ثم خرَجَ، فقال: ذكَرْتُك له فصمَتَ، فانصرَفْتُ حتى جلَسْتُ مع الرَّهْطِ الذين عند المِنبَرِ، ثمَّ غلَبَني ما أجدُ، فجِئْتُ، فذكَرَ مِثْلَه، فجلَسْتُ مع الرَّهْطِ الذين عند المِنبَرِ، ثمَّ غلَبَني ما أجدُ، فجِئْتُ الغلامَ، فقلتُ: استأذِنْ لِعُمَرَ، فذكَرَ مِثْلَه، فلمَّا ولَّيْتُ منصرِفًا، فإذا الغلامُ يَدْعوني، قال: أَذِنَ لك رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فدخَلْتُ عليه، فإذا هو مضطجِعٌ على رمالِ حصيرٍ ليس بَيْنه وبَيْنه فِراشٌ قد أثَّرَ الرِّمالُ بجَنْبِه، متَّكِئٌ على وسادةٍ مِن أَدَمٍ حَشْوُها لِيفٌ، فسلَّمْتُ عليه، ثم قلتُ وأنا قائمٌ: طلَّقْتَ نساءَك؟ فرفَعَ بصَرَه إليَّ، فقال: «لا»، ثم قلتُ وأنا قائمٌ أستأنِسُ: يا رسولَ اللهِ، لو رأَيْتَني وكنَّا مَعشَرَ قُرَيشٍ نَغلِبُ النِّساءَ، فلمَّا قَدِمْنا على قومٍ تَغلِبُهم نساؤُهم، فذكَرَه، فتبسَّمَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم، ثم قلتُ: لو رأَيْتَني، ودخَلْتُ على حَفْصةَ، فقلتُ: لا يغُرَّنَّكِ أنْ كانت جارتُكِ هي أوضأَ منكِ وأحَبَّ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم - يريدُ عائشةَ -، فتبسَّمَ أخرى، فجلَسْتُ حينَ رأَيْتُه تبسَّمَ، ثم رفَعْتُ بصَري في بيتِه، فواللهِ ما رأَيْتُ فيه شيئًا يرُدُّ البصَرَ غيرَ أَهَبَةٍ ثلاثةٍ، فقلتُ: ادعُ اللهَ فَلْيُوسِّعْ على أُمَّتِك؛ فإنَّ فارسَ والرُّومَ وُسِّعَ عليهم، وأُعطُوا الدُّنيا وهم لا يعبُدون اللهَ، وكان متَّكِئًا، فقال: «أوَفِي شكٍّ أنتَ يا بنَ الخطَّابِ؟! أولئك قومٌ عُجِّلتْ لهم طيِّباتُهم في الحياةِ الدنيا»، فقلتُ: يا رسولَ اللهِ، استغفِرْ لي، فاعتزَلَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم مِن أجلِ ذلك الحديثِ حينَ أفشَتْهُ حَفْصةُ إلى عائشةَ، وكان قد قال: «ما أنا بداخلٍ عليهنَّ شهرًا»؛ مِن شِدَّةِ مَوْجِدتِه عليهنَّ حينَ عاتَبَه اللهُ، فلمَّا مضَتْ تِسْعٌ وعشرون، دخَلَ على عائشةَ، فبدَأَ بها، فقالت له عائشةُ: إنَّك أقسَمْتَ ألَّا تدخُلَ علينا شهرًا، وإنَّا أصبَحْنا لِتِسْعٍ وعِشْرينَ ليلةً أعُدُّها عدًّا؟! فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «الشَّهْرُ تِسْعٌ وعِشْرون»، وكان ذلك الشَّهْرُ تِسْعًا وعِشْرينَ، قالت عائشةُ: فأُنزِلتْ آيةُ التَّخييرِ، فبدَأَ بي أوَّلَ امرأةٍ، فقال: «إنِّي ذاكرٌ لكِ أمرًا، ولا عليكِ ألَّا تَعجَلي حتى تَستأمري أبوَيكِ»، قالت: قد أعلَمُ أنَّ أبوَيَّ لم يكُونا يأمُرانِي بفِراقك، ثم قال: «إنَّ اللهَ قال: {يَٰٓأَيُّهَا اْلنَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَٰجِكَ} [الأحزاب: 28] إلى قولِه: {عَظِيمٗا} [الأحزاب: 29]»، قلتُ: أفي هذا أستأمِرُ أبوَيَّ؟! فإنِّي أريدُ اللهَ ورسولَه والدارَ الآخرةَ، ثم خيَّرَ نساءَه، فقُلْنَ مِثْلَ ما قالت عائشةُ». أخرجه البخاري (٢٤٦٨).

* قوله تعالى: {إِنَّ اْلْمُسْلِمِينَ وَاْلْمُسْلِمَٰتِ وَاْلْمُؤْمِنِينَ وَاْلْمُؤْمِنَٰتِ وَاْلْقَٰنِتِينَ وَاْلْقَٰنِتَٰتِ وَاْلصَّٰدِقِينَ وَاْلصَّٰدِقَٰتِ وَاْلصَّٰبِرِينَ وَاْلصَّٰبِرَٰتِ وَاْلْخَٰشِعِينَ وَاْلْخَٰشِعَٰتِ وَاْلْمُتَصَدِّقِينَ وَاْلْمُتَصَدِّقَٰتِ وَاْلصَّٰٓئِمِينَ وَاْلصَّٰٓئِمَٰتِ وَاْلْحَٰفِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَاْلْحَٰفِظَٰتِ وَاْلذَّٰكِرِينَ اْللَّهَ كَثِيرٗا وَاْلذَّٰكِرَٰتِ أَعَدَّ اْللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةٗ وَأَجْرًا عَظِيمٗا} [الأحزاب: 35]:

عن أُمِّ عطيَّةَ نُسَيبةَ بنتِ كعبٍ رضي الله عنها: أنَّها أتت النبيَّ ﷺ، فقالت: «ما أرى كلَّ شيءٍ إلا للرِّجالِ، وما أرى النِّساءَ يُذكَرْنَ بشيءٍ»؛ فنزَلتْ هذه الآيةُ: {إِنَّ اْلْمُسْلِمِينَ وَاْلْمُسْلِمَٰتِ وَاْلْمُؤْمِنِينَ وَاْلْمُؤْمِنَٰتِ} [الأحزاب: 35] الآيةَ. أخرجه الترمذي (٣٢١١).

* قوله تعالى: {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اْللَّهُ مُبْدِيهِ} [الأحزاب: 37]:

عن أنسِ بن مالكٍ رضي الله عنه، قال: «جاء زيدُ بنُ حارثةَ يشكو زَيْنَبَ إلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «أمسِكْ عليك أهلَك»؛ فنزَلتْ: {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اْللَّهُ مُبْدِيهِ} [الأحزاب: 37]». أخرجه ابن حبان (٧٠٤٥).

* قوله تعالى: {فَلَمَّا قَضَىٰ زَيْدٞ مِّنْهَا وَطَرٗا زَوَّجْنَٰكَهَا} [الأحزاب: 37]:

عن أنسِ بن مالكٍ رضي الله عنه، قال: «لمَّا نزَلتْ هذه الآيةُ في زَيْنَبَ بنتِ جحشٍ {فَلَمَّا قَضَىٰ زَيْدٞ مِّنْهَا وَطَرٗا زَوَّجْنَٰكَهَا} [الأحزاب: 37]، قال: فكانت تَفخَرُ على أزواجِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ تقولُ: زوَّجَكنَّ أهلُكنَّ، وزوَّجَني اللهُ مِن فوقِ سَبْعِ سمواتٍ». أخرجه الترمذي (3213).

* قوله تعالى: {تُرْجِي مَن تَشَآءُ مِنْهُنَّ وَتُـْٔوِيٓ إِلَيْكَ مَن تَشَآءُۖ وَمَنِ اْبْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَۚ} [الأحزاب: 51]:

عن عائشةَ أمِّ المؤمنين رضي الله عنها، قالت: «كنتُ أغارُ على اللاتي وهَبْنَ أنفُسَهنَّ لرسولِ اللهِ ﷺ، وأقولُ: تَهَبُ المرأةُ نفسَها؟ فلمَّا أنزَلَ اللهُ: {تُرْجِي مَن تَشَآءُ مِنْهُنَّ وَتُـْٔوِيٓ إِلَيْكَ مَن تَشَآءُۖ وَمَنِ اْبْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَۚ} [الأحزاب: 51]، قالت: قلتُ: واللهِ، ما أرى رَبَّك إلا يُسارِعُ في هواك». أخرجه البخاري (٤٧٨٨).

* قوله تعالى: {يَٰٓأَيُّهَا اْلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَدْخُلُواْ بُيُوتَ اْلنَّبِيِّ إِلَّآ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَىٰ طَعَامٍ غَيْرَ نَٰظِرِينَ إِنَىٰهُ وَلَٰكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَاْدْخُلُواْ فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَاْنتَشِرُواْ وَلَا مُسْتَـْٔنِسِينَ لِحَدِيثٍۚ إِنَّ ذَٰلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي اْلنَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِۦ مِنكُمْۖ وَاْللَّهُ لَا يَسْتَحْيِۦ مِنَ اْلْحَقِّۚ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَٰعٗا فَسْـَٔلُوهُنَّ مِن وَرَآءِ حِجَابٖۚ ذَٰلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّۚ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤْذُواْ رَسُولَ اْللَّهِ وَلَآ أَن تَنكِحُوٓاْ أَزْوَٰجَهُۥ مِنۢ بَعْدِهِۦٓ أَبَدًاۚ إِنَّ ذَٰلِكُمْ كَانَ عِندَ اْللَّهِ عَظِيمًا} [الأحزاب: 53]:

عن أنسِ بن مالكٍ رضي الله عنه، قال: «لمَّا تزوَّجَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم زَيْنَبَ بنتَ جَحْشٍ، دعَا القومَ، فطَعِموا ثمَّ جلَسوا يَتحدَّثون، وإذا هو كأنَّه يَتهيَّأُ للقيامِ، فلَمْ يقُوموا، فلمَّا رأى ذلك قامَ، فلمَّا قامَ قامَ مَن قامَ، وقعَدَ ثلاثةُ نفَرٍ، فجاءَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم لِيدخُلَ فإذا القومُ جلوسٌ، ثمَّ إنَّهم قاموا، فانطلَقْتُ فجِئْتُ فأخبَرْتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أنَّهم قد انطلَقوا، فجاءَ حتى دخَلَ، فذهَبْتُ أدخُلُ، فألقى الحِجابَ بَيْني وبَيْنه؛ فأنزَلَ اللهُ: {يَٰٓأَيُّهَا اْلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَدْخُلُواْ بُيُوتَ اْلنَّبِيِّ} [الأحزاب: 53] الآيةَ». أخرجه البخاري (٤٧٩١).

* سورةُ (الأحزاب):

سُمِّيت سورةُ (الأحزاب) بذلك؛ لأنَّ فيها ذِكْرَ أحزابِ المشركين مِن قُرَيشٍ وغطَفانَ وبعضِ العرب، الذين تَحزَّبوا واجتمعوا لغَزْوِ المسلمين بالمدينة، فردَّ اللهُ كيدهم في غزوة (الأحزاب) المعروفة.

اشتمَلتْ سورةُ (الأحزاب) على الموضوعات الآتية:

1. أمرُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم بتقوى الله، والتوكل عليه (١-٣).

2. تصحيح مفاهيمَ اجتماعية خاطئة (٤-٥).

3. وَلاية النبيِّ صلى الله عليه وسلم العامة، وأخذُ اللهِ الميثاقَ من النبيِّين عليهم السلام (٦-٨).

4. قصة غزوة (الأحزاب) (٩-٢٠).

5. الرسول صلى الله عليه وسلم هو الأُسوة الحسنة، وأصحابه نجومٌ يُهتدى بها (٢١-٢٤).

6. نتيجة المعركة، وغدر اليهود (٢٥-٢٧).

7. النبي مُحمَّد صلى الله عليه وسلم (٢٨-٥٩) .

8. مع زوجاته رضوان الله عليهم (٢٨-٣٤) .

9. المساواة بين الرجال والنساء في التكليف والجزاء (٣٥).

10. قصته صلى الله عليه وسلم مع زينبَ رضي الله عنها (٣٦-٣٩).

11. خاتمُ النبيِّين وبعض صفاته (٤٠-٤٨) .

12. خصائصه في أحكام الزواج (٤٩-٥٢).

13. آداب دخول بيته، والأمر بالحِجاب (٥٣-٥٥).

14. مكانتُه، وحرمة إيذائه (٥٦- ٥٨).

15. حِجاب زوجاته والمرأة المسلمة (٥٩).

16. جزاء المنافقين والكفار (٦٠-٦٨).

17. توجيهاتٌ وعِظات للمؤمنين (٦٩-٧١).

18. عظمة تكليف الإنسان، وحملُه الأمانة (٧٢-٧٣).

ينظر: "التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (6 /68).

حثَّتْ سورةُ (الأحزاب) على حُسْنِ الظنِّ بالله، والتوكُّلِ عليه؛ فالله هو صاحبُ الحِكْمة والقوَّة والقُدْرة، وهو المتصرِّفُ في الكون، يَعلَم ما يصلحُ للخلائق، ويُدبِّر لهم أحسَنَ تدبير؛ فيُعلِي شأنَ من يشاء، ويَخفِض شأنَ من يشاء.

وتسميتُها بـ(الأحزاب) أوضحُ دليلٍ على ذلك؛ بتأمُّل القصة التي أشارت إليها، ودلَّتْ عليها.

ينظر: "مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور" للبقاعي (2 /370).