تفسير سورة ق

معاني القرآن

تفسير سورة سورة ق من كتاب معاني القرآن
لمؤلفه الفراء . المتوفي سنة 207 هـ

بسم الله الرحمن الرحيم.
قوله عز وجل :﴿ ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ ﴾.
قاف : فيها المعنى الذي أقسم به [ ١٨١/ب ] ذكر أنها قُضي والله كما قيل في حُمَّ : قُضي والله، وحُمَّ والله : أي قضى.
ويقال : إن ( قاف ) جبل محيط بالأرض، فإن يكن كذلك فكأنه في موضع رفع، أي هو ( قافٌ والله )، وكان [ ينبغي ] لرفعه أن يظهر لأنه اسم وليس بهجاء، فلعل القاف وحدها ذكرت من اسمه كما قال الشاعر :
قلنا لها : قفي، فقالت : قافْ ***...
ذكرت القاف أرادت القاف من الوقوف، أي : إني واقفة.
وقوله :﴿ أَءِذَا مِتْنا وَكُنا تُرَاباً ﴾.
كلام لم يظهر قبله ما يكون هذا جواباً له، ولكن معناه مضمر، إنما كان والله أعلم :﴿ ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ ﴾ لتبعثن. بعد الموت، فقالوا : أنبعث إذا كنا تراباً ؟ فجحدوا البعث ثم قالوا :﴿ ذَلِكَ رَجْعُ بَعِيدٌ ﴾. جحدوه أصلا [ و ] قوله :( بعيد ) كما تقول للرجل يخطئ في المسألة : لقد ذهبت مذهباً بعيداً من الصواب : أي أخطأت.
وقوله :﴿ قَدْ عَلِمْنا ما تَنقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ ﴾ ما تأكل منهم.
وقوله :﴿ فِي أَمْرٍ مَّرِيجٍ ﴾.
في ضلال.
وقوله :﴿ وَما لَها مِن فُرُوجٍ ﴾.
ليس فيها خلل ولا صدع.
وقوله :﴿ وَحَبَّ الْحَصِيدِ ﴾.
والحب هو الحصيد، وهو مما أضيف إلى نفسه مثل قوله :﴿ إِنَّ هَذا لَهُو حَقُّ الْيَقِين ﴾، ومثله :﴿ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ﴾.
والحبل هو الوريد بعينه أضيف إلى نفسه لاختلاف لفظ اسميه، والوريد : عرق بين الحلقوم والعلباوين.
وقوله :﴿ وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ ﴾.
طوال، يقال : قد بسق طولا، فهن طوال النخل.
وقوله :﴿ لَّها طَلْعٌ نَّضِيدٌ ﴾.
يعنى : الكفُرَّى ما كان في أكمامه وهو نضيد، أي منضود بعضه، فوق بعض، فإذا خرج من أكمامه فليس بنضيد.
وقوله :﴿ أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الأَوَّلِ ﴾.
يقول : كيف نعيا عندهم بالبعث ولم نعي بخلقهم أولا ؟ ثم قال :﴿ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ ﴾، أي هم في ضلال وشك.
وقوله :﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنا الإِنسَانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ ﴾.
الهاء لما، وقد يكون ما توسوس أن تجعل الهاء للرجل الذي توسوس به تريد توسوس إليه وتحدثه.
وقوله :﴿ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ ﴾.
يقال : قعيد، ولم يقل : قعيدان. حدثنا الفراء قال : وحدثني حبان بن علي عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال : قعيد عن اليمين وعن الشمال يريد قُعود، فجعل القعيد جمعا، كما تجعل الرسول للقوم والاثنين. قال الله تعالى :﴿ إِنا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِين ﴾ لموسى وأخيه، وقال الشاعر :
ألِكْنى إليها، وخيرُ الرسو لِ أعلَمُهم بنواحِي الْخَبَرْ
فجعل الرسول للجمع، فهذا وجه، وإن شئت جعلت القعيد واحداً اكتفي به من صاحبه، كما قال الشاعر :
نَحْنُ بما عِندنا، وأنت بما عندك راضٍ، والرأي مختلِفُ
ومثله قول الفرزدق :
إِنِّي ضَمِنت لمن أتاني ما جَنَى وأبَى، وَكان وكنت غير غَدُورِ
وَلم يقل : غدورين.
وقوله :﴿ وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ﴾ وفي قراءة عبد الله : سكرة الحق بالموت، فإن شئت أردت ( بالحق ) أنه الله عز وجل، وإن شئت جعلت السكرة هي الموت، أضفتها إلى نفسها كأنك قلت : جاءت السكرة الحقُّ بالموت، وقوله :﴿ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ﴾ يقول : بالحق الذي قد كان غير متبين لهم من أمر الآخرة، ويكون الحق هو الموت، أي جاءت سكرة الموت بحقيقة الموت.
وقوله :﴿ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ﴾.
يقول : قد كنت تُكذب، فأنت اليوم عالم نافذ البصر، والبصر ها هنا : هو العلم ليس بالعين.
وقوله :﴿ هَذَا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ ﴾.
رفعتَ العتيد على أن جعلته خبرا صلته لما، وإن شئت جعلته مستأنفا على مثل قوله :﴿ هَذَا بَعليِ شَيْخٌ ﴾. ولو كان نصبا كان صوابا ؛ لأن ( هذا، وما ) معرفتان، فيقطع العتيد منهما.
[ ١٨٢/ا ] وقوله :﴿ أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ ﴾.
العرب تأمر الواحد والقوم بما يؤمر به الاثنان، فيقولون للرجل : قوما عنا، وسمعت بعضهم : ويحك ! ارحلاها وازجراها، وأنشدني بعضهم :
فقلت لصاحبي لا تحبسانا بنزع أصوله، واجتزَّ شيحا
قال : ويروى : واجدزّ يريد : واجتز، قال : وأنشدني أبو ثروان :
وإن تزجراني يا ابن عفان أنزجر وإن تدعاني أَحْمِ عرضاً ممنَّعاً
ونرى أن ذلك منهم أن الرجل أدنى أعوانه في إبله وغنمه اثنان، وكذلك الرَّفقة، أدنى ما يكونون ثلاثة، فجرى كلام الواحد على صاحبيه، ألا ترى الشعراء أكثر شيء، قيلا : يا صاحبيّ، يا خليلي، فقال امرؤ القيس :
خليليّ، مرّا بِي على أم جندب نُقضِّي لُبانات الفؤاد المعذب
ثم قال :
ألَمْ تَرَ أني كلما جئت طارقا وجدت بها طيبا وإن لم تطيب
فقال : ألم تر، فرجع إلى الواحد، وأول كلامه اثنان، قال : وأنشدني آخر :
خليليّ قوما في عَطالة فانظرا أناراً ترى من نحو بابَيْن أو برقا
وبعضهم : أنارا نرى.
وقوله :﴿ ما أَطْغَيْتُهُ ﴾ يقوله الملَك الذي كان يكتب السيئات للكافر، وذلك أن الكافر قال : كان يعجلني عن التوبة، فقال : ما أطغيته يا رب، ولكن كان ضالا.
قال الله تبارك وتعالى :﴿ ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ ﴾. أي : ما يُكْذَب عندي لعلمه عز وجل بغيب ذلك.
وقوله :﴿ هَذَا ما تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ ﴾ ﴿ مَّنْ خَشِيَ ﴾.
إن شئت جعلت ( مَن ) خفضا تابعة لقوله :( لكلّ )، وإن شئت استأنفتها فكانت رفعا يراد بها الجزاء. من خشي الرحمن بالغيب قيل له : ادخل الجنة، و ( ادْخُلوها ) جواب للجزاء أضمرتَ قبله القول وجعلته فعلاً للجميع ؛ لأن مَن تكون في مذهب الجميع.
وقوله :﴿ فَنَقَّبُواْ فِي الْبِلاَدِ ﴾.
قراءة القراء يقول : خرّقوا البلاد فساروا فيها، فهل كان لهم من الموت من محيص ؟ أضمرت كان هاهنا كما قال :﴿ وَكَأَيِّنْ مِّنْ قَرْيَةٍ هي أَشَدُّ قُوّةً مِّنْ قَرْيَتِكَ التي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُم ﴾، والمعنى : فلم يكن لهم ناصر عند إهلاكهم. ومن قرأ :( فَنقِّبوا ) في البلاد، فكسر القاف فإنه كالوعيد. أي : اذهبوا في البلاد فجيئوا واذهبوا.
وقوله :﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ ﴾.
يقول : لمن كان له عقل، وهذا جائز في العربية أن تقول : مالك قلب وما قلبك معك، وأين ذهب قلبك ؟ تريد العقل لكل ذلك.
وقوله :﴿ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ ﴾.
يقول : أو ألقى سمعه إلى كتاب الله وهو شهيد، أي شاهد ليس بغائب.
وقوله :﴿ وَما مَسَّنا مِن لُّغُوبٍ ﴾.
يقول : من إعياء، وذلك أن يهود أهل المدينة قالوا : ابتدأ خلق السماوات والأرض يوم الأحد، وفرغ يوم الجمعة، فاستراح يوم السبت، فأنزل الله :﴿ وَما مَسَّنا مِن لُّغُوبٍ ﴾ إكذابا لقولهم، وقرأها أبو عبد الرحمن السلمي : من لَغوب بفتح اللام وهي شاذة.
وقوله :﴿ وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ ﴾.
وإِدِبارَ. من قرأ : وأدبار جمعه على دُبُر وأدبار، وهما الركعتان بعد المغرب، جاء ذلك عن علي ابن أبي طالب أنه قال، [ ١٨٢/ب ] وأدبار السجود : الركعتان بعد المغرب، ﴿ وإِدْبارَ النُّجومِ ﴾. الركعتان ( قبل الفجر ) وكان عاصم يفتح هذه التي في قاف، وبكسر التي في الطور، وتكسران جميعاً، وتنصبان جميعاً جائزان.
وقوله :﴿ وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ ﴾.
يقال : إن جبريل عليه السلام يأتي بيت المقدس فينادي بالحشر، فذلك قوله :﴿ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ ﴾.
وقوله :﴿ يَوْمَ تَشَقَّقُ الأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعاً ﴾.
إلى المحشر وتُشَقق، والمعنى واحد مثل : مات الرجل وأميت.
وقوله :﴿ وَما أَنتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ ﴾.
يقول : لست عليهم بمسلَّط، جعل الجبار في موضع السلطان من الجَبْريّة، قال أنشدني المفضل :
ويوم الحَزن إذ حشَدَت مَعدٌّ وكان الناسُ إلا نحن دينا
عصينا عزمةَ الجبار حتى صبحنا الجوفَ ألفا مُعْلمينا
أراد بالجبار : المنذر لولايته.
وقال الكلبي بإسناده : لستَ عَلَيْهِمْ بجَبّار يقول : لم تبعث لتجبُرَهم على الإسلام والهدى ؛ إنما بعثت مذكَّرا فذكّر، وذلك قبل أن يؤمر بقتالهم.
والعرب لا تقول : فعّال من أفعلت، لا يقولون : هذا خَرّاج ولا دَخّال، يريدون مُدْخِل ولا مُخرِج من أدخلت وأخرجت، إنما يقولون : دخال من دخلت، وفعّال من فعلت : وقد قالت العرب : درّاك من أدركت، وهو شاذ، فإن حملت الجبار على هذا المعنى فهو وجه.
وقد سمعت بعض العرب يقول : جبره على الأمر يريد : أجبره، فالجبار من هذه اللغة صحيح يراد به : يقهرهم ويجبرهم.
سورة ق
معلومات السورة
الكتب
الفتاوى
الأقوال
التفسيرات

سورةُ (ق) من السُّوَر المكية، نزلت بعد سورة (المُرسَلات)، وقد افتُتحت بالتنويه بهذا الكتابِ، وتذكيرِ الكفار بأصل خِلْقتهم، وقدرة الله عز وجل على الإحياء من عدمٍ؛ وذلك دليلٌ صريح على قُدْرته على بعثِهم وحسابهم بعد أن أوجَدهم، وفي ذلك دعوةٌ لهم إلى الإيمان بعد أن بيَّن اللهُ لهم مصيرَ من آمن ومصيرَ من كفر، وقد كان صلى الله عليه وسلم يقرؤها في صلاةِ الفجر.

ترتيبها المصحفي
50
نوعها
مكية
ألفاظها
373
ترتيب نزولها
34
العد المدني الأول
45
العد المدني الأخير
45
العد البصري
45
العد الكوفي
45
العد الشامي
45

* سورةُ (ق):

سُمِّيت سورةُ (ق) بهذا الاسمِ؛ لافتتاحها بهذا الحرفِ.

* كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يقرأُ سورة (ق) في صلاةِ الفجر:

عن جابرِ بن سَمُرةَ رضي الله عنه، قال: «إنَّ النبيَّ ﷺ كان يَقرأُ في الفجرِ بـ {قٓۚ وَاْلْقُرْءَانِ اْلْمَجِيدِ}، وكان صلاتُه بعدُ تخفيفًا». أخرجه مسلم (٤٥٨).

* وكذلك كان صلى الله عليه وسلم يقرأ سورة (ق) في عيدَيِ الفطرِ والأضحى:

عن عُبَيدِ اللهِ بن عبدِ اللهِ: «أنَّ عُمَرَ بنَ الخطَّابِ سألَ أبا واقدٍ اللَّيْثيَّ: ما كان رسولُ اللهِ ﷺ يَقرأُ في الفِطْرِ والأضحى؟ قال: كان النبيُّ ﷺ يَقرأُ بـ {قٓۚ وَاْلْقُرْءَانِ اْلْمَجِيدِ}، و{اْقْتَرَبَتِ اْلسَّاعَةُ وَاْنشَقَّ اْلْقَمَرُ}». أخرجه ابن حبان (٢٨٢٠).

1. إنكار المشركين للبعث (١-٥).

2. التأمُّل في الآيات (٦-١٥).

3. التأمل في الأنفس خَلْقًا ومآلًا (١٦-٣٨).

4. توجيهات للرسول، وتهديد للمشركين (٣٩-٤٥).

ينظر: "التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (7 /402).

مقصودُ السورة الدَّلالة على قدرة الله عز وجل أن يَبعَثَ الناسَ بعد موتهم، وأكبَرُ دليلٍ على ذلك خَلْقُهم من عدمٍ، وهو أصعب من بعثِهم من موجود، وفي ذلك يقول البِقاعيُّ رحمه الله: «مقصودها: الدلالةُ على إحاطة القدرة، التي هي نتيجة ما خُتمت به الحُجُرات من إحاطةِ العلم؛ لبيانِ أنه لا بد من البعث ليوم الوعيد؛ لتنكشفَ هذه الإحاطةُ بما يحصل من الفصل بين العباد بالعدل؛ لأن ذلك سِرُّ المُلك، الذي هو سرُّ الوجود.

والذي تكفَّلَ بالدلالة على هذا كلِّه: ما شُوهِد من إحاطة مجدِ القرآن بإعجازه في بلوغه - في كلٍّ من جمعِ المعاني وعلوِّ التراكيب، وجلالة المفرَدات وجزالةِ المقاصد، وتلاؤم الحروف وتناسُبِ النظم، ورشاقة الجمع وحلاوة التفصيل - إلى حدٍّ لا تُطيقه القُوَى من إحاطةِ أوصاف الرسل، الذي اختاره سبحانه لإبلاغِ هذا الكتاب، في الخَلْقِ والخُلُق، وما شُوهِد من إحاطة القدرة بما هدى إليه القرآنُ من آيات الإيجاد والإعدام». "مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور " للبقاعي (3 /15).