تفسير سورة الأحزاب

تيسير التفسير

تفسير سورة سورة الأحزاب من كتاب تيسير التفسير
لمؤلفه إبراهيم القطان . المتوفي سنة 1404 هـ

اتق الله : اعمل صالحا وأطع الله.
في هذه الآية الكريمة توجيهٌ للنبيّ الكريم أن يستمر على تقواه حتى يكونَ قُدوةً للمؤمنين وأن لا يُخدع بالكافرين والمنافقين بل يظل حذِرا منهم ومن مكايدهم.
وأن يعملَ بما يوحيه الله إليه.
قراءات :
قرأ أبو عمرو :﴿ بما يعملون خبيرا ﴾، والباقون :﴿ بما تعملون ﴾ بالتاء.
وتوكل على الله : اعمل وفوض أمورك إليه. وكيلا : حافظا.
ومن ثم يتوكّل على الله ويفوّض جميع أموره إليه، ﴿ وكفى بالله وَكِيلاً ﴾ يحفظُه ويحرسه ويمنع عنه كلَّ شرّ، وقد فَعل.
تظاهِرون : تقولون للمرأة : أنت عليَّ كظهر أمي، وكانت عادةً في الجاهلية، إذا قال الرجل لزوجته هذا القول حرُمت عليه أبدا. فجاء الإسلام وأبطل هذه العادة وجعل الحرمة مؤقتة وعليها غرامة.
الأدعياء مفردها دعي : هو الذي يتبناه الإنسان. وكان ذلك معمولا به في الجاهلية وصدرِ الإسلام ثم حَرُم بهذه الآيات.
السبيل : طريق الحق.
﴿ مَّا جَعَلَ الله لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ ﴾ : حتى يطيعَ بأحدِهما ويعصي بالآخر، وكان العرب في الجاهلية يقولون : للرجل الذكيّ قَلْبان، وهذه خرافة.
وما جعل زوجةَ أحدِكم حين يقول لها : أنتِ عليَّ كظهرِ أمّي، أمّاً له حقيقة، فأبطِلوا، وعلى من تفوّه بها كفّارة.
﴿ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَآءَكُمْ أَبْنَآءَكُمْ.... ﴾ : حرم الإسلام أن يتخذ الإنسان ولداً أو بنتا ويقول هذا ابني، أرِثه ويرثني.
قراءات :
قرأ ابن كثير وأبو عمرو ونافع :﴿ اللاءِ ﴾ بهمزة مكسورة بدون ياء، والباقون :﴿ اللائي ﴾ بهمزة بعدها ياء.
وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو :﴿ تَظَّهَّرون ﴾ بفتح التاء وتشديد الظاء والهاء المفتوحتين، وقرأ ابن عامر :﴿ تظّاهرون ﴾ بفتح التاء وتشديد الظاء بعدها ألف، وقرأ عاصم :﴿ تُظاهِرون ﴾ بضم التاء وفتح الظاء بدون تشديد كما هو في المصحف.
أقسط : أعدل.
مواليكم : أولياؤكم، المولى له عدة معان : المولى الربّ، والمالك، والولي المحب، والصاحب، والجار، والقريب من العصبة كالعم وابن العم ونحو ذلك، والمعتِق والعبد.
وأمرنا أن ندعوهم ( الأدعياء ) لآبائهم، فإذا لم نعلم آباءهم فإنهم إخواننا في الدّين وموالينا وأحبابنا.
ويرفع الله عنا الحرج بما أخطأنا به :﴿ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَآ أَخْطَأْتُمْ بِهِ ﴾، ويحذّرنا من أن نتعمد الأعمالَ الممنوعة، ومع هذا فإنه غفور رحيم.
اعلموا أيها المؤمنون أن النبيّ أحرصُ على استقامة أمركم وأحقّ بولايتكم من أنفسِكم، فعليكم أن تطيعوه وتتبعوا شرعه. وأزواجه مُنَزَّلاتٌ منازلَ أمهاتكم فعليكم أن توقّروهن ولا تتزوجوهن من بعده. وذوو القرابات أولى ببعض في أمر الوراثة من المؤمنين والمهاجرين، ( وكان المؤمنون يتوارثون كأنهم أسرة واحدة )، لكن يجوز أن تعطوا بعضَ من وَالَيْتُم في الدين من المتّصلين بكم، أو توصوا لهم بجزء من مالكم، كان هذا ثابتا في اللوح المحفوظ والقرآن.
واذكر يا محمد، حين أخذْنا على النبيّين عهدا، وأخذنا مثلَه عليك وعلى نوح وإبراهيم وموسى وعيسى بن مريم بتبليغ الرسالة والدعوة إلى الدين :﴿ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِّيثَاقاً غَلِيظاً ﴾ عظيمَ الشأن.
وسوف يسأل الله يوم القيامة جميع الأنبياء عما قالوه لقومهم وعما لاقَوه منهم، وأعدَّ للكافرين عذاباً أليماً.
جاءتكم جنود : الأحزاب، وهم قريش وبنو أسد وغطفان وبنو عامر وبنو سليم ومن اليهود بنو النضير وبنو قريظة.
جنود لم تروها : الملائكة.
نزلت هذه الآيات إلى آخر الآية السابعة والعشرين في تفصيل غزوة الأحزاب، أو غزوة الخندق.
كانت غزوة الأحزاب في شوّال سنة خمسٍ من الهجرة، وكانت من أخطرِ الحوادث التي واجهها رسول الله والمسلمون، في تقرير مصير الدعوة الإسلامية. وكانت معركةً حاسمة ومحنة ابتُلي المسلمون فيها ابتلاءً لم يبتلوا بمثله.
أما سببها فهو أنه خرج نفرٌ من بني النضير، ونفر من بني وائل من اليهود، فقدِموا على قريش في مكة. وهناك دعوا قريشاً إلى حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالوا لهم : إنا سنكون معكم حتى نستأصلَه هو ومن معه. فسرّ ذلك قريشاً، ونشِطوا لما دعوهم إليه. ثم خرج وفد اليهود فجاؤوا غطفان ودعوهم إلى حرب المسلمين. وطافوا في القبائل، حتى تمت لهم اتفاقية عسكرية، كانت قريش وغطفان من أهم أعضائها. فحشدت قريش أربعة آلاف مقاتل، وغطفان ستة آلاف. وأُسندت قيادةُ الجيش إلى أبي سفيان، وتعهد اليهود أن يدفعوا إلى غطفان كل تمرِ نخلِ خيبرَ لسنة واحدة.
ولما سمع رسول الله وأصحابه عن تجمُّع القبائل مع قريش لقتال المسلمين وزحفهم إلى المدينة، تهيأ المسلمون للحرب، وقرروا التحصنّ في المدينة والدفاع عنها، وكان جيش المسلمين لا يزيد على ثلاثة آلاف مقاتل.
وفي هذه الأثناء أشار سلْمان الفارسيّ، رضي الله عنه، بحفر الخندق حول المدينة، وكانت هذه خطةً حربية متّبعة عند الفرس، فأمر الرسول الكريم بحفر الخندق في السهل الواقع شماليّ غرب المدينة، وهو الجانب المكشوف الذي يُخاف منه اقتحام العدو. وقد قسم رسول الله الخندقَ بين أصحابه لكل عشرةٍ أربعين ذراعا، وبلغ طول الخندق خمسة آلاف ذراع ( نحو أربعة كيلومترات )، وعمقه من سبعة أذرع إلى عشرة، وعرضهُ من تسعة أذرع إلى ما فوقها.
وكان حده الشرقي طرفَ حَرّة واقِم، وحده الغربي وادي بُطْحان حيث طرفُ الحرة الغربية، حرة الوبرة.
وعمل السلمون في حفر الخندق بجدٍّ ونشاط، وكان كلما عَرَضَ لهم مكان صعب فيه صخرة لجأوا إلى الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام فيأخذ المِعولَ بيده ويضربها حتى تتفتت، حتى أكملوه وتحصنوا وراءه.
وكان بين المسلمين وبني قريظة من اليهود معاهدةٌ، فحملهم حُييّ بن أخطَب، سيدُ بني النضير، على نقض تلك المعاهدة. فنقضوها، وتأهبوا لقتال المسلمين مع المشركين من قريش والعرب. وعظُم عند ذلك البلاء، واشتد الخوف، وزاغت الأبصار، وبلغت القلوبُ الحناجر.
وجاء أبو سفيان يقود ذلك الجيشَ الجرار وأحاطوا بالمدينة. وفوجئوا بالخندق، فوقفوا من ورائه، وقفز أحد أبطالهم وهو عمرو بن عبد ودٍّ العامري بحصانه فاجتاز الخندقَ وطلب المبارزة. فبرز له عليّ بن أبي طالب كرم الله وجهه، وقتله. ثم حصل بعضُ التراشق بالسهام، ودام الحصار نحو شهر، اشتد فيه البلاء. واستأذن بعض المنافقين في الذهاب إلى المدينة وقالوا :﴿ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَاراً ﴾، وكان الوقت شتاءً واشتد البرد وهبّت ريح عاتية فقلبت القدور وقوضت الخيام. فقام أبو سفيان وقال : يا معشر قريش، إنكم واللهِ ما صبحتم بدار مقام، وقد أخلفتنا بنو قريظة، وبلغَنا عنهم الذي نَكره، ولَقِينا من شدة الريح ما ترون، فارتحِلوا فإني مرتحِل.
فانطلَقوا، وأصبح الصباح فإذا القوم قد ارتحلوا. وانصرف المسلمون ووضعوا السلام وصدق الله العظيم :﴿ يا أيها الذين آمَنُواْ اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ جَآءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً ﴾، ﴿ وَرَدَّ الله الذين كَفَرُواْ بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُواْ خَيْراً وَكَفَى الله المؤمنين القتال وَكَانَ الله قَوِيّاً عَزِيزاً ﴾.
ووضعت الحربُ أوزارها، فلم ترجعْ قريش بعدَها إلى حرب المسلمين. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :« لن تَغزُوكم قريش بعد عامِكم هذا، ولكنّكم تغزونهم » والقصةُ بطولِها في سيرة ابن هشام وفي صحيح مسلم، وابن كثير.
واستُشهد من المسلمين يوم الخندق سبعة، وقُتل من المشركين أربعة.
زاغت الأبصار : تحيرت من الدهشة والخوف.
بلغت القلوب الحناجر : فزعت فزعاً شديداً كأنها قفزت إلى الحُلُوق من الخوف.
إنها صورة هائلة مرعبة، فقد جاء أبو سفيان بذلك الجيش الكبير وحاصروا المسلمين من كلّ مكان، وبنو قريظة من ورائهم، فَبَلَغ الخوف أقصاه، وبلغت القلوبُ الحناجر خفقاناً واضطرابا، وظنّ بعضهم بالله ظنونا سيئة.
قراءات :
قرأ أبو عمرو ويعقوب وحمزة :﴿ الظنون ﴾ بدون ألف، والباقون :﴿ الظنونا ﴾ بألف بعد النون.
ابتلي المؤمنون : اختُبروا وامتحنوا.
وزُلزلوا زلزالا شديدا : اضطربوا من الفزَع بشكل رهيب من كثرة العدو.
وكان ذلك اختباراً كبيرا وامتحاناً شديدا للمؤمنين.
والذين في قلوبهم مرض : ضعفاء الإيمان من المسلمين قريبي العهد بالإسلام.
إلا غرورا : وعداً باطلا قصد به التغرير بنا.
وأخذ المنافقين والذين في قلوبهم مرضٌ من ضعاف المسلمين يقولون : ما وعدَنا الله ورسولُه من النصر وعلوّ الكلمة الا وعداً باطلا !
يثرب : من أسماء المدينة، ولها مائة اسم.
لا مقام لكم : لا ينبغي لكم الإقامة هنا.
إن بيوتنا عورة : يعني مكشوفة للعدو خالية من الرجال المدافعين عنها.
وقالت طائفة من المنافقين كعبد الله بن أُبيّ وأصحابه : يا أهلَ المدينة، ليس هذا المقام بمقامٍ لكم فارجعوا إلى منازلكم، ﴿ وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النبي يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَاراً ﴾ : وهم من بني حارثة.
وما كان استئذانهم إلا جبناً وفِراراً من القتال.
قراءات :
قرأ حفص :﴿ لا مُقام لكم ﴾ بضم الميم بمعنى الإقامة، والباقون :﴿ لا مَقام لكم ﴾ بفتح الميم بمعنى الموضع.
من أقطارها : من جوانبها.
الفتنة : الردة ومقاتلة المؤمنين.
آتوها : اعطوها.
وما تلبّثوا بها : ما أقاموا بالمدينة.
ثم بين الله وَهْنَ الدينِ وضعفه في قلوبهم، فقال :﴿ وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِّنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُواْ الفتنة لآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُواْ بِهَآ إِلاَّ يَسِيراً ﴾ :
ولو دخل عليهم الأحزاب من جوانب بيوتهم، ثم طلبوا إليه الارتدادَ عن دِينهم وأن يقاتِلوا المؤمنين، لفعلوا ذلك مسرِعينَ من شدة الخوف.
قراءات :
قرأ ابن كثير ونافع وابن عامر :﴿ لأتوها ﴾ من غير مد، والباقون :﴿ لآتوها ﴾ بالمد، يقول الطبري : قرأ بعض المكيين وعامة قراء الكوفة والبصرة ﴿ لآتوها ﴾ بمد الألف، وحفص كوفي، فتكون قراءة المصحف الصحيحة ﴿ لآتوها ﴾ بالمد.
لا يولّون الأدبار : لا يفرون منهزمين.
ولقد كانوا عاهدوا الله لا ينهزمون أمام عدوٍّ قط، ﴿ وَكَانَ عَهْدُ الله مَسْئُولاً ﴾.
لا يزال القول في غزوة الخندق وما لابَسَها. قل لهم أيها الرسول : لا ينجيكم الفرارُ من الموت أو القتل، وإنْ نَفَعَكم ظاهراً فلا تتمتعون بتأخير يومكم إلا تمتعا قليلا.
يعصمكم : يمنعكم.
وقل لهم : من ذا الذي يحميكم من الله إن أراد بكم رحمة ؟ ﴿ وَلاَ يَجِدُونَ لَهُمْ مِّن دُونِ الله وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً ﴾.
المعوِّقين : المانعين المثبطين عن القتال.
هلم إلينا : أقبلوا إلينا.
البأس : الشدة والمراد بها هنا الحرب والقتال.
والله يعلمُ المعوقين الذي يثّبطون الناسَ عن القتال ويمنعونهم، والذين يقولون لإخوانهم هلمُّوا إلينا.
﴿ وَلاَ يَأْتُونَ البأس إِلاَّ قَلِيلاً ﴾ : فلا يَقْرَبون القتالَ إلا زمنا قصيراً ثم يتسلّلون ويهربون إلى مساكنهم.
أشحة : جمع شحيح وهو شديد البخل.
تدور أعينهم : تدور مقل أعينهم من شدة الخوف مثل الذي يغشى عليه من الموت. سلقوكم : آذوكم بألسنتهم السليطة.
أشحّة على الخير : بخلاء حريصين على مال الغنائم.
فأحبط الله أعمالهم : أبطلها.
ثم ذكر الله بعض معايبهم من البُخل والخوف والفخر الكاذب،
فقال : إنهم بخلاءُ عليكم بالمعونة والإنفاق، فإذا طرأ الخوفُ من الحرب رأيتَهم ينظرون إليك بحالة عجيبة، تدور أعينهم في محاجرها كالذي يقع مغشيّا عليه في حالة الموت.
فإذا ذهب الخوف وأمِنتم، ﴿ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ ﴾، طالبين أن يشارِكوكم في الغنيمة.
﴿ أَشِحَّةً عَلَى الخير أولئك لَمْ يُؤْمِنُواْ ﴾ : وهم بخلاء في كل خير، حريصون على الغنائم إذا ظفر بها المؤمنون. إنهم حين البأس جبناء، وحين الغنيمة أشحاء، ﴿ فَأَحْبَطَ الله أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى الله يَسِيراً ﴾.
بادون في الأعراب : لو أنهم من أهل البادية مع الأعراب.
أُسوة، وإسوة : قدوة.
لا يزال الحديث عن غزوة الأحزاب.
في هذه الآية عتاب من الله للمتخلّفين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. لقد كان لكم في رسول الله قُدوة حسنةٌ أن تتأسُّوا به ولا تتخلّفوا عنه، وتصبروا على الحرب ومعاناة الشدائد، لمن كان يرجو ثواب الله والفوز بالنجاة في اليوم الآخر. وقد قرن الله الرجاء بكثرة ذكر الله.
قراءات :
قرأ عاصم :﴿ أُسوة ﴾ بضم الهمزة، والباقون :﴿ إسوة ﴾ بكسرها وهما لغتان.
ولما رأى المؤمنون الأحزابِ مقبِلين للقتال، يتوافدون حماسة وحباً للانتقام، ﴿ قَالُواْ هذا مَا وَعَدَنَا الله وَرَسُولُهُ ﴾ من نزول الشدائد ووقوع الفتن، امتحاناً لإيمان عباده. وقد صدق الله ورسوله وما زادَهم هولُ ما رأوا إلا إيماناً بالله، وتسْليماً لأوامره وقضائه. هذا هو الإيمان الحق، الصبر والثبات، والتسليم إلى الله ورسوله، والثقة بنصر الله.
قضى نحبه : مات أو استُشهد في سبيل الله.
من المؤمنين بالله ورسوله رجال وَفَوا بما عاهدوا الله عليه من الصبر على الشدائد، فمنهم من فَرَغَ من العمل الذي كان نَذَرَه لله وأوجبَه على نفسه، فاستُشهد بعضُهم يوم بدر وبعضهم يوم أحد، وبعضهم في غير ذلك من المواطن المشرفة، ﴿ وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُ ﴾ الشهادةَ، وما غيَّروا العهدَ الذي عاهدوا ربهم، كما غيره المعوِّقون القائلون لإخوانهم : هلمّ إلينا، والقائلون : إن بيوتَنا عَورة.
إن الله سبحانه يختبر عبادَه بالخوفِ والشدائد ليُظهرَ الصادقَ بإيمانه من المنافق الكذاب كما قال :﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حتى نَعْلَمَ المجاهدين مِنكُمْ والصابرين وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ ﴾ سورة محمد ٣١، ويعذّب المنافِقين إذا استمرّوا على نفاقِهم، فإن تابوا فإن الله غفور رحيم. وباب التوبة عنده مفتوحٌ دائما وأبدا، وهو يغفر الذنوب جميعا.
بغيظهم : بأشد ما يكون من الغضب.
انتهت المعركة وانفرجت الغُمة، وردَّ الله الكفار ممتلئةً قلوبُهم بالغيظ خائبين، لم ينالوا خيراً من نصرٍ أو غنيمة. وكفى الله المؤمنين مشقَّة القتال، وكان الله عزيزاً بحَوْله وقوته.
روى الشيخان من حديث أبي هريرة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول :«لا إله إلا الله وحدَه، صدق عبدَه، وأعزَّ جنده، وهزم الأحزاب وحده، فلا شيء بعده »
وروى محمد بن اسحاق أنه لما انصرف الأحزاب، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :« لن تغزوكم قريشُ بعدَ عامِكم هذا، ولكنكم تغزونهم » وقد تحقق هذا ونصر الله رسولَه والمؤمنين إلى أن فتح عليهم مكة.
ظاهَروهم : عاونهم.
من أهل الكتاب : اليهود من بني قريظة.
من صياصيهم : من حصونهم، واحدها صِيصِية وهي كل ما يُمتنع به.
قذف في قلوبهم الرعب : ألقى في قلوبهم الخوف الشديد.
انتهت المعركة مع الأحزاب من قريش وحلفائها وردّهم الله خائبين، لكنّها لم تنتهِ مع اليهود من بني قريظة، الذين نقضوا العهد مع رسول الله والمؤمنين. وكان الرسول لما قَدِم المدينة، كتبَ كتاباً بين المهاجرين والأنصار وادَعَ فيه اليهودَ وعاهدَهم، وأقرّهم على دينهم وأموالهم، وشَرَطَ لهم واشترط عليهم، وجاء فيه :« إنه من تَبِعنا من يهودَ فإن له النصرة والأسوة غير مظلومين ولا متناصرين عليهم، إن اليهود يتفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين، وإن قبائلَ يهودَ أئمة مع المؤمنين. لليهود دينُهم، وللمسلمين دينهم ومواليهم وأنفسهم.... وإن بينهم النصرَ على ما حارب أهل هذه الصحيفة وإن بينهم النُّصحَ والنصيحة، والبِرّ دون الإثم، وإن بينهم النصرَ على من دهم يثرب ».
والعهدُ طويلٌ موجود في سيرة ابن هشام وعدد من المراجع.
ولكن اليهودَ، هم اليهود في كل زمان ومكان، فقد نقضوا العهد واتفقوا مع قريش والأحزابِ على أن يهجُموا على المدينة من خلْفِ المسلمين. ولما علم رسول الله بذلك بعث سعدَ بن مُعاذ وسعدَ بن عبادة، في رجالٍ من الأنصار ليتحققوا الخبر، فوجدوهم على شرّ ما بلَغَهم عنهم، ونالوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا : من رسولُ الله ؟ لا عهدَ بيننا وبين محمد ولا عقد.
وهكذا حاولوا طعنَ المسلمين من الخلف، ولكنّ الله خيبّهم، إذ أنهم اختلفوا مع قريش وتحصنوا في حصونهم ولم يحاربوا.
فلما انصرف الرسولُ الكريم والمسلمون من الخندق راجعين إلى المدينة، أمَرَ الرسول مؤذنا فأذن في الناس : إن من كان سميعاً مطيعاً فلا يصلِّيَنَّ العصرَ الا في بني قريظة.
ونزل رسول الله ببني قريظة فحاصرَهَم خمساً وعشرين ليلة حتى تعبوا وجَهَدهم الحصار وقذف الله في قلوبهم الرعبَ، ونزلوا على حُكم سعد بن معاذ حَليفِهم. فحكم فيهم أن يُقتل الرجال، وتقسَم الأموال، وتسبى الدراري والنساء، لأنهم لو نَفَّذوا عهدهم مع قريشٍ لقضَوا على المسلمين واستأصلوهم، ولكن الله سلّم ونَصَرَ المسلمين ﴿ وَكَانَ الله قَوِيّاً عَزِيزاً ﴾. وقد توفي سعدُ بن معاذ شهيدا من سهم أصابه في ذراعه رضي الله عنه.
وأورثكم الله أيها المؤمنون، أرض اليهود وحصونهم وديارهم وأموالهم التي ادّخروها، ومراعيهم، وقد قسمها الرسول الكريم بين المسلمين، وأخذ الخمس لرسول الله يصرفه في سبيل الله، وأرضاً لم تطؤها : خيبر ومكة، وكل ما لم يُفتح بعد..
زينة الدنيا : كل ما فيها من متاع ونعيم.
أمتعكن : أعطيكن المتعة من مال ولباس بحسب ما أستطيع.
وأسرّحكن : أطلقكن.
سَراحا جميلا : طلاقا من غير ضرر ولا مخاصمة ولا مشاجرة.
بعد أن نصر الله رسوله والمؤمنين وفتح عليهم بني قريظة وأموالهم، طلب نساء النبي أن يوسع عليهن بالنفقة، وقلن له : يا رسول الله، بنات كسرى وقيصر في الحلي والحلل، والإماء والخدم والحشَم، ونحن على ما تراه من الفاقة والضيق ! فأنزل الله تعالى في شأنهن قوله :﴿ يا أيها النبي قُل لأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الحياة الدنيا... ﴾ الآيات.
فبدأ بعائشة، فقال لها : إني أذكر لك أمراً ما أحبُّ أن تعجَلي حتى تستأمري أبويك. قالت : وما هو ؟ فتلا عليها :﴿ ياأيها النبي قُل لأَزْوَاجِكَ... ﴾ الآية، قالت عائشة : أفيكَ أَستأمر أبوي ! بل اختارُ الله تعالى ورسولَه. ثم تابعها بقيةُ نسائه. وكنّ تسعاً : سِتّاً من قريش، وهن عائشة وحفصة وأم حبيبة وسودة وأم سلمة وزينب بنت جحش الأسدية وثلاثاً من غير قريش وهن : ميمونة بنت الحارث الهلالية، وصفية بنت حُيي بن أخطب يهودية الأصل، وجويرية بنت الحارث المصطَلَقية.
هكذا كانت هذه الآية والآية التي قبلها - آيتا التخيير- تحدّدان الطريقَ الواضح : فإما الحياةَ الدنيا وزينتها، وإما اللهَ ورسوله والدارَ الآخرة. وقال نساء الرسول الكريم بعد ذلك : واللهِ لا نسألُ رسول الله بعد هذا المجلس ما ليس عنده، وفرح الرسولُ بذلك صلى الله عليه وسلم.
الفاحشة : المعصية. مبيّنة : ظاهرة واضحة.
ضِعفين : ضعفي عذاب غيرهن من النساء.
يسيرا : هيّنا.
وبعد أن خيّرهن واخترن الله ورسولَه وعَظَهن بقوله تعالى :﴿ يانسآء النبي مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا العذاب ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى الله يَسِيراً ﴾.
وفي هذا تهديد شديد، لأنهن لسن كغيرهن من النساء.... والذنبُ من العظيم عظيم، فمن تفعل منهن ذنباً يضاعَف لها العذاب من الله.
قراءات :
قرأ ابن كثير وابن عامر :﴿ نُضَعِّف العذابَ ﴾ بضم النون وتشديد العين المكسورة ونصب العذاب، وقرأ أبو عمرو :﴿ يُضَعَّف ﴾ بضم الياء وتشديد العين المفتوحة على البناء للمفعول و ﴿ العذاب ﴾ مرفوع، وقرأ الباقون :﴿ يُضاعَف لها العذاب ﴾ بألف بعد الضاد للمجهول.
يقنت : يطيع الله ويخضع له، يقال قَنَتَ لله وقنت اللهَ، متعد ولازم.
أعتدنا : هيّأنا وأعددنا.
كريما : سالما من الآفات والعيوب.
ومن تطعْ منكنّ يا نساء النبيّ، اللهَ ورسولَه وتخضع لأوامرهما، وتعمل صالح الأعمال، يعطِيها الله أجرها مرتين ( كما هدّد بمضاعفة العذاب )، وزيادةً على مضاعفة الأجر أعدّ الله لكنّ الكرامة في الدنيا والآخرة.
قراءات :
قرأ حمزة والكسائي :﴿ ومن يقنت منكن.... ويعمل صالحا ﴾ بالياء في الفعلين، وقرأ الباقون :﴿ ومن يقنت.... وتعمل ﴾ بالتاء في الأخير.
لستنّ كأحد من النساء : لا يساويكن أحد من النساء في الفضل والمنزلة.
فلا تخضعن بالقول : فلا تِجبن أحدا بقول لين مريب.
في قلبه مرض : في قلبه ريبة وفجور.
وقلن قولا معروفا : قولا حسنا لطيفا بعيدا عن الريبة.
ثم بين لهنّ أنهن لسن كغيرِهن من النساء بقوله تعالى :﴿ يانسآء النبي لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النسآء إِنِ اتقيتن فَلاَ تَخْضَعْنَ بالقول فَيَطْمَعَ الذي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفاً ﴾.
ليس هناك جماعة من النساء تساويكن في الفضل والكرامة، لأنكن أَزواج خاتَم النبييّن، وأمهات المؤمنين، وهذه منزلةٌ عظيمة لم يتشرّف بها أحدٌ من النساء غيركن.
ولذلك نهاهنّ الله عن الهزل في الكلام إذا خاطبهنّ الناس، حتى لا يطمع فيهنَّ منْ في قلبه نِفاق، ثم أمَرَهنّ أن يقُلن قولاً معروفا بعيداً عن الريبة.
وقَرن في بيوتكن : الزمن بيوتكن.
التبرج : إظهار الزينة.
الجاهلية الأولى : الجاهلية القديمة التي لا تعرف دينا ولا نظاما.
ليُذهب عنكم الرجس : الإثم والذنب.
وهذا أمرٌ من الله أن يلزمن بيوتَهن، وأن لا يظهِرن زينتهن ومحاسنَهن كما يفعل أهل الجاهلية الأولى. ثم أمرهنّ بأهم أركان الدين، وهو إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وإطاعة الله ورسوله.
﴿ إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرجس أَهْلَ البيت وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ﴾ :
ليُذهب عنكُم كلَّ دَنَس وإثمٍ يا أهلَ بيت النبي الكريم ويجعلكم طاهرين مطهَّرين.
قراءات :
قرأ عاصم ونافع :﴿ وقَرن ﴾ بفتح القاف، والباقون :﴿ وقِرن ﴾ بكسر القاف.
آيات الله : القرآن الكريم.
والحكمة : ما ينطق به الرسول من السنة والحديث.
ثم أمرهن بتعلُّم القرآن وتعليمه لغيرِهن، وأن يستوعبن ما يقول الرسولُ الكريم من الحكمة المبثوثة في سُنَّته، لأن الناس سيهرَعون إليهن ليأَخذوا منهنَّ ما سمعنَه منه.
الإسلام : الانقياد والخضوع لأمر الله، والإيمان : التصديق بما جاء عن الله من أمرٍ ونهى.
القنوت : الطاعة في سكون.
الصبر : تحمل المشاق والمكاره والعبادات والبعد عن المعاصي.
الخشوع : السكون والطمأنينة.
أعدّ الله لهم مغفرة : هيأ لهم الرحمة والغفران واحسن الجزاء.
ذكر الله تعالى في هذه الآية عشر صفات من صفات المؤمن المخلص الصادِق الإيمان، وهي الإسلام، والإيمان، والقنوت، والصدق، والصبر، والخشوع، والتصدُّق، والصوم، وحفظ الفرْج، وذِكر الله كثيرا.
فهذه الصفات تجعلُ من يتحلّى بها من المؤمنين رجلا مثاليا أو امرأة مثالية. ويلاحَظ أن الله تعالى لم يفرّق بين المرأة والرجل، فالكل سواء في العمل والإيمان والأجر والكرامة وأيّ منزلة أرفعُ من هذه المنزلة للمرأة، فهي تُذكر في الآية بجنب الرجل، مع رفع قيمتها، وترقية النظرة إليها في المجتمع وإعطائها مكانها اللائق في التطهر والعبادة والسلوك القويم في الحياة.
ما كان لمؤمن.... : لا ينبغي لمؤمن أن يختار غير ما يختار الله.
الخيرة : الاختيار.
مبينا : ظاهرا.
ليس الاختيار بيد الإنسان في كل شيء، بل هناك أمور لا اختيار لمؤمنٍ ولا لمؤمنة فيها وهي ما حَكَمَ اللهُ فيه، فما أمر به فهو المتّبع، وما أرادَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم فهو الحقّ، ومن يخالفْ ما حكم به الله ورسوله ﴿ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً مُّبِيناً ﴾.
نزلت هذه الآية في زينبَ بنتِ جحش، ابنة عمةِ النبي عليه الصلاة والسلام، فقد خطَبها الرسول الكريم ليزوّجها من زيد بن حارثة مولاه، فلم يقبل أخوها عبدُ الله أن تكون أختُه وهي قرشية هاشمية، تحت عبدٍ اشترته خديجةُ ثم أعتقه الرسول الكريم.
وقد أصر الرسول عليه الصلاة والسلام على تزويجها من زيدٍ لإزالة تلك الاعتبارات القائمة في النفوس على العصبيّات، ولهدْم تقاليد العرب القديمة.
فلما نزلت هذه الآية أذعَن عبدُ الله وأختُه زينب وقبلت أن تتزوج زيدا. ولم ينجح هذا الزواج. فقد تطاولت زينب على زوجها وجعلت تتكبر عليه، وتعيّره بأنه عبد رقيق، وهي قرشية. وآذتْه بفخرها عليه، واشتكى إلى النّبي ذلك مرارا، وطلب إليه أن يأذَن له بتطليقها فكان النبي يقول له :« أمسِك عليك زوجَك » لكن زيدا لم يُطِقْ معاشرةَ زينب فطلّقها.
قراءات :
قرأ أهل الكوفة :﴿ أن يكون لهم الخيرة ﴾ بالياء، والباقون :﴿ أن ﴾ تكون بالتاء.
الذي أنعم الله عليه : هو زيد بن حارثة أنعم الله عليه بالإسلام.
وأنعمتَ عليه : بالعتق والحرية.
الوطر : الحاجة.
وبعد ذلك تزوّجها الرسول الكريم، وهي ابنةُ عمته، ولأنه يريد أن يُبطِل عادة التبنّي الذي كان معمولاً به في الجاهلية. وكل ذلك بأمرٍ من الله كما جاء في قوله تعالى :﴿ وَإِذْ تَقُولُ للذي أَنعَمَ الله عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ واتق الله وَتُخْفِي فِي نِفْسِكَ مَا الله مُبْدِيهِ وَتَخْشَى الناس والله أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ ﴾.
فالذي أنعم الله عليه هو زيد، أنعم عليه بالإسلام، والذي أنعمت يا محمد، عليه هو زيدٌ أيضا، أنعمتَ عليه بالعتق من الرق وجعلته حراً. وتخفي يا محمد، في نفسِك
ما سيُظهره الله من أن زيدا سوف يطلق زينب وإنك ستتزوجها بأمر الله. هل تخاف أن يعيّرك الناس أنك تزوّجت امرأة ابنِك ( وكان يقال له زيد بن محمد ) ؟ إن الله وحده هو الذي يجب أن تخشاه، فإنك أنت القدوة في كل ما أمر الله به، وما ألقى عليك أن تبلّغه للناس، فلتكن أيضا القدوةَ فيما أبطلَ الشارعُ الحكيم من الحقوق المقررة للتبني والادعاء وفي ذلك نزل قوله تعالى :﴿ فَلَمَّا قضى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى المؤمنين حَرَجٌ في أَزْوَاجِ أَدْعِيَآئِهِمْ إِذَا قَضَوْاْ مِنْهُنَّ وَطَراً وَكَانَ أَمْرُ الله مَفْعُولاً ﴾.
الحرج : المشقة.
فرض الله له : قدر الله له.
خلَوا : مضوا.
قَدَرا مقدورا : قضاء مقضيا.
وقد قامت قيامة المبشّرين والمستشرقين لهذا الحادث وكتبوا فيه وأوّلوا وأطلقوا لخيالهم العِنان، وهم يعلمون حقَّ العلم أن الرسول الكريم كان مبشّرا ونذيراً ومعلّماً وداعيا إلى الله بإذنه ومشرعاً يريد أن يهدِم عاداتِ الجاهلية، ولذلك يقول تعالى :﴿ مَّا كَانَ عَلَى النبي مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ الله لَهُ سُنَّةَ الله فِي الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ الله قَدَراً مَّقْدُوراً ﴾ :
ما كان على النبي من إثمٍ في عمل أمره الله به، فلا حرجَ في هذا الأمر، وليس النبي فيه بِدعاً بين الرسل، فهو أمرٌ يمضي وَفقَ سنّة الله التي لا تتبدل في الأنبياء الذي مضوا.
ثم وصف الذين خَلوا بصفاتِ الكمال والتقوى وإخلاص العبادة له وتبليغ رسالته فقال :﴿ الذين يُبَلِّغُونَ رِسَالاَتِ الله وَيَخْشَوْنَهُ وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ الله وكفى بالله حَسِيباً ﴾ :
كفى أن يكون الله الرقيبَ المحاسب، فهو وحده يحاسبهم.
وفي هذه الآية قطعٌ لألسنة المنافقين وشياطينهم من اليهود الذين قالوا إن محمداً تزوج حليلة ابنه زيد. إن محمداً ليس أبا لأحد من رجالكم حتى يحرُم عليه التزوج من مطلقته ولكنّه أبٌ للمؤمنين جميعا، ولذلك فهو يشرّع الشرائع الباقية، لتسير عليها البشرية، وفق آخر رسالة السماء إلى الأرض، ﴿ وَكَانَ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً ﴾ يعلم ما يصلح لهذه البشرية، فقضى الله هذا وفق علمه بكل شيء.
قراءات :
قرأ عاصم وحده :﴿ خاتَم ﴾ بفتح التاء، والباقون :﴿ خاتم ﴾ بكسر التاء.
يا أيها الذين آمنوا، أكثِروا من ذكر الله.
أصيلا : الأصيل هو الوقت حين تصفرّ الشمس عند الغروب.
وسبّحوه كلَّ وقت، ولا سيمّا أول النهار وآخره.
الصلاة من الله : المغفرة والرحمة. هو الذي يرحمكم ويغفر لكم بصلاته عليكم، وتستغفر لكم الملائكة، ليخرجكم من ظلماتِ الجهل إلى نور الإسلام، ﴿ وَكَانَ بالمؤمنين رَحِيماً ﴾. وهذا أمرُهم في الدنيا دار العمل.
أما أمرهم في الآخرة وعندما يلقونه فلهم الكرامةُ والحفاوة والأجر الكريم :﴿ تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلاَمٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً ﴾.
يا أيها النبي، إنا أرسلناك شاهداً على أُمتك ترفع أمرهم إلى الله يوم القيامة، ونذيراً لهم حتى لا يتهاونوا.
وداعياً إلى الله بإذنه لنشْرِ الدين، ومصباحاً مضيئا يهدي بنوره الحائرين ويقتبس من نوره المهتدون.
وبعد هذا يأتي الفضل كله :﴿ وَبَشِّرِ المؤمنين بِأَنَّ لَهُمْ مِّنَ الله فَضْلاً كِبِيراً ﴾ على سائرِ الأمم بحَمْلهم أعباءَ هذا الدين الكريم وإبلاغه إلى الناس.
ثم بعد ذلك ينهي الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم بأن يهمل الكافرين والمنافقين
ولا يحفل بأذاهم، وأن يتوكل على الله وحده ويفوّض أمره إليه كما أَمَرَه في مطلع السورة،
﴿ وكفى بالله وَكِيلاً ﴾.
النكاح : عقد الزواج.
من قبل أن تمسّوهن : من قبل أن تدخلوا بهن.
فمتِّعوهن : أعطوهن ما يخرج من نفوسكم من المال لتطيب به نفوسهن.
ثم يبين تشريعاً مهماً لحفظ الأُسرة، وكرامة المرأة وحفظ حقوقها بقوله :﴿ يا أيها الذين آمنوا إِذَا نَكَحْتُمُ المؤمنات ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً ﴾ :
في هذه الآية الكريمة أمران :
الأول : إذا عقدتم عقدكم على امرأة ثم لم يحصَل وِفاق وطلقتموها قبل الدخول فليس عليها عِدّة.
الثاني : على المطلّق أن يمّتعِ المطلقةَ بشيء من المال حسب قُدرته حتى يطيبَ خاطرُها وليكون في ذلك بعضُ السلوة لها عما لحِق بها من أذى الطلاق.
﴿ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً ﴾.
سبق في سورة البقرة نفس الموضوع في قوله تعالى :﴿ لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النسآء مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ..... ﴾ [ الآية : ٢٣٦ و ٢٣٧ ].
قراءات :
قرأ حمزة والكسائي :﴿ من قبل أن تُماسّوهن ﴾ بضم التاء وألف بعدها، الباقون : ﴿ تمسوهن ﴾ بفتح التاء من غير ألف بعدها.
آتيتَ أجورهن : أعطيت مهورهن.
وما ملكت يمينُك : من الإماء التي جاءتك من المغانم.
خالصةً لك : خاصة بك.
حرج : ضيق، مشقة.
في هذه الآية الكريمة يبيّن الله لرسوله الكريمِ ما يحِلّ له من النساء، وما في ذلك من خصوصية لشخصِه الكريم ولأهل بيته.
يا أيها النبي : إنا أحللنا لك أزواجَك اللاّتي أعطيتهن مهورَهن، وأحللنا لك ما ملكتْ يدُك من الجواري، ويجوز لك أن تتزوج من بناتِ عمك، وبناتِ عماتك، وبناتِ خالك وبناتِ خالاتك اللاتي هاجرْن معك.
ويجوز لك أن تتزوّج امرأةً مؤمنة إن وهبتْ نفسَها لك بلا مهر.
وهذه الإباحةُ خالصة لك من دون المؤمنين، أما غيْرك من المؤمنين إن وهبْت امرأةٌ نفسها له فيجوز أن يتزوجها بمهر المثل.
﴿ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ في أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ ﴾ من شروط العقد الشرعي.
لقد أحلَلنا لك ذلك لِكَيلا يكونَ عليك حَرَجٌ في نِكاح من تريدُ من الأصنافِ التي ذُكرتْ، ﴿ وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً ﴾.
ترجِي : تؤخر، تبعد.
تؤوي إليك : تسكن معك.
ومن ابتغيتَ ممن عزلتَ : ومن طلبتَ ممن أبعدت من نسائك.
ذلك أدنى أن تقر أعينهن : ذلك أقرب أن تسر نفوسهن.
يخّير الله الرسول الكريم في هذه الآية بأن يدنيَ إليه من يشاءُ من نسائه ويؤخّر منهنّ من يشاء. وإذا أراد أن يطلب واحدةً كان أبعدَها فله الخيارُ في ذلك دون حَرَجٍ أو تضييق عليه. وكلُّ ذلك حتى يكنَّ مسرورات قريراتِ الأعين، ولا يحزنّ بل يرضين بما قَسَم بينهن، ويعلمن أن هذا كلَّه بأمرِ الله وترخيصِه لرسوله الكريم.
روى ابن جرير عن أبي رزين قال : لما نزلت آية التخيير السابقةُ خاف نساء النبي أن يطلّقهن فقلن : يا رسول الله، لنا من مالك ومن نفسِك ما شئت، ودعنا كما نحنُ، فنزلت هذه الآية، فأرجأ رسول الله خمساً من نسائه وهن : أم حبيبة، وميمونة، وصفية، وجويرية، وسودة، فكان لا يقسم بينهن ما شاء، يعني لم يجعل دورا في المبيت عندَهن منتظَما.
وآوى إليه أربع نساء هن : عائشة، وحفصة، وزينب، وأم سلمة، وكان يقسِم بينّهن على السواء، لكل واحدة ليلة.
﴿ والله يَعْلَمُ مَا فِي قلُوبِكُمْ ﴾ من الميل إلى بعضِهن دون بعض مما لا يمكن دفعُه، ﴿ وَكَانَ الله عَلِيماً حَلِيماً ﴾.
قراءات :
قرأ ابن كثير وأبو عمرو وأبو بكر عن عاصم :﴿ ترجئ ﴾ بالهمزة، والباقون :﴿ ترجي ﴾ بدون همزة.
ثم ختم هذا الموضع بآيةِ كريمة فيها حكمان : أن لا يتزوج عليه الصلاة والسلام غيرَ نسائه التسعَ الموجودات في عصمته، وأن لا يستبدل بهن غيرَهن، فقال :﴿ لاَّ يَحِلُّ لَكَ النسآء مِن بَعْدُ وَلاَ أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلاَّ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ الله على كُلِّ شَيْءٍ رَّقِيباً ﴾ :
لا يحِل لك النساء بعد هؤلاء التسع اللاتي في عصمتك، ولا أن تستبدلَ بهن أزواجا غيرهن، مهما كانت الواحدةُ بارعةً في الحسَب والجمال، إلا ما ملكتْ يمينك من الجواري، وكان الله على كل شيء مطّلعا.
قراءات :
قرأ أبو عمرو وحده :﴿ لا تحل لك النساء ﴾ بالتاء، والباقون :﴿ لا يحل لك النساء ﴾ بالياء.
غير ناظرين أَناهُ : غير منتظرين نضجه، أنى الطعامُ يأني : نضج واستوى.
طَعِمتم : أكلتم.
فانتشروا : اذهبوا وتفرقوا.
ولا مستأنسين لحديث : لا تمكثوا بعد الطعام تتحدثون.
متاعا : أي شيء.
من وراء حجاب : من وراء حاجز.
في هذه الآية إرشادٌ وتعليم للناس كيف يدخلون بيوتَ النبي، وفي أي وقت. وقد كان بعض المنافقين يؤذون الرسولَ عليه الصلاة والسلام بالتردّد على بيوته. وكان بعَضُ أصحابه يطلبون الجلوس، فأرشدَ الله أصحابه إلى تعظيم الرسول، وعيّ الحالاتِ والأوقات التي يُسمح لهم بدخول بيوته، وأدّبهم خير تأديب.
روى الإمام أحمد والبخاري ومسلم وغيرهن عن أنس رضي الله عنه قال :« لما تزّوج رسول الله صلى الله عليه وسلم زينبَ بنتَ جحش دعا القومَ إلى طعام، فأكلوا ثم جلسوا يتحدّثون، وإذا هو كأنه يتهيأ للقيام فلم يقوموا، فلما رأى ذلك قامَ، فلما قام ذهب جماعةٌ وبقي ثلاثةُ نفر، فجاء النبي ليدخلَ فإذا القومُ جلوس. ثم إنهم قاموا، فانطلقتُ فأخبرتُه بذهابهم.... ».
يا أيها الذين آمنوا، لا تدخلوا بيوت النبي إلا إذا أذن لكم، أو دعاكم إلى طعام، فإذا دعيتم إلى طعام فلا تأتوا مبكرين لتنتظروا نضجه، بل ادخلوا عندما يكون قد تم إعداده فقبلَ ذلك يكون أهل البيت في شغل عنكم.
فإذا دعيتم فلبوا الدعوة، وإذا أكلتم الطعام فتفرقوا واخرجوا ولا تطيلوا الجلوس وتمكثوا تتحدثون. فإن ذلك كان يؤذي النبي ويستحي منكم، والله لا يستحي من الحق. وقد سمى بعض المفسرين هذه الآية آية الثقلاء، وقالت السيدة عائشة رضي الله عنها :« حسبك في الثقلاء أن الله عز وجل لم يحتملهم ».
ثم علّمهم كيف يسألون نساء النبي ويتأدبون معهن، فقال :﴿ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فاسألوهن مِن وَرَآءِ حِجَابٍ ﴾.
وذلك أعظم طهارةً لقلوبكم وقلوبهن من وساوس الشيطان.
ولما ذكر الله تعالى بعض الآداب التي يجب أن يراعوها في بيت رسول الله أكده بما يحملهم على ملاطفته وحسن معاملته بقوله :﴿ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تؤْذُواْ رَسُولَ الله ﴾، ولا أن تتزوجوا نساءه من بعده أبدا، احتراما لهن لأنهنّ أمهات المؤمنين.
﴿ إِنَّ ذلكم كَانَ عِندَ الله عَظِيماً ﴾ : ولا يخفى ما في هذا من الوعيد الشديد، وعظيم التهديد على هذا العمل.
والله يعلم ما تظهرونه وما تخفونه في صدوركم، لا تخفى عليه خافية.
ثم بين بعد ذلك الأقارب الذين يمكن أن يدخلوا على نساء النبي ولا يحتجبن منهم وهم : الآباء والأبناء وإخوانهن، وأبناء إخوانهن، وأبناء أخواتهم، والنساء المسلمات،
وما ملكت أيمانهن من العبيد، وعليهن أن يتقين الله، إن الله كان على كل شيء شهيدا.
الصلاة من الله : الرحمة وذكره بالثناء على الملأ الأعلى، ومن الملائكة الاستغفار، ومن الناس الدعاء له بالرحمة. والمعنى أن الله يرحم النبي، والملائكة يدعون له ويطلبون له المغفرة.
يا أيها المؤمنون : ادعوا له بالرحمة، وأظهروا شرفه بكل ما تصل إليه قدرتكم.
إن الذين يؤذون الله ورسوله من المنافقين وشياطينهم اليهود، بتدبير المؤامرات والدس للتفرقة بين المؤمنين، لعنهم الله في الدنيا والآخرة، وطردهم من رحمته وأعدّ لهم عذابا كبيرا يهينهم يوم القيامة ويذل كبرياءهم.
والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بقولٍ أو فعل من غير ذنب فعلوه، فقد تحملوا وزر كذبهم عليهم، ﴿ فَقَدِ احتملوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً ﴾ فلا يجوز إيذاء الناس بالغيبة، أو الافتراء عليهم أو الكيد لهم وما إلى ذلك.
وفي الحديث :« سئل رسول الله عن الغِيبة فقال : ذِكرك أخاك بما يكره. قيل : أرأيت إن كان فيه ما أقول ؟ قال : إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهتّه ».
الجلباب : ثوب واسع أوسع من الخمار دون الرداء تغطي به المرأة رأسها وصدرها. وقيل هو الملحفة.
يُدنين : يُسدلِن.
أدنى أن يُعرفن : أقرب أن يميَّزن من الإماء والفتيات.
لم يكن في منازل المدينة مراحيض، فكان النساء يخرجن ليلا لقضاء الحاجة في البساتين وبين النخيل، وكان الإماء والحرائر يخرجن في زِيّ واحد، وكان فسّاق المدينة من المنافقين وغيرهم يتعرضون للإماء، وربما تعرضوا للحرائر، فأمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يأمر نساءه وبناته ونساء المؤمنين عامة إذا خرجن لحاجتهن أن يتسترن بلبس الجلابيب ويسترن أجسامهن ما عدا الوجه والكفين، ﴿ ذلك أدنى أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ ﴾. فعلى المسلمة إذا خرجت من بيتها لحاجة أن تسدل عليها ملابسها ولا تبدي شيئاً من مواضع الفتنة.
﴿ وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً ﴾ لما سلف في أيام الجاهلية.
المرجفون : اليهود، كانوا يلفقون أخبار السوء وينشرونها.
لنغرينك بهم : لنسلطنك عليهم.
ولما كان الذي يحصل من المنافقين وشياطينهم ومن على شاكلتهم حذرّهم الله بقوله :
﴿ لَّئِن لَّمْ يَنتَهِ المنافقون والذين فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ والمرجفون فِي المدينة لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ فِيهَآ إِلاَّ قَلِيلاً ﴾ :
توعّد الله في هذه الآية ثلاثة أصناف من الناس وهم : المنافقون الذين يؤذون الله ورسوله ومن في قلوبهم مرض من فساق المدينة الذين يؤذون المؤمنين باتباع نسائهم، والمرجفون وهم اليهود الذين يؤذون النبي صلى الله عليه وسلم بترويج الإشاعات الكاذبة والتشويش على المؤمنين. وأنهم إذا لم ينتهوا سلّط عليهم الرسولَ وأصحابه فيقاتلونهم ويخرجونهم من المدينة.
أينما ثقفوا : أينما وجدوا. خلَوا : مضوا.
ثم بين ما آل إليه أمرهم من خزي الدنيا وعذاب الآخرة، فقال :﴿ مَّلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثقفوا أُخِذُواْ وَقُتِّلُواْ تَقْتِيلاً ﴾ :
مستحقين اللعنة والطرد أينما وجدوا أخُذوا وقتّلوا تقتيلا، عقوبةً لهم.
وهذه سنة الله في أمثال هذه الفئات في كل زمان، لا تتغير ولا تتبدل، ولن تجد لسنة الله تبديلا.
الساعة : يوم القيامة.
وما يدريك : وما يعرّفك بوقتها.
يسألك الناس عن وقت قيام الساعة، قل لهم : إن علمها عند الله وحده، ولعل وقتها يكون قريبا. وقد كثر في القرآن الحديث عن اقتراب الساعة :﴿ اقتربت الساعة وانشق القمر ﴾ سورة القمر ( ١ ) ﴿ وَمَآ أَمْرُ الساعة إِلاَّ كَلَمْحِ البصر أو هُوَ أَقْرَبُ ﴾ [ النحل : ٧٧ ]. ﴿ أتى أَمْرُ الله فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ ﴾ [ النحل : ١ ] ﴿ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ الساعة قَرِيبٌ ﴾ [ الشورى : ١٧ ]. وفي هذا كله تهديد للمستعجلين المستهزئين، والمتعنتين الغافلين عنها، وقد أبقى الله علمها عنده حتى يبقى الناسُ على حذر من أمرها، وفي استعداد دائم لمفاجأتها، ذلك لمن أراد الله به الخير.
سعيرا : نارا شديدة، مستعرة.
إن الله طرد الكافرين من رحمته وهيأ لهم نارا شديدة متوقدة.
﴿ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً ﴾ باقين فيها أمدا طويلا لا يعلم مداه الا الله. ولا يجدون لهم من ينصرهم، لوتراهم يتقلّبون في تلك النار الموقدة،
ويتحسرون على كفرهم، ﴿ يَقُولُونَ ياليتنآ أَطَعْنَا الله وَأَطَعْنَا الرسولا ﴾. ولكن فاتهم ذلك ولا ينفعهم قولهم، ولا تستجاب دعواتهم.
سادتنا : ملوكنا.
كبراءنا : علماءنا وزعماءنا.
ثم يتذكرون سادتهم ورؤساءهم، فتنطلق من نفوسهم النقمة عليهم وينادون ربهم بقولهم : ربنا، لقد أطعنا رؤساءنا وكبراءنا فأضلونا السبيلَ وأبعدونا عن الصراط المستقيم.
قراءات :
قرأ ابن عامر ويعقوب :﴿ ساداتنا ﴾ بألف بعد الدال، والباقون :﴿ سادتنا ﴾.
ضِعفين : مثلين.
﴿ رَبَّنَآ آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ العذاب والعنهم لَعْناً كَبِيراً ﴾ : هذه هي الساعة وتلك هي القيامة، وهذا مشهد من مشاهدها.
قراءات :
قرأ عاصم وابن عامر :﴿ لعنا كبيرا ﴾ بالباء، والباقون :﴿ كثيرا ﴾ بالثاء.
وجيهاً : له جاه ومنزلة عظيمة.
يا أيها الذين آمنوا بالله ورسوله لا تؤذوا الرسول بقول يكرهه، ولا بفعلٍ لا يحبه، كالذين آذاوا موسى فرمَوه بالغيب كذباً وباطلا، فبرأه الله مما قالوه عنه من الزور، وكان موسى عند الله ذا وجاهة وكرامة.
روى الشيخان عن عبد الله بن مسعود قال :« قَسَمَ رسول الله ذات يوم قَسْما، فقال رجل من الأنصار : إن هذه القسمة ما أريد بها وجه الله، فاحمر وجه النبيّ ثم قال رحمة الله على موسى، رُمي بأكثر من هذا فصبر ».
قولا سديدا : قول الحق والصدق.
لقد أمر الله المؤمنين في ختام هذه السورة أن يصدُقوا في قولهم ويتقوا الله في عملهم.
وبذلك تصلح أعمالهم، ويغفر الله لهم ذنوبهم، ويبين لهم أن من يطع الله ورسوله فسوف يفوز فوزا عظيما.
عرضنا الأمانة : عرضنا التكاليف.
أشفقن منها : خفن منها.
حَمَلها الإنسان : كان مستعدا لها.
ظلوما : جهولا، كثير الجهل.
ثم ختم السورة بتعظيم أمر الأمانة، وضخامة تبعتها، وما فيها من تكاليف شاقة وأن السماوات والأرض والجبال أشفقن منها، وأن هذا الإنسان الضعيف حملها وكان مستعداً لها وقام بأعبائها، إنه كان شديد الظلم لنفسه، جهولا بما يطيق حمله، وهو على ما هو عليه من الضعف وضغط الشهوات والميول والنزعات وقلة العلم، وقصر العمر.
ثم بين عاقبة تلك الأمانة وما فيها من تكاليف، فقال :﴿ لِّيُعَذِّبَ الله المنافقين ﴾
وكان عاقبة حمل الإنسان لهذه الأمانة أن يعذِّب الله من خانها وأبى الطاعة والانقياد لها، ويقبل توبة المؤمنين والمؤمنات، والله كثير المغفرة واسع الرحمة.
سورة الأحزاب
معلومات السورة
الكتب
الفتاوى
الأقوال
التفسيرات

سورةُ (الأحزاب) من السُّوَر المدنيَّة، وقد تعرَّضتْ لذِكْرِ كثيرٍ من الأحداث والأحكام؛ على رأسِ تلك الأحداثِ قصةُ غزوة (الأحزاب)، وما تعلق بها مِن عِبَرٍ وعِظات؛ كحُسْنِ الظن بالله، والاعتماد عليه، مشيرةً إلى غَدْرِ اليهود، وأخلاقهم الشائنة، كما اشتملت السورةُ على ذكرِ آية الحِجاب، وذكرِ آداب الاستئذان، والدخول على النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وخُتِمت السورةُ بكثيرٍ من التوجيهات والعِظات للمؤمنين.

ترتيبها المصحفي
33
نوعها
مدنية
ألفاظها
1303
ترتيب نزولها
90
العد المدني الأول
73
العد المدني الأخير
73
العد البصري
73
العد الكوفي
73
العد الشامي
73

* قوله تعالى: {اْدْعُوهُمْ لِأٓبَآئِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اْللَّهِۚ فَإِن لَّمْ تَعْلَمُوٓاْ ءَابَآءَهُمْ فَإِخْوَٰنُكُمْ فِي اْلدِّينِ وَمَوَٰلِيكُمْۚ} [الأحزاب: 5]:

عن عائشةَ أمِّ المؤمنين رضي الله عنها: «أنَّ أبا حُذَيفةَ بنَ عُتْبةَ بنِ ربيعةَ بنِ عبدِ شمسٍ - وكان ممَّن شَهِدَ بَدْرًا مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم - تَبنَّى سالمًا، وأنكَحَه بنتَ أخيه هندَ بنتَ الوليدِ بنِ عُتْبةَ بنِ ربيعةَ، وهو مولًى لامرأةٍ مِن الأنصارِ؛ كما تَبنَّى النبيُّ صلى الله عليه وسلم زيدًا، وكان مَن تَبنَّى رجُلًا في الجاهليَّةِ، دعَاه الناسُ إليه، ووَرِثَ مِن ميراثِه، حتى أنزَلَ اللهُ: {اْدْعُوهُمْ لِأٓبَآئِهِمْ} إلى قولِه: {وَمَوَٰلِيكُمْۚ} [الأحزاب: 5]؛ فرُدُّوا إلى آبائِهم؛ فمَن لم يُعلَمْ له أبٌ، كان مولًى وأخًا في الدِّينِ، فجاءت سَهْلةُ بنتُ سُهَيلِ بنِ عمرٍو القُرَشيِّ ثم العامريِّ - وهي امرأةُ أبي حُذَيفةَ بنِ عُتْبةَ - النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسولَ اللهِ، إنَّا كنَّا نرى سالمًا ولدًا، وقد أنزَلَ اللهُ فيه ما قد عَلِمْتَ...» فذكَر الحديثَ. أخرجه البخاري (5088).

* قوله تعالى: {مِّنَ اْلْمُؤْمِنِينَ رِجَالٞ صَدَقُواْ مَا عَٰهَدُواْ اْللَّهَ عَلَيْهِۖ} [الأحزاب: 23]:

عن حُمَيدٍ الطَّويلِ، عن أنسِ بن مالكٍ رضي الله عنه، قال: «غابَ عَمِّي أنسُ بنُ النَّضْرِ عن قتالِ بَدْرٍ، فقال: يا رسولَ اللهِ، غِبْتُ عن أوَّلِ قتالٍ قاتَلْتَ المشرِكين، لَئِنِ اللهُ أشهَدَني قتالَ المشرِكين لَيَرَيَنَّ اللهُ ما أصنَعُ، فلمَّا كان يومُ أُحُدٍ، وانكشَفَ المسلمون، قال: اللهمَّ إنِّي أعتذِرُ إليك ممَّا صنَعَ هؤلاء - يعني أصحابَه -، وأبرَأُ إليك ممَّا صنَعَ هؤلاء - يعني المشرِكين -، ثم تقدَّمَ، فاستقبَلَه سعدُ بنُ مُعاذٍ، فقال: يا سعدُ بنَ مُعاذٍ، الجَنَّةَ ورَبِّ النَّضْرِ! إنِّي أجدُ رِيحَها مِن دُونِ أُحُدٍ، قال سعدٌ: فما استطَعْتُ يا رسولَ اللهِ ما صنَعَ». قال أنسٌ: «فوجَدْنا به بِضْعًا وثمانينَ ضَرْبةً بالسَّيفِ، أو طَعْنةً برُمْحٍ، أو رَمْيةً بسَهْمٍ، ووجَدْناه قد قُتِلَ، وقد مثَّلَ به المشرِكون، فما عرَفَه أحدٌ إلا أختُه ببنانِه». قال أنسٌ: كنَّا نُرى أو نظُنُّ أنَّ هذه الآيةَ نزَلتْ فيه وفي أشباهِه: {مِّنَ اْلْمُؤْمِنِينَ رِجَالٞ صَدَقُواْ مَا عَٰهَدُواْ اْللَّهَ عَلَيْهِۖ} [الأحزاب: 23] إلى آخرِ الآيةِ». وقال: «إنَّ أختَه - وهي تُسمَّى الرُّبَيِّعَ - كسَرتْ ثَنِيَّةَ امرأةٍ، فأمَرَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بالقِصاصِ، فقال أنسٌ: يا رسولَ اللهِ، والذي بعَثَك بالحقِّ، لا تُكسَرُ ثَنِيَّتُها، فرَضُوا بالأَرْشِ، وترَكوا القِصاصَ، فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إنَّ مِن عبادِ اللهِ مَن لو أقسَمَ على اللهِ لَأبَرَّه»». أخرجه البخاري (٢٨٠٥).

* قوله تعالى: {وَكَفَى اْللَّهُ اْلْمُؤْمِنِينَ اْلْقِتَالَۚ} [الأحزاب: 25]:

عن أبي سعيدٍ الخُدْريِّ رضي الله عنه، قال: «شغَلَنا المشرِكون يومَ الخَنْدقِ عن صلاةِ الظُّهْرِ حتى غرَبتِ الشَّمْسُ، وذلك قبل أن يَنزِلَ في القتالِ ما نزَلَ؛ فأنزَلَ اللهُ عز وجل: {وَكَفَى اْللَّهُ اْلْمُؤْمِنِينَ اْلْقِتَالَۚ} [الأحزاب: 25]، فأمَرَ بِلالًا فأذَّنَ وأقامَ فصلَّى الظُّهْرَ، ثمَّ أمَرَه فأقامَ فصلَّى العصرَ، ثمَّ أمَرَه فأقامَ فصلَّى المغربَ، ثمَّ أمَرَه فأقامَ فصلَّى العِشاءَ». أخرجه النسائي (٦٦١).

* قوله تعالى: {يَٰٓأَيُّهَا اْلنَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَٰجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اْلْحَيَوٰةَ اْلدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحٗا جَمِيلٗا ٢٨ وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اْللَّهَ وَرَسُولَهُۥ وَاْلدَّارَ اْلْأٓخِرَةَ فَإِنَّ اْللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَٰتِ مِنكُنَّ أَجْرًا عَظِيمٗا} [الأحزاب: 28-29]:

عن عبدِ اللهِ بن عباسٍ رضي الله عنهما، قال: «لم أزَلْ حريصًا على أن أسألَ عُمَرَ رضي الله عنه عن المرأتَينِ مِن أزواجِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم اللَّتَينِ قال اللهُ لهما: {إِن ‌تَتُوبَآ إِلَى اْللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَاۖ} [التحريم: 4]، فحجَجْتُ معه، فعدَلَ وعدَلْتُ معه بالإداوةِ، فتبرَّزَ حتى جاءَ، فسكَبْتُ على يدَيهِ مِن الإداوةِ فتوضَّأَ، فقلتُ: يا أميرَ المؤمنين، مَن المرأتانِ مِن أزواجِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم اللَّتانِ قال اللهُ عز وجل لهما: {إِن ‌تَتُوبَآ إِلَى اْللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَاۖ} [التحريم: 4]؟ فقال: واعجبي لك يا بنَ عبَّاسٍ! عائشةُ وحَفْصةُ، ثمَّ استقبَلَ عُمَرُ الحديثَ يسُوقُه، فقال:

إنِّي كنتُ وجارٌ لي مِن الأنصارِ في بني أُمَيَّةَ بنِ زيدٍ، وهي مِن عوالي المدينةِ، وكنَّا نتناوَبُ النُّزولَ على النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فيَنزِلُ يومًا وأنزِلُ يومًا، فإذا نزَلْتُ جِئْتُه مِن خَبَرِ ذلك اليومِ مِن الأمرِ وغيرِه، وإذا نزَلَ فعَلَ مِثْلَه، وكنَّا مَعشَرَ قُرَيشٍ نَغلِبُ النِّساءَ، فلمَّا قَدِمْنا على الأنصارِ إذا هم قومٌ تَغلِبُهم نساؤُهم، فطَفِقَ نساؤُنا يأخُذْنَ مِن أدبِ نساءِ الأنصارِ، فصِحْتُ على امرأتي، فراجَعتْني، فأنكَرْتُ أن تُراجِعَني، فقالت: ولِمَ تُنكِرُ أن أُراجِعَك؟! فواللهِ، إنَّ أزواجَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم لَيُراجِعْنُه، وإنَّ إحداهنَّ لَتهجُرُه اليومَ حتى اللَّيلِ، فأفزَعَني، فقلتُ: خابَتْ مَن فعَلَ منهنَّ بعظيمٍ، ثم جمَعْتُ عليَّ ثيابي، فدخَلْتُ على حَفْصةَ، فقلتُ: أيْ حَفْصةُ، أتُغاضِبُ إحداكنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم اليومَ حتى اللَّيلِ؟ فقالت: نَعم، فقلت: خابَتْ وخَسِرتْ! أفتأمَنُ أن يَغضَبَ اللهُ لغضَبِ رسولِه صلى الله عليه وسلم فتَهلِكِينَ؟! لا تَستكثري على رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، ولا تُراجِعيه في شيءٍ، ولا تهجُريه، واسأليني ما بدا لكِ، ولا يغُرَّنَّكِ أن كانت جارتُك هي أوضأَ منك، وأحَبَّ إلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم - يريدُ عائشةَ -.

وكنَّا تحدَّثْنا أنَّ غسَّانَ تُنعِلُ النِّعالَ لغَزْوِنا، فنزَلَ صاحبي يومَ نَوْبتِه، فرجَعَ عِشاءً، فضرَبَ بابي ضربًا شديدًا، وقال: أنائمٌ هو؟! ففَزِعْتُ، فخرَجْتُ إليه، وقال: حدَثَ أمرٌ عظيمٌ، قلتُ: ما هو؟ أجاءت غسَّانُ؟ قال: لا، بل أعظَمُ منه وأطوَلُ، طلَّقَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم نساءَه، قال: قد خابَتْ حَفْصةُ وخَسِرتْ، كنتُ أظُنُّ أنَّ هذا يُوشِكُ أن يكونَ، فجمَعْتُ عليَّ ثيابي، فصلَّيْتُ صلاةَ الفجرِ مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فدخَلَ مَشرُبةً له، فاعتزَلَ فيها، فدخَلْتُ على حَفْصةَ فإذا هي تَبكِي، قلتُ: ما يُبكِيكِ؟ أوَلَمْ أكُنْ حذَّرْتُكِ؟! أطلَّقَكنَّ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟! قالت: لا أدري! هو ذا في المَشرُبةِ، فخرَجْتُ، فجِئْتُ المِنبَرَ، فإذا حَوْلَه رَهْطٌ يَبكِي بعضُهم، فجلَسْتُ معهم قليلًا، ثم غلَبَني ما أجدُ، فجِئْتُ المَشرُبةَ التي هو فيها، فقلتُ لغلامٍ له أسوَدَ: استأذِنْ لِعُمَرَ، فدخَلَ، فكلَّمَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم، ثم خرَجَ، فقال: ذكَرْتُك له فصمَتَ، فانصرَفْتُ حتى جلَسْتُ مع الرَّهْطِ الذين عند المِنبَرِ، ثمَّ غلَبَني ما أجدُ، فجِئْتُ، فذكَرَ مِثْلَه، فجلَسْتُ مع الرَّهْطِ الذين عند المِنبَرِ، ثمَّ غلَبَني ما أجدُ، فجِئْتُ الغلامَ، فقلتُ: استأذِنْ لِعُمَرَ، فذكَرَ مِثْلَه، فلمَّا ولَّيْتُ منصرِفًا، فإذا الغلامُ يَدْعوني، قال: أَذِنَ لك رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فدخَلْتُ عليه، فإذا هو مضطجِعٌ على رمالِ حصيرٍ ليس بَيْنه وبَيْنه فِراشٌ قد أثَّرَ الرِّمالُ بجَنْبِه، متَّكِئٌ على وسادةٍ مِن أَدَمٍ حَشْوُها لِيفٌ، فسلَّمْتُ عليه، ثم قلتُ وأنا قائمٌ: طلَّقْتَ نساءَك؟ فرفَعَ بصَرَه إليَّ، فقال: «لا»، ثم قلتُ وأنا قائمٌ أستأنِسُ: يا رسولَ اللهِ، لو رأَيْتَني وكنَّا مَعشَرَ قُرَيشٍ نَغلِبُ النِّساءَ، فلمَّا قَدِمْنا على قومٍ تَغلِبُهم نساؤُهم، فذكَرَه، فتبسَّمَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم، ثم قلتُ: لو رأَيْتَني، ودخَلْتُ على حَفْصةَ، فقلتُ: لا يغُرَّنَّكِ أنْ كانت جارتُكِ هي أوضأَ منكِ وأحَبَّ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم - يريدُ عائشةَ -، فتبسَّمَ أخرى، فجلَسْتُ حينَ رأَيْتُه تبسَّمَ، ثم رفَعْتُ بصَري في بيتِه، فواللهِ ما رأَيْتُ فيه شيئًا يرُدُّ البصَرَ غيرَ أَهَبَةٍ ثلاثةٍ، فقلتُ: ادعُ اللهَ فَلْيُوسِّعْ على أُمَّتِك؛ فإنَّ فارسَ والرُّومَ وُسِّعَ عليهم، وأُعطُوا الدُّنيا وهم لا يعبُدون اللهَ، وكان متَّكِئًا، فقال: «أوَفِي شكٍّ أنتَ يا بنَ الخطَّابِ؟! أولئك قومٌ عُجِّلتْ لهم طيِّباتُهم في الحياةِ الدنيا»، فقلتُ: يا رسولَ اللهِ، استغفِرْ لي، فاعتزَلَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم مِن أجلِ ذلك الحديثِ حينَ أفشَتْهُ حَفْصةُ إلى عائشةَ، وكان قد قال: «ما أنا بداخلٍ عليهنَّ شهرًا»؛ مِن شِدَّةِ مَوْجِدتِه عليهنَّ حينَ عاتَبَه اللهُ، فلمَّا مضَتْ تِسْعٌ وعشرون، دخَلَ على عائشةَ، فبدَأَ بها، فقالت له عائشةُ: إنَّك أقسَمْتَ ألَّا تدخُلَ علينا شهرًا، وإنَّا أصبَحْنا لِتِسْعٍ وعِشْرينَ ليلةً أعُدُّها عدًّا؟! فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «الشَّهْرُ تِسْعٌ وعِشْرون»، وكان ذلك الشَّهْرُ تِسْعًا وعِشْرينَ، قالت عائشةُ: فأُنزِلتْ آيةُ التَّخييرِ، فبدَأَ بي أوَّلَ امرأةٍ، فقال: «إنِّي ذاكرٌ لكِ أمرًا، ولا عليكِ ألَّا تَعجَلي حتى تَستأمري أبوَيكِ»، قالت: قد أعلَمُ أنَّ أبوَيَّ لم يكُونا يأمُرانِي بفِراقك، ثم قال: «إنَّ اللهَ قال: {يَٰٓأَيُّهَا اْلنَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَٰجِكَ} [الأحزاب: 28] إلى قولِه: {عَظِيمٗا} [الأحزاب: 29]»، قلتُ: أفي هذا أستأمِرُ أبوَيَّ؟! فإنِّي أريدُ اللهَ ورسولَه والدارَ الآخرةَ، ثم خيَّرَ نساءَه، فقُلْنَ مِثْلَ ما قالت عائشةُ». أخرجه البخاري (٢٤٦٨).

* قوله تعالى: {إِنَّ اْلْمُسْلِمِينَ وَاْلْمُسْلِمَٰتِ وَاْلْمُؤْمِنِينَ وَاْلْمُؤْمِنَٰتِ وَاْلْقَٰنِتِينَ وَاْلْقَٰنِتَٰتِ وَاْلصَّٰدِقِينَ وَاْلصَّٰدِقَٰتِ وَاْلصَّٰبِرِينَ وَاْلصَّٰبِرَٰتِ وَاْلْخَٰشِعِينَ وَاْلْخَٰشِعَٰتِ وَاْلْمُتَصَدِّقِينَ وَاْلْمُتَصَدِّقَٰتِ وَاْلصَّٰٓئِمِينَ وَاْلصَّٰٓئِمَٰتِ وَاْلْحَٰفِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَاْلْحَٰفِظَٰتِ وَاْلذَّٰكِرِينَ اْللَّهَ كَثِيرٗا وَاْلذَّٰكِرَٰتِ أَعَدَّ اْللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةٗ وَأَجْرًا عَظِيمٗا} [الأحزاب: 35]:

عن أُمِّ عطيَّةَ نُسَيبةَ بنتِ كعبٍ رضي الله عنها: أنَّها أتت النبيَّ ﷺ، فقالت: «ما أرى كلَّ شيءٍ إلا للرِّجالِ، وما أرى النِّساءَ يُذكَرْنَ بشيءٍ»؛ فنزَلتْ هذه الآيةُ: {إِنَّ اْلْمُسْلِمِينَ وَاْلْمُسْلِمَٰتِ وَاْلْمُؤْمِنِينَ وَاْلْمُؤْمِنَٰتِ} [الأحزاب: 35] الآيةَ. أخرجه الترمذي (٣٢١١).

* قوله تعالى: {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اْللَّهُ مُبْدِيهِ} [الأحزاب: 37]:

عن أنسِ بن مالكٍ رضي الله عنه، قال: «جاء زيدُ بنُ حارثةَ يشكو زَيْنَبَ إلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «أمسِكْ عليك أهلَك»؛ فنزَلتْ: {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اْللَّهُ مُبْدِيهِ} [الأحزاب: 37]». أخرجه ابن حبان (٧٠٤٥).

* قوله تعالى: {فَلَمَّا قَضَىٰ زَيْدٞ مِّنْهَا وَطَرٗا زَوَّجْنَٰكَهَا} [الأحزاب: 37]:

عن أنسِ بن مالكٍ رضي الله عنه، قال: «لمَّا نزَلتْ هذه الآيةُ في زَيْنَبَ بنتِ جحشٍ {فَلَمَّا قَضَىٰ زَيْدٞ مِّنْهَا وَطَرٗا زَوَّجْنَٰكَهَا} [الأحزاب: 37]، قال: فكانت تَفخَرُ على أزواجِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ تقولُ: زوَّجَكنَّ أهلُكنَّ، وزوَّجَني اللهُ مِن فوقِ سَبْعِ سمواتٍ». أخرجه الترمذي (3213).

* قوله تعالى: {تُرْجِي مَن تَشَآءُ مِنْهُنَّ وَتُـْٔوِيٓ إِلَيْكَ مَن تَشَآءُۖ وَمَنِ اْبْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَۚ} [الأحزاب: 51]:

عن عائشةَ أمِّ المؤمنين رضي الله عنها، قالت: «كنتُ أغارُ على اللاتي وهَبْنَ أنفُسَهنَّ لرسولِ اللهِ ﷺ، وأقولُ: تَهَبُ المرأةُ نفسَها؟ فلمَّا أنزَلَ اللهُ: {تُرْجِي مَن تَشَآءُ مِنْهُنَّ وَتُـْٔوِيٓ إِلَيْكَ مَن تَشَآءُۖ وَمَنِ اْبْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَۚ} [الأحزاب: 51]، قالت: قلتُ: واللهِ، ما أرى رَبَّك إلا يُسارِعُ في هواك». أخرجه البخاري (٤٧٨٨).

* قوله تعالى: {يَٰٓأَيُّهَا اْلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَدْخُلُواْ بُيُوتَ اْلنَّبِيِّ إِلَّآ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَىٰ طَعَامٍ غَيْرَ نَٰظِرِينَ إِنَىٰهُ وَلَٰكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَاْدْخُلُواْ فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَاْنتَشِرُواْ وَلَا مُسْتَـْٔنِسِينَ لِحَدِيثٍۚ إِنَّ ذَٰلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي اْلنَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِۦ مِنكُمْۖ وَاْللَّهُ لَا يَسْتَحْيِۦ مِنَ اْلْحَقِّۚ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَٰعٗا فَسْـَٔلُوهُنَّ مِن وَرَآءِ حِجَابٖۚ ذَٰلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّۚ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤْذُواْ رَسُولَ اْللَّهِ وَلَآ أَن تَنكِحُوٓاْ أَزْوَٰجَهُۥ مِنۢ بَعْدِهِۦٓ أَبَدًاۚ إِنَّ ذَٰلِكُمْ كَانَ عِندَ اْللَّهِ عَظِيمًا} [الأحزاب: 53]:

عن أنسِ بن مالكٍ رضي الله عنه، قال: «لمَّا تزوَّجَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم زَيْنَبَ بنتَ جَحْشٍ، دعَا القومَ، فطَعِموا ثمَّ جلَسوا يَتحدَّثون، وإذا هو كأنَّه يَتهيَّأُ للقيامِ، فلَمْ يقُوموا، فلمَّا رأى ذلك قامَ، فلمَّا قامَ قامَ مَن قامَ، وقعَدَ ثلاثةُ نفَرٍ، فجاءَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم لِيدخُلَ فإذا القومُ جلوسٌ، ثمَّ إنَّهم قاموا، فانطلَقْتُ فجِئْتُ فأخبَرْتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أنَّهم قد انطلَقوا، فجاءَ حتى دخَلَ، فذهَبْتُ أدخُلُ، فألقى الحِجابَ بَيْني وبَيْنه؛ فأنزَلَ اللهُ: {يَٰٓأَيُّهَا اْلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَدْخُلُواْ بُيُوتَ اْلنَّبِيِّ} [الأحزاب: 53] الآيةَ». أخرجه البخاري (٤٧٩١).

* سورةُ (الأحزاب):

سُمِّيت سورةُ (الأحزاب) بذلك؛ لأنَّ فيها ذِكْرَ أحزابِ المشركين مِن قُرَيشٍ وغطَفانَ وبعضِ العرب، الذين تَحزَّبوا واجتمعوا لغَزْوِ المسلمين بالمدينة، فردَّ اللهُ كيدهم في غزوة (الأحزاب) المعروفة.

اشتمَلتْ سورةُ (الأحزاب) على الموضوعات الآتية:

1. أمرُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم بتقوى الله، والتوكل عليه (١-٣).

2. تصحيح مفاهيمَ اجتماعية خاطئة (٤-٥).

3. وَلاية النبيِّ صلى الله عليه وسلم العامة، وأخذُ اللهِ الميثاقَ من النبيِّين عليهم السلام (٦-٨).

4. قصة غزوة (الأحزاب) (٩-٢٠).

5. الرسول صلى الله عليه وسلم هو الأُسوة الحسنة، وأصحابه نجومٌ يُهتدى بها (٢١-٢٤).

6. نتيجة المعركة، وغدر اليهود (٢٥-٢٧).

7. النبي مُحمَّد صلى الله عليه وسلم (٢٨-٥٩) .

8. مع زوجاته رضوان الله عليهم (٢٨-٣٤) .

9. المساواة بين الرجال والنساء في التكليف والجزاء (٣٥).

10. قصته صلى الله عليه وسلم مع زينبَ رضي الله عنها (٣٦-٣٩).

11. خاتمُ النبيِّين وبعض صفاته (٤٠-٤٨) .

12. خصائصه في أحكام الزواج (٤٩-٥٢).

13. آداب دخول بيته، والأمر بالحِجاب (٥٣-٥٥).

14. مكانتُه، وحرمة إيذائه (٥٦- ٥٨).

15. حِجاب زوجاته والمرأة المسلمة (٥٩).

16. جزاء المنافقين والكفار (٦٠-٦٨).

17. توجيهاتٌ وعِظات للمؤمنين (٦٩-٧١).

18. عظمة تكليف الإنسان، وحملُه الأمانة (٧٢-٧٣).

ينظر: "التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (6 /68).

حثَّتْ سورةُ (الأحزاب) على حُسْنِ الظنِّ بالله، والتوكُّلِ عليه؛ فالله هو صاحبُ الحِكْمة والقوَّة والقُدْرة، وهو المتصرِّفُ في الكون، يَعلَم ما يصلحُ للخلائق، ويُدبِّر لهم أحسَنَ تدبير؛ فيُعلِي شأنَ من يشاء، ويَخفِض شأنَ من يشاء.

وتسميتُها بـ(الأحزاب) أوضحُ دليلٍ على ذلك؛ بتأمُّل القصة التي أشارت إليها، ودلَّتْ عليها.

ينظر: "مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور" للبقاعي (2 /370).