ﰡ
مكية. وهى مائة وتسع آيات. ومناسبتها لما قبلها: قوله تعالى: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ»
مع قوله: أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ، فقد تعجبوا منه مع كونهم يعرفون أمانته وصدقه.
[سورة يونس (١٠) : الآيات ١ الى ٢]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (١) أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ (٢)قلت: (عجباً) خبر كان، واسمها: (أن أوحينا)، ومن قرأ بالرفع فالأمر بالعكس، أو كان تامة، واللام متعلقة بعجباً، وهو مصدر للدلالة على أنهم جعلوه أعجوبة لهم، يتوجهون نحوه بإنكارهم واستهزائهم.
قال في المغني: المصدر الذي ليس في تقدير حرف الموصول وصلته لا يمنع التقديم عليه، على أن السعد قال في المطوّل: إن معمول المصدر إذا كان ظرفاً أو شبهة، الأظهر أنه جائز التقديم، قال تعالى: فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ «٢»، وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ «٣» ومثل هذا كثير في الكلام، وليس كل ما أول بشيء حكمُه حكم ما أول به، مع أن الظرف مما يكيفه رائحة الفعل لأن له شأناً ليس لغيره لتنزله من الشيء منزلة نفسه لوقوعه فيه وعدم انفكاكه عنه، ولهذا اتسع في الظروف ما لم يتَسع في غيرها. هـ.
يقول الحق جلّ جلاله: أيها الرسول المجتبى المختار تِلْكَ الآيات التي تنزل عليك هي آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ، الذي اشتمل على الحكم الباهرة والعبر الظاهرة، أو المحكم الذي لم ينسخ منه شيء بكتاب آخر بعده، أو كلام حكيم. أَكانَ لِلنَّاسِ أي: كفار قريش وغيرهم عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ ولم يكن من عظمائهم؟ والاستفهام للإنكار، والرد على من استبعد النبوة، أو تعجب من أن يبعث الله رجلاً من وسط الناس.
(٢) من الآية ١٠٢ من سورة الصافات. [.....]
(٣) من الآية ٢ من سورة النور.
هذا.. وأنه- عليه الصلاة والسلام- لم يكن يقْصر عن عظمائهم فيما يعتبرونه، إلا في المال، وخفةُ الحال أعون شيء في هذا الباب، ولذلك كان أكثر الأنبياء قبله كذلك- أي: خفافاً من المال- وقيل: تعجبوا من أنه بعث بشراً رسولاً، كما سبق في سورة الأنعام. قاله البيضاوي.
ثم فسَّر الوحي المذكور فقال: أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ أي: أوحينا إليه بأن أنذر الناس أي: خوفهم من غضب ربهم، وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا، عمم الإنذار، إذ ليس من أحد إلا وفيه ما ينبغي أن ينذر منه، وخصص البشارة إذ ليس للكفار ما يصح أن يبشروا به، قاله البيضاوي.
أي: بشر المؤمنين بأنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ أي: سابقة ومنزلة رفيعة، سميت قدَماً لأن السبق يكون بها، كما سميت النعمة يداً لأنها تُعْطى باليد، وأضيفت إلى الصدق لتحققها وللتنبيه على أنهم إنما ينالونها بصدق القول والنية. قال ابن جزي: أي: عمل صالح قدموه، وقال ابن عباس: السعادة السابقة لهم في اللوح المحفوظ. هـ وقال ابن عطية: والصدق في هذه الآية بمعنى الصلاح، كما تقول: رجل صدقٍ ورجل سوْءٍ. هـ.
قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هذا الكتاب، أو ما جاء به الرسول، لَسِحْرٌ «١» مُبِينٌ أي: بيَّن ظاهر، وقرأ ابن كثير والكوفيون: لَساحِرٌ، على أن الإشارة إلى الرسول، وفيه اعتراف بأنهم صادفوا من الرسول أموراً خارقة للعادة، معجزة لهم عن المعارضة، وكلامهم هذا يحتمل أن يكون تفسيراً لما ذكره قبلُ من تعجبهم، أو يكون مستأنفاً.
الإشارة: تعجبُ الناس من أهل الخصوصية سُنة ماضية، فكما خفي عن أعين الكفار سر النبوة، خفي عن أعين الخفافيش سر الخصوصية، فلا يطلعَ عليها إلاّ مَن سبق له قدم صدق عند ربه، فسبحان مَن ستر سر الخصوصية بظهور وصف البشرية فلم يدل عليها إلا مَن أراد أن يوصله إلى مشاهدة عظمة الربوبية.
قال في لطائف المنن: فأولياء الله أهل كهف الإيواء، فقليل من يعرفهم، وسمعت الشيخ أبا العباس رضى الله عنه يقول: معرفة الولي أصعب من معرفة الله، فإنَّ الله تعالى معروف بكماله وجماله، ومتى تعرف مخلوقاً مثلك يأكل كما تأكل، ويشرب كما تشرب؟، وإذا أراد الله أن يعرفك بولي من أوليائه طوى عنك وجود بشريته، وأشهدك وجود خصوصيته. هـ.
[سورة يونس (١٠) : الآيات ٣ الى ٤]
إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ما مِنْ شَفِيعٍ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٣) إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (٤)
يقول الحق جلّ جلاله: إِنَّ رَبَّكُمُ الذي يستحق العبادة وحده هو اللَّهُ الذي أظهر الكائنات من العدم إلى الوجود، وبه رد على من أنكر النبوة، كأنه يقول: إنما أدعوكم إلى عبادة الله الذي خلق الأشياء، فكيف تنكرون ذلك وهو الحق المبين؟ ثم فصَّل ذلك فقال: الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ التي هي أصول الكائنات، فِي مقدار سِتَّةِ أَيَّامٍ من أيام الدنيا، ولم يكن حينئذٍ ليل ولا نهار، والجمهور: أن ابتداء الخلق يوم الأحد. وفي حديث مسلم: يوم السبت، وأنه خلق الأرض، ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سموات، ثم دحا الأرض بعد ذلك. ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ استواء يليق به، كاستواء الملك على سريره ليدبر أمر مملكته، ولذلك رتب عليه: يُدَبِّرُ الْأَمْرَ، وقد تقدّم الكلام عليه في الأعراف «١».
قال البيضاوي: يُدبر أمر الكائنات على ما تقتضيه حكمته، وسبقت به كلمته، بتحريك أفلاكها، وتهيىء أسبابها، والتدبير: النظر في عواقب الأمور لتجيء محمودة العاقبة. هـ.
ما مِنْ شَفِيعٍ تُقبل شفاعته إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ له في الشفاعة، وهو تقرير لعظمته وعزة جلاله، ورد على من يزعم أن آلهتهم تشفع لهم عند الله، وفيه إثبات الشفاعة لمن أذن له، كالأنبياء والأولياء والعلماء الأتقياء. ذلِكُمُ اللَّهُ أي: الموصوف بتلك الصفات المقتضية للألوهية والربوبية هو اللَّهُ رَبُّكُمْ لا غير إذ لا يشاركه أحد في شيء من ذلك، فَاعْبُدُوهُ: أفردوه بالعبادة أَفَلا تَذَكَّرُونَ أي:
تتفكرون أدنى تفكر، فتعرفون أنه المستحق للربوبية والعبادة، لا ما تعبدونه من الأصنام.
إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ بالبعث جَمِيعاً فيجازيكم على أعمالكم، ويعاقبكم على شرككم، وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا:
مصدر مؤكد لنفسه لأن قوله: إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ وعدٌ من الله. إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ بإظهاره في الدنيا ثُمَّ يُعِيدُهُ بعد إهلاكه في الآخرة. لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ، تعليل للعودة وهى البعثة،
والآية كالدليل لقوله: إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً، فإنَّه لمَّا كان المقصود من الإبداء والإعادة مجازاة الله المكلفين على أعمالهم، كان مرجع الجميع إليه لا محالة، ويؤيده قراءة مَن قرأ: «أنه يبدأ» بالفتح، أي: لأنه، ويجوز أن يكون منصوباً بما نصب «وعد الله». قاله البيضاوي.
الإشارة: تقدم بعض إشارة هذه الآية في الأعراف، وقال الورتجبي هنا: جعل العرش مرآت تجلي قدسه ومأوى أرواح أحبابه لقوله: ثُمَّ اسْتَوى... الآية، ثم قال: ثم دعاهم إلى عبادته بعد معرفته بقوله: فَاعْبُدُوهُ. وقال القشيري: ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ تعريف، وقوله: فَاعْبُدُوهُ تكليف، فحصولُ التعريف بتحقيقه، والوصولُ إلى ما وَرَدَ به التكليف بتوفيقه. هـ. وقال في قوله: إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً: الرجوع يقتضي ابتداء، والأرواح قبل حصولها في الأشباح كان لها في مواطن التسبيح والتقديس إقامة، والغائب إذا رجع إلى وطنه من سفره فلقدومه أثر عند مُحبيِّه وذويه، وأنشدوا:
أَيا قَادماً من سَفرةِ الهَجرِ مَرْحَباً | أَنَا ذاك لا أَنساكَ مَا هَبَّت الصَّبا. هـ. |
ثم ذكر حكمة إيجاد النيرين، فقال:
[سورة يونس (١٠) : الآيات ٥ الى ٨]
هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ ما خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٥) إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (٦) إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَاطْمَأَنُّوا بِها وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ (٧) أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٨)
قلت: «ضياء» : مفعول ثان، أي: ذات ضياء، وهو مصدر كقيام، أو جمع ضوء كسياط، والياء منقلبة عن الواو، وفي رواية عن ابن كثير بهمزتين في كل القرآن على القلب، بتقديم اللام على العين، والضمير في «قدره» للشمس والقمر، كقوله: وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ «١»، أو للقمر فقط.
يقول الحق جلّ جلاله: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً أي: ذات ضوء وإشراق أصلي، وَالْقَمَرَ نُوراً أي: ذا نور عارض، مقتبس من نور الشمس عند مقابلته إياها، ولذلك يزيد نوره وينقص، فقد نبه سبحانه بذلك على أنه خلق الشمس نيرة في ذاتها، والقمر نوراً بعرض مقابلة الشمس والاكتساب منها، فالنور أعم من الضياء، والضياء أعظم من النور. وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ أي: قدر سير كل واحد منهما منازل، أو القمر فقط، وخصصه بالذكر لسرعة سيره، ومعاينة منازله، وإناطة أحكام الشرع به. ولذلك علله بقوله: لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ أي: حساب الأوقات من الأشهر والأيام والليالي في معاملتكم وتصرفاتكم:
ما خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ الذي تقدم من أنواع المخلوقات إِلَّا بِالْحَقِّ أي: ملتبسًا بالحق، مراعياً فيه مقتضى الحكمة البالغة، لا عبثاً عارياً عن الحكمة، أو ما خلق ذلك إلا ليعرف فيها، فما نُصبت الكائنات لتراها، بل لترى
وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ «١». هـ. وهو بعيد هنا.
يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ «٢» فإنهم المنتفعون بالنظر فيها والاعتبار بها.
ثم بيَّن وجه الاعتبار فقال: إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أي: تعاقبهما بالذهاب والمجيء، أو بالزيادة والنقصان، وَما خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مِن أنواع الكائنات وضروب المخلوقات، لَآياتٍ دالة على وجود الصانع ووحدته، وكمال علمه وقدرته، لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ الله، ويخشون العواقب، فإن ذلك يحملهم على التفكر والتدبر، بخلاف المنهمكين في الغفلة والمعاصي، الذين أشار إليهم بقوله:
إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا أي: لا يتوقعونه، أو: لا يخافون بأسه لإنكارهم البعث، وذهولهم بالمحسوسات عما وراءها، وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا: قنعوا بها بدلاً من الآخرة لغفلتهم عنها، وَاطْمَأَنُّوا بِها أي: سكنوا إليها مقْصرين هممهم على لذائذها وزخارفها، وسكنوا فيها سكون من يظن أنه لا ينزعج عنها.
وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا المتقدمة الدالة على كمال قدرتنا، غافِلُونَ: لا يتفكرون فيها ولا يعتبرون لانهماكهم في الغفلة والذنوب.
قال البيضاوي: والعطف إما لتغاير الوصفين، والتنبيه على أن الوعيد على الجمع بين الذهول عن الآيات رأساً، والانهماك في الشهوات، بحيث لا تخطر الآخرة ببالهم أصلاً، وإما لتغاير الفريقين، والمراد بالأولين: من أنكر البعث ولم يُرد إلا الحياة الدنيا، وبالآخرين من ألهاه حبُ العاجل عن التأمل في الآجل والإعداد له. هـ.
أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ أي: بما واظبوا عليه وتمرنوا به من المعاصي. قال ابن عطية:
وفي هذه اللفظة رد على الجبرية، ونص على تعلق العقاب بالتكسب. هـ.
الإشارة: هو الذي جعل شمس العِيَان مشرقة في قلوب أهل العرفان، لا غروب لها مدى الأزمان، وجعل قمر توحيد الدليل والبرهان نوراً يهتدي به إلى طريق الوصول إلى العيان، وقدَّر السير به منازل- وهي مقامات اليقين ومنازل السائرين- ينزلون فيها مقاماً إلى صريح المعرفة، وهي التوبة والخوف، والرجاء والورع، والزهد والصبر، والشكر والرضى والتسليم والمحبة، والمراقبة والمشاهدة. ما خلق الله ذلك إلا بالحق، ليتوصل به إلى الحق. إن في اختلاف ليل القبض ونهار البسط على قلب المريد لآيات دالة له على السير، لقوم يتّقون السوى، أو شواغل الحس.
(٢) قرأ ابن كثير وأبو عمرو وحفص ويعقوب بياء الغيب (يفصل). والباقون بنون العظمة (نفصل) انظر الإتحاف (٢/ ١٠٤).
وبالله التوفيق.
ثم ذكر أضدادهم، فقال:
[سورة يونس (١٠) : الآيات ٩ الى ١٠]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٩) دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٠)
قلت: (تجري) : جملة استئنافية، أو خبر ثان لإنَّ، أو حال من الضمير المنصوب في يَهْدِيهِمْ. و (دعواهم) :
مبتدأ، و (سبحانك) : مقول للخبر- أي: قولهم سبحانك. والتحية مأخوذة من تمني الحياة والدعاء بها، يقال: حياة تحية، ويقال للوجه: مُحيا لوقوع التحية عند رؤيته، و (آخر) : مبتدأ، و (أن الحمد لله) : خبر، وأن مخففة.
يقول الحق جلّ جلاله: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ أي: يسددهم بِإِيمانِهِمْ بسبب إيمانهم إلى الاستقامة والنظر، أوْ إلى سلوك سبيل يؤدي إلى الجنة، أوْ إلى إدراك الحقائق العرفانية، كما قال- عليه الصلاة والسلام-: «من عَمِلَ بِمَا عَلِمَ أَوْرَثَهُ اللهُ علمَ مَا لَمْ يَعْلَمْ»، أو لِمَا يشتهونه في الجنة، تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ الأربعة، فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ، دَعْواهُمْ فِيها أي: دعاؤهم فيها: سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ أي: اللهم إنا نسبحك تسْبيحاً. ورُوي: أن هذه الكلمة هي ثمر أهل الجنة، فإذا اشتهى احدهم شيئاً قال: سبحانك اللهم، فينزل بين يديه. رواه ابن جريج وسفيان بن عيينة.
وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ أي: ما يحيي به بعضهم بعضاً، أو تحيّة الملائكة إياهم، أو تسليم الله تعالى عليهم فيها سلام، وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ أي: وخاتمة دعائهم في كل موطن حمده تعالى وشكره. والمعنى: أنهم إذا دخلوا الجنة وعاينوا عظمته وكبرياءه مجَّدوه ونعتوه بنعوت الجلال، وقدَّسُوه عند مشاهدته عن كل تماثيل وخيال، فحيَّاهم بسلام من عنده، وعند ما منحهم سلامه واحلَّ عليهم رضوانه، وأدام لهم كرامته وجواره، وأراهم وجهه، حمدوه بما حمد به نفسه، فكانت بدايتهم بالتنزيه والتعظيم، وخاتمة دعائهم في كل موطن حمده وشكره على ما مكنهم فيه، من رؤية وجهه الكريم، ودوام النعيم المقيم، وسمي دعاء لأنه يستدعي المزيد من فضله. قاله المحشي.
ولمّا تعجب الكفار من بعث الرسول منهم، وكفروا به، استعجلوا ما خوفهم به من العذاب، فأنزل الله جوابا لهم:
[سورة يونس (١٠) : آية ١١]
وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١١)
قلت: (استعجالهم) : نصب على المصدر، أي: استعجالاً مثل استعجالهم بالخير. قال البيضاوي: وضع موضع تعجيله لهم بالخير إشعاراً بسرعة إجابته لهم في الخير، حتى كأن استعجالهم به تعجيل لهم. هـ. (فَنَذَرَ) :
عطف على فعل محذوف دلت عليه الشرطية، كأنه قيل: ولكن لا نعجل ولا نقضي بل نمهلهم فنذر.. الخ.
يقول الحق جلّ جلاله: وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ حيث يطلبونه، كقولهم: فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ «١»، ائْتِنا بِما تَعِدُنا «٢» اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ كما يعجل الله لهم الخير حين يسألونه لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ أي: لأميتوا وأهلكوا من ساعتهم، وقرأ ابن عباس ويعقوب: «لَقَضى» بالبناء للفاعل، أي: لقضى الله إليهم أجلهم، ولكن من حلمه تعالى وكرمه يُمهلهم إلى تمام أجلهم، فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا استدراجاً وإمهالاً فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ: يتحيرون. والعمه: الخبط في الضلال، وهذا التفسير أليق بمناسبة الكلام. وقيل: نزلت في دعاء الإنسان على نفسه وماله وولده بالشر، أي: لو عجل اللهُ للناس الشر كما يحبون تعجيل الخير لهلكوا سريعاً، فهو كقوله وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ «٣» ويكون قوله:
فَنَذَرُ.... الخ استئنافاً. والله تعالى أعلم.
الإشارة: من حلمه تعالى وسعة جوده أنه لا يعامل عبده بما يستحقه من العقاب، ولا يعاجله بما يطلبه إن لم يكن فيه سداد وصواب، حُكي أن رجلاً قال لبعض الأنبياء- عليهم السلام-: قل لربي: كم أعصيه وأخالفه ولم يعاقبني، فأوحى الله إلى ذلك النبي: ليعلم أني أنا وأنت أنت. هـ. بل من عظيم كرمه تعالى أنه قد يعامل
(٢) من الآية ٧٧ من سورة الإسراء.
(٣) من الآية ١١ من سورة الإسراء.
وإذا كان الحق تعالى يعجل الخير ويمهل الشر، كان الواجب على العبد شكره على الدوام، لا الإعراض عنه ونسيانه، كما نبه عليه تعالى بقوله:
[سورة يونس (١٠) : آية ١٢]
وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٢)
قلت: (لجنبه) : متعلق بحال محذوفة، أي: مضطجعاً لجنبه، و (كأن) مخففة يقول الحق جلّ جلاله: وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ في بدنه أو ماله أو أحبابه، دَعانا لإزالته مخلصاً فيه، وتضرع إلينا حال كونه مضطجعاً لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً، وفائدة الترديد تقسيم الدعاء لجميع الأحوال أو لأصناف المضار، فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ أي: مضى على طريقه واستمر على كفره، ولم يشكر الله على دفعه، أو مرَّ عن موقف الدعاء، ولم يرجع إليه. كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا أي: كأنه لم يدعنا إِلى كشف ضُرٍّ مَسَّهُ قط نَسِيَ مَا كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ «١» كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ أي: مثل هذا التزيين زين للمسرفين ما كانُوا يَعْمَلُونَ من الانهماك في الشهوات، والإعراض عن شكر المنعم عند المسرات وذهاب العاهات.
وفي الآية تهديد لمن تشبه بهذه الحالة، بل الواجب على العبد دوام التجائه إلى ربه، والشكر له عند ظهور إجابته وإسدال عافيته.
الإشارة: من حسن الأدب السكون تحت مجاري الأقدار، والتسليم لأحكام الواحد القهار، «فليس الشأن أن تُرزق الطلب، إنما الشأن أن تزرق حسن الأدب»، وحسن الأدب: هو الفهم عن الله فإذا شرح صدرك للدعاء، فادع ولا تكثر، فإن المدعو قريب، ليس بغافل فيُنبه، ولا ببعيد فتنادي عليه، فإذا دعوته وأجابك فاشكره، وإن أخَّر عنك
ثم هدد من أساء الأدب، فقال:
[سورة يونس (١٠) : الآيات ١٣ الى ١٤]
وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (١٣) ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (١٤)
يقول الحق جلّ جلاله: وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ يا أهل مكة، لَمَّا ظَلَمُوا بالكفر وتكذيب الرسل، وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ: بالمعجزات الواضحات، الدالة على صدقهم، وَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا أي: ما استقام لهم أن يُؤمنوا، لمَا سبق لهم من الشقاء ولفساد استعدادهم، أو ما كانوا ليؤمنوا بعد أن هلكوا لفوات محله، كَذلِكَ أي: مثل ذلك الجزاء- وهو إهلاكهم بسبب تكذيبهم الرسل وإصرارهم عليه، بحيث تحقق أنه لا فائدة في إمهالهم- نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ أي: نجزي كل مجرم، أو نجزيهم، ووضع المظهر موضع المضمر للدلالة على كمال جرمهم، وأنهم أعلام فيه. قاله البيضاوي.
ثُمَّ جَعَلْناكُمْ يا أمة محمد خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ من بعد إهلاكهم، فقد استخلفناكم فيها بعد القرون التي أهلكناها، استخلاف من يختَبرُ لِنَنْظُرَ أي: لنظهر ما سبق به العلم، فيتبين في الوجود، كَيْفَ تَعْمَلُونَ، أخيراً أم شراً؟ فنعاملكم على مقتضى أعمالكم.
وكان سيدنا عمر بن الخطاب رضى الله عنه يقول: «إنما جعلنا خلفاً لينظر كيف عملنا، فأروا الله حسن أعمالكم في السر والعلانية، وكان أيضاً يقول: (قد استخلفتَ يا ابن الخطاب، فانظر كيف تعمل).
الإشارة: ما هلك من هلك إلا لإخلاله بالشرائع أو بالحقائق، فالشرائع، صيانة للأشباح، والحقائق صيانة للأرواح، فمن قام بالشرائع كما ينبغي صان نفسه من الآفات الدنيوية والأخروية، ومن قام بالحقائق على ما ينبغي، صان روحَه من الجهل بالله في هذه الدار، وفي تلك الدار، ومن قام بهما معاً صان جسمه وروحه، وكان من المقربين، ومن قام بالشرائع دون الحقائق صان جسمه وترك روحه معذَّبةً في هذه الدار بالخواطر والوساوس والأوهام، وفي تلك الدار بالبعد والمقام مع العوام. ومن قام بالحقائق دون الشرائع فإن كان دعوى عُذب جسمه وروحه لزندقته، وإن كان حقاً عذب جسمه هنا بالقتل، كما فُعل بالحلاج، والتحق بالمقربين في تلك الدار.
ثم ذكر حال أهل الإنكار، فقال:
[سورة يونس (١٠) : الآيات ١٥ الى ١٦]
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٥) قُلْ لَوْ شاءَ اللَّهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٦)
يقول الحق جلّ جلاله: وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ يعني كفار قريش آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا من المشركين ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أي: بكتاب آخر ليس فيه ما نستبعده من البعث والحساب، والعقاب بعد الموت، أو ما ذكره من سب آلهتنا، وعيب ديننا، أو اجعل هذا الكلام الذي من قِبَلك على اختيارنا، فأحل ما حرمته، وحرم ما أحللته ليكون أمرنا واحداً وكلمتنا متصلة، أَوْ بَدِّلْهُ بأن تجعل مكان الآية المشتملة على ذلك آية أخرى.
قُلْ لهم يا محمد: ما يَكُونُ: ما يصح لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي: من قِبل نفسي، وإنما اكتفى بالجواب المذكور عن التبديل لاستلزام امتناعه امتناع الإتيان بقرآن آخر، قل لهم: أَنْ أي: ما أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ، لا أقدر أن أقول شيئاً من عندي. قال البيضاوي: هو تعليل لما يكون، فإن المتبع لغيره في أمر لم يستبد بالتصرف فيه بوجه، وجواب للنقض بنسخ بعض الآيات لبعض، ورد لما عَرّضوا له بهذا السؤال من أن القرآن كلامه واختراعُه، ولذلك قيد التبديل في الجواب وسماه عصياناً فقال: إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ يوم القيامة، وفيه إيماء بأنهم استوجبوا العذاب بهذا الاقتراح. هـ.
قُلْ لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أرسلني إليكم، ولا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ، وَلا أَدْراكُمْ أي: أعلمكم بِهِ على لساني. وفي قراءة ابن كثير: «ولأدراكم»، بلام التأكيد، أي: لو شاء الله ما تلوته عليكم ولأعلمكم به على لسان غيري.
فكل من له عقل سليم أدرك حقِّيته، ولذلك قرعهم بقوله: أَفَلا تَعْقِلُونَ أي: أفلا تستعملون عقولكم بالتدبر والتفكر، فتعلموا أنه ليس من طوْق البشر، بل هو من عند الحكيم العليم الواحد القهار.
الإشارة: إذا ظهر أهل التربية الداعون إلى الله بطريق صعبة على النفوس، يُسيرون الناس عليها، كخرق العوائد وتخريب الظواهر والتجريد، قال من لا يرجو الوصول إلى الله- لغلبة الهوى عليه: ائتونا بطريق غير هذا لنتبعكم عليه، يكون سهلاً على النفوس، موافقاً لعوائدنا، أو بدلوا هذا بطريق أسهل، وأما هذا الذي أتيتم به، فلا نقدر عليه، وربما رموه بالبدعة، فيقولون لهم: ما يكون لنا أن نبدله من تلقاء أنفسنا، إن نتبع إلا ما سلك عليه أشياخنا وأشياخهم، فما ربَّوْنا به نُربّي به من تبعنا، فإن خالفنا طريقهم خفنا من عقاب الله، حيث غششنا من اتبعنا، وقد مكثنا معكم قبل صحبة أشياخنا سنين، فلم تروا علينا شيئاً من ذلك حتى صحبناهم، فدل ذلك على أنه موروث عن أشياخهم وأشياخ أشياخهم، أفلا تعقلون؟.
ثم سجل بالظلم على من كذب أو كذّب، فقال:
[سورة يونس (١٠) : الآيات ١٧ الى ١٨]
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (١٧) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (١٨)
يقول الحق جلّ جلاله: فَمَنْ أَظْلَمُ لا أحد أظلم مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً بأن تقوَّل على الله ما لم يقل، وهذا بيان لبراءته مما اتهموه به من اختراعه القرآن، وإشارة إلى كذبهم على الله في نسبة الشركاء له
قال ابن جزي: هو رد عليهم في قولهم بشفاعة الأصنام، والمعنى: أن شفاعة الأصنام ليست بمعلومة لله الذي هو عالم بما فى السموات والأرض، وكل ما ليس بمعلوم له فهو عدم محض، ليس بشيء، فقوله: أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ تقرير لهم على وجه التوبيخ والتهكم، أي: كيف تعلمون الله بما لا يعلم. هـ. قال ابن عطية: وفي التوقيف على هذا أعظم غلبةٍ لهم، إذ لا يمكنهم إلا أن يقولوا: لا نفعل ولا نقدر أن نخبر الله بما لا يعلم.
ثم نزّه نفسه عن ذلك فقال: سُبْحانَهُ وَتَعالى أي: تنزيها له وتعاظم عَمَّا يُشْرِكُونَ أي: إشراكهم، أو عن الشركاء الذين يشركونهم معه. وقرأ الأخوان: بالتاء، أي: عما تشركون أيها الكفار.
الإشارة: في هذه الآية زجر كبير لأهل الدعوى، الذين ادعوا الخصوصية افتراء، ولأهل الإنكار الذين كذبوا من ثبتت خصوصيته، وتسجيل عليهم بالإجرام، وبعدم النجاح والفلاح، وفيها أيضاً: زجر لمن اعتمد على مخلوق في جلب نفع أو دفع ضر، أو اغتر بصحبة ولي يظن أنه يشفع له مع إصراره وعظيم أوزاره. والله تعالى أعلم.
ثم إن اختلاف الناس على الأنبياء وتكذيبهم وإشراكهم إنما هو أمر عارض، حصل لهم باندراس العلم وقلة الإنذار، كما قال تعالى:
[سورة يونس (١٠) : آية ١٩]
وَما كانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١٩)
يقول الحق جلّ جلاله: وَما كانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً واحِدَةً موحَّدين، على الفطرة الأصلية، أو متفقين على الحق، وذلك في عهد آدم، إلى أن قَتَل قابيلُ أخاه هابيل، أو بعد الطوفان إلى زمان اختلافهم، أو الأرواح
الإشارة: اختلاف الناس على الأولياء كاختلافهم على الأنبياء، أمر سبق به الحكم الأزلي لا محيد عنه، فمن طلب اتفاقهم عليه فهو جاهل بالله وبطريق أهل الله. والله تعالى أعلم.
ثم ذكر اقتراحهم الآيات، فقال:
[سورة يونس (١٠) : آية ٢٠]
وَيَقُولُونَ لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (٢٠)
يقول الحق جلّ جلاله: وَيَقُولُونَ يقول الكفار: لَوْلا هلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ ظاهرة مِنْ رَبِّهِ تدل على صدقه، يعاينُها الناس كلهم، فتلجئهم إلى الإيمان به، وهذا الأمر على هذا الوجه لم يكن لنبي قط، إنما كانت الآية تظهر معرّضة للنظر، فيهتدي بها قوم، ويكفر بها آخرون، فَقُلْ لهم: إِنَّمَا علم الْغَيْبُ لِلَّهِ مختص به، فلم أَطََّلع عليه حتى أعلم وقت نزولها، ولعله علم ما في نزولها من الضرر لكم فصرفها عنكم، فَانْتَظِرُوا نزول ما اقترحتموه، إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ لذلك، وهذا وعد قد صدقه الله بنصرته- عليه الصلاة السلام- وأخذهم ببدر وغيره، أو من المنتظرين لما يفعل الله بكم لعنادكم وجحودكم الآيات.
الإشارة: ما زالت العامة تطلب من مشايخ التربية الكرامات، فجوابهم ما قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلّم: (قل إنما الغيب لله) فانتظروا ما يظهر على أيديهم من الهداية والإرشاد، وإحياء البلاد والعباد بذكر الله، وهذا أعظم الكرامة، فإن إخراج الناس عن عوائدهم وعن دنياهم خارق للعادة، سيما في هذا الزمان الذي احتوت فيه الدنيا على القلوب، فلا ترى عالماً ولا صالحاً ولا منتسباً إلا وهو مغروق في بحر ظلماتها، فإنا لله وإنّا إليه راجعون.
ثم ذكر جزئيات من الآيات لمن فهم واعتبر، فقال:
[سورة يونس (١٠) : الآيات ٢١ الى ٢٣]
وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنا يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ (٢١) هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (٢٢) فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٣)
يقول الحق جلّ جلاله: وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً، كصحة وعافية وخصب مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ، كمرض أو قحط إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا بالطعن فيها، والاحتيال في دفعها، فقد قحط أهل مكة حتى أكلوا الجلود والميتة، ثم رحمهم بالغيث، فطعنوا في آياته بالتكذيب، وكادوا رسوله- عليه الصلاة والسلام- قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْراً منكم، فقد دبر عقابكم قبل أن تدبروا كيدكم، ووصف مكر الله بالسرعة وإن كان الاستدراج يمهلهم لأنه متيقن واقع لا محالة، وكل آت قريب.
إِنَّ رُسُلَنا الحفظة يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ فنجازيكم عليه. قال البيضاوي: هو تحقيق للانتقام، وتنبيه على أن ما يدبرون في إخفائه لم يَخفْ على الحفظة فضلاً أن يخفى على الله. وعن يعقوب: «يمكرون» بالياء ليوافق ما قبله. هـ. قال ابن جزي: هذه الآية للكفار، وتتضمن النهي لمن كان كذلك من غيرهم، والمكر هنا:
الطعن في آيات الله وترك شكره، ومكر الله الموصوف بالسرعة هو عقابه لهم، سماه مكراً مشاكلة لفعلهم، وتسمية للعقوبة باسم الذنب. هـ.
فنزول الرحمة بعد الشدة آية تدل على كمال قدرته. وقد وَرَدَ أنه لما نزل بهم القحط التجئوا إليه صلّى الله عليه وسلّم وقالوا:
يا محمد إنك جئت تأمر بمكارم الأخلاق، وإن قومك قد هلكوا، فادعُ الله يغيثنا، فدعا، فنزل عليهم الغيث، فكانت معجزة له- عليه الصلاة والسلام-.
ثم ذكر آية أخرى فقال: هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ بقدرته فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ:
السفن، وَجَرَيْنَ بِهِمْ بمن فيها، عدل عن الخطاب إلى الغيبة للمبالغة، كأنه تذكرة لغيرهم ليتعجب من حالهم، ففيه التفات. ومقتضى القياس: وجرين بكم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ: لينة الهبوب، وَفَرِحُوا بِها لسهوله السير بها، جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ أي: شديد الهبوب، وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ من كل جهة لهيجان البحر حينئذ، وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ أي: أهلكوا، أو سُدت عليهم مسالك الخلاص، كمن أحاط به العدو.
وعن عليّ- كرّم الله وجهه- أنه قال: لولا هذه الآية، لضربت عنق من يركب البحر. فقال ابن عباس: إني لأعلم كلمات من قالهُن عند ركوب البحر وأصابه عطب فعليّ ديته، قيل: وما هي؟ قال: اللهم يا من له السموات خاشعة، والأرضون السبع خاضعه، والجبال الراسية طائعة، أنت خير حفظاً وأنت أرحم الراحمين، وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ «١» صلى الله على محمد النبي المصطفى، وعلى أهل بيته، وأزواجه وذريته، وعلى جميع النبيين والمرسلين، والملائكة المقربين، وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ «٢». قال بعض الفضلاء:
جربته فصح. هـ.
ثم قال تعالى في وصف الكفار عند إحاطة البحر بهم: دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ من غير إشراك لتراجع الفطرة وزوال المعارض من شدة الخوف، قائلين: لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ الشدة لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ، فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إجابة لدعائهم إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بالكفر والمعاصي، بِغَيْرِ الْحَقِّ أي: سارعوا إلى ما كانوا عليه من البغي والفساد في الأرض بغير الحق، واحترز بقوله: بِغَيْرِ الْحَقِّ عن تخريب المسلمين ديار الكفرة، وإحراق زروعهم، وقلع أشجارهم، فإنها إفساد بحق. قاله البيضاوي. قلت: وفي كونه بغياً نظر، والأظهر أن قوله: بِغَيْرِ الْحَقِّ تأكيد لا مفهوم له.
يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ فإن وباله عائد عليكم، أو على أبناء جنسكم، وذلك مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا تتمتعون به ساعة، ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ في القيامة، فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ بالجزاء عليه.
الإشارة: وإذا أذقنا الناس حلاوة المعرفة والعلم، بعد ضرر الجهل والغفلة، إذا لهم مكر في آياتنا وهم الأولياء والمشايخ، الذين فتح الله بسببهم عليهم- بالطعن عليهم والانتقال عنهم، كما يفعله بعض المريدين، أو جُلُّ طلبة
(٢) الآية ٤١ من سورة هود.
ثم قال تعالى: هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ إليه في بر الشريعة، وبحر الحقيقة، فيقع السير بينهما، فإذا كانت الشريعة أقوى نقص له منها وزاد في حقيقته، وإذا قويت حقيقته نقص له منها إلى شريعته، هكذا حتى تعتدلا، فتكمل تربيته، فإذا ركبوا سفن الأفكار وساروا بأرواحهم في تيار البحار، فخاضوا بأفكارهم بحار التوحيد وأسرار التفريد، وجرت أفكارهم في عالم الملكوت بريح طيبة- وهي ريح السلوك- جاءتها ريح عاصف، وهي الواردات الإلهية، تأتي من حضرة القهّار، لا تُصادم شيئاً إلا دمغته، فإذا خافوا على نفوسهم صدمات الجذب او المحْو دََعوا الله مخلصين له الدينَ، فلما ردهم إلى السلوك اشتغلوا برياضة نفوسهم بالمجاهدة والمكابدة، فبغوا عليها كما بغت عليهم في أيام غفلتهم. وبالله التوفيق.
ثم حذّر من زهرة الدنيا، فقال:
[سورة يونس (١٠) : الآيات ٢٤ الى ٢٥]
إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها أَمْرُنا لَيْلاً أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٢٤) وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٢٥)
يقول الحق جلّ جلاله: إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا في سرعة تقضيها، وذهاب نعيمها بعد إقبالها، واغترار الناس بها كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ أي: اشتبك بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ حتى اختلط بعضه ببعض، مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ من الزرع والبقول والحشيش، حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها أي:
زينتها وبهجتها بكمال نباتها، وَازَّيَّنَتْ أي: تزينت بأصناف النبات وأشكالها وألوانها المختلفة كعروس أخذت من ألوان الثياب والحلي فتزينت بها.
وَظَنَّ أَهْلُها أي: أهل الأرض أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها متمكنون من حصدها ورفع غلتها، أَتاها أَمْرُنا أي: بعض الجوائح، كالريح والمطر، لَيْلًا أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها أي: زرعها حَصِيداً: شبيهاً بما
تشبيه الدنيا في سرعة انقضائها بنبات اخضرَّ ثم صار هشيماً، كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ويتدبرون عواقب الأمور، فيعلمون أن الدنيا سريعة الزوال، وشيكة التغير والانتقال، فيزهدون فيها ويجعلونها مزرعة لدار السلام، التي هي دار البقاء.
وهي التي دعا إليها عبادة بقوله: وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ أي: السلامة من الفناء وجميع الآفات، أو دار الله الذي هو السلام. وتخصيص هذا الاسم للتنبيه على ذلك، أو دار يُسلم اللهُ والملائكةُ فيها على من يدخلها، وهي الجنة، وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ توْفِيقَه إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ، التي توصل إليها وإلى رضوانه فيها، وهو الإسلام والتدرُّع بلباس التقوى، وفي تعميم الدعوة وتخصيص الهداية بالمشيئة دليل على أن الأمر غير الإرادة، وأن المُصِرّ على الضلالة لم يرد الله رشده. قاله البيضاوي.
الإشارة: ما ذكره الحق تعالى في هذه الآية هو مثال لمن صرف همته إلى الدنيا، وأتعب نفسه في جمعها، فبنى وشيد وزخرف وغرس، فلما أشرف على التمتع بذلك اختطفته المنية، فلا ما كان أمَّل أدرك، ولا إلى ما فاته من العمل الصالح رجع.
وفي بعض خطبه- عليه الصلاة والسلام- أنه قال: «أما رأيتم المؤاخَذين على الغرة، المزعَجين بعد الطمأنينة، الذين أقاموا على الشبهات، وجنحوا إلى الشهوات، حتى أتتهم رسلُ ربهم، فلا ما كانوا أملوا أدركوا، ولا ما فاتهم رجعوا، قدِموا على ما قدَّموا، وندموا على ما خلفوا، ولم ينفع الندم وقد جف القلم». وقال أيضا صلّى الله عليه وسلّم:
«لا تخدعنكم زخارف دنيا دنية عن مراتب جنات عالية، فكأنْ قد كشف القناع، وارتفع الارتياب ولا فى كل امرئ مستقره، وعرف مثواه ومنقلبه».
ورُوي عن جابر رضى الله عنه أنه قال: شهدت مجلساً من مجالس رسول الله صلى الله عليه وسلّم، إذ أتاه رجل أبيض، حسن الشعر واللون، فقال: السلام عليك يا رسول الله، قال: وعليك السلام. قال: يا رسول الله، ما الدنيا؟ فقال: حلم النائم، وأهلها مجازَون ومعاقبون. قال: يا رسول الله، فما الآخرة؟. قال: الأبد، فريق في الجنة، وفريق في السعير، قال: يا رسول الله، فما الجنة؟ قال: ترك الدنيا بنعيمها أبداً، ثم قال: فما خير هذه الأمة؟ قال: الذي يعجل بطاعة الله، قال:
فكيف يكون الرجل فيها؟ - أي في الدنيا- قال: متشمراً كطالب قافلة، قال: وكم القرار بها؟ قال: كقدر المتخلف عن القافلة، قال: فكم ما بين الدنيا والآخرة؟ قال كغمضة عين. ثم ذهب الرجل فلم يُر، فقال صلّى الله عليه وسلّم: «هذا جبريل، أتاكم يزهدكم في الدنيا».
قال المحشي: قلت: وذلك أن أعلى اللذات التحقق بصفات الربوبية، وهي محبوبة للقلب والروح بالطبع، لما فيه من المناسبة لها. ولذلك قال: قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي «١»، ثم المناسب إنما هو بقاء لا فناء فيه، وعز لا ذل فيه، وغنى لا فقر فيه، وكمال لا نقص فيه، وأمن لا خوف فيه، وهذا كله من أوصاف الربوبية، وحق كل عبد أن يطلب ملكاً عظيماً لا آخر له، ولا يكون ذلك في الدنيا لانصرافها وشوبها بآلام مكدّرات، وإنما ذلك في الآخرة، ولكن الشيطان بتلبيسه وحسده يدعو إلى ما لا يدوم من العاجلة، متوسلاً بما في الطبع من العجلة، والله يدعو إلى المُلك الحقيقي، وذلك بالزهد في العاجل والراحة منه عاجلاً، ليكون ملكاً في الدنيا، وبالقرب من الله والرغبة في التحقق به وبأوصافه ليكون ملكاً في الآخرة.
وفي الطيبي: قيل لابن أدهم: مالنا ندعو فلا نجاب؟ فقال: لأنه دعاكم فلم تُجيبوه، ثم قرأ: وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ، وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا «٢». هـ.
ثم فسَّر ما دعا إليه، فقال:
[سورة يونس (١٠) : آية ٢٦]
لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٦)
يقول الحق جلّ جلاله: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فيما بينهم وبين ربهم بتوحيده وعبادته، وفيما بينهم وبين عباده بكف أذاهم وحمل جفاهم، لهم الْحُسْنى أي: المثوبة الحسنى، وهي الجنة وزيادة، وهي النظر إلى وجهه الكريم، أو الحسنى: ما يثيب به على العمل، والزيادة: ما يزيد على ما يستحق العبد تفضلاً كقوله:
وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ «٣»، أو الحسنى: مثل حسناتهم، والزيادة: التضعيف بعشر أمثالها إلى سبعمائة أو أكثر، وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ: لا يغشاها قَتَرٌ: غبرة فيها سواد تغبر الوجه وَلا ذِلَّةٌ أي: هوان، والمعنى لا يرهقهم ما يرهق أهل النار، أو لا يرهقهم ما يوجب ذلك من خزي وسوء حال، أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ: دائمون، لا زوال لهم عنها، ولا انقراض لنعيمها، بخلاف الدنيا وزخارفها فقد تقدم مثالها.
(٢) من الآية ٢٦ من سورة الشورى.
(٣) من الآية ١٧٣ من سورة النساء.
ثم ذكر أضدادهم، فقال:
[سورة يونس (١٠) : آية ٢٧]
وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٧)
قلت: (والذين) : مبتدأ على حذف مضاف، أي: جزاء الذين كسبوا، و (جزاء) : خبر. أو على تقدير «لهم»، أو معطوف على (للذين أحسنوا) على مذهب من يُجوز: في الدار زيد والحجرةِ عمرو. أو (جزاء) : مبتدأ، و (بمثلها) :
خبر، والجملة حينئذٍ كبرى. ومن قرأ (قِطعَاً) بفتح الطاء فجمع قطيع، وهو مفعول ثان، و (مظلماً) : حال من الليل، ومن قرأ (قِطعَاً) بالسكون فمصدر، و (مظلماً) نعت له، أو حال منه أو من الليل.
يقول الحق جلّ جلاله: وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ كالكفر والشرك، وما يتبعهما من المعاصي، جزاؤهم سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها لا يزاد عليها، فلا تضاعف سيئاتهم، عدلاً منه سبحانه، وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ أي: هوان عند حشرهم للنار، ما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ يعصمهم من عذاب الله وغضبه، كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً أي: يحشرون مسودة وجوههم، كأنما أُكْسِيَتْ وجوههم قطْعاً كثيرة من الليل المظلم، أو قطْعاً مظلماً من الليل، أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ.
قال البيضاوي: هذا مما يحتج به الوعيدية- يعني المعتزلة- في تخليد العصاة. والجواب: أن الآية في الكفار لاشتمال السيئات على الكفر والشرك، ولأن الذين أحسنوا يتناول الكثير من أهل القبلة، فلا يتناوله قسيمُه. هـ.
الإشارة: جزاء المعاصي البُعد والهوان، وتسْويد وجوه القلوب والأبدان، كما أن جزاء الطاعة التقريب والإبرار، وتنوير وجوه القلوب والأسرار والإحسان، وفي ذلك يقول ابن النحوي في منفرجته:
وَمَعَاصِي اللَّهِ سَماجَتُها | تَزَدَانُ لِذي الخُلْقِ السَّمِج «١» |
وَلِطَاعَتِه وَصَبَاحَتِهَا | أنْوارُ صَبَاحٍ مُنْبَلِجِ |
«وربما قضى عليك بالذنب فكان سبب الوصول».
ثم ذكر موطن وعد المحسنين ووعيد المسيئين، فقال:
[سورة يونس (١٠) : الآيات ٢٨ الى ٣٠]
وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ مَّا كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ (٢٨) فَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ (٢٩) هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٣٠)
قلت: (مكانكم) : مفعول، أي: الزموا مكانكم، و (أنتم) تأكيد للضمير المنتقل إليه، و (شركاؤكم) عطف عليه.
يقول الحق جلّ جلاله: وَاذكر يَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يعني فريق الحسنى، وفريق النار، ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا: الزموا مَكانَكُمْ من الخزي والهوان، حتى تنظروا ما يفعل بكم، أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ معكم، تمثل حينئذ معهم، فَزَيَّلْنا: فرَّقنا بَيْنَهُمْ وقطعنا الوُصل التي كانت بينهم، وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ، ينطقها الله تعالى تكذيباً لهم فتقول: مَّا كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ، وإنما عبدتم فى الحقيقة أهواءكم لأنها الأمارة لكم بالإشراك. وقيل المراد بالشركاء: الملائكة والمسيح.
فَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ، فإنه العالم بحقيقة الحال، إِنْ كُنَّا أي: إنه الأمر والشأن كنا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ، لم نأمركم بها ولم نرضها. قال ابن عطية: وظاهر هذه الآية أن محاورتهم إنما هي مع الأصنام دون الملائكة وعيسى، بدليل القول لهم: مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ. ودون فرعون، ومن عُبد من الجن، بدليل قوله: إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ، وهؤلاء لم يغفلوا قط عن عبادة من عبدهم. هـ.
هُنالِكَ تَبْلُوا: فى ذلك المقام تبلوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ أي: تختبر ما قدمت من الأعمال خيراً أو شراً فتعاين نفعه وضرره، وقرأ الأخوان: «تتلوا» من التلاوة، أي: تقرأه في صحائف أعمالها، أو من التلوِ، أي:
تتبع عملها فتقودها إلى الجنة أو إلى النار. والمعنى: تفعل بها فعل المختبر لحالها المعرّف لسعادتها وشقاوتها،
الإشارة: من أحب شيئًا كان عبداً له، ومن عبد شيئاً حُشر معه. رُوي: أن الدنيا تبعث على صورة عجوز شمطاء زرقاء، تنادي: أين أولادي وأحبابي؟ ثم تذهب إلى جهنم فيذهبون معها. فمن عبد دنياه وهواه وقف موقف الهوان، ومن أحب مولاه ولم يحب معه شيئاً سواه، وقف موقف العز والتقريب في مواطن الإحسان. فهناك تفضح السرائر، وتكشف الضمائر، وتظهر مقامات الرجال، ويفتضح من أسر النقص وادعى الكمال فيرتفع المقربون إلى شهود مولاهم الحق، ويبقى المدعون مع حظوظهم في حجاب الحس والخلق. والله تعالى أعلم.
ثم عرفهم من يستحق العبادة، فقال:
[سورة يونس (١٠) : الآيات ٣١ الى ٣٣]
قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (٣١) فَذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَماذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (٣٢) كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٣٣)
يقول الحق جلّ جلاله: قُلْ لهم: مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ بإنزال الأمطار، وإنبات الحبوب، فإن الأرزاق تحْصل بأسباب سماوية ومواد أرضية، أو من كل واحد منهما توسعة عليكم، أو من السماء لأهل التوكل، وَمن الْأَرْضِ لأهل الأسباب. وقل لهم أيضاً: أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ أي: من يستطيع خلقهما وتسويتهما، أو من يحفظهما من الآفات مع كثرتهما، وسرعة انفعالهما من أدنى شيء، أو مَن أمرهُما بيده، إن شاء ذهب بهما؟ وقل لهم أيضاً: وَمَنْ يقدر أن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ، فيخرج الحيوان من النطفة، والنطفة من الحيوان؟ وهكذا.
وقل لهم أيضاً: وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ أي: ومن يلي تدبير العالم، من عرشه إلى فرشه؟ وهو تعميم بعد تخصيص، فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ، لا محيص لهم عن الإقرار بسواه إذ لا يقدرون على المكابرة والعناد في ذلك لفرط وضوحُه. فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ عقاب الله وغضبه؟ بسبب إشراككم معه ما لا يشاركه في شيء من ذلك، فَذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ أي: المتولي لهذه الأمور هو ربكم، الذي يستحق أن تعبدوه، الثابت ربوبيته، لأنه هو
ليس بعد الحق إلاّ الضلال، فمن تخطى الحق- الذي هو عبادة الله- وقع في الضلال.
قال ابن عطية: حكمت هذه الآية بأنه ليس بين الحق والضلال منزلة ثالثة في هذه المسألة- التي هي توحيد الله تعالى- وكذلك هو الأمر في نظائرها، وهي مسائل الأصول التي الحقّ فيها في طرف واحد، لأن الكلام فيها إنما هو في تقرير وجود ذات كيف هي، وذلك بخلاف مسائل الفروع التي قال تعالى فيها: لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً «١». هـ.
فَأَنَّى تُصْرَفُونَ عن الحق إلى الضلال.
كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ أي: كما حق الحق في الاعتقادات كَذلِكَ حَقَّتْ أي: وجبت وثبتت- كَلِمَةُ رَبِّكَ في اللوح المحفوظ أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ، وذلك فى قوم مخصوصين. قال البيضاوي: أي: كما حقت الربوبية لله، أو أن الحق بعده الضلال، أو أنهم مصروفون عن الحق، كذلك حقت كلمة الله وحكمه عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا: تمردوا في كفرهم، وخرجوا عن حد الإصلاح أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ، وهو بدل من الكلمة، أو تعليل لها، والمراد بها العِدَة بالعذاب. وقرأ نافع وابن عامر:
«كلمات» بالجمع هنا، وفي آخر السورة، وفي غافر «٢». هـ.
الإشارة: قل من يرزقكم من سماء الأرواح علوم الأسرار والحقائق، ومن أرض النفوس علوم الشرائع والطرائق؟ أمَّن يملك السمع والابصار فيصرفهما إلى سماع الوعظ والتذكار، ونظر التفكر والاعتبار ليلتحق صاحبهما بالمقربين الأبرار؟ وقدَّم السمع لأنه أنفع لإيصال النفع إلى القلب من البصر. أم من يخرج الحي من الميت، فيخرج العارف من الجاهل، والذاكر من الغافل، أو يخرج القلب الحي من الميت بحيث يحييه بالمعرفة بعد الجهل؟ ومن يدبر الأمر لخواص عباده؟ أي: تدبيراً خاصاً، بحيث يقوم لهم بتدبير شئونهم، حيث لم يدبروا معه.
فمن لم يدبر دبر له، فالفاعل لهذه الأمور هو الحق المنفرد بالوجود، فكل ما سواه باطل، كما قال القائل:
ألا كل شيء ما خلا الله باطل... وكل نعيم لا مَحَالَةَ زَائِلُ
قال صلّى الله عليه وسلّم «أَصْدَقُ كَلِمَةُ قَالَها الشاعِرُ كَلَِمَةُ لَبيدٍ: أَلا كُلُ شيءٍ... » الخ «٣». فكل من صُرف عن شهود الحق إلى نظر السِّوى فهو في ضلال. قال تعالى فَماذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ، لكن من حقت عليه
(٢) فى قوله تعالى: وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ الآية/ ٦.
(٣) راجع إشارة الآية ١٥٠ من سورة البقرة.
ثم ذكر عجز آلهتهم، احتجاجا عليهم، فقال:
[سورة يونس (١٠) : الآيات ٣٤ الى ٣٥]
قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٣٤) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلاَّ أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (٣٥)
قلت: من قرأ (يَهَدّي) «١» بفتح الهاء، فأصله: يهتدي، نقلت حركة التاء إلى الهاء، وأدغمت في الدال. ومن قرأ بكسر الهاء فعلى التقاء الساكنين، حين سكنت التاء لتدغم. ومن كسر الياء فعلى الاتباع، ومن قرأ بالاختلاس فإشارة إلى عروض الحركة، ومن قرأ: «يهدي» بالسكون، فمعناه يهدي غيره.
يقول الحق جلّ جلاله: قُلْ لهم: هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ بإظهاره للوجود ثُمَّ يُعِيدُهُ بالبعْث. فإن قلت كيف يحتج عليهم بالإعادة، وهم لا يعترفون بها؟ فالجواب: أنها لظهور برهانها وتواتر أخبارها كأنها معلومة عندهم، فلو أنصفوا ونظروا لأقروا بها، ولذلك أمر الرسول بأن ينوب عليهم في الجواب، فقال: قُلِ اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لأن لجاجهم وجحودهم لا يتركهم يعترفون بها، ولذلك قال لهم: فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ: تُصرفون عن سواء السبيل. وقُلْ لهم أيضاً: هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ بنصب الدلائل، وإرسال الرسل، والتوفيق للنظر والتدبر؟ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ. قال البيضاوي: وهدى كما يعدى بإلى لتضمنه معنى الانتهاء، يعدى باللام للدلالة على منتهى غاية الهداية. انظر تمامه.
أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وهو الله أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إلى شيء، فأولى ألا يهدي غيره إِلَّا أَنْ يُهْدى؟ أي: إلا أن يهديه غيره، وهي معبوداتهم، كالملائكة والمسيح وعزير، فلا يستطيعون أن يهدوا أنفسهم إلا أن يهديهم الله. وحمل ابن عطية الآية على الأصنام، وقال: معنى قوله: أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى هى
ويحتمل أن يكون الاستثناء في اهتدائها إشارة إلى مذاكرة الكفار يوم القيامة حسبما مضى في هذه السورة. هـ.
فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ أي: أيُّ شيء حصل لعقولكم، فكيف تحكمون بشيء يقتضي العقل بطلانه بأدنى تفكر؟.
اِلإشارة: في الآية تحريض على رفع الهمة عن السِّوى، إلى من بيده البدء والإعادة، والإرشاد والهداية، إلا من جعل على يديه الإرشاد والهداية، وهم الأنبياء والأولياء والعلماء الأتقياء، فالخضوع إليهم خضوع إلى الله على الحقيقة، واتباعهم اتباع لله على الحقيقة، وكل من تبع غيرهم فإنما يتبع الظن والهوى دون الحق، كما أبان ذلك بقوله تعالى:
[سورة يونس (١٠) : آية ٣٦]
وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ (٣٦)
يقول الحق جلّ جلاله: وَما يَتَّبِعُ أكثر المشركين في اعتقادهم إِلَّا ظَنًّا مستنداً إلى خيالات فارغة وأقيسة فاسدة، كقياس الغائب على الشاهد، والخالق على المخلوق، بأدنى مشاركة موهومة. والمراد بالأكثر:
الجميع، أو من ينتسب منهم إلى تمييز ونظر، ولم يرض بالتقليد الصرف، إِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ من علم التحقيق شَيْئاً، أو مِنَ الاعتقاد الْحَقِّ شَيْئاً من الإغناء. قال البيضاوي: وفيه دليل على أنَّ تحصيل العلم في الأصول واجب، وأن الاكتفاء بالتقليد والظن غير جائز. هـ. وعدم الاكتفاء بالظن إنما هو في الأصول، وأما الفروع فالظن فيها كاف. إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ، هذا وعيد لهم على اتباعهم الظن، وإعراضهم عن النظر والاستدلال، وعلى عدم اتباعهم من يدلهم على الحق. والله تعالى أعلم.
الإشارة: الناس على قسمين: أهل تصديق وإيمان، وأهل شهود وعيان. فأهل التصديق والإيمان هم عامة أهل اليمين، وهم أكثر المسلمين من العلماء والصالحين، يستندون في معرفتهم بالله إلى الدليل والبرهان، فتارة يقوى عندهم الدليل فيترقَّون عن اتباع الظن إلى الجزم والتصميم، وتارة يضعف فيرجعون إلى اتباع الظن الراجح.
وأما أهل الشهود والعيان، فقد غابت عنهم الأكوان في شهود المكون، فصاروا يستدلون بالله على وجود غيره، فلا يجدونه، حتى قال بعضهم: لو كلفت أن أرى غيره لم أستطع، فإنه لا غير معه حتى اشهده، مُحال أن تشهده وتشهد معه سواه. وقال شاعرهم:
مُذْ عَرفْتُ الإِلَهَ لَمْ أَرَ غَيْراً | وكَذّا الْغَيْرُ عندنا ممنوع |
مُذْ تَجَمَّعْتْ مَا خَشيتُ افْتِراقًا | فأَنّا اليَوْمَ وَاصلٌ مجموع |
عجبتُ لِمْنَ يَبْغِي عَلَيكَ شَهَادَةً | وَأَنتَ الَّذي أَشهَدتُه كُلَّ شَاهِد |
ولا مطمع لأحد في التطهير من الظنون والأوهام إلا بصحبة شيخ كامل عارف بالله، فيلقي إليه نفسه، فلا يزال يسير به، حتى يقول له: ها أنت وربك، فحينئذٍ ترتفع عنه الشكوك والظنون والأوهام، ويبلغ في مشاهدة الحق إلى عين اليقين وحق اليقين. وأما قول الجنيد رضى الله عنه: (أدركت سبعين صديقاً، كلهم يعبدون الله على الظن والوهم، حتى الشيخ أبا يزيد، ولو أدرك صبياً من صبياننا لأسلم على يديه). فقال الشيخ أبو العباس المرسي رضى الله عنه:
معنى كلامه: أنهم ظنوا وتوهموا أنهم بلغوا إلى مقام النهاية، بحيث لا مقام فوق ذلك، ولو أدرك أحدهُم صبيَّاً لنبههم على أن ما فاتهم أكثر مما أدركوا ولا نقادوا له. هـ بالمعنى. والله تعالى أعلم.
ولما ذكر أن اتباع الظن غير كاف، ذكر ما يجب اتباعه وهو القرآن، فقال:
[سورة يونس (١٠) : الآيات ٣٧ الى ٤٠]
وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٣٧) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣٨) بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (٣٩) وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (٤٠)
قلت: «تصديق» : مصدر، والعامل فيه «كان» محذوفة، أو «أنزل»، و «لا ريب» : خبر ثالث لها، و «من رب العالمين» : خبر آخر، أي: كائناً من رب العالمين، أو متعلق بتصديق أو بتفصيل، و «لا ريب» : اعتراض، أو بالفعل المعلل بهما- وهو «نزل» - ويجوز أن يكون حالاً من «الكتاب»، أو من الضمير في «فيه»، و «أم» : منقطعة بمعنى بل مع الاستفهام الإنكاري، و «كيف» خبر كان.
يقول الحق جلّ جلاله: وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللَّهِ أي: ما صح له أن يفترى من الخلق، إذ لا قدرة له على ذلك، وَلكِنْ كان تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ من الكتب، أو: ولكن أنزله تصديقاً
أَمْ: بل يَقُولُونَ افْتَراهُ محمد من عند نفسه؟ قُلْ فَأْتُوا أنتم بِسُورَةٍ مِثْلِهِ في البلاغة وحسن النظم، وجودة المعنى، فإنكم مثلي في العربية والفصاحة، وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ: مَنْ قدرتم عليه من الجن والإنس، يُعينكم على ذلك، مِنْ دُونِ اللَّهِ فإنه وحده قادر على ذلك، إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أنه مفترىً.
بَلْ كَذَّبُوا أي: سارعوا إلى التكذيب بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وهو القرآن، بحيث لم يستمعوه، ولم يتدبروا آياته ويحيطوا بالعلم بشأنه، حتى يعلموا أحق هو أم لا، أو بما جهلوه ولم يحيطوا به علماً، من ذكر البعث والجزاء، وسائر ما يخالف دينهم، وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ أي: ولم يقفوا بعدُ على تأويله، ولم تبلغ أذهانهم معانيه، أو لم يأتهم بعدُ تأويلُ ما فيه من الإخبار بالغيوب، حتى يتبين لهم أنه صدق أو كذب، والمعنى: أن القرآن معجز من جهة اللفظ والمعنى، ثم إنهم فاجئوا تكذيبه قبل أن يتدبروا نظمه، ويتصفحوا معناه.
ومعنى التَّوقع في لَمَّا: أنه قد ظهر بالآخرة إعجازه لمّا كرر عليهم التحدَّي فزادوا أذْهانهم في معارضته فتضاءلت دونها، أو لمّا شاهدوا وقوع ما أخبر به طبق ما أخبر مراراً فلم يقلعوا عن التكذيب تمرداً وعناداً. قاله البيضاوي. قال ابن جزي: لمَّا يأتهم ما فيه من الوعيد لهم، أي: وسيأتيهم يوم القيامة أو قبله.
كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أنبياءهم، فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ، فيه وعيد لهم بمثل ما عوقب به من قبلهم.
وَمِنْهُمْ من المكذبين مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ أي: يصدق به في نفسه ويعلم أنه حق ولكن يعاند، أو مَن يؤمن به ويتوب عن كفره، وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ في نفسه لفرط غباوته وقلة تدبره، أولا يؤمن فيما يستقبل فيموت على كفره، وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ: بالمعاندين أو المصرين.
الإشارة: إذا تطهرت القلوب من الأغيار، وتصفّتْ من الأكدار، أوحى إليها بدقائق العلوم والأسرار، وما كان لتلك العلوم أن تُفترى من دون الله ولكن تكون تصديقاً لما قبلها من علوم القوم وأسرارها، التي يهبها الله لأوليائه، وفيها تفصيل طريق السير، وما أوجبه الله على المريدين من الآداب، وشروط المعاملة، فمن طعن في ذلك فليأت بشيء من ذلك من عند نفسه، ويستعنْ على ذلك بأبناء جنسه، بل كذَّب بما لم يُحط به علمُه، ولم يبلغه عقلُه
ثم أمر نبيه بالبراءة ممن كذبه، فقال:
[سورة يونس (١٠) : الآيات ٤١ الى ٤٤]
وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (٤١) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ (٤٢) وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ (٤٣) إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٤٤)
قلت: «من» الموصولة لفظها مفرد، ومعناها واقع على الجمع أو غيره، فإن عاد الضمير عليها جاز فيه مراعاة المعنى ومراعاة اللفظ، فقوله: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ راعى جانب المعنى، وقوله: وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ راعى جانب اللفظ، فإن راعى أولاً اللفظ جاز أن يرجع إلى مراعاة المعنى، كقوله: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا «١» وأما إن راعى أولاً المعنى فلا يرجع إلى مراعاة اللفظ، لأن مراعاة المعنى أقوى. انظر الإتقان.
يقول الحق جلّ جلاله: وَإِنْ كَذَّبُوكَ كذبك قومك بعد إلزام الحجة لهم فَقُلْ لهم: لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أي: فتبرأ منهم وقل لهم: لي جزاء عملي، ولكم جزاء عملكم، حقاً كان أو باطلاً، أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ، لا تؤاخذون بعملي ولا أُؤاخذ بعملكم، ولأجل ما فيه من إيهام الإعراض عنهم وتخلية سبيلهم قيل: إنه منسوخ بآية السيف.
وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ إذا قرأت القرآن، أو علمت الشرائع، ولكن لا يقبلون، كالأصم الذي لا يسمع أصلاً، أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ تقدر على إسماعهم وَلَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ أي: ولو انضم إلى صممهم فَقْدُ عقولهم، فهو احرى في عدم الاستماع.
قال البيضاوي: وفيه تنبيه على أن حقيقة استماع الكلام هو فهم المعنى المقصود منه، ولذلك لا توصف به- أي: بالاستماع- البهائم، وهو لا يتأتى إلاّ باستعمال العقل وتدبره. وعقولهم لما كانت مؤوفة- أي: قاصرة بمعارضة الوهم ومشايعة الإلف والتقليد بعدت أفهامهم عن فهم الحِكَم والمعاني الدقيقة، فلم ينتفعوا بسرد الألفاظ عليهم غير ما ينتفع به البهائم من كلام الناعق. هـ.
إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً بسلب حواسهم وعقولهم، وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ بإفسادها وإهمالها، وتفويت منافعها عليهم. وفيه دليل على أنَّ للعبد كسباً، وأنه ليس مسلوب الاختيار بالكلية، كما زعمت الجبرية، ويجوز ان يكون وعيداً لهم، بمعنى: أن ما يحيق بهم يوم القيامة من العذاب عدل من الله، لا يظلمهم به، ولكنهم ظلموا أنفسهم باقتراف أسبابه. قاله البيضاوي.
الإشارة: إذا رأى أهل الوعظ والتذكير قوماً غرقوا في بحر الهوى، وأخذتهم شبكة الدنيا واستحوذت عليهم الغفلة، فذكروهم وبذلوا جهدهم في نصحهم، فلم يقلعوا، فليتبرؤا منهم، وليقولوا: نحن براءٌ مما تعملون، وأنتم بريئون مما نعمل. ومنهم من يستمع إلى وعظك أيها الواعظ، ولكن لا يتعظ، أفأنت تسمع الصم ولو كانوا لا يعقلون. ومنهم من يشاهد كرامتك وخصوصيتك ولكن لا يهتدى، أفأنت تهدي العمي ولو كانوا لا يبصرون؟ إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً، بل في كل زمان يبعث من يذكر ويُدَاوي أمراض القلوب، (ولكن الناس أنفسهم يظلمون)، حيث حادوا عنهم، وأساءوا الظن بهم، وبالله التوفيق.
ثم ذكر وقت مجىء تأويل ما كذبوا به، فقال:
[سورة يونس (١٠) : الآيات ٤٥ الى ٤٨]
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ ساعَةً مِنَ النَّهارِ يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (٤٥) وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما يَفْعَلُونَ (٤٦) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٤٧) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٨)
قلت: كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا: حال، أي: نحشرهم مشبّهين بمَن لم يلبث إلا ساعة. أو صفة ليوم، والعائد محذوف، أي: كأن لم يلبثوا قبله، أو لمصدر محذوف، أي: حشراً كأن لم يلبثوا قبله. وجملة: يَتَعارَفُونَ: حال أخرى مقدرة، أو بيان لقوله: كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا، أو لتعلق الظرف، والتقدير: يتعارفون يوم نحشرهم. و «إما» : شرط،
يقول الحق جلّ جلاله: وَاذكر يَوْمَ يَحْشُرُهُمْ ونجمعهم للحساب، فتقصر عندهم مدّة لبثهم في الدنيا وفي البرزخ، كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنَ النَّهارِ يستقصرون مدّة لبثهم في الدنيا، أو في القبور لهول ما يرون، حال كونهم يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ أي: يعرف بعضهم بعضاً، كأن لم يتفارفوا إلا قليلاً، وهذا في أول حشرهم، ثم ينقطع التعارف لشدة الأمر عليهم لقوله: وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً. يُبَصَّرُونَهُمْ «١».
قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ خسرانا لاربح بعده، وَما كانُوا مُهْتَدِينَ إلى طريق الربح أصلاً، أو إلى طريق توصلهم إلى معرفة الله ورضوانه، لترك استعمال ما منحوه من العقل فيما يوصل إلى الإيمان بالله ورسله، فاستكسبوا جهالات أدت بهم إلى الرّدى والعذاب الدائم.
وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ أي: مهما نبصرنك بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ من العذاب في حياتك، كما أراه يوم بدر.
أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ قبل أن نريك فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فنريكه في الآخرة، ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما يَفْعَلُونَ، فيجازيهم عليه حينئذٍ، فالترتيب إخباري.
وقال البيضاوي، تبعاً للزمخشري: ذكر الشهادة وأراد نتيجتها ومقتضاها، وهو العقاب، ولذلك رتبها على الرجوع بثم، أو مؤدِّ شهادته على أفعالهم يوم القيامة. هـ.
وَلِكُلِّ أُمَّةٍ من الأمم الماضية رَسُولٌ يبعثه إليهم، يدعوهم إلى الحق، فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ بالمعجزات «فكذبوه» قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ: بالعدل، فأنجى الرسولَ ومن تبعه، وأهلك المكذبين وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ، حيث أعذر إليهم على ألسنة الرسل. وقيل معناه: لكل أمة يوم القيامة رسول تنسب إليه.
كقوله: يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ «٢» فإذا جاء رسولهم الموقفَ ليشهد عليهم بالكفر أو بالإيمان قُضِيَ بَيْنَهُمْ بإنجاء المؤمنين وعقاب الكافرين، كقوله: وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ «٣».
وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ الذي تعدنا، استبعاداً له واستهزاء به إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ فيه، وهو خطاب منهم للنبى صلّى الله عليه وسلّم.
(٢) الآية ٧١ من سورة الإسراء.
(٣) الآية ٦٩ من سورة الزمر.
فأما أهل اليقظة- وهم العارفون بالله- فقد حصل لهم اللقاء، قبل يوم اللقاء، قد خسر الوصول من كذَّب بأهل الوصول، وما كان أبداً ليهتدي إلى الوصول إلا بصحبة أهل الوصول. وإما نرينك أيها العارف بعضَ الذي نَعدهُم من الوصول لمن تعلق بك، أو نتوفينك قبل ذلك، فإلينا مرجعهم فنوصلهم بعدك بواسطة أو بغيرها. ولكل أمة رسول يبعثه الله يُذكر الناس ويدعوهم إلى الله، فإذا جاء رسولهم قُضي بينهم بالقسط، فيوصل من تبعه ويبعد من انتكبه. والله تعالى أعلم بأسرار كتابه.
ثم أجاب عن قولهم متى هذا الوعد، فقال:
[سورة يونس (١٠) : الآيات ٤٩ الى ٥٢]
قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً إِلاَّ ما شاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (٤٩) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ بَياتاً أَوْ نَهاراً ماذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (٥٠) أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (٥١) ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (٥٢)
قلت: قدَّم في الأعراف «١» النفع، وهنا الضر لأن السؤال في الأعراف عن مطلق الساعة المشتملة على النفع والضر، وهنا السؤال عن العقاب الذي وعدهم به، بدليل قوله: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ. وقوله: إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ منقطع، ويصح الاتصال. وقوله ماذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ وضع المُظْهَرَ موضع المُضْمَرِ، أي: ماذا تستعجلون منه؟. والجملة الاستفهامية جواب الشرط، كما يقال: إن أتيتك ماذا تعطيني؟، أو محذوف، أي: إن أتاكم ألكم منه منعة أو به طاقة فماذا تستعجلون منه؟
وقال الواحدي: الاستفهام للتهويل والتفظيع، أي: ما أعظم ما تستعجلون منه، كما تقول: أعلمت ماذا تجْني على نفسك؟. أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ، دخلت همزة التقرير على «ثم» العاطفة، أي: إن استعجلتم ثم وقع بكم العذاب آمنتم به حين لا ينفعكم.
وهو متعلق بأرأيتم، لأنه في معنى أخبروني، و «المجرمون» وضع موضع المضمر للدلالة على أنهم لجرمهم ينبغي أن يفزعوا من مجيء العذاب، لا أن يستعجلوه. قاله البيضاوي.
أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ أي: أثم تؤمنون إذا وقع العذاب وعاينتموه، حين لا ينفعكم إيمانكم، آلْآنَ أي: فيقال لكم الآن آمنتم حين فات وقته، وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ تكذيباً واستهزاء، ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا بعد هلاكهم: ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ أي: العذاب المؤلم الذي تخلدون فيه، هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ من الكفر والمعاصي.
الإشارة: لا يشترط في الولي أن يكاشف بالأمور المغيبة حتى يحترز من المكاره أو يجلب المنافع، إذ لم يكن ذلك للنبي، فكيف يكون للولي؟ بل هو معرض للمقادير الجارية على الناس، يجري عليه ما يجري عليهم، نَعْم..
باطنه محفوظ من السخط أو القنط، يتلقى كل ما يلقى إليه بالرضا والتسليم. فمن شرط ذلك فيه فهو محروم من بركة أولياء زمانه. والله تعالى أعلم.
ثم استخبروا عن العذاب أو الوحى، هل هو حق أم لا؟ كما قال تعالى:
[سورة يونس (١٠) : الآيات ٥٣ الى ٥٤]
وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (٥٣) وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ ما فِي الْأَرْضِ لافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٥٤)
قلت: (أحق) : مبتدأ، والضمير فاعله سد مسد الخبر، و (إي) : حرف جواب، بمعنى نعم، وهو من لوازم القسم، ولذلك يوصل بواوه، فيقال: إي والله، ولا يقال «إي» وحُده.
وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ بالشرك أو التعدي على الغير ما فِي الْأَرْضِ من خزائنها وأموالها لَافْتَدَتْ بِهِ: لجعلته فدية لها من العذاب، وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ أي: أخفى رؤساء هؤلاء الكفار الندامة خوف الشماتة والتعيير من سفلتهم، لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ، أو جميعهم، لأنهم بهتوا بما عاينوا، مما لم يحتسبوا من فظاعة الأمر وهوله، فلم يقدروا أن ينطقوا، وقيل أظهروها، من قولهم: أسر الشيء: أظهره، ومنه: أسارير الوجه، وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ، ليس تكراراً لأن الأول قضاء بين الأنبياء ومكذبيهم، والثاني في جزاء المشركين على شركهم. قاله البيضاوي.
الإشارة: كثير من الناس من يستخبر عن شيخ التربية، أحق وجوده أم لا؟ قل: إي وربي إنه لحق، ولا يخلو منه زمان، إذ القطب والعدد الذي يقوم الوجود بهم لا ينقطع، والقطبانية لا تدرك من غير تربية أصلاً، وما أنتم بفائتين عنه إن طلبتموه بصدق الاضطرار. ولو أنَّ لكلِّ نفسٍ ظلمت نفسها- حيث بقيت بعيبها وغم حجابها حتى لقيت مولاها- ما في الأرض جميعاً لافتدت به من البعد وغم الحجاب، وفوات القرب من الأحباب، وقد قضى بين الخلائق بالحق، فارتفع المقربون الذين لقوا الله بقلب سليم، وانحط الغافلون، الذين لقوا الله بقلب سقيم، وندموا على ترك صحبة من يخلصهم من عيبهم، فإن كانت لهم رئاسة علم أو صلاح أضمروا ذلك عمن قلدهم، وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً.
ولذلك قال:
[سورة يونس (١٠) : الآيات ٥٥ الى ٥٦]
أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَلا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٥٥) هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٥٦)
يقول الحق جلّ جلاله: أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ خلقًا وملكاً وعبيداً، يتصرف فيهم تصرف المالك في ملكه، فلا يتطرقه ظلم ولا جور. ويحتمل أن يكون تقريراً لقدرته على الإثابة والعقاب، أَلا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ أي: ما وعد به من الثواب والعقاب، لا خلف فيه، وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ لقصور
الإشارة: ما وعد به الحق سبحانه القاصدين إليه من الوصول والمعرفة به حق، إن وفوا بشرطه، وهو صحبة من يوصل إليه، مع الصدق والتعظيم، وإخلاص القصد، هو يحيي قلوباً بمعرفته، ويميت قلوباً بالغفلة والجهل به، وإليه ترجعون، فيظهر العارف من الجاهل والذاكر من الغافل.
فهذه موعظة لمن اتعظ، كما قال تعالى:
[سورة يونس (١٠) : الآيات ٥٧ الى ٥٨]
يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (٥٧) قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (٥٨)
قلت: (بفضل الله) يتعلق بمحذوف، يُفسره ما بعده، أي: ليفرحوا بفضل الله، أو بقوله «فليفرحوا». وكرر قوله: (فبذلك) تأكيداً، والفاء بمعنى الشرط، كأنه قال: إن فرحوا بشيء فبهما فليفرحوا.
يقول الحق جلّ جلاله: يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ يعنى القرآن العظيم، وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ من الشك والجهل، وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ هداية في بواطنهم بأنوار التحقيق، ورحمة في ظواهرهم بآداب التشريع.
قال البيضاوي: قد جاءكم كتاب جامع للحكمة العملية «١»، الكاشفة عن محاسن الأعمال وقبائحها، والراغبة في المحاسن، والزاجرة عن القبائح، والحكمة النظرية التي هي شفاءٌ لما في الصدور من الشكوك وسوء الاعتقاد، وهدى إلى الحق واليقين، ورحمة للمؤمنين حيث أنزلت عليهم فنجوا من ظلمات الضلال بنور الإيمان، وتبدلت مقاعدهم من طبقات النيران بمصاعد من درجات الجنان. والتنكير فيها للتعظيم. هـ.
قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ أي: بمطلق الفضل والرحمة، فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا لا بغيره، أو الفضل:
الإسلام، والرحمة: القرآن. وقرأ يعقوب بتاء الخطاب، ورُوي مرفوعاً، ويؤيده قراءة مَن قرأ: «فافرحوا»، هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ
الإشارة: قد جعل الله في خواصِّ أوليائه موعظة للناس بما يسمعون منهم من التذكير والإرشاد، وشفاءٌ لما في الصدور، لما يسري منهم إلى القلوب من الإمداد، وما يكتسبه مَنْ صحبهم من أنوار التحقيق، وهدى إلى صريح العرفان وإشراق أنوار الإحسان، ورحمة بسكون القلوب والطمأنينة بذكر علام الغيوب، قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا، ففضل الله: أنوار الإسلام والإيمان، ورحمته: أنوار الإحسان، أو فضل الله: أحكام الشريعة، ورحمته: الطريقة والحقيقة، أو فضل الله: حلاوة المعاملة، ورحمته: حلاوة المشاهدة، أو فضل الله:
استقامة الظواهر، ورحمته: استقامة البواطن، أو فضل الله: محبته، ورحمته: معرفته. إلى غير ذلك مما لا ينحصر، ولم يقل: فبذلك فلتفرح يا محمد لأن فرحه صلّى الله عليه وسلّم بالله، لا بشيءٍ دونه.
ولمّا كانت موعظة القرآن العظيم مشتملة على التحليل والتحريم، رد الله تعالى على من افترى خلافه، فقال:
[سورة يونس (١٠) : الآيات ٥٩ الى ٦٠]
قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالاً قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ (٥٩) وَما ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ (٦٠)
قلت: (ما أنزل) : نصب بأنزل أو بأرأيتم لأنه بمعنى اخبروني.
يقول الحق جلّ جلاله: قُلْ أَرَأَيْتُمْ: أخبروني ما أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ بقدرته، وإن سترها بالأسباب العادية، وقوله: لَكُمْ دل على أن المراد منه: ما حلّ، ولذلك وبَّخ على التبعيض بقوله: فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالًا كالبحائر وأخواتها، وَقالُوا مَا فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا «١».
قُلْ لهم: آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ في التحريم والتحليل، فتقولون ذلك عنه، أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ في نسبة ذلك إليه؟، وَما ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيامَةِ، أيُّ شيء ظنهم يفعل بهم، أيحسبون
قال ابن عطية: ثنَّى بإيجاب الفضل على الناس في الإمهال لهم مع الافتراء والعصيان، والإمهال داعية إلى التوبة والإنابة، ثم استدرك من لا يرى حق الإمهال ولا يشكره، ولا يبادر فيه على جهه الذم لهم، والآية بعد هذا تعم جميع فضل الله، وجميع تقصير الخلق في شكره، لا رب غيره. هـ.
الإشارة: الوقوف مع حدود الشريعة، والتمسك بالسنة النبوية قولاً وفعلاً، وأخذاً وتركاً، والاهتداء بأنوار الطريقة تخلية وتجلية، هو السير إلى أسرار الحقيقة، فمن تخطى شيئاً من ذلك فقد حاد عن طريق السير.
وبالله التوفيق.
ثم هددهم بمراقبته عليهم، فقال:
[سورة يونس (١٠) : آية ٦١]
وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٦١)
قلت: الضمير في مِنْهُ يعود على القرآن، وإن لم يتقدم ذكره لدلالة ما بعده عليه، كأنه قال: وما تتلو شيئاً من القرآن، وقيل: يعود على الشأن، والأول أرجح لأن الإضمار قبل الذكر تفخيم للشيء. قاله ابن جزي. قلت:
والأحسن أن يعود على الله تعالى لتقدم ذكره قبل، ومن قرأ: وَلا أَصْغَرَ، وَلا أَكْبَرَ بالفتح فعطف على مِثْقالِ ممنوع من الصرف، أو مبني مع «لا»، ومن قرأ بالرفع فعطف على موضعه، أو مبتدأ، وإِلَّا فِي كِتابٍ:
خبر.
يقول الحق جلّ جلاله: وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ أي: أمر من الأمور، والخطاب للنبى صلّى الله عليه وسلّم والمراد هو وجميع الخلق، ولذلك قال في آخرها. وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ، ومعنى الآية: إحاطة علم الله تعالى بكل شيء، وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ أي: وما تتلو شيئاً من القرآن، أو وما تتلو من الله من قرآن، أي: تأخذه عنه.
وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ أي عمل كان، وهو تعميم للخطاب بعد تخصيصه بمن هو رأسهم «١»، ولذلك ذكر الحق تعالى، حيث خص بالذكر ما فيه فخامة وتعظيم، وذكر حيث عمم ما يتناول الجليل والحقير، أي: لا تعملون شيئا
؟ فالجواب: أن السماء قدمت في سبأ لأن حقها التقديم، وقدمت الأرض هنا لما ذكرت الشهادةُ على أهل الأرض. هـ. وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ أي: اللوح المحفوظ، أو علمه تعالى المحيط، المُبيّن للأشياء على ما هي عليه.
الإشارة: هذه الآية وأمثالها هي أصل المراقبة عند القوم، وهي على ثلاثة أقسام: مراقبة الظواهر، ومراقبة القلوب، ومراقبة السرائر. فالأولى للعوام، والثانية للخواص، والثالثة لخواص الخواص.
فأما مراقبة الظواهر: فهي اعتقاد العبد أن الله يراه، ومطلع عليه في كل مكان، فينتجُ له الحياء من الله، فيستحيي أن يسيء الأدب معه وهو بين يديه، وفي بعض الأخبار القدسية: «إن كنتم تعتقدون أني لا أراكم، فالخَللُ في إيمانكم، وإن كنتم تعتقدون أني أراكم فلِمَ جعلتموني أهون الناظرين إليكم؟».
وقال- عليه الصلاة والسلام-: «أفضل الناس إيماناً من يعلم أن الله معه في كل مكان» أو كما قال صلّى الله عليه وسلّم:
ورُوي إنَّ عبد الله بن عمر رضى الله عنه مرَّ براعي غنم، فقال له: أعطنا شاة من غنمك، فقال له: ليست لى. فقال له: قل لصاحبها أكلها الذئب، فقال له الراعي: وأين الله؟!. ورُويَ أن رجلاً خلا بجارية فراودها على المعصية، وقال لها:
لا ترانا إلا الكواكب، فقالت له: وأين مُكوكُبها؟.
وأما مراقبة القلوب فهي: تحقيق العبد أن الله مطلع على قلبه، فيستحي منه أن يجول فيما لا يعني، أو يدبر ما لا يفيد ولا يجدي، أو يهم بسوء أدب فإنْ جال في ذلك استغفر وتاب.
وأما مراقبة السرائر فهي: كشف الحجاب عن الروح، حتى ترى الله أقرب إليها من كل شيء، فتستحي أن تجول فيما سواه من المحسوسات، فإن فعلت بادرت إلى التوبة والاستغفار، فالتوبة لا تفارق أهل المراقبة مطلقاً، وقد تقدم في أول سورة النساء «٣» بعض الكلام على المراقبة، فمَن لم يُحْكِم أمر المراقبة، لم يذق أسرار المشاهدة.
(٢) فى قوله تعالى «عالم الغيب لا يعزب عنه مثقال ذرة فى السموات ولا في الأرض... » الآية: ٣.
(٣) راجع إشارة الآية الأولى من سورة النساء.
[سورة يونس (١٠) : الآيات ٦٢ الى ٦٤]
أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦٢) الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (٦٣) لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٦٤)
قلت: «الذين آمنوا» : صفة للأولياء، أو منصوب على المدح، أو مرفوع به على تقدير: «هم»، أو مبتدأ، و «لهم البشرى» : خبر.
يقول الحق جلّ جلاله: أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ الذين يتولونه بالطاعة، وهو يتولاهم بالكرامة لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ من لحوق مكروه، وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ بفوات مأمول.
ثم فسَّرهم بقوله: الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ، فمن جمع بين الإيمان والتقوى فهو ولي- أعني الولاية العامة- وسيأتي بقية الكلام في الإشارة إن شاء الله، هُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا
وهو ما بشّر به المتقين في كتابه، على لسان نبيه صلى الله عليه وسلّم من الحفظ والعز والكفاية، والنصر في الدنيا وما يثيبهم به في الآخرة، أو ما يريهم من الرؤيا الصالحة يراها أو تُرى له. رُوي ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم «١»، أو محبة الناس للرجل الصالح، أو ما يتحفهم به من المكاشفات، أو التوفيق لأنواع الطاعات، أو بشرى الملائكة عند النزع، أو رؤية المقعد قبل خروج الروح، فِي الْآخِرَةِ
هي الجنة أو تلقي الملائكة إياهم عند الحشر بالبشرى والكرامة.
تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ
أي: لا تغيير لأقواله ولا اختلاف لمواعيده، واستدل ابن عمر بالآية على أن القرآن لا يقدر أحد أن يغيره، لِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ
الإشارة إلى كونهم مبشَّرين في الدارين، أو لانتفاء الخوف والحزن عنهم مع ما بُشروا به، والله تعالى أعلم.
الإشارة: الولاية على قسمين: ولاية عامة، وولاية عرفية خاصة، فالولاية العامة، هي التي ذكرها الحق تعالى، فكل من حقق الإيمان والتقوى فله من الولاية على قدر ما حصًّل منها، والولاية الخاصة خاصة بأهل الفناء والبقاء، الجامعين بين الحقيقة والشريعة، بين الجذب والسلوك، مع الزهد التام والمحبة الكاملة، وصحبة من
وفي حديث آخر: قيل: يا رسول الله مَنْ أولياء الله؟ قال «المتحابَّون في الله». وقال القشيري رضى الله عنه: علامة الولي ثلاث: شغله بالله، وفراره إلى الله، وهمه الله. هـ وقال أبو سعيد الخراز رضى الله عنه: إذا أراد الله أن يوالي عبداً من عباده فتح عليه باب ذكره، فإذا اشتد ذكره فتح عليه باب القرب، ثم رُفع إلى مجلس الأنس، ثم أجلسه على كرسي التوحيد، ثم رفع عنه الحجب وأدخله دار الفردانية، وكشف له عن الجلال والعظمة، فإذا عاين ذلك بقي بلا هو، فحينئذٍ يفني نفسه ويبرأ من دعاويها. هـ.
فأنت ترى كيف جعل الفناء هو نهاية السير والوصول إلى الولاية، فَمن لا فناء له لا محبة له، ومن لا محبة له لا ولاية له. وإلى ذلك أشار ابن الفارض رضى الله عنه، في تائيته بقوله:
فلمْ تهْوَني ما لم تكنْ فيَّ فانياً | ولم تَفْنَ ما لم تجْتَل فيك صُورتي |
حلاوة الذوق والوجدان، مع مقام الشهود والعيان، فِي الْآخِرَةِ
بإدراك ما لا عين رأت، ولا أُذن سمعت، ولا خطر ببال من المعارف والأسرار، فمن أدرك هذا فليوطن نفسه على الإنكار.
ولذلك سلّى نبيه، وينسحب على ورثته مما يلقونه من أهل الإنكار، فقال:
[سورة يونس (١٠) : آية ٦٥]
وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦٥)
قلت: (إن) استئناف، ومن قرأ بالفتح فعلى إسقاط لام العلة.
يقول الحق جلّ جلاله لنبيه صلى الله عليه وسلم: وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ في جانب الربوبية، أو فى جانبك بالطعن والشتم والتهديد، فالعاقبة لك بالنصر والعز فإن الله يُعز أولياءه، إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً أي: إن الغلبة لله جميعاً،
الإشارة: الداخل على الله منكور، فكل من رام الخصوصية فليعوِّلْ على الطعن والإنكار، وليتسلَّ بما تسلى به النبي المختار، ولينتظر العز والنصر من الواحد القهار، فإن الأمر كله بيده كما قال:
[سورة يونس (١٠) : الآيات ٦٦ الى ٦٧]
أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَما يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (٦٦) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (٦٧)
قلت: (وما يتبع) : يحتمل الاستفهام، فتكون منصوبة بيتبع، أي: أيُّ شيء يتبعون ما يتبعون؟ إلا الظن، ويحتمل النفي، أي: ما يتبع الذين يدعون الشركاء يقيناً إِن يتبعونَ إِلا الظن، أو تكون «إن» تأكيداً لها، و «إلا الظن» إبطال لنفي «ما».
يقول الحق جلّ جلاله: أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ من الملائكة والثقلين ملكاً وعبيداً، فلا يصلح أحد منهم للألوهية، وإذا كان هؤلاء الذين هم أشرف الممكنات لا تصلح للربوبية، فأحرى الجامدات التي يدعونها آلهة، وَما يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكاءَ أي: أيُّ شيء يتبعون، تحقيراً لهم، أو ما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء يقيناً، إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وما سولت لهم أنفسهم، وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ: يكذبون فيما ينسبون إلى الله، أو يحزرُون «١» ويقدرون أنها شركاء تقديراً باطلاً، بل الواجب أن يعبدوا من عمت قدرته ونعمُه على خلقه، ولذلك قال: هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ راحة لأبدانكم، وَالنَّهارَ مُبْصِراً طلباً لمعاشكم، وفيه تنبيه على كمال قدرته وعظيم نعمته، ليدُلهم على تفرده باستحقاق العبادة إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ سماع تدبر واعتبار.
الإشارة: كل مَن ركن إلى شيء دون الله، محبة أو خوفاً أو طمعاً فيه، فقد أشرك مع الله، ولم يتبع إلا الظن والوهم، وفي الحِكَم: «ما قادك شيءٌ مثلُ الوهم، أنت حرٌ مما أنت عنه آيس، وعبد لما أنت فيه طامع، فكيف يترك العبد سيده الذي بيده ملك السموات والأرض، ويتعلق بعبد مثله حقير؟. يترك الملك الكبير ويتعلق بالعبد الصغير».
[سورة يونس (١٠) : الآيات ٦٨ الى ٧٠]
قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بِهذا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٦٨) قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ (٦٩) مَتاعٌ فِي الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (٧٠)
قلت: (عندكم) : متعلق بالاستقرار، و (من سلطان) فاعل به لأن المجرور والظرف إذا نفى يرفع الفاعل بالاستقرار، و (متاع) : خبر، أي: ذلك متاع... الخ.
يقول الحق جلّ جلاله: قالُوا أي: المشركون ومن تبعهم: اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً أي: تبنّاه كالملائكة وغيرهم، سُبْحانَهُ أي: تنزيهاً له عما يقول الظالمون، فإن التبني لا يصح إلا ممن يتصور منه الولد، هُوَ الْغَنِيُّ عن كل شيء، مفتقر إليه كلُّ شيء، والولد مسبب عن الحاجة، والحق تعالى لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مُلكاً وعبيداً، فلا يفتقر إلى اتخاذ الولد، وهو الغني بالإطلاق، لا يحتاج إلى من يعينه، واجب الوجود لا يفتقر إلى من يخلفة في ملكه. إِنْ عِنْدَكُمْ أي: ما عندكم مِنْ سُلْطانٍ أي:
برهان بِهذا، بل افتريتموه من عندكم، أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ، وهو توبيخ وتقريع على اختلاقهم وجهلهم، وفيه دليل على أنَّ كل قول لا دليل عليه فهو جهالة، وأن العقائد لا بد فيها من قاطع، وأن التقليد فيها غير سائغ. قاله البيضاوي.
قلت: والتحقيق أن إيمان المقلِّد صحيح، وأن تقليد الأنبياء والرسل والكتب السماوية صحيح مكتفٍ عن الدليل.
ثم هدد أهل الشرك فقال: قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ باتخاذ الولد وإضافة الشريك إليه، لا يُفْلِحُونَ: لا ينجون من النار، ولا يفوزون بالجنة، إنما ذلك الافتراء مَتاعٌ فِي الدُّنْيا يقيمون به رئاستهم في الكفر، فيتمتعون به قليلاً، أو لهم تمتع في الدنيا مدة أعمارهم، ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ بالموت، فيلقون الشقاء المؤبد، ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ.
الإشارة: إظهار الكائنات من الغيب إلى الشهادة كلها على حد سواء في الاختراع والافتقار، ليس بعضها أقرب من بعض، وأما قوله: - عليه الصلاة والسلام-: «الخَلقُ عِيَالُ اللَّهِ وأحبُّ الخَلْقِِِ إلى اللَّهِ أَنفَعُهُم لِعِيَالِهِ» فمعناه أنهم في حفظه وكفالته مفتقرون إليه في إيصال المادة، كافتقار الولد إلى أبيه.
ثم ذكر بعض قصص الأنبياء عليهم السلام، تسلية لرسوله صلّى الله عليه وسلّم، فقال:
[سورة يونس (١٠) : الآيات ٧١ الى ٧٣]
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقامِي وَتَذْكِيرِي بِآياتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ (٧١) فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٧٢) فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْناهُمْ خَلائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (٧٣)
قلت: (وشركاءكم) : مفعول معه، أو بفعل محذوف أي: اعزموا أمركم وأجمعُوا شركاءكم ومن قرأ: «اجمَعُوا» بهمزة وصل، فشركاءكم: معطوف، و «غمة» : خفيّا، وفي الحديث: «فَإنْ غُمَّ عَلَيكُمْ فَاقدَروا له».
يقول الحق جلّ جلاله: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ أي: خبره مع قومه، قيل: اسمه عبد الغفار، وسمي نوحاً لكثرة نَوحه من هيبة ربه، إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنْ كانَ كَبُرَ أي: عَظُمَ وشقَّ عَلَيْكُمْ مَقامِي أي: كوني بين أظهركم، وإقامتي بينكم مدة مديدة أذكركم بالله، أو قيامي علّيكم لوعظكم، أو نفسى ووجودى معكم، كقولك:
فعلت كذا لمكان فلان، أي: له، أي: لو صعب عليكم وجودى بينكم، وَتَذْكِيرِي لكم بِآياتِ اللَّهِ أدعوكم بها إلى الله، فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ: وثقت به، فلا أبالي ببعدكم عني وتخويفكم إياي، فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ أي: اعزموا عليه، وَشُرَكاءَكُمْ مع شركائكم، أو وأمر شركائكم، أو أجْمِعُوا أمركم واتَّفَِقُوا عليه وأجمِعُوا شركاءكم. والمعنى: أنه أمرهم بالعزم والإجماع على قصده، والسعي في إهلاكه، على أي وجه يمكنهم لشدة ثقته بالله وعدم مبالاته بهم.
ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ في قصد إهلاكي عَلَيْكُمْ غُمَّةً: مستوراً خفيَّاً، بل اجعلوه ظاهراً مكشوفاً تتمكنون فيه، لأن من يكتم أمراً ويخفيه لا يقدر أن يفعل ما يريد، أو ثم لا يكن حالكم عليكم غمَّاً، أي: لا يلحقكم غم إذا
فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ: أعرضتم عن تذكيري، فَما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ يوجب توليكم وإعراضكم لثقله عليكم.
واتهامكم إياي لأجله، أو يفوتني إذا توليتم عني، إِنْ أَجْرِيَ: ما ثوابي على الدعوة والتذكير إِلَّا عَلَى اللَّهِ لا تعلق لي بشيء دونه، آمنتم أو توليتم، وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ المنقادين لحكمه، لا أخالف أمره، ولا أرجو غيره.
فَكَذَّبُوهُ: فأصروا على تكذبيه بعد إلزامهم الحجة، وتبين ان توليهم ليس إلا لعنادهم وتمرُّدهم فلا جرَم حقت عليهم كلمةُ العذاب، فهلكوا بالغرق، فَنَجَّيْناهُ وَمَنْ آمن مَعَهُ فِي الْفُلْكِ، وكانوا ثمانين، وَجَعَلْناهُمْ خَلائِفَ عمروا الأرض بعد الهالكين وخلفوهم فيها، ولم يُعقب منهم إلا أولاد نوح عليه السلام، وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا بالطوفان، فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ، تعظيم لما جرى عليهم، وتحذير لمن كذب الرسول، وتسلية له. والله تعالى أعلم.
الإشارة: لا يكون الرجل كامل اليقين حتى يسقط من قلبه خوف المخلوقين، فلا يبالي بهم ولو أجمعوا على كيده، إذ ليس بيدهم شيء، وإنما أمْرهم بيد الله، ويقول لهم كما قال نوح عليه السلام: (فأجمعوا أمركم وشركاءكم.)
وكما قال هود عليه السلام: فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ «١». وفي الحديث: «لو اجتَمَعَ الخَلْقُ كَلُهمْ عَلَى أَن يَضُرُّوكَ بِشَيءٍ لم يَضُرُّوكَ إلاَّ بِشَيءٍ قَدَّرَهُ الله عَلَيكَ، جَفْتِ الأقلامُ وطُويت الصّحف». وقال أيضا صلّى الله عليه وسلّم: «لا يَكمُلُ إيمَانُ العَبدِ حتَّى يَكُون الناسُ عندَه كالأباعد»، يعني: لا يهابهم ولا يراقبهم. وبالله التوفيق.
ثم ذكر ما بين نوح وموسى- عليهما السلام- من الأنبياء، على سبيل الإجمال، فقال:
[سورة يونس (١٠) : آية ٧٤]
ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ (٧٤)
كذَا الذي جُرَّ بما الموصُولُ جَر | ك «مُرَّ بالّذي مررْتُ فَهْو بَر» «١» |
الإشارة: كما بعث الله في كل أمة رسولا يُذكِّرهم ويدعوهم إلى الله، بعث الله في كل عصر وليَّاً عارفاً، يدعو الخلق إلى معرفة الله وتوحيده الخاص، فمن سبقت له العناية آمن به من غير طلب آية، ومن سبق له الخُذلان لا يصدق به ولو راى ألف برهان. وبالله التوفيق.
ثم ذكر بعثة موسى وهارون- عليهما السلام- مفصلة لما فيها من التأسى والتسلية، فقال:
[سورة يونس (١٠) : الآيات ٧٥ الى ٧٨]
ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى وَهارُونَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ بِآياتِنا فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (٧٥) فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ (٧٦) قالَ مُوسى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ أَسِحْرٌ هذا وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ (٧٧) قالُوا أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ (٧٨)
يقول الحق جلّ جلاله: ثُمَّ بَعَثْنا، من بعد هؤلاء الرسل مُوسى وَهارُونَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ بِآياتِنا التسع، فَاسْتَكْبَرُوا عن اتباعها، وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ معتادين الإجرام، فلذلك تهاونوا برسالة ربهم، واجترءوا على ردها، فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا وعرفوه، وهو بعثه موسى عليه السلام لتظاهر المعجزات على يديه، القاهرة المزيحة للشك، قالُوا من فرط تمردهم: إِنَّ هذا الذي جئت به لَسِحْرٌ مُبِينٌ: ظاهر.
قالَ لهم مُوسى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ إنه سحر، فكيف يقدر السحرة على مثله؟ أَسِحْرٌ هذا: أيتوهم أحد أن يكون هذا سحراً؟ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ أي: لو كان سحرا لا ضمحلّ، ولم يبطل سحر
قالُوا أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا لتصرفنا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا من عبادة الأصنام، وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ: الملك فيها، سمى الملك كبرياء لاتَّصاف الملوك بالتكبر، وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ: بمصدّقين.
الإشارة: السحر على قسمين: سحر يسحر القلوب إلى حضرة الرحمن، وسحر يسحرها إلى حضرة الشيطان، فالسحر الذي يسحر إلى حضرة الرَّحمن: هو ما جاءت به الأنبياء والرسل، وقامت به الأولياء بعدهم من الأمور التي تقرب إلى الحضرة، إما ما يتعلق بالظواهر، كتبيين الشرائع، وإمّا ما يتعلق بالبواطن، كتبيين الطرائق والأمور التي تُشرق بها أسرارُ الحقائق، وأما السحر الذي يسحر إلى حضرة الشيطان: فكل ما يشغل عن ذكر الرَّحمن، ولذلك قال عليه السلام: «اتَقُوا الدُّنْيَا فإنْهَا أسْحَرُ مَنْ هاروت وماروت».
ثم ذكر معارضة فرعون، فقال:
[سورة يونس (١٠) : الآيات ٧٩ الى ٨٢]
وَقالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ (٧٩) فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ (٨٠) فَلَمَّا أَلْقَوْا قالَ مُوسى ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (٨١) وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (٨٢)
قلت: (ما جئتم به) موصوله على من قرأ: «السحر» بلا استفهام، ومن قرأ بالاستفهام ف «ما» مبتدأ، و (جئتم) خبرها، و (السحر) : بدل منه، أو خبر لمحذوف، أي: أهو السحر؟ أو مبتدأ حُذف خبره، أي: السحر هو.
يقول الحق جلّ جلاله: وَقالَ فِرْعَوْنُ لما أراد معارضة موسى عليه السلام: ائْتُونِي بِكُلِّ ساحِرٍ وفى قراءة الأخوين: «سحَّار»، عَلِيمٍ: حاذق في فنه، فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ، فَلَمَّا أَلْقَوْا حبالهم وعصيهم، فانقلبت حَيَّات في أعين الناس، يركب بعضها بعضاً، قالَ لهم مُوسى ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ أي: الذي جئتم به هو السحر، لا ما سماه فرعون وقومه سحراً من معجزات العصا. وقرأ البصري: «آلسحر» أي: أيّ شىء جئتم به هو السحر هو؟ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ: سيمحقه، أو سيظهر بطلانه، إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ لا يثبته ولا يديمُه، وفيه دليل على أنَّ السحر تمويه لا حقيقة له، وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ السابقة الأزلية، أو بأوامره وقضاياه، وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ ذلك.
الإشارة: الأكوان كلها عند اهل التحقيق شعوذة سحرية، خيالية كخيال السحر الذي يظهره المشعوذ، تظهر ثم تبطن، وليس في الوجود حقيقة إلا الواحد الأحد الفرد الصمد، فهي ثابتة بإثباته، ممحوة بأحدية ذاته. وهي أيضاً
ثم ذكر من تبع موسى، فقال:
[سورة يونس (١٠) : آية ٨٣]
فَما آمَنَ لِمُوسى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (٨٣)
قلت: الضمير في «ملئهم» يعود على فرعون، وجمعه على ما هو المعتاد في ضمير العظماء، أو باعتبار آل فرعون، كما يقال: ربيعة ومُضَر، أو على الذرية، أو على «قومه»، و (ان يفتنهم) بدل من فرعون، أو مفعول بخوف، وأفرد ضمير الفاعل، فلم يقل: أن يفتنوهم للدلالة على أن الخوف من الملأ كان بسبب فرعون.
يقول الحق جلّ جلاله: فَما آمَنَ لِمُوسى أي: صدّقه في أول مبعثه إِلَّا ذُرِّيَّةٌ: إلا شباب وفتيان مِنْ قَوْمِهِ: من بني إسرائيل، آمنوا عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِمْ أي: مع خوف من فرعون وقومه، أو على خوف من فرعون وملأ بني إسرائيل لأن الأكابر من بني إسرائيل كانوا يمنعون أولادهم من الإيمان خوفاً من فرعون، وهذا أرجح. خافوا أَنْ يَفْتِنَهُمْ: يعذبهم حتى يردهم عن دينهم، وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الْأَرْضِ: لغالب فيها، وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ في الكفر والعُتُوِّ حتى ادعى الربوبية، واسترقَّ أسباط الأنبياء.
الإشارة: أهل التصديق بأهل الخصوصية قليل في كل زمان، وإيذاء المنتسبين لهم سنة جارية في كل أوان، فكل زمان له فراعين يُؤذون المنتسبين، والعاقبة للمتقين.
ثم أمرهم بالتوكل والثبات، فقال:
[سورة يونس (١٠) : الآيات ٨٤ الى ٨٦]
وَقالَ مُوسى يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (٨٤) فَقالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٨٥) وَنَجِّنا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (٨٦)
فَقالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا لأنّا مؤمنون مخلصون، رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً أي: موضع فتنة لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ أي: لا تسلطهم علينا فيفتنونا، وَنَجِّنا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ أي: من كيدهم، أو من شؤم مشاهدتهم. وفي تقديم التوكل على الدعاء تنبيه على أن الداعي ينبغي أن يتوكل أولاً لتُجاب دعوته لأنه يتسبب في نجاح أمره، ثم يدعو. والله تعالى أعلم.
الإشارة: التوكل هو ثمرة الإيمان ونتيجته، فكلما قوي الإيمان واشتدت أركانه قوي التوكل وظهرت أسراره، وكلما ضعف الإيمان ضعف التوكل، فالتَّوَغل في الأسباب نتيجة ضعف الإيمان، والتقلل منها نتيجة صحة التوكل والإيقان، والتوكل: أن تكون بما في يد الله أوثق مما في يدك. قال تعالى: مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ «١» والتوكل قد يوجد مع الأسباب، ومع التجريد أنفع، وقد تقدّم الكلام عليه في آل عمران «٢». وبالله التوفيق.
ثم أمر بنى إسرائيل باتخاذ المساجد، وجعلها فى البيوت خوفا من فرعون، فقال:
[سورة يونس (١٠) : آية ٨٧]
وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (٨٧)
يقول الحق جلّ جلاله: وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا أي: اتخذا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً للصلاة والعبادة، وقيل: أراد الإسكندرية، وهي من مصر، وَاجْعَلُوا أنتما وقومكما بُيُوتَكُمْ التي تسكنون فيها قِبْلَةً: مصلّى ومساجد. روى أن فرعون أخافهم، وهدم مواضع كانوا اتخذوها للصلاة، فأمروا بإخفائها وجعلها في بيوتهم، وتكون متوجهة نحو القبلة- يعني مكة- وكان موسى يصلي إليها.
فإن قلتَ: لِمَ خُصَّ موسى وهارون بالخطاب في قوله: أَنْ تَبَوَّءا، ثم خُوطب بها بنو إسرائيل في قوله:
وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ؟، فالجواب: أن التبوأ واتخاذ المساجد مما يتعاطاه رؤوس القوم للتشاور، بخلاف جعل البيوت قبلة فمما ينبغي أن يفعله كل أحد.
(٢) عند إشارة قوله تعالى: فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ الآية ١٥٩.
الإشارة: اتخاذ الأماكن للعبادة والعزلة مطلوب عند القوم، وفي الحِكَم: «ما نفع القلب شيء مثل عزلة يدخل بها ميدان فكرة»، وأصلهم في ذلك: اعتزاله صلّى الله عليه وسلّم في غار حراء في مبدأ الوحي، فالخلوة للمريد لا بد منها في ابتداء أمره، فإذا قوي نوره ودخل مقام الفناء صلح له حينئذٍ الخلطة مع الناس، بحيث يكون جسده مع الخلق وقلبه مع الحق، فإن لله رجالاً أشباحُهم مع الخلق تسعى، وأرواحهم في الملكوت ترعى. وقال بعضهم: [الجَسدُ في الحانوت والقلب في الملكوت]، فإذا رجع إلى البقاء لم يختَرْ حالاً على حال لأنه مع الله على كل حال، وهذا من أقوياء الرجال. نفعنا الله بهم.
ثم ذكر دعاء موسى على فرعون، فقال:
[سورة يونس (١٠) : الآيات ٨٨ الى ٨٩]
وَقالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالاً فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (٨٨) قالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما فَاسْتَقِيما وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (٨٩)
قلت: اللام في (ليُضلوا) لام كي، متعلقة بآتيت محذوفة، أو بالمذكورة، ولفظ (ربنا) تكرار، أو تكون لام الأمر، فيكون دعاء عليهم بلفظ الأمر، بما علم من قرائن أحوالهم أنه لا يكون غيره. فَلا يُؤْمِنُوا: جواب الدعاء، أو عطف على (ليضلوا).
يقول الحق جلّ جلاله: وَقالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً: ما يتزين به من الملابس والمراكب ونحوها، وَأَمْوالًا: أنواعاً من المال فِي الْحَياةِ الدُّنْيا استدراجاً، رَبَّنا آتيتهم ذلك لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ طغياناً وبطراً بها، وصرفها في غير محلها، أو ربنا اجعلهم ضالين عن سبيلك، كقول نوح عليه السلام: وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلالًا «١» لما أيس من إيمانهم، رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ أي: أهلكها وامحقها، وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ بالقسوة، واطبع عليها حتى لا تنشرح للإيمان، فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ أي: إن تطمس على أموالهم وتشدد على قلوبهم لا يؤمنوا إلا قهرا.
قالَ تعالى: قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما يعني موسى وهارون، وكان يُؤمِّن على دعاء أخيه، فَاسْتَقِيما أي: اثبتا على ما أنتما عليه من الاستقامة والدعوة وإلزام الحجة، ولا تستعجلا، فإن ما طلبتما كائن ولكن في وقته، روي أنه مكث فيهم بعد الدعاء أربعين سنة، وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ: طريق الجهلة في استعجال الأشياء قبل وقتها، أو في عدم الوثوق والاطمئنان بوعدنا، وقرأ ابن ذكوان: «ولا تتبعان» بالنون الخفيفة وكسرها لالتقاء الساكنين، وهو قليل، قال ابن مالك:
وَلم تَقَعْ خَفِيفَةٌ بَعدَ الأَلفْ «١».
ويحتمل أن تكون نون الرفع، و «لا» نافية، أي: والأمر لا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون.
الإشارة: دعاء الأولياء على الظالم مشروع بعد الإذن الإلهامي على ما يفهمونه، وقد مكث الشيخ أبو الحسن سنين لم يدع على ابن البراء «٢» حتى كان سنة في عرفة، فقال: الآن أًذن لي في الدعاء على ابن البراء.... الخ.
فإن لم يكن إذن فالصبر أوْلى، بل الأولى الدعاء له بالهداية، حتى يأخذ الله بيده وهذا مقام الصديقين، فإذا وقع الدعاء مطلقاً وتأخرت الإجابة فلا يستعجل، فيكون تبع سبيل الذين لا يعلمون، وفي الحكم: «لا يكن تأخرُ أمدِ العطاءِ مع الإلحاحِ في الدعاء موجباً ليأسك، فقد ضمن لك الإجابة فيما يختار لك لا فيما تختار أنت لنفسك، وفي الوقت الذي يريد، لا في الوقت الذي تريد»، وقال أيضاً: «لا يشككنك في الوعد عدم وقوع الموعود وإن تعين زمنه لئلا يكون ذلك قَدْحاً في بصيرتك، وإخماداً لنور سريرتك». وبالله التوفيق.
ثم أجاب دعاءهما، فقال:
[سورة يونس (١٠) : الآيات ٩٠ الى ٩٢]
وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لاَ إِلهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٩٠) آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (٩١) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ (٩٢)
(٢) هو أبو القاسم ابن البراء، قاضى تونس عند دخول الشيخ الشاذلى إليها. وقد رأى ابن البراء إقبال الناس على الشاذلى، فسعى فى الكيد له واتهامه عند السلطان بالعمل على قلب نظام الحكم. ولكن الله نجاه من كل هذه المكائد.
يقول الحق جلّ جلاله: وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ أي: جوزناهم في البحر يبساً حتى بلغوا الشط الآخر حافظين لهم. رُوِي أن بني إسرائيل حين جاوزوا البحر كانوا ستمائة ألف، وكان يعقوب عليه السلام قد دخل مصر في نيف وسبعين من ذريته، فتناسلوا حتى بلغوا وقت موسى العدد المذكور.
فَأَتْبَعَهُمْ: فأدركهم فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ، رُوي أنهم كانوا ثمانمائة ألف أدهم، سوى ما يناسبها من أواسط الخيل. تبعهم بَغْياً وَعَدْواً: باغين وعادين عليهم. مستمراً على بغيه حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ أي: بأنه لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فآمن حين لا ينفع الإيمان بمعاينة الموت، ومن قال بصحة إيمانه فغلطٌ كالحاتمي «١» فإنه قال في الفصوص: إنه من الناجين، وذلك من جملة هفواته.
قال تعالى لفرعون: آلْآنَ أي: أتؤمن الآن وقد أيست من نفسك، وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ مدة عمرك وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ: الضالين المضلين، فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ أي: ننقذك مما وقع فيه قومك من قعر البحر، ونجعلك طافياً على وجه الماء، أو نلقيك على نجوة من الأرض ليراك الناس، فيتحققوا بغرق من معك، حال كونك بِبَدَنِكَ عارياً عن الروح، أو عرياناً بلا لباس، أو بدرعك، وكانت له دُروع من ذهب يعرف بها، وكان مظاهراً بينها.
لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً: لمن وراءك علامة يعرفون أنك من الهالكين، والمراد: بنو إسرائيل إذ كان فى نفوسهم من عظمته ما خيّل إليهم أنه لا يهلك، حتى كذبوا موسى عليه السلام حين أخبرهم بغرقه، إلى أن عاينوه منطرحاً على ممرهم من الساحل، أو لمن يأتي بعدك من القرون إذا سمعوا مآل امرك، فيكون ذلك عبرة ونكالاً للطغْيان، أوْ حجة تدلهم على أن الإنسان على ما كان عليه من عظيم الشأن وكبرياء الملك مملوك مقهور، بعيد عن مظانِّ الربوبية، أو آية تدل على كمال قدرته وإحاطة علمه وحكمته، فإن إفراده بالإلقاء إلى الساحل دون غيره يفيد أنه مقصود لإزاحة الشك في أمره.
وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ لا يتفكرون فيها ولا يعتبرون بها، والإخبار بهذا الأخذ الذي وقع في قعر البحر من أعلام النبوة إذ لا يمكن أن يخبر بها إلا عَلاَّم الغيوب الذي لا يخفى عليه شيء، ولا يخلو منه مكان. والله تعالى أعلم.
والله تعالى أعلم.
ثم ذكّر بنى إسرائيل بما أنعم عليهم، فقال:
[سورة يونس (١٠) : آية ٩٣]
وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٩٣)
قلت: (مُبوَّأ) : ظرف بمعنى منزل يقول الحق جلّ جلاله: وَلَقَدْ بَوَّأْنا أي: أنزلنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ أي: منزل صدق، أي:
منزلاً صالحاً مرضياً يصدق فيه ظن قاصده وساكنه، فما ظن فيه من الكمالات وجدها صدقاً وحقاً، والمراد به: الشام وقراها، وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ من اللذائذ، وكانوا متفقين على دينهم، وعلى ظهور دين الإسلام، فَمَا اخْتَلَفُوا في أمر دينهم حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ بأن قرؤوا التوراة وعلموا أحكامها، ثم طغوا وعصوا، أو في أمر محمد صلى الله عليه وسلّم إلا من بعد ما علموا صدقه بنعوته وتظاهر معجزاته، إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ، فيميز المحقَّ من المبطل بالإنجاء والإهلاك.
الإشارة: قد يمد الله عباده بأنواع النعم، ثم يبعث لهم من يذكرهم بأيام الله، ويعرفهم به، فإذا اختلفوا عليه ظهر الشاكر من غيره، فيغير عليهم تلك النعم، فيوصل إليه أهل التصديق والاستماع والاتباع، ويبعد أهل الإنكار والابتداع. وبالله التوفيق.
ثم أمر بالسؤال لأهل العلم لمن وقعت له شبهة، فقال:
[سورة يونس (١٠) : الآيات ٩٤ الى ٩٥]
فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ (٩٤) وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ (٩٥)
وأما النبي صلى الله عليه وسلّم فهو بعيد من الشك لأنه عين اليقين، وهو الذي علَّم الناس اليقين، ولذلك قال- عليه الصلاة السلام- لما نزلت: «لا أشُكُ وَلاَ أَسأَل» «١» والمراد بالذين يقرءون الكتاب: من أسلم منهم، كعبد الله بن سلام وغيره، أو فإن كنت أيها المستمع في شك مما أنزلنا إليك على لسان فاسأل... الخ، وفيه تنبيه على أن من خالجته شبهة في الدين ينبغي أن يسارع إلى حلها، بالرجوع إلى أهل اليقين إن كانت في التوحيد، أو إلى أهل العلم إن كانت في الفروع.
قال ابن عطية: الخواطر التي لا ينجو منها أحد، هي خلاف الشك الذي يحال فيه على الاستشفاء بالسؤال. هـ.
أي: فإنها معفوّ عنها.
ثم قال تعالى: لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ واضحاً لا مدخل للمرية فيه بالآيات القاطعة فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ: الشاكِّين بالتزلزل على ما أنت عليه من الجزم واليقين، وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ، وهذا كله يجري على ما تقدم من أنه لكل سامع. وقال البيضاوي: هو من باب التهييج والتثبيت، وقطع الأطماع عنه، كقوله: فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ «٢» هـ.
الإشارة: لا تنقطع عن العبد الأوهام والشكوك والخواطر، حتى يدخل مقام الإحسان ويكاشف بمقام الشهود والعيان، بالغيبة عن حس الأكوان، بسطوع أنوار المعاني عند غيبة الأواني، ومن غاب عن حس نفسه غاب عنه حس جميع الأكوان وذلك بصحبة أهل العرفان، الذين سلكوا الطريق حتى أفضوا إلى عين التحقيق، فزاحت عنهم الشكوك والأوهام، وانحلت عنهم الشُّبَه، وزالت عن قلوبهم الأسقام، واطلعوا على تاويل المتشابه من القرآن، فبصحبة هؤلاء ترتفع الخواطر والشكوك، ويرتفع العبد إلى حضرة ملك الملوك، فجلوس ساعة مع هؤلاء تعدل عبادة سنين. وفي بعض الآثار: (تعلموا اليقينَ بمجالسةِ أهل اليقين) قلت: وقد مَنَّ الله علينا بمعرفتهم وصحبتهم، بعد أن تحققنا بخصوصيتهم، فلله الحمد وله الشكر.
ثم أخبر عمن سبق له الشقاء، فلا ينفع فيه سؤال ولا صحبة، فقال:
[سورة يونس (١٠) : الآيات ٩٦ الى ٩٧]
إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ (٩٦) وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (٩٧)
(٢) من الآية ٨٦ من سورة القصص.
الإشارة: من انتكبه التوفيق لا يصدق بأهل التحقيق، ولو رأى منهم ألف كرامة، فلا تنفك عنه الشكوك والأوهام حتى يفضي إلى شرب كأس الحِمام، فيلقى الله بقلب سقيم، وربما مات على الشك، فيلحقه العذاب الأليم، عائذاً بالله من ذلك.
ثم وبخ من فوت إيمانه عن وقته، فقال:
[سورة يونس (١٠) : آية ٩٨]
فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ (٩٨)
قلت: (فلولا) تحضيضية، و (إلا قوم يونس) : استثناء منقطع، ويجوز الاتصال فيكون الاستثناء من معنى النفي الذي تضمَّنَهُ حرف التحضيض لأن المراد بالقُرى: أهلها، كأنه قال: ما آمن أهل قرية من القرى الماضية فنفعها إيمانها إلا قوم يونس، ويؤيده قراءةُ الرفع. و «يونس» : عجمي مثلث النون.
يقول الحق جلّ جلاله: فَلَوْلا كانَتْ هلاَّ وُجدت قَرْيَةٌ من القرى التي أهلكناها آمَنَتْ قبل معاينة العذاب، ولم تؤخر الإيمان إلى نزوله كما فعل فرعون، فَنَفَعَها حينئذٍ إِيمانُها بأن يقبله الله منها فيكشف عنها العذاب، إِلَّا لكن قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا، فرفعنا عنهم العذاب حين آمنوا بعد أن ظهرت مخايله، فنجوا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ: إلى تمام آجالهم.
رُوي أن يونس عليه السلام بُعث إلى أهل نينوى من الموصل، فكذبوه وأصروا على تكذيبه، فوعدهم بالعذاب إلى ثلاث، فلما دنا الموعد وأغامت السماء غيماً أسود ذا دخان شديد فهبط حتى غشي مدينتهم، فهابوا، فطلبوا يونس فلم يجدوه فأيقنوا صدقه، فلبسوا المُسوح وبرزوا إلى الصعيد بأنفسهم ونسائهم وصبيانهم ودوابهم، وفرقوا بين كل والدة وولدها، فحن بعضها إلى بعض وعلت الأصوات والضجيج، وأخلصوا التوبة والإيمان، وتضرعوا إلى الله تعالى، فرحمهم وكشف العذاب عنهم، وكان يوم عاشوراء ويوم الجمعة. والله تعالى أعلم.
الإشارة: ينبغي للعبد أن يعتني بتربية إيمانه وتقوية إيقانه قبل فوات إبّانه، وهو انصرام أجله. وتربيته تكون بصحبة أهل اليقين، فإن لم يعثر بهم فبمطالعة كتبهم، والوقوف على أخبارهم ومناقبهم، مع دوام التفكر والاعتبار،
كما أشار إلى ذلك بقوله:
[سورة يونس (١٠) : الآيات ٩٩ الى ١٠٠]
وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٩٩) وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (١٠٠)
يقول الحق جلّ جلاله: وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ هداية الخلق كلهم لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً بحيث لا يتخلف عنه أحد، لكن حكمته اقتضت وجود الخلاف، فمن رام اتفاقهم على الإيمان فقد رام المحال، ولذلك قال: أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ بالقهر على ما لم يشأ الله منهم حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ كلهم.
قال البيضاوي: وترتيب الإكراه على المشيئة بالفاء، وإيلاؤها حرف الاستفهام الإنكاري، وتقديم الضمير على الفعل، للدلالة على أن خلاف المشيئة مستحيل، فلا يمكنه تحصيله بالإكراه فضلاً عن الحث والتحريض عليه، إذ روى أنه- عليه الصلاة السلام- كان حريصاً على إيمان قومه، شديد الاهتمام به، فنزلت، ولذلك قرره بقولة: وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ بمشيئته وألطافه وتوفيقه فلا تجهد نفسك في هداها، فإنه إلى الله تعالى. وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ: العذاب أو الخذلان فإنه سببه عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ: لا يستعملون عقولهم بالنظر في الحجج والآيات، أو لا يعقلون دلائل القرآن وأحكامه لِمَا على قلوبهم من الطبع. ويؤيد الأول قوله قُلِ انْظُرُوا... الخ. هـ.
الإشارة: في الآية تسلية لأهل التذكير حين يرون الناس لم ينفع فيهم تذكيرهم، وفيها تأديب لمن حرص على هداية الناس كلهم، أو يتمنى أن يكونوا كلهم خصوصاً، فإن هذا خلاف حكمته تعالى. قال تعالى: وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ «١» فالداعون إلى الله لا يكونون حُرصاً على الناس أبداً، بل يدعون إلى الله، ويذكرون بالله، وينظرون ما يفعل الله اقتداء بنبي الله، بعد أن علمه الله كيف يكون مع عباد الله. والله تعالى أعلم.
ثم أمر باستعمال العقل فى التفكر والاعتبار، فقال:
[سورة يونس (١٠) : الآيات ١٠١ الى ١٠٣]
قُلِ انْظُرُوا ماذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (١٠١) فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (١٠٢) ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ (١٠٣)
يقول الحق جلّ جلاله: قُلِ للمشركين الذين طلبوا منك الآية: انْظُرُوا ماذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مِن الآيات والعِبَر، وعجائب الصنع ليدلكم على وحدانية الله تعالى، وكمال قدرته، ثم بيَّن أن الآيات لا تفيد من سبق عليه الشقاء، فقال: وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ في علم الله وحُكمه، ثم هددهم بالهلاك فقال: فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ أي: مثل وقائعهم ونزول العذاب بهم إذ لا يستحقون غيره، فهو من قولهم: أيام العرب، لوقائعها.
قُلْ لهم: فَانْتَظِرُوا هلاككم إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ لذلك، أو فانتظروا هلاكي إني معكم من المنتظرين هلاككم، ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا أي: عادتنا أن ننجي رسلنا وَالَّذِينَ آمَنُوا معهم من ذلك الهلاك، كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلّم حين نُهلك المجرمين حقاً واجباً علينا كما هي عادتنا مع من تحبب إلينا بالإيمان والطاعة.
الإشارة: أمر الحق- جل جلاله- أهل النظر والاستبصار بأن ينظروا ماذا في السموات والأرض من الأسرار والأنوار، أمرهم أن يشاهدوا أسرار الذات وأنوار الصفات، دون الوقوف مع الأجرام الحسِّيات، أمرهم أن ينظروا المعاني خلف رقة الأواني، لا أن يقفوا مع الأواني، وإليه أشار ابن الفارض في خمريته، حيث قال:
ولُطفُ الأَواني- في الحقيقة- تَابعٌ | لِلُطْفِ المَعَانِي، والمَعَانِي بِها تَسْمُو |
هُم الرِّجَالُ وغَبْنٌ أنْ يُقَالَ لِمَنْ | لَمْ يَتَّصِفُ بِمَعَانِي وَصْفِهِم رَجُلُ |
ثم أمر نبيه بالتبرء من الشرك وأهله، فقال:
[سورة يونس (١٠) : الآيات ١٠٤ الى ١٠٧]
قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١٠٤) وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٠٥) وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ (١٠٦) وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (١٠٧)
قلت: (وأن اقم) : عطف على (أن أكون) وإن كان بصيغة الأمر لأنَّ الغرض وصل «أن» بما يتضمن معنى المصدر ليدل معه عليه، وصِيغ الأفعال كلها كذلك، سواء الخبر منها والطلب، والمعنى: وأمرت بالإيمان والاستقامة.
يقول الحق جلّ جلاله: قُلْ يا محمد لأهل مكة أو لجميع الناس: يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي بأن شككتم في صحته حتى عبدتم غير الله، فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ فهذا خلاصة ديني اعتقاداً وعملاً، فاعرضوها على العقل السليم، وانظروا فيها بعين الإنصاف، لتعلموا صحتها، وهو أني لا أعبد ما تخلقونه وتعبدونه، ولكن أعبد خالقكم، الذي هو يوجدكم ويتوفاكم.
وإنما خص التوفي بالذكر لأنه أليق بالتهديد، انظر البيضاوي. وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بالله وحده، الذي دل عليه العقل ونطق به الوحي.
وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً مائلاً عن الأديان الفاسدة، أي: أمرت بالاستقامة بذاتي كلها في الدين والتوغل فيه، بأداء الفرائض والانتهاء عن القبائح، أو: أن أقيم وجهي في الصلاة باستقبال القبلة. وقيل لي: وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ بالله في شيء، وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ بنفسه ولا بدَعْوَته، فَإِنْ فَعَلْتَ ودعَوْتَهُ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ، وهو تنفير وتحذير للغير من الميل إليه.
ثم بيَّن من يستحق العبادة والدعاء، وهو الله تعالى فقال: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ أي: يصيبك بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ: لا رافع له إِلَّا هُوَ أي: الله، وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ: لا دافع لِفَضْلِهِ الذي أرادك به.
يُصِيبُ بِهِ بذلك الخير مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ، فتعرّضوا لخيره بالتضرع والسؤال، ولا يمنعكم من ذلك ما اقترفتم من العصيان والزلل، فإنه غفور رحيم.
الإشارة: ينبغي لمن تمسك بطريق الخصوص، وانقطع بكليته إلى مولاه، أن يقول لمن خالفه في ذلك: إن كنتم في شك من ديني- من طريقي- فلا أعبدُ ما تعبدون من دون الله، من متابعة الهوى والحرص على الدنيا، ولكن أعبدُ الله الذي يتوفاكم، وأُمرت أن أكون من المؤمنين، وأن اقيم وجهي للدين حنيفاً مائلاً عن دينكم ودنياكم، كما قال القائل:
تَرَكتُ لِلنَّاسِ دنياهم ودِينَهُم | شُغلاً بِذِكرك يَا دِينِي ودُنيَائِي |
تَركتُ للنَّاسِ مَا تَهوَى نُفوسُهم | مِن حُبِّ دُنيا وَمِن عزِّ وَمِن جَاهِ |
كذَاكَ تَرْكُ المَقَامَاتِ هُنَا وَهُنَا | والقَصدُ غَيبَتُنَا عَمَّا سِوَى اللَّهِ. |
قال بعضهم: من اعتمد على غير الله فهو في غرور لأن الغرور ما لا يدوم، ولا يدوم شيء سواه، وهو الدائم القديم، لم يزل ولا يزال، وعطاؤه وفضله دائمان، فلا تعتمد إلا على من يدوم عليك منه الفضل والعطاء، في كل نفس وحين وأوان وزمان. هـ.
وقال وَهْبُ بن منبه: أوحى الله إلى داود عليه السلام: يا داود أما وعزتي وجلالي وعظمتي لا ينتصر بي عبد من عبادي دون خلقي، أعلم ذلك من نيته فتكيده السموات السبع ومن فيهن، والأرضون السبع ومن فيهن، إلا جعلت له منهن فرجاً ومخرجاً، أما وعزتي وجلالي لا يعتصم عبد من عبادي بمخلوق، دوني، أعلم ذلك من نيته إلا قطعت أسباب السموات من يده، وأسخطتُّ الأرض من تحته ولا أُبالي في أي وادٍ هلك. هـ.
وقال بعضهم: قرأت في بعض الكتب: إن الله عزّ وجل يقول: [وعزتي وجلالي، وجودي وكرمي، وارتفاعي فوق عرشي في عُلو مكاني، لأقطعن آمال كل مؤمّل لغيري بالإياس، ولأكسونه ثوب المذلة بين
ثم أزاح عذرهم بإرسال النذير، فقال:
[سورة يونس (١٠) : الآيات ١٠٨ الى ١٠٩]
قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (١٠٨) وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (١٠٩)
يقول الحق جلّ جلاله: قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ الرسول أو القرآن، فَمَنِ اهْتَدى بالإيمان والمتابعة فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ لأن نفعه لها، وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها لأن وبال الضلال عليها، وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ أي: موكلٌ عليكم، فأقهركم على الإيمان، وإنما أنا بشير ونذير. وهو منسوخ بآية السيف. وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ بالامتثال والتبليغ، وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بينك وبين عدوك، بالأمر بالقتال ثم بالنصر والعز، وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ إذ لا يمكن الخطأ في حكمه، لاطلاعه على السرائر كاطلاعه على الظواهر.