ﰡ
مدنية، وآيها: ثلاث وسبعون آية، وحروفها: خمسة آلاف وسبع مئة وستة وتسعون حرفًا، وكلمها ألف ومئتان وثمانون كلمة.
بِسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيِمِ
﴿يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (١)﴾.[١] رُوي أن أبا سفيان بن حرب، وعِكْرمة بن أبي جهل، وأبا الأعور بنَ سفيان السلمي قدموا المدينة، فنزلوا على عبد الله بن أُبي رأس المنافقين بعد قتال أُحد، وقد أعطاهم النبي - ﷺ - الأمان على أن يكلموه، فقام عبد الله بن سعد بن أبي السرح، وطُعمة بن أُبيرق، ومعتب بن قُشير، وجَدُّ بن قيس، فقالوا للنبي - ﷺ -، وعنده عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ارفض ذكر آلهتنا اللات والعزى ومناة، وقل: إن لها شفاعة لمن عبدها، وندعك وربَّكَ، فشق على النبي - ﷺ - قولُهم، فقال عمر: يا رسول الله! ائذن لي في قتلهم، فقال: "إني قد أعطيتُهم الأمانَ"، فقال عمر: اخرجوا في لعنة الله وغضبه، فأمر النبي - ﷺ - عمرَ أن يخرجهم من المدينة، فأنزل الله
﴿اتَّقِ اللَّهَ﴾ دُمْ على التقوى.
﴿وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ﴾ من أهل مكة؛ يعني: أبا سفيان، وعكرمة، وأبا الأعور.
﴿وَالْمُنَافِقِينَ﴾ من أهل المدينة: عبد الله بن أُبي، وعبد الله بن سعد، وطعمة، فيما يخالف شريعتك، ويعود بوهن في الدين.
﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا﴾ بما يكون قبل كونه ﴿حَكِيمًا﴾ فيما يخلق، وهذا تسلية للنبي - ﷺ -؛ أي: لا عليك منهم، ولا من إيمانهم، فالله عليم بما ينبغي لك، حكيم في هدى من يشاء، وإضلال من يشاء.
* * *
(٢) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٣٥٢ - ٣٥٦)، و "معجم القراءات القرآنية" (٥/ ١٠٩).
[٢] ﴿وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ﴾ من القرآن ﴿مِنْ رَبِّكَ﴾ واعمل به.
﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾ قرأ أبو عمرو: (يَعْمَلُون) بالغيب، يعني: الكفرة والمنافقين؛ أي: إن الله خبير بمكائدهم، فيدفعها عنك، وقرأ الباقون: بالخطاب (١)، وقوله: (كان) في هاتين الآيتين هي التي تقتضي الدوام (٢)؛ أي: كان ويكون (٣)، وليست الدالة على زمان مخصوص للمضي.
* * *
﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (٣)﴾.
[٣] ﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ﴾ ثِقْ به ﴿وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا﴾ حافظًا ورازقًا لك، والوكيل: القائم بالأمر، المغني فيه عن كل شيء.
* * *
﴿مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (٤)﴾.
[٤] ولما قال الكفار: إن لمحمد قلبين: قلب معنا، وقلب مع أصحابه، نزل:
(٢) انظر: "أسباب النزول" للواحدي (ص: ٢٠٢).
(٣) "أي: كان ويكون" زيادة من "ت".
﴿وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي﴾ جمع التي. قرأ أبو عمرو، والبزي عن ابن كثير: (اللَّايْ) بياء ساكنة بدلًا من الهمزة في الحالين، وروي عنهما تسهيل الهمزة بين بين، والوجهان صحيحان، وقرأ أبو جعفر، وورش عن نافع: بتسهيل الهمزة كذلك، وقرأ قالون عن نافع، وقنبل عن ابن كثير، ويعقوب: بتحقيق الهمزة، وحذف الياء بعدها؛ لأن الهمزة المكسورة بدل الياء، وقرأ الكوفيون، وابن عامر: بإثبات الياء ساكنة بعد الهمزة، وكلها لغات معروفة (٢)، وكذلك التعليل والاختلاف في (المجادلة)، وموضعَي (الطلاق).
﴿تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ﴾ قرأ عاصم: (تُظَاهِرُونَ) بضم التاء وتخفيف الظاء، وألف بعدها، وكسر الهاء مع تخفيفها؛ كـ (تقاتلون)، وقرأ حمزة، والكسائي، وخلف: كذلك، إلا أنهم بفتح الياء والهاء، أصله:
(٢) انظر: "التيسير" للداني (ص: ١٧٧ - ١٧٨)، و"تفسير البغوي" (٣/ ٥٣٠)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (١/ ٤٠٤)، و"معجم القراءات القرآنية" (٥/ ١٠٩ - ١١٠).
وصورة الظهار: أن يقول الرجل لامرأته: أنت عليَّ كظهر أمي؛ أي: حرام كبطن أمي؛ لقربه من الفرج، وكنِّي عنه بالظهر، لأنه قوام البنية، المعنى: ما جعل نساءكم اللاتي تقولون لهم هذا في التحريم كأمهاتكم، ولكنه منكر وزور، وفيه كفارة، وسيأتي الكلام على ذلك، وعلى الكفارة فيه، واختلاف الأئمة في حكمه في (سورة المجادلة) إن شاء الله تعالى.
وكان الرجل في الجاهلية يتبنى ولد غيره، فينسب إليه، ويتوارثان، وكان النبي - ﷺ - قد أعتق زيد بن حارثة بن شراحيل الكلبي، وتبناه قبل الوحي، وآخى بينه وبين حمزة بن عبد المطلب، فلما تزوج رسول الله - ﷺ - زينب بنت جحش، وكانت تحت زيد بن حارثة، قال المنافقون: تزوج محمد امرأة ابنه، وهو ينهى الناس عن ذلك.
فأنزل الله تعالى: ﴿وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ﴾ (٣) من تبنيتموه ﴿أَبْنَاءَكُمْ﴾ حقيقة
(٢) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٥١٩)، و "التيسير" للداني (ص: ١٧٨)، و "تفسير البغوي" (٣/ ٥٣٠)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٣٤٧)، و"معجم القراءات القرآنية" (٥/ ١١٠ - ١١١).
(٣) انظر: "أسباب النزول" للواحدي (ص: ٢٠٢).
﴿ذَلِكُمْ﴾ النسب ﴿قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ﴾ لا حقيقة له.
﴿وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ﴾ وهو أن غير الابن لا يكون ابنًا.
﴿وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ﴾ الطريق المستقيم.
* * *
﴿ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (٥)﴾.
[٥] وكان زيد يدعى بابن محمد - ﷺ -، فنزل: ﴿ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ﴾ (١) الذين ولدوهم.
﴿هُوَ﴾ أي: دعاؤهم بآبائهم ﴿أَقْسَطُ﴾ أعدل ﴿عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ﴾ فتنسبوهم إليهم، ﴿فَإِخْوَانُكُمْ﴾ أي: فهم إخوانكم ﴿فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ﴾ أولياؤكم، المعنى: إذا جهل نسبه، يقول: يا أخي! يا مولاي! يريد: الأخوة في الدين، والولاية فيه.
﴿وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ﴾ والخطأ هنا بمعنى: النسيان.
﴿وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ يريد: لما مضى من فعلهم في ذلك، ثم هي صفتان لله تعالى تَطَّرِد في كل شيء.
* * *
﴿النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (٦)﴾.
[٦] ﴿النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾ في كل شيء من أمر الدين والدنيا، فيحكم فيهم بما يشاء. قرأ نافع: (النَّبِيءُ أَوْلَى) بالمد والهمز في (النَّبِيء)، وإبدال الهمز الثاني واوًا محضة مفتوحة (٢).
﴿وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ﴾ أي: كأمهاتكم في وجوب تعظيمهن، وتحريم
(٢) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٣٥٣)، و"معجم القراءات القرآنية" (٥/ ١١٢).
﴿وَأُولُو الْأَرْحَامِ﴾ وذوو القرابات ﴿بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ﴾ في التوارث.
﴿فِي كِتَابِ اللَّهِ﴾ في اللوح المحفوظ.
﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ﴾ يعني: ذوي القرابات بعضهم أولى بميراث بعض من أن يرثوا بالإيمان والهجرة، وكان في صدر الإسلام يتوارثون بالهجرة والمؤاخاة، فنسخ بهذه الآية، وصارت بالقرابة، وتقدم حكم ميراث ذوي الأرحام واختلاف الأئمة فيه آخر سورة الأنفال.
﴿إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا﴾ استثناء منقطع؛ أي: لكن فعلكم ﴿إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ﴾ الذين يتولونكم من المعاقدين ﴿مَعْرُوفًا﴾ بالوصية جائزٌ.
﴿كَانَ ذَلِكَ﴾ يعني: نسخ الميراث بالهجرة، ورده إلى ذوي الأرحام.
﴿فِي الْكِتَابِ﴾ أي: اللوح المحفوظ ﴿مَسْطُورًا﴾ مكتوبًا.
* * *
[٧] ﴿وَإِذْ﴾ أي: واذكر إذ ﴿أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ﴾ حين استُلُّوا من نسل (١) آدم مثل الذر ﴿مِيثَاقَهُمْ﴾ عهودهم بتبليغ الرسالة، وأن يصدق بعضهم بعضًا، وخُصَّ محمد مع جماعة منهم بالذكر (٢)؛ لأنهم أصل الشرائع صلوات الله عليهم أجمعين، وكان محمد - ﷺ - أول الأنبياء في الخلق، وآخرهم في البعث، فلذلك قدم هنا تشريفًا له، فقال:
﴿وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ﴾ فهؤلاء هم أولو العزم من الرسل.
﴿وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا﴾ عظيم الشأن على الوفاء بما حملوا.
* * *
﴿لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (٨)﴾.
[٨] ﴿لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ﴾ أي: فعلنا ذلك ليسأل الله الأنبياء الذين صدقوا عن الوفاء بميثاقهم في إبلاع الرسالة، والحكمة في سؤالهم، مع علمه أنهم صادقون، تبكيتُ من أُرسلوا إليهم، وإثبات الحجة عليهم، ويعطف على ﴿أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ﴾.
﴿وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ﴾ بالرسل ﴿عَذَابًا أَلِيمًا﴾ المعنى: أن الله أكد على الأنبياء الدعوة إلى دينه؛ لأجل إثابة المؤمنين، وأعد للكافرين عذابًا أليمًا.
(٢) "بالذكر" زيادة من "ت".
[٩] ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ﴾ وذلك حين حوصر المسلمون مع رسول الله - ﷺ - يوم الخندق.
﴿إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ﴾ هم الأحزاب، وكان ذلك في شوال من السنة الخامسة من الهجرة، وسببها أن نفرًا من اليهود حَزَّبوا الأحزابَ على رسول الله - ﷺ -، وقدموا على قريش بمكة يدعونهم إلى حربه؛ لأن رسول الله - ﷺ - أجلى بني النضير من ديارهم، فلما علم رسول الله - ﷺ - بذلك (١)، أمر بحفر الخندق حول المدينة برأي سلمان الفارسي يحول بين المؤمنين (٢) والكفار، وعمل فيه بنفسه، وفرغ من الخندق، وأقبلت قريش ومن تبعهم من بني قريظة، مقدَّمُهم أبو سفيان، وكانوا عشرة آلاف نزلوا قريبًا من الغابة، والنبي - ﷺ - في ثلاثة آلاف، واشتد البلاء حتى ظن المؤمنون كل الظن، وأقام رسول الله - ﷺ - والمشركون بضعًا وعشرين ليلة، لم يكن بين القوم حرب إلا الرمي بالحصا والنبال.
﴿فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا﴾ ليلًا، وهي الصبا، فأطفأت النيران، وأكفأت القدور، قال - ﷺ -: "نُصِرْت بالصَّبا، وأُهلكت عاد بالدَّبور" (٣).
(٢) في "ت": "المسلمين".
(٣) رواه البخاري (٩٨٨)، كتاب: الاستسقاء، باب: قول النبي - ﷺ -: "نصرت بالصبا"، ومسلم (٩٠٠)، كتاب: صلاة العيدين، باب: في ريح الصبا والدبور، عن ابن عباس -رضي الله عنهما-.
﴿وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا﴾ قرأ أبو عمرو: (يَعْمَلُونَ) بالغيب؛ أي: بما يعمل المشركون من التحزب والمحاربة، وقرأ الباقون: بالخطاب (٢)؛ أي: بما تعملون من حفر الخندق.
* * *
﴿إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (١٠)﴾.
[١٠] ﴿إِذْ جَاءُوكُمْ﴾ بدل من (إِذْ جَاءَتكمْ) ﴿مِنْ فَوْقِكُمْ﴾ من أعلى الوادي من قبل المشرق: بنو غطفان ﴿وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ﴾ من بطن الوادي من قبل المغرب: قريش.
﴿وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ﴾ مالت حيرة وشخوصًا من الرعب.
﴿وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ﴾ جمع حنجرة، وهي منتهى الحلقوم.
(٢) انظر: "التيسير" للداني (ص: ١٧٧)، و"تفسر البغوي" (٣/ ٥٤٤)، و"معجم القراءات القرآنية" (٥/ ١٠٩).
* * *
﴿هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا (١١)﴾.
[١١] ﴿هُنَالِكَ﴾ أي: ثَمَّ ﴿ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ﴾ اختُبروا بالحصر والقتال؛ ليتبين المخلص من المنافق ﴿وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا﴾ حُرِّكوا حركة شديدة من شدة الفزع.
* * *
﴿وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا (١٢)﴾.
[١٢] ﴿وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ﴾ معتب بن قشير وأصحابه.
* * *
﴿وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَاأَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا (١٣)﴾.
[١٣] ﴿وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ﴾ أي: من المنافقين، وهم أوس بن قيطي وأصحابه: ﴿يَاأَهْلَ يَثْرِبَ﴾ اسم أرض، والمدينةُ في ناحية منها.
﴿لَا مُقَامَ لَكُمْ﴾ قرأ حفص عن عاصم: (مُقَامَ) بضم الميم؛ أي: لا إقامة لكم. وقرأ الباقون: بالفتح (١)؛ أي: لا مكان لكم تنزلون وتقيمون فيه.
﴿فَارْجِعُوا﴾ أمروهم بالهروب من عسكر رسول الله - ﷺ -.
﴿وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ﴾ هم بنو سلمة وبنو حارثة.
﴿يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ﴾ أي: خالية ضائعة غير حصينة، وهي مما تلي العدو، ويخشى عليها السراق، فكذبهم الله تعالى بقوله: ﴿وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ﴾ بل هي حصينة.
﴿إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا﴾ من القتال.
* * *
[١٤] ﴿وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ﴾ أي: المدينة ﴿مِنْ أَقْطَارِهَا﴾ نواحيها، المعنى: لو دخل الأحزاب المدينة من جوانبها.
﴿ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ﴾ الردة إلى الكفر ومقاتلة المسلمين.
﴿لَآتَوْهَا﴾ قرأ نافع، وأبو جعفر، وابن كثير: (لأَتَوْهَا) بقصر الهمزة؛ أي: لجاؤوها وقبلوها، وقرأ الباقون: بالمد (١)؛ أي: لأعطوها السائلين.
﴿وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا﴾ أي: ما احتبسوا عن الفتنة ﴿إِلَّا يَسِيرًا﴾ ولأسرعوا الإجابة إلى الشرك طيبةً به أنفسُهم، وقيل: وما لبثوا بالمدينة بعد الارتداد إلا قليلًا حتى هلكوا.
وحَدُّ حرم المدينة: ما بين ثَوْر إلى عَيْر، وهما جبلان، فثور جبل صغير إلى الحمرة بتدوير خلف أُحد من جهة الشمال، وغير مشهور بها، وقدر الحرم: بريد ببريد، وقد ورد في الحديث: "اللهم إني أُحَرِّمُ ما بين لابَتَيْها" (٢)، وفي رواية: "ما بينَ جَبَلَيها" (٣)، وفي رواية: "ما بين
(٢) رواه البخاري (٥١٠٩)، كتاب: الأطعمة، باب: الحيس، ومسلم (١٣٦٥) (٢/ ٩٩٣)، كتاب: الحج، باب: فضل المدينة، عن أنس بن مالك -رضي الله عنه-.
(٣) رواه مسلم (١٣٧٤)، كتاب: الحج، باب: الترغيب في سكنى المدينة، عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه-.
* * *
﴿وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا (١٥)﴾.
[١٥] ﴿وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ﴾ هم بنو حارثة، هموا يوم أُحد أن يفشلوا مع بني سلمة، فلما نزل فيهم ما نزل، عاهدوا الله من قبل حفر الخندق.
﴿لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ﴾ منهزمين، فوقع يوم الخندق من بني حارثة هذا الاستئذان.
﴿وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا﴾ عنه، وهذا توعُّد.
[١٦] ﴿قُلْ﴾ لهم: ﴿لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ﴾ لأي من حضر أجلُه، مات أو قتل ﴿وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ﴾ بعد هذا الفرار.
﴿إِلَّا قَلِيلًا﴾ أي: إلا مدة آجالكم، وهي قليل.
* * *
﴿قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (١٧)﴾.
[١٧] ﴿قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ﴾ أي: يمنعكم منه.
﴿إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا﴾ هزيمة ﴿أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً﴾ نصرة.
﴿وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا﴾ قريبًا ينفعهم.
﴿وَلَا نَصِيرًا﴾ ناصرًا يمنعهم.
* * *
﴿قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا (١٨)﴾.
[١٨] ﴿قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ﴾ أي: المثبطين الناسَ عن رسول الله - ﷺ -.
﴿وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا﴾ أي: أقبلوا إلينا، ودعوا محمدًا وأصحابه، نزلت في أخوين كان أحدهما مؤمنًا، والآخر منافقًا ﴿وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ﴾ لا يحضرون الحرب ﴿إِلَّا قَلِيلًا﴾ رياء من غير احتساب.
[١٩] ﴿أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ﴾ بُخلاءَ بالنفقة في سبيل الله ﴿فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ﴾ في تلك الحالة.
﴿تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ﴾ في الرؤوس؛ من الخوف والجبن.
﴿كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ﴾ لأن من قرب من الموت، وغشيه أسبابه، يذهب عقله، ويشخص بصره فلا يَطْرِف.
﴿فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ﴾ آذوكم ﴿بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ﴾ سليطة.
﴿أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ﴾ أي: عند الغنيمة يشاحون المؤمنين، ويقولون: أعطونا؛ فإنا شهدنا معكم القتال، فلستم أحقَّ بالغنيمة منا، وعند البأس هم أجبن قوم.
﴿أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا﴾ صدقًا ﴿فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ﴾ أبطل جهادهم؛ لنفاقهم.
﴿وَكَانَ ذَلِكَ﴾ أي: الإحباط ﴿عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا﴾ هينًا.
* * *
﴿يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا (٢٠)﴾.
[٢٠] ﴿يَحْسَبُونَ﴾ أي: المنافقون ﴿الْأَحْزَابَ﴾ الطوائفَ المختلفة.
﴿وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ﴾ كرة ثانية ﴿يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ﴾ يتمنوا لو كانوا في بادية مع الأعراب؛ من الخوف والجبن.
﴿يَسْأَلُونَ﴾ قرأ رويس عن يعقوب: (يَسَّاءَلُونَ) بتشديد السين وفتحها وألف بعدها؛ أي: يتساءلون، وقرأ الباقون: بإسكانها من غير ألف (١) ﴿عَنْ أَنْبَائِكُمْ﴾ يتعرفون أحوالكم.
﴿وَلَوْ كَانُوا﴾ يعني: هؤلاء المنافقين ﴿فِيكُمْ﴾ في الخندق.
﴿مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا﴾ رياءً؛ رميًا بالحجارة والنبال يقيمون به عذرهم.
* * *
﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (٢١)﴾.
[٢١] ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ﴾ أيها المخلفون ﴿فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾ قدوة صالحة؛ لأنه يقتدى به. قرأ عاصم: (أُسْوَةٌ) بضم الهمزة، والباقون: بكسرها، وهما لغتان (٢).
﴿لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ﴾ أي: ثوابه ﴿وَالْيَوْمَ الْآخِرَ﴾ ونعيم الآخرة.
﴿وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾ في جميع أوقاته وأحواله.
(٢) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٥٢١)، و"التيسير" للداني (ص: ١٧٨)، و"تفسير البغوي" (٣/ ٥٤٨)، و"معجم القراءات القرآنية" (٥/ ١١٨).
[٢٢] ﴿وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ﴾ واجتماعهم عليهم، ثم رأوا زلزلتهم وخوفهم ورحيلهم منهزمين. واختلاف القراء في (وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ) كاختلافهم في (وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ) في سورة (الكهف) [الآية: ٥٣] ﴿قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ﴾ من النصر، وهو قوله تعالى في البقرة: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (٢١٤)﴾ [الآية: ٢١٤]، فالآية تتضمن أن المؤمنين يلحقهم مثلُ ذلك البلاء، فلما رأوا ما أصاب الأحزابَ من الشدة، قالوا: هذا ما وعدنا الله ورسوله.
﴿وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ﴾ الخوف عند مجيء الأحزاب.
﴿إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا﴾ لأمر الله.
* * *
﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (٢٣)﴾.
[٢٣] ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ﴾ من الثبات مع رسول الله - ﷺ -.
﴿فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ﴾ نَذْرَه (١)؛ بأن قاتل حتى استُشهد؛ كحمزة، ومصعب بن عمير، وأنس بن النضر، والنحب: النذر، واستعير للموت،
﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ﴾ الشهادةَ؛ كعثمان وطلحة، قال رسول الله: - ﷺ - "من أحبَّ أن ينظرَ إلى رجل يمشي على وجه الأرض قد قضى نحبَهُ، فلينظُرْ إلى هذا" يشير إلى طلحة (١)؛ لأنه وقى النبي - ﷺ - بيده، فصارت شلاء.
﴿وَمَا بَدَّلُوا﴾ عهدهم (٢) ﴿تَبْدِيلًا﴾ شيئًا من التبديل.
* * *
﴿لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (٢٤)﴾.
[٢٤] ثم ذكر تعالى جزاء الفريقين فقال: ﴿لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ﴾ بجزاء وفائهم بالعهد، واللام في (لِيَجْزِيَ) لام الصيرورة والعاقبة، ويحتمل أن تكون لام كي.
﴿وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ﴾ بأن يدعهم على النفاق ﴿إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ﴾ فيهديهم إلى الإيمان. واختلاف القراء في الهمزتين من (إِنْ شَاءَ أَوْ) كاختلافهم فيهما من قوله ﴿وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ﴾ في سورة الحج [الآية: ٦٥].
﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا﴾.
* * *
(٢) "عهدهم" زيادة من "ت".
[٢٥] ﴿وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ من قريش وغطفان ﴿بِغَيْظِهِمْ﴾ لم تُشف صدورُهم بنيل ما أرادوا ﴿لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا﴾ ظَفَرًا ﴿وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ﴾ بالملائكة والريح.
﴿وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا﴾ يقهر أعداءه ﴿عَزِيزًا﴾ ينصر أولياءه.
* * *
﴿وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا (٢٦)﴾.
[٢٦] ثم بعد ذهاب الأحزاب إلى بلادهم، رجع رسول الله - ﷺ - إلى المدينة بأصحابه، فجاءه جبريل -عليه السلام-، وقال: "وضعتم السلاح؟ إن الملائكة لم تضع أسلحتها منذ أربعين ليلة، إن الله يأمرك بالمسير إلى قريظة، وإني مزلزلٌ حصونَهم"، فأمر رسول الله - ﷺ - مناديًا، فأذن: "أن من كان سامعًا مطيعًا، فلا يصلينَّ العصرَ إلا في بني قريظة"، وأعطى رايته عليًّا، فسار بالناس حتى دنا من الحصن، فحاصرهم - ﷺ - خمسًا وعشرين ليلة حتى أجهدهم الحصار، فقالوا لأبي لبابة: أننزل على حكم محمد؟ فقال: نعم، وأشار بيده إلى حلقه أنه الذبح، وتقدم خبر أبي لبابة في سورة الأنفال، فطلب بنو قريظة من النبي - ﷺ - أن ينزلوا على حكم سعد بن معاذ، فأرسل رسول الله - ﷺ - في طلبه، فجاء راكبَ حمارٍ، وكان رجلًا جسيمًا، فقال - ﷺ -: "قوموا إلى سيدكم"، فأنزلوه، فنزل، فقالوا: يا أبا عمرو! إن
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه-: أن رسول الله - ﷺ - كان يقول: "لا إله إلا الله وحدَه، أعزَّ جنده، ونصر عبده، وغلب الأحزابَ وحده، ولا شيء بعده" (٢)، وكانت هذه الغزوة في ذي القعدة سنة خمس من الهجرة الشريفة، فأنزل الله تعالى في قصة بني قريظة:
(٢) رواه البخاري (٣٨٨٨)، كتاب: المغازي، باب: غزوة الخندق، ومسلم (٢٧٢٤)، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب: التعوذ من شر ما عمل ومن شر ما لم يعمل.
﴿وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ﴾ يعني: بني قريظة ﴿الرُّعْبَ﴾ قرأ ابن عامر، والكسائي، وأبو جعفر، ويعقوب: (الرُّعُبَ) بضم العين، والباقون: بإسكانها (٢).
﴿فَرِيقًا تَقْتُلُونَ﴾ منهم، وهم الرجال.
﴿وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا﴾ منهم، وهم النساء والذراري.
* * *
﴿وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (٢٧)﴾.
[٢٧] ﴿وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا﴾ هي كل أرض تفتح إلى يوم القيامة. قرأ أبو جعفر: (تَطَوْها) بإسكان الواو بغير همز، والباقون: بالهمز (٣).
﴿وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا﴾.
(٢) انظر: "التيسير" للداني (ص: ٩١)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢١٦)، و"معجم القراءات القرآنية" (٥/ ١٢٠).
(٣) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (١/ ٣٩٧)، و"معجم القراءات القرآنية" (٥/ ١٢١).
[٢٨] كان للنبي - ﷺ - تسع نسوة، فآذينه، وسألنه زيادة نفقة، وتغايرن، فغمَّه ذلك، فصعد إلى غرفة له، فمكث فيها ولم يخرج إلى أصحابه، فنزل قوله تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ﴾ (١) أمر وجوب في تخييرهن، وهو من خصائصه - ﷺ - ﴿إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ﴾ أي: أجبن إلى ما أعرضُ عليكن، ولم يرد حقيقة الإقبال والمجيء ﴿أُمَتِّعْكُنَّ﴾ أعطيكنَّ متعة الطلاق ﴿وَأُسَرِّحْكُنَّ﴾ أصل التسريح: الإرسال؛ كالطلاق.
وتقدم اختلاف الأئمة فيه في سورة البقرة، وملخصه: أن صريح اللفظ الذي يقع به الطلاق من غير نية عند مالك والشافعي ثلاثة: الطلاق، والفراق، والسَّراح، وعند أبي حنيفة وأحمد: هو لفظ الطلاق ﴿سَرَاحًا جَمِيلًا﴾ طلاقًا للسنة.
واتفق الأئمة على أن السنة في الطلاق أن يطلقها واحدة في طُهر لم يصبها فيه، ثم يدعها حتى تنقضي عدتها، وإن طلق المدخول بها في حيضها أو طهر أصابها فيها، وهي ممن تحبل، فهو طلاق بدعة محرم، ويقع بالاتفاق، وجَمْعُ الثلاث بدعة عند أبي حنيفة ومالك، وقال أحمد: هو محرم؛ خلافًا للشافعي، ويقع بلا خلاف بينهم.
* * *
[٢٩] ﴿وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ و (مِنْ) للتبيين (١)؛ لأنهن كلهن كنَّ محسنات، فأخبر بذلك عائشة -رضي الله عنها-، فاختارت رسول الله، ثم اختارت الباقياتُ الصالحاتُ اختيارها.
واختلف الأئمة فيما إذا قال الزوج لامرأته: اختاري نفسك، فاختارت، فقال أبو حنيفة: تطلق واحدة بائنة، وقال مالك: إذا أطلق التخيير، ولم يقيده بعدد مخصوص، فإنها تطلق ثلاثًا، وقال الشافعي وأحمد: تطلق واحدة يملك فيها الرجعة، وإذا قامت من مجلسها قبل أن تختار نفسها، انقطع التخيير باتفاقهم.
واختلفوا فيما إذا قال: أمرُك بيدك، فقال أبو حنيفة: إذا قال: أمرك بيدك في تطليقة، فاختارت نفسها، يقع طلقة رجعية، وإن نوى الثلاث، صح، فلو قالت: اخترت واحدة، فهي ثلاث، وهو كالتخيير يتوقف على المجلس، قال مالك: إن طلقت نفسها ثلاثًا، فناكرها، وذكر أنه قصد بالتمليك طلقة واحدة، فقوله مع يمينه، وإن لم يكن له نية، فلها أن توقع ما شاءت من عدد الطلاق، ولا مناكرة له عليها، فإن مكنته من نفسها، فوطئها أو باشرها، سقط تمليكها، ولها أن تمنع نفسها لتنظر في أمرها، فإذا أبطأت على زوجها، ومنعته نفسها، ولم توقع طلاقًا، كان له
* * *
﴿يَانِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (٣٠)﴾.
[٣٠] ﴿يَانِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ﴾ معصيةٍ ظاهرةٍ؛ من نشوز، وسوء خلق. قرأ ابن كثير، وأبو بكر عن عاصم: (مُبَيَّنَةٍ) بفتح الياء، والباقون: بكسرها (١).
﴿يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ﴾ قرأ ابن كثير، وابن عامر: (نُضَعِّفْ) بالنون وتشديد العين وكسرها من غير ألف قبلها، ونصب (العذابَ)، وقرأ أبو جعفر، وأبو عمرو، ويعقوب: (يُضعَّفْ) بالياء وتشديد العين وفتحها
﴿ضِعْفَيْنِ﴾ مثلين ﴿وَكَانَ ذَلِكَ﴾ أي: عذابُها ﴿عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا﴾ هينًا، وتضعيف عقوبتهن على المعصية؛ لشرفهن؛ كتضعيف عقوبة الحرة على الأمة، وتضعيف ثوابهن؛ لترفع منزلتهن، وفيه إشارة إلى أنهن أشرف نساء العالمين.
* * *
﴿وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا (٣١)﴾.
[٣١] ﴿وَمَنْ يَقْنُتْ﴾ يطع ﴿مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ قرأ يعقوب: (مَنْ تَأتِ مِنْكُنَّ) (وَمَنْ تَقْنُتْ) بالتاء على التأنيث فيهما، وقرأ الباقون: بالياء على التذكير (٢)؛ لأن (مَنْ) أداة تقوم مقام الاسم، يعبر به عن الواحد والجمع، والمذكر والمؤنث.
﴿وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا﴾ نعطِها ﴿أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ﴾ أي: مثلَي أجر غيرها.
قرأ حمزة، والكسائي، وخلف: (وَيَعْمَلْ) (يُؤْتهَا) بالياء فيهما نسقًا على
(٢) انظر: "تفسير البغوي" (٣/ ٥٦٠)، و"المحتسب" لابن جني (٢/ ٢٧٩)، و"معجم القراءات القرآنية" (٥/ ١٢١ - ١٢٢)، والقراءة المشهورة عن يعقوب كقراءة الجمهور.
﴿وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا﴾ واسعًا في الجنة.
* * *
﴿يَانِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا (٣٢)﴾.
[٣٢] ﴿يَانِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ﴾ أي: ليس قدرُكن عندي مثلَ قدرِ غيرِكن من النساء الصالحات، أنتن أكرمُ عليَّ، وثوابكن أعظمُ لديَّ، ولم يقل: كواحدة؛ لأن الأحد عام يصلح للواحد والاثنين، والجمع، والمذكر والمؤنث ﴿إِنِ اتَّقَيْتُنَّ﴾ أي: إن أردتن أن تكنَّ متقيات.
﴿فَلَا تَخْضَعْنَ﴾ تَلِنَّ ﴿بِالْقَوْلِ﴾ للرجال، ولا تُرققن الكلام. واختلاف القراء في الهمزتين من (النِّسَاءِ إِنِ) كاختلافهم فيهما من (الْبِغَاءِ إِنْ) في سورة النور [الآية: ٣٣].
﴿فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ﴾ ريبة، والمرأة مندوبة إلى الغلظة في المقالة إذا خاطبت الأجانب؛ لقطع الأطماع.
﴿وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا﴾ أي: بعيدًا من طمع المريب.
* * *
[٣٣] ﴿وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ﴾ قرأ نافع، وأبو جعفر، وعاصم: (وَقَرْنَ) بفتح القاف من القرار؛ أي: الزمْنَ بيوتَكن، وقرأ الباقون: بالكسر؛ من الوقار؛ أي: كُنَّ أهلَ وقار وسكون، قرأ أبو جعفر، وأبو عمرو، ويعقوب، وورش، وحفص بُيُوتَكُنَّ: بضم الباء، والباقون: بكسرها (١).
﴿وَلَا تَبَرَّجْنَ﴾ تُبْرِزْنَ محاسنكن للرجال ﴿تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى﴾ الذين كانوا بين آدم ونوح، والأخرى: بين عيسى ومحمد - ﷺ -، وقيل غير ذلك. قرأ البزي عن ابن كثير: (وَلاَ تَّبَرَّجْنَ) بتشديد التاء (٢).
﴿وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾ في أمره ونهيه.
﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ﴾ الإثم ﴿أَهْلَ الْبَيْتِ﴾ نصب نداء، والمراد: زوجات النبي - ﷺ -، وقال: (عَنْكُمْ)، ولم يقل: عنكن؛ لأنه - ﷺ - كان بينهن، فغُلِّبَ.
﴿وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾ من الرجس.
وعن أم سلمة -رضي الله عنها- قالت: "في بيتي أُنزلت: {إِنَّمَا يُرِيدُ
(٢) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٣٥٥)، و"معجم القراءات القرآنية" (٥/ ١٢٤).
* * *
﴿وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا (٣٤)﴾.
[٣٤] ﴿وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ﴾ القرآن.
﴿وَالْحِكْمَةِ﴾ السنة. تقدم اختلاف القراء في كسر الباء وضمها من (بيوتكن).
﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا﴾ بأوليائه ﴿خَبِيرًا﴾ بجميع خلقه.
* * *
﴿إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (٣٥)﴾.
﴿وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ﴾ العابدين المطيعين لله في الفرض، وللرسول في السنة ﴿وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ﴾ فيما عوهدوا عليه أن يفوا به ويكملوه ﴿وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ﴾ عن الشهوات، وعلى الطاعات والرزايا ﴿وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ﴾ الخائفين لله، المستكينين لربوبيته الوقورين ﴿وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ﴾ بالفرض والنفل، وهما الزكاة وصدقة التطوع ﴿وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ﴾ كذلك في الفرض والنفل.
﴿وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ﴾ من الزنا وشبهه.
﴿وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ﴾ بقلوبهم وألسنتهم، قال - ﷺ -: "من استيقظَ من الليل، وأيقظ امرأته، فصليا جميعًا ركعتين، كُتبا من الذاكرين الله كثيرًا والذاكرات" (٢).
﴿أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ﴾ لجميع المؤمنين ﴿مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا﴾ على طاعتهم.
(٢) رواه أبو داود (١٤٥١)، كتاب: الصلاة، باب: الحث على قيام الليل، والنسائي في "السنن الكبرى" (١٣١٠)، وابن ماجه (١٣٣٥)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء فيمن أيقظ أهله من الليل، وابن حبان في "صحيحه" (٢٥٦٨)، والحاكم في "المستدرك" (١١٨٩)، عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة -رضي الله عنهما-.
[٣٦] ونزل في امتناع زينب وأخيها من تزويج زيد بن حارثة بعد أن خطبها رسول الله - ﷺ - له ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ﴾ (١) لعبد الله بن جحش.
﴿وَلَا مُؤْمِنَةٍ﴾ زينب.
﴿إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا﴾ هو خطبتها لزيد ﴿أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ﴾ أي: الاختيار ﴿مِنْ أَمْرِهِمْ﴾ المعنى: لا يجوز لأحد أن يريد إلا ما أراد الله ورسوله. قرأ الكوفيون، وهشام عن ابن عامر: (أَنْ يَكُونَ) بالياء على التذكير؛ للحائل بين التأنيث والفعل، وقرأ الباقون: بالتاء؛ لتأنيث الخيرة (٢).
﴿وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا﴾ أخطأ خطأً ظاهرًا.
* * *
﴿وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (٣٧)﴾.
[٣٧] فرضيت زينب وأخوها، وتزوجت بزيد، وبقيت معه مدة، ثم
(٢) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٥٢٢)، و"التيسير" للداني (ص: ١٧٩)، و "تفسير البغوي" (٣/ ٥٦٥)، و"معجم القراءات القرآنية" (٥/ ١٢٥).
﴿وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ﴾ (١) بالإسلام ﴿وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ﴾ بالعتق: ﴿أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ﴾ لا تفارقها، نهي تنزيه. قرأ أبو عمرو، وهشام، وحمزة، والكسائي، وخلف: (وَإِذ تَّقُولُ) بإدغام الذال في التاء، والباقون: بالإظهار (٢).
﴿وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ﴾ ما علمته، وهو ﴿مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ﴾ أي: مظهره، وهو أنه تعالى كان قد أعلمه - ﷺ - أن زينب ستصير زوجة له.
﴿وَتَخْشَى النَّاسَ﴾ أي: اليهود أن يقولوا: تزوجَ امرأةَ ابنه.
﴿وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ﴾ فلا تفعلْ مثل ذلك، وهذا عتاب شديد، قال عمر، وابن مسعود، وعائشة: "ما نزلت على رسول الله - ﷺ - آية هي أشدُّ عليه من هذه الآية" (٣)، وعن عائشة: "لو كتم نبيُّ الله شيئًا مما أنزل عليه، لكتم هذه الآية" (٤)، فطلقها زيد، فلما انقضت عدتها، قال لزيد: "اذهبْ
(٢) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: ٣٢٥)، و"معجم القراءات القرآنية" (٥/ ١٢٦).
(٣) انظر: "عمدة القاري" للعيني (١٩/ ١١٩).
(٤) رواه مسلم (١٧٧)، كتاب: الإيمان، باب: معنى قوله الله عز وجل: ﴿وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى﴾. ورواه البخاري (٦٩٨٤)، كتاب: التوحيد، باب: ﴿وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ﴾، لكن عن أنس بن مالك -رضي الله عنه-.
فنزل: ﴿فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا﴾ (١) أربًا، ولم يذكر أحد من الصحابة في القرآن باسمه سوى زيد في هذا المحل -رضي الله عنه- ﴿زَوَّجْنَاكَهَا﴾ فدخل - ﷺ - عليها بغير إذن، ولا عقد نكاح، ولا صَداق، ولا شهود، وأطعم الناس خبزًا ولحمًا، المعنى: فعلنا ذلك.
﴿لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ﴾ إثم ﴿فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ﴾ وهم الذين تبنوهم ﴿إِذَا قَضَوْا﴾ أي: الأدعياء ﴿مِنْهُنَّ وَطَرًا﴾ تلخيصه: فعل ذلك ليعلم أن نكاح زوجة المتبنَّى حلال؛ بخلاف زوجة الابن.
﴿وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا﴾ مكونًا لا محالة، قال أنس: "كانت زينب تفتخر على أزواج النبي - ﷺ - وتقول: زوجكن أهاليكن، وزوجني الله من فوق سبع سموات" (٢).
* * *
﴿مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا (٣٨)﴾.
[٣٨] ﴿مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ﴾ أي: أحله له ﴿سُنَّةَ اللَّهِ﴾ نصب مصدر ﴿فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ﴾ هم الأنبياء عليهم السلام،
(٢) رواه البخاري (٣٤٣٠)، كتاب: المناقب، باب: علامات النبوة في الإسلام، عن أبي بكرة -رضي الله عنه-.
﴿وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا﴾ قضاءً مقضيًّا.
* * *
﴿الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (٣٩)﴾.
[٣٩] ﴿الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ﴾ هم الأنبياء، أثنى الله عليهم؛ يعني: سنة الله في الأنبياء الذين يبلغون رسالات الله ﴿وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ﴾ أي: يفعلون ما يؤمرون، ولا يخافون لائمة أحد.
﴿وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا﴾ كافيًا للمخاوف.
* * *
﴿مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (٤٠)﴾.
[٤٠] ولما قيل: إن محمدًا تزوج امرأة ابنه، نزل: ﴿مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ﴾ الذين لم يلدهم، فلا يحرم عليه زوجة من تبناه بعد فراقها وانقضاء عدتها، و (محمد) معناه: المستغرق لجميع المحامد، وهو الذي كثر حمدُ الحامدين له مرة بعد أخرى، وتقدم تفسير (محمد) في سورة آل عمران بأتم من هذا، وكذلك تفسير (أحمد)، وذكر نسبه الشريف، ولا يجري فيه القول الضعيف أنه لا يجوز أن يقال له: أبو المؤمنين [ولا عبرة من منع ذلك في الحسنين من الأمويين؛ للخبر الصحيح الآتي في الحسن:
﴿وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ﴾ نصب اللام والميم عطفًا على خبر (كَانَ). قرأ عاصم: (وَخَاتَمَ) بفتح التاء على الاسم؛ أي: آخرهم، وقرأ الباقون: بكسرها على الفاعل (٣)؛ لأنه ختم النبيين، فهو خاتمهم؛ أي: لا يُنَبَّأُ نبي بعده أبدًا، وإن نزل عيسى بعده، فهو ممن نبئ قبله، ولأنه ينزل بشريعته، ويصلي إلى قبلته، فكأنه من أمته.
﴿وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا﴾ عموم، والمقصد به هنا: علمه تعالى بما رآه الأصلحَ لمحمد - ﷺ -، وبما قدره في الأمر كله.
* * *
﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (٤١)﴾.
[٤١] ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ﴾ بما هو أهله من التهليل والتكبير
(٢) ما بين معكوفتين سقط من "ت".
(٣) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٥٢٢)، و"التيسير" للداني (ص: ١٧٩)، و"تفسير البغوي" (٣/ ٥٧٠)، و"معجم القراءات القرآنية" (٥/ ١٢٨).
* * *
﴿وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (٤٢)﴾.
[٤٢] ﴿وَسَبِّحُوهُ﴾ أي: صلوا له ﴿بُكْرَةً﴾ وهي صلاة الصبح ﴿وَأَصِيلًا﴾ هي صلاة العصر، وقيل: المراد: التسبيح باللسان، فيقال: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله، وسميت هذه الكلمات ذكرًا كثيرًا؛ لأنه يقولها الطاهر والجنب والمحدث.
* * *
﴿هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا (٤٣)﴾.
[٤٣] ﴿هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ﴾ صلوات الله: رحمتُه ومغفرته، وصلاةُ الملائكة: الدعاءُ والاستغفار للمؤمنين، المعنى: يفعل الله بكم ذلك.
﴿لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ﴾ الكفر ﴿إِلَى النُّورِ﴾ الإيمان، تلخيصه: برحمته وبسبب دعاء الملائكة فزتم.
﴿وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا﴾ حتى اعتنى بصلاح أمرهم.
* * *
﴿تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا (٤٤)﴾.
[٤٤] ﴿تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ﴾ تعالى ﴿سَلَامٌ﴾ أي: يسلم الله عليهم، ويسلمهم من الآفات.
* * *
﴿يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (٤٥)﴾.
[٤٥] ﴿يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ﴾ قرأ نافع: (النَّبِيءُ) بالمد والهمز (إِنَّا): بتسهيل الهمزة، واختلف في كيفية تسهيلها، فذهب جمهور القراء المتقدمين إلى أنها تبدل واوًا خالصة مكسورة، وذهب بعضهم إلى أنها تجعل بين الهمزة والياء، وهو مذهب أئمة النحو والمتأخرين من القراء، وهو الأوجه في القياس، وقرأ الباقون: بتشديد الياء، وتحقيق الهمزة من (إِنَّا) (١) ﴿شَاهِدًا﴾ على أمتك، والرسلِ بالبلاغ، ونصبه على الحال، وكذلك جميع المنصوبات بعد ﴿وَمُبَشِّرًا﴾ لأهل طاعته بالجنة ﴿وَنَذِيرًا﴾ لأهل معصيته بالنار.
* * *
﴿وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا (٤٦)﴾.
[٤٦] ﴿وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ﴾ إلى توحيده ﴿بِإِذْنِهِ﴾ بتسهيله وأمره، وتقديرِه ذلك في وقته وأوانه ﴿وَسِرَاجًا مُنِيرًا﴾ أي: [يهتدى بك في الدين كما يهتدى] (٢) بالسراج المنير في الظلام، فجعله شاهدًا على أمته لنفسه بإبلاغهم الرسالة، وهي من خصائصه عليه السلام.
* * *
(٢) ما بين معكوفتين زيادة من "ت".
[٤٧] ﴿وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا﴾ تفضلًا جزيلًا، قال ابن عباس: لما نزلت هذه الآية، دعا رسول الله عليًّا ومعاذًا، فبعثهما إلى اليمن، وقال: "اذهبا، فبشرا ولا تنفرا، ويسرا ولا تعسرا، فإنه قد نزل عليَّ، وقرأ الآية" (١).
* * *
﴿وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (٤٨)﴾.
[٤٨] ﴿وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ﴾ في فسخ عهد، لا فيما لا يحل.
﴿وَدَعْ أَذَاهُمْ﴾ اصبر عليه، ولا تجازهم، ونُسخ بآية السيف.
﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ﴾ فهو كافيك ﴿وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا﴾ مفوضًا إليه.
* * *
﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (٤٩)﴾.
[٤٩] ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ﴾ أي: عقدتم عليهن.
﴿ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ﴾ أي: تطؤوهن. قرأ حمزة،
﴿فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا﴾ تحسبونها بالأقراء والأشهر.
﴿فَمَتِّعُوهُنَّ﴾ إذا لم يكن لهن صَداق، وإن كان لهن صداق، فنصفه بلا متعة، وتقدم الحكم في ذلك، واختلاف الأئمة فيه، وفي حكم العدة بالخلوة في سورة البقرة.
﴿وَسَرِّحُوهُنَّ﴾ خَلُّوا سبيلهن ﴿سَرَاحًا جَمِيلًا﴾ بلا إضرار بهن، وقوله: ﴿إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ﴾ فيه دليل على أن الطلاق قبل النكاح غير واقع؛ لأن الله تعالى رتب الطلاق على النكاح، فلو قال: متى تزوجتُ فلانة، أو كل امرأة أتزوجها، فهي طالق، لم يقع عليه طلاق إذا تزوج عند الشافعي وأحمد، وقال أبو حنيفة: يقع طلاقًا، وقال مالك: إن عين امرأة بعينها، أو من قبيلة، أو بلد، فتزوجها، وقع الطلاق، وإن عَمَّ فقال: كل امرأة أتزوجها من الناس كلهم، فهي طالق، لم يلزمه شيء، والله أعلم.
* * *
{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ
[٥٠] ﴿يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ﴾ أي: مهورهن، وتقدم قريبًا مذهب نافع في الهمزتين من (النَّبِيءُ إِنَّا) ﴿وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ﴾ من الإماء.
﴿مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ﴾ أي: غَنَّمَكَ من الكفار؛ كصفية وجويرية، وقد كانت مارية مما ملكت يمينه، فولدت له إبراهيم ﴿وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ﴾ نساء قريش.
﴿وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ﴾ نساء بني زهرة ﴿اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ﴾ إلى المدينة، فمن لم تهاجر معه منهن، لم يجز له نكاحها.
عن أم هانئ بنت أبي طالب قالت: "خطبني رسول الله - ﷺ - لما فتح مكة، فأنزل الله هذه الآية، فلم أحل له؛ لأني لم أكن من المهاجرات، وكنت من الطلقاء" (١)، ثم نسخ شرط الهجرة بقوله: ﴿وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً﴾ [فلا يحل له غير المؤمنة، المعنى: أبحنا لك جميع المذكورات، وأبحنا لك امرأة مؤمنة] (٢) ﴿إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ يَسْتَنْكِحَهَا﴾ بطلب نكاحها من غير صداق.
(٢) ما بين معكوفتين زيادة من "ت".
واختلف الأئمة في انعقاد النكاح بلفظ الهبة في حق الأمة، فقال أبو حنيفة: ينعقد بلفظ الهبة والصدقة والتمليك والبيع والشراء، وعنه في لفظ الإجارة خلاف، وقال مالك: ينعقد بلفظ يدل على التأبيد مدة الحياة؛
(٢) انظر: "التلخيص الحبير" (٣/ ١٣٨)، و"فتح الباري" (٨/ ٥٢٥ - ٥٢٦) قال ابن حجر في "الفتح" بعد أن ذكر من خَرَّج الآثار في اللواتي وهبن أنفسهن له صلى الله عليه وسلم، وبعد أن ذكر الحكم الحديثي لكلٍّ، قال: عن عكرمة عن ابن عباس: "لم يكن عند رسول الله ﷺ امرأة وهبت نفسها له" أخرجه الطبري وإسناده حسن. والمراد أنه لم يدخل بواحدةٍ ممَّن وهبت نفسها له وإن كان مباحًا له؛ لأنه راجع إلى إرادته؛ لقوله تعالى: ﴿إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا﴾.
(٣) سلفت هذه القراءة في تفسير الآية (١) من هذه السورة.
واختلفوا في اشتراط الشهادة لصحة النكاح، فقال مالك: يصح بلا إشهاد بشرط الإعلان، وتركِ التواصي بالكتمان، وقال الثلاثة: تشترط، فعند أبي حنيفة: ينعقد بحضور رجلين، ورجل وامرأتين، ولا تشترط العدالة، وعند الشافعي وأحمد: تشترط الذكورة، والشافعي يشترط العدالة، والصحيح عنه: أنه ينعقد بمستوري العدالة، فلو بان فسق الشاهد عند العقد، فباطل، وأحمد يشترط العدالة في شاهديه ظاهرًا فقط، فلو بانا بعده فاسقين، فالعقد صحيح.
﴿قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ﴾ أي: أوجبنا على المؤمنين.
﴿فِي أَزْوَاجِهِمْ﴾ من الأحكام ألَّا يتزوجوا أكثر من أربع.
﴿وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ﴾ من الإماء مباح لهم فوق أربع زوجات.
﴿لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ﴾ ضيق، وهذا يرجع إلى أول الآية؛ أي: أحللنا لك أزواجك وما ملكت يمينك والموهوبة لئلا يضيق عليك.
﴿وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا﴾ لما يعسر التحرز عنه.
﴿رَحِيمًا﴾ بالتوسعة في مظان الحرج.
* * *
﴿تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا (٥١)﴾.
﴿إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ﴾ منهن. قرأ نافع، وأبو جعفر، وحمزة، والكسائي، وخلف، وحفص عن عاصم: (تُرْجِي) بإسكان الياء بغير همز، وقرأ أبو جعفر: (وَتُووِي) بواوين بغير همز، والباقون: بالهمز فيهما (١)، واختلف المفسرون في معنى الآية، فأشهر الأقاويل أنه في القَسْم بينهن، وذلك أن التسوية بينهن في القَسْم كان واجبًا عليه، فلما نزلت هذه الآية، سقط عنه، وصار الاختيار إليه فيهن.
﴿وَمَنِ ابْتَغَيْتَ﴾ أي: طلبت أن تؤوي إليك امرأة.
﴿مِمَّنْ عَزَلْتَ﴾ فصلته بالإرجاء.
﴿فَلَا جُنَاحَ﴾ أي: لا إثم ﴿عَلَيْكَ﴾ في فعلك بنسائك، فأباح الله له ترك القسم لهن، حتى إنه ليؤخر من يشاء منهن في نوبتها، ويطأ من يشاء منهن في غير نوبتها، ويرد إلى فراشه من عزلها؛ تفضيلًا له على سائر الرجال، فرضين بذلك، واخترنه على هذا الشرط.
﴿ذَلِكَ﴾ التخيير ﴿أَدْنَى﴾ أقرب إلى رضاهن.
﴿أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ﴾ بتخييرهن.
﴿وَلَا يَحْزَنَّ﴾ بترك القسم لهن ﴿وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ﴾ من
﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ﴾ من الميل إلى بعض النساء.
﴿وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا﴾ لا يعاجل بالعقوبة.
* * *
﴿لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا (٥٢)﴾.
[٥٢] ﴿لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ﴾ قرأ أبو عمرو، ويعقوب: (تَحِلُّ) بالتاء على التأنيث على معنى جماعة النساء، وقرأ الباقون: بالياء على التذكير على معنى جمع النساء (١)، وهما جنسان؛ لأن تأنيث لفظ النساء ليسس بحقيقي ﴿مِنْ بَعْدُ﴾ أي: من بعد هؤلاء التسع اللاتي خيرتهن واخترنك، ورضين بمرادك ﴿وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ﴾ غيرهن ﴿مِنْ أَزْوَاجٍ﴾ قرأ البزي: (وَلاَ أَنْ تَّبَدَّلَ) بتشديد التاء على أصله (٢)، وذلك أن النبي - ﷺ - لما خيرهن، فاخترن الله ورسوله، شكر الله لهن، وحرم عليه النساء سواهن، ونهاه عن تطليقهن، وعن الاستبدال بهن، وهن: خمس من قريش: عائشة بنت أبي بكر، وحفصة بنت عمر، وأم حبيبة، واسمها رملة بنت أبي سفيان، وأم سلمة، واسمها هند بنت أبي أمية، وسودة بنت أبي زمعة، وغير القرشيات: زينب
(٢) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٣٥٦)، و"معجم القراءات القرآنية" (٥/ ١٣٢).
واختلف في أنه هل أبيح له النساء من بعد؟ قالت عائشة: "ما مات رسول الله - ﷺ - حتى أحل له النساء" (١)، وقال أنس: "مات على التحريم" (٢)، وممن قال بحل النساء له: أبي بن كعب، ومجاهد، والضحاك، وغيرهم.
﴿وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ﴾ حسن الأزواج المستبدلة، قال ابن عباس: "يعني: أسماء بنت عميس الخثعمية امرأة جعفر بن أبي طالب، فلما استشهد جعفر -رضي الله عنه- أراد رسول الله - ﷺ - أن يخطبها، فنهي عن ذلك (٣).
(٢) انظر: "تفسير البغوي" (٣/ ٥٧٧).
(٣) ذكره البغوي في "تفسيره" (٣/ ٥٧٨)، وابن عطية في "المحرر الوجيز" (٤/ ٣٩٤)، والقرطبي في "تفسيره" (١٤/ ٢٢١)، قال ابن العربي كما ذكره عنه القرطبيُّ-: وهذا حديث ضعيف ١ هـ. وقال ابن عادل: وقال بعض المفسرين:
ظاهر هذا ناسخ لما كان قد ثبت له عليه الصلاة والسلام من أنه إذا رأى واحدة فوقعت في قلبه موقعًا كانت تحرم على الزوج ويجب عليه طلاقها | ففي أول الأمر أحلَّ الله من وقع في قلبه؛ تفريغًا لقلبه وتوسعًا لصدره لئلا يكون مشغول القلب بغير الله، ثم لما استأنس بالوحي نُسخ ذلك. |