ولما كانت العناية في هذه السورة بالنشر - الذي هو من لوازم الجمع في مادة " قرا " كما مضى بيانه أول الحجر - أكثر، قدم القرآن، يدل على ذلك انتشار أمر موسى عليه الصلاة والسلام في أكثر قصته بتفريقه من أمه، وخروجه من وطنه إلى مدين، ورجوعه مما صار إليه إلى ما كان فيه، والتماسه لأهله الهدى والصلى واضطراب العصا وبث الخوف منها، وآية اليد وجميع الآيات التسع، واختيار التعبير بالقوم الذي أصل معناه القيام، وإبصار الآيات، وانتشار الهدهد، وإخراج الخبأ الذي منه تعليم منطق الطير، وتكليم الدابة للناس، وانتشار المرأة وقومها وعرشها بعد تردد الرسل بينها وبين سليمان عليه الصلاة والسلام، وكشف الساق، وافتراق ثمود إلى فريقين، مع الاختصام المشتت، وانتثام قوم لوط عليه السلام إلى ما لا يحل، وتفريق الرياح نشراً، وتقسيم الرزق بين السماء والأرض، ومرور الجبال، ونشر الريح لنفخ الصور الناشىء عنه فزع الخلائق المبعثر للقبور، إلى غير ذلك مما إذا تدبرت السورة انفتح لك بابه، وانكشف عنه حجابه، وهذا بخلاف ما في الحجر على ما مضى.
وقال الإمام ابو جعفر ابن الزبير : لما أوضح في سورة الشعراء عظيم رحمته بالكتاب، وبيان ما تضمنه مما فضح به الأعداء، ورحم به الأولياء، وبراءته من أن تتسور الشياطين عليه، وباهر آياته الداعية من اهتدى بها إليه، فتميز بعظيم آياته كونه فرقاناً قاطعاً، ونوراً ساطعاً، أتبع سبحانه ذلك مدحة وثناء، وذكر من شملته رحمته به تخصيصاً واعتناء، فقال ﴿ تلك آيات القرآن ﴾ أي الحاصل عنها مجموع تلك الأنوار آيات القرآن ﴿ وكتاب مبين هدى وبشرى للمؤمنين ﴾ ثم وصفهم ليحصل للتابع قسطه من بركة التبع، وليتقوى رجاؤه في النجاة مما أشار إليه ﴿ وسيعلم الذين ظلموا ﴾ من عظيم ذلك المطلع ؛ ثم أتبع ذلك بالتنبيه على صفة الآهلين لما تقدم من التقول والافتراء تنزيهاً لعباده المتقين، وأوليائه المخلصين، عن دنس الشكوك والامتراء فقال :﴿ إن الذين لا يؤمنون بالآخرة زينا لهم أعمالهم فهم يعمهون ﴾ أي يتحيرون فلا يفرقون بين النور والإظلام، لارتباك الخواطر والأفهام ؛ ثم أتبع ذلك بتسليته عليه الصلاة والسلام بالقصص الواقعة بعد تنشيطاً له وتعريفاً بعلي منصبه، وإطلاعاً له على عظيم صنعه تعالى فيمن تقدم، ثم ختمت السورة بذكر أهل القيامة وبعض ما بين يديها، والإشارة إلى الجزاء ونجاة المؤمنين، وتهديد من تنكب عن سبيله عليه الصلاة والسلام - انتهى.
ﰡ
ولما ختم التي قبلها بتحقيق أمر القرآن، وأنه من عند الله، ونفي الشبه عنه وتزييف ما كانوا يتكلفونه من تفريق القول فيه بالنسبة إلى السحر والأضغاث والافتراء والشعر، الناشىء كل ذلك عن أحوال الشياطين، وابتدأ هذه بالإشارة إلى أنه من الكلام القديم المسموع المطهر عن وصمة تلحقه من شيء من ذلك، تلاه بوصفه بأنه كما أنه منظوم مجموع لفظاً ومعنى لا فصم فيه ولا خلل، ولا وصم ولا زلل، فهو جامع لأصول الدين ناشر لفروعه، بما أشار إليه الكون من المسلمين فقال: ﴿تلك﴾ أي الآيات العالية المقام البعيدة المرام، البديعة النظام ﴿آيات القرآن﴾ أي الكامل في قرآنيته الجامع للأصول، الناشر للفروع، الذي لا خلل فيه ولا فصم، ولا صدع لولا وصم ﴿و﴾ آيات ﴿كتاب﴾ أي وأيّ كتاب هو مع كونه جامعاً لجميع ما يصلح المعاش والمعاد، قاطع في أحكامه، غالب في أحكامه، في كل من نقضه وإبرامه، وعطفه دون إتباعه للدلالة على أنه كامل في كل من قرآنيته وكتابيته ﴿مبين*﴾ أي بين في نفسه أنه من عند الله كاشف لكل مشكل، موضح لكل ملبس مما كان ومما هو كائن من الأحكام والدلائل في الأصول والفروع، والنكت والإشارات والمعارف، فيا له من جامع فارق واصل فاصل.
وقال الإمام ابو جعفر بن الزبير: لما أوضح في سورة الشعراء عظيم رحمته بالكتاب، وبيان ما تضمنه مما فضح به الأعداء، ورحم به الأولياء، وبراءته من أن تتسور الشياطين عليه، وباهر آياته الداعية من اهتدى بها إليه، فتميز بعظيم آياته كونه فرقاناً قاطعاً، ونوراً ساطعاً، أتبع سبحانه ذلك مدحة وثناء، وذكر من شملته رحمته به تخصيصاً واعتناء، فقال ﴿تلك آيات القرآن﴾ أي الحاصل عنها مجموع تلك الأنوار
ولما عظم سبحانه آيات الكتاب بما فيها من الجمع من النشر مع الإبانة، ذكر حاله فقال: ﴿هدى﴾ ولما كان الشيء قد يهدي إلى مقصود يكدر حال قاصده. قال نافياً لذلك، وعطف عليه بالواو دلالة على الكمال في كل من الوصفين: ﴿وبشرى﴾ أي عظيمة.
فلما تشوفت النفوس، وارتاحت القلوب، فطم من ليس بأهل عن عظيم هذه الثمرة فقال: ﴿للمؤمنين﴾ أي الذين صار ذلك لهم
ولما كان وصف الإيمان خفياً، وصفهم بما يصدقه من الأمور الظاهرة فقال: ﴿الذين يقيمون الصلاة﴾ أي بجميع حدودها الظاهرة والباطنة من المواقيت والطهارات والشروط والأركان والخشوع والخضوع والمراقبة والإحسان إصلاحاً لما بينهم وبين الخالق.
ولما كان المقصود الأعظم من الزكاة إنما هو التوسعة على الفقراء قال: ﴿ويؤتون الزكاة﴾ أي إحساناً فيما بينهم وبين الخلائق.
ولما كان الإيمان بالبعث هو الجامع لذلك ولغيره من سائر الطاعات، ذكره معظماً لتأكيده، فقال معلماً بجعله حالاً إلا أنه شرط لما قبله: ﴿وهم﴾ أي والحال أنهم.
ولما كان الإيمان بالبعث هو السبب الأعظم للسعادة وهو محط للحكمة، عبر فيه بما يقتضي الاختصاص، لا للاختصاص بل للدلالة على غاية الرسوخ في الإيمان به، فقال: ﴿بالآخرة هم﴾ أي المختصون بأنهم ﴿يوقنون*﴾ أي يوجدون الإيقان حق الإيجاد ويجددونه في كل حين
ولما أفهم التخصيص أن ثم من يكذب بها وكان أمرها مركوزاً في الطباع، لما عليها من الأدلة الباهرة في العقل والسماع، تشوفت نفس السامع على سبيل التعجب إلى حالهم، فقال مجيباً له مؤكداً تعجيباً ممن ينكر ذلك: ﴿إن الذين لا يؤمنون﴾ أي يوجدون الإيمان ويجددونه ﴿بالآخرة زينا﴾ أي بعظمتنا التي لا يمكن دفاعها ﴿لهم أعمالهم﴾ أي القبيحة، حتى أعرضوا عن الخوف من عاقبتها مع ظهور قباحتها، والإسناد إليه سبحانه حقيقي عند أهل السنة لأنه الموجد الحقيقي، وإلى الشيطان مجاز سببي ﴿فهم﴾ أي فتسبب عن ذلك أنهم ﴿يعمهون*﴾ أي يخبطون خبط من لا بصيرة له اصلاً ويترددون في أودية الضلال، ويتمادون في ذلك، فهم كل لحظة في خبط جديد، بعمل غير سديد ولا سعيد، فإن العمه التحير والتردد كما هو حال الضال.
ولما وصف القرآن من الجمع والفرقان، بما اقتضى بيان أهل الفوز والخسران، وكان حاصل حال الكفرة أنهم يتلقون كفرهم الذي هو في غاية السفه إما عن الشياطين الذين هم في غاية الشر، وإما عن آبائهم الذين هم في غاية الجهل، وصف النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بضد حالهم، فذكر جلالة المنزل عليه والمنزل ليكون أدعى إلى قبوله. فقال عاطفاً على ﴿إن الذين لا يؤمنون بالآخرة﴾ :﴿وإنك﴾ أي وأنت أشرف الخلق وأعلمهم وأحلمهم وأحكمهم ﴿لتلقى القرآن﴾ أي تجعل متلقياً له من الملك، وحذف هنا الواسطة وبناه للمفعول إعلاء له.
ولما كانت الأمور التي من عند الله تارة تكون على مقتضى الحكمة فتسند إلى أسبابها، وأخرى خارقة للعادة فتنسب إليه سبحانه، والخارقة تارة تكون في أول رتب الغرابة فيعبر عنها بعند، تارة تكون في أعلاها فيعبر عنها بلدان، نبه سبحانه على أن هذا القرآن في الذروة من الغرابة في أنواع الخوارق فقال: ﴿من لدن﴾.
ولما مضى في آخر الشعراء ما تقدم من الحكم الجمة في تنزيله بهذا اللسان. وعلى قلب سيد ولد عدنان، بواسطة الروح الأمين، مبايناً لأحوال الشياطين، إلى غير ذلك مما مضى إلى أن ختمت بتهديد الظالمين،
ولما وصفه بتمام الحكمة وشمول العلم، دل على كل من الوصفين، وعلى إبانه القرآن وما له من العظمة التي أشار إليها أول السورة بما يأتي في السورة من القصص وغيرها، واقتصر في هذه السورة على هذه القصص لما بينها من عظيم التناسب المناسب لمقصود السورة، فابتدىء بقصة أطبق فيها الأباعد على الكفران فأهلكوا، والأقارب على الإيمان فأنجوا، وثنى بقصة أجمع فيها الأباعد على الإيمان، لم يتخلف منهم إنسان، وثلث بأخرى حصل بين الأقارب فيها الفرقان، باقتسام الكفر والإيمان، وختم بقصة تمالأ الأباعد فيها على العصيان، وأصروا على الكفران،
ولما كان تعلق «إذ» باذكر من الوضوح في حد لا يخفى على أحد، قال دالاً على حكمته وعلمه: ﴿إذ﴾ طاوياً لمتعلقه لوضوح أمره فصار كأنه ﴿قال﴾ : اذكر حكمته وعلمه حين قال: ﴿موسى لأهله﴾ أي زوجة وهو راجع من مدين إلى مصر، قيل: ولم يكن معه غيرها: ﴿إني آنست﴾ أي أبصرت إبصاراً حصل لي الأنس، وأزال عني الوحشة والنوس ﴿ناراً﴾ فعلم بما في هذه القصة من الأفعال المحكمة المنبئة عن تمام العلم اتصافه بالوصفين علماً مشاهداً، وقدم ما الحكمة فيه أظهر لاقتضاء الحال التأمين من نقص ما يؤمر به من الأفعال.
ولما كان كأنه قيل: فماذا تصنع؟ قال آتياً بضمير المذكر المجموع للتعبير عن الزوجة المذكورة بلفظ «الأهل» الصالح للمذكر والجمع صيانة لها وستراً. جازماً بالوعد للتعبير بالخير الشامل للهدى وغيره، فكان تعلق الرجاء به أقوى من تعلقه بخصوص كونه هدى، ولأن مقصود السورة يرجع إلى العلم، فكان الأليق به الجزم، ولذا عبر بالشهاب الهادي لأولي الألباب: ﴿سآتيكم﴾ أي بوعد صادق وإن أبطأت
ولما كان البيان بعد الإبهام أعظم، لما فيه من التشويق والتهيئة للفهم، بني للمفعول قوله: ﴿نودي﴾ أي من قبل الله تعالى.
ولما أبهم المنادى فتشوقت النفوس إلى بيانه، وكان البيان بالإشارة أعظم. لما فيه من توجه النفس إلى الاستدلال، نبه سبحانه عليه بجعل الكلام على طريقة كلام القادرين، إعلاماً بأنه الملك الأعلى فقال بانياً للمعفول، آتياً بأداة التفسير، لأن النداء بمعنى القول:
«حجابه النار لو كشفها لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه» ﴿ومن حولها﴾ من جميع الملائكة عليهم السلام وتلك الأراضي المقدسة على ما أراد الله في ذلك الوقت وفي غيره وحق لتلك الأراضي أن تكون كذلك لأنها مبعث الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ومهبط الوحي عليهم وكفاتهم أحياء وأمواتاً.
ولما أتاه النداء - كما ورد - من جميع الجهات، فسمعه بجميع الحواس، أمر بالتنزيه، تحقيقاً لأمر من أمره سبحانه، وتثبيتاً له، فقال عاطفاً على ما أرشد السياق إلى تقديره من مثل: فأبشر بهذه البشرى العظيمة: ﴿وسبحان الله﴾ أي ونزه الملك الذي له الكمال المطلق تنزيهاً
ولما كان تعليق ذلك بالاسم العلم دالاً على أنه يستحق ذلك لمجرد ذاته المستجمع لجميع صفات الكمال، من الجلال والجمال، وصفه بما يعرف أنه يستحقه أيضاً لأفعاله بكل مخلوق التي منها ما يريد أن يربي به موسى عليه الصلاة والسلام كبيراً بعد ما رباه به صغيراً، فقال: ﴿رب العالمين*﴾.
ولما تشوفت النفس إلى تحقق الأمر تصريحاً، قال معظماً له تمهيداً لما أراد سبحانه إظهاره على يده من المعجزات الباهرات: ﴿يا موسى إنه﴾ أي الشأن العظيم الجليل الذي لا يبلغ وصفه ﴿أنا الله﴾ أي البالغ من العظمة ما تقصر عنه الأوهام، وتتضاءل دونه نوافذ الأفهام، ثم أفهمه مما تتضمن ذلك وصفين يدلانه على أفعاله معه فقال: ﴿العزيز﴾ أي الذي يصل إلى جميع ما يريد ولا يوصل إلى شيء مما عنده من غير الطريق التي يريد ﴿الحكيم*﴾ أي الذي ينقض كل ما يفعله غيره إذا أراد،
ولما كان التقدير: فافعل جميع ما آمرك به فإنه لا بد منه، ولا تخف من شيء فإنه لا يوصل إليك بسوء لأنه متقن بقانون الحكمة، محروس بسور العزة، دل عليه بالعطف في قوله: ﴿وألق عصاك﴾ أي لتعلم علماً شهودياً عزتي وحكمتي - أو هو معطوف على ﴿أن بورك﴾ - فألقاها كما أمر، فصارت في الحال - بما أذنت به الفاء - حية عظيمة جداً، هي - مع كونها في غاية العظم - في نهاية الخفة والسرعة في اصطرابها عند محاولتها ما يريد ﴿فلما رآها تهتز﴾ أي تضطرب في تحركها مع كونها في غاية الكبر ﴿كأنها جآن﴾ أي حية صغيرة في خفتها وسرعتها، ولا ينافي ذلك كبر جثتها ﴿ولى﴾ أي موسى عليه الصلاة والسلام.
ولما كانت عليه التولية مشتركة بين معان، بين المراد بقوله: ﴿مدبراً﴾ أي التفت هارباً منها مسرعاً جداً لقوله: ﴿ولم يعقب﴾ أي لم يرجع على عقبه، ولم يتردد في الجد في الهرب، ولم يلتفت إلى ما وراءه بعد توليته، يقال: عقب عليه تعقيباً، أي كر، وعقب في الأمر تعقيباً: تردد في طلبه مجداً - هذا في ترتيب المحكم. وفي القاموس: التعقيب:
ولما تشوفت النفس إلى ما قيل له عند هذه الحالة، أجيبت بأنه قيل له: ﴿يا موسى لا تخف﴾ ثم علل هذا النهي بقوله، مبشراً بالأمن والرسالة: ﴿إني لا يخاف لديّ﴾ أي في الموضع الذي هو من غرائب نواقض العادات، وهي وقت الوحي ومكانه ﴿المرسلون*﴾ أي لأنهم معصومون من الظلم، ولا يخاف من الملك العدل إلا ظالم.
ولما أراه سبحانه هذه الخارقة فيما كان في يده بقلب جوهرها إلى جوهر شيء آخر حيواني، أراه آية أخرى في يده نفسها بقلب عرضها الذي كانت عليه إلى عرض آخر نوراني، فقال: ﴿وأدخل يدك في جيبك﴾ أي فتحة ثوبك، وهو ما قطع منه ليخيط بعنقك ﴿تخرج﴾ أي إذا أخرجتها ﴿بيضاء﴾ أي بياضاً عظيماً نيراً
ولما كان ربما وقع في وهم أن هذه الآفة، قال: ﴿من غير سوء﴾ أي برص ولا غيره من الآفات، آية أخرى كائنة ﴿في﴾ جملة ﴿تسع آيات﴾ كما تقدم شرحها في سورة الإسراء وغيرها، منتهية على يدك برسالتي لك ﴿إلى فرعون وقومه﴾ أي الذين هم أشد أهل هذا الزمان قياماً في الجبروت والعدوان؛ ثم علل إرساله إليهم بالخوارق بقوله: ﴿إنهم كانوا﴾ أي كوناً كأنه جبلة لهم ﴿قوماً فاسقين*﴾ أي خارجين عن طاعتنا لتردهم إلينا.
ولما كان التقدير: فأتاهم كما أمرناهم فعاندوا أمرنا، قال منبهاً على ذلك، دالاً بالفاء على سرعة إتيانه إليهم امتثالاً لما أمر به: ﴿فلما جاءتهم آياتنا﴾ أي على يده ﴿مبصرة﴾ أي سبب الإبصار لكونها منيرة ظاهرة جداً، فهي هادية لهم إلى الطريق الأقوم هداية النور لمن يبصر، فهو لا يخطىء شيئاً ينبغي أن ينتفع به ﴿قالوا هذا سحر﴾ أي خيال لا حقيقة له ﴿مبين*﴾ أي واضح في أنه خيال ﴿وجحدوا﴾ أي أنكروا عالمين ﴿بها﴾ أي أنكروا كونها آيات موجبات لصدقه مع علمهم بإبطالهم لأن الجحود الإنكار مع العلم.
ولما كان الجحد معناه إنكار الشيء مع العلم به، حقق ذلك بقوله: ﴿واستيقنتها﴾ أي والحال أنهم قد طلبوا الوقوف على حقائق أمرها
ولما كان التقدير: فأغرقناهم أجمعين بأيسر سعي وأهون أمر فلم يبق منهم غير تطرف، ولم يرجع منهم مخبر، على كثرتهم وعظمتهم وقوتهم، عطف عليه تذكيراً به مسبباً عنه قوله: ﴿فانظر﴾ ونبه على أن خبرهم مما تتوفر الدواعي على السؤال عنه لعظمته، فقال معبراً بأداة الاستفهام: ﴿كيف كان﴾ وكان الأصل: عاقبتهم، أي آخر أمرهم، ولكنه أظهر فقال: ﴿عاقبة المفسدين*﴾ ليدل على الوصف الذي كان سبباً لأخذهم تهديداً لكل من ارتكب مثله.
ولما كان التقدير: فعملا بمقتضاه، عطف عليه قوله: ﴿وقالا﴾ شكراً عليه، دلالة على شرف العلم وتنبيهاً لأهله على التواضع: ﴿الحمد﴾ أي الإحاطة بجميع أوصاف الكمال ﴿لله﴾ أي الذي لا مثل له وله الجلال والجمال ﴿الذي فضلنا﴾ أي بما آتانا من ذلك ﴿على كثير من عباده المؤمنين*﴾ أي الذين صار الإيمان لهم خلقاً.
ولما كان كل منهما عليهما السلام قد أوتي ما ذكر، أشار إلى فضل سليمان عليه السلام بأنه جمع إلى ما آتاه ما كان منح به أباه فقال: ﴿وورث سليمان داود﴾ أي أباه عليهما السلام دون إخوته في النبوة والعلم والملك الذي كان قد خصه الله دون قومه بجمعه له إلى النبوة، فشكر الله على ما أنعم به عليه أولاً وثانياً ﴿وقال﴾ أي سليمان عليه السلام محدثاً بنعمة ربه ومنبهاً على ما شرفه الله به، ليكون أجدر في قبول الناس ما يدعوهم إليه من الخير: ﴿يا أيها الناس﴾.
ولما كان هذا مجرد خبر، أتبعه ما يصدقه فقال: ﴿وحشر﴾ أي جمع جمعاً حتماً بقهر وسطوة وإكراه بأيسر سعي ﴿لسليمان جنوده﴾.
ولما دل ذلك على عظمه، زاد في الدلالة عليه بقوله: ﴿من الجن﴾ بدأ بهم لعسر جمعهم ﴿والإنس﴾ ثنى بهم لشرفهم ومشاركتهم لهم في ذلك من حيث تباعد أغراضهم وتناءي قصودهم.
ولما ذكر ما يعقل وبدأ به لشرفه، أتبعه ما لا يعقل فقال: ﴿والطير﴾ ولما كان الحشر معناه الجمع بكره، فكان لا يخلو عن انتشار، وكان التقدير: وسار بهم في بعض الغزوات، سبب عنه قوله تعظيماً للجيش وصاحبه: ﴿فهم يوزعون*﴾ أي يكفون بجيش أولهم على آخرهم بأدنى أمر وأسهله ليتلاحقوا، فيكون ذلك أجدر بالهيبة، وأعون على النصرة، وأقرب إلى السلامة؛ عن قتادة أنه كان على كل صنف من جنوده وزعة ترد أولاها على أخراها لئلا يتقدموا في المسير، قال: والوازع: الحابس وهو النقيب. وأصل الوزع الكف والمنع.
مررت بوادي النمل يا صاح بكرة | فصحت وأجريت الدموع على خدي |
وتممت منه موقف الهاشمي الذي | ملأ الأرض توحيداً يزيد على العد |
وكم موقف أفرشته حر جبهتي | وأبديت في أرجائه ذلة العبد |
من لم يذق ظلم الحبيب كظلمه | حلواً فقد جهل المحبة وادعى |
ولما علم من هذا كله أن الشاكر هو المستغرق في الثناء على المنعم بما يجب عليه من العمل من فناء أو غيره بحسب ما يقدر عليه، وكان ذلك عمل مما يجوز أن يكون زين لذلك العبد كونه حسناً وهو ليس كذلك، قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مشيراً إلى هذا المعنى: ﴿وأن أعمل صالحاً﴾ أي في نفس الأمر. ولما كان العمل الصالح قد لا يرضي المنعم لنقص في العمل كما قيل في معنى ذلك:
إذا كان المحب قليل حظ | فما حسناته إلا ذنوب |
ولما كان العمل الصالح المرضي قد لا يعلى إلى درجة المرضي عنهم، لكون العامل منظوراً إليه بعين السخط، لكونه ممن سبق عليه الكتاب بالشقاء، لأن الملك المنعم تام الملك عظيم الملك فهو بحيث لا يسأل عما يفعل، قال معرضاً عن عمله معترفاً بعجزه، معلماً بأن المنعم غني عن العمل وعن غيره، لا تضره معصية ولا ينفعه طاعة: ﴿وأدخلني برحمتك﴾ أي لا بعملي ﴿في عبادك الصالحين*﴾ أي لما أردتهم له من تمام النعمة بالقرب والنظر إليهم بعين العفو
ولما أبهمه تشويقاً، وأخذ بمجامع القلب إلى تعرفه، ثنى بمدح
ولما كانت قد أوتيت من كل ما يحتاج إليه الملوك أمراً كبيراً قال: ﴿وأوتيت﴾ بنى الفعل للمفعول إقراراً بأنها مع ملكها مربوبة ﴿من كل شيء﴾ تهويلاً لما رأى من أمرها.
ولما كان عرشها - أي السرير الذي تجلس عليه للحكم - زائداً في العظمة، خصه بقوله: ﴿ولها عرش﴾ أي سرير تجلس عليه للحكم ﴿عظيم*﴾ أي لم أر لأحد مثله.
ولما كان في الخدمة أقرب أهل ذلك الزمان إلى الله فحصل له من النورانية ما هاله لأجله إعراضهم عن الله، قال مستأنفاً تعجيباً:
ولما تسبب عن ذلك أنه أعماهم عن طريق الحق قال: ﴿فصدهم عن السبيل﴾ أي الذي لا سبيل إلى الله غيره، وهو الذي بعث به أنبياءه ورسله عليهم الصلاة والسلام.
ولما تسبب عن ذلك ضلالهم، قال: ﴿فهم﴾ أي بحيث ﴿لا يهتدون*﴾ أي لا يوجد لهم هدى، بل هم في ضلال صرف، وعمى محض.
ولما كانت القصة في بيان علمه سبحانه السابق لعلم الخلائق المستلزم للحكمة، وصفه بما يقتضي ذلك فقال: ﴿الذي يخرج الخبء﴾ وهوالشيء المخبوء بالفعل المخفي في غيره، وهو ما وجد وغيب عن الخلق كالماء الذي في بطن الأرض، أو بالقوة وهو ما لم يوجد أصلاً، وخصه بقوله: ﴿في السماوات والأرض﴾ لأن ذلك منتهى مشاهدتنا،
ولما كان ذلك قد يخص بما لم يضمر في القلوب كالماء الذي كان يخرجه الهدهد وكان ذلك قد يعرف بأمارات، وكان ما تضمره القلوب أخفى، قال: ﴿ويعلم ما تخفون﴾ ولما كان هذا مستزماً لعلم الجهر، وكان التصريح ما ليس لغيره من المكنة والطمأنينة، مع أن الإعلان ربما كان فيه من اللغط واختلاط الأصوات ما يمنع المستمع من العلم، قال: ﴿وما تعلنون*﴾ أي يظهرون.
ولما كان هذا الوصف موجباً لأن يعبد سبحانه وحده، صرح بما يقتضيه في قوله؛ ﴿الله﴾ أي الملك الأعظم الذي لا كفوء له؛ ولما كان هذا إشارة إلى أنه لا سمي له، أتبعه التصريح بأنه لا كفوء له فقال: ﴿لا إله إلا هو﴾ ولما كان وصف عرشها بعظم ما، قال: ﴿رب﴾ أي مبدع ومدبر ﴿العرش العظيم*﴾ أي الكامل في
ولما صح قوله في كون هذا خبراً عظيماً، وخطباً جسيماً، حصل التشوق إلى جوابه فقيل: ﴿قال﴾ أي سليمان عليه السلام للهدهد: ﴿سننظر﴾ أي نختبر ما قلته ﴿أصدقت﴾ أي فيه فنعذرك. ولما كان الكذب بين يديه - لما أوتيه من العظمة بالنبوة والملك الذي لم يكن لأحد بعده - يدل على رسوخ القدم فيه، قال: ﴿أم كنت﴾ أي كوناً هو كالجبلة ﴿من الكاذبين*﴾ أي معروفاً بالانخراط في سلكهم، فإنه لا يجترىء على الكذب عندي إلا من كان عريقاً في الكذب دون «أم كذبت» لأن هذا يصدق بمرة واحدة. ثم شرع فيما يختبره به، فكتب له كتاباً على الفور في غاية الوجازة قصداً للإسراع في إزالة المنكر على تقدير صدق الهدهد بحسب الاستطاعة، ودل على إسراعه في كتابته بقوله جواباً له: ﴿اذهب بكتابي هذا﴾ قول من
ولما كان عليه السلام قد زاد قلقه بسجودهم لغير الله، أمره بغاية الإسراع، وكأنه كان أسرع الطير طيراناً وأمده الله زيادة على ذلك بمعونة منه إكراماً لنبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فصار كأنه البرق، فأشار إلى ذلك بالفاء في قوله: ﴿فألقه﴾ ولما لم يخصها في الكتاب دونهم بكلام لتصغر إليهم أنفسهم بخطابه مع ما يدلهم على عظمته، جمع فقال: ﴿إليهم﴾ أي الذين ذكرت أنهم يعبدون الشمس، وذلك للاهتمام بأمر الدين.
ولما كان لو تأخر عنهم بعد إلقائه إلى موضع يأمن فيه على نفسه على ما هو فيه من السرعة لداخلهم شك في أنه هو الملقى له، أمره بأن يمكث بعد إلقائه يرفرف على رؤوسهم حتى يتحققوا أمره، فأشار سبحانه إلى ذلك بأداة التراخي بقوله، ﴿ثم﴾ أي بعد وصولك وإلقائك ﴿تول﴾ أي تنح ﴿عنهم﴾ إلى مكان تسمع فيه كلامهم ولا يصلون معه إليك ﴿فانظر﴾ عقب توليك ﴿ماذا يرجعون*﴾ أي من القول من بعضهم إلى بعض بسبب الكتاب.
ولما كان العلم واقعاً بأنه يفعل ما أمر به لا محالة، وأنه لا يدفعه
ولما كان من شأن الملوك أن لا يصل إليهم أحد بكتاب ولا غيره إلا على أيدي جماعتهم، عظمت هذا الكتاب بأنه وصل إليها على غير ذلك المنهاج فبنت للمفعول قولها: ﴿إني ألقي إليَّ﴾ أي بإلقاء ملق على وجه غريب ﴿كتاب﴾ أي صحيفة مكتوب فيها كلام وجيز جامع.
ولما كان الكريم كما تقدم في الرعد - من ستر مساوىء الأخلاق بإظهار معاليها لأنه ضد اللئيم، وكان هذا الكتاب قد حوى من الشرف أمراً باهراً لم يعهد مثله من جهة المرسل والرسول والافتتاح بالاسم الأعظم إلى ما له من وجازة اللفظ وبلوغ المعنى، قالت: ﴿كريم*﴾ ثم بينت كرمه أو استأنفت جواباً لمن يقول: ممن هو وما هو؟ فقالت: ﴿إنه﴾ أي الكتاب ﴿من سليمان﴾ وفيه دلالة على أن الابتداء باسم صاحب الكتاب لا يقدح في الابتداء بالحمد ﴿وإنه﴾ أي المكتوب فيه ﴿بسم الله الرحمن الرحيم*﴾ فحمد المستحق للحمد وهو الملك الأعلى المحيط عظمه بدائرتي الجلال والإكرام، العام الرحمة
ولما تشوفت النفس غلى جوابهم، اعلم سبحانه بأنهم بهتوا فقال: ﴿قالت يا أيها الملأ﴾ ثم بينت ما داخلها من الرعب من صاحب هذا الكتاب بقولها: ﴿أفتوني﴾ أي تكرموا عليّ بالإبانة عما أفعله ﴿في أمري﴾ هذا الذي أجيب به عن هذا الكتاب، جعلت المشورة فتوى توسعاً، لأن الفتوى الجواب في الحادثة، والحكم بما هو صواب مستعار من
ولما بينت ما في المصادمة من الخطر، أتبعته ما عزمت عليه من المسالمة، فقالت: ﴿وإني مرسلة﴾ وأشار سبحانه إلى عظيم ما ترسل به بالجمع في قولها: ﴿إليهم﴾ أي إليه وإلى جنوده ﴿بهدية﴾ أي تقع منهم موقعاً. قال البغوي: وهي العطية على طريق الملاطفة. ﴿فناظرة﴾ عقب ذلك وبسببه ﴿بم﴾ أي بأي شيء ﴿يرجع المرسلون*﴾ بتلك الهدية عنه من المقال أو الحال، فنعمل بعد ذلك على حسب ما نراه من أمره، فنكون قد سلمنا من خطر الإقدام على ما لم نعرف عاقبته، ولم يضرنا ما فعلنا شيئاً.
ولما كان التقدير: فأرسلت بالهدية، وهي فيما يقال خمسمائة
ثم سبب عنه ما أوجب له استصغار ما معه فقال: ﴿فما آتاني الله﴾ أي الملك الأعظم الذي له جميع الكمال من المال والجلال بالنبوة والملك والقرب منه سبحانه، وهو الذي يغني مطيعه عن كل ما سواه، فمهما سأله أعطاه، وذلك أنه صف الشياطين والإنس والسباع والوحش والطير والهوام صفوفاً فراسخ عدة، وبسط المكان كله بلين الذهب إلى غير ذلك مما يليق به ﴿خير مما آتاكم﴾ أي من الملك الذي لا نبوة فيه، ولا تأييد من الله.
ولما كان التقدير: ولكنكم لا تعلمون أن هديتكم مما يزهد فيه لتقيدكم بظاهر من الحياة الدنيا، نسق عليه قوله: ﴿بل أنتم﴾ أي بجهلكم لذلك تستعظمون ما أنتم فيه، فأنتم ﴿بهديتكم تفرحون*﴾ بتجويزكم أن الدنيا تردني عنكم لأنها غاية قصدي، ويجوز أن يراد أنكم تفرحون بما يهدي إليكم فتتركون من كنتم تريدون غزوه لأجل ما آتاكم منه من الدنيا، فحالي خلاف حالكم، فإنه لا يرضيني إلا الدين. ثم أفرد الرسول إرادة لكبيرهم بقوله: ﴿ارجع﴾ وجمع في قوله: ﴿إليهم﴾ إكراماً لنفسه، وصيانه لاسمها عن التصريح بضميرها، وتعميماً لكل من يهتم بأمرها ويطيعها ﴿فلنأتينهم بجنود لا قبل﴾ أي طاقة ﴿لهم بها﴾ أي بمقابلتها لمقاومتها وقلبها عن قصدها، أي لا يقدرون أن يقابلوها
ولما كان الذل قد يكون لمجرد الانقياد، لا على سبيل الهوان، حقق المراد بقوله: ﴿وهم صاغرون*﴾ أي لا يملكون شيئاً من المنعة إن لم يقروا بالإسلام.
ولما ذهب الرسل، وعلم صلى الله عليه السلام مما رأى من تصاغرهم لما رأوا من هيبته وجلاله الذي حباه به ربه وعظمته أنهم يأتون بها مذعنة ﴿قال﴾ لجماعته تحقيقاً لقوله: ﴿وأوتينا من كل شيء﴾ لإعلامه بأنها استوثقت من عرشها: ﴿يا أيها الملأ﴾ أي الأشراف ﴿أيّكم يأتيني بعرشها﴾ لترى بعض ما آتاني الله من الخوارق، فيكون أعون على متابعتها في الدين، ولآخذه قبل أن يحرم أخذه بإسلامها، وأختبر به عقلها ﴿قبل أن يأتوني﴾ أي هي وجماعتها ﴿مسلمين*﴾ أي منقادين لسلطاني، تاركين لعز سلطانهم، منخلعين من عظيم شأنهم، ليكون ذلك أمكن في إقامة الحجة عليها في نبوتي وأعون على رسوخ الإيمان في قلبها وإخلاصها فيه ﴿قال عفريت﴾. ولما كان هذا اللفظ يطلق على الأسد، وعلى المارد القوي، وعلى الرجل النافذ في الأمر المبالغ فيه مع دهاء وقوة - وقال الرازي:
ولما كانت القصة لإظهار فضل العلم المستلزم للحكمة، دلالة على أنه تعالى حكيم عليم، ترغيباً في القرآن، وحثاً على ما أفاده من البيان، قال حاكياً لذلك استئنافاً جواباً لاستشرافه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأقرب من ذلك: ﴿قال الذي عنده﴾.
ولما كان لكتب الله من العظمة ما لا يحيطه إلا الله، اشار إلى ذلك بتنكير ما لهذا الذي يفعل مثل هذا الخارق العظيم من ذلك فقال: ﴿علم﴾ تنبيهاً على أنه اقتدر على ذلك بقوة العلم ليفيد ذلك تعظيم العلم والحث على تعلمه، وبين أن هذا الفضل إنما هو للعلم الشرعي فقال: ﴿من الكتاب﴾ أي الذي لا كتاب في الحقيقة غيره، وهو المنسوب إلينا، وكأنه الذي كان شهيراً في ذلك الزمان، ولعله التوراة والزبور، إشارة إلى أن من خدم كتاباً حق الخدمة
ولما كانت الرؤية قد تكون عن بعد ومجازية، وكذلك العندية، بين أنها حقيقية بإظهار العامل في الظرف ومن حقه في غير هذا السياق الحذف فقال: ﴿مستقراً عنده﴾ أي ثابتاً ثباتاً لا مرية فيه، ما هو بسحر ولا منام لا مثال؛ قال الإمام جمال الدين بن هشام في الباب
ولما كانت مع ذلك قد شبه عليها ولم تصل إلى حاق الانكشاف مع أنها غلبت على عرشها مع الاحتفاظ عليه، استحضر صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما خصه الله به من العلم زيادة في حثه على الشكر، فقال عاطفاً على ما تقديره: فأوتيت من أمر عرشها علماً، ولكنه يخالجه شك، فدل على أنها في الجملة من أهل العلم المهيئي للهداية، أو يكون التقدير
ثم ذكر السبب في وجود العلم واتساعه وثباته فقال: ﴿وكنا﴾ أي مع العلم الذي هيأنا الله له بما جعل في غرائزنا من النورانية ﴿مسلمين*﴾ أي خاضعين لله تعالى عريقين في ذلك مقبلين على جميع أوامره بالفعل على حسب أمره كما أشار إليه قوله تعالى: ﴿واتقوا الله ويعلمكم الله﴾ [البقرة: ٢٨٢]، ﴿يهديهم ربهم بإيمانهم﴾ [يونس: ٩].
ولما كان المعنى: وأما هي فإنها وإن أوتيت علماً فلم يكن ثابتاً، ولا كان معه دين، ترجمه بقوله: ﴿وصدها﴾ أي هي عن كمال العلم
ولما تم ذلك، كان كأنه قيل: هل كان بعد ذلك اختبار؟ فقيل: نعم! ﴿قيل لها﴾ أي من قائل من جنود سليمان عليه السلام، فلم تمكنها المخالفة لما هناك من الهيبة بالملك والنبوة والدين: ﴿ادخلي الصرح﴾ وهو قصر بناه قبل قدومها، وجلس في صدره، وجعل صحنه من الزجاج الأبيض الصافي، وأجرى تحته الماء، وجعل فيه دواب البحر، وأصله - كما قال في الجمع بين العباب والمحكم: بيت واحد يبني منفرداً
ولما حصل مراده، استؤنف الإخبار عن أمره بعده فقيل: ﴿قال﴾ مبيناً لعظم عقله وعلمه، وحكمته وقدرته، مؤكداً لأنه لشدة اشتباهه بجودة المادة وتناهي حسن الصنعة وإحكامها لا يكاد يصدق أنه حائل دون الماء: ﴿إنه﴾ أي هذا الذي ظننته ماءاً ﴿صرح﴾ أي قصر ﴿ممرد﴾ أي مملس، وأصل المرودة: الملامة والاستواء
ولما ذكرت هذا الأساس الذي لا يصح بناء طاعة إلا عليه، أتبعته الداعي الذي لا تتم ثمرات الأعمال المؤسسة عليه إلا بحبه، والإذعان له، والانقياد والاعتراف بالفضل، وبهدايته إلى ما يصلح منها وما لا يصلح على الوجوه التي لا تقوم إلا بها من الكميات والكيفيات. فقالت: ﴿مع سليمان﴾.
ولما ذكر صفة الربوبية الموجبة للعبادة بالإحسان، ذكرت الاسم الأعظم الدال على ذات المستجمع للصفات الموجبة للإلهية للذات
ولما أخبر عن عامة هذا الفريق بالشر، أخبر عن شرهم بقوله: ﴿وكان في المدينة﴾ أي مدينتهم الحجر من عظماء القرية وأعيانها ﴿تسعة رهط﴾ أي رجال، مقابلة لآيات موسى التسع.
ولما كان الرهط بمعنى القوم والرجال، أضيفت التسعة إليه، فكأنه قيل: تسعة رجال، وإن كان لقوم ورجال مخصوصين، وهم ما بين الثلاثة أو السبعة إلى العشرة، وما دون التسعة فنفر، وقال في القاموس: إن النفر ما دون العشرة غير أنه يفهم التفرق، والرهط يفهم العظمة والشدة والاجتماع ﴿يفسدون﴾ وقال: ﴿في الأرض﴾ إشارة إلى عموم فسادهم ودوامه.
ولما كان الكفرة كلهم مفسدين بالكفر، وكان بعضهم ربما كان يصلح في بعض أفعاله، بين أن هؤلاء ليسوا كذلك، بل هم شر
ولما اقتضى السياق السؤال عن بيان بعض حالهم، أجاب بقوله: ﴿قالوا تقاسموا﴾ أمر مما منه القسم، أي أوقعوا المقاسمة والمحالفة بينكم ﴿بالله﴾ أي الذي لا سمى له لما شاع من عظمته، وشمول إحاطته في علمه وقدرته، فليقل كل منكم عن نفسه ومن معه إشارة إلى أنكم كالجسد الواحد: ﴿لنبيتنّه﴾ أي صالحاً ﴿وأهله﴾ أي لنهلكن الجميع ليلاً، فإن البيات مباغتة العدو ليلاً.
ولما كانت العادة جارية بأن المبيتين لا بد أن يبقى بعضهم، قالوا: ﴿ثم لنقولن لوليّه﴾ أي المطالب بدمه إن بقي منهم أحد: ﴿ما شهدنا﴾ أي حضرنا حضوراً تاماً ﴿مهلك﴾ أي هلاك ﴿أهله﴾ أي أهل ذلك الولي فضلاً عن أن نكون باشرنا، أو أهل صالح عليه السلام فضلاً عن أن نكون شهدنا مهلك صالح أو باشرنا قتله ولا موضع إهلاكهم. ولما كانت الفجيعة من وليه بهلاكه - عليه السلام - أكثر من الفجيعة بهلاك أهله وأعظم، كان في السياق بالإسناد إلى الولي - على تقدير كون الضمير لصالح عليه السلام -
ولما كانوا قد صمموا على هذا الأمر، وظنوا أنفسهم على المبالغة في الحلف والاجتراء على الكذب فقالو: ﴿وإنا﴾ أي ونقول في جملة القسم تأكيداً للقسم، إيهاماً لتحقق الصدق: وإنا ﴿لصادقون*﴾ فيا للعجب من قوم إذا عقدوا اليمين فزعوا إلى الله العظيم، ثم نفروا عنه نفور الظليم، إلى أوثان أنفع منها الهشيم.
ولما علم من هذا الإبهام تهويل الأمر، سبب عنه سبحانه زيادة في تهويله قوله: ﴿فانظر﴾ وزاده عظمة بالإشارة بأداة الاستفهام إلى أنه أهل لأن يسأل عنه فقال: ﴿كيف كان عاقبة مكرهم﴾ فإن ذلك سنتنا في أمثالهم، ثم استأنف لزيادة التهويل قوله بياناً لما أبهم: ﴿إنا﴾ أي بما لنا من العظمة، ومن فتح فهو عنده بدل من ﴿عاقبة﴾ ﴿دمرناهم﴾ أي أهلكناهم، أي التسعة المتقاسمين، بعظمتنا التي لا مثل لها ﴿وقومهم أجمعين*﴾ لم يفلت منهم مخبر، ولا كان في ذلك تفاوت بين مقبل ومدبر، وأين يذهب أحد منهم أو من غيرهم من قبضتنا أو يفر من مملكتنا.
ولما كانت يتسبب عن دمارهم زيادة الهول والعرب بالإشارة إلى
ولم ذكر الهلاك، أتبعه سببه في قوله: ﴿بما ظلموا﴾ أي أوقعوا من الأمور في غير مواقعها فعل الماشي في الظلام، كما عبدوا من الأوثان، ما يستحق الهوان، ولا يستحق شيئاً من التعظيم بوجه، معرضين عمن لا عظيم عندهم غيره عند الإقسام، والشدائد والاهتمام، وخراب البيوت - كما قال أبو حيان - وخلوّها من أهلها حتى لا يبقى منهم أحد مما يعاقب به الظلمة.
ثم زاد في التهويل بقوله: ﴿إن في ذلك﴾ أي الأمر الباهر للعقول الذي فعل بثمود ﴿لآية﴾ أي عظيمة، ولكنها ﴿لقوم يعلمون*﴾ أي لهم علم. وأما من لا ينتفع بها نادى على نفسه بأنه في عداد البهائم.
ولما كان ذلك ربما أوهم أن الهلاك عم الفريقين قال: ﴿وأنجينا﴾ بعظمتنا ﴿الذين آمنوا﴾ أو وهم الفريق الذين كانوا مع صالح عليه السلام كلهم ﴿وكانوا يتقون*﴾ أي متصفين بالتقوى اتصافاً كأنهم مجبولون عليه، فيجعلون بينهم وبين ما يسخط ربهم وقايه
ولما فرغ من قصة القريب الذي دعا قومه فإذا هم قسمان، بعد الغريب الذي لم يختلف عليه ممن دعاهم اثنان، اتبعها بغريب لم يتبعه ممن دعاهم إنسان، فقال دالاً على أنه له سبحانه الاختيار، فتارة يجري الأمور على القياس، وأخرى على خلاف الأساس، الذي تقتضيه عقول الناس، فقال: ﴿ولوطاً﴾ أي ولقد أرسلناه؛ وأشار إلى سرعة إبلاغه بقوله: ﴿إذ﴾ أي حين ﴿قال لقومه﴾ أي الذين كان سكن فيهم لما فارق عمه إبراهيم الخليل عليه السلام وصاهرهم، وكانوا يأتون الأحداث، منكراً موبخاً: ﴿أتأتون﴾ ولما كان للإبهام ثم التعيين من هز النفس وترويعها ما ليس للتعيين من أول الأمر قال: ﴿الفاحشة﴾ أي الفعلة المتناهية في القبح ﴿وأنتم تبصرون*﴾ أي لكم عقول تعرفون بها المحاسن والمقابح، وربما كان بعضهم يفعله بحضرة بعض كما قال ﴿وتأتون في ناديكم المنكر﴾ [العنكبوت: ٢٩] فيكون حينئذ من البصر والبصيرة؛ ثم أتبع هذا الأنكار إنكاراً آخر لمضمون جملة مؤكدة أتم التأكيد، إشارة إلى أن فعلتهم هذه مما يعي الواصف،
ولما كان قوله: ﴿شهوة﴾ ربما أوهم أنهم لا غنى بهم عن إتيانهم للشهوة الغالبة لكن النساء لا تكفيهم، لذلك نفى هذا بقوله: ﴿بل﴾ أي إنكم لا تأتونهم لشهوة محوجة بل ﴿أنتم قوم﴾ ولما كان مقصود السورة إظهار العلم والحكمة، وكانوا قد خالفوا ذلك إما بالفعل وإما لكونهم يفعلون من الإسراف وغيره عمل الجهلة، قال: ﴿تجهلون*﴾ أي تفعلون ذلك إظهاراً للتزين بالشهوات فعل المبالغين في الجهل الذين ليس لهم نوع علم في التجاهر بالقبائح خبثاً وتغليباً لأخلاق البهائم، مع ما رزقكم الله من العقول التي أهملتموها حتى غلبت عليها الشهوة، وأشار إلى تغاليهم في الجهل وافتخارهم به بما سببوا عن ذلك بقوله: ﴿فما كان جواب قومه﴾ أي لهذا الكلام الحسن لما لم يكن لهم حجة في دفعه بل ولا شبهة ﴿إلا أن﴾ صدقوه في نسبته لهم إلى
فلما وصلوا في الخبث إلى هذا الحد، سبب سبحانه عن قولهم وفعلهم قوله: ﴿فأنجيناه وأهله﴾ أي كلهم، أي من أن يصلوا إليه بأذى أو يلحقه شيء من عذابنا ﴿إلا امرأته﴾ فكأنه قيل: فما كان من أمرها؟ فقيل: ﴿قدرناها﴾ أي جعلناها بعظمتنا وقدرتنا في الحكم وإن كانت خرجت معه ﴿من الغابرين*﴾ أي الباقين في القرية في لحوق وجوههم والداهية الدهياء أنفسهم وديارهم حتى كانوا كأمس الدابر ﴿وأمطرنا﴾ وأشار إلى أنه إمطار عذاب بالحجارة مع تعديته بالهمزة وهو معدى بدونها فصارت كأنها لإزالة الإغاثة بالإتيان بضدها بقوله: ﴿عليهم﴾ وأشار إلى سوء الأثر لاستلزامه سوء الفعل الذي نشأ عنه وغرابته بقوله: ﴿مطراً﴾ أي وأيّ مطر؛ ولذلك سبب عنه قوله: ﴿فساء مطر المنذرين*﴾
ولما كان مع هذا البيان من الأمر الواضح أن التقدير زيادة في توبيخ المشركين وتقرير المنكرين: من فعل هذه الأفعال البالغة في الحكمة المتناهية في العلم أم من سميتموه إلهاً، ولا اثر له أصلاً، عاد له بقوله: ﴿أمَّن﴾ وكان الأصل: أم هو، ولكنه عبر باسم موصول أصل وضعه لذي العلم، ووصله بما لا يصح أن يكون لغيره ليكون كالدعوى المقرونة بالدليل فقال: ﴿خلق السماوات والأرض﴾ تنبيهاً بالقدرة على بدء الخلق على القدرة على إعادته، بل من باب الأولى، دلالة على الإيمان بالآخرة تخلقاً بأخلاق المؤمنين الذين مضى أول السورة أن هذا القرآن المبين بشرى لهم.
ولما كان الإنبات. من أدل الآيات، على إحياء الأموات، قال: ﴿وأنزل﴾ وزاد في تقريعهم وتبكيتهم وتوبيخهم بقوله: ﴿لكم﴾ أي لأجلكم خاصة وأنتم تكفرون به وتنسبون ما تفرد به من ذلك لغيره: ﴿من السماء ماء﴾ هو للارض كالماء الدافق للأرحام كالماء الذي ينزل آخر الدهور على القبور.
ولما كان الأولى بجمع الكثرة لما لا يعقل الوصف بالمفرد قال مفيداً أنها كالشيء الواحد في ذلك الوصف: ﴿ذات بهجة﴾ أي بهاء وحسن ورونق، وبشر بها وسرور على تقارب أصولها مع اختلاف أنواعها، وتباين طعومها وأشكالها، ومقاديرها وألوانها.
ولما أثبت الإنبات له، نفاه عن غيره على وجه التأكيد تنبيهاً على تأكد اختصاصه بفعله، وعلى أنه إن أسند إلى غيره فهو مجاز عن التسبب وأن الحقيقة ليست إلا له فقال: ﴿ما كان﴾ أي ما صح وما تصور بوجه من الوجوه ﴿لكم﴾ وأنتم أحياء فضلاً عن شركائكم الذين هم أموات بل موات ﴿أن تنبتوا شجرها﴾ أي شجر
ولما ثبت أنه المتفرد بالألوهية، حسن موقع الإنكار والتقرير في قوله: ﴿أإله﴾ أي كائن ﴿مع الله﴾ أي الملك الأعلى الذي لا مثل له.
ولما كان الجواب عند كل عاقل: لا وعزته! قال معرضاً عنهم للإيذان بالغضب: ﴿بل هم﴾ أي في دعائهم معه سبحانه شريكاً ﴿قوم يعدلون*﴾ أي عن الحق الذي لا مرية فيه إلى غيره، مع العلم بالحق، فيعدلون بالله غيره.
ولما فرغ من آية اشترك فيها الخافقان، ذكر ما تتفرد به الأرض، لأنها اقرب إليهم وهم بحقيقتها وما لابسوه من أحوالها أعلم منهم بالأمور السماوية، تعديداً للبراهين الدالة على تفرده بالفعل الدال على تفرده بالإلهية، فقال مبدلاً من ﴿أمَّن خلق﴾ :﴿أمَّن﴾ أي أم فعل ذلك الذي ﴿جعل الأرض قراراً﴾ أي مستقرة في نفسها ليقر عليها غيرها، وكان القياس يقتضي أن تكون هاوية أو مضطربة كما يضطرب ما هو معلق في الهواء.
ولما ذكر قرارها، أتبعه دليله في معرض الامتنان فقال:
ولما ذكر الدليل، ذكر سبب القرار فقال: ﴿وجعل لها رواسي﴾ أي كمراسي السفن، كانت أسباباً في ثباتها على ميزان دبره سبحانه في مواضع من أرجائها بحيث اعتدلت جميع جوانبها فامتنعت من الاضطراب.
ولما أثبت القرار وسببه، وكان قد جعل سبحانه للأنهار طرقاً تتصرف فيها ولو حبسها عن الجري شيء لأوشك أن تستبحر، فيصير أكثر الأرض لا ينتفع به في سير ولا نبات، أو أن تخرق ذلك الحابس بما لها من قوة الجري وشدة النفوذ بلطافة السريان، لأن من عادة المياه التخلل بين أطباق التراب والتغلغل بما لها من اللطافة والرقة، والثقل في الأعماق ولو قليلاً قليلاً، وكان سبحانه قد سد ما بين البحرين: الرومي والفارسي، وكان ما بينهما من الأرض إنما هو يسير جداً في بعض المواضع، وكان بعض مياه الأرض عذباً، وبعضه ملحاً، مع
ولما كان من المعلوم أنه الله وحده. ليس عند عاقل شك في ذلك، كرر الإنكار في قوله: ﴿أإله مع الله﴾ أي المحيط علماً وقدرة. ولما كان الجواب الحق قطعاً: لا، وكان قد أثبت لهم في الإضراب الأول علماً من حيث الحكم على المجموع، وكان كل منهم يدعي رجحان العقل، وصفاء الفكر، ورسوخ القدم في العلم بما يدعيه العرب، قال: ﴿بل أكثرهم﴾ أي الخلق الذين ينتفعون بهذه المنافع ﴿لا يعلمون*﴾ أي ليس لهم نوع من العلم، بل هم كالبهائم لإعراضهم عن هذا الدليل الواضح.
ولما دلهم بآيات الآفاق، وكانت كلها من أحوال السراء، وكانت بمعرض الغفلة عن الإله، ذكرهم بما في أنفسهم مما يوجبه تغير الأحوال الدالة بمجردها على الإله، ويقتضي لكل عاقل صدق التوجه إليه،
ولما كانت الإجابة ذات شقين، جلب السرور، ودفع الشرور، وكان النظر إلى الثاني أشد، خصه بادئاً به فقال: ﴿ويكشف السوء﴾ ثم أتبعه الأول على وجه أعم، فقال مشيراً إلى عظيم المنة عليهم بجعلهم مسلطين عالين على جميع من في الأرض وما في الأرض مشرفين بخلافته سبحانه، ولذلك أقبل عليهم، ﴿ويجعلكم خلفاء الأرض﴾ أي فيما يخلف بعضكم بعضاً، لا يزال يجدد ذلك بإهلاك قرن وإنشاء آخر إلى قيام الساعة. ولما كان هذا أبين، كرر الإنكار فيه مبكتاً لهم بالنسيان فقال: ﴿أإله﴾ أي كائن أو موجود ﴿مع الله﴾ أي الملك الأعظم الذي لا كفوء له.
ولما ذكر آيات الأرض، وختم بالمضطر، وكان المضطر قد لا يهتدي لوجه حيلة، أتبعها آيات السماء ذاكراً ما هو من أعظم صور الاضطرار فقال: ﴿أمَّن يهديكم﴾ أي إذا سافرتم بما رسم لكم من المعالم العلوية والسفلية ﴿في ظلمات البر﴾ أي بالنجوم والجبال والرياح، وهي وإن كانت أضعفها فقد يضطر إليه حيث لا يبدو
ولما كانت الرياح كما كانت من أدلة السير، كان بعضها من أدلة المطر، قال: ﴿ومن يرسل الرياح﴾ أي التي هي من دلائل السير ﴿نشراً﴾ أي تنشر السحاب وتجمعها ﴿بين يدي رحمته﴾ أي التي هي المطر تسمية للمسبب باسم السبب؛ والرياح التي يهتدي بها في المقاصد أربع: الصبا، والدبور، والشمال، والجنوب، وهي أضعف الدلائل؛ قال الإمام أبو هلال الحسن بن عبد الله العسكري في كتاب أسماء الأشياء وصفاتها: الرياح أربع: الشمال، وهي التي تجيء عن يمينك إذا استقبلت قبلة العراق - يعني: وذلك ما بين مطالع الشمس الصيفية وبنات نعش، وهي في الصيف حارة، واسمها البارح، والجنوب تقابلها، والصبا من مطلع الشمس وهي القبول، والدبور تقابلها، ويقال الجنوب: النعامى والأرنب - انتهى.
وهذه العبارة أبين العبارات في تعيين هذه الرياح، وقال الإمام أبو العباس أحمد بن أبي أحمد بن القاص
وتكسح الأرض. وترفع الذيول، وتضرب الأقدام، وأشد ما تثير الغبار إذا تنكبت، تراها كأنها تعلب بالتراب على وجه الأرض، وترى الأشجار في البوادي والرمال لها دوي من ناحية الدبور، وقد اجتمع في أصلها التراب وما يلي الجنوب عارياً مكشوفاً متحفزاً وقوتها في الأرض - والله أعلم، لأن عاداً أو عدت بالتدمير بالرياح، فحفرت الآبار واستكنت فيها، فبعث الله الدبور فدخلت الآبار وقذفتهم متدمرين حتى أهلكتهم. والشمال - قال في القاموس: الريح التي تهب من قبل الحجر، والصحيح أنه ما مهبه ما بين مطله الشمس وبنات نعش، أو من مطلع النعش إلى
ولما انكشف بما مضى من الآيات. ما كانوا في ظلامه من واهي الشبهات، واتضحت الأدلة، ولم تبق لأحد في شيء من ذلك علة. كرر سبحانه الإنكار في قوله: ﴿أإله مع الله﴾ أي الذي كمل علمه فشملت قدرته.
ولما رتب سبحانه هذه الأدلة على هذا الوجه ترقياً من أعم إلى أخص، ومن أرض إلى سماء، ختمها بما يعمها وغيرها، إرشاداً إلى قياس ما غاب منها على ما شوهد، فلزم من ذلك قطعاً القدرة على الإعادة، فساقها لذلك سياق المشاهد المسلم، وعد من أنكره في عداد من لا يلتفت إليه فقال: ﴿أمن يبدأ الخلق﴾ أي كله: ما علمتم منه وما لم تعلموا، ثم بيده لأن كل شيء هالك إلا وجهه، له هذا الوصف باعترافكم يتجدد أبداً تعلقه. ولما كان من اللازم البين لهم الإقرار بالإعادة لاعترافهم بأن كل من أبدى شيئاً قادر على إعادته، لأن الإعادة أهون، قال: ﴿ثم يعيده﴾ أي بعد ما يبيده.
ولما كان الإمطار والإنبات من أدل ما يكون على الإعادة، قال
ولما كانت هذه كلها براهين ساطعة، ودلائل قاطعة، وأنواراً لامعة، وحججاً باهرة، وبينات ظاهرة، وسلاطين قاهرة، على التوحيد المستلزم للقدرة على البعث وغيره من كل ممكن، أمره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إعراضاً عنهم، إيذاناً بالغضب في آخرها بأمرهم بالإتيان ببرهان واحد على صحة معتقدهم فقال: ﴿قل﴾ أي هؤلاء المدعين للعقول ﴿هاتوا برهانكم﴾ أي على نفي شيء من ذلك عن الله تعالى، أو على إثبات شيء منه لغيره، لتثبت دعوى الشركة في الخلق فتسمع دعوى الشركة في الألوهية، وليكن إتيانكم بذلك ناجزاً من غير مهلة، لأن من يدعي العقل لا يقدر على شيء إلا ببرهان حاضر ﴿إن كنتم صادقين*﴾ أي في أنكم على حق في أن مع الله غيره. وأضاف البرهان إليهم إضافة ما كأنه عنيد، لا كلام في وجوده وتحققه، وإنما المراد الإتيان به كل ذلك تهكماً بهم وتنبيهاً على أنهم أبعدوا في الضلال، وأعرقوا في
ولما كان الله تعالى منزهاً عن أن يحويه مكان. جعل الاستثناء هنا منقطعاً، ومن حق المنقطع النصب كما قرأ به ابن أبي عبلة شاذاً، لكنه رفع بإجماع العشرة بدلاً على لغة بني تميم، فقيل:
وبلدة ليس بها أنيس... إلا اليعافير وإلا العيس
بمعنى: إن كانت اليعافير أنيساَ ففيها أنيس، بتاً للقول بخلوها من الأنيس، فيكون معنى الآية: إن كان الله جل وعلا ممن في السماوات والأرض ففيهم من يعلم الغيب، يعني إن علم أحدهم الغيب في استحالته كاستحالة أن يكون الله منهم، ويصح كونه متصلاً، والظرفية في حقه سبحانه مجاز بالنسبة إلى علمه وإن كان فيه جمع بين الحقيقة والمجاز، وعلى هذا فيرتفع على البدل أو الصفة، والرفع أفصح من النصب، لأنه من منفي، وقد عرف بهذا سر كونه لم يقل «لا يعلم أحد الغيب إلا هو» وهو التنبيه على المظروفية والحاجة، وأن الظرف حجاب، لا يرتاب فيه مرتاب، وجعل ابن مالك متعلق الظرف خاصاً تقديره: يذكر، وجعل غيره «من» مفعولاً والغيب بدل اشتمال، والاستثناء مفرغاً، فالتقدير: لا يعلم غيب المذكورين - أي ما غاب عنهم - كلهم غيره.
ولما كان الخبر - الذي لم يطلع عليه أحد من الناس - قد يخبر به الكهان، أو أحد من الجان، من أجواف الأوثان، وكانوا يسمون هذا غبياً وإن كان في الحقيقة ليس به لسماعهم له من السماء بعد ما أبرزه الله إلى عالم
ولما كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد بعث والكفر قد عم الأرض، وكانوا قد أكثروا في التكذيب بالساعة والقطع بالإنكار لها بعضهم صريحاً، وبعضهم لزوماً، لضلاله عن منهاج الرسل وكان الذي ينبغي للعالم الحكيم أن لا يقطع بالشيء إلا بعد إحاطة علمه به، قال متهكماً بهم كما تقول لأجهل الناس: ما أعلمك! استهزاء به مستدركاً لنفي شعورهم بها بياناً لكذبهم باضطراب قولهم: ﴿بل ادّارك﴾ أي بلغ وتناهي ﴿علمهم في الآخرة﴾ أي أمرها مطلقاً: علم وقتها ومقدار عظمتها في هو لها وغير ذلك من نعتها لقطعهم بإنكارها وتمالؤهم
ولما كانوا مع تصريحهم بالقطع في إنكارها كاذبين في قطعهم، مرتبكين في جهلهم، وقد يعبرون - دليلاً على أنه لا علم من ذلك عندهم - بالشك، قال تعالى: ﴿بل هم في شك﴾ ولما كانت لشدة ظهورها لقوة أدلتها كأنها موجودة، عبر بمن، أي مبتدىء ﴿منها﴾ ولما كانوا يجزمون بنفيها تارة ويترددون أخرى، كانت حقيقة حال من ينكر الشيء تارة على سبيل القطع وأخرى وجه الشك الوصف بالجهل البالغ به قال: ﴿بل هم﴾ ولما كان الإنسان مطبوعاً على نقائص موجبة لطغيانه، ومبالغته في العلو في جميع شأنه، ولا يوهن تلك النقائص منه إلا الخوف من عرضه على ديانه، الموجب لجهله. وتماديه على قبيح فعله، فقال مقدماً للجار: ﴿منها عمون*﴾ أي ابتدأ عماهم البالغ الثابت من اضطرابهم في أمرها، فضلوا فأعماهم ضلالهم عن جميع ما ينفعهم، فصاروا لا ينتفعون بعقولهم، بل انعكس نفعها ضراً، وخيرها شراً، ونسب ما ذكر لجميع من في السماوات والأرض، لأن فعل البعض قد يسند إلى الكل لغرض، وهو هنا التنبيه على عظمة هذا الأمر، وتناهي وصفه، وأنه
ومن أخذ شيئاً من علمها عن غيرهم ضل.
ولما كان التقدير لحكاية كلامهم الذي يشعر ببلوغ العلم، فقالوا مقسمين جهد أيمانهم: لا تأتينا الساعة، عطف عليه ما يدل على الشك والعمى، وكان الأصل: وقالوا، ولكنه قال: ﴿وقال الذين كفروا﴾ أي ستروا دلائل التوحيد والآخرة التي هي أكثر من أن تحصى وأوضح من الضياء، تعليقاً للحكم بالوصف، مستفهمين استفهام المستبعد المنكر: ﴿أإذا كنا تراباً وآباؤنا﴾ وكرروا الاستفهام
ولما كانت العناية في هذه السورة بالإيقان بالآخرة، قدم قوله: ﴿هذا﴾ أي الإخراج من القبور كما كنا أول مرة - على قوله: ﴿نحن وآباؤنا﴾ بخلاف ما سبق في سورة المؤمنون، وقالوا: ﴿من قبل﴾ زيادة في الاستبعاد، أي أنه قد مرت الدهور على هذا الوعد، ولم يقع منه شيء، فلذلك دليل على أنه لا حقيقة له فكأنه قيل: فما المراد به؟ فقالوا: ﴿إن﴾ أي ما ﴿هذا إلا أساطير الأولين*﴾ أي ما سطروه كذباً لأمر لا نعرف مرادهم منه. ولا حقيقة لمعناه، فقد حط كلامهم هذا كما ترى على أنهم تارة في غاية الإنكار دأب المحيط العلم، وتارة يستبعدون دأب الشاك، المركب الجهل، الجدير بالتهكم كما مضى أنه معنى الإضرابات - والله الموفق.
ولما كان المراد الاسترشاد للاعتقاد، والرجوع عن الغي والعناد، لكون السياق له، لا مجرد التهديد، قال ﴿فانظروا﴾ بالفاء المقتضية للإسراع، وعظم المأمور بنظره بجعله أهلاً للعناية به، والسؤال عنه، فقال: ﴿كيف كان﴾ أي كوناً هو في غاية المكنة ﴿عاقبة المجرمين*﴾ أي القاطعين لما أمر الله به أن يوصل من الصلاة التي هي الوصلة بين الله وبين عباده، والزكاة التي هي وصلة بين بعض العباد وبعض، لتكذيبهم الرسل الذين هم الهداة إلى ما لا تستقل به العقول، فكذبوا بالآخرة التي ينتج التصديق بها كل هدى، ويورث التكذيب بها كل عمى - كما تقدمت الإشارة إليه في افتتاح السورة، فإنكم إن نظرتم ديارهم، وتأملتم أخبارهم، حق التأمل، أسرع بكم ذلك إلى التصديق فنجوتم وإلا هلكتم، فلم تضروا إلا أنفسكم، وقد تقدم لهذا مزيد بيان
ولما دهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الأسف على جلافتهم في عماهم عن السبيل، الذي هدى إليه الدليل، ما لا يعلمه إلا الله قال: ﴿ولا تحزن عليهم﴾ أي في عدم إيمانهم.
ولما كانوا لا يقتصرون على التكذيب، بل يبغون للمؤمنين الغوائل، وينصبون الحبائل، قال: ﴿ولا تكن﴾ مثبتاً للنون لأنه في سياق الإخبار عن عنادهم واستهزائهم مع كفايته سبحانه وتعالى لمكرهم بما أعد لهم من سوء العذاب في الدارين، فلا مقتضى للتناهي في الإيجاز والإبلاغ في نفي الضيق، فيفهم إثبات النون الرسوخ، فلا يكون منهياً عما لا ينفك عنه العسر مما أشار إليه قوله تعالى ﴿ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون﴾ وإنما ينهى عن التمادي معه في الذكر بخلاف ما مضى في النحل، فإن السياق هناك للعدل في العقوبة لما وقع من المصيبة في غزوة أحد المقتضى لتعظيم التسلية بالحمل على الصبر، ونفي جميع الضيق ليكون ذلك وازعاً عن مجاوزة الحد، بل حاملاً على العفو ﴿في ضيق﴾ أي في الصدر ﴿مما يمكرون*﴾ فإن الله جاعل تدميرهم في تدبيرهم كطغاة قوم صالح.
ولما دهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الأسف على جلافتهم في عماهم عن السبيل، الذي هدى إليه الدليل، ما لا يعلمه إلا الله قال: ﴿ولا تحزن عليهم﴾ أي في عدم إيمانهم.
ولما كانوا لا يقتصرون على التكذيب، بل يبغون للمؤمنين الغوائل، وينصبون الحبائل، قال: ﴿ولا تكن﴾ مثبتاً للنون لأنه في سياق الإخبار عن عنادهم واستهزائهم مع كفايته سبحانه وتعالى لمكرهم بما أعد لهم من سوء العذاب في الدارين، فلا مقتضى للتناهي في الإيجاز والإبلاغ في نفي الضيق، فيفهم إثبات النون الرسوخ، فلا يكون منهياً عما لا ينفك عنه العسر مما أشار إليه قوله تعالى ﴿ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون﴾ وإنما ينهى عن التمادي معه في الذكر بخلاف ما مضى في النحل، فإن السياق هناك للعدل في العقوبة لما وقع من المصيبة في غزوة أحد المقتضى لتعظيم التسلية بالحمل على الصبر، ونفي جميع الضيق ليكون ذلك وازعاً عن مجاوزة الحد، بل حاملاً على العفو ﴿في ضيق﴾ أي في الصدر ﴿مما يمكرون*﴾ فإن الله جاعل تدميرهم في تدبيرهم كطغاة قوم صالح.
ولما قصر الفعل وضمنه معنى ما يتعدى باللام لأجل الاختصاص قال: ﴿لكم﴾ أي لأجلكم خاصة ﴿بعض الذي تستعجلون*﴾ إتيانه من الوعيد، فتطلبون تعجيله قبل الوقت الذي ضربه الله له، فعلى تقدير وقوعه ماذا أعددتم لدفاعه؟ فإن العاقل من ينظر في عواقب أموره، ويبنيها على أسوأ التقادير، فيعد لما يتوهمه من البلاء ما يكون فيه
ولما كان التقدير قطعاً: فأن ربك لا يعجل على أهل المعاصي بالانتقام مع القطع بتمام قدرته، عطف عليه قوله: ﴿وإن ربك﴾ أي المحسن إليك بالحلم عن أمتك وترك المعاجلة لهم بالعذاب على المعاصي ﴿لذو فضل﴾ أي تفضل وإنعام ﴿على الناس﴾ أي كافة ﴿ولكن أكثرهم لا يشكرون*﴾ أي لا يوقعون الشكر له بما أنعم عليهم، ويزيدون في الجهل بالاستعجال.
ولما كان الإمهال قد يكون من الجهل بذنوب الأعداء، قال نافياً لذلك: ﴿وإن ربك﴾ أي والحال أنه أشار بصفة الربوبية إلى إمهالهم إحساناً إليه وتشريفاً له ﴿ليعلم﴾ أي علماً لا يشبه علمكم بل هو في غاية الكشف لديه دقيقه وجليله ﴿ما تكن﴾ أي تضمر وتستر وتخفي ﴿صدورهم﴾ أي الناس كلهم فضلاً عن قومك ﴿وما يعلنون*﴾ أي يظهرون من عداوتك فلا تخشهم، وذكر هذا القسم لأن التصريح أقر للنفس والمقام للأطناب، على أنه ربما كان
ولما كان ثبات علة الناس في الغالب مقيداً بالكتاب، قال تقريباً لأفهامهم: ﴿وما من غائبة﴾ أي من هنة من الهنات في غاية الغيبوبة ﴿في السماء والأرض﴾ أي في أي موضع كان منهما، وأفردهما دلالة على إرادة الجنس الشامل لكل فرد ﴿إلا في كتاب﴾ كتبه قبل إيجادها لأنه لا يكون شيء إلا بعلمه وتقديره ﴿مبين*﴾ لا يخفى شيء فيه على من تعرف ذلك منه كيفما كان؛ ثم دل على ذلك بقوله: ﴿إن هذا القرآن﴾ أي الآتي به هذا النبي الأمي الذي لم يعرف قبله علماً ولا خالط عالماً ﴿يقص﴾ أي يتابع الإخبار ويتلو شيئاً فشيئاً على سبيل القطع الذي لا تردد فيه، من غير زيادة ولا نقص ﴿على بني إسرائيل﴾ أي الذي أخبارهم مضبوطة في كتبهم لا يعرف بعضها إلا قليل من حذاق أخبارهم ﴿أكثر الذي هم﴾ أي خاصة لكونه من خاص أخبارهم التي لا علم لغيرهم بها ﴿فيه يختلفون*﴾ أي من أمر الدين وإن بالغوا في كتمه، كقصة الزاني المحصن في إخفائهم أن حده الرجم، وقصة عزير والمسيح، وإخراج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذلك من توارتهم، فصح بتحقيقه على لسان من لم يلم بعلم قط أنه من عند الله، وصح أن الله تعالى يعلم كل شيء إذ لا خصوصية لهذا دون غيره بالنسبة إلى علمه سبحانه.
ولما ذكر دليل فضله، أتبعه دليل عدله، فقال مستأنفاً لجواب من ظن أن فضله دائم العموم على الفريقين: ﴿إن﴾ وقال: ﴿ربك﴾ أي المحسن إليك بجمعه لكل بين العلم والبلاغة والدين والبراعة والدنيا والعفة والشجاعة تسلية للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ﴿يقضي بينهم﴾ أي بين جميع المخلفين ﴿بحكمه﴾ أي الذي هو أعدل حكم وأتقنه وأنفذه وأحسنه مع كفرهم به واستهزائهم برسله، لا بحكم غيره ولا بنائب يستنيبه ﴿وهو﴾ أي والحال أنه هو ﴿العزيز﴾ فلا يرد له أمر ﴿العليم*﴾ فلا يخفى عليه سر ولا جهر، فلما ثبت له العلم والحكمة، والعظمة والقدرة، تسبب عن ذلك قوله: ﴿فتوكل على الله﴾ أي الذي له جميع العظمة بما ثبت علمه وقدرته التي أثبت بها أنك أعظم عباده الذين اصطفى في استهزاء الأعداء وغيره من مصادمتهم ومسالمتهم لتدع الأمور كلها إليه، وتستريح من تحمل المشاق، وثوقاً بنصره، وما أحسن قول قيس بن الخطيم وهو جاهلي:
متى ما تقد بالباطل الحق يأبه | وأن تقد الأطوار بالحق تنقد |
ولما كان تشبيههم بالموتى مؤيساً، قال مرجياً: ﴿ولا تسمع الصم الدعاء﴾ أي لا تجدد ذلك لهم، فشبههم بما في أصل خلقهم مما جبلوا عليه من الشكاسة وسوء الطبع بالصم.
ولما كانوا قد ضموا إلى ذلك الإعراض والنفرة فصاروا كالأصم المدبر، وكان الأصم إذا أقبل ربما بمساعدة بصره وفهمه، قال: ﴿إذا ولوا مدبرين*﴾ فرجاه في إيجاد الإسماع إذا حصلت لهم حالة من الله تقبل بقلوبهم.
ولما شبههم بالصم في كونهم لا يسمعون إلا مع الإقبال، مثلهم
ولما كان ربما أوقف عن دعائهم، رجاه في انقيادهم وارعوائهم بقوله: ﴿إن﴾ أي ما ﴿تسمع﴾ أي سماع انتفاع على وجه الكمال، في كل حال ﴿إلا من يؤمن﴾ أي من علمناه أنه يصدق ﴿بآياتنا﴾ بأن جعلنا فيه قابلية السمع. ثم سبب عنه قوله دليلاً على إيمانه: ﴿فهم مسلمون*﴾ أي في غاية الطواعية لك في المنشط والمكره، لا خيرة لهم ولا إرادة في شيء من الأشياء.
ولما كان التعبير بالدابة يفهم أنها كالحيوانات العجم لا كلام لها قال: ﴿تكلمهم﴾ أي بكلام يفهمونه، روى البغوي من طريق مسلم عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: قال سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «إن أول الآيات خروجاً طلوع الشمس من مغربها، وخروج الدابة على الناس ضحى، وأيتهما كانت قبل صاحبتها فالأخرى على أثرها قريباً» ومن طريق ابن خزيمة عن أبي شريحة الغفاري رضي الله عنه أن النبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «يكون للدابة ثلاث خرجات من الدهر، فتخرج خروجاً بأقصى اليمن فيفشو ذكرها بالبادية، ولا يدخل ذكرها القرية - يعني مكة، ثم تمكن زماناً طويلاً، ثم تخرج خرجة أخرى قريباً من مكة فيفشو ذكرها بالبادية ويدخل ذكرها القرية، ثم بينما
ثم علل سبحانه إخراجه لها بقوله: ﴿أن الناس﴾ أي بما هم ناس لم يصلوا إلى أول أسنان الإيمان، وهو سن ﴿الذين آمنوا﴾ بل هم نائسون مترددون مذبذبون تارة، وتارة ﴿كانوا﴾ أي كوناً هو لهم كالجبلة ﴿بآياتنا﴾ أي المرئيات التي كتبناها بعظمتنا في ذوات العالم، والمسموعات المتلوات، التي أتيناهم بها على ألسنة أكمل الخلق: الأنبياء والرسل، حتى ختمناهم بإمامهم الذي هو أكمل العالمين، قطعاً لحجاجهم، ورداً عن لجاجهم، ولذا عممنا برسالته وأوجبنا على جميع العقل أتباعه ﴿لا يوقنون*﴾ من اليقين، وهو إتقان العلم بنفي الشبه، بل هم فيها مزلزلون، فلم يبق بعده صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا كشف الغطاء عما ليس من جنس البشر بما لا تثبت له عقولهم.
ولما كان من فعل الدابة التمييز بين المؤمن والكافر بما لا يستطيعون دفعه، تلاه بتمييز كل فريق منهما عن صاحبه يجمعهم يوم القيامة في ناحية، وسوقهم من غير اختلاط بالفريق الآخر، فقال عاطفاً على العامل في «وإذا وقع القول» :﴿ويوم نحشر﴾ أي نجمع - بما لنا من العظمة - على وجه الإكراه؛ قال أبو حيان: الحشر: الجمع
ولما ذكر الحشر، استدل عليه بحشرهم كل ليلة إلى المبيت، والختم على مشاعرهم، وبعثهم من المنام، وإظهار الظلام الذي هو كالموت بعد النور، وبعث النور بعد إفنائه بالظلام، فقال: ﴿ألم يروا﴾ مما يدلهم على قدرتنا على بعثهم بعد الموت وعلى كل ما أخبرناهم به ﴿أنا جعلنا﴾ أي بعظمتنا التي لا يصل أحد إلى مماثلة شيء منها
ولما كان من مباني السورة تخصيص الهداية بالمؤمنين، خصهم بالآيات لاختصاصهم بالانتفاع بها وأن كان الكل مشتركين في كونها دلالة لهم، فقال: ﴿لقوم يؤمنون*﴾ أي قضيت بأن إيمانهم لا يزال يتجدد، فهم كل يوم في علو وارتفاع.
ولما كان ما ينشأ عنه من فزعهم مع كونه محققاً مقطوعاً به كأنه وجد ومضى، يكون في آن واحد، أشار إلى ذلك وسرعة كونه بالتعبير بالماضي فقال: ﴿ففزع﴾ أي صعق بسسب هذا النفخ ﴿من في السماوات﴾.
ولما كان الأمر مهولاً، كان الإطناب أولى، فقال: ﴿ومن في الأرض﴾ أي كلهم ﴿إلا من شاء الله﴾ أي المحيط علماً وقدرة وعزة وعظمة، أن لا يفزع؛ ثم أشار إلى النفخ لإحياء الكل بقوله: ﴿وكل﴾ أي من فزع ومن لم يفزع ﴿أتوه﴾ أي
ولما ذكر دخورهم، تلاه بدخور ما هو أعظم منهم خلقاً، وأهول أمراً، فقال: عاطفاً على ناصب الظرف مما تقديره: كانت أمور محلولة، معبراً بالمضارع لأن ذلك وإن شارك الفزع في
ولما كان ذلك أمراً هائلاً، أشار إلى عظمته بقوله، مؤكداً
ولما ثبت هذا على هذا الوجه المتقن، والنظام الأمكن، أنتج قطعاً قوله: ﴿إنه﴾ أي الذي أحكم هذه الأمور كلها ﴿خبير بما يفعلون*﴾ أي لأن الإتقان نتيجة القدرة، وهي نتيجة العلم، فمن لم يكن شامل العلم لم يكن تام القدرة، وعبر بالفعل الذي هو أعم من أن يكون بعلم أو لا، لأنه في سياق البيان لعماهم، ونفي العلم عنهم، وقرىء بالخطاب المؤذن بالقرب المرجي للرضا، المرهب من الإبعاد، المقرون بالسخط، وبالغيبة المؤذنة بالإعراض الموقع في الخيبة، وما أبدع ما لاءم ذلك ولاحمه ما بعده على تقدير الجواب لسؤال من كأنه قال: ماذا يكون حال أهل الحشر مع الدخور عند الناقد البصير؟ فقال: من إتقانه للأشياء أنه رتب الجزاء أحسن ترتيب ﴿من جاء بالحسنة﴾ أي الكاملة وهي الإيمان ﴿فله﴾ وهو من جملة إحكامه للأشياء ﴿خير﴾ أي أفضل ﴿منها﴾ مضاعفاً، أقل ما يكون عشرة أضعاف إلى ما لا يعلمه إلا الله، وأكرمت وجوههم عن النار، وهؤلاء أهل القرب
ولما كانوا قد نكسوا أعمالهم وعكسوها بعبادة غير الله، فوضعوا الشيء في غير موضعه، فعظموا ما حقه التحقير، واستهانوا أمر العلي الكبير. وكان الوجه محل ظهور الحياء والانكسار، لظهور الحجة، وكانوا قد حدقوا الأعين جلادة وجفاء عند العناد، وأظهروا في الوجوه التجهم والعبوس والارتداد، بدع قوله بناء على ما تقديره بما دل عليه الاحتباك: وهم من فزع يومئذ خائفون، وليس لهم إلا مثل سيئتهم: ﴿هل﴾ أي مقولاً لهم: هل ﴿تجزون﴾ أي بغمس الوجوه
ولما أتم الدين بذكر الأصول الثلاثة: المبدأ والمعاد والنبوة، ومقدمات القيامة وأحوالها، وبعض صفتها وما يكون من أهوالها، وذلك كمال ما يتعلق بأصول الدين على وجوه مرغبة أتم ترغيب، مرهبة أعظم ترهيب، أوجب هذا الترغيب والترهيب لكل سامع أن يقول: فما الذي نعمل ومن نعبد؟ فأجابه المخاطب بهذا الوحي. المأمور بإبلاغ هذه الجوامع، الداعي لمن سمعه، الهادي لم اتبعه، بأنه لا يرضى له ما رضي لنفسه، وهو ما أمره به ربه، فقال: ﴿إنما أمرت﴾ أي بأمر من لا يرد له أمر، ولا يعد أن يكون بدلاً من قوله ﴿الحمد لله وسلام على عباده الذين اصصفى﴾ فيكون محله نصباً بقل،
ولما كانوا ربما قالوا: ونحن نعبده بعبادة من نرجوه يقربنا إليه زلفى، عين الدين الذي تكون به العبادة فقال: ﴿وأمرت﴾ أي مع الأمر بالعبادة له وحده، وعظم المفعول المأمور به بجعله عمدة الكلام بوضعه موضع الفاعل فقال: ﴿أن أكون﴾ أي كوناً هو في غاية الرسوخ ﴿من المسلمين*﴾ أي المنقادين لجميع ما يأمر به كتابه أتم انقياد، ثابتاً على ذلك غاية الثبات.
ولما تسبب عن ذلك أن من انقاد له نجى نفسه، ومن
ولما كانت نتيجة ذلك القدرة على كل شيء قال: ﴿سيريكم﴾ أي في الدنيا والآخرة بوعد محقق لا شك في وقوعه ﴿آياته﴾ أي الرادة لكم عما أنتم فيه يوم يحل لي هذه البلدة الذي حرمها بما أشار إليه جعلي من المنذرين وغير ذلك ما يظهر من وقائعه ويشتهر من أيامه التي صرح أو لوح بها القرآن، فيأتيكم تأويله فترونه عياناً، وهو معنى ﴿فتعرفونها﴾ أي بتذكركم ما أتوعدكم الآن به وأصفه لكم
ولما كان قد نفس لهم بالسين في الآجال، وكان التقدير تسلية له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وما ربك بتاركهم على هذا الحال من العناد لأن ربك قادر على ما يريد، عطف عليه قوله: ﴿وما ربك﴾ أي المحسن إليك بجميع ما أقامك فيه من هذه الأمور العظيمة والأحوال الجليلة الجسيمة ﴿بغافل عما تعملون*﴾ أي من مخالفة أوامره، ومفارقة زواجره، ويجوز أن تكون الجملة حالاً من فاعل ﴿يرى﴾ أي ربكم غير غافل، ومن قرأ بالخطاب كان المعنى: عما تعمل انت وأتباعك من الطاعة. وهو من المعصية، فيجازي كلاًّ منكم بما يستحق فيعلي أمرك، ويشد إزرك، ويوهن أيدهم، ويضعف كيدهم، بما له من الحكمة، والعلم ونفوذ الكلمة، فلا يظن ظان أن تركه للمعالجة بعقابهم لغفلة عن شيء من أعمالهم، إنما ذلك لأنه حد لهم حداهم بالغوه لا محالة لأنه لا يبدل القول لديه، فقد رجع آخرها كما ترى بإبانة الكتاب وتفخيم القرآن وتقسيم الناس فيه إلى مهتد وضال إلى أولها، وعانق ختامها ابتداءها بحكمة منزلها، وعلم مجملها ومفصلها، إلى غير ذلك
نجز الجزء المبارك من مناسبات البقاعي بحمد الله وعونه ويتلوه القصص إن شاء الله تعالى - اللهم اغفر لنا ذنوبنا وتجاوز عن سيئاتنا.
لما ختم تلك بالوعد المؤكد بأنه يظهر آياته فتعرف، وأنه ليس بغافل عن شيء، تهديداً للظالم، وتثبيتاً للعالم، وكان من الأول ما يوحيه في هذه من الأساليب المعجزة من خفايا علوم أهل الكتاب، فلا يقدرون على رده، ومن الثاني ما صنع بفرعون وآله، قال أول هذه:
سورة النمل
سورةُ (النَّمْلِ) من السُّوَر المكية التي جاءت ببيانِ إعجاز القرآن الكريم، ووصفِه بالهداية والإرشاد، وأشارت السورةُ إلى ذِكْرِ دلائل وَحْدانية الله عز وجل وقُدْرته، وجاء فيها ذكرُ قِصَصِ عددٍ من الأنبياء؛ من ذلك: قصَّةُ سيدنا سُلَيمانَ عليه السلام عندما مرَّ بالنمل، وفي ذلك عِبَرٌ ومواعظُ كثيرة؛ منها: إظهارُ علمِ الله وحِكْمته من خلال تدبيره في خَلْقه.
ترتيبها المصحفي
27نوعها
مكيةألفاظها
1160ترتيب نزولها
48العد المدني الأول
195العد المدني الأخير
195العد البصري
94العد الكوفي
93العد الشامي
94* سورة (النَّمْلِ):
سُمِّيت سورة (النَّمْلِ) بهذا الاسم؛ لذِكْرِ النَّمْلة التي خاطبت النَّمْلَ في تضاعيفِ قصة سليمان، ولِما للنَّمْلِ من ارتباطٍ بمقصد السورة؛ كما أشرنا.
جاءت سورةُ (النَّمْلِ) على ذكرِ الموضوعات الآتية:
1. بيان إعجاز القرآن الكريم (١-٢).
2. صفات المؤمنين والكافرين، وجزاؤهم (٣-٦).
3. نداء الله تعالى لموسى عليه السلام بوادي طُوًى (٧-١٤).
4. قصة داود وسليمان عليهما السلام (١٥-٤٤).
5. قصة صالح عليه السلام (٤٥-٥٣).
6. قصة لوط عليه السلام (٥٤-٥٨).
7. البراهين الدالة على وَحْدانية الله تعالى (٥٩-٦٦).
8. إنكار المشركين للبعث، والردُّ عليهم (٦٧-٧٥).
9. إخبار القرآن عن أنباء السابقين (٧٦-٨١).
10. علامات الساعة، ومشاهد يوم القيامة (٨٢-٩٣).
ينظر: "التفسير الموضوعي للقرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (5 /420).
مقصدُ سورة (النَّمْلِ): هو وصفُ هذا الكتاب بالكفاية لهدايةِ الخَلْقِ أجمعين؛ بالفصل بين الصراط المستقيم، وطريق الحائرين، والجمعِ لأصول الدِّين؛ لإحاطة علم مُنزِله بالخَفِيِّ والمُبِين، وبشارة المؤمنين ونِذارة الكافرين؛ بيوم اجتماع الأوَّلين والآخِرين، وكلُّ ذلك يرجع إلى العلمِ المستلزم للحكمة.
فالمقصودُ الأعظم منها: إظهار العلم والحكمة، وأدلُّ ما فيها على هذا المقصود: ما للنَّمل من حُسْنِ التَّدبير، وسَداد المذاهب في العيش، ولا سيما ما ذكَر عنها سبحانه من صِحَّةِ القصد في السِّياسة، وحُسْنِ التَّعبير عن ذلك القصد، وبلاغة التأدية، و(النَّمْلُ) آيةٌ من آيات الله في كونه، ضرَبه الله تعالى ليتأمَّلوا عجيبَ خَلْقه.
ينظر: "مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور" للبقاعي (2 /333).