ﰡ
وقوله تعالى :﴿ نَزَّلَ عَلَيْكَ الكتاب بالحق ﴾ يعني نزل عليك القرآن يا محمد بالحق، أي لا شك فيه ولا ريب بل هو منزل من عند الله، أنزله بعلمه والملائكة يشهدون، وكفى بالله شهيداً. وقوله :﴿ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ ﴾ أي من الكتب المنزلة قبله من السماء على عباد الله والأنبياء، فهي تصدقه بما أخبرت به وبشرت في قديم الزمان، وهو يصدقها لأنه طابق ما أخبرت به وبشرت من الوعد من الله بإرسال محمد ﷺ وإنزال القرآن العظيم عليه، وقوله :﴿ وَأَنزَلَ التوراة ﴾ أي على موسى بن عمران، ﴿ والإنجيل ﴾ أي على عيسى بن مريم عليهما السلام، ﴿ مِن قَبْلُ ﴾ أي من قبل هذا القرآن، ﴿ هُدًى لِّلنَّاسِ ﴾ : أي في زمانهما، ﴿ وَأَنزَلَ الفرقان ﴾ : وهو الفارق بين الهدى والضلال، والحق والباطل، والغي والرشاد، بما يذكره الله تعالى من الحجج والبينات والدلائل الواضحات، والبراهين القاطعات، ويبينه ويوضحه ويفسره ويقرره ويرشد إليه وينبه عليه من ذلك. وقال قتادة والربيع : الفرقان هاهنا القرآن، واختار ابن جرير أنه مصدر هاهنا لتقدم ذكر القرآن في قوله :﴿ نَزَّلَ عَلَيْكَ الكتاب بالحق ﴾ وهو القرآن. وأما ما روي عن أبي صالح : أن المراد بالفرقان هاهنا التوراة، فضعيف أيضاً، لتقدم ذكر التوراة، والله أعلم.
وقوله تعالى :﴿ إِنَّ الذين كَفَرُواْ بِآيَاتِ الله ﴾ أي جحدوا بها وأنكروها وردوها بالباطل، ﴿ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ ﴾ : أي يوم القيامة، ﴿ والله عَزِيزٌ ﴾ أي منيع الجناب عظيم السلطان، ﴿ ذُو انتقام ﴾ : أي ممن كذب بآياته وخالف رسله الكرام وأنبياءه العظام.
ولهذا قال الله تعالى :﴿ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ ﴾ أي ضلال وخروج عن الحق إلى الباطل ﴿ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ﴾ أي إنما يأخذون منه المتشابه الذي يمكنهم أن يحرفوه إلى مقاصدهم الفاسدة وينزلوه عليها لاحتمال لفظه لما يصرفونه. فأما المحكم فلا نصيب لهم فيه لأنه دامغ لهم وحجة عليهم، ولهذا قال الله تعالى :﴿ ابتغاء الفتنة ﴾ أي الإضلال لأتباعهم، إيهاما لهم أنهم يحتجون على بدعتهم بالقرآن، وهو حجة عليهم لا لهم، كما لو احتج النصارى بأن القرآن قد نطق بأن عيسى روح الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وتركوا الاحتجاج بقول :﴿ إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ ﴾ [ الزخرف : ٥٩ ] وبقول :﴿ إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله كَمَثَلِ ءَادَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ﴾
وقوله تعالى :﴿ وابتغاء تَأْوِيلِهِ ﴾ أي تحريفه على ما يريدون، وقال مقاتل والسدي : يبتغون أن يعلموا ما يكون وما عواقب الأشياء من القرآن، وقد قال الإمام أحمد عن عائشة رضي الله عنها قالت :« قرأ رسول الله ﷺ :﴿ هُوَ الذي أَنزَلَ عَلَيْكَ الكتاب مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الكتاب وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ﴾. إلى قوله :﴿ أُوْلُواْ الألباب ﴾ فقال :» إذا رأيتم الذين يجادلون فيه فهم الذين عنى الله فاحذروهم « وقد روى هذا الحديث البخاري عند تفسير هذه الآية ومسلم في كتاب القدر من صحيحه وأبو داود في السنة من سننه ثلاثتهم عن القاسم بن محمد عن عائشة رضي الله عنها قالت :» تلا رسول الله ﷺ هذه الآية :﴿ هُوَ الذي أَنزَلَ عَلَيْكَ الكتاب مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ ﴾ إلى قوله :﴿ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألباب ﴾ قالت : قال رسول الله ﷺ :« فإذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمَّى الله فاحذروهم » «.
وروى أحمد عن أبي أمامة » عن النبي ﷺ في قوله تعالى :﴿ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ﴾ قال :« هم الخوارج »، وفي قوله تعالى :﴿ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ ﴾ [ آل عمران : ١٠٦ ] قال :« هم الخوارج »، وهذا الحديث أقل أقسامه أن يكون موقوفاً من كلام الصحابي، ومعناه صحيح فإن أول بدعة وقعت في الإسلام فتنة الخوارج، وكان مبدؤهم بسبب الدنيا حين قسم النبي ﷺ ( غنائم حنين ) فكأنهم رأوا - في عقولهم الفاسدة - أنه لم يعدل في القسمة ففاجأوه بهذه المقالة، فقال قائلهم وهو ( ذو الخويصرة ) - بقر الله خاصرته - إعدل فإنك لم تعدل، فقال رسول الله ﷺ :« لقد خبت وخسرت. إن لم أكن أعدل، أيأمنني على أهل الأرض ولا تأمنوني » ! فلما قفا الرجل استأذن عمر بن الخطاب في قتله، فقال :« دعه فإنه يخرج من ضئضىء هذا - أي من جنسه - قوم يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وقراءته مع قراءتهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، فأينما لقيتموهم فاقتلوهم فإن في قتلهم أجراً لمن قتلهم » ثم كان ظهورهم أيام ( علي بن أبي طالب ) رضي الله عنه وقتلهم بالنهروان، ثم تشعبت منهم شعوب وقبائل وآراء وأهواء ومقالات ونِحل كثيرة منتشرة، ثم انبعثت القدرية، ثم المعتزلة، ثم الجهمية، وغير ذلك من البدع التي أخبر عنها الصادق المصدوق ﷺ في قوله :« » وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة «، قالو : ومن يا رسول الله؟ قال :» من كان على ما أنا عليه وأصحابي «
وروى الحافظ أبو يعلى، عن حذيفة عن رسول الله ﷺ أنه ذكر :« إنّ في أمتي قوماً يقرؤون القرآن ينثرونه نثر الدَّقل يتأولونه على غير تأويله ».
وقوله تعالى :﴿ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ الله ﴾ اختلف القراء في الوقف هاهنا، فقيل على الجلالة كما تقدم عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال : التفسير على أربعة أنحاء، فتفسير لا يعذر أحد في فهمه وتفسير تعرفه العرب من لغاتها، وتفسير يعلمه الراسخون في العلم، وتفسير لا يعلمه إلا الله، وقال رسول الله ﷺ :« إن القرآن لم ينزل ليكذب بعضه بعضاً، فما عرفتم منه فاعملوا به، وما تشابه منه فآمنوا به »، وقال عبد الرزاق : كان ابن عباس يقرأ :﴿ وما يعلم تأويله إلا الله ويقول الراسخون آمنا به ﴾، وكذا رواه ابن جرير عن عمر بن عبد العزيز ومالك ابن أنس أنهم يؤمنون به ولا يعلمون تأويله، وحكى ابن جرير أن في قراءة عبد الله بن مسعود :﴿ إن تأويله إلا عند الله، والراسخون في العلم يقولن آمنا به ﴾ واختار ابن جرير هذا القول.
ومنهم من يقف على قوله تعالى :﴿ والراسخون فِي العلم ﴾ وتبعهم كثير من المفسرين وأهل الأصول، وقالوا الخطاب بما لا يفهم بعيد، وقد روى مجاهد عن ابن عباس أنه قال : أنا من الراسخين الذي يعلمون تأويله، وقال مجاهد : والراسخون في العلم يعلمون تأويله ويقولون آمنا به، وكذا قال الربيع بن أنس. وقال محمد بن جعفر بن الزبير : وما يعلم تأويله الذي أراد ما أراد إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به، ثم ردوا تأويل المتشابهات على ما عرفوا من تأويل المحكمة التي لا تأويل لأحد فيها إلا تأويل واحد. فاتسق بقولهم الكتاب وصدق بعضه بعضاً فنفذت الحجة، وظهر به العذر وزاح به الباطل ودفع به الكفر، وفي الحديث أن رسول الله ﷺ دعا لابن عباس فقال :« اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل » ومن العلماء من فصل في هذا المقام وقال : التأويل يطلق ويراد به في لقرآن معنيان، أحدهما : التأويل بمعنى حقيقة الشيء وما يؤول أمره إليه؛ ومنه قوله تعالى :﴿ وَقَالَ ياأبت هذا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ ﴾ [ يوسف : ١٠٠ ] وقوله :﴿ هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ ﴾ [ الأعراف : ٥٣ ] أي حقيقة ما أخبروا به من أمر المعاد. فإن أريد بالتأويل هذا فالوقف على الجلالة؛ لأن حقائق الأمور وكنهها لا يعلمه على الجلية إلا الله عزّ وجلّ؛ ويكون قوله ﴿ والراسخون فِي العلم ﴾ مبتدأ و ﴿ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ ﴾ خبره.
وقوله تعالى - إخباراً عنهم - أنهم يقولون آمنا به أي المتشابه ﴿ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا ﴾ أي الجميع من المحكم والمتشابه حق وصدق، وكل واحد منهما يصدق الآخر ويشهد له، لأن الجميع من عند الله وليس شيء من عند الله بمختلف ولا متضاد، كقوله :﴿ أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القرآن وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ الله لَوَجَدُواْ فِيهِ اختلافا كَثِيراً ﴾ [ النساء : ٨٢ ]، ولهذا قال تعالى :﴿ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألباب ﴾ أي إنما يفهم ويعقل ويتدبر المعاني على وجهها أولو العقول السليمة والفهوم المستقيمة، وقد قال ابن أبي حاتم بسنده : حدَّثنا عبد الله بن يزيد - وكان قد أدرك أصحاب النبي ﷺ أنَساً وأبا أمامة وأبا الدرداء - أن رسول الله ﷺ سئل عن الراسخين في العلم فقال :« من برت يمينه، وصدق لسانه، واستقام قلبه، ومن عف بطنه وفرجه، فذلك من الراسخين في العلم »، وقال الإمام أحمد بسنده : سمع رسول الله ﷺ قوماً يتدارؤون فقال :« إنما هلك من كان قبلكم بهذا؛ ضربوا كتاب الله بعضه ببعض وإنما أنزل كتاب الله ليصدق بعضه بعضاً فلا تكذبوا بعضه ببعض. فما علمتم منه فقولوا به، وما جهلتم فكلوه إلى عالمه ».
وعن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال :« نزل القرآن على سبعة أحرف، والمراء في القرآن كفر - قالها ثلاثاً - ما عرفتم منه فاعملوا به وما جهلتم منه فردوه إلى عالمه جل جلاله » وقال ابن المنذر في تفسيره عن نافع بن يزيد قال : الراسخون في العلم المتواضعون لله المتذللون لله في مرضاته، لا يتعاظمون على من فوقهم ولا يحقرون من دونهم. ثم قال تعالى عنهم مخبراً أنهم دعوا ربهم قائلين :﴿ رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا ﴾ أي لا تملها عن الهدى بعد إذ أقمتها عليه، ولا تجعلنا كالذين في قلوبهم زيغ، الذين يتبعون ما تشابه من القرآن، ولكن ثبتنا على صراطك المستقيم، ودينك القويم. ﴿ وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنْكَ رَحْمَةً ﴾ تثبت بها قلوبنا، وتجمع بها شملنا، وتزيدنا بها إيماناً وإيقاناً ﴿ إِنَّكَ أَنْتَ الوهاب ﴾.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت :« كان رسول الله ﷺ كثيراً ما يدعو :» يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك «. قلت : يا رسول الله ما أكثر ما تدعو بهذا الدعاء، فقال :» ليس من قلب إلا وهو بين أصبعين من أصابع الرحمن إذا شاء أن يقيمه أقامه، وإذا شاء أن يزيغه أزاغه. أما تسمعي قوله :﴿ رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الوهاب ﴾ « وعن سعيد بن المسيب عن عائشة رضي الله عنها : أن رسول الله ﷺ كان إذا استيقظ من الليل قال :» لا إله إلا أنت سبحانك أستغفرك لذنبي، واسألك رحمتك، اللهم زدني علماً، ولا تزغ قلبي بعد إذ هديتني، وهب لي من لدنك رحمة. إنك أنت الوهاب «.
وقوله تعالى :﴿ رَبَّنَآ إِنَّكَ جَامِعُ الناس لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ ﴾ أي يقولون في دعائهم إنك يا ربنا ستجمع بين خلقك يوم معادهم، وتفصل بينهم وتحكم فيهم فيما اختلفوا فيه، وتجزي كلاً بعمله، وما كان عليه في الدنيا من خير وشر.
وقال تعالى :﴿ لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الذين كَفَرُواْ فِي البلاد * مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المهاد ﴾ [ آل عمران : ١٩٦ ]، وقال هاهنا :﴿ إِنَّ الذين كَفَرُواْ ﴾ أي بآيات الله، وكذبوا رسله، وخالفوا كتابه، ولم ينتفعوا بوحيه إلى أنبيائه :﴿ لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُم مِّنَ الله شَيْئاً وأولئك هُمْ وَقُودُ النار ﴾ أي حطبها الذي تسجر به وتوقد به كقوله :﴿ إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ ﴾ [ الأنبياء : ٩٨ ] الآية. وعن أم الفضل :« أن رسول الله ﷺ قام ليلة بمكة، فقال :» هل بلغت «؟ يقولها ثلاثاً، فقام عمر بن الخطاب - وكان أوَّاهاً - فقال : اللهم نعم، وحرصت وجهدت، ونصحت فاصبر، فقال النبي ﷺ :» ليظهرن الإيمان حتى يرد الكفر إلى مواطنه، وليخوضن رجال البحار بالإسلام، وليأتين على الناس زمان يقرؤون القرآن فيقرؤونه ويعلمونه، فيقولون قد قرأنا وقد علمنا فمن هذا الذي هو خير منا؟ فما في أولئك من خير «. قالوا : يا رسول الله فمن أولئك؟ قال :» أولئك منكم، أولئك هم وقود النار « ».
وقوله تعالى :﴿ كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ ﴾، قال ابن عباس : كصنيع آل فرعون، وكذا روي عن عكرمة ومجاهد والضحَّاك وغير واحد، ومنهم من يقول : كسنة آل فرعون، وكفعل آل فرعون وكشبه آل فرعون، والألفاظ متقاربة والدَّأب - بالتسكين والتحريك أيضاً كَنَهر ونَهْر - وهو الصنيع والحال والشأن والأمر والعادة، كما يقال : لا يزال هذا دأبي ودأبك، وقال امرؤ القيس :
كدأبك من أم الحويرث قبلها | وجارتها أم الرباب بمأسل |
والقول الثاني : أن المعنى في قوله تعالى :﴿ يَرَوْنَهُمْ مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ العين ﴾ أي يرى الفئة المسلمة الفئة الكافرة ﴿ مِّثْلَيْهِمْ ﴾ أي ضعفيهم في العدد ومع هذا نصرهم الله عليهم، والمشهور أنهم كانوا ما بين التسعمائة إلى الألف، وعلى كل تقدير، فقد كانوا ثلاثة أمثال المسلمين، وعلى هذا فيشكل هذا القول والله أعلم، لكن وجَّه ابن جرير هذا وجعله صحيحاً، كما تقول : عندي ألف وأنا محتاج إلى مثليها، وتكون محتاجاً إلى ثلاثة آلاف كذا قال. وعلى هذا فلا إشكال، لكن بقي سؤال آخر وهو وارد على القولين، وهو أن يقال : ما الجمع بين هذه الآية وبين قوله تعالى : في قصة بدر :﴿ وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ التقيتم في أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ في أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ الله أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً ﴾ [ الأنفال : ٤٤ ] فالجواب : أن هذا كان في حالة، والآخر كان في حالة أخرى، كما قال ابن مسعود في قوله تعالى :﴿ قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ التقتا ﴾ الآية. قال : هذا يوم بدر، قد نظرنا إلى المشركين فرأيناهم يضعفون علينا.
وحبُّ البنين تارة يكون للتفاخر والزينة فهو داخل في هذا، وتارة يكون لتكثير النسل وتكثير أمة محمد ﷺ ممن يعبد الله وحده لا شريك له، فهذا محمود ممدوح كما ثبت في الحديث :« تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة » وحب المال كذلك، تارة يكون للفخر والخيلاء والتكبر على الضعفاء والتجبر على الفقراء فهذا مذموم، وتارة يكون للنفقة في القربات وصلة الأرحام والقرابات ووجوه البر والطاعات فهذا ممدوح محمود شرعاً، وقد اختلف المفسرون في مقدار القنطار على أقول، وحاصلها : أنه المال الجزيل كما قاله الضحاك وغيره، وقيل : ألف دينار، وقيل : ألف ومائتا دينار، وقيل : اثنا عشر ألفاً، وقيل : أربعون ألفاً، وقيل : ستون ألفاً، وقيل : غير ذلك.
وحب الخيل على ثلاثة أقسام : تارة يكون ربطها أصحابها معدة لسبيل الله متى احتاجوا إليها غزواً عليها، فهؤلاء يثابون وتارة تربط فخراً ونِواء لأهل الإسلام فهذه على صاحبها وزر. وتارة للتعفف واقتناء نسلها ولم ينس حق الله في رقابها فهذه لصاحبها ستر، كما سيأتي الحديث بذلك إن شاء الله تعالى عند قوله تعالى :﴿ وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا استطعتم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الخيل ﴾ [ الأنفال : ٦٠ ] الآية، وأما المسوّمة : فعن ابن عباس رضي الله عنهما المسومة الراعية، والمطهمة الحسان، وقال مكحول : المسومة الغرة والتحجيل، وقيل : غير ذلك. وقوله تعالى :﴿ والأنعام ﴾ يعني الإبل والبقر والغنم، ﴿ والحرث ﴾ يعني الارض المتخذة للغراس والزراعة. وقال الإمام أحمد عن سويد بن هبيرة عن النبي ﷺ قال :« خير مال امرىء له مهرة مأمورة، أو سكة مأبورة » المأمورة الكثيرة النسل، والسكة النخل المصطف، والمأبورة الملقحة.
ثم قال تعالى :﴿ ذلك مَتَاعُ الحياة الدنيا ﴾ أي إنما هذا زهرة الحياة الدنيا وزينتها الفانية الزائلة، ﴿ والله عِنْدَهُ حُسْنُ المآب ﴾ أي حسن المرجع والثواب، قال عمر بن الخطاب : لما نزلت ﴿ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشهوات ﴾ قلت : الآن يا رب حين زينتها لنا، فنزلت :﴿ قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِّن ذلكم لِلَّذِينَ اتقوا ﴾ الآية، ولهذا قال تعالى :﴿ قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِّن ذلكم ﴾ أي قل : يا محمد للناس أؤخبركم بخير مما زين للناس في هذه الحياة الدنيا، من زهرتها ونعيمها الذي هو زائل لا محالة؟ ثم أخبر عن ذلك فقال :﴿ لِلَّذِينَ اتقوا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار ﴾ أي تنخرق بين جوانبها وأرجائها الأنهار من أنواع الأشربة من العسل واللبن والخمر والماء وغير ذلك، مما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر ﴿ خَالِدِينَ فِيهَا ﴾ أي ماكثين فيها أبد الآباد لا يبغون عنها حولاً، ﴿ وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ ﴾ أي من الدنس والخبث والأذى والحيض والنفاس وغير ذلك مما يعتري نساء الدنيا، ﴿ وَرِضْوَانٌ مِّنَ الله ﴾ أي يحل عليهم رضوانه فلا يسخط عليهم بعده أبداً، ولهذا قال تعالى في الآية الأخرى التي في براءة
وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت :« من كل الليل قد أوتر رسول الله ﷺ، من أوله وأوسطه وآخره، فانتهى وتره إلى السحر » وكان عبد الله بن عمر يصلي من الليل ثم يقول : يا نافع هل جاء السحر؟ فإذا قال : نعم، أقبل على الدعاء والاستغفار حتى يصبح. وقال ابن جرير، عن إبراهيم بن حاطب، عن أبيه قال : سمعت رجلاً في السحر في ناحية المسجد وهو يقول : يا رب أمرتني فأطعتك، وهذا السحر فاغفر لي، فنظرت فإذا هو ابن مسعود رضي الله عنه، وعن أنس بن مالك قال : كنا نؤمر إذا صلينا من الليل أن نستغفر في آخر السحر سبعين مرة.
وعن غالب القطان : قال : أتيت الكوفة في تجارة فنزلت قريباً من الأعمش، فلما كانت ليلة أردت أن أنحدر، قام فتهجد من الليل فمر بهذه الآية :﴿ شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ والملائكة وَأُوْلُواْ العلم قَآئِمَاً بالقسط لاَ إله إِلاَّ هُوَ العزيز الحكيم * إِنَّ الدِّينَ عِندَ الله الإسلام ﴾. ثم قال الأعمش : وأنا أشهد بما شهد الله به وأستودع الله هذه الشهادة وهي لي عند الله وديعة ﴿ إِنَّ الدِّينَ عِندَ الله الإسلام ﴾ قالها مراراً. قلت : لقد سمع فيها شيئاً فغدوت إليه فودعته ثم قلت : يا أبا محمد إني سمعتك تردد هذه الآية، قال : أوما بلغك ما فيها؟ قلت : أنا عندك منذ شهر لم تحدثني! قال : والله لا أحدثك بها إلى سنة؛ فأقمت سنة فكنت على بابه، فلما مضت السنة، قلت : يا أبا محمد قد مضت السنة. قال : حدثني أبو وائل عن عبد الله قال : قال رسول الله ﷺ :« يجاء بصاحبها يوم القيامة، فيقول الله عزّ وجلّ : عبدي عهد إليّ، وأنا أحق من وفى بالعهد أدخلوا عبدي الجنة ».
وقوله تعالى :﴿ إِنَّ الدِّينَ عِندَ الله الإسلام ﴾ إخبار منه تعالى بأنه لا دين عنده يقبله من أحد سوى الإسلام، وهو اتباع الرسل فيما بعثهم الله به في كل حين، حتى ختموا بمحمد ﷺ الذي سد جميع الطرق إليه إلا من جهة محمد ﷺ، فمن لقي الله بعد بعثة محمد ﷺ بدين على غير شريعته فليس بمتقبل كما قال تعالى :﴿ وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ ﴾ [ آل عمران : ٨٥ ] الآية، وقال في هذه الآية مخبراً بانحصار الدين المتقبل منه عنده في الإسلام :﴿ إِنَّ الدِّينَ عِندَ الله الإسلام ﴾ ثم أخبر تعالى بأن الذين أوتوا الكتاب الأول إنما اختلفوا بعدما قامت عليه الحجة بإرسلا الرسل إليهم، وإنزال الكتب عليهم، فقال :﴿ وَمَا اختلف الذين أُوتُواْ الكتاب إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ العلم بَغْياً بَيْنَهُمْ ﴾ أي بغي بعضهم على بعض، فاختلفوا في الحق بتحاسدهم وتباغضهم وتدابرهم، فحمل بعضهم بغض البعض الآخر على مخالفته في جميع أقواله وأفعاله وإن كانت حقاً، ثم قال تعالى :﴿ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ الله ﴾ أي من جحد ما أنزل الله في كتابه ﴿ فَإِنَّ الله سَرِيعُ الحساب ﴾ أي فإن الله سيجازيه على ذلك ويحاسبه على تكذيبه ويعاقبه على مخالفته كتابه.
وهذه الآية وأمثالها من أصرح الدلالات على عموم بعثته صلوات الله وسلامه عليه إلى جميع الخلق كما هو معلوم من دينه ضرورة، وكما دل عليه الكتاب والسنَّة في غير ما آية وحديث فمن ذلك قوله تعالى :﴿ قُلْ ياأيها الناس إِنِّي رَسُولُ الله إِلَيْكُمْ جَمِيعاً ﴾ [ الأعراف : ١٥٨ ]، وقال تعالى :﴿ تَبَارَكَ الذي نَزَّلَ الفرقان على عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً ﴾ [ الفرقان : ١ ]، وفي الصحيحين وغيرهما مما ثبت تواتره بالوقائع المتعددة أنه ﷺ بعث كتبه يدعو إلى الله ملوك الآفاق وطوائف بني آدم من عربهم وعجمهم، كتابيهم وأميهم امتثالاً لأمر الله له بذلك، وقد روي عن النبي ﷺ أنه قال :« والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة، يهودي ولا نصراني ومات ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أهل النار » وقال ﷺ :« بعثت إلى الأحمر والأسود »، وقال :« كان النبي بعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة ».
وقوله تعالى :﴿ تُولِجُ الليل فِي النهار وَتُولِجُ النهار فِي الليل ﴾ أي تأخذ من طول هذا فتزيده في قصر هذا فيعتدلان، ثم تأخذ من هذا في هذا فيتفاوتان ثم يعتدلان، وهكذا في فصول السنة ربيعاً وصيفاً وخريفاً وشتاء.
وقوله تعالى :﴿ وَتُخْرِجُ الحي مِنَ الميت وَتُخْرِجُ الميت مِنَ الحي ﴾ أي تخرج الزرع من الحب، والحب من الزرع، والنخلة من النواة والنواة من النخلة، والمؤمن من الكافر والكافر من المؤمن، والدجاجة من البيضة والبيضة من الدجاجة، وما جرى هذا المجرى من جميع الأشياء :﴿ وَتَرْزُقُ مَن تَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ أي تعطي من شئت من المال ما لا يعده ولا يقدر على إحصائه، وتقتر على آخرين لما لك في ذلك من الحكمة والإرادة والمشيئة. عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي ﷺ قال :« اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب في هذه الآية من آل عمران ﴿ قُلِ اللهم مَالِكَ الملك تُؤْتِي الملك مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ الملك مِمَّنْ تَشَآءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ بِيَدِكَ الخير إِنَّكَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ ».
ثم قال تعالى :﴿ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ أي باتباعكم الرسول ﷺ، يحصل لكم هذا من بركة سفارته، ثم قال تعالى آمراً لكل أحد من خاص وعام :﴿ قُلْ أَطِيعُواْ الله والرسول فإِن تَوَلَّوْاْ ﴾ أي تخالفوا عن أمره، ﴿ فَإِنَّ الله لاَ يُحِبُّ الكافرين ﴾ فدل على أن مخالفته في الطريقة كفر، والله لا يحب من اتصف بذلك، وإن ادعى وزعم في نفسه أنه محب لله ويتقرب إليه، حتى يبايع الرسول النبي الأمي خاتم الرسل، ورسول الله إلى جميع الثقلين الجن والإنس، الذي لو كان الأنبياء بل المرسولن بل أولو العزم منهم في زمانه ما وسعهم إلا اتباعه، والدخول في طاعته واتباع شريعته، كما سيأتي تقريره عند قوله تعالى :﴿ وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ النبيين ﴾ [ آل عمران : ٨١ ] الآية، إن شاء الله تعالى.
وقوله تعالى إخباراً عن أم مريم أنها قالت :﴿ وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشيطان الرجيم ﴾ أي عوذتها بالله عزّ وجلّ من شر الشيطان، وعوذت ذريتها وهو ولدها عيسى عليه السلام، فاستجاب الله لها ذلك. عن أبي هريرة قال قال رسول الله ﷺ :» ما من مولود يولد إلا مسه الشيطان حين يولد فيستهل صارخاً من مسه إياه إلا مريم وابنها «، ثم يقول أبو هريرة : اقرأوا إن شئتم :﴿ وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشيطان الرجيم ﴾ وعن أبي هريرة قال قال رسول الله ﷺ :» ما من مولود إلا وقد عصره الشيطان عصرة أو عصرتين إلا عيسى ابن مريم ومريم « ثم قرأ رسول الله ﷺ :﴿ وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشيطان الرجيم ﴾.
عن جابر « أن رسول الله ﷺ أقام أياماً لم يطعم طعاماً، حتى شقّ ذلك عليه، فطاف في منازل أزواجه فلم يجد عند واحدة منهن شيئاً، فأتى فاطمة فقال :» يا بنية هل عندك شيء آكله فإني جائع؟ « قالت : لا والله - بأبي أنت وأمي - فلما خرج من عندها بعثت إليها جارة لها برغيفين وقطعة لحم، فأخذته منها فوضعته في جفنة لها وقالت : والله لأوثرن بهذا رسول الله ﷺ على نفسي ومن عندي، وكانوا جمعاً محتاجين إلى شبعة طعام، فبعثت حسناً - أو حسيناً - إلى رسول الله ﷺ، فرجع إليها فقالت : بأبي أن وأمي قد أتى الله بشيء فخبأته لك، قال :» هلمي يا بنية «، قالت : فأتيته بالجفنة فكشفت عنها فإذا هي مملوءة خبزاً ولحماً، فلما نظرت إليها بهتُ وعرفت أنها بركة من الله، فحمدت الله وصليت على نبيّه، وقدمته إلى رسول الله ﷺ فلما رآه حمد الله، وقال :» من أين لك هذا يا بنية «؟ قالت : يا أبت ﴿ هُوَ مِنْ عِندِ الله إِنَّ الله يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ فحمد الله، وقال :» الحمد لله الذي جعلك يا بنية شبيهة بسيدة نساء بني إسرائيل فإنها كانت إذا رزقها الله شيئاً وسئلت عنه قالت : هو من عند الله، إن الله يرزق من يشاء بغير حساب «
وقوله تعالى :﴿ وَسَيِّداً ﴾ قال أبو العالية حليماً وقال قتادة : سيداً في العلم والعبادة، وقال ابن عباس : السيد الحليم التقي، وقال ابن المسيب : هو الفقيه العالم، وقال عطية : السيد في خُلُقه ودينه، وقال ابن زيد : هو الشريف، وقال مجاهد : هو الكريم على الله عزّ وجلّ.
وقوله تعالى :﴿ وَحَصُوراً ﴾ روي عن ابن مسعود وابن عباس ومجاهد أنهم قالوا : الذي لا يأتي النساء، وعن أبي العالية والربيع بن أنس : هو الذي لا يولد له ولا ماء له، وعن عبد الله بن عمرو بن العاص يقول : ليس أحد من خلق الله لا يلقاه بذنب غير يحيى بن زكريا، ثم قرأ سعيد ﴿ وَسَيِّداً وَحَصُوراً ﴾، ثم أخذ شيئاً من الأرض فقال : الحصور من كان ذكره مثل ذا.
وقد قال « القاضي عياض » في كتابه « الشفاء » : اعلم أن ثناء الله تعالى على يحيى أنه كان ﴿ حَصُوراً ﴾ ليس كما قاله بعضهم إنه كان هيوباً أو لا ذَكر له، بل قد أنكر هذا حذَّاق المفسرين، ونقاد العلماء، وقالوا : هذه نقيصة وعيب لا يليق بالأنبياء عليهم السلام، وإنما معناه أنه معصوم من الذنوب أي لا يأتيها كأنه حصور عنها، وقيل : مانعاً نفسه من الشهوات، وقيل : ليست له شهوة في النساء، وقد بان لك من هذا أن عدم القدرة على النكاح نقص، وإنما الفضل في كونها موجودة ثم يمنعها، إما بمجاهدة كعيسى، أو بكفاية من الله عزّ وجلّ كيحيى عليه السلام، ثم هي في حق من قدر عليها - وقام بالواجب فيها، ولم تشغله عن ربه - درجة عليا، وهي درجة نبينا ﷺ الذي لم يشغله كثرتهن عن عبادة ربه، بل زاده ذلك عبادة بتحصينهن، وقيامه عليهن وإكسابه لهن وهدايته إياهن، بل قد صرح أنها ليست من حظوط دنياه هو وإن كانت من حظوظ دنيا غيره فقال :« حبب إليّ من دنياكم ».
قوله تعالى :﴿ وَنَبِيّاً مِّنَ الصالحين ﴾، هذه بشارة ثانية بنبوة يحيى بعد البشارة بولادته، وهي أعلى من الأولى، كقوله لأم موسى :﴿ إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ المرسلين ﴾ [ القصص : ٧ ]. فلما تحقق زكريا عليه السلام هذه البشارة، أخذ يتعجب من وجود الولد منه بعد الكبر، ﴿ قَالَ رَبِّ أنى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَقَدْ بَلَغَنِي الكبر وامرأتي عَاقِرٌ قَالَ ﴾ : أي الملك، ﴿ كَذَلِكَ الله يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ ﴾ أي هكذا أمر الله عظيم لا يعجزه شيء ولا يتعاظمه أمر، ﴿ قَالَ رَبِّ اجعل لي آيَةً ﴾ أي علامة أستدل بها على وجود الولد مني، ﴿ قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ الناس ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً ﴾ أي إشارة لا تستطيع النطق مع أنك سوي صحيح، كما في قوله :﴿ ثَلاَثَ لَيَالٍ سَوِيّاً ﴾، ثم أمره بكثرة الذكر والتكبير والتسبيح في هذه الحا، فقال تعالى :﴿ واذكر رَّبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بالعشي والإبكار ﴾.
وفي البخاري :« كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا آسية امرأة فرعون، ومريم بنت عمران، وإن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام » ثم أخبر تعالى عن الملائكة أنهم أمروها بكثرة العبادة والخشوع الركوع والسجود، والدأب في العمل لما يريد الله بها من الأمر الذي قدره الله وقضاه، مما فيه محنة لها ورفعة في الدراين، بما أظهر الله فيها من قدرته العظيمة، حيث خلق منها ولداً من غير أب، فقال تعالى :﴿ يامريم اقنتي لِرَبِّكِ واسجدي واركعي مَعَ الراكعين ﴾ أما القنوت فهو الطاعة في خشوع، كما قال تعالى :﴿ وَلَهُ مَن فِي السماوات والأرض كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ ﴾ [ الروم : ٢٦ ] وقال مجاهد : كانت مريم عليها السلام تقوم حتى تتورم كعباها، والقنوت هو طول الركوع في الصلاة، يعني امتثالاً لقول الله تعالى :﴿ يامريم اقنتي لِرَبِّكِ ﴾ قال الحسن : يعني اعبدي لربك ﴿ واسجدي واركعي مَعَ الراكعين ﴾ أي كوني منهم : ثم قال لرسوله بعدما أطلعه على جلية الأمر :﴿ ذلك مِنْ أَنَبَآءِ الغيب نُوحِيهِ إِلَيكَ ﴾ أي نقصه عليك، ﴿ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ ﴾ أي ما كنت عندهم يا محمد، فتخبرهم عن معاينة عما جرى، بل أطلعك الله على ذلك، كأنك حاضر وشاهد لما كان من أمرهم، حين اقترعوا في شأن مريم أيهم يكفلها وذلك رغبتهم في الأجر.
قال ابن جرير عن عكرمة : ثم خرجت أم مريم بها، يعني بمريم في خرقها إلى بني الكاهن بن هارون أخي موسى عليهما السلام - وهم يومئذٍ يلون من بيت المقدس ما يلي الحجبة من الكعبة - فقالت لهم : دونكم هذه النذيرة فإني حررتها، وهي أنثى ولا يدخل الكنيسة حائض، وأنا لا أردها إلى بيتي فقالوا : هذه ابنة إمامنا - وكان عمران يؤمهم في الصلاة - وصاحب قرباننا فقال زكريا : ادفعوها لي فإن خالتها تحتي، فقالوا : لا تطيب أنفسنا هي ابنة إمامنا، فذلك حين اقترعوا عليها بأقلامهم التي يكتبون بها التوراة، فقرعهم زكريا فكفلها. وقد ذكر عكرمة والسدي وقتادة أنهم ذهبوا إلى نهر الأردن واقترعوا هنالك إلى ان يلقوا أقلامهم فأيهم يثبت في جرية الماء فهو كافلها فألقوا أقلامهم فاحتملها الماء إلا قلم زكريا فإنه ثبت، ويقال : إنه ذهب صاعداً يشق جرية الماء، وكان مع ذلك كبيرهم وسيدهم وعالمهم وإمامهم ونبيّهم صلوات الله وسلامه عليه وعلى سائر النبيين.
وقوله تعالى :﴿ عِيسَى ابن مَرْيَمَ ﴾ نسبة إلى أمه حيث لا أب له، ﴿ وَجِيهاً فِي الدنيا والآخرة وَمِنَ المقربين ﴾ أي له وجاهة ومكانة عند الله في الدنيا بما يوحيه الله إليه من الشريعة، وينزله عليه من الكتاب وغير ذلك مما منحه الله به، وفي الدار الآخرة يشفع عند الله فيمن يأذن له فيه، فيقبل منه أسوة بإخوانه من أولي العزم صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين، وقوله :﴿ وَيُكَلِّمُ الناس فِي المهد وَكَهْلاً ﴾ أي يدعو إلى عبادة الله وحده لا شريك له في حال صغره، معجزة وآية، وفي حال كهولته حين يوحي الله إليه :﴿ وَمِنَ الصالحين ﴾ أي في قوله وعمله له علم صحيح وعمل صالح. وقال ابن ابي حاتم : عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال :« لم يتكلم في المهد إلا ثلاث، عيسى وصبي كان في زمن جريج، وصبي آخر » فلما سمعت بشارة الملائكة لها بذلك عن الله عزّ وجلّ، قالت في مناجاتها :﴿ رَبِّ أنى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ ﴾ ؟ تقول : كيف يوجد هذا الولد مني وأنا لست بذات زوج، ولا من عزمي أن أتزوج، ولست بغياً حاشا لله! فقال لها الملك عن الله عزّ وجلّ في جواب ذلك السؤال ﴿ كَذَلِكَ الله يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ ﴾ أي هكذا أمرُ الله عظيم لا يعجزه شيء، وصرح هاهنا بقوله :﴿ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ ﴾، ولم يقل يفعل كما في قصة زكريا، بل نص هاهنا على أنه يخلق لئلا يبقى لمبطل شبهة، وأكد ذلك بقوله :﴿ إِذَا قضى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ أي فلا يتأخر شيئاً، بل يوجد عقيب الأمر بلا مهلة كقوله : و ﴿ وَمَآ أَمْرُنَآ إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بالبصر ﴾ [ القمر : ٥٠ ] أي إنما نأمر مرة واحدة لا مثنوية فيها فيكون ذلك الشيء سريعاً كلمح البصر.
وقوله تعالى :﴿ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ ﴾ أي أخبركم بما أكل أحدكم الآن، وما هو مدخر له في بيته لغد، ﴿ إِنَّ فِي ذلك ﴾ أي في ذلك كله، ﴿ لآيَةً لَّكُمْ ﴾ أي على صدقي فيما جئتكم به، ﴿ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * وَمُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التوراة ﴾ أي مقرراً لها ومثبتاً، ﴿ وَلأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الذي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ ﴾ فيه دلالة على أن عيسى عليه السلام نسخ بعض شريعة التوراة وهو الصحيح من القولين، ومن العلماء من قال : لم ينسخ منها شيئاً، وإنما أحل لهم بعض ما كانوا يتنازعون فيه، كما قال في الآية الأخرى :﴿ وَلأُبَيِّنَ لَكُم بَعْضَ الذي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ ﴾ [ الزخرف : ٦٣ ] والله أعلم. ثم قال :﴿ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ ﴾ أي بحجة ودلالة على صدقي فيما أقوله لكم، ﴿ فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ * إِنَّ الله رَبِّي وَرَبُّكُمْ فاعبدوه ﴾ أي أنا وأنتم سواء في العبودية له والخضوع والاستكانة إليه ﴿ هذا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ ﴾.
عن ابن عباس في قوله تعالى :﴿ فاكتبنا مَعَ الشاهدين ﴾ قال : مع أمة محمد ﷺ، وهذا إسناد جيد، ثم قال تعالى مخبراً عن ملأ بني إسرائيل، فيما هموا به من الفتك بعيسى عليه السلام، وإرادته بالسوء والصلب، حين تمالؤا عليه ووشوا به إلى ملك ذلك الزمان - وكان كافراً - أن هنا رجلاً يضل الناس، ويصدهم عن طاعة الملك، ويفسد الرعايا، ويفرق بين الأب وابنه، إلى غير ذلك، مما تقلدوه في رقابهم ورموه به من الكذب، وأنه ولد زنية، حتى استثاروا غضب الملك بعث في طلبه من يأخذه ويصلبه وينكل به، فلما أحاطوا بمنزله وظنوا أنهم قد ظفروا به تجاه الله تعالى من بينهم، ورفعه من روزنة ذلك البيت إلى السماء، وألقى الله شبهه على رجل ممن كان عنده في المنزل، فلما دخل أولئك اعتقدوه في ظلمة الليل ﴿ عيسى ﴾ فأخذوه وأهانوه وصلبوه ووضعوا على رأسه الشوك، وكان هذا من مكر الله بهم، فإنه نجّى نبيه ورفعه من بين أظهرهم، وتركهم في ضلالهم يعمهون، يعتقدون أنهم قد ظفروا بطلبتهم، وأسكن الله في قلوبهم قسوة وعناداً للحق ملازماً لهم، وأورثهم ذلة لا تفارقهم إلى يوم التناد، ولهذا قال تعالى :﴿ وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ الله والله خَيْرُ الماكرين ﴾.
ثم نبغ لهم ملك من ملوك اليونان يقال له :( قسطنطين ) فدخل في دين النصرانية قيل : حيلة ليفسده، فإنه كان فيلسوفاً، وقيل : جهلاً منه، إلا أنه بدَّل لهم دين المسيح وحرَّفه وزاد فيه نقص منه، ووضعت له القوانين والأمانة الكبرى التي هي الخيانة الحقيرة، وأحل في زمانه لحم الخنزير، وصلوا له إلى المشرق، وصوروا له الكنائس والمعابد والصوامع، وزاد في صيامهم عشرة أيام من أجل ذنب ارتكبه فيما يزعمون، وصار دين المسيح ( دين قسطنطين ). إلا أنه بنى لهم من الكنائس والمعابد والصوامع والديارات ما يزيد على اثنتي عشر ألف معبد، وبنى المدينة المنسوبة إليه، واتبعه طائفة الملكية منهم، وهم في هذا كله قاهرون لليهود، أيده الله عليهم لأنه أقرب إلى الحق منهم، وإن كان الجميع كفاراً عليهم لعائن الله، فلما بعث الله محمداً ﷺ فكان من آمن به يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله على الوجه الحق، فكانوا هم أتباع كل نبي على وجه الأرض، إذ قد صدقوا النبي الأمي العربي خاتم الرسل وسيد ولد آدم على الإطلاق، الذي دعاهم إلى التصديق بجميع الحق فكانوا أولى بكل نبي من أمته الذين يزعمون أنهم على ملته وطريقته مما قد حرفوا وبدلوا، ثم لو لم يكن شيء من ذلك لكان قد نسخ الله شريعة جميع الرسل بما بعث الله به محمداً ﷺ من الدين الحق الذي لا يغير ولا يبدل إلى قيام الساعة، ولا يزال قائماً منصوراً ظاهراً على كل دين، فلهذا فتح الله لأصحابه مشارق الأرض ومغاربها، واحتازوا جميع الممالك، ودانت لهم جميع الدول، وكسروا كسرى وقصروا قيصر، وسلبوهما كنوزهما وأنفقت في سبيل الله، كما أخبرهم بذلك نبيّهم عن ربهم عزّ وجلّ في قوله :
وقد أخبر الصادق المصدوق ﷺ أمته بأن آخرهم سيفتحون القسطنطينية ويستفيئون ما فيها من الأموال، ويقتلون الروم مقتلة عظيمة جداً لم ير الناس مثلها ولا يرون بعدها نظيرها، وقد جمعت في هذا جزءاً مفرداً، ولهذا قال تعالى :﴿ وَجَاعِلُ الذين اتبعوك فَوْقَ الذين كَفَرُواْ إلى يَوْمِ القيامة ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ * فَأَمَّا الذين كَفَرُواْ فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً فِي الدنيا والآخرة وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ ﴾، وكذلك فعل بمن كفر بالمسيح من اليهود أو غلا فيه أو أطراه من النصارى، عذبهم في الدنيا بالقتل والسبي وأخذ الأموال وإزالة الأيدي عن الممالك وفي الدار الآخرة عذابهم أشد وأشق ﴿ وَمَا لَهُم مِّنَ الله مِن وَاقٍ ﴾ [ الرعد : ٣٤ ]، ﴿ وَأَمَّا الذين آمَنُوا وَعَمِلُواْ الصالحات فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ ﴾ أي في الدنيا والآخرة، في الدنيا بالنصر والظفر، وفي الآخرة بالجنات العاليات ﴿ والله لاَ يُحِبُّ الظالمين ﴾.
ثم قال تعالى :﴿ ذلك نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الآيَاتِ والذكر الحكيم ﴾ أي هذا الذي قصصنا عليك يا محمد في أمر عيسى ومبدأ ميلاده وكيفية أمره، هو مما قاله تعالى وأوحاه إليك، ونزله عليك من اللوح المحفوظ، فلا مرية فيه ولا شك، كما قال تعالى في سورة مريم :﴿ ذلك عِيسَى ابن مَرْيَمَ قَوْلَ الحق الذي فِيهِ يَمْتُرُونَ * مَا كَانَ للَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قضى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ ﴾ [ الآية : ٣٤-٣٥ ] وهاهنا قال تعالى :﴿ إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله كَمَثَلِ ءَادَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ... ﴾.
فلما كلمه الحبران قال لهما رسول الله ﷺ :« أسلما »، قال : قد أسلمنا. قال « إنكما لم تسلما فأسلما » قالا : بلى، قد أسلمنا قبلك، قال :« كذبتما يمنعكما من الإسلام ادعاؤكما لله ولداً وعبادتكما الصليب وأكلكما الخنزير » قالا : فمن أبوه يا محمد؟ فصمت رسول الله ﷺ عنهما فلم يجبهما، فأنزل الله في ذلك من قولهم واختلاف أمرهم صدر سورة ( آل عمران ) إلى بضع وثمانين آية منها. ثم تكلم ابن إسحاق على تفسيرها إلى أن قال : فلما أتى رسول الله ﷺ الخبر من الله والفصل من القضاء بينه وبينهم، وأمر بما أمر به من ملاعنتهم إن ردوا ذلك عليه دعاهم إلى ذلك، فقالوا : يا أبا القاسم، دعنا ننظر في أمرنا، ثم نأتيك بما نريد أن نفعل فيما دعوتنا إليه، ثم انصرفوا عنه، ثم خلوا بالعاقب، وكان ذا رأيهم، فقالوا : يا عبد المسيح ماذا ترى؟ فقال : والله يا معشر النصارى لقد عرفتم أن محمداً لنبي مرسل، ولقد جاءكم بالفصل من خبر صاحبكم، ولقد علمتم أنه ما لاعن قوم نبياً قط فبقي كبيرهم ولا نبت صغيرهم، وإنه للإستئصال منكم إن فعلتم، فإن كنتم أبيتم إلا إلف دينكم والإقامة على ما أنتم عليه من القول في صاحبكم فوادعوا الرجل وانصرفوا إلى بلادكم. فأتوا النبي ﷺ، فقالوا : يا أبا القاسم قد رأينا أن لا نلاعنك، ونتركك على دينك ونرجع على ديننا، ولكن ابعث معنا رجلاً من أصحابك ترضاه لنا يحكم بيننا في أشياء اختلفانا فيها في أموالنا فإنكم عندنا رضا، فقال رسول الله ﷺ :« ائتوني العشية أبعث معكم القوي الأمين »، فكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول : ما أحببت الإمارة قط حبي إياها يومئذٍ، رجاء أن أكون صاحبها، فرحت إلى الظهر مهجِّراً فلما صلى رسول الله ﷺ الظهر سلم، ثم نظر عن يمينه وشماله فجعلت أتطاول له ليراني، فلم يزل يلتمس ببصره حتى رأى أبا عبيدة بن الجراح فدعاه، فقال :« اخرج معهم فاقض بينهم بالحق فيما اختلفوا فيه »
وقال البخاري عن حذيفة رضي الله عنه قال :« جاء العاقب والسيد صاحبا نجران إلى رسول الله ﷺ يريدان أن يلاعناه، قال : فقال أحدهما لصاحبه : لا تفعل فوالله لئن كان نبياً فلاعَنَّاه لا نفلح نحن ولا عقبنا من بعدنا، قالا : إنا نعطيك ما سألتنا وابعث معنا رجلاً أميناً ولا تبعث معنا إلا أميناً، فقال :» لأبعثن معكم رجلاً أميناً، حق أمين « فاستشرف لها أصحاب رسول الله ﷺ فقال :» قم يا أبا عبيدة بن الجراح «، فلما قام قال رسول الله ﷺ :» هذا أمين هذه الأمة « وفي الحديث عن ابن عباس » قال قال أبو جهل قبّحه الله : إن رأيت محمداً يصلي عند الكعبة لآتينه حتى أطأ على رقبته. قال فقال :« لو فعل لأخذته الملائكة عياناً، ولو أن اليهود تمنوا الموت لماتوا ولرأوا مقاعدهم من النار، ولو خرج الذين يباهلون رسول الله ﷺ لرجعوا لا يجدون مالاً ولا أهلاً » «.
والغرض أن وفودهم كان في سنة تسع لأن الزهري قال : كان أهل نجران أول من أدى الجزية إلى رسول الله ﷺ، وآية الجزية إنما أنزلت بعد الفتح، وهي قوله تعالى :﴿ قَاتِلُواْ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالله وَلاَ باليوم الآخر ﴾ [ التوبة : ٢٩ ] الآية. وقال أبو بكر بن مردويه، عن جابر :» قدم على النبي ﷺ العاقب والطيب فدعاهما إلى الملاعنة، فواعداه على أن يلاعناه الغداة، قال : فغدا رسول الله ﷺ فأخذ بيد علي وفاطمة والحسن والحسين ثم أرسل إليهما فأبيا أن يجيبا وأقرا له بالخراج، قال : فقال رسول الله ﷺ :« والذي بعثني بالحق لو قالا : لا لأمطر عليهم الوادي ناراً » قال جابر : وفيهم نزلت :﴿ نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَآءَكُمْ وَنِسَآءَنَا وَنِسَآءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وأَنْفُسَكُمْ ﴾.
ثم قال تعالى :﴿ إِنَّ هذا لَهُوَ القصص الحق ﴾ أي هذا الذي قصصناه عليك يا محمد في شأن عيسى هو الحق الذي لا معدل عنه ولا محيد، ﴿ وَمَا مِنْ إله إِلاَّ الله وَإِنَّ الله لَهُوَ العزيز الحكيم * فَإِن تَوَلَّوْاْ ﴾ أي عن هذا إلى غيره، ﴿ فَإِنَّ الله عَلِيمٌ بالمفسدين ﴾ أي من عدل عن الحق إلى الباطل فهو المفسد، والله عليم به وسيجزيه على ذلك شر الجزاء، وهو القادر الذي لا يفوته شيء سبحانه وبحمده، ونعوذ به من حلول نقمته.
« بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد فأسلم تسلم، وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإنما عليك إثم الأريسيين و ﴿ ياأهل الكتاب تَعَالَوْاْ إلى كَلِمَةٍ سَوَآءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ الله وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ الله فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشهدوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ﴾ ».
ثم قال تعالى :﴿ مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِيّاً وَلَكِن كَانَ حَنِيفاً مُّسْلِماً ﴾ أي متحنفاً عن الشرك قاصداً إلى الإيمان، ﴿ وَمَا كَانَ مِنَ المشركين ﴾، وهذه الآية كالتي تقدمت في سورة البقرة :﴿ وَقَالُواْ كُونُواْ هُوداً أَوْ نصارى تَهْتَدُواْ ﴾ [ الآية : ١٣٥ ] الآية ثم قال تعالى :﴿ إِنَّ أَوْلَى الناس بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتبعوه وهذا النبي والذين آمَنُواْ والله وَلِيُّ المؤمنين ﴾، يقول تعالى : أحق الناس بمتابعة إبراهيم الخليل الذين اتبعوه على دينه ﴿ وهذا النبي ﴾ يعني محمداً ﷺ والذين آمنوا من أصحابه المهاجرين والأنصار ومن تبعهم بعدهم. عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله ﷺ :« إن لكل نبي ولاية من النبيين وإن وليي منهم - أبي وخليل ربي عزّ وجلّ - ابراهيم عليه السلام »، ثم قرأ :﴿ إِنَّ أَوْلَى الناس بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتبعوه وهذا النبي والذين آمَنُواْ ﴾ الآية، وقوله :﴿ والله وَلِيُّ المؤمنين ﴾ أي ولي جميع المؤمنين برسله.
وقوله تعالى :﴿ وَلاَ تؤمنوا إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ ﴾ أي لا تطمئنوا أو تظهروا سركم وما عندكم إلا لمن تبع دينكم، ولا تظهروا ما بأيديكم إلى المسلمين فيؤمنوا به ويحتجوا به عليكم، قال الله تعالى :﴿ قُلْ إِنَّ الهدى هُدَى الله ﴾ أي هو الذي يهدي قلوب المؤمنين إلى أتم الإيمان، بما ينزله على عبده ورسوله ﷺ من الآيات البينات، والدلائل القاطعات والحجج الواضحات، وإن كتمتم أيها اليهود ما بأيديكم من صفة محمد النبي الأمي، في كتبكم التي نقلتموها عن الأنبياء الأقدمين. وقوله :﴿ أَن يؤتى أَحَدٌ مِّثْلَ مَآ أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَآجُّوكُمْ عِندَ رَبِّكُمْ ﴾ يقولون لا تظهروا ما عندكم من العلم للمسلمين فيتعلموه منكم، ويساوونكم فيه، يمتازون به عليكم لشدة الإيمان به، أو يحاجوكم به عند ربكم، أي يتخذوه حجة عليكم بما في أيديكم فتقوم به عليكم الدلالة وترتكب الحجة في الدنيا والآخرة، قال الله تعالى :﴿ قُلْ إِنَّ الفضل بِيَدِ الله يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ ﴾ أي الأمور كلها تحت تصرفه وهو المعطي المانع، يمنُّ على من يشاء بالإيمان والعلم والتصرف التام، ويضل من يشاء فيعمي بصره وبصيرته، ويختم على قلبه وسمعه ويجعل على بصره غشاوة، وله الحجة والحكمة البالغة ﴿ والله وَاسِعٌ عَلِيمٌ * يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ﴾، أي اختصكم أيها المؤمنون من الفضل بما لا يُحدُّ ولا يُوصف، بما شرف به نبيكم محمداً ﷺ على سائر الأنبياء، وهداكم به إلى أكمل الشرائع.
الحديث الأول : عن أبي ذر قال : قال رسول الله ﷺ :« » ثلاثة لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم « قلت : يا رسول الله من هم؟ خسروا وخابوا، قال : وأعاده رسول الله ﷺ ثلاث مرات قال :» المسبل، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب، والمنان « ».
الحديث الثاني : عن عدي بن عميرة الكِندي قال :« خاصم رجل من كِنْدة يُقال له امرؤ القيس بن عامر رجلاً من حضرموت إلى رسول الله ﷺ في أرض، فقضى على الحضرمي بالبيّنة فلم يكن له بيّنة، فقضى على امرىء القيس باليمين، فقال الحضرمي : أمكنته من اليمين يا رسول الله؟ ذهبت ورب الكعبة أرضي، فقال النبي ﷺ :» من حلف على يمين كاذبة ليقتطع بها مال أحد لقي الله عزّ وجلّ وهو عليه غضبان «، وتلا رسول الله ﷺ :﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ الله وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً ﴾، فقال امرؤ القيس : ماذا لمن تركها يا رسول الله؟ فقال :» الجنة « قال : فاشهد أني قد تركتها له كلها ».
الحديث الثالث : عن عبد الله بن مسعود قال قال رسول الله ﷺ :« من اقتطع مال امرىء مسلم بغير حق لقي الله وهو عليه غضبان »، قال : فجاء الأشعث بن قيس فقال : ما يحدثكم أبو عبد الرحمن؟ فحدثناه فقال : كان في هذا الحديث، « خاصمت ابن عم لي إلى رسول الله ﷺ في بئر كانت لي في يده فجحدني، فقال رسول الله ﷺ :» بينتك أنها بئرك وإلا فيمينه «، قال : قلت : يا رسول الله ما لي بينة، وإن تجعلها بيمينه تذهب بئري، إن خصمي امرؤ فاجر، فقال رسول الله ﷺ :» من اقتطع مال امرىء مسلم بغير حق لقي الله وهو عليه غضبان «، قال : وقرأ رسول الله ﷺ هذه الآية :﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ الله وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً ﴾ »
الحديث الرابع : قال أحمد، عن سهل بن معاذ بن أنس عن أبيه أن رسول الله ﷺ قال :« » إن لله تعالى عباداً لا يكلمهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولا ينظر إليهم «، قيل :» ومن أولئك يا رسول الله؟ قال :« متبرىء من والديه راغب عنهما، ومتبرىء من ولده، ورجل أنعم عليه قوم فكفر نعمتهم وتبرأ منهم » «.
الحديث الخامس : عن عبد الله بن أبي أوفى، أن رجلاً أقام سلعة له في السوق فحلف بالله لقد أعطي بها ما لم يعطه ليوقع فيها رجلاً من المسلمين، فنزلت هذه الآية :﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ الله وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً ﴾ الآية.
الحديث السادس : عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ﷺ :» ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم، رجل منع ابن السبيل فضل ماء عنده ورجل حلف على سلعة - بعد العصر - يعني كاذباً، ورجل بايع إماماً فإن أعطاه وفى له وإن لم يعطه لم يف له «.
فالرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، هم السفراء بين الله وبين خلقه، في أداء ما حملوه من الرسالة، وإبلاغ الأمانة فقاموا بذلك أتم القيام ونصحوا الخلق، وبلغوهم الحق، وقوله تعالى :﴿ ولكن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الكتاب وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ ﴾ أي ولكن يقول الرسول للناس : كونوا ربانيين، قال ابن عباس : أي حكماء علماء حلماء، وقال الحسن : فقهاء، وعن الحسن أيضاً : يعني أهل عبادة وأهل تقوى، وقال الضحاك في قوله :﴿ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الكتاب وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ ﴾ حق على من تعلم القرآن أن يكون فقيهاً، تَعْلمون : أي تفهمون معناه، وقرىء تعلّمون بالتشديد من التعليم، ﴿ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ ﴾ تحفظون ألفاظه، ثم قال الله تعالى :﴿ وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الملائكة والنبيين أَرْبَاباً ﴾ أي ولا يأمركم بعبادة أحد غير الله، لا نبي مرسل ولا ملك مقرب، ﴿ أَيَأْمُرُكُم بالكفر بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ ﴾ ؟ أي لا يفعل ذلك إلا من دعا إلى عبادة غير الله ومن دعا إلى عبادة غير الله، فقد دعا إلى الكفر، والأنبياء إنما يأمرون بالإيمان وهو عبادة الله وحده لا شريك له كما قال تعالى :﴿ وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نوحي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إله إِلاَّ أَنَاْ فاعبدون ﴾ [ الأنبياء : ٢٥ ] وقال :﴿ وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَآ أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرحمن آلِهَةً يُعْبَدُونَ ﴾ [ الزخرف : ٤٥ ] ؟ وقال إخباراً عن الملائكة :﴿ وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إني إله مِّن دُونِهِ فذلك نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظالمين ﴾ [ الأنبياء : ٢٩ ].
حديث آخر : وعن جابر قال رسول الله ﷺ :« لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء فإنهم لن يهدوكم وقد ضلوا، وإنكم إما أن تصدقوا بباطل، وإما أن تكذبوا بح، وإنه والله لو كان موسى حياً بين أظهركم ما حل له إلا أن يتبعني » وفي بعض الأحاديث :« لو كان موسى وعيسى حيين لما وسعهما إلا اتباعي » فالرسول محمد خاتم الأنبياء صلوات الله وسلامه عليه دائماً إلى يوم الدين، هو الإمام الأعظم الذي لو وجد في أي عصر وجد، لكان هو الواجب الطاعة المقدم على الأنبياء كلهم، ولهذا كان إمامهم ليلة الإسراء لما اجتمعوا ببيت المقدس، وكذلك هو الشفيع في المحشر في إتيان الربّ جلّ جلاله لفصل القضاء بين عباده، وهو المقام المحمود الذي لا يليق إلاّ له، والذي يحيد عنه أولو العزم من الأنبياء والمرسلين، حتى تنتهي النوبة إليه فيكون هو المخصوص به، صلوات الله وسلامه عليه.
ثم قال تعالى :﴿ قُلْ آمَنَّا بالله وَمَآ أُنزِلَ عَلَيْنَا ﴾ يعني القرآن، ﴿ وَمَآ أُنزِلَ على إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ ﴾ أي من الصحف والوحي، ﴿ والأسباط ﴾ وهم بطون بني إسرائيل المتشعبة من أولاد إسرائيل - وهو يعقوب - الاثني عشر، ﴿ وَمَا أُوتِيَ موسى وعيسى ﴾ يعني بذلك التوراة والإنجيل، ﴿ والنبيون مِن رَّبِّهِمْ ﴾ وهذا يعم جميع الأنبياء جملة، ﴿ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ ﴾ يعني بل نؤمن بجميعهم، ﴿ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ﴾ فالمؤمنون من هذه الأمة يؤمنون بكل نبي أرسل، وبكل كتاب أنزل، لا يكفرون بشيء من ذلك، بل هم يصدقون بما أنزل من عند الله، وبكل نبي بعثه الله.
ثم قال تعالى :﴿ وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ ﴾ الآية. أي من سلك طريقاً سوى ما شرعه الله فلن يقبل منه، ﴿ وَهُوَ فِي الآخرة مِنَ الخاسرين ﴾، كما قال النبي ﷺ في الحديث الصحيح :« من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد ».
ثم قال تعالى :﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ الأرض ذَهَباً وَلَوِ افتدى بِهِ ﴾، أي من مات على الكفر فلن يقبل منه خير أبداً، ولو كان قد أنفق ملء الأرض ذهباً فيما يراه قربة، كما سئل النبي ﷺ عن عبد الله بن جدعان - وكان يقري الضيف ويفك العاني ويطعم الطعام - هل ينفعه ذلك؟ فقال :« لا! إنه لم يقل يوماً من الدهر : رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين »، وكذلك لو افتدى بملء الأرض أيضاً ذهباً ما قبل منه كما قال تعالى :﴿ وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ ﴾ [ البقرة : ١٢٣ ]، وقال :﴿ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خِلاَلٌ ﴾ [ إبراهيم : ٣١ ]، وقال :﴿ إِنَّ الذين كَفَرُواْ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِي الأرض جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُواْ بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ القيامة مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [ المائدة : ٣٦ ]، ولو افتدى نفسه من الله بملء الأرض ذهباً، بوزن جبالها وتلالها وترابها ورمالها وسهلها ووعرها وبرها وبحرها. عن أنس بن مالك، أن النبي ﷺ قال :« يقال للرجل من أهل النار يوم القيامة أرأيت لو كان لك ما على الأرض من شيء أكنت مفتدياً به؟ قال فيقول : نعم، فيقول الله : قد أردت منك أهون من ذلك، قد أخذت عليك في ظهر أبيك آدم أن لا تشرك بي شيئاً فأبيت إلا أن تشرك ».
طريق آخر : وقال الإمام أحمد، عن أنس قال قال رسول الله ﷺ :« يؤتى بالرجل من أهل الجنة فيقول له : يا ابن آدم كيف وجدت منزلك؟ فيقول : أي رب خير منزل، فيقول : سل وتمن، فيقول : ما أسأل ولا أتمنى إلا أن تردني إلى الدنيا فأقتل في سبيلك عشر مرار، لما يرى من فضل الشهادة، ويؤتى بالرجل من أهل النار فيقول له : يا ابن آدم كيف وجدت منزلك؟ فيقول : يا رب شر منزل، فيقول له : أتفتدي مني بطلاع الأرض ذهباً؟ فيقول : أي رب نعم، فيقول : كذبت قد سألتك أقل من ذلك وايسر فلم تفعل فيرد إلى النار »، ولهذا قال :﴿ أولئك لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ ﴾ أي وما لهم من أحد ينقذهم من عذاب الله ولا يجيرهم من أليم عقابه.
وقال ابن جريج، عن ابن عباس : كان إسرائيل عليه السلام - وهو يعقوب - يعتريه عرق النسا بالليل، وكان يقلقه ويزعجه عن النوم ويقلع الوجع عنه بالنهار، فنذر لله لئن عافاه الله لا يأكل عَرْقاً، ولا يأكل ولد ما له عَرْق، فاتبعه بنوه في تحريم ذلك استناباً به واقتداء بطريقه، وقوله :﴿ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التوراة ﴾ أي حرم ذلك على نفسه من قبل أن تنزل التوراة، ﴿ قُلْ فَأْتُواْ بالتوراة فاتلوها إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴾ فإنها ناطقة بما قلناه، ﴿ فَمَنِ افترى عَلَى الله الكذب مِن بَعْدِ ذَلِكَ فأولئك هُمُ الظالمون ﴾ أي فمن كذب على الله وادعى أنه شرع لهم السبت والتمسك بالتوراة دائماً، وأنه لم يبعث نبياً آخر يدعوا إلى الله تعالى بالبراهين والحجج، بعد هذا الذي بيناه من وقوع النسخ وظهور ما ذكرنا ﴿ فأولئك هُمُ الظالمون ﴾، ثم قال تعالى :﴿ قُلْ صَدَقَ الله ﴾ أي قل يا محمد صدق الله فيما أخبر به وفيما شرعه في القرآن، ﴿ فاتبعوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ المشركين ﴾ أي اتبعوا ملة إبراهيم التي شرعها الله في القرآن على لسان محمد ﷺ فإنه الحق الذي لا شك فيه ولا مرية، وهي الطريقة التي لم يأت نبي بأكمل منها ولا أبين ولا أوضح ولا أتم، كما قال تعالى :
وقوله تعالى :﴿ لَلَّذِي بِبَكَّةَ ﴾ بكة من أسماء مكة على المشهور، قيل : سميت بذلك لأنها تبك أعناق الظلمة والجبابرة، بمعنى أنهم يذلون بها ويخضعون عندها، وقيل : لأن الناس يتباكون فيها أي يزدحمون، قال قتادة : إن الله بَكَّ به الناس جميعاً، فيصلي النساء أمام الرجال ولا يفعل ذلك ببلد غيرها، وقال شعبة عن إبراهيم : بكة البيت والمسجد، وقال عكرمة : البيت وما حوله بكة، وما وراء ذلك مكة، وقال مقاتل بن حيان : بكة موضع البيت وما سوى ذلك مكة. وقد ذكروا لمكة أسماء كثيرة ( مكة، وبكة، والبيت العتيق، والبيت الحرام، والبلد الأمين، وأم القرى، والقادس لأنها تطهر من الذنوب، والمقدسة، والحاطمة، والرأس، والبلدة، والبنية، والكعبة ).
وقوله تعالى :﴿ فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ ﴾ أي دلالات ظاهرة أنه من بناء إبراهيم، وأن الله عظمه وشرفه، ثم قال تعالى :﴿ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ ﴾ يعني الذي لما ارتفع البناء استعان به على رفع القواعد منه والجدران، حيث كان يقف عليه ويناوله ولده إسماعيل، وقد كان ملتصقاً بجدار البيت حتى أخَّره عمر بن الخطاب رضي الله عنه، في إمارته إلى ناحية الشرق بحيث يتمكن الطواف منه، ولا يشوشون على المصلين عنده بعد الطواف، لأن الله تعالى قد أمرنا بالصلاة عنده حيث قال :﴿ واتخذوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى ﴾ [ البقرة : ١٢٥ ]، وقد قدمنا الأحاديث في ذلك فأغنى عن إعادته هاهنا ولله الحمد والمنة، وقال ابن عباس في قوله :﴿ فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ ﴾ أي فمنهم مقام إبراهيم والمشاعر، وقال مجاهد : أثر قدميه في المقام آية بينة، وقال أبو طالب في قصيدته اللامية المشهورة :
وموطىء إبراهيم في الصخر رطبة | على قدميه حافياً غير ناعل |
إن يعذب يكن غراماً وإن يع | طِ جزيلاً فإنه لا يبالي |
وقد ثبت في الحديث أن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه لما قرأ سورة ﴿ كهيعص ﴾ [ مريم : ١ ] بحضرة النجاشي ملك الحبشة وعند البطاركة والقساوسة بكى وبكوا معه حتى أخضبوا لحاهم، وثبت في الصحيحين أن النجاشي لما مات نعاه النبي ﷺ إلى أصحابه، وقال :« إن أخاً لكم بالحبشة قد مات فصلّوا عليه » فخرج إلى الصحراء فصفهم وصلى عليه، وروى ابن أبي حاتم، عن أنَس بن مالك قال : لما توفي النجاشي، قال رسول الله ﷺ :« استغفرا لأخيكم »، فقال بعض الناس : يأمرنا أن نستغفر لعلج مات بأرض الحبشة، فنزلت :﴿ وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الكتاب لَمَن يُؤْمِنُ بالله وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ للَّهِ ﴾ الآية. وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد :﴿ وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الكتاب ﴾ يعني مسلمة أهل الكتاب، وقال عباد بن منصور : سألت الحسن البصري عن قول الله :﴿ وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الكتاب لَمَن يُؤْمِنُ بالله ﴾ الآية، قال : هم أهل الكتاب الذين كانوا قبل محمد ﷺ فاتبعوه وعرفوا الإسلام فأعطاهم الله تعالى أجر اثنين، للذي كانوا عليه من الإيمان قبل محمد ﷺ، واتباعهم محمداً ﷺ.
وقوله تعالى :﴿ يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ اصبروا وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ ﴾ قال الحسن البصري : أمروا أن يصبروا على دينهم الذي ارتضاه الله لهم وهو الإسلام، فلا يدعوه لسراء ولا لضراء ولا لشدة ولا لرخاء، حتى يموتوا مسلمين، وأن يصابروا الأعداء الذين يكتمون دينهم، وكذلك قال غير واحد من علماء السلف، وأما المرابطة فهي المداومة في مكان العبادة والثبات وقيل : انتظار الصلاة بعد الصلاة قاله ابن عباس ويشهد له حديث :« ألا أخبركم بما يمحوا الله به الخطايا ويرفع به الدرجات!! إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط » وعن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال : أقبل عليّ أبو هريرة يوماً فقال : أتدري يا ابن أخي فيم نزلت هذه الآية؟ ﴿ يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ اصبروا وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ ﴾ قلت : لا، قال : أما إنه لم يكن في زمان النبي ﷺ غزو يرابطون فيه، ولكنها نزلت في قوم يعمرون المساجد ويصلون الصلاة في مواقيتها، ثم يذكرون الله فيها فعليهم أنزلت :﴿ اصبروا ﴾ أي على الصلوات الخمس، ﴿ وَصَابِرُواْ ﴾ أنفسكم وهواكم، ﴿ وَرَابِطُواْ ﴾ في مساجدكم، ﴿ واتقوا الله ﴾ فيما عليكم ﴿ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾.
وعن جابر بن عبد الله قال، قال رسول الله ﷺ :« » ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويكفر به الذنوب؟ « قلنا : بلى، يا رسول الله، قال :» إسباغ الوضوء في أماكنها وكثرة الخطا إلى المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط « وقيل : المراد بالمرابطة هاهنا ( مرابطة الغزو ) في نحور العدو، وحفظ ثغور الإسلام، وصيانتها عن دخول الأعداء إلى حوزة بلاد المسلمين وقد وردت الأخبار بالترغيب في ذلك وذكر كثرة الثواب فيه، فروى » البخاري في صحيحه « عن سهل بن سعد الساعدي أن رسول الله ﷺ قال :» رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها «.
( حديث آخر ) : روى مسلم عن سلمان الفارسي عن رسول الله ﷺ أنه قال :» رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه، وإن مات جرى عليه عمله الذي كان يعمله وأجرى عليه رزقه وأمن الفتان «.
( حديث آخر ) : عن أبي هريرة عن رسول الله ﷺ قال :« من مات مرابطاً في سبيل الله أجري عليه عمله الصالح الذي كان يعمله، وأجري عليه رزقه، وأمن من الفتان وبعثه الله يوم القيامة آمناً من الفزع الأكبر ».
( طريق أُخرى ) : قال الإمام أحمد، عن أبي هريرة عن رسول الله ﷺ قال :« من مات مرابطاً وقي فتنة القبر وأمن من الفزع الأكبر، وغدا عليه ريح برزقه من الجنة وكتب له أجر المرابط إلى يوم القيامة ».
( طريق أُخرى ) : قال الترمذي، عن أبي صالح مولى عثمان بن عفان، قال : سمعت عثمان وهو على المنبر يقول إني كتمتكم حديثاً سمعته من رسول الله ﷺ كراهية تفرقكم عني ثم بدا لي أن أحدثكموه ليختار امرؤ لنفسه ما بدا له، سمعت رسول الله ﷺ يقول :« رباط يوم في سبيل الله خير من ألف يوم فيما سواه من المنازل ».
( حديث آخر ) : قال الترمذي : مرّ سلمان الفارسي بشرحبيل بن السمط وهو في مرابطة له وقد شق عليه وعلى أصحابه فقال : ألا أحدثك يا ابن السمط بحديث سمعته من رسول الله ﷺ ؟ قال : بلى، قال : سمعت رسول الله ﷺ يقول :« رباط يوم في سبيل الله أفضل - أو قال خير - من صيام شهر وقيامه، ومن مات فيه وقي فتنة القبر ونمي له عمله إلى يوم القيامة ».
( حديث آخر ) : قال أبو داود :« عن سهل بن الحنظلة أنهم ساروا مع رسول الله ﷺ يوم حنين حتى كانت عشية، فحضرت الصلاة مع رسول الله ﷺ، فجاء رجل فارس فقال : يا رسول الله إني انطلقت بين أيديكم حتى طلعت جبل كذا وكذا، فإذا أنا بهوازن على بكرة أبيهم بظعنهم ونعمهم وشياههم، فتبسم النبي ﷺ وقال :» تلك غنيمة المسلمين غداً إن شاء الله «، ثم قال :» من يحرسنا الليلة «؟ قال أنَس بن أبي مرثد : أنا يا رسول الله، قال :» فاركب «، فركب فرساً، فجاء إلى رسول الله ﷺ، فقال له رسول الله ﷺ :» استقبل هذا الشعب حتى تكون في أعلاه ولا تغز من قبلك الليلة «، فلما أصبحنا خرج رسول الله ﷺ إلى مصلاه فركع ركعيتين، فقال :» هل أحسستم فارسكم «؟، فقال رجل : يا رسول الله ما أحسسناه، فثوّب بالصلاة، فجعل النبي ﷺ وهو يصلي يلتفت إلى الشعب، حتى إذا قضى صلاته، قال :» أبشروا فقد جاءكم فارسكم «، فجعلنا ننظر في خلال الشجر في الشعب فإذا هو قد جاء، حتى وقف على النبي ﷺ فقال : إني انطلقت حتى كنت في أعلى هذا الشعب حيث أمرتني، فلما أصبحنا طلعت الشعبين كليهما، فنظرت فلم أر أحداً، فقال له رسول الله ﷺ :» هل نزلت الليلة «؟ قال : لا، إلا مصلياً أو قاضي حاجة، فقال له :» أوجبتَ فلا عليك أن لا تعمل بعدها « ».
( حديث آخر ) : قال الترمذي، عن ابن عباس قال : سمعت رسول الله ﷺ يقول :» عينان لا تَمَسُّهما النار، عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله «.
( حديث آخر ) : روى البخاري في » صحيحه « عن أبي هريرة، قال، قال رسول الله ﷺ :» تعس عبد الدينار وعبد الدرهم وعبد الخميصة، إن أعطي رضي، وإن لم يعط سخط، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش. طوبى لعبد أخذ بعنان فرسه في سبيل الله، أشعث رأسه، مغبرة قدماه، إن كان في الحراسة كان في الحراسة. وإن كان في الساقة كان في الساقة، إن استأذن لم يؤذن له، وإن شفع لم يشفع « فهذا آخر ما تيسر إيراده من الأحاديث المتعلقة بهذا المقام، ولله الحمد على جزيل الأنعام، على تعاقب الأعوام والأيام.
يا عابد الحرمين لو أبصرتنا | لعلمت أنك في العبادة تلعب |
من كان يخضب خده بدموعه | فنحورنا بدمائنا تتخضب |
أو كان يتعب خيله في باطل | فخيولنا يوم الصبيحة تتعب |
ريح العبير لكم ونحن عبيرنا | رهج السنابك والغبار الأطيب |
ولقد أتانا من مقال نبينا | قول صحيح صادق لا يكذب |
لا يستوي غبَّار خيل الله في | أنف امرىء ودخان نار تلهب |
هذا كتاب الله ينطق بيننا | ليس الشهيد بميت لا يكذب |
سورة آل عمران
اتصَلتْ سورةُ (آلِ عِمْرانَ) من حيث الفضلُ بسورةِ (البقرة)؛ فقد وصَفهما الرسولُ ﷺ بـ (الزَّهْراوَينِ)؛ لِما احتوتا عليه من نورٍ وهداية.
وجاءت هذه السُّورةُ ببيانِ هداية هذا الكتابِ للناس، متضمِّنةً الحوارَ مع أهل الكتاب، مُحاجِجَةً إياهم في صِدْقِ هذا الدِّين وعلوِّه على غيره، مبرهنةً لصِدْقِ النبي ﷺ بهذه الرسالة، وهَيْمنةِ هذا الدِّينِ على غيره، ونَسْخِه للأديان الأخرى؛ فمَن ابتغى غيرَ الإسلام فأمرُه ردٌّ غيرُ مقبولٍ، كما أشارت إلى غزوةِ (أُحُدٍ)، وأمرِ المسلمين بالثَّبات على هذا الدِّين.
ترتيبها المصحفي
3نوعها
مدنيةألفاظها
3501ترتيب نزولها
89العد المدني الأول
200العد المدني الأخير
200العد البصري
200العد الكوفي
200العد الشامي
200* قوله تعالى: {إِنَّ اْلَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اْللَّهِ وَأَيْمَٰنِهِمْ ثَمَنٗا قَلِيلًا أُوْلَٰٓئِكَ لَا خَلَٰقَ لَهُمْ فِي اْلْأٓخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اْللَّهُ وَلَا يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ اْلْقِيَٰمَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٞ} [آل عمران: 77]:
ورَد عن عبدِ اللهِ بن مسعودٍ - رضي الله عنه -، عن النبيِّ ﷺ، قال: «مَن حلَفَ على يمينٍ يقتطِعُ بها مالَ امرئٍ مسلمٍ، وهو فيها فاجرٌ: لَقِيَ اللهَ وهو عليه غضبانُ»، ثم أنزَلَ اللهُ تصديقَ ذلك: {إِنَّ اْلَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اْللَّهِ وَأَيْمَٰنِهِمْ ثَمَنٗا قَلِيلًا أُوْلَٰٓئِكَ لَا خَلَٰقَ لَهُمْ فِي اْلْأٓخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اْللَّهُ وَلَا يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ اْلْقِيَٰمَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٞ} [آل عمران: 77]، ثم إنَّ الأشعَثَ بنَ قيسٍ خرَجَ إلينا، فقال: ما يُحدِّثُكم أبو عبدِ الرَّحمنِ؟ قال: فحدَّثْناه، قال: فقال: صدَقَ؛ لَفِيَّ نزَلتْ، كانت بيني وبين رجُلٍ خصومةٌ في بئرٍ، فاختصَمْنا إلى رسولِ اللهِ ﷺ، فقال رسولُ اللهِ ﷺ: «شاهِدَاكَ أو يمينُهُ»، قلتُ: إنَّه إذًا يَحلِفُ ولا يُبالي، فقال رسولُ اللهِ ﷺ: «مَن حلَفَ على يمينٍ يستحِقُّ بها مالًا، وهو فيها فاجرٌ: لَقِيَ اللهَ وهو عليه غضبانُ»، ثم أنزَلَ اللهُ تصديقَ ذلك، ثم اقترَأَ هذه الآيةَ: {إِنَّ اْلَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اْللَّهِ وَأَيْمَٰنِهِمْ ثَمَنٗا قَلِيلًا} إلى قوله: {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٞ} [آل عمران: 77]. أخرجه البخاري (٢٣٥٦).
* قوله تعالى: {كَيْفَ يَهْدِي اْللَّهُ قَوْمٗا كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَٰنِهِمْ وَشَهِدُوٓاْ أَنَّ اْلرَّسُولَ حَقّٞ وَجَآءَهُمُ اْلْبَيِّنَٰتُۚ وَاْللَّهُ لَا يَهْدِي اْلْقَوْمَ اْلظَّٰلِمِينَ ٨٦ أُوْلَٰٓئِكَ جَزَآؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اْللَّهِ وَاْلْمَلَٰٓئِكَةِ وَاْلنَّاسِ أَجْمَعِينَ ٨٧ خَٰلِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ اْلْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنظَرُونَ ٨٨ إِلَّا اْلَّذِينَ تَابُواْ مِنۢ بَعْدِ ذَٰلِكَ وَأَصْلَحُواْ فَإِنَّ اْللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٌ} [آل عمران: 86-89]:
صحَّ عن عبدِ اللهِ بن عباسٍ - رضي الله عنهما -، قال: «كان رجُلٌ مِن الأنصارِ أسلَمَ، ثم ارتَدَّ ولَحِقَ بالشِّرْكِ، ثم نَدِمَ، فأرسَلَ إلى قومِه: سَلُوا رسولَ اللهِ ﷺ: هل لي مِن توبةٍ؟ فجاء قومُهُ إلى رسولِ اللهِ ﷺ، فقالوا: إنَّ فلانًا قد نَدِمَ، وإنَّه قد أمَرَنا أن نسألَك: هل له مِن توبةٍ؟ فنزَلتْ: {كَيْفَ يَهْدِي اْللَّهُ قَوْمٗا كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَٰنِهِمْ} [آل عمران: 86] إلى {غَفُورٞ رَّحِيمٌ} [آل عمران: 89]، فأرسَلَ إليه قومُهُ، فأسلَمَ». أخرجه النسائي (٤٠٧٩).
* قوله تعالى: {وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنتُمْ تُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ ءَايَٰتُ اْللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُۥۗ وَمَن يَعْتَصِم بِاْللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسْتَقِيمٖ ١٠١ يَٰٓأَيُّهَا اْلَّذِينَ ءَامَنُواْ اْتَّقُواْ اْللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِۦ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ١٠٢ وَاْعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اْللَّهِ جَمِيعٗا وَلَا تَفَرَّقُواْۚ وَاْذْكُرُواْ نِعْمَتَ اْللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَآءٗ فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِۦٓ إِخْوَٰنٗا وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٖ مِّنَ اْلنَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَاۗ} [آل عمران: 101-103]:
عن عبدِ اللهِ بن عباسٍ - رضي الله عنهما -، قال: «كان الأَوْسُ والخَزْرجُ يَتحدَّثون، فغَضِبوا، حتى كان بينهم حربٌ، فأخَذوا السِّلاحَ بعضُهم إلى بعضٍ؛ فنزَلتْ: {وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنتُمْ تُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ ءَايَٰتُ اْللَّهِ} [آل عمران: 101] إلى قوله تعالى: {فَأَنقَذَكُم مِّنْهَاۗ} [آل عمران: 103]. "المعجم الكبير" للطبراني (١٢٦٦٦).
* قوله تعالى: {لَيْسَ لَكَ مِنَ اْلْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَٰلِمُونَ} [آل عمران: 128]:
صحَّ عن أبي هُرَيرةَ - رضي الله عنه - أنَّه قال: «كان رسولُ اللهِ ﷺ يقولُ حين يفرُغُ مِن صلاةِ الفجرِ مِن القراءةِ ويُكبِّرُ ويَرفَعُ رأسَه: «سَمِعَ اللهُ لِمَن حَمِدَه، ربَّنا ولك الحمدُ»، ثم يقولُ وهو قائمٌ: «اللهمَّ أنْجِ الوليدَ بنَ الوليدِ، وسلَمةَ بنَ هشامٍ، وعيَّاشَ بنَ أبي ربيعةَ، والمستضعَفِينَ مِن المؤمنين، اللهمَّ اشدُدْ وَطْأتَك على مُضَرَ، واجعَلْها عليهم كَسِنِي يوسُفَ، اللهمَّ العَنْ لِحْيانَ، ورِعْلًا، وذَكْوانَ، وعُصَيَّةَ؛ عصَتِ اللهَ ورسولَه»، ثم بلَغَنا أنَّه ترَكَ ذلك لمَّا أُنزِلَ: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ أوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإنَّهُمْ ظالِمُونَ}». أخرجه مسلم (675).
وعن عبدِ اللهِ بن عُمَرَ - رضي الله عنهما -: أنَّه سَمِعَ رسولَ اللهِ ﷺ إذا رفَعَ رأسَه مِن الرُّكوعِ مِن الركعةِ الآخِرةِ مِن الفجرِ يقولُ: «اللهمَّ العَنْ فلانًا وفلانًا وفلانًا» بعدما يقولُ: «سَمِعَ اللهُ لِمَن حَمِدَه، ربَّنا ولك الحمدُ»؛ فأنزَلَ اللهُ: {لَيْسَ لَكَ مِنَ اْلْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَٰلِمُونَ} [آل عمران: 128]. أخرجه البخاري (٤٠٦٩).
* قوله تعالى: {ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّنۢ بَعْدِ اْلْغَمِّ أَمَنَةٗ نُّعَاسٗا يَغْشَىٰ طَآئِفَةٗ مِّنكُمْۖ وَطَآئِفَةٞ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ} [آل عمران: 154]:
عن أنسِ بن مالكٍ - رضي الله عنه -، أنَّ أبا طَلْحةَ قال: «غَشِيَنا النُّعَاسُ ونحن في مَصافِّنا يومَ أُحُدٍ، قال: فجعَلَ سيفي يسقُطُ مِن يدي وآخُذُه، ويسقُطُ وآخُذُه؛ وذلك قولُه عز وجل: {ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّنۢ بَعْدِ اْلْغَمِّ أَمَنَةٗ نُّعَاسٗا يَغْشَىٰ طَآئِفَةٗ مِّنكُمْۖ وَطَآئِفَةٞ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ} [آل عمران: 154]، والطائفةُ الأخرى: المنافقون، ليس لهم إلا أنفسُهم؛ أجبَنُ قومٍ وأرعَبُهُ، وأخذَلُهُ للحقِّ». أخرجه البخاري (٤٠٦٨).
* قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَغُلَّۚ وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ اْلْقِيَٰمَةِۚ ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٖ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [آل عمران: 161]:
صحَّ عن عبدِ اللهِ بن عباسٍ - رضي الله عنهما - أنَّه قال: «نزَلتْ هذه الآيةُ: {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَغُلَّۚ} في قَطيفةٍ حَمْراءَ فُقِدتْ يومَ بدرٍ، فقال بعضُ الناسِ: لعلَّ رسولَ اللهِ - ﷺ - أخَذَها؛ فأنزَلَ اللهُ: {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَغُلَّۚ وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ اْلْقِيَٰمَةِۚ ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٖ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [آل عمران: 161]». أخرجه أبو داود (٣٩٧١).
* قوله تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ اْلَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اْللَّهِ أَمْوَٰتَۢاۚ بَلْ أَحْيَآءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169]:
عن مسروقٍ، قال: سأَلْنا عبدَ اللهِ - هو ابنُ مسعودٍ رضي الله عنه - عن هذه الآيةِ: {وَلَا تَحْسَبَنَّ اْلَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اْللَّهِ أَمْوَٰتَۢاۚ بَلْ أَحْيَآءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ}، قال: «أمَا إنَّا قد سأَلْنا عن ذلك، فقال: أرواحُهم في جوفِ طيرٍ خُضْرٍ، لها قناديلُ معلَّقةٌ بالعرشِ، تَسرَحُ مِن الجَنَّةِ حيث شاءت، ثم تَأوي إلى تلك القناديلِ، فاطَّلَعَ إليهم ربُّهم اطِّلاعةً، فقال: هل تشتهون شيئًا؟ قالوا: أيَّ شيءٍ نشتهي ونحن نَسرَحُ في الجَنَّةِ حيث شِئْنا؟! ففعَلَ ذلك بهم ثلاثَ مرَّاتٍ، فلمَّا رأَوْا أنَّهم لن يُترَكوا مِن أن يَسألوا، قالوا: يا ربُّ، نريدُ أن ترُدَّ أرواحَنا في أجسادِنا؛ حتى نُقتَلَ في سبيلِك مرَّةً أخرى، فلمَّا رأى أنْ ليس لهم حاجةٌ، تُرِكوا». أخرجه مسلم (١٨٨٧).
سُمِّيتْ (آلُ عِمْرانَ) بهذا الاسم لذِكْرِ (آلِ عِمْرانَ) فيها، وثبَت لها اسمٌ آخَرُ؛ وهو (الزَّهْراءُ):
لِما جاء في حديث أبي أُمامةَ الباهليِّ رضي الله عنه، قال: سَمِعْتُ رسولَ الله ﷺ يقولُ: «اقرَؤُوا الزَّهْراوَينِ: البقرةَ، وسورةَ آلِ عِمْرانَ». أخرجه مسلم (804).
يقول ابنُ منظورٍ: «والزَّهْراوانِ: أي: المُنِيرتانِ المُضِيئتانِ، واحدتها: زَهْراءُ». لسان العرب (4 /332).
وقد عدَّ بعضُ العلماء أنَّ ذِكْرَ (الزَّهْراوانِ) في هذا الحديثِ هو من بابِ الوصف، لا التسمية. انظر: "التحرير والتنوير" لابن عاشور (3 /143)، "التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (1 /20).
* تُحاجُّ عن صاحبِها:
صحَّ عن أبي أُمامةَ الباهليِّ رضي الله عنه، قال: سَمِعْتُ رسولَ اللهِ ﷺ يقولُ: «اقرَؤُوا القرآنَ؛ فإنَّه يأتي يومَ القيامةِ شفيعًا لأصحابِه؛ اقرَؤُوا الزَّهْراوَينِ: البقرةَ، وسورةَ آلِ عِمْرانَ؛ فإنَّهما تأتيانِ يومَ القيامةِ كأنَّهما غَمَامتانِ، أو كأنَّهما غَيَايتانِ، أو كأنَّهما فِرْقانِ مِن طيرٍ صوافَّ، تُحاجَّانِ عن أصحابِهما، اقرَؤُوا سورةَ البقرةِ؛ فإنَّ أَخْذَها برَكةٌ، وتَرْكَها حَسْرةٌ، ولا تستطيعُها البَطَلةُ». أخرجه مسلم (804).
* كان يعظُمُ بين الصحابةِ قارئُ سورةِ (آلِ عِمْرانَ):
فعن أنسٍ رضي الله عنه، قال: «كان الرَّجُلُ إذا قرَأ البقرةَ وآلَ عِمْرانَ، جَدَّ فينا - يعني: عظُمَ -»، وفي روايةٍ: «يُعَدُّ فينا عظيمًا»، وفي أخرى: «عُدَّ فينا ذا شأنٍ». أخرجه أحمد (12236).
* ورَدتْ قراءتُه ﷺ لسورة (آل عِمْران) في قيام الليل:
فعن حُذَيفةَ بن اليمانِ رضي الله عنهما، قال: «صلَّيْتُ مع رسولِ اللهِ ﷺ ذاتَ ليلةٍ، فاستفتَحَ بسورةِ البقرةِ، فقرَأَ بمائةِ آيةٍ لم يَركَعْ، فمضى، قلتُ: يَختِمُها في الرَّكعتَينِ، فمضى، قلتُ: يَختِمُها ثم يَركَعُ، فمضى حتى قرَأَ سورةَ النِّساءِ، ثم قرَأَ سورةَ آلِ عِمْرانَ، ثم ركَعَ نحوًا مِن قيامِهِ، يقولُ في ركوعِهِ: سبحانَ ربِّيَ العظيمِ، سبحانَ ربِّيَ العظيمِ، سبحانَ ربِّيَ العظيمِ، ثم رفَعَ رأسَهُ، فقال: سَمِعَ اللهُ لِمَن حَمِدَه، ربَّنا لك الحمدُ، وأطال القيامَ، ثم سجَدَ، فأطال السُّجودَ، يقولُ في سجودِهِ: سبحانَ ربِّيَ الأعلى، سبحانَ ربِّيَ الأعلى، سبحانَ ربِّيَ الأعلى، لا يمُرُّ بآيةِ تخويفٍ أو تعظيمٍ للهِ عز وجل إلا ذكَرَهُ». أخرجه النسائي (١١٣٢).
* كان النبيُّ ﷺ يَقرأُ خواتمَها منتصَفَ الليلِ عندما يستيقظُ مِن نومِه:
فممَّا صحَّ عن عبدِ اللهِ بن عباسٍ رضي الله عنهما: أنَّه باتَ عند مَيْمونةَ زَوْجِ النبيِّ ﷺ - وهي خالتُهُ -، قال: «فاضطجَعْتُ في عَرْضِ الوِسادَةِ، واضطجَعَ رسولُ اللهِ ﷺ وأهلُهُ في طُولِها، فنامَ رسولُ اللهِ ﷺ حتى انتصَفَ الليلُ - أو قَبْله بقليلٍ، أو بعده بقليلٍ -، ثم استيقَظَ رسولُ اللهِ ﷺ، فجعَلَ يَمسَحُ النَّوْمَ عن وجهِهِ بيدَيهِ، ثم قرَأَ العَشْرَ الآياتِ الخواتِمَ مِن سُورةِ آلِ عِمْرانَ، ثم قامَ إلى شَنٍّ معلَّقةٍ، فتوضَّأَ منها، فأحسَنَ وُضُوءَهُ، ثم قامَ يُصلِّي، فصنَعْتُ مِثْلَ ما صنَعَ، ثُمَّ ذهَبْتُ فقُمْتُ إلى جَنْبِهِ، فوضَعَ رسولُ اللهِ ﷺ يَدَهُ اليُمْنى على رَأْسي، وأخَذَ بأُذُني بيدِهِ اليُمْنى يَفتِلُها، فصلَّى ركعتَينِ، ثم ركعتَينِ، ثم ركعتَينِ، ثم ركعتَينِ، ثم ركعتَينِ، ثم ركعتَينِ، ثم أوتَرَ، ثم اضطجَعَ حتى جاءه المؤذِّنُ، فقامَ فصلَّى ركعتَينِ خفيفتَينِ، ثم خرَجَ فصلَّى الصُّبْحَ». أخرجه البخاري (٤٥٧١).
جاءت مواضيعُ سورةِ (آل عِمْرانَ) مُرتَّبةً على النحوِ الآتي:
مقدِّمات للحوار مع النَّصارى (١-٣٢).
إنزال الكتاب هدايةً للناس (١-٩).
تحذير الكافرين وحقيقةُ الدنيا (١٠-١٨).
انتقال الرسالة لأمَّة الإسلام (٢٩-٣٢).
اصطفاء الله تعالى لرُسلِه (٣٣-٤٤).
حقيقة عيسى عليه السلام (٤٥-٦٣).
الإسلام هو دِين الحقِّ، وهو دِينُ جميع الأنبياء (٦٤-٩٩).
إبراهيم عليه السلام كان حنيفًا مسلمًا (٦٤-٦٨).
مخاطبة فِرَق أهل الكتاب، وبيان حقائقهم (٦٩-٨٠).
وَحْدة الرسالات، والدِّين الحق هو الإسلام (٨١- ٩٢).
صلة المسلمين بإبراهيم، وافتراء أهل الكتاب (٩٣-٩٩).
بيان خَيْرية هذه الأمَّة، وتحذيرها من أعدائها (١٠٠-١٢٠).
التحذير من الوقوع في أخطاء السابقين (١٠٠-١٠٩).
خيرية هذه الأمَّة وفضلها (١١٠-١١٥).
تحذير الأمَّة من المنافقين (١١٦-١٢٠).
معركة (أُحُد) (١٢١-١٤٨).
مقدِّمات معركة (أُحُد) (١٢١-١٢٩).
أهمية الطاعة ومواعظُ (١٣٠-١٣٨).
تعزية المسلمين، والنهيُ عن الهوان (١٣٩-١٤٨).
دروس مستفادة من الهزيمة (١٤٩-١٨٩).
التحذير من طاعة الأعداء والتنازل (١٤٩-١٥٨).
أهمية الشورى وطاعة الرسول (١٥٩-١٦٤).
أسباب الهزيمة وفوائدها (١٦٥-١٧٩).
تحذير المنافقين والبخلاء (١٨٠-١٨٩).
أولو الألباب يستفيدون من الآيات الكونية (١٩٠-١٩٥).
الأمورُ بخواتيمها (١٩٦-٢٠٠).
ينظر: "التفسير الموضوعي للقرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (1 /426).
افتُتِحت السُّورةُ بمقصدٍ عظيمٍ؛ وهو التنويهُ بالقرآن، وبمحمَّدٍ ﷺ، وتقسيمُ آيات القرآن، ومراتبُ الأفهام في تَلقِّيها، والتنويهُ بفضيلة الإسلام، وأنه لا يَعدِله دِينٌ، وأنه لا يُقبَل دِينٌ عند الله بعد ظهور الإسلام غيرُ الإسلام.
ومِن مقاصدِها: مُحاجَّةُ أهلِ الكتابينِ في حقيقة الحنيفيَّة، وأنهم بُعَداءُ عنها، وما أخَذ اللهُ من العهد على الرُّسلِ كلِّهم: أن يؤمنوا بالرسول الخاتم.
واشتملت على أمرِ المسلمين بفضائلِ الأعمال: مِن بذلِ المال في مواساة الأمَّة، والإحسان، وفضائل الأعمال، وتركِ البخل، ومَذمَّةِ الربا.
وخُتِمت السُّورةُ بآياتِ التفكير في ملكوت الله.
ينظر: "التحرير والتنوير" لابن عاشور (3 /145).