ﰡ
لقد رسخت في القلب مني مودّة | لليلي أبت أيامُها أن تغَيّرا |
التفِسير: ﴿الم﴾ إِشارة إِلى إِعجاز القرآن وأنه منظوم من أمثال هذه الحروف الهجائية وقد تقدّم في أول البقرة ﴿الله لا إله إِلاَّ هُوَ﴾ أي لا ربَّ سواه ولا معبود بحقٍ غيره ﴿الحي القيوم﴾ أي الباقي الدائم الذي لا يموت، القائم على تدبير شئون عباده ﴿نَزَّلَ عَلَيْكَ الكتاب بالحق﴾ أي نزّل عليك يا محمد القرآن بالحجج والبراهين القاطعة ﴿مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ أي من الكتب المنزّلة قبله المطابقة لما جاء به القرآن ﴿وَأَنزَلَ التوراة والإنجيل مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ﴾ أي أنزل الكتابين العظيمين «التوراة» و «الإِنجيل» من قبل إِنزال هذا القرآن هداية لبني إِسرائيل ﴿وَأَنزَلَ الفرقان﴾ أي جني الكتب السماوية لأنها تفرق بين الحق والباطل، والهدى والضلال، وقيل: المراد بالفرقان القرآن وكرّر تعظيماً لشأنه ﴿إِنَّ الذين كَفَرُواْ بِآيَاتِ الله﴾ أي جحدوا بها وأنكروها وردّوها بالباطل ﴿لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ﴾ أي عظيم أليم في الآخرة ﴿والله عَزِيزٌ ذُو انتقام﴾ أي غالب على أمره لا يُغلب، منتقم ممن عصاه ﴿إِنَّ الله لاَ يخفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأرض وَلاَ فِي السمآء﴾ أي لا يغيب ولا يغرب عن علمه أمرٌ من الأمور، فهو مطلع على كل ما في الكون لا تخفى عليه خافية ﴿هُوَ الذي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأرحام كَيْفَ يَشَآءُ﴾ أي يخلقكم في أرحام أمهاتكم كما يشاء من ذكرٍ وأنثى، وحسن وقبيح ﴿لاَ إله إِلاَّ هُوَ العزيز الحكيم﴾ أي لا ربّ سواه، متفردٌ بالوحدانية والألوهية، العزيز في ملكه الحكيم في صنعه، وفي الآية ردٌّ على النصارى حيث ادعوا ألوهية عيسى فنبّه تعالى بكونه مصوّراً في الرحم، وأنه لا يعلم الغيب على أنه عبد كغيره من العباد ﴿هُوَ الذي أَنزَلَ عَلَيْكَ الكتاب﴾ أي أنزل عليك يا محمد القرآن العظيم ﴿مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الكتاب﴾ أي فيه آيات بينات واضحات الدلالة، لا التباس فيها ولا غموض كآيات الحلال والحرام، هنَّ أصل الكتاب وأساسه ﴿وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ﴾ أي وفيه آيات أُخَر فيها اشتباه في الدلالة على كثير من الناس، فمن ردّ المتشابه إِلى الواضح المحكم فقد اهتدى، وإِن عكس فقد ضلّ ولهذا قال تعالى ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ﴾ أي فأمّا من كان في قلبه ميلٌ عن الهدى إِلى الضلال فيتبع المتشابه منه ويفسّره على حسب هواه ﴿ابتغاء الفتنة وابتغاء تَأْوِيلِهِ﴾ أي طلباً لفتنة الناس في دينهم، وإِيهاماً للأتباع بأنهم يبتغون تفسير كلام الله، كما فعل النصارى الضالون حيث احتجوا بقوله تعالى في شأن عيسى
﴿وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ﴾ [النساء: ١٧١] على أن عيسى ابن الله أو هو جزء من الله فادعوا ألوهيته وتركوا المحكم وهو قوله تعالى ﴿إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ﴾ [الزخرف: ٥٩] الدالّ على أنه عبد من عباد الله ورسوله من رسله ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ الله﴾
﴿الله لا إله إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إلى يَوْمِ القيامة لاَ رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ الله حَدِيثاً﴾ [النساء: ٨٧] ؟!
البَلاَغَة: ١ - ﴿نَزَّلَ عَلَيْكَ الكتاب﴾ عبّر عن القرآن بالكتاب الذي هو اسم جنس إِيذاناً بكمال تفوقه على بقية الكتب السماوية كأنه هو الحقيق بأن يطلق عليه اسم الكتاب.
٢ - ﴿لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ كناية عمّا تقدمه وسبقه من الكتب السماوية فسمى ما مضى بين يديه لغاية ظهوره واشتهاره.
٣ - ﴿وَأَنزَلَ الفرقان﴾ أي أنزل سائر ما يفرق بين الحق والباطل فهو من باب عطف العام على الخاص حيث ذكر أولاً الكتب الثلاثة ثم عمَّ الكتب كلها لإِفادة الشمول مع العناية بالخاص.
٤ - ﴿هُنَّ أُمُّ الكتاب﴾ قال الشريف الرضي: هذه استعارة والمراد بها أن هذه الآيات جماع الكتاب وأصله فهي بمنزلة الأم له، وكأنَّ سائر القرآن يتبعها أو يتعلق بها كما يتعلق الولد بأمه ويفزع إِليها في مهمة.
٥ - ﴿والراسخون فِي العلم﴾ وهذه استعارة المراد بها المتمكنون في العلم تشبيهاً برسوخ الشيء الثقيل في الأرض الوُّارة وهو أبلغ من قوله والثابتون في العلم.
الفوَائِد: الأولى: روى مسلم عن عائشة أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ تلا ﴿والراسخون فِي العلم﴾ الآية ثم قال: «إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمّاهم الله فاحذروهم».
الثانية: قال القرطبي: أحسن ما قيل في المتشابه والمحكم: أنَّ المحكم ما عُرف تأويله وفهم معناه وتفسيره، والمتشابه ما استأثر الله تعالى بعلمه دون خلقه ولم يكن لأحدٍ إِلى علمه سبيل، قال بعضهم: وذلك مثل وقت قيام الساعة، وخروج يأجوج ومأجوج، وخروج الدجال، وعيسى، ونحو الحروف المقطعة في أوائل السور.
[الآية: ٢٣] ؟! فالجواب أنه لا تعارض بين الآيات إذ كل آية لها معنى خاص غير ما نحن في صدده فقوله ﴿أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ﴾ [هود: ١] بمعنى أنه ليس به عيب، وأنه كلامٌ حق فصيح الألفاظ، صحيح المعاني وقوله ﴿كِتَاباً مُّتَشَابِهاً﴾ [الزمر: ٢٣] بمعنى أنه يشبه بعضه بعضاً في الحُسن ويصدق بعضه بعضاً، فلا تعارض بين الآيات.
الرابعة: روى البخاري عن سعيد بن جبير أن رجلاً قال لابن عباس: إِني أجد في القرآن أشياءً تختلف عليًّ، قال: ما هو؟ قال قوله تعالى: ﴿فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَآءَلُونَ﴾ [المؤمنون: ١٠١] وقال: ﴿وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ﴾ [الصافات: ٢٧] وقال تعالى: ﴿وَلاَ يَكْتُمُونَ الله حَدِيثاً﴾ [النساء: ٤٢] وقال ﴿والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ﴾ [الأنعام: ٢٣] فقد كتموا في هذه الآية، وفي النازعات ذكرَ خلق السماء قبل خلق الأرض، وفي فصِّلت ذَكَر خلق الأرض قبل خلق السماء، وقال: ﴿وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً﴾ [النساء: ٩٦] ﴿وَكَانَ الله عَزِيزاً حَكِيماً﴾ [النساء: ١٥٨] ﴿وَكَانَ الله سَمِيعاً بَصِيراً﴾ [النساء: ١٣٤] فكأنه كان ثم مضى.. فقال ابن عباس: ﴿فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَآءَلُونَ﴾ [المؤمنون: ١٠١] في النفخة الأولى ﴿فَصَعِقَ مَن فِي السماوات وَمَن فِي الأرض إِلاَّ مَن شَآءَ الله﴾ [الزمر: ٦٨] فلا أنساب بينهم عند ذلك ولا يتساءلون، ثم في النفخة الآخرة قبل بعضهم على بعض يتساءلون، وأما قوله ﴿مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ﴾ [الأنعام: ٢٣] ﴿وَلاَ يَكْتُمُونَ الله حَدِيثاً﴾ [النساء: ٤٢] فإٍِن الله يغفر لأهل الإِخلاص ذنوبهم فيقول المشركون تعالوا نقول: لم نكن مشركين، فختم الله على أفواههم جوارحهم بأعمالهم لهم فعند ذلك عُلاف أن الله لا يكتم حديثاً وعنده يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين، وخلق الله الأرض في يومين ثم استوى إِلى السماء فسواهنَّ سبع سماوات في يومين، ثم دحا الأرض أي بسطها فأخرج منها الماء والمرعى وخلق فيها الجبال والأشجار والآكام وما بينها في يومين آخرين فذلك قوله ﴿والأرض بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا﴾ [النازعات: ٣٠] فخلقت الأرض وما فيها في أربعة أيام وخلقت السماء في يومين، وقوله ﴿وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً﴾ [النساء: ٩٦] فسمّى نفسه ذلك أي لم يزل ولا يزال كذلك، ويحكَ فلا يختلف عليك القرآن فإِن كلاً من عند الله.
اللغَة: ﴿تُغْنِيَ﴾ الإِغناء: الدفع والنفع ﴿وَقُودُ النار﴾ الوَقود بفتح الواو الحطبُ الذي توقد به النار وبالضم مصدر بمعنى الاتقاد ﴿دَأْبِ﴾ الدأب: العادة والشأن وأصله من دأب الرجل في عمله إِذا جدَّ فيه واجتهد ثم أُطلق الدأب على العادة والشأن لأن من دأب على شيء أمداً طويلاً صار له عادة ﴿آيَةٌ﴾ علامة ﴿فِئَةٌ﴾ جماعة وسميت الجماعة من الناس فئةً لأنه يُفاء إِليها في وقت الشدة ﴿َعِبْرَةً﴾ العبرة: الاتعاظ ومنه يقال: اعتبر، واشتقاقها من العبور وهو مجاوزة الشيء إِلى الشيء ومنه عبور النهر، فالاعتبار انتقال من حالة الجهل إِلى حالة العلم ﴿زُيِّنَ﴾ التزيين: تحسين الشيء وتجميله في عين الإِنسان ﴿الشهوات﴾ الشهوة: ما تدعو النفس إِليه وتشتهيه والفعل منه اشتهى ويُجمع على شهوات ﴿والقناطير﴾ جمع قنطار وهو العُقدة الكبيرة من المال أو المال الكثير الذي لا يحصى ﴿المقنطرة﴾ المضعَّفة وهو التأكيد كقولك ألوف مؤلَّفة وأضعاف مضاعفة قاله الطبري، وروي عن الفراء أنه قال: القناطير جمع القنطار، والمقنطرة جمع الجمع فيكون تسع قناطير ﴿المسومة﴾ المعلّمة بعلامة تجعلها حسنة المنظر تجتلب الأنظار وقيل المسؤَّمة: الراعية وقال مجاهد وعكرمة: إِنها الخيل المطهّمة الحسان ﴿المآب﴾ المرجع يقال: آب الرجل إِياباً ومآباً قال تعالى ﴿إِن إِلينا إِيابهم﴾ ﴿الأسحار﴾ السَّحر: الوقت الذي قبل طلوع الفجر.
سَبَبُ النّزول: «لما أصاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قريشاً ببدر، ورجع إِلى المدينة جمع اليهود فقال لهم: يا معشر اليهود أسلموا قبل أن يصيبكم الله بما أصاب قريشاً فقد عرفتم أني نبيٌ مرسل، فقالوا يا محمد: لا يغرنّك من نفسك أنك قتلتَ نفراً من قريش كانوا أغماراً - يعني جهالاً - لا علم لهم بالحرب، إِنك والله لو قاتلتنا لعرفت أنا نحن الرجال، وأنك لم تلق مثلنا فأنزل الله ﴿قُلْ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ﴾ الآية».
التفسِير: ﴿إِنَّ الذين كَفَرُواْ لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُم﴾ أي لن تفيدهم الأموال
﴿إِن يَنصُرْكُمُ الله فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ﴾ [آل عمران: ١٦٠] ثم أخبر تعالى عن اغترار الناس بشهوات الحياة الفانية فقال ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشهوات مِنَ النساء﴾ أي حُسِّن إِليهم وحُبّب إِلى نفوسهم الميل نحو الشهوات، وبدأ بالنساء لأن الفتنة بهن أشد، والإِلتذاذ بهن أكثر وفي الحديث «ما تركت بعدي فتنةً أضرَّ على الرجال من النساء» ثم ذكر ما يتولد منهن فقال ﴿والبنين﴾ وإِنما ثنّى بالبنين لأنهم ثمرات القلوب وقرة الأعين كما قال القائل:
وإِنما أولادنا بيننا | أكبادُنا تمشي على الأرض |
لو هبَّت الريح على بعضهم | لامتنعتْ عيني عن الغَمْض |
﴿وَتُحِبُّونَ المال حُبّاً جَمّاً﴾ [الفجر: ٢] والذهب والفضة أصل التعامل ولذا خُصَّا بالذكر ﴿والخيل المسومة﴾ أي الأصيلة الحسان ﴿والأنعام﴾ أي الإِبل والبقر
البَلاَغَة: ﴿مِّنَ الله﴾ فيه إِيجاز بالحذف أي من عذاب الله ﴿شَيْئاً﴾ التنكير للتقليل أي لن تنفعهم أيّ نفع ولو قليلاً ﴿وأولئك هُمْ وَقُودُ النار﴾ الجملة إِسمية للدلالة على ثبوت الأمر وتحققه ﴿كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ الله﴾ فيه التفات من الغيبة إِلى الحاضر والأصل فأخذناهم ﴿لَكُمْ آيَةٌ﴾ الأصل «آيةٌ لكم» وقدّم للإِعتناء بالمقدم والتشويق إِلى المؤخر، والتنكير في آية التفخيم والتهويل أي آية عظيمة ومثله التنكير في ﴿رِضْوَانَ الله﴾ [آل عمران: ١٦٢] وقوله تعالى ﴿يَرَوْنَهُمْ﴾ و ﴿رَأْيَ العين﴾ بينهما جناس الاشتقاق ﴿حُبُّ الشهوات﴾ يراد به المشتهيات قال الزمخشري: عبَّر بالشهوات مبالغة كأنها نفس الشهوات، وتنبيهاً على خستها لأن الشهوة مسترذلة عند الحكماء ﴿بِخَيْرٍ مِّن ذلكم لِلَّذِينَ﴾ إِبهام الخير لتفخيم شأنه والتشويق لمعرفته ﴿اتقوا عِندَ رَبِّهِمْ﴾ قال أبو السعود: التعرض لعنوان الربوبية مع الإِضافة إلى ضمير المتقين لإِظهار مزيد اللطف بهم ﴿والقناطير المقنطرة﴾ بينهما من المحسنات البديعية ما يسمى بالجناس الناقص.
فَائِدَة: الأولى: من هو المزيّن للشهوات؟ قيل: هو الشيطان ويدل عليه قوله تعالى ﴿وَزَيَّنَ لَهُمُ الشيطان أَعْمَالَهُمْ﴾ [النمل: ٢٤] وتزيين الشيطان: وسوسته وتحسينه الميل إِليها وقيل: المزيّن هو الله ويدل عليه ﴿إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأرض زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُم أَحْسَنُ عَمَلاً﴾ [الكهف: ٧] وتزيين الله للابتلاء ليظهر عبد الشهوة من عبد المولى وهو ظاهر قول عمر: «اللهم لا صبر لنا ما زينتَ لنا إِلا بك»
الثانية: تخصيص الأسحار بالاستغفار لأن الدعاء فيها أقرب إِلى الإجابة، لأن النفس أصفى،
اللغَة: ﴿شَهِدَ﴾ الشهادة: الإِقرار والبيان ﴿القسط﴾ العدل ﴿الدِّينَ﴾ أصل الدين في اللغة: الجزاء ويطلق على الملَّة وهو المراد هنا ﴿الإسلام﴾ الاسلام في اللغة: الاستسلام والانقياد التام قال ابن الأنباري: المسلم معناه المخلص لله عبادته من قولهم: سلم الشيء لفلان أي خلص له فالإِسلام معناه إِخلاص الدين والعقيدة لله تعالى ﴿حَآجُّوكَ﴾ جادلوك ونازعوك ﴿غَرَّهُمْ﴾ فتنهم ﴿يَفْتَرُونَ﴾ يكذبون.
سَبَبُ النّزول: لمّا استقر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بالمدينة قدم عليه حَبْران من أحبار الشام، فلما دخلا عليه عرفاه بالصّفة والنعت فقالا له: أنت محمد؟ قال نعم، قالا: وأنت أحمد؟ قال نعم، قالا نسألك عن شهادةٍ فإِن أنت أخبرتنا بها آمنا بك وصدَّقناك، فقال لهما رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: سلاني، فقالا: أخبرنا عن أعظم شهادة في كتاب الله فنزلت ﴿شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ﴾ الآية فأسلم الرجلان
التفسِير: ﴿شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ﴾ أي بيّن وأعلم تعالى عباده بانفراده بالوحدانية، قال الزمخشري: شبهت دلالته على وحدانيته بشهادة الشاهد في البيان والكشف ﴿والملائكة وَأُوْلُواْ العلم﴾ أي وشهدت الملائكة وأهل العلم بوحدانيته بدلائل خلقه وبديع صنعه ﴿قَآئِمَاً بالقسط﴾ أي حال كونه مقيماً للعدل فيما يقسم من الآجال والأرزاق ﴿لاَ إله إِلاَّ هُوَ﴾ أي لا معبود في الوجود بحق إِلا هو ﴿العزيز الحكيم﴾ أي العزيز في ملكه الحكيم في صنعه ﴿إِنَّ الدِّينَ عِندَ الله الإسلام﴾ أي الشرع المقبول عند الله هو الإِسلام، ولا يدن يرضاه الله سوى الإِسلام ﴿وَمَا اختلف الذين أُوتُواْ الكتاب إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ العلم﴾ أي وما اختلف اليهود والنصارى في أمر الإِسلام ونبوة محمد عليه السلام، إِلا بعد أن علموا بالحجج النيرّة والآيات الباهرة حقيقة الأمر، فلم يكن كفرهم عن شبهة وخفاء وإِنما كان عن استكبار وعناد، فكانوا ممن ضلَّ عن علم ﴿بَغْياً بَيْنَهُمْ﴾ أي حسداً كائناً بينهم حملهم عليه حب الرئاسة ﴿وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ الله فَإِنَّ الله سَرِيعُ الحساب﴾ وهو وعيد وتهديد أي من يكفر بآياته تعالى فإِنه سيصير إلى الله سريعاً فيجازيه على كفره ﴿فَإنْ حَآجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ للَّهِ﴾ أي إِن جادلوك يا محمد في شأن الدِّين فقل لهم: أنا عبدٌ لله قد استسلمتُ بكليتي لله، وأخلصت عبادتي له وحده، لا شريك له ولا نِدّ ولا صاحبة ولا ولد ﴿وَمَنِ اتبعن﴾ أي أنا وأتباعي على ملة الإِسلام، مستسلمون منقادون لأمر الله ﴿وَقُلْ لِّلَّذِينَ أُوتُواْ الكتاب والأميين﴾ أي قل لليهود والنصارى والوثنيين من العرب ﴿أَأَسْلَمْتُمْ﴾ أي هل أسلمتم أم أنتم باقون على كفركم فقد أتاكم من البينات ما يوجب إِسلامكم ﴿فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهتدوا﴾ أي فإِن أسلموا كما أسلمتم فقد نفعوا أنفسهم بخروجهم من الضلال إِلى الهدى ومن الظلمة إِلى النور ﴿وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغ﴾ أي وإِن أعرضوا فلن يضروك يا محمد إِذ لم يكلفك الله بهدايتهم وإِنما أنت مكلف بالتبليغ فحسب والغرض منها تسلية النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ﴿والله بَصِيرٌ بالعباد﴾ أي عالم بجميع أحوالهم فيجازيهم عليها، روي أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لما قرأ هذه الآية على أهل الكتاب قالوا: أسلمنا فقال عليه السلام لليهود: أتشهدون أن عيسى كلمة الله وعبده ورسوله ﴿فقالوا: معاذ الله، فقال للنصارى: أتشهدون أن عيسى عبد الله ورسوله﴾ فقالوا: معاذ الله أن يكون عيسى عبداً وذلك قوله عَزَّ وَجَلَّ ﴿وَّإِن تَوَلَّوْاْ﴾.
﴿إِنَّ الذين يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ الله﴾ أي يكذبون بما أنزل الله ﴿وَيَقْتُلُونَ النبيين بِغَيْرِ حَقٍّ﴾ أي يقتلون أنبياء الله بغير سبب ولا جريمة إِلا لكونهم دعوهم إِلى الله، وهم اليهود قتلوا زكريا وابنه يحيى وقتلوا أنبياء الله، قال ابن كثير: «قتلت بنو إِسرائيل ثلاثمائة نبيّ من أول النهار، وأقاموا سوق بقلهم من آخره» ﴿وَيَقْتُلُونَ الذين يَأْمُرُونَ بالقسط﴾ أي أخبرهم بما يسرهم وهو العذاب الموجع المهين، والأسلوب للتهكم وقد استحقوا ذلك لأنهم جمعوا ثلاثة أنواع من الجرائم: الكفر بآيات الله، وقتل الأنبياء، وقتل الدعاة
البَلاَغَة: ١ - ﴿إِنَّ الدِّينَ عِندَ الله الإسلام﴾ الجملة معرّفة الطرفين فتفيد الحصر أي لا دين إِلا الإِسلام.
٢ - ﴿الذين أُوتُواْ الكتاب﴾ التعبير عن اليهود والنصارى بقوله «أوتوا الكتاب» لزيادة التشنيع والتقبيح عليهم فإِن الاختلاف مع علمهم بالكتاب في غاية القبح والشناعة.
٣ - ﴿بِآيَاتِ الله فَإِنَّ الله﴾ إِظهار الاسم الجليل لتربية المهابة وإِدخال الروعة في النفس.
٤ - ﴿أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ﴾ أطلق الوجه وأراد الكل فهو مجاز مرسل من إِطلاق الجزء وإِرادة الكل.
٥ - ﴿فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ الأصل في البشارة أن تكون في الخير واستعمالها في الشر للتهكم ويسمى «الأسلوب التهكمي» حيث نزّل الإِنذار منزلة البشارة السارة كقوله ﴿بَشِّرِ المنافقين بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً﴾ [النساء: ١٣٨] وهو أسلوبٌ مشهور.
فَائِدَة: قال القرطبي: في هذه الآية دليل على فضل العلم، وشرف العلماء، فإِنه لو كان أحد
لطيفَة: من أطرف ما قرأتُ في بيان فضل العلم تلك المحاورة اللطيفة بين العقل والعلم حيث يقول القائل وقد أبدع وأجاد:
علمُ العليمِ وعقلُ العاقل اختلفا | من ذا الذي منهما قد أحرز الشرفا |
فأفصح العلم إِفصاحاً وقال له | بأيّنا الله في فرقانه اتّصفا |
فبان للعقل أن العلم سيِّدهُ | فقبل العقل رأس العلم وانصرفا |
فلا الظلُّ من برد الضحى تستطيعه | ولا الفيء من برد العشيّ تذوق |
﴿إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ المرسلين﴾ [القصص: ٧] ﴿قَالَ رَبِّ أنى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ﴾ أي كيف يأتينا الولد ﴿وَقَدْ بَلَغَنِي الكبر﴾ أي أدركتني الشيخوخة وكان عمره حينذاك مائة وعشرين سنة ﴿وامرأتي عَاقِرٌ﴾ أي عقيم لا تلد وكانت
وقيل: المراد صلّ لله، قال الطبري: يعني عظّم ربك بعبادته بالعشي والإِبكار.
البَلاَغَة: ١ - ﴿والله أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ﴾ ﴿وَلَيْسَ الذكر كالأنثى﴾ جملتان معترضتان لتعظيم الموضوع ورفع منزلة المولود.
٢ - ﴿وِإِنِّي أُعِيذُهَا﴾ صيغة المضارع للدلالة على الاستمرار والتجدد.
٣ - ﴿وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً﴾ شبهها في نموها وترعرعها بالزرع الذي ينمو شيئاً فشيئاً، والكلام مجاز عن تربيتها بما يصلحها في جميع أحوالها بطريق الاستعارة التبعية.
٤ - ﴿فَنَادَتْهُ الملائكة﴾ المنادي جبريل وعبّر عنه باسم الجماعة تعظيماً له لأنه رئيسهم.
٥ - ﴿بالعشي والإبكار﴾ بين كلمتي العشيّ والإِبكار طباقٌ وهو من المحسنات البديعية.
الفوَائِدَ: الأولى: روي أن «حنَّة» امرأة عمران كانت عجوزاً فبينما هي ذات يوم تحت ظل شجرة إِذ رأت طائراً يطعم فرخه فحنّت إِلى الولد وتمنته وقالت: اللهم إِن لك عليَّ نذراً إِن رزقتني ولداً أن أتصدق به على بيت المقدس فيكون من سدنته ثم هلك عمران وهي حامل وهذا سر النذر.
الثانية: قال ابن كثير عند قوله تعالى ﴿كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا المحراب وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً﴾ قال: والآية فيها دلالة على كرامات الأولياء، وفي السنة بهذا نظائر كثيرة وساق بسنده عن جابر قصة الجفنة وخلاصتها «أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ جاع أياماً فدخل على ابنته فاطمة الزهراء يسألها عن الطعام فلم يكن عندها شيء وأرسلت إِليها جارتها برغفيين وقطعة لحم فوضعتها في جفنه ثم رأت الجفنة وقد امتلأت لحماً وخبزاً.»
اللغَة: ﴿أَقْلاَمَهُمْ﴾ جمع نبأ وهو الخبر الهام ﴿نُوحِيهِ﴾ الوحي: إِلقاء المعنى في النفس في خفاء ﴿أَقْلاَمَهُمْ﴾ القلم معروف وهو الذي يكتب به وقد يطلق على السهم الذي يقترع به وهو المراد هنا ﴿المسيح﴾ لقبٌ من الألقاب المشرّفة كالصدّيق والفاروق وأصله مشيحا بالعبرانية ومعناه المبارك ﴿وَجِيهاً﴾ شريفاً ذا جاهٍ وقدر، والوجاهةُ الشرف والقدر ﴿المهد﴾ فراش الطفل ﴿كَهْلاً﴾ الكهل: ما بين الشاب والشيخ والمرأة كهلة ﴿الأكمه﴾ الذي يولد أعمى ﴿الأبرص﴾ المصاب بالبرص وهو بياض يعتري الجدل وداءٌ عُضال.
التفِسير: ﴿وَإِذْ قَالَتِ الملائكة يامريم إِنَّ الله اصطفاك﴾ أي اذكر وقت قول الملائكة أي جبريل يا مريم إِن الله اختارك بين سائر النساء فخصَّكِ بالكرامات ﴿وَطَهَّرَكِ﴾ من الأدناس والأقذار ومما اتهمكِ به اليهود من الفاحشة ﴿واصطفاك على نِسَآءِ العالمين﴾ أي اختارك على سائر نساء العالمين لتكوني مظهر قدرة الله في إِنجاب ولد بدون أب ﴿يامريم اقنتي لِرَبِّكِ﴾ أي إِلزمي عبادته وطاعته شكراً على اطصفائه ﴿واسجدي واركعي مَعَ الراكعين﴾ أي صلي لله مع المصلين ﴿ذلك مِنْ أَنَبَآءِ الغيب نُوحِيهِ إِلَيكَ﴾ أي هذا الذي قصصناه عليك من قصة امرأة عمران وابنتها مريم
قال ابن كثير: وكذلك كان يفعل، يصوّر ن الطين شكل طير ثم ينفخ فيه فيطير عياناً بإِذن الله عَزَّ وَجَلَّ الذي جعل هذا معجزة له تدل على أنه أرسله، وهذه المعجزة الأولى ﴿وَأُبْرِىءُ الأكمه والأبرص﴾ أي أشفي الذي ولد أعمى كما أشفي المصاب بالبرص، وهذه المعجزة الثانية ﴿وَأُحْيِ الموتى بِإِذْنِ الله﴾ أي أحيي بعض الموتى لا بقدرتي ولكن بمشيئة الله وقدرته، وقد أحيا أربعة أنفس: عازر وكان صديقاً له، وابن العجوز: وبنت العاشر، وسام بن نوح هكذا ذكر القرطبي وغيره، وكرر لفظ «بإِذن الله» دفعاً لتوهم الألوهية، وهذه المعجزة الثالثة ﴿وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ﴾ أي وأخبركم بالمغيبات من أحوالكم التي لا تشكُّون فيها فكان يخبر الشخص بما أكل وما ادخر في بيته وهذه هي المعجزة الرابعة {إِنَّ فِي ذلك لآيَةً لَّكُمْ
البَلاَغَة: ١ - ﴿وَإِذْ قَالَتِ الملائكة﴾ أُطلق الملائكة وأريد به جبريل فهو من باب تسمية الخاص باسم العام تعظيماً له ويسمى المجاز المرسل.
٢ - ﴿اصطفاك وَطَهَّرَكِ واصطفاك﴾ تكرر لفظ اصطفاك كما تكرر لفظ «مريم» وهذا من باب الإِطناب.
٣ - ﴿وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ﴾ كنّى عن الجماع بالمسّ كما كنّى عنه بالحرث واللباس والمباشرة.
٤ - ﴿وَلأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الذي حُرِّمَ﴾ بين لفظ ﴿أُحِلَّ﴾ و ﴿حُرِّمَ﴾ من المحسنات البديعية الطباقُ، كما ورد الحذف في عدة مواضع والإِطناب في عدة مواضع، وهناك نواحٍ بلاغية أخرى ضربنا عنها صفحاً خشية الإِطالة.
فَائِدَة: جاء التعبير هنا بقوله ﴿كَذَلِكَ الله يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ﴾ وفي قصة يحيى ﴿كَذَلِكَ الله يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ﴾ [آل عمران: ٤٠] والسرُّ في ذلك هو أن خلق عيسى من غير أب إِيجاد واختراع من غير سببٍ عادي فناسبه ذكر الخلق، وهناك الزوجة والزوج موجودان ولكن وجود الشيخوخة والعقم مانع في العادة من وجود الولد فناسبه ذكر الفعل والله أعلم.
تنبيه: قال بعض العلماء: الحكمة في أنَّ الله لم يذكر في القرآن امرأة باسمها إِلا «مريم» هي الإِشارة من طرفٍ خفي إِلى ردّ ما قاله النصارى من أنها زوجته فإِن العظيم يأنف من ذكر اسم زوجته بين الناس ولينسب إِليها عيسى باعتبار عدم وجود أبٍ ولهذا قال في الآية ﴿اسمه المسيح عِيسَى ابن مَرْيَمَ﴾.
اللغَة: ﴿أَحَسَّ﴾ عرف وتحقق وأصله من الإِحساس وهو الإِدراك ببعض الحواس الخمس ﴿الحواريون﴾ جمع حواري وهو صفوة الرجل وخاصته ومنه قيل للحضريات حواريات لخلوص ألوانهن وبياضهن قال الشاعر:
فقل للحورايات يَبْكينَ غيرنا | ولا تَبْكنا إِلا الكلابُ النوابحُ |
سَبَبُ النّزول: لما قدم وقد نصارى نجران، وجادلوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في أمر عيسى، قالوا للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: مالك تشتِم صاحبنا؟ قال: وما أقول؟ قالوا: تقول إِنه عبد قال: أجل إِنه عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إِلى العذراء البتول، فغضبوا وقالوا: هل رأيت إِنساناً قط من غير أب؟ فإِن كنت صادقاً فأرنا مثله فأنزل الله ﴿إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله كَمَثَلِءَادَمَ﴾ الآية وروي أنه عليه السلام لما دعاهم إِلى الإِسلام قالوا: قد كنا مسلمين قبلك، فقال: كذبتم يمنعكم من الإِسلام ثلاث: قولكم اتخذ الله ولداً، وأكلكم الخنزير، وسجودكم للصليب فقالوا: فمن أبوه فأنزل الله ﴿إِنَّ مَثَلَ عيسى.. إلى قوله ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتَ الله عَلَى الكاذبين﴾ فدعاهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إِِلى المباهلة، فقال بعضهم لبعض: إِن فعلتم اضطرم الوادي عليكم ناراً فقالوا أما تعر علينا سوى هذا؟ فقال: الإِسلام أو
التفسِير: ﴿فَلَمَّآ أَحَسَّ عيسى مِنْهُمُ الكفر﴾ أي استشعر من اليهود التصميم على الكفر والاستمرار على الضلال وإِرادتهم قتله ﴿قَالَ مَنْ أنصاري إِلَى الله﴾ أي من أنصاري في الدعوة إِلى الله قال مجاهد: أي من يتبعني إِلى الله ﴿قَالَ الحواريون نَحْنُ أَنْصَارُ الله﴾ أي قال المؤمنون الأصفياء من أَتباعه نحن أنصار دين الله ﴿آمَنَّا بالله واشهد بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾ أي صدقنا بالله وبما جئتنا به واشهد بأننا منقادون لرسالتك مخلصون في نصرتك ﴿رَبَّنَآ آمَنَّا بِمَآ أَنزَلَتَ واتبعنا الرسول فاكتبنا مَعَ الشاهدين﴾ أي آمنا بآياتك واتبعنا رسولك عيسى فاكتبنا مع من شهد لك بالوحدانية ولرسولك بالصدق، ثم أخبر تعالى عن اليهود المتآمرين الذين أرادوا قتل عيسى فقال ﴿وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ الله﴾ أي أرادوا قتله فنجّاه الله من شرهم ورفعه إِلى السماء دون أن يمسَّ بأذى وألقى شبهه على ذلك الخائن «يهوذا» وسمّي مكراً من باب المشاكلة ولهذا قال ﴿والله خَيْرُ الماكرين﴾ أي أقواهم مكراً بحيث جعل تدميرهم في تدبيرهم وفي الحديث
«اللهم امكرْ لي ولا تمكر عليَّ» ﴿إِذْ قَالَ الله ياعيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ﴾ أي إِني رافعك إِلى السماء ثم مميتك بعد استيفائك كامل أجلك والمقصود بشارته بنجاته من اليهود ورفعه إِلى السماء سالماً دون أذى قال قتادة: هذا من المقدم والمؤخر تقديره إِني رافعك إِليَّ ثم متوفيك بعد ذلك، وقد ذكره الطبري فقال: وقال آخرون معنى ذلك: إِذ قال الله يا عيسى إِني رافعك إِليَّ ومطهرك من الذين كفروا، ومتوفيك بعد إِنزالي إِيّاك إِلى الدنيا ﴿وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الذين كَفَرُواْ﴾ أي مخلصك من شر الأشرار أرادوا قتلك قال الحسن: طهّره من اليهود والنصارى والمجوس ومن كفار قومه ﴿وَجَاعِلُ الذين اتبعوك فَوْقَ الذين كَفَرُواْ إلى يَوْمِ القيامة﴾ أي جاعل أتباعك الذين آمنوا بك فوق الذين جحدوا نبوتك ظاهرين على من ناوأهم إِلى يوم القيامة وقال في تفسير الجلالين: ﴿الذين اتبعوك﴾ أي صدقوا بنبوتك من المسلمين والنصارى ﴿فَوْقَ الذين كَفَرُواْ﴾ وهم اليهود يعلونهم بالحجة والسيف ﴿ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾ أي ثم مصيركم إِلى الله فأقضي بين جميعكم بالحق فيما كنتم تختلفون فيه من أمر عيسى ﴿فَأَمَّا الذين كَفَرُواْ فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً فِي الدنيا والآخرة﴾ أي أما الكافرون بنبوتك المخالفون لملتك فإِني معذبهم عذاباً شديداً في الدنيا بالقتل والسبي، وبالآخرة بنار جهنم ﴿وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ﴾ أي ليس لهم ناصر يمنع عنهم عذاب الله ﴿وَأَمَّا الذين آمَنُوا وَعَمِلُواْ الصالحات فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ﴾ أي وأما المؤمنون فيعطيهم جزاء أعمالهم الصالحة كاملةً غير منقوصة ﴿والله لاَ يُحِبُّ الظالمين﴾ أي لا يحب من كان ظالماً فكيف يظلم عباده؟ ﴿ذلك نَتْلُوهُ عَلَيْكَ﴾ أي هذه الأنباء التي نقصها عليك يا محمد ﴿مِنَ الآيَاتِ والذكر الحكيم﴾ أي من آيات القرآن الكريم المحكم، الذي لا
البَلاَغَة: ١ - ﴿فَلَمَّآ أَحَسَّ﴾ قال أبو حيان: فيها استعارة إِذ الكفر ليس بمحسوس وإِنما يُعلم ويفطن به فإِطلاق الحسّ عليه من نوع الاستعارة.
٢ - ﴿والله خَيْرُ الماكرين﴾ بين لفظ مكرواً والماكرين جناس الاشتقاق وهو من باب المشاكلة.
٣ - ﴿فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ﴾ فيه التفات من ضمير التكلم إِلى ضمير الغيبة للتنوع في الفصاحة.
٤ - ﴿الحق مِن رَّبِّكَ﴾ التعرض لعنوان الربوبية مع الإِضافة إِلى الرسول لتشريفه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ.
٥ - ﴿فَلاَ تَكُنْ مِّن الممترين﴾ هو من باب الإِلهاب والتهييج لزيادة التثبيت أفاده أبو السعود.
لطيفَة: قال صاحب البحر المحيط: سأل رجل الجيد فقال: كيف رضي الله سبحانه لنفسه المكر وقد عاب به غيره، فقال: لا أدري ما تقول ولكن أنشدني فلان الظهراني:
ويقبح من سواك الفعل عندي | فتفعله فيحسن منك ذاكا |
اللغَة: ﴿سَوَآءٍ﴾ السَّواء: العدل والنَّصف قال أبو عبيدة: يقال قد دعاك إِلى السَّواء فاقبل منه قال زهير:
أروني خطةً لا ضيم فيها | يُسوّى بيننا فيها السَّواء |
من كانَ مسروراً بمقتل مالك | فليأْتِ نِسوتنا بوجهِ نهار |
التفِسير: ﴿قُلْ ياأهل الكتاب تَعَالَوْاْ إلى كَلِمَةٍ سَوَآءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ﴾ أي قل لهم يا معشر اليهود
. ولما دعا اليهود بعض الصحابة إِلى اليهودية نزل قوله ﴿وَدَّت طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الكتاب لَوْ يُضِلُّونَكُمْ﴾ أي تمنَّوا إِضلالكم بالرجوع إِلى دينهم حسداً وبغياً ﴿وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ﴾ أي لا يعود وبال ذلك إِلا عليهم إِذ يُضاعف به عذابهم ﴿وَمَا يَشْعُرُونَ﴾ أي ما يفطنون لذلك، ثم وبّخهم القرآن على فعلهم القبيح فقال ﴿ياأهل الكتاب لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ الله﴾ أي بالقرآن المنزل على محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ﴿وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ﴾ أي تعلمون أنه حق ﴿ياأهل الكتاب لِمَ تَلْبِسُونَ الحق بالباطل﴾ أي لم تخلطون بين الحق والباطل بإلقاء الشُّبَه والتحريف والتبديل؟ ﴿وَتَكْتُمُونَ الحق وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ أي
البَلاََغَة: جمعت هذه الآيات من ضروب الفصاحة والبلاغة ما يأتي: المجازُ في قوله ﴿إلى كَلِمَةٍ﴾ حيث أطلق اسم الواحد على الجمع، والتشبيه في قوله ﴿أَرْبَاباً﴾ حيث شبّه طاعتهم لرؤساء الدين في أمر التحليل بالربّ المستحق للعبادة، والطباق في قوله ﴿الحق بالباطل﴾ والجناس التام في قوله ﴿يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ﴾ وجناس الاشتقاق في ﴿أَوْلَى﴾ و ﴿وَلِيُّ﴾ والتكرار في عدة مواطن، والحذف في عدة مواطن.
فَأئِدَة: كتب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كتاباً إِلى «هرقل» ملك الروم يدعوه فيه إِلى الإِسلام واستشهد فيه بالآية الكريمة التي فيها إِخلاص الدعوة لعبادة الله وحده، ونصُّ الكتاب كما هو في صحيح مسلم «بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إِلى هرقل عظيم الروم، سلامٌ على من اتَّبع الهدى أما بعد: فإِني أدعوك بدعاية الإِسلام، أسلمْ تسْلَم، وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإِن توليت فإِن عليك إِثم الأريسيين - يعني الفلاحين والخدم - {قُلْ ياأهل الكتاب تَعَالَوْاْ إلى كَلِمَةٍ سَوَآءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ الله وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ الله فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ
اللغَة: ﴿قِنْطَارٍ﴾ القنطار المالُ الكثير وقد تقدم ﴿قَآئِماً﴾ ملازماً ومداوماً على مطالبته ﴿الأميين﴾ المراد بهم العرب وأصلُ الأميّ الذي لا يقرأ ولا يكتب والعربُ كانوا كذلك ﴿يَلْوُونَ﴾ من الليّ وهو اللّف والفتل تقول: لويتُ يده إِذا فتلتها والمراد أنهم يفتلون ألسنتهم ليميلوها عن الآيات المنزلة إِلى العبارات المحرّفة ﴿لاَ خَلاَقَ﴾ أي لا نصيب لهم رمن رحمة الله ﴿رَبَّانِيِّينَ﴾ جمع رباني وهو المنسوب إِلى الربّ قال الطبري معناه: كونوا حكماء علماء.
سَبَبُ النّزول: عن الأشعث بن قيس قال: كان بيني وبين رجلٍ من اليهود فجحدني فقدمته إِلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال لي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هل كل بيّنة؟ قلت: لا، قال لليهودي: احلفْ قلت: إِذاً يحلف فيذهب بما لي فأنزل الله ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ الله... ﴾ الآية.
التفِسير: ﴿وَمِنْ أَهْلِ الكتاب مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ﴾ أي من اليهود من إِذا ائتمنته على المال الكثير أدّاه إليك لأمانته كعبد الله بن سلام أودعه قرشي ألف أوقية ذهباً فأداها إليه ﴿وَمِنْهُمْ مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ﴾ أي ومنهم من لا يؤتمن على دينار لخيانته كفنحاص بن
البَلاَغَة: ١ - ﴿ذلك بِأَنَّهُمْ قَالُواْ﴾ الإِشارة بالبعيد للإِيذان بكمال غلوهم في الشر والفساد.
٢ - ﴿لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأميين سَبِيلٌ﴾ فيه إيجاز بالحذف أي ليس علينا في أكل الأموال الأميين سبيل.
٣ - ﴿يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ الله﴾ فيه استعارة فقد استعار لفظ الشراء للاستبدال.
٤ - ﴿وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ الله﴾ مجاز عن شدة غضبه وسخطه تعالى عليهم وكذلك في الآتي بعدها.
٥ - ﴿وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ﴾ قال الزمخشري: مجاز عن الاستهانة بهم والسخط عليهم لأن من اعتد بإِنسانٍ التفت إِليه وأعره نظر عينيه.
٦ - بين لفظ ﴿اتَّقَى﴾ و ﴿الْمُتَّقِينَ﴾ جناس الاشتقاق وبين لفظ ﴿الكفر﴾ و ﴿مُّسْلِمُونَ﴾ طباق.
فَائِدَة: روي أن رجلاً قال لابن عباس: «إِنّا نصيب في الغزو من أموال أهل الذمة الدجاجة والشاة، قال ابن عباس: فماذا تقولون؟ قالوا نقول ليس علينا بذلك بأس، قال: هذا كما قال أهل الكتاب ﴿لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأميين سَبِيلٌ﴾ إِنهم إِذا أدوا الجزية لم تحل لكم أموالهم إِلا بطيب أنفسهم» ذكره ابن كثير.
اللغَة: ﴿مِيثَاقَ﴾ الميثاق: العهد المؤكد بيمين ونحوه وقد تقدم ﴿إِصْرِي﴾ عهدى وأصله في اللغة الثقل قال الزمخشري: وسمي إصراً لأنه مما يؤصر أي يشد ويعقد ﴿الفاسقون﴾ الخارجون عن طاعة الله ﴿طَوْعاً﴾ انقياداً عن رغبة ﴿وَكَرْهاً﴾ إِجباراً وهو كاره ﴿الأسباط﴾ جمع سبط وهو ابن الإِبن والمراد به هنا قبائل بني إِسرائيل من أولاد يعقوب ﴿يُنظَرُونَ﴾ يمهلون يقال: أنظره يعني أمهله والنظرة والإِمهال ﴿الخاسرين﴾ الخسران: انتقاص رأس المال يقال: خسر فلان أي أضاع من رأس ماله ﴿الضآلون﴾ التائهون في مهامه الكفر.
سَبَبُ النّزول: عن ابن عباس قال: ارتد رجل من الأنصار عن الإِسلام ولحق بالشرك ثم ندم، فأرسل إِلى قومه:
سلوا لي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هلل من توبة فإِني قد ندمت؟ فنزلت الآية ﴿كَيْفَ يَهْدِي الله قَوْماً كَفَرُواْ | .﴾ إلى قوله ﴿إِلاَّ الذين تَابُواْ مِن بَعْدِ ذلك وَأَصْلَحُواْ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ فكتب بها قومه إِليه فرجع فأسلم. |
٢ - بين لفظ ﴿اشهدوا﴾ و ﴿الشاهدين﴾ جناس الاشتقاق وكذلك بين لفظ ﴿كَفَرُواًْ﴾ و ﴿كُفْرا﴾ وهو من المحسنات البديعية.
٣ - الطباق بين ﴿طَوْعاً﴾ و ﴿وَكَرْهاً﴾ وكذلك يوجد الطباق بين لفظ الكفر والإِيمان.
٤ - ﴿وأولئك هُمُ الضآلون﴾ قصر صفة على موصوف ومثله ﴿فأولئك هُمُ الفاسقون﴾
٥ - ﴿وَمَا أُوتِيَ موسى وعيسى والنبيون﴾ هو من باب عطف العام على الخاص.
٦ - ﴿لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ أي مؤلم والعدول إِلى صيغة فعيل للمبالغة.
فَائِدَة: الآيات الكريمة قسمت الكفار إِلى ثلاثة أقسام:
١ - قسم تاب توبة صادقة فنفعته وإِليهم الإِشارة بقوله ﴿إِلاَّ الذين تَابُواْ مِن بَعْدِ ذلك﴾.
٢ - وقسم تاب توبة فاسدة فلم تنفعه وإِليهم الإِشارة بقوله ﴿كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازدادوا كُفْراً﴾.
٣ - وقسم لم يتب أصلاً ومات على الكفر وإِليهم الإِشارة بقوله ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ﴾.
تنبيه: روى الشيخان عن أنس بن مالك أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «يقال للرجل من أهل النار يوم القيامة: أرأيت لو كان لك ما على الأرض من شيء أكنت مفتدياً به؟ قال فيقول: نعم فيقول الله: قد أدرت منك أهون من ذلك، قد اخذت عليك في ظهر أبيك آدم أن لا تشرك بي شيئاً فأبيتَ إِلا أن تشرك».
اللغَة: ﴿البر﴾ كلمة جامعة لوجوه الخير والمراد بها هنا الجنة ﴿حِلاًّ﴾ حلالاً وهو مصدر نعت به ولذلك يستوي فيه الواحد والجمع والمذكر والمؤنث ﴿اإِسْرَائِيلَ﴾ هو يعقوب عليه السلام ﴿بَكَّةَ﴾ اسم لمكة فتسمى «بكة» و «مكة» سميت بذلك لأنها تبك أي تدق أعناق الجبابرة فلم يقصدها جبار بسوء إِلا قصمه الله ﴿مُبَارَكاً﴾ البركة: الزيادة وكثرة الخير ﴿مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ﴾ محل قيام إبراهيم وهو الحجر الذي قام عليه لما ارتفع بناء البيت ﴿عِوَجاً﴾ العِوَج: الميل قال أبو عبيدة: في الدين والكلام والعمل، وبالفتح عَوَج في الحائط والجذع ﴿يَعْتَصِم﴾ يتمسك ويلتجئ وأصله المنع قال القرطبي: ولك متمسك بشيء معتصمٌ وكل مانعٍ شيئاً فهو عاصم ﴿قَالَ لاَ عَاصِمَ اليوم مِنْ أَمْرِ الله﴾ [هود: ٤٣] ﴿شَفَا﴾ الشَّفا: حرف كل شيء وحده ومثله الشفير: وشفا الحفرة: حرفها قال تعالى ﴿على شَفَا جُرُفٍ هَارٍ﴾ [التوبة: ١٠٩].
سَبَبُ النّزول: يروى أنّ «شاس بن قيس» اليهودي مرَّ على نفر من الأنصار من الأوس والخزرج في مجلس لهم يتحدثون، فغاظه ما رأى من ألفتهم وصلاح ذات بينهم بعد الذي كان بينهم في الجاهلية من مجلس لهم يتحدثون، فغاظه ما رأى من ألفتهم وصلاح ذات بينهم بعد الذي كان بينهم في الجاهلية من العداوة فقال: ما لنا معهم إذا اجتمعوا من قرار، ثم أمر شاباً من اليهود أن يجلس إليهم ويذكّرهم يوم «بُعاث» وينشدهم بعض ما قيل فيه من الأشعار - وكان يوماً اقتتلت فيه الأوس والخزرج وكان الظفر فيه للأوس - ففعل فتنازع القوم عند ذلك وتفاخروا وتغاضبوا وقالوا: السلاحَ السلاحَ، فبلغ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فخرج إليهم فيمن معه من الهاجرين والأنصار فقال: «أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد أن أكرمكم الله بالإِسلام وقطع به عنكم أمر الجاهلية وألّف بينكم؟» فعرف القوم أنها كانت نزعة من الشيطان وكيداً من عدوهم، فألقوا السلاح وبكوا وعانق بعضهم بعضاً ثم انصرفوا مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ سامعين مطيعين فأنزل الله عَزَّ وَجَلَّ ﴿ياأيها الذين آمنوا إِن تُطِيعُواْ فَرِيقاً مِّنَ الذين أُوتُواْ الكتاب﴾ الآية.
التفِسير: ﴿لَن تَنَالُواْ البر حتى تُنْفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ﴾ أي لن تكونوا من الأبرار ولن تدركوا الجنة حتى تنفقوا من أفضل أموالكم ﴿وَمَا تُنْفِقُواْ مِن شَيْءٍ فَإِنَّ الله بِهِ عَلِيمٌ﴾ أى وما تبذلوا من شيء من سبيل الله فهو محفوظ لكم تجزون عنه خير الجزاء ﴿كُلُّ الطعام كَانَ حِلاًّ لبني إِسْرَائِيلَ﴾ أي كل الأطعمة كانت حلالاً لبني إِسرائيل ﴿إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ على نَفْسِهِ﴾ أي إلا ما حرّمه يعقوب على
البَلاَغَة: تضمنت الآيات الكريمة وجوهاً من البلاغة نوجزها فيما يلي:
١ - ﴿قُلْ فَأْتُواْ بالتوراة﴾ الأمر للتبكيت والتوبيخ للدلالة على كمال القبح.
٢ - ﴿لَلَّذِي بِبَكَّةَ﴾ أي للبيت الذي ببكة وفي ترك الموصوف من التفخيم ما لا يخفى.
٣ - ﴿وَمَن كَفَرَ﴾ وضع هذا اللفظ «موضع ومن لم يحج» تأكيداً لوجوبه وتشديداص على تاركه قال أبو السعود: «ولقد حازت الآية الكريمة من فنون الاعتبارات ما لا مزيد عليه وهي قوله ﴿وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت﴾ حيث أوثرت صيغة الخبر الدالة على التحقيق وأبرزت في صورة الجملة الإِسمية الدالة على الثبات والاستمرار، على وجه يفيد أنه حق واجب لله سبحانه في ذمم الناس، وسلك بهم مسلك التعميم ثم التخصيص، والإِبهام ثم التبيين، والإِجمال ثم التفصيل»
٤ - ﴿واعتصموا بِحَبْلِ الله﴾ شبّه القرآن بالحبل واستعير اسم المشبه به وهو الحبل للمشبه وهو القرآن على سبيل الاستعارة التصريحية والجامع بينهما النجاةُ في كلٍ.
٥ - ﴿شَفَا حُفْرَةٍ﴾ شبه حالهم الذي كانوا عليه بالجاهلية بحال من كان مشرفاً على حفرة عميقة وهوّة سحيقة ففيه استعارة تمثيلية والله أعلم.
الشبهة الأولى: أنهم قالوا للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إنك تدّعي أنك على دين إِبراهيم وقد خالفت شريعته فأنت تبيح لحوم الإِبل وألبانها مع أن ذلك كان حراماً في دين إبراهيم؟ فرد الله عليهم بقوله ﴿كُلُّ الطعام كَانَ حِلاًّ لبني إِسْرَائِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ﴾ الآية.
الشبهة الثانية: قالوا إن «بيت المقدس» قبلة جميع الأنبياء وهو أول المساجد وأحق بالاستقبال فكيف تترك يا محمد التوجه إليه ثم تزعم أنك مصدّق لما جاء به الأنبياء فرد الله تعالى بقوله ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ﴾ الآية.
اللغَة: ﴿أُمَّةٌ﴾ طائفة وجماعة ﴿البينات﴾ الآيات الواضحات ﴿المعروف﴾ ما أمر به الشرع واستحسنه العقل السليم ﴿المنكر﴾ ما نهى عنه الشرع واستقبحه العقل السليم ﴿الأدبار﴾ جمع دبر وهو مؤخر كل شيء يقال: ولاه دبره أي هرب من وجهه ﴿ثقفوا﴾ وجدوا وصودفوا ﴿حَبْلٍ مِّنَ الله﴾ الحبل معروف والمراد به هنا: العهد وسمي حبلاً لأنه سبب يحصل به الأمن وزوال الخوف ﴿بَآءُوا﴾ رجعوا ﴿المسكنة﴾ الفقر.
التفِسير: ﴿وَلْتَكُن مِّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخير﴾ أي ولتقم منكم طائفة للدعوة إلى الله ﴿وَيَأْمُرُونَ بالمعروف وَيَنْهَوْنَ عَنِ المنكر﴾ أي للأمر بكل معروف والنهي عن كل منكر {وأولئك هُمُ
١ - ﴿وَيَأْمُرُونَ بالمعروف وَيَنْهَوْنَ عَنِ المنكر﴾ فيه من المحسنات البديعية ما يسمى بالمقابلة.
٢ - ﴿وأولئك هُمُ المفلحون﴾ فيه قصر صفة على موصوف حيث قصر الفلاح عليهم.
٣ - ﴿يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ﴾ بين كلمتي ﴿تَبْيَضُّ﴾ و ﴿تَسْوَدُّ﴾ طباق.
٤ - ﴿فَفِي رَحْمَةِ الله﴾ مجاز مرسل أطلق الحالُّ وأريد المحل أي ففي الجنة لأنها مكان تنزل الرحمة.
٥ - ﴿ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذلة﴾ فيه استعارة حيث شبه الذل بالخباء المضروب على أصحابه وقد تقدمت في البقرة.
٦ - ﴿وَبَآءُوا بِغَضَبٍ﴾ التنكير للتفخيم والتهويل.
فَائِدَة: قوله تعالى ﴿ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ﴾ جملة مستأنفة ولهذا ثبتت فيها النون قال الزمخشري: «وعدل به عن حكم الجزاء إلى حكم الإِخبار ابتداءً كأنه قيل: ثم أخبركم أنهم مخذولون منتفٍ عنهم النصر، ولو جزم لكان نفي النصر مقيداً لقتالهم بينما النصر وعدٌ مطلق».
تنبيه: الاختلاف الذي أشارت إليه الآية ﴿وَلاَ تَكُونُواْ كالذين تَفَرَّقُواْ واختلفوا﴾ إنما يراد به الاختلاف في العقيدة وفي أصول الدين وأما الاختلاف في الفروع كما اختلف الأئمة المجتهدون فذلك من اليسر في الشريعة كما نبه على ذلك العلماء ولابن تيمية رَحِمَهُ اللَّهُ رسالة قيمة اسماها «رعف الملام عن الأئمة الأعلام» فارجع إليها فإنها رائعة ومفيدة.
اللغَة: ﴿آنَآءَ﴾ أوقات وساعات مفردها إِنىَ على وزن مِعَى ﴿يُكْفَروهُ﴾ يُجحدوه من الكفر بمعنى الجحود، سمي منعُ الجزاء كفراً لأنه بمنزلة الجحد والستر ﴿صِرٌّ﴾ الصِرُّ: البرد الشديد قاله ابن عباس وأصله من الصرير الذي هو الصوت ويراد به الريح الشديدة الباردة ﴿حَرْثَ﴾ زرع وأصله من حرث الأرض إذا شقها للزرع والبذر ﴿بِطَانَةً﴾ بطانة الرجل: خاصته الذين يفضي إليهم بأسراره شبّه ببطانة الثوب لأنه يلي البدن ﴿لاَ يَأْلُونَكُمْ﴾ أي لا يقصّرون قال الزمخشري: يقال ألاَ في الأمر يألو إذا قصّر فيه ﴿خَبَالاً﴾ الخبال: الفساد والنقصان ومنه رجل مخبول إذا كان ناقص العقل ﴿عَنِتُّمْ﴾ العنت: شدة الضرر والمشقة ﴿الأنامل﴾.
سَبَبُ النّزول: لما أسلم عبد الله بن سلام وأصحابه قال أحبار اليهود، ما آمن بمحمد إلا شرارنا ولو كانوا من خيارنا ما تركوا دين آبائهم وقالوا لهم: لقد كفرتم وخسرتم فأنزل الله ﴿لَيْسُواْ سَوَآءً مِّنْ أَهْلِ الكتاب أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ﴾ الآية.
التفِسير: ﴿لَيْسُواْ سَوَآءً﴾ أي ليس أهل الكتاب مستوين في المساوئ، وهنا تمّ الكلام ثم ابتدأ تعالى بقوله ﴿مِّنْ أَهْلِ الكتاب أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ﴾ أي منهم طائفة مستقيمة على دين الله ﴿يَتْلُونَ آيَاتِ الله آنَآءَ الليل وَهُمْ يَسْجُدُونَ﴾ أي يتهجدون في الليل بتلاوة آيات الله حال الصلاة ﴿يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر﴾ أي يؤمنون بالله على الوجه الصحيح ﴿وَيَأْمُرُونَ بالمعروف وَيَنْهَوْنَ عَنِ المنكر﴾ أي يدعون إلى الخير وينهون عن الشر ولا يدهنون ﴿وَيُسَارِعُونَ فِي الخيرات﴾ أي يعملونها مبادرين غير متثاقلين ﴿وأولئك مِنَ الصالحين﴾ أي وهم في زمرة عباد الله الصالحين ﴿وَمَا يَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَروهُ﴾ أي ما عملوا من عمل صالح فلن يضيع عند الله ﴿والله عَلِيمٌ بالمتقين﴾ أي لا يخفى عليه عمل عامل، ولا يضيع لديه أجر المتقين، ثم أخبر تعالى عن مآل الكافرين فقال ﴿إِنَّ الذين كَفَرُواْ لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ مِّنَ الله شَيْئاً﴾ أي لن تدفع عنهم أموالهم التي تهالكوا على اقتنائها ولا أولادهم الذين تفانوا في حبهم من عذاب الله شيئاً ﴿وأولئك أَصْحَابُ النار هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ أي مخلدون في عذاب جهنم ﴿مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هذه الحياة الدنيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ﴾ أي مثل ما ينفقونه في الدنيا بقصد الثناء وحسن الذكر كمثل ريح عاصفة فيها بردٌ شديد {أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ
٢ - ﴿وأولئك مِنَ الصالحين﴾ الإِشارة بالبعيد لبيان علو درجتهم وسمو منزلتهم في الفضل.
٣ - ﴿كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ﴾ فيه تشبيه وهو من نوع التشبيه التمثيلي شبّه ما اكنوا ينفقونه في المفاخر وكسب الثناء بالزرع الذي أصابته الريح العاصفة الباردة فدمرته وجعلته حطاماً.
٤ - ﴿لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً﴾ شبه دخلاء الرجل وخواصّه بالبطانة لأنهم يستبطنون دخيل أمره ويلازمونه ملازمة شعاره لجسمه ففيه استعارة أفاده في تلخيص البيان.
٥ - ﴿عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأنامل﴾ قال أبو حيان: يوصف المغتاط والنادم بعض الأنامل فيكون حقيقة ويحتمل أنه من مجاز التمثيل عبّر بذلك عن شدة الغيظ والتأسف لما يفوتهم من إذاية المؤمنين.
٦ - في الآيات من المحسنات البديعية ما يسمى بالمقابلة وذلك في قوله ﴿إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا﴾ حيث قابل الحسنة بالسيئة والمساءة بالفرح وهي مقابلة بديعة، كما أن فيها جناس الاشتقاق في ﴿ظَلَمَهُمُ﴾ و ﴿يَظْلِمُونَ﴾ وفي ﴿الغيظ﴾ و ﴿غَيْظِكُمْ﴾ وفي ﴿تُؤْمِنُونَ﴾ و ﴿آمَنَّا﴾.
لطيفَة: عبّر بالمسَّ في قوله ﴿إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ﴾ وبالإصابة في قوله ﴿وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ﴾ وذلك للإِارة إلى أن الحسنة تسوء الأعداء وحتى ولو كانت بأيسر الأشياء ولو مسّاً خفيفاً وأما السيئة فإِذا تمكنت الإصابة بها إلى الحد الذي يرثي له الشامت فإنهم لا يرثون بل يفرحون ويسرون وهذا من أسرار بلاغة التنزيل، نقلاً عن حاشية الكشاف.
اللغَة: ﴿غَدَوْتَ﴾ خرجت غُدوة وهي الساعات الأولى من الصبح ﴿تَفْشَلاَ﴾ الفشل: الجبن والضعف ﴿تُبَوِّىءُ﴾ تنزل يقال: بوأته منزلا وبوأت له منزلاً أي أنزلته فيه وأصل التبوئ اتخاذ المنزل ﴿أَذِلَّةٌ﴾ أي قلة في العدد والسلاح ﴿فَوْرِهِمْ﴾ الفور: السرعة وأصله شدة الغليان من فارتْ القدر إذا غلت ثم استعملت للسرعة تقول: من فوره أي من ساعته ﴿مُسَوِّمِينَ﴾ بفتح الواو بمعنى معلَّمين على القتال وبكسرها بمعنى لهم علامة وكانت سيماهم يوم بدر عمائم بيضاء ﴿طَرَفاً﴾ طائفة وقطعة ﴿يَكْبِتَهُمْ﴾ الكبتُ: الهزيمة والإِهلاك وقد يأتي بمعنى الغيظ والإِذلال ﴿خَآئِبِينَ﴾ الخيبة: عدم الظفر بالمطلوب.
سَبَبُ النّزول: ثبت في صحيح مسلم» أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كسرت رباعيته يوم أحد وشُجَّ في رأسه، فجعل يسلِتُ الدم عنه ويقول: كيف يفلح قوم شجّورا رأس نبيهم وكسروا رباعيته وهو يدعوهم إلى الله تعالى؟ «فأنزل الله ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمر شَيْءٌ﴾.
التفِسير: ﴿وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ﴾ أي اذكر يا محمد حين خرجت إلى أحد من عند أهلك ﴿تُبَوِّىءُ المؤمنين مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ﴾ أي تنزّل المؤمنين أماكنهم لقتال عدوهم ﴿والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ أي سميع لأقوالكم عليمٌ بأحوالكم ﴿إِذْ هَمَّتْ طَّآئِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ﴾ أي حين كادت طائفتان من جيش المسلمين أن تجبنا وتضعفا وهمتا بالرجوع وهما» بنو سلمة «و» بنو حارثة «وذلك حين حرج رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لأحد بألفٍ من أصحابه فلما قاربوا عسرك الكفرة وكانوا ثلاثة آلاف انخذل» عبد الله بن أبي «بثلث الجيش وقال: علامَ نقتل أنفسنا وأولادنا؟ فهمَّ الحيان من الأنصار بالرجوع فعصمهم الله فمضوا مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وذلك قوله تعالى ﴿والله وَلِيُّهُمَا﴾ أي ناصرهما ومتولي أمرهما ﴿وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون﴾ أي في جميع أحوالهم وأمورهم، ثم ذكّرهم تعالى بالنصر يوم بدر لتقوى قلوبهُم ويتسلوا عمّا أصابهم من الهزيمة يوم أحد فقال ﴿وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ الله بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ﴾ أي نصركم يوم بدر مع قلة العدد والسلاح لتعلموا أن النصر من عند الله لا بكثرة العدد والعُدد ﴿فاتقوا الله لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ أي اشكروه على ما منْ به عليكم من النصر ﴿إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ ءالاف مِّنَ الملائكة مُنزَلِينَ﴾ أي إِذ تقول يا محمد لأصحابك أما يكفيكم أن يعينكم الله بإمداده لكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين لنصرتكم ﴿بلى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ﴾ بلى تصديق للوعد أي بلى يمدكم بالملائكة إن صبرتم في المعركة واتقيتم الله وأطعتم أمره ﴿وَيَأْتُوكُمْ مِّن فَوْرِهِمْ هذا﴾ أي يأتيكم المشركون من ساعتهم هذه ﴿يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ ءالاف مِّنَ الملائكة مُسَوِّمِينَ﴾ أي يزدكم الله مدداً من الملائكة معلَّمين على السلاح ومدربين على القتال ﴿وَمَا جَعَلَهُ الله إِلاَّ بشرى لَكُمْ﴾ أي وما جعل الله ذلك الإِمداد بالملائكة إلا بشارة لكم أيها المؤمنون لتزدادوا ثباتاً ﴿وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ﴾ أي ولتسكن قلوبكم فلا تخافوا من كثرة عدوكم وقلة عددكم ﴿وَمَا النصر إِلاَّ مِنْ عِندِ الله﴾ أي فلا تتوهموا أن النصر بكثرة العَدَد والعُدَد،
البَلاَغَة: ١ - ﴿إِذْ تَقُولُ﴾ صيغة المضارع لحكاية الماضية باستحضار صورتها في الذهن.
٣ - ﴿يَغْفِرُ وَيُعَذِّبُ﴾ بينهما طباق.
٤ - ﴿أَضْعَافاً مُّضَاعَفَةً﴾ جناس الاشتقاق.
٥ - ﴿لاَ تَأْكُلُواْ الربا﴾ سمي الأخذ أكلاً لأنه يئول إليه فهو مجاز مرسل.
تنبيه: ذكر الأضعاف المضاعفة في الآية ليس للقيد ولا للشرط، وإنما هو لبيان الحالة التي كان الناس عليها في الجاهلية، وللتشنيع عليهم بأنَّ في هذه المعاملة ظلماً صارخاً وعدواناً مبيناً حيث كانوا يأخذون الربا أضعافاً مضاعفة قال أبو حيان: «نهوا عن الحالة الشنعاء التي يوقعون الربا عليها فربما استغرق بالنزر اليسير مال المدين، وأشار بقوله ﴿مُّضَاعَفَةً﴾ إلى أنهم كانوا يكررون التضعيف عاماً بعد عام، والربا محرم بجميع أنواعه، فهذه الحال ليس قيداً في النهي».
اللغَة: ﴿وسارعوا﴾ بادروا ﴿السَّرَّآءِ﴾ الرخاء ﴿الضرآء﴾ الشدة والضيق ﴿الكاظمين﴾ كظم الغيظ: ردّه في الجوف يقال: كظم غيظه أي لم يظهره مع قدرته على إِيقاعه بالعدو مأخوذ من كظم القربة إِذا ملأها وشد رأسها ﴿فَاحِشَةً﴾ الفاحشة: العمل الذي تناهى في القبح ﴿خَلَتْ﴾ مضت ﴿سُنَنٌ﴾ السنن: جمع سنة وهي الطريقة التي يقتدى بها ونها سنة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والمراد بها هنا الوقائع التي حصلت للمكذبين ﴿قَرْحٌ﴾ جرح بالفتح والضم قال الفراء: هو بالفتح الجرح وبالضم ألَمه، وأصل الكلمة الخلوص ومنه ماء قُراح ﴿نُدَاوِلُهَا﴾ نصرّفها والمداولة: نقل الشيء من واحد إِلى آخر يقال: تداولته الأيدي إذا انتقل من شخص إلى شخص ﴿وَلِيُمَحِّصَ﴾ التمحيص: التخليص يقال: محصته إذا خلَّصته من كل عيب وأصله في اللغة: التنقية والإِزالة ﴿وَيَمْحَقَ﴾ المحق: نقص الشيء قليلاً قليلاً ﴿أَعْقَابِكُمْ﴾ جمع عقب وهو مؤخر الرجل يقال: انقلب على عقبه أي رجع إِلى ما كان عليه ﴿مُّؤَجَّلاً﴾ له وقت محدّد لا يتقدم ولا يتأخر ﴿وَكَأَيِّن﴾ كم وهي للتكثير وأصلها أي دخلت عليها كاف التشبيه فأصبح معناها التكثير ﴿رِبِّيُّونَ﴾ جمع ربِّي نسبة إِلى الربّ كالربانيين وهم العلماء الأتقياء العابدون لربهم وقيل: نسبة إِلى الربّة وهي الجماعة ﴿استكانوا﴾ خضعوا وذلّوا وأصله من السكون لأن الخاضع يسكن لصاحبه ليصنع به ما يريد.
التفسِير: ﴿وسارعوا إلى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ﴾ أي بادروا إِلى ما يوجب المغفرة بطاعة الله وامتثال أوامره ﴿وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السماوات والأرض﴾ أي وإِلى جنة واسعة عرضها السماء والأرض كما قال في سورة «الحديد» ﴿عَرْضُهَا كَعَرْضِ السمآء والأرض﴾ [الآية: ٢١] والغرض بيان سعتها فإِذا كان هذا عرضها فما ظنك بطولها؟ ﴿أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ﴾ أي هيئت للمتقين لله ﴿الذين يُنفِقُونَ فِي السَّرَّآءِ والضرآء﴾ أي يبذلون أموالهم في اليسر والعسر، وفي الشدة والرخاء، ﴿والكاظمين الغيظ﴾ أي يمسكون غليظهم مع قدرتهم على الانتقام ﴿والعافين عَنِ الناس﴾ أي يعفون عمن أساء إِليهم وظلمهم ﴿والله يُحِبُّ المحسنين﴾ أي يحب المتصفين بتلك الأوصاف الجليلة وغيرها ﴿والذين إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً﴾ أي ارتكبوا ذنباً قبيحاً كالكبائر ﴿أَوْ ظلموا أَنْفُسَهُمْ﴾ بإِتيان أي ذنب {ذَكَرُواْ الله
﴿مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخرة نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ﴾ [الشورى: ٢٠] ﴿وَسَنَجْزِي الشاكرين﴾ أي سنعطيهم من فضلنا ورحمتنا بحسب شكرهم وعملهم ﴿وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ﴾ أي كم من الأنبياء قاتل لإِعلاء كلمة الله وقاتل معه علماء ربانيون وعُبَّاد صالحون قاتلوا فقُتل منهم من قتل ﴿فَمَا وَهَنُواْ لِمَآ أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ الله﴾ أي ما جبنوا ولا ضعفت هممهم لما أصابهم من القتل والجراح ﴿وَمَا ضَعُفُواْ﴾ عن الجهاد ﴿وَمَا استكانوا﴾ أي ما ذلّوا ولا خضعوا لعدوهم ﴿والله يُحِبُّ الصابرين﴾ أي يحب الصابرين على مقاساة الشدائد والأهوال في سبيل الله ﴿وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغفر لَنَا ذُنُوبَنَا﴾ أي ما كان قولهم مع ثباتهم وقوتهم في الدين إِلا طلب المغفرة من الله ﴿وَإِسْرَافَنَا في أَمْرِنَا﴾ أي وتفريطنا وتقصيرنا في واجب طاعتك وعبادتك ﴿وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا﴾ أي ثبتنا في مواطن الحرب ﴿وانصرنا عَلَى القوم الكافرين﴾ أي انصرنا على الكفار ﴿فَآتَاهُمُ الله ثَوَابَ الدنيا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخرة﴾ أي جمع الله لهم بين جزاء الدنيا بالغنيمة والعز والظفر والتمكين لهم بالبلاد وبين جزاء الآخرة بالجنة ونعيمها ﴿والله يُحِبُّ المحسنين﴾ أي يحب من أحسن عمله وأخلص نيته، وخص ثواب الآخرة بالحسن إِشعاراً بفضله وأنه المعتد به عند الله.
البَلاَغَة: تضمنت الآيات الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي:
١ - ﴿عَرْضُهَا السماوات والأرض﴾ أي كعرض السماوات والأرض حذفت أداة التشبيه ووجه الشبه يسمى هذا «التشبيه البليغ».
٣ - ﴿السَّرَّآءِ والضرآء﴾ فيه الطباق وهو من المحسنات البديعية.
٤ - ﴿وَمَن يَغْفِرُ الذنوب إِلاَّ الله﴾ استفهام يقصد منه النفي أي لا يغفر.
٥ - ﴿أولئك جَزَآؤُهُمْ مَّغْفِرَةٌ﴾ الإِشارة بالبعيد للإِشعار ببعد منزلتهم وعلو طبقتهم في الفضل.
٦ - ﴿وَنِعْمَ أَجْرُ العاملين﴾ المخصوص بالمدح محذوف أي ونعم أجر العاملين ذلك.
٧ - ﴿وَلِيَعْلَمَ الله﴾ هو من باب الالتفات لأنه جاء بعد لفظ ﴿نُدَاوِلُهَا﴾ فهو التفات من الحاضر إلى الغيبة، والسرُّ في هذا الالتفات تعظيم شأن الجهاد في سبيل الله.
٨ - ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ﴾ قصر موصوف على صفة.
٩ - ﴿انقلبتم على أَعْقَابِكُمْ﴾ قال في تلخيص البيان: هذه استعارة والمراد بها الرجوع عن دينه، فشبّه سبحانه الرجوع في الإِرتياب بالرجوع على الأعقاب.
الفوَائِد: الأولى: في هذه الآيات الكريمة ﴿وسارعوا إلى مَغْفِرَةٍ﴾ أمهات مكارم الأخلاق من البذل وكظم الغيظ والعفو عن المسيئين والتوبة من الذنوب، وكلٌ منها مصدر لفضائل لا تدخل تحت الحصر.
الثانية: قدم المغفرة على الجنة لأن التخلية مقدمة على التحلية فلا يستحق دخول الجنة من لم يتطهر من الذنوب والآثام.
الثالثة: تخصيص العرض بالذكر للمبالغة في وصف الجنة بالسعة والبسطة فإِذا كان هذا عرضها فكيف يكون طولها؟ قال ابن عباس: كسبع سماوات وسبع أرضين لو وصل بعضها ببعض.
الرابعة: كتب هرقل إِلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إِنك دعوتني إِلى جنة عرضها السماوات والأرض فأين النار؟ فقال عليه السلام: «سبحان الله أين الليل إِذا جاء النهار».
الخامسة: أمر تعالى بالمسارعة إِلى عمل الآخرة في آيات عديدة ﴿وسارعوا إلى مَغْفِرَةٍ﴾ و ﴿سابقوا إلى مَغْفِرَةٍ﴾ [الحديد: ٢١] ﴿فاستبقوا الخيرات﴾ [البقرة: ١٤٨] ﴿فاسعوا إلى ذِكْرِ الله﴾ [الجمعة: ٩] ﴿وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ المتنافسون﴾ [المطففين: ٢٦] وأما لعمل الدنيا فأمر بالهوينى ﴿فامشوا فِي مَنَاكِبِهَا﴾ [الملك: ١٥] ﴿وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأرض﴾ [الزمر: ٢٠] فتدبر السرّ الدقيق.
اللغَة: ﴿سُلْطَاناً﴾ حجة وبررهاناً وأصله القوة وومنه قيل لللوالي سلطان ﴿مثوى﴾ المثوى: المكان الذي يكون مقر الإِنسان ومأواه من قولهم ثوى بالمكان إِذا أقام فيه ﴿تَحُسُّونَهُمْ﴾ تقتلونهم قال الزجاج: الحسُّ الإِستئصال بالقتل وأصله الضرب على مكان الحس قال الشاعر:
حسناهم بالسيف حساً فأصبحت بقيتهم قد شردوا وتبدّدوا
﴿تُصْعِدُونَ﴾ الإِصعاد: الذهاب والإِبعاد في الأرض، والفرق بينه وبين الصعود أن الإِصعاد يكون في مستوى من الأرض، والصعود يكون في ارتفاع ﴿لاَ تَلْوُونَ﴾ أي لا تلتفتون إلى أحد كما يفعل المنهزم وأصله من ليّ العنق للإِلتفات ﴿أُخْرَاكُمْ﴾ آخركم ﴿أَثَابَكُمْ﴾ جازاكم ﴿أَمَنَةً﴾ أمناً واطمئناناً ﴿يغشى﴾ يستر ويغطي ﴿وَلِيُمَحِّصَ﴾ التمحيص: التنقية وتخليص الشيء مما فيه من عيب ﴿استزلهم﴾ أوقعهم في الزلّة وهي الخطيئة ﴿غُزًّى﴾ جمع غازٍ وهو الخارج في سبيل الله.
من أين أصابنا هذا وقد وعدنا الله النصر؟ فأنزل الله ﴿وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ الله وَعْدَهُ | إلى قوله مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا﴾ يعني الرماة الذين فعلوا ما فعلوا يوم أُحد. |
«إِليَّ
فإِن تكن الأبدان للموت أُنشئت | فقتل امرئٍ بالسيف في الله أفضل |
٢ - بين لفظ ﴿آمنوا﴾ و ﴿كَفَرُواْ﴾ في الآية طباق وكذلك بين ﴿يُخْفُونَ﴾ و ﴿يُبْدُونَ﴾ وبين ﴿فَاتَكُمْ﴾ و ﴿أَصَابَكُمْ﴾ وهو من المحسنات البديعية.
٣ - ﴿وَبِئْسَ مثوى الظالمين﴾ لم يقل وبئس مثواهم بل وضع الظاهر مكان الضمير للتغليظ وللإِشعار بأنهم ظالمون لوضعهم الشيء في غير موضعه والمخصوص بالذم محذوف أي بئس مثوى الظالمين النار أفاده أبو السعود.
٤ - ﴿ذُو فَضْلٍ عَلَى المؤمنين﴾ التنكير للتفخيم وقوله ﴿عَلَى المؤمنين﴾ دون عيلهم فيه الإِظهار ف موضع الإِضمار للتشريف والإِشعار بعلة الحكم.
٥ - ﴿يَظُنُّونَ بالله... ظَنَّ﴾ بينهما جناس الاشتقاق وكذلك في ﴿فَتَوَكَّلْ... المتوكلين﴾ [آل عمران: ١٥٩].
٦ - ﴿إِذَا ضَرَبُواْ فِي الأرض﴾ فيه استعارة تشبيهاً للمسافر في البر بالسابح الضارب في البحر. لأنه يضرب بأطرافه في غمرة الماء شقاً لها واستعانة على قطعها كذا في تلخيص البيان.
فَائِدَة: روى ابن كثير عن ابن مسعود قال: إِن النساء كنَّ يوم أُحد خلف المسمين يُجهزن على جَرَحى المشركين، فلو حلفتُ يومئذٍ رجوت أن أبرّ أنه ليس أحد منا يريد الدنيا حتى أنزل الله ﴿مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخرة﴾ فلما خالف أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وعصوا ما أُمروا به أُفرد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في تسعة عاشرهم فلما أرهقوه قال: رحم الله رجلاً ردّهم عنا فلم يزل يقول ذلك حتى قتل سبعة منهم، فنظروا فإِذا حمزة قد بقر بطنه وأخذت هند كبده فلاكتها فلم تستطيع أن تأكلها، وحزن عليه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حزناً شديداً، وصلى عليه يومئذٍ سبعين صلاة.
اللغَة: ﴿فَظّاً﴾ الفظُّ: الغليظ الجافي قال الواحدي هو الغليظ سيئ الخلق قال الشاعر:
أخشى فظاظة عمٍّ أو جفاء أخٍ | وكنتُ أخشى عليها من أذى الكلم |
يُبكَى علينا ولا نبكي على أحدٍ؟ | لنحن أغلظُ أكباداً من الإِبل |
البَلاَغَة:
١ - ﴿إِن يَنصُرْكُمُ | وَإِن يَخْذُلْكُمْ﴾ بينهما مقابلة وهي من المحسنات البديعية. |
٣ - ﴿وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ﴾ أي ما صح ولا استقام والنفي هنا للشأن وهو أبلغ من نفي الفعل.
٤ - ﴿أَفَمَنِ اتبع رِضْوَانَ الله كَمَن بَآءَ بِسَخَطٍ مِّنَ الله﴾ قال أبو حيان: «هذا من الاستعارة البديعة جعل ما شرعه الله كالدليل الذي يتبعه من يهتدي به، وجعل العاصي كالشخص الذي أمر بأن يتبع شيئاً فنكص عن اتباعه ورجع بدونه».
٥ - ﴿بِسَخَطٍ مِّنَ الله﴾ التنكير للتهويل أي بسخط عظيم لا يكاد يوصف.
٦ - ﴿هُمْ دَرَجَاتٌ﴾ على حذف مضاف أي ذوو درجات متفاوتة، فالمؤمن درجته مرتفعة والكافر درجته متضعة.
٧ - ﴿لِلْكُفْرِ... لِلإِيمَانِ﴾ بينهما طباق وكذلك بين ﴿يُبْدُونَ.... يُخْفُونَ﴾ [آل عمران: ١٥٤].
٨ - ﴿أَصَابَتْكُمْ مُّصِيبَةٌ﴾ بينهما جناس الاشتقاق، وهو من المحسنات البديعية.
تنبيه: في هذه الآية ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ الله لِنتَ لَهُمْ﴾ دلالة على اختصاص نبينا بمكارم الأخلاق، ومن عجيب أمره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه كان أجمع الناس لدواعي العظمة ثم كان أدناهم إِلى التواضع، فكان أشرف الناس نسباً وأوفرهم حسباً وأزكاهم عملاً وأسخاهم كرما وأفصحهم بياناً وكلها من دواعي العظمة، ثم كان من تواضعه عليه السلام أنه كان يرقع الثوب ويخصف النعل ويركب الحمار ويجلس على الأرض ويجيب دعوة العبد المملوك فصلوات الله وسلامه على السراج المنير بحر المكارم والفضائل.
فَائِدَة: التوكل على الله من أعلى المقامات لوجهين: أحدهما محبة الله للعبد ﴿إِنَّ الله يُحِبُّ المتوكلين﴾ والثاني الضمان في كنف الرحمن ﴿وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى الله فَهُوَ حَسْبُهُ﴾ [آل عمران: ٣].
اللغَة: ﴿يَسْتَبْشِرُونَ﴾ يفرحون وأصله من البشرة لأن الإِنسان إِذا فرح ظهر أثر السرور في وجهه قال ابن عطية: وليست استفعل في هذا الموضع بمعنى طلب البشارة وإِنما هي بمعنى الفعل المجرد كقوله تعالى ﴿واستغنى الله﴾ [التغابن: ٦] ﴿القرح﴾ بالفتح الجرح وبالضم ألم الجرح وقد تقدم ﴿حَسْبُنَا﴾ كافينا مأخوذ من الإِحساب بمعنى الكفاية قال الشاعر:
فتملأُ بيتنا أقْطاً وسَمْناً وحسبُك من غنىً شِبَعٌ ورِيُّ
﴿حَظّاً﴾ الحظ: النصيب ويستعمل في الخير والشر وإِذا لم يقيّد يكون للخير ﴿نُمْلِي﴾ الإِملاء: التأخير والإِمهال قال القرطبي: والمراد بالإِملاء هنا طول العمر ورغد العيش ﴿يَمِيزَ﴾ يُميِّز يقال: ماز وميزّ أي فصل الشيء من الشيء منه ﴿وامتازوا اليوم أَيُّهَا المجرمون﴾ [يس: ٥٩] ﴿يَجْتَبِي﴾ يختار ﴿سَيُطَوَّقُونَ﴾ من الطّوق وهو القلادة أي يلزمون به لزوم الطوق في العنق.
ب - عن جابر بن عبد الله قال: «لقيني رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال يا جابر: ما لي أراك منكساً مُهتماً؟ قلت يا رسول الله: استُشْهد أبي وترك عيالاً وعليه دين فقال: ألا أبشرك بما لقي الله عَزَّ وَجَلَّ به أباك؟ قلت: بلى يا رسول الله، قال: إِن الله أحيا أباك وكلّمه كفاحاً - وما كلّم أحداً قط إِلا من وراء حجاب - فقال له: يا عبد الله تمنَّ أعطك قال يا رب: أسألك أن تردني إلى الدنيا فأْقتل فيك ثانية فقال الرب تبارك وتعالى: إِنه قد سبق مني أنهم إِليها لا يرجعون، قال يا رب: فأبلغ من ورائي فأنزل الله ﴿وَلاَ تَحْسَبَنَّ الذين قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله أَمْوَاتاً﴾ »
التفِسير: ﴿وَلاَ تَحْسَبَنَّ الذين قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله أَمْوَاتاً﴾ أي لا تظنَّن الذين استشهدوا في سبيل الله لإِعلاء دينه أمواتاً لا يُحسّون ولا يتنعمون ﴿بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾ أي بل هم أحياء متنعمون في جنان الخلد يرزقون من نعيمها غدواً وعشياً قال الواحدي: الأصح في حياة الشهداء ما روي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من أن أرواحهم في أجواف طيور خضر وأنهم يُرزقون ويأكلون ويتنعمون ﴿فَرِحِينَ بِمَآ آتَاهُمُ الله مِن فَضْلِهِ﴾ أي هم منعّمون في الجنة فرحون بما هم فيه من النعمة والغبطة ﴿وَيَسْتَبْشِرُونَ بالذين لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ﴾ أي يستبشرون بإِخوانهم المجاهدون الذين لم يموتوا في الجهاد بما سيكونون عليه بعد الموت إِن استشهدوا فهم لذلك فرحون مستبشرون ﴿أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ أي بأنْ لا خوف عليهم في الآخرة ولا هم يحزنون على مفارقة الدنيا لأنهم في جنات النعيم ﴿يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ الله وَفَضْلٍ وَأَنَّ الله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المؤمنين﴾ أكّد استبشارهم ليذكر ما تعلّق به من النعمة والفضل والمعنى: يفرحون بما حباهم الله تعالى من عظيم كرامته وبما أسبغ عليهم من الفضل وجزيل الثواب، فالنعمة ما استحقوه بطاعتهم، والفضلُ ما زادهم من المضاعفة في الأجر ﴿الذين استجابوا للَّهِ والرسول مِن بَعْدِ مَآ أَصَابَهُمُ القرح﴾ أي الذين أطاعوا الله وأطاعوا الرسول من بعد ما نالهم الجراح يوم أُحد قال ابن كثير: وهذا كان يوم «حمراء الأسد» وذلك أن المشركين لما أصابوا من المسلمين كرّوا راجعين إِلى بلادهم ثم ندموا لم لا تّمموا على أهل المدينة وجعلوها الفيصلة، فلما بلغ ذلك رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ندب المسلمين إِلى الذهاب وراءهم ليرعبهم ويريهم أنّ بهم قوة وجَلَداً، ولم يأذن لأحدٍ سوى من حضر أحداً فانتدب المسلمون
﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ واتقوا أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾ أي لمن أطاع منهم أمر الرسول وأجابه إِلى الغزو - على ما به من جراح وشدائد - الأجرُ العظيم والثواب الجزيل ﴿الذين قَالَ لَهُمُ الناس إِنَّ الناس قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فاخشوهم فَزَادَهُمْ إِيمَاناً﴾ أي الذين أرجف لهم المرجفون من أنصار المشركين فقالوا لهم: إِن قريشاً قد جمعت لكم جموعاً لا تحصى فخافوا على أنفسكم فما زادهم هذا التخويف إِلا إِيماناً ﴿وَقَالُواْ حَسْبُنَا الله وَنِعْمَ الوكيل﴾ أي قال المؤمنون الله كافينا وحافظنا ومتولي أمرنا ونعم الملجأ والنصير لمن توكل عليه جل وعلا ﴿فانقلبوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ الله وَفَضْلٍ﴾ أي فرجعوا بنعمة السلامة وفضل الأجر والثواب ﴿لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سواء﴾ أي لم ينلهم مكروه أو أذى ﴿واتبعوا رِضْوَانَ الله﴾ أي نالوا رضوان الله الذي هو سبيل السعادة في الدارين ﴿والله ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ﴾ أي ذو إِحسان عظيم على العباد ﴿إِنَّمَا ذلكم الشيطان يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ﴾ أي إِنما ذلكم القائل ﴿إِنَّ الناس قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ﴾ بقصد تثبيط العزائم هو الشيطان يخوفكم أولياءه وهم الكفار لترهبوهم ﴿فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ﴾ أي فلا تخافوهم ولا ترهبوهم فإِني متكفل لكم بالنصر عليهم، ولكن خافوا إن كنتم مؤمنين حقاً أن تعصوا أمري فتهلكوا، والمراد بالشيطان «نعيم ابن مسعود الأشجعي» الذي أرسله أبو سفيان ليثبط المسلمين، قال أبو حيان: وإِنما نسب إِلى الشيطان لأنه ناشيء عن وسوسته وإِغوائه وإِلقائه ﴿وَلاَ يَحْزُنكَ الذين يُسَارِعُونَ فِي الكفر﴾ تسلية للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أي لا تحزن ولا تتألم يا محمد لأولئك المنافقين الذين يبادرون نحو الكفر بأقوالهم وأفعالهم، ولا تبال بما يظهر منهم من آثار الكيد للإِسلام وأهله ﴿إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّواْ الله شَيْئاً﴾ أي إِنهم بكفرهم لن يضروا الله شيئاً وإِنما يضرون أنفسهم ﴿يُرِيدُ الله أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظّاً فِي الآخرة﴾ أي يريد تعالى بحكمته ومشيئته ألاّ يجعل لهم نصيباً من الثواب في الآخرة ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ أي ولهم فوق الحرمان من الثواب عذاب عظيم في نار جهنم ﴿إِنَّ الذين اشتروا الكفر بالإيمان لَن يَضُرُّواْ الله شَيْئاً وَلهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ أي الذين استبدلوا الكفر بالإيمان وهم المنافقون المذكورون قبل، لن يضروا الله بكفرهم وارتدادهم ولهم عذاب مؤلم ﴿وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ﴾ أي لا يظنَّن الكافرون أن إِمهالنا بدون أجزاء وعذاب، وإِطالتنا لأعمارهم خير لهم ﴿إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ ليزدادوا إِثْمَاً﴾ أي إِنما نمهلهم ونؤخر آجالهم ليكتسبوا المعاصي فتزداد آثامهم ﴿وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ﴾ أي ولهم في الآخرة عذاب يهينهم ﴿مَّا كَانَ الله لِيَذَرَ المؤمنين على مَآ أَنْتُمْ عَلَيْهِ حتى يَمِيزَ الخبيث مِنَ الطيب﴾ هذا وعدٌ من الله لرسوله بأنه سيميّز له المؤمن من المنافق والمعنى لن يترك الله المؤمنين مختلطين بالمنافقين حتى يبتليهم فيفصل بين هؤلاء وهؤلاء، كما فعل في غزةو أُحد حيث ظهر أهل الإِيمان وأهل النفاق قال ابن كثير «أي لا بدّ أن يعقد شيئاً من المحنة يظهر فيها وليُّه ويُفضح بها عدوه، يُعرف به المؤمن الصابر من المنافق الفاجر، كما ميّز بيمهم يوم أُحد».
﴿وَمَا كَانَ الله لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الغيب﴾ قال الطبري: وأولى الأقوال بتأويله: أي وما كان الله ليطلعكم
«من آتاه الله مالاً فلم يؤدّ زكاته مُثِّل له يوم القيامة شجاعاً أقرع - أي ثعباناً عظيماً - له زبيبتان فيأخذ بلهزمتيه - يعني شدقية - ثم يقول: أنا مالك أنا كنزك ثم تلا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ﴿وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين يَبْخَلُونَ﴾ الآية ﴿وَللَّهِ مِيرَاثُ السماوات والأرض﴾ » أي جميع ما في الكون ملك له يعود إِليه بعد فناء خلقه ﴿والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ أي مطلع على أعمالكم.
البَلاغَة: قال في البحر: تضمنت هذه الآيات فنوناً من البلاغة والبديع: الإِطنابُ في ﴿يَسْتَبْشِرُونَ﴾ وفي ﴿لَن يَضُرُّواْ﴾ وفي آسم الجلالة في مواضع، والطباق في ﴿أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ﴾ وفي ﴿الكفر بالإيمان﴾ والاستعارة في ﴿اشتروا الكفر﴾ وفي ﴿يُسَارِعُونَ فِي الكفر﴾ وفي ﴿الخبيث والطيب﴾ يراد به المؤمن والمنافق والحذف في مواضع.
فَائِدَة: قوله تعالى ﴿حَسْبُنَا الله وَنِعْمَ الوكيل﴾ هي الكلمة التي قالها إِبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار قال السيوطي في الإِكليل: يستحب قول هذه الكلمة عند الغمّ والأمور العظيمة.
اللغَة: ﴿عَهِدَ إِلَيْنَا﴾ أوصانا ﴿بِقُرْبَانٍ﴾ القربان: ما يذبح من الأنعام تقرباً إِلى الله تعالى ﴿البينات﴾ الآيات الواضحات والمراد هنا المعجزات ﴿الزبر﴾ جمع زبور وهو الكتاب من الزَّبر وهو الكتابة، والزبور بمعنى المزبور أي المكتوب كالرَّكوب بمعنى المركوب قال الزجاج: الزبور كل كتاب ذي حكمة ﴿زُحْزِحَ﴾ الزحزحة: التنحية والإِبعاد تكرير الزح وهو الجذب بعجلة ﴿فَازَ﴾ ظفر بما يؤمل ونجا مما يخاف ﴿الغرور﴾ مصدر غرَّه يغرّه غروراً أي خدعه ﴿مَتَاعُ﴾ المتاع: ما يُتمتع به ويُنتفع ثم يزول ﴿لَتُبْلَوُنَّ﴾ لتمتحننَّ من بله أي امتحنه ﴿عَزْمِ الأمور﴾ أصل العزم ثباتُ الرأي على الشيء سوالمراه هنا صواب التدبير والرأي وهو مما ينبغي لكل عاقل أن يعزم عليه ﴿بِمَفَازَةٍ﴾ بمنجاة من قولهم فاز فلان إِذا نجا.
سَبَبُ النّزول: أ - عن ابن عباس قال: دخل أبو بكر الصّديق ذات يوم بيت مدارس اليهود، فوجد ناساً من اليهود قد اجتمعوا إِلى رجل منهم يقال له «فنحاص بن عازوراء» وكان من علمائهم وأحبارهم فقال أبو بكر لفنحاص: ويحك اتق الله وأسلِمْ فوالله إِنك لتعلم أن محمداً رسولٌ من عند الله قد جاءكم بالحق من عنده تجدونه مكتوباً عندكم في التوراة والإِنجيل، فقال فنحاص: والله يا أبا بكر ما بنا إِلى الله من حاجة من فقر وإِنه إِلينا لفقير، ما نتضرع إِليه كما يتضرع إِلينا وإِنّا عنه لأغنياء، ولو كان غنياً ما استقرض منا كما يزعم صاحبكم، ينهاكم عن الربا ويعطينا ولو كان غنياً ما أعطانا الربا، فغضب أبو بكر وضرب وجه «فنحاص» ضربةً شديدة وقال: والذي نفسي بيده لولا العهد الذي بيننا وبينك لضربت عنقك يا عدو الله، فذهب فنحاص إِلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال يا محمد: انظر إِلى ما صنع بي صاحبك، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: ما حملك على ما صنعتَ يا أبا بكر؟
- عن ابن عباس قال: جاء جماعة من اليهود إِلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - منهم كعب بن الأشرف، ومالك بن الصيف، وفنحاص بن عازوراء - وغيرهم فقالوا: يا محمد تزعم أنك رسول الله وأنه تعالى أنزل عليك كتاباً، وقد عهد الله إِِلينا في التوراة ألاّ تؤمن من لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار، فإِن جئتنا بهذا صدّقناك فنزلة هذه الآية ﴿الذين قالوا إِنَّ الله عَهِدَ إِلَيْنَا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حتى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النار﴾ الآية.
التفِسير: ﴿لَّقَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ الذين قالوا إِنَّ الله فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَآءُ﴾ هذه المقالة الشنيعة مقالة أعداء الله اليهود عليهم لعنة الله زعموا أن الله فقير، وذلك حين نزل قوله تعالى ﴿مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً﴾ [البقرة: ٢٤٥] قالوا: إِن الله فقير يقترض منا كما قالوا ﴿يَدُ الله مَغْلُولَةٌ﴾ [المائدة: ٦٤] قال القرطبي: وإِنما قالوا هذا تمويهاً على ضعفائهم لا أنهم يعتقدون هذا، وغرضُهم تشكيك الضعفاء من المؤمنين وتكذيب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أي إِنه فقير على قول محمد لأنه اقترض منا ﴿سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ وَقَتْلَهُمُ الأنبياء بِغَيْرِ حَقٍّ﴾ أي سنأمر الحفظة بكتابة ما قالوه في صحائف أعمالهم ونتكب جريمتهم الشنيعة بقتل الأنبياء بغير حق، والمراد بقتلهم الأنبياء رضاهم بفعل أسلافهم ﴿وَنَقُولُ ذُوقُواْ عَذَابَ الحريق﴾ أي ويقول الله لهم في الآخرة على لسان الملائكة: ذوقوا عذاب النار المحرقة الملتهبة ﴿ذلك بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ﴾ أي ذلك العذاب بما اقترفته أيديكم من الجرائم ﴿وَأَنَّ الله لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ﴾ أي وأنه سبحانه عادل ليس بظالم للخلق، والمراد أن ذلك العقاب حاصل بسبب معاصيكم، وعدلِ الله تعالى فيكم، قال الزمخشري: ومن العدل أن يعاقب المسيء ويثيب المحسن ﴿الذين قالوا إِنَّ الله عَهِدَ إِلَيْنَا﴾ أي هم الذين قالوا إِن الله أمرنا وأوصانا في التوراة ﴿أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حتى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النار﴾ أي أمرنا بأن لا نصدق لرسول حتى يأتينا بآية خاصة وهي أن يقدّم قربناناً فتنزل نار من السماء فتأكله، وهذا افتراء على الله حيث لم يعهد إِليهم بذلك ﴿قُلْ قَدْ جَآءَكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِي بالبينات وبالذي قُلْتُمْ﴾ أي قل لهم يا محمد توبيخاً وإِظهاراً لكذبهم: قد جاءتكم رسلٌ قبلي بالمعجزات الواضحات والحجج الباهرات الدالة على صدق نبوتهم وبالذي ادعيتم ﴿فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾ أي فلم كذبتموهم وقتلتموهم إِن كنتم صادقين في دعواكم الإِيمان بالله والتصديق برسله؟ ثم قال تعالى مسلياً لرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ﴿فَإِن كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ﴾ أي لا يحزنك يا محمد تكذيب هؤلاء لك، فإِنهم إِن فعلوا ذلك فقد كذَّبت أسلافهم من قبلُ رسل الله فلا تحزن فلك بهم أسوة حسنة ﴿جَآءُوا بالبينات﴾ أي كذبوهم مع أنهم جاءوهم بالبراهين
﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ﴾ [الرحمن: ٢٦] ﴿وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ القيامة﴾ أي تُعطون جزاء أعمالكم وافياً يوم القيامة ﴿فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النار وَأُدْخِلَ الجنة فَقَدْ فَازَ﴾ أي فمن نُحي عن النار وأُبْعِد عنها، وأُدخل الجنة فقد فاز بالسعادة السرمدية والنعيم المخلّد ﴿وَما الحياة الدنيا إِلاَّ مَتَاعُ الغرور﴾ أي ليست الدنيا إِلا دار الفناء يستمتع بها الأحمق المغرور قال ابن كثير: الآية فيها تصغير لشأن الدنيا وتحقير لأمرها وأنها فانية زائلة ﴿لَتُبْلَوُنَّ في أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ﴾ أي والله لتمتحننَّ وتختبرنَّ في أموالكم بالفقر والمصائب، وفي أنفسكم بالشدائد والأمراض ﴿وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الذين أشركوا أَذًى كَثِيراً﴾ أي ولينالنكم من اليهود والنصارى والمشركين - أعدائكم - الأذى الكثير، وهذا إِخبارٌ منه جلّ وعلا للمؤمنين بأنه سينالهم بلايا وأكدار من المشركين والفجّار، وأمرٌ لهم بالصبر عند وقوع ذلك لأن الجنة حفَّت بالمكاره ولهذا قال ﴿وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ﴾ أي وإِن تصبروا على المكاره وتتقوا الله في الأقوال والأعمال ﴿فَإِنَّ ذلك مِنْ عَزْمِ الأمور﴾ أي الصبر والتقوى من الأمور التي ينبغي أن تعزموا وتحزموا عليها لأنها ممّا أمر الله بها ﴿وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ الذين أُوتُواْ الكتاب﴾ أي اذكر يا محمد حين أخذ الله العهد المؤكد على اليهود في التوراة ﴿لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ﴾ أي لتظهرنَّ ما في الكتاب من أحكام الله ولا تخفونها، قال ابن عباس: هي لليهود أُخذ عليهم العهد والميثاق في أمر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فكتموه ونبذوه ﴿فَنَبَذُوهُ وَرَآءَ ظُهُورِهِمْ واشتروا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً﴾ أي طرحوا ذلك العهد وراء ظهورهم واستبدلوا به شيئاً حقيراً من حُطام الدنيا ﴿فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ﴾ أي بئس هذا الشراء وبئست تلك الصفقة الخاسرة ﴿لاَ تَحْسَبَنَّ الذين يَفْرَحُونَ بِمَآ أَتَوْاْ﴾ أي لا تظننَّ يا محمد الذين يفرحون بما أتوا من إِخفاء أمرك عن الناس ﴿وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ﴾ أي ويحبون أن يحمدهم الناس على تمسكهم بالحق وهم على ضلال ﴿فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِّنَ العذاب﴾ أي فلا تظنتَّهم بمنجاة من عذاب الله ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ أي عذاب مؤلم قال ابن عباس: نزلت في أهل الكتاب سألهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن شيء فكتموه إيّاه وأخبره بغيره وفرحوا بما أوتوا من كتمانهم إِياه ما سألهم عنه ﴿وَللَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض﴾ أي له سبحانه جميع ما في السماوات والأرض فكيف يكون من له ما في السماوات والأرض فقيراً؟ والآية ردٌّ على الذين قالوا إِن الله فقير ونحن أغنياء ﴿والله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ أي هو تعالى قادر على عقابهم.
البَلاَغَة: تضمنت الآيات الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يأتي: ١ - ﴿إِنَّ الله فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَآءُ﴾ أكد اليهود الجملة ب ﴿إِنَّ الله فَقِيرٌ﴾ على سبيل المبالغة، فحيث نسبوا إلى أنفسهم الغنى لم يؤكدوا بل أخرجوا الجملة مخرج ما لا يحتاج إلى تأكيد كأن الغنى وصف لهم لا يمكن فيه نزاع فيحتاج إِلى تأكيد وهذا دليل على تمردهم في الكفر والطغيان.
٣ - ﴿ذلك بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ﴾ فيه مجاز مرسل من إِطلاق اسم الجزء وإِرادة الكل وذكر الأيدي لأن أكثر الأعمال نُزوال بهن.
٤ - ﴿تَأْكُلُهُ النار﴾ إِسناد الأكل إِلى النار بطريق الاستعارة إِذ حقيقة الأكل إِنما تكون في الإِنسان والحيوان وكذلك توجد استعارة في قوله ﴿ذَآئِقَةُ الموت﴾ لأن حقيقة الذوق ما يكون بحاسّة اللسان.
٥ - ﴿مَتَاعُ الغرور﴾ قال الزمخشري: «شبه الدنيا بالمتاع الذي يدلّس به على المستام ويُغر حتى يشتريه والشيطان هو المدلِّس الغرور» فهو من باب الاستعارة.
٦ - ﴿فَنَبَذُوهُ وَرَآءَ ظُهُورِهِمْ واشتروا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً﴾ كذلك توجد استعارة في النبذ والاشتراء شبّه عدم التمسك والعمل به بالشيء الملقى خلف ظهر الإِنسان وباشتراء ثمن قليل ما تعوضوه من الحطام على كتم آيات الله.
٧ - وفي الآيات الكريمة من المحسنات البديعية الطباق في ﴿فَقِيرٌ أَغْنِيَآءُ﴾ والمقابلة ﴿فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النار وَأُدْخِلَ الجنة﴾ وفي ﴿لَتُبَيِّنُنَّهُ... وَلاَ تَكْتُمُونَهُ﴾ والجناس المغاير في ﴿قَوْلَ الذين قالوا﴾ وفي ﴿كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ﴾.
فَائِدَة: صيغة فعّال في الآية ﴿وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ﴾ [فصلت: ٤٦] ليست للمبالغة وإِنما هي للنسب مثل عطّار ونجّار وتمّار كلها ليست للمبالغة وإِنما هي للنسب قال ابن مالك.
ومع فاعل وفعَّال فُعل... في نسبٍ أغنى من الياء قُبل
تنبيه: إِنما وصف تعالى عيش الدنيا ونعيمها بأنه متاع الغرور، لما تمنّيه لذاتها وشهواتها من طول البقاء وأمل الدوام فتخدعه ثم تصرعه، ولهذا قال بعض السلف: الدنيا متاعٌ متروك يوشك أن يضمحلّ ويزول، فخذوا من هذا المتاع واعملوا فيه بطاعة الله ما استطعتم والله المستعان.
اللغَة: ﴿الألباب﴾ العقول ﴿بَاطِلاً﴾ عبثاً بدون حكمة ﴿سُبْحَانَكَ﴾ تنزيهٌ لله عن السوء ﴿أَخْزَيْتَهُ﴾ أذللته وأهنته ﴿وَكَفِّرْ عَنَّا﴾ استر وامح ﴿الأبرار﴾ جمع بر أو ارّ وهم المستمسكون بالشريعة ﴿فاستجاب﴾ بمعنى أجاب ﴿نُزُلاً﴾ النُّزُل: ما يهيأ للنزيل وهو الضيف من أنواع الإِكرام ﴿رَابِطُواْ﴾ المرابطة: ترصد العدو في الثغور.
التفسِير: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السماوات والأرض﴾ أي إِن في خلق السماوات والأرض على ما بهما من إِحكام وإٍبداع ﴿واختلاف اليل والنهار﴾ أي وتعاقب الليل والنهار على الدوام ﴿لآيَاتٍ لأُوْلِي الألباب﴾ أي علامات واضحة على الصانع وباهر حكمته، ولا يظهر ذلك إِلا لذوي العقول الذين ينظرون إِلى الكون بطريق التفكر والاستدلال لا كما تنظر البهائم، ثم وصف تعالى أولي الألباب فقال ﴿الذين يَذْكُرُونَ الله قِيَاماً وَقُعُوداً وعلى جُنُوبِهِمْ﴾ أي يذكرون الله بألسنتهم وقلوبهم في جميع الأحوال في حال القيام والقعود والاضطجاع فلا يغفلون عنه تعالى في عامة أوقاتهم، لاطمئنان
﴿إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ﴾ [النساء: ٣١] فلا تكرار إِذاً ﴿رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا على رُسُلِكَ﴾ تكرير النداء للتضرع ولإِظهار كمال الخضوع أي أعطنا ما وعدتنا على ألسنة رسلك وهي الجنة لمن أطاع قاله ابن عباس ﴿وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ القيامة﴾ أي لا تفضحنا كما فضحت الكفار ﴿رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا على رُسُلِكَ﴾ أي لا تخلف وعدك وقد وعدت من آمن بالجنة ﴿إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الميعاد﴾ أي لا تخلف وعدك وقد وعدت من آمن بالجنة ﴿فاستجاب لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنْكُمْ مِّن ذَكَرٍ أَوْ أنثى﴾ أي أجاب الله دعاءهم بقوله إِني لا أُبطل عمل من عمل خيراً ذكراً كان العامل أو أُنثى قال الحسن: مازالوا يقولون ربنا، ربنا، حتى استجاب لهم ﴿بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ﴾ أي الذكر من الأنثى، والأنثى من الذكر، فإِذا كنتم مشتركين في الأصل فكذلك أنتم مشتركون في الأجر ﴿فالذين هَاجَرُواْ وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ﴾ أي هجروا أوطانهم فارين بدينهم، وألجأهم المشركون إِلى الخروج من الديار ﴿وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي﴾ أي تحملوا الأذى من أجل دين الله ﴿وَقَاتَلُواْ وَقُتِلُواْ﴾ أي وقاتلوا أعدائي وقتلوا في سبيلي ﴿لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ﴾ أي الموصوفون بما تقدم لأمحونَّ ذنوبهم بمغفرتي ورحمتي ﴿وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار ثَوَاباً مِّن عِندِ الله﴾ أي ولأدخلنهم جنات النعيم جزاءً من عند الله على أعمالهم الصالحة ﴿والله عِندَهُ حُسْنُ الثواب﴾ أي عنده حسن الجزاء وهي الجنة التي فيها ما لا عينٌ رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، ثم نبه تعالى إِلى ما عليه الكفار في هذا الدار من النعمة والغبطة والسرور، وبيَّن أنه نعيم زائل فقال ﴿لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الذين كَفَرُواْ فِي البلاد﴾ أي لا يخدعنك أيها السامع تنقل الذين كفروا في البلاد طلباً لكسب الأموال والجاه والرتب ﴿مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المهاد﴾ أي إِنما يتنعمون بذلك قليلاً ثم يزول هذا النعيم، ومصيرهم في الآخرة إِلى النار، وبئس الفراش والقرار نار جهنم. {لَكِنِ الذين اتقوا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن
البَلاَغَة: تضمنت هذه الآيات من ضروب البيان والبديع ما يلي:
١ - الإِطناب في قوله ﴿رَبَّنَآ﴾ حيث كرر خمس مرات والغرض منه المبالغة في التضرع.
٢ - الطباق في قوله ﴿السماوات والأرض﴾ و ﴿اليل والنهار﴾ و ﴿قِيَاماً وَقُعُوداً﴾ و ﴿ذَكَرٍ أَوْ أنثى﴾.
٣ - الإِيجاز بالحذف ﴿مَا وَعَدتَّنَا على رُسُلِكَ﴾ أي على ألسنة رسلك وكذلك في قوله ﴿وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السماوات والأرض﴾ أي قائلين ربنا.
٤ - الجناس المغاير في قوله ﴿آمِنُواْ | فَآمَنَّا﴾ وفي ﴿عَمَلَ عَامِلٍ﴾ وفي ﴿مُنَادِياً يُنَادِي﴾. |
٦ - الاستعارة في قوله ﴿لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الذين كَفَرُواْ﴾ استعير التقلب للضرب في الأرض لطلب المكاسب والله أعلم.
الفوَائِدَ: الأولى: إِنما خصص التفكر بالخلق للنهي عن التفكر في الخالق ففي الحديث الشريف «
الثانية: تكرر النداء بهذا الاسم الجليل ﴿رَبَّنَآ﴾ خمس مرات كل ذلك على سبيل الاستعطاف وتطلب رحمة الله بندائه بهذا الاسم الشريف الدال على التربية والملك والإِصلاح.
الثالثة: سئلت السيدة عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها عن أعجب ما رأته من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فبكت وقالت: كل أمره كان عجباً،
«أتاني في ليلتي حتى مسَّ جلده جلدي ثم قال» ذريني أتعبد لربي عَزَّ وَجَلَّ «فقلت: والله إِني لأحب قربك وأحب هواك، فقام إِلى قربة من ماء في البيت فتوضأ ولم يكثر صبّ الماء ثم قام يصلي فبكى حتى بلّ لحيته، ثم سجد فبكى حتى بلّ الأرض، ثم اضطجع على جنبه فبكى حتى إذا أتى بلال يؤذنه بصلاة البح فقال يا رسول الله: ما يبكيك وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فقال» ويحك يا بلال وما يمنعني أن أبكر وقد أنزل الله عليَّ في هذه الليلة ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السماوات والأرض....﴾ الآيات ثم قال: ويلٌ لمن قرأها ولم يتفكر فيها «».
سورة آل عمران
اتصَلتْ سورةُ (آلِ عِمْرانَ) من حيث الفضلُ بسورةِ (البقرة)؛ فقد وصَفهما الرسولُ ﷺ بـ (الزَّهْراوَينِ)؛ لِما احتوتا عليه من نورٍ وهداية.
وجاءت هذه السُّورةُ ببيانِ هداية هذا الكتابِ للناس، متضمِّنةً الحوارَ مع أهل الكتاب، مُحاجِجَةً إياهم في صِدْقِ هذا الدِّين وعلوِّه على غيره، مبرهنةً لصِدْقِ النبي ﷺ بهذه الرسالة، وهَيْمنةِ هذا الدِّينِ على غيره، ونَسْخِه للأديان الأخرى؛ فمَن ابتغى غيرَ الإسلام فأمرُه ردٌّ غيرُ مقبولٍ، كما أشارت إلى غزوةِ (أُحُدٍ)، وأمرِ المسلمين بالثَّبات على هذا الدِّين.
ترتيبها المصحفي
3نوعها
مدنيةألفاظها
3501ترتيب نزولها
89العد المدني الأول
200العد المدني الأخير
200العد البصري
200العد الكوفي
200العد الشامي
200* قوله تعالى: {إِنَّ اْلَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اْللَّهِ وَأَيْمَٰنِهِمْ ثَمَنٗا قَلِيلًا أُوْلَٰٓئِكَ لَا خَلَٰقَ لَهُمْ فِي اْلْأٓخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اْللَّهُ وَلَا يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ اْلْقِيَٰمَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٞ} [آل عمران: 77]:
ورَد عن عبدِ اللهِ بن مسعودٍ - رضي الله عنه -، عن النبيِّ ﷺ، قال: «مَن حلَفَ على يمينٍ يقتطِعُ بها مالَ امرئٍ مسلمٍ، وهو فيها فاجرٌ: لَقِيَ اللهَ وهو عليه غضبانُ»، ثم أنزَلَ اللهُ تصديقَ ذلك: {إِنَّ اْلَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اْللَّهِ وَأَيْمَٰنِهِمْ ثَمَنٗا قَلِيلًا أُوْلَٰٓئِكَ لَا خَلَٰقَ لَهُمْ فِي اْلْأٓخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اْللَّهُ وَلَا يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ اْلْقِيَٰمَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٞ} [آل عمران: 77]، ثم إنَّ الأشعَثَ بنَ قيسٍ خرَجَ إلينا، فقال: ما يُحدِّثُكم أبو عبدِ الرَّحمنِ؟ قال: فحدَّثْناه، قال: فقال: صدَقَ؛ لَفِيَّ نزَلتْ، كانت بيني وبين رجُلٍ خصومةٌ في بئرٍ، فاختصَمْنا إلى رسولِ اللهِ ﷺ، فقال رسولُ اللهِ ﷺ: «شاهِدَاكَ أو يمينُهُ»، قلتُ: إنَّه إذًا يَحلِفُ ولا يُبالي، فقال رسولُ اللهِ ﷺ: «مَن حلَفَ على يمينٍ يستحِقُّ بها مالًا، وهو فيها فاجرٌ: لَقِيَ اللهَ وهو عليه غضبانُ»، ثم أنزَلَ اللهُ تصديقَ ذلك، ثم اقترَأَ هذه الآيةَ: {إِنَّ اْلَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اْللَّهِ وَأَيْمَٰنِهِمْ ثَمَنٗا قَلِيلًا} إلى قوله: {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٞ} [آل عمران: 77]. أخرجه البخاري (٢٣٥٦).
* قوله تعالى: {كَيْفَ يَهْدِي اْللَّهُ قَوْمٗا كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَٰنِهِمْ وَشَهِدُوٓاْ أَنَّ اْلرَّسُولَ حَقّٞ وَجَآءَهُمُ اْلْبَيِّنَٰتُۚ وَاْللَّهُ لَا يَهْدِي اْلْقَوْمَ اْلظَّٰلِمِينَ ٨٦ أُوْلَٰٓئِكَ جَزَآؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اْللَّهِ وَاْلْمَلَٰٓئِكَةِ وَاْلنَّاسِ أَجْمَعِينَ ٨٧ خَٰلِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ اْلْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنظَرُونَ ٨٨ إِلَّا اْلَّذِينَ تَابُواْ مِنۢ بَعْدِ ذَٰلِكَ وَأَصْلَحُواْ فَإِنَّ اْللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٌ} [آل عمران: 86-89]:
صحَّ عن عبدِ اللهِ بن عباسٍ - رضي الله عنهما -، قال: «كان رجُلٌ مِن الأنصارِ أسلَمَ، ثم ارتَدَّ ولَحِقَ بالشِّرْكِ، ثم نَدِمَ، فأرسَلَ إلى قومِه: سَلُوا رسولَ اللهِ ﷺ: هل لي مِن توبةٍ؟ فجاء قومُهُ إلى رسولِ اللهِ ﷺ، فقالوا: إنَّ فلانًا قد نَدِمَ، وإنَّه قد أمَرَنا أن نسألَك: هل له مِن توبةٍ؟ فنزَلتْ: {كَيْفَ يَهْدِي اْللَّهُ قَوْمٗا كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَٰنِهِمْ} [آل عمران: 86] إلى {غَفُورٞ رَّحِيمٌ} [آل عمران: 89]، فأرسَلَ إليه قومُهُ، فأسلَمَ». أخرجه النسائي (٤٠٧٩).
* قوله تعالى: {وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنتُمْ تُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ ءَايَٰتُ اْللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُۥۗ وَمَن يَعْتَصِم بِاْللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسْتَقِيمٖ ١٠١ يَٰٓأَيُّهَا اْلَّذِينَ ءَامَنُواْ اْتَّقُواْ اْللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِۦ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ١٠٢ وَاْعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اْللَّهِ جَمِيعٗا وَلَا تَفَرَّقُواْۚ وَاْذْكُرُواْ نِعْمَتَ اْللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَآءٗ فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِۦٓ إِخْوَٰنٗا وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٖ مِّنَ اْلنَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَاۗ} [آل عمران: 101-103]:
عن عبدِ اللهِ بن عباسٍ - رضي الله عنهما -، قال: «كان الأَوْسُ والخَزْرجُ يَتحدَّثون، فغَضِبوا، حتى كان بينهم حربٌ، فأخَذوا السِّلاحَ بعضُهم إلى بعضٍ؛ فنزَلتْ: {وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنتُمْ تُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ ءَايَٰتُ اْللَّهِ} [آل عمران: 101] إلى قوله تعالى: {فَأَنقَذَكُم مِّنْهَاۗ} [آل عمران: 103]. "المعجم الكبير" للطبراني (١٢٦٦٦).
* قوله تعالى: {لَيْسَ لَكَ مِنَ اْلْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَٰلِمُونَ} [آل عمران: 128]:
صحَّ عن أبي هُرَيرةَ - رضي الله عنه - أنَّه قال: «كان رسولُ اللهِ ﷺ يقولُ حين يفرُغُ مِن صلاةِ الفجرِ مِن القراءةِ ويُكبِّرُ ويَرفَعُ رأسَه: «سَمِعَ اللهُ لِمَن حَمِدَه، ربَّنا ولك الحمدُ»، ثم يقولُ وهو قائمٌ: «اللهمَّ أنْجِ الوليدَ بنَ الوليدِ، وسلَمةَ بنَ هشامٍ، وعيَّاشَ بنَ أبي ربيعةَ، والمستضعَفِينَ مِن المؤمنين، اللهمَّ اشدُدْ وَطْأتَك على مُضَرَ، واجعَلْها عليهم كَسِنِي يوسُفَ، اللهمَّ العَنْ لِحْيانَ، ورِعْلًا، وذَكْوانَ، وعُصَيَّةَ؛ عصَتِ اللهَ ورسولَه»، ثم بلَغَنا أنَّه ترَكَ ذلك لمَّا أُنزِلَ: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ أوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإنَّهُمْ ظالِمُونَ}». أخرجه مسلم (675).
وعن عبدِ اللهِ بن عُمَرَ - رضي الله عنهما -: أنَّه سَمِعَ رسولَ اللهِ ﷺ إذا رفَعَ رأسَه مِن الرُّكوعِ مِن الركعةِ الآخِرةِ مِن الفجرِ يقولُ: «اللهمَّ العَنْ فلانًا وفلانًا وفلانًا» بعدما يقولُ: «سَمِعَ اللهُ لِمَن حَمِدَه، ربَّنا ولك الحمدُ»؛ فأنزَلَ اللهُ: {لَيْسَ لَكَ مِنَ اْلْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَٰلِمُونَ} [آل عمران: 128]. أخرجه البخاري (٤٠٦٩).
* قوله تعالى: {ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّنۢ بَعْدِ اْلْغَمِّ أَمَنَةٗ نُّعَاسٗا يَغْشَىٰ طَآئِفَةٗ مِّنكُمْۖ وَطَآئِفَةٞ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ} [آل عمران: 154]:
عن أنسِ بن مالكٍ - رضي الله عنه -، أنَّ أبا طَلْحةَ قال: «غَشِيَنا النُّعَاسُ ونحن في مَصافِّنا يومَ أُحُدٍ، قال: فجعَلَ سيفي يسقُطُ مِن يدي وآخُذُه، ويسقُطُ وآخُذُه؛ وذلك قولُه عز وجل: {ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّنۢ بَعْدِ اْلْغَمِّ أَمَنَةٗ نُّعَاسٗا يَغْشَىٰ طَآئِفَةٗ مِّنكُمْۖ وَطَآئِفَةٞ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ} [آل عمران: 154]، والطائفةُ الأخرى: المنافقون، ليس لهم إلا أنفسُهم؛ أجبَنُ قومٍ وأرعَبُهُ، وأخذَلُهُ للحقِّ». أخرجه البخاري (٤٠٦٨).
* قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَغُلَّۚ وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ اْلْقِيَٰمَةِۚ ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٖ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [آل عمران: 161]:
صحَّ عن عبدِ اللهِ بن عباسٍ - رضي الله عنهما - أنَّه قال: «نزَلتْ هذه الآيةُ: {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَغُلَّۚ} في قَطيفةٍ حَمْراءَ فُقِدتْ يومَ بدرٍ، فقال بعضُ الناسِ: لعلَّ رسولَ اللهِ - ﷺ - أخَذَها؛ فأنزَلَ اللهُ: {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَغُلَّۚ وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ اْلْقِيَٰمَةِۚ ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٖ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [آل عمران: 161]». أخرجه أبو داود (٣٩٧١).
* قوله تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ اْلَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اْللَّهِ أَمْوَٰتَۢاۚ بَلْ أَحْيَآءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169]:
عن مسروقٍ، قال: سأَلْنا عبدَ اللهِ - هو ابنُ مسعودٍ رضي الله عنه - عن هذه الآيةِ: {وَلَا تَحْسَبَنَّ اْلَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اْللَّهِ أَمْوَٰتَۢاۚ بَلْ أَحْيَآءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ}، قال: «أمَا إنَّا قد سأَلْنا عن ذلك، فقال: أرواحُهم في جوفِ طيرٍ خُضْرٍ، لها قناديلُ معلَّقةٌ بالعرشِ، تَسرَحُ مِن الجَنَّةِ حيث شاءت، ثم تَأوي إلى تلك القناديلِ، فاطَّلَعَ إليهم ربُّهم اطِّلاعةً، فقال: هل تشتهون شيئًا؟ قالوا: أيَّ شيءٍ نشتهي ونحن نَسرَحُ في الجَنَّةِ حيث شِئْنا؟! ففعَلَ ذلك بهم ثلاثَ مرَّاتٍ، فلمَّا رأَوْا أنَّهم لن يُترَكوا مِن أن يَسألوا، قالوا: يا ربُّ، نريدُ أن ترُدَّ أرواحَنا في أجسادِنا؛ حتى نُقتَلَ في سبيلِك مرَّةً أخرى، فلمَّا رأى أنْ ليس لهم حاجةٌ، تُرِكوا». أخرجه مسلم (١٨٨٧).
سُمِّيتْ (آلُ عِمْرانَ) بهذا الاسم لذِكْرِ (آلِ عِمْرانَ) فيها، وثبَت لها اسمٌ آخَرُ؛ وهو (الزَّهْراءُ):
لِما جاء في حديث أبي أُمامةَ الباهليِّ رضي الله عنه، قال: سَمِعْتُ رسولَ الله ﷺ يقولُ: «اقرَؤُوا الزَّهْراوَينِ: البقرةَ، وسورةَ آلِ عِمْرانَ». أخرجه مسلم (804).
يقول ابنُ منظورٍ: «والزَّهْراوانِ: أي: المُنِيرتانِ المُضِيئتانِ، واحدتها: زَهْراءُ». لسان العرب (4 /332).
وقد عدَّ بعضُ العلماء أنَّ ذِكْرَ (الزَّهْراوانِ) في هذا الحديثِ هو من بابِ الوصف، لا التسمية. انظر: "التحرير والتنوير" لابن عاشور (3 /143)، "التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (1 /20).
* تُحاجُّ عن صاحبِها:
صحَّ عن أبي أُمامةَ الباهليِّ رضي الله عنه، قال: سَمِعْتُ رسولَ اللهِ ﷺ يقولُ: «اقرَؤُوا القرآنَ؛ فإنَّه يأتي يومَ القيامةِ شفيعًا لأصحابِه؛ اقرَؤُوا الزَّهْراوَينِ: البقرةَ، وسورةَ آلِ عِمْرانَ؛ فإنَّهما تأتيانِ يومَ القيامةِ كأنَّهما غَمَامتانِ، أو كأنَّهما غَيَايتانِ، أو كأنَّهما فِرْقانِ مِن طيرٍ صوافَّ، تُحاجَّانِ عن أصحابِهما، اقرَؤُوا سورةَ البقرةِ؛ فإنَّ أَخْذَها برَكةٌ، وتَرْكَها حَسْرةٌ، ولا تستطيعُها البَطَلةُ». أخرجه مسلم (804).
* كان يعظُمُ بين الصحابةِ قارئُ سورةِ (آلِ عِمْرانَ):
فعن أنسٍ رضي الله عنه، قال: «كان الرَّجُلُ إذا قرَأ البقرةَ وآلَ عِمْرانَ، جَدَّ فينا - يعني: عظُمَ -»، وفي روايةٍ: «يُعَدُّ فينا عظيمًا»، وفي أخرى: «عُدَّ فينا ذا شأنٍ». أخرجه أحمد (12236).
* ورَدتْ قراءتُه ﷺ لسورة (آل عِمْران) في قيام الليل:
فعن حُذَيفةَ بن اليمانِ رضي الله عنهما، قال: «صلَّيْتُ مع رسولِ اللهِ ﷺ ذاتَ ليلةٍ، فاستفتَحَ بسورةِ البقرةِ، فقرَأَ بمائةِ آيةٍ لم يَركَعْ، فمضى، قلتُ: يَختِمُها في الرَّكعتَينِ، فمضى، قلتُ: يَختِمُها ثم يَركَعُ، فمضى حتى قرَأَ سورةَ النِّساءِ، ثم قرَأَ سورةَ آلِ عِمْرانَ، ثم ركَعَ نحوًا مِن قيامِهِ، يقولُ في ركوعِهِ: سبحانَ ربِّيَ العظيمِ، سبحانَ ربِّيَ العظيمِ، سبحانَ ربِّيَ العظيمِ، ثم رفَعَ رأسَهُ، فقال: سَمِعَ اللهُ لِمَن حَمِدَه، ربَّنا لك الحمدُ، وأطال القيامَ، ثم سجَدَ، فأطال السُّجودَ، يقولُ في سجودِهِ: سبحانَ ربِّيَ الأعلى، سبحانَ ربِّيَ الأعلى، سبحانَ ربِّيَ الأعلى، لا يمُرُّ بآيةِ تخويفٍ أو تعظيمٍ للهِ عز وجل إلا ذكَرَهُ». أخرجه النسائي (١١٣٢).
* كان النبيُّ ﷺ يَقرأُ خواتمَها منتصَفَ الليلِ عندما يستيقظُ مِن نومِه:
فممَّا صحَّ عن عبدِ اللهِ بن عباسٍ رضي الله عنهما: أنَّه باتَ عند مَيْمونةَ زَوْجِ النبيِّ ﷺ - وهي خالتُهُ -، قال: «فاضطجَعْتُ في عَرْضِ الوِسادَةِ، واضطجَعَ رسولُ اللهِ ﷺ وأهلُهُ في طُولِها، فنامَ رسولُ اللهِ ﷺ حتى انتصَفَ الليلُ - أو قَبْله بقليلٍ، أو بعده بقليلٍ -، ثم استيقَظَ رسولُ اللهِ ﷺ، فجعَلَ يَمسَحُ النَّوْمَ عن وجهِهِ بيدَيهِ، ثم قرَأَ العَشْرَ الآياتِ الخواتِمَ مِن سُورةِ آلِ عِمْرانَ، ثم قامَ إلى شَنٍّ معلَّقةٍ، فتوضَّأَ منها، فأحسَنَ وُضُوءَهُ، ثم قامَ يُصلِّي، فصنَعْتُ مِثْلَ ما صنَعَ، ثُمَّ ذهَبْتُ فقُمْتُ إلى جَنْبِهِ، فوضَعَ رسولُ اللهِ ﷺ يَدَهُ اليُمْنى على رَأْسي، وأخَذَ بأُذُني بيدِهِ اليُمْنى يَفتِلُها، فصلَّى ركعتَينِ، ثم ركعتَينِ، ثم ركعتَينِ، ثم ركعتَينِ، ثم ركعتَينِ، ثم ركعتَينِ، ثم أوتَرَ، ثم اضطجَعَ حتى جاءه المؤذِّنُ، فقامَ فصلَّى ركعتَينِ خفيفتَينِ، ثم خرَجَ فصلَّى الصُّبْحَ». أخرجه البخاري (٤٥٧١).
جاءت مواضيعُ سورةِ (آل عِمْرانَ) مُرتَّبةً على النحوِ الآتي:
مقدِّمات للحوار مع النَّصارى (١-٣٢).
إنزال الكتاب هدايةً للناس (١-٩).
تحذير الكافرين وحقيقةُ الدنيا (١٠-١٨).
انتقال الرسالة لأمَّة الإسلام (٢٩-٣٢).
اصطفاء الله تعالى لرُسلِه (٣٣-٤٤).
حقيقة عيسى عليه السلام (٤٥-٦٣).
الإسلام هو دِين الحقِّ، وهو دِينُ جميع الأنبياء (٦٤-٩٩).
إبراهيم عليه السلام كان حنيفًا مسلمًا (٦٤-٦٨).
مخاطبة فِرَق أهل الكتاب، وبيان حقائقهم (٦٩-٨٠).
وَحْدة الرسالات، والدِّين الحق هو الإسلام (٨١- ٩٢).
صلة المسلمين بإبراهيم، وافتراء أهل الكتاب (٩٣-٩٩).
بيان خَيْرية هذه الأمَّة، وتحذيرها من أعدائها (١٠٠-١٢٠).
التحذير من الوقوع في أخطاء السابقين (١٠٠-١٠٩).
خيرية هذه الأمَّة وفضلها (١١٠-١١٥).
تحذير الأمَّة من المنافقين (١١٦-١٢٠).
معركة (أُحُد) (١٢١-١٤٨).
مقدِّمات معركة (أُحُد) (١٢١-١٢٩).
أهمية الطاعة ومواعظُ (١٣٠-١٣٨).
تعزية المسلمين، والنهيُ عن الهوان (١٣٩-١٤٨).
دروس مستفادة من الهزيمة (١٤٩-١٨٩).
التحذير من طاعة الأعداء والتنازل (١٤٩-١٥٨).
أهمية الشورى وطاعة الرسول (١٥٩-١٦٤).
أسباب الهزيمة وفوائدها (١٦٥-١٧٩).
تحذير المنافقين والبخلاء (١٨٠-١٨٩).
أولو الألباب يستفيدون من الآيات الكونية (١٩٠-١٩٥).
الأمورُ بخواتيمها (١٩٦-٢٠٠).
ينظر: "التفسير الموضوعي للقرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (1 /426).
افتُتِحت السُّورةُ بمقصدٍ عظيمٍ؛ وهو التنويهُ بالقرآن، وبمحمَّدٍ ﷺ، وتقسيمُ آيات القرآن، ومراتبُ الأفهام في تَلقِّيها، والتنويهُ بفضيلة الإسلام، وأنه لا يَعدِله دِينٌ، وأنه لا يُقبَل دِينٌ عند الله بعد ظهور الإسلام غيرُ الإسلام.
ومِن مقاصدِها: مُحاجَّةُ أهلِ الكتابينِ في حقيقة الحنيفيَّة، وأنهم بُعَداءُ عنها، وما أخَذ اللهُ من العهد على الرُّسلِ كلِّهم: أن يؤمنوا بالرسول الخاتم.
واشتملت على أمرِ المسلمين بفضائلِ الأعمال: مِن بذلِ المال في مواساة الأمَّة، والإحسان، وفضائل الأعمال، وتركِ البخل، ومَذمَّةِ الربا.
وخُتِمت السُّورةُ بآياتِ التفكير في ملكوت الله.
ينظر: "التحرير والتنوير" لابن عاشور (3 /145).