تفسير سورة سبأ

أحكام القرآن

تفسير سورة سورة سبأ من كتاب أحكام القرآن
لمؤلفه ابن العربي . المتوفي سنة 543 هـ
سورة سبأ
مكية فيها ثلاث آيات

الْآيَةُ الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى :﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُد مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ ﴾.
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْلُهُ :﴿ فَضْلًا ﴾ : فِيهِ ] أَرْبَعَةَ عَشَرَ قَوْلًا :
الْأَوَّلُ : النُّبُوَّةُ.
الثَّانِي : الزَّبُورُ.
الثَّالِثُ : حُسْنُ الصَّوْتِ.
الرَّابِعُ : تَسْخِيرُ الْجِبَالِ وَالنَّاسِ.
الْخَامِسُ : التَّوْبَةُ.
السَّادِسُ : الزِّيَادَةُ فِي الْعُمْرِ.
السَّابِعُ : الطَّيْرُ.
الثَّامِنُ : الْوَفَاءُ بِمَا وُعِدَ.
التَّاسِعُ : حُسْنُ الْخُلُقِ.
الْعَاشِرُ : الْحُكْمُ بِالْعَدْلِ.
الْحَادِيَ عَشَرَ : تَيْسِيرُ الْعِبَادَةِ.
الثَّانِيَ عَشَرَ : الْعِلْمُ ؛ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى :﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُد وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا ﴾.
الثَّالِثَ عَشَرَ : الْقُوَّةُ ؛ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى :﴿ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُد ذَا الْأَيْدِ إنَّهُ أَوَّابٌ ﴾.
الرَّابِعَ عَشَرَ : قَوْلُهُ :﴿ وَأُوتِينَا من كُلِّ شَيْءٍ ﴾.
وَالْمُرَادُ هَاهُنَا من جُمْلَةِ الْأَقْوَالِ حُسْنُ الصَّوْتِ ؛ فَإِنَّ سَائِرَهَا قَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مَوْضِعِهِ فِي كِتَابِ الْأَنْبِيَاءِ من الْمُشْكِلَيْنِ. وَكَانَ دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَامُ ذَا صَوْتٍ حَسَنٍ وَوَجْهٍ حَسَنٍ، وَلَهُ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ :«لَقَدْ أُوتِيت مِزْمَارًا من مَزَامِيرِ آلِ دَاوُد »، وَهِيَ :
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : وَفِيهِ دَلِيلُ الْإِعْجَابِ بِحُسْنِ الصَّوْتِ، وَقَدْ رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُغَفَّلٍ، قَالَ :«رَأَيْت النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ عَلَى نَاقَتِهِ أَوْ جَمَلِهِ وَهِيَ تَسِيرُ بِهِ، وَهُوَ يَقْرَأُ سُورَةَ الْفَتْحِ -أَوْ من سُورَةِ الْفَتْحِ- قِرَاءَةً لَيِّنَةً وَهُوَ يُرَجِّعُ، وَيَقُولُ آهٍ، وَاسْتَحْسَنَ كَثِيرٌ من فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ الْقِرَاءَةَ بِالْأَلْحَانِ وَالتَّرْجِيعِ، وَكَرِهَهُ مَالِكٌ ». وَهُوَ جَائِزٌ لِقَوْلِ أَبِي مُوسَى لِلنَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ : لَوْ عَلِمْت أَنَّك تَسْمَعُ لَحَبَّرْته لَك تَحْبِيرًا ؛ يُرِيدُ لَجَعَلْته لَك أَنْوَاعًا حِسَانًا، وَهُوَ التَّلْحِينُ، مَأْخُوذٌ من الثَّوْبِ الْمُحَبَّرِ، وَهُوَ الْمُخَطَّطُ بِالْأَلْوَانِ.
وَقَدْ سَمِعْت تَاجَ الْقُرَّاءِ ابْنَ لُفْتَةَ بِجَامِعِ عَمْرٍو يَقْرَأُ :﴿ وَمِن اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَك ﴾. فَكَأَنِّي مَا سَمِعْت الْآيَةَ قَطُّ.
وَسَمِعْت ابْنَ الرَّفَّاءِ -وَكَانَ من الْقُرَّاءِ الْعِظَامِ- يَقْرَأُ، وَأَنَا حَاضِرٌ بِالْقَرَافَةِ : كهيعص، فَكَأَنِّي مَا سَمِعْتهَا قَطُّ.
وَسَمِعْت بِمَدِينَةِ السَّلَامِ شَيْخَ الْقُرَّاءِ الْبَصْرِيِّينَ يَقْرَأُ فِي دَارٍ بِهَا الْمَلِكُ :﴿ وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ ﴾، فَكَأَنِّي مَا سَمِعْتهَا قَطُّ حَتَّى بَلَغَ إلَى قَوْله تَعَالَى :﴿ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ ﴾ فَكَأَنَّ الْإِيوَانَ قَدْ سَقَطَ عَلَيْنَا. وَالْقُلُوبُ تَخْشَعُ بِالصَّوْتِ الْحَسَنِ كَمَا تَخْضَعُ لِلْوَجْهِ الْحَسَنِ، وَمَا تَتَأَثَّرُ بِهِ الْقُلُوبُ فِي التَّقْوَى فَهُوَ أَعْظَمُ فِي الْأَجْرِ وَأَقْرَبُ إلَى لِينِ الْقُلُوبِ وَذَهَابِ الْقَسْوَةِ مِنْهَا.
وَكَانَ ابْنُ الْكَازَرُونِيِّ يَأْوِي إلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى، ثُمَّ تَمَتَّعْنَا بِهِ ثَلَاثَ سَنَوَاتٍ، وَلَقَدْ كَانَ يَقْرَأُ فِي مَهْدِ عِيسَى فَيُسْمَعُ من الطُّورِ، فَلَا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَصْنَعَ شَيْئًا طُولَ قِرَاءَتِهِ إلَّا الِاسْتِمَاعَ إلَيْهِ.
وَكَانَ صَاحِبُ مِصْرَ الْمُلَقَّبُ بِالْأَفْضَلِ قَدْ دَخَلَهَا فِي الْمُحَرَّمِ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَتِسْعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ وَحَوَّلَهَا عَنْ أَيْدِي الْعَبَّاسِيَّةِ، وَهُوَ حَنَقَ عَلَيْهَا وَعَلَى أَهْلِهَا بِحِصَارِهِ لَهُمْ وَقِتَالِهِمْ لَهُ، فَلَمَّا صَارَ فِيهَا، وَتَدَانَى بِالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى مِنْهَا، وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ تَصَدَّى لَهُ ابْنُ الْكَازَرُونِيِّ، وَقَرَأَ :﴿ قُلْ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِك الْخَيْرُ إنَّك عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ فَمَا مَلَكَ نَفْسَهُ حِينَ سَمِعَهُ أَنْ قَالَ لِلنَّاسِ عَلَى عِظَمِ ذَنْبِهِمْ عِنْدَهُ، وَكَثْرَةِ حِقْدِهِ عَلَيْهِمْ :﴿ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمْ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ﴾.
وَالْأَصْوَاتُ الْحَسَنَةُ نِعْمَةٌ من اللَّهِ تَعَالَى، وَزِيَادَةٌ فِي الْخَلْقِ وَمِنَّةٌ. وَأَحَقُّ مَا لُبِّسَتْ هَذِهِ الْحُلَّةُ النَّفِيسَةُ وَالْمَوْهِبَةُ الْكَرِيمَةُ كِتَابُ اللَّهِ ؛ فَنِعَمُ اللَّهِ إذَا صُرِفَتْ فِي الطَّاعَةِ فَقَدْ قُضِيَ بِهَا حَقُّ النِّعْمَةِ.
الْآيَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى :﴿ يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُد شُكْرًا وَقَلِيلٌ من عِبَادِي الشَّكُورُ ﴾.
فِيهَا سَبْعُ مَسَائِلَ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : الْمِحْرَابُ : هُوَ الْبِنَاءُ الْمُرْتَفِعُ الْمُمْتَنِعُ، وَمِنْهُ يُسَمَّى الْمِحْرَابُ فِي الْمَسْجِدِ ؛ لِأَنَّهُ أَرْفَعُهُ، أَنْشَدَ فَقِيهُ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى عَطَاءٌ الصُّوفِيُّ :
جَمَعَ الشَّجَاعَةَ وَالْخُضُوعَ لِرَبِّهِ مَا أَحْسَنَ الْمِحْرَابَ فِي الْمِحْرَابِ
وَالْجِفَانُ أَكْبَرُ الصِّحَافِ قَالَ الشَّاعِرُ :
يَا جَفْنَةً بِإِزَاءِ الْحَوْضِ قَدْ كُفِئَتْ وَمَنْطِقًا مِثْلَ وَشْيِ الْبُرْدَةِ الْخَضِرِ
وَالْجَوَابِي جَمْعُ جَابِيَةٍ، وَهِيَ الْحَوْضُ الْعَظِيمُ الْمَصْنُوعُ، قَالَ الشَّاعِرُ يَصِفُ جَفْنَةً :*كَجَابِيَةِ الشَّيْخِ الْعِرَاقِيِّ تَفْهَقُ*
﴿ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ ﴾ يَعْنِي ثَابِتَاتٍ ؛ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى :﴿ وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا ﴾.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ - شَاهَدْت مِحْرَابَ دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ بِنَاءً عَظِيمًا من حِجَارَةٍ صَلْدَةٍ لَا تُؤَثِّرُ فِيهَا الْمَعَاوِلُ، طُولُ الْحَجَرِ خَمْسُونَ ذِرَاعًا، وَعَرْضُهُ ثَلَاثَةَ عَشَرَ ذِرَاعًا، وَكُلَّمَا قَامَ بِنَاؤُهُ صَغُرَتْ حِجَارَتُهُ، وَيُرَى لَهُ ثَلَاثَةُ أَسْوَارٍ ؛ لِأَنَّهُ فِي السَّحَابِ أَيَّامَ الشِّتَاءِ كُلَّهَا لَا يَظْهَرُ لِارْتِفَاعِ مَوْضِعِهِ وَارْتِفَاعُهُ فِي نَفْسِهِ، لَهُ بَابٌ صَغِيرٌ وَمَدْرَجَةٌ عَرِيضَةٌ، وَفِيهِ الدُّورُ وَالْمَسَاكِنُ، وَفِي أَعْلَاهُ الْمَسْجِدُ، وَفِيهِ كُوَّةٌ شَرْقِيَّةٌ إلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى فِي قَدْرِ الْبَابِ، وَيَقُولُ النَّاسُ : إنَّهُ تَطَلَّعَ مِنْهَا عَلَى الْمَرْأَةِ حِينَ دَخَلَتْ عَلَيْهِ الْحَمَامَةُ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ فِي هَدْمِهِ حِيلَةٌ، وَفِيهِ نَجَا مَنْ نَجَا من الْمُسْلِمِينَ حِينَ دَخَلَهَا الرُّومُ حَتَّى صَالَحُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِأَنْ أَسْلَمُوهُ إلَيْهِمْ، عَلَى أَنْ يَسْلَمُوا فِي رِقَابِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، فَكَانَ ذَلِكَ، وَتَخَلَّوْا لَهُمْ عَنْهُ.
وَرَأَيْت فِيهِ غَرِيبَةَ الدَّهْرِ، وَذَلِكَ أَنَّ ثَائِرًا ثَارَ بِهِ عَلَى وَالِيهِ، وَامْتَنَعَ فِيهِ بِالْقُوتِ، فَحَصَرَهُ، وَحَاوَلَ قِتَالَهُ بِالنُّشَّابِ مُدَّةً، وَالْبَلَدُ عَلَى صِغَرِهِ مُسْتَمِرٌّ عَلَى حَالِهِ، مَا أُغْلِقَتْ لِهَذِهِ الْفِتْنَةِ سُوقٌ، وَلَا سَارَ إلَيْهَا من الْعَامَّةِ بَشَرٌ، وَلَا بَرَزَ لِلْحَالِ من الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى مُعْتَكِفٌ، وَلَا انْقَطَعَتْ مُنَاظَرَةٌ، وَلَا بَطَلَ التَّدْرِيسُ، وَإِنَّمَا كَانَتْ الْعَسْكَرِيَّةُ قَدْ تَفَرَّقَتْ فِرْقَتَيْنِ يَقْتَتِلُونَ، وَلَيْسَ عِنْدَ سَائِرِ النَّاسِ لِذَلِكَ حَرَكَةٌ، وَلَوْ كَانَ بَعْضُ هَذَا فِي بِلَادِنَا لَاضْطَرَمَتْ نَارُ الْحَرْبِ فِي الْبَعِيدِ وَالْقَرِيبِ، وَلَانْقَطَعَتْ الْمَعَايِشُ. وَغُلِّقَتْ الدَّكَاكِينُ، وَبَطَلَ التَّعَامُلُ لِكَثْرَةِ فُضُولِنَا وَقِلَّةِ فُضُولِهِمْ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ وَتَمَاثِيلَ ﴾، وَاحِدَتُهَا تِمْثَالٌ، وَهُوَ بِنَاءٌ غَرِيبٌ ؛ فَإِنَّ الْأَسْمَاءَ الَّتِي جَاءَتْ عَلَى " تِفْعَالٍ " قَلِيلَةٌ مُنْحَصِرَةٌ ؛ جِمَاعُهَا مَا أَخْبَرَنَا أَبُو الْمَعَالِي ثَابِتُ بْنُ بُنْدَارٍ، أَخْبَرَهُ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ رَزِيَّةَ، أَخْبَرَنَا الْقَاضِي أَبُو سَعِيدٍ، أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ دُرَيْدٍ قَالَ : رَجُلٌ تِكْلَامٌ : كَثِيرُ الْكَلَامِ وَتِلْقَامٌ : كَثِيرُ اللُّقَمِ، وَرَجُلٌ تِمْسَاحٌ : كَذَّابٌ، وَنَاقَةٌ تِضْرَابٌ : قَرِيبَةُ الْعَهْدِ بِالضِّرَابِ، وَالتِّمْرَادُ : بَيْتٌ صَغِيرٌ لِلْحَمَامِ. وَتِلْفَاقٌ. ثَوْبَانِ يُخَاطُ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ.
وَالتِّجْفَافُ : مَعْرُوفٌ. وَتِمْثَالٌ : مَعْرُوفٌ. وَتِبْيَانٌ : من الْبَيَانِ وَتِلْقَاءَ : قُبَالَتَك وَتِهْوَاءَ من اللَّيْلِ : قِطْعَةٌ. وَتِعْشَارٌ : مَوْضِعٌ. وَرَجُلٌ تِنْبَالٌ : قَصِيرٌ. وَتِلْعَابٌ : كَثِيرُ اللَّعِبِ. وَتِقْصَارٌ : قِلَادَةٌ. فَهَذِهِ سِتَّةَ عَشَرَ مِثَالًا.
فَلَمَّا قَرَأْت إصْلَاحَ الْمَنْطِقِ بِبَغْدَادَ عَلَى الشَّيْخِ الْأَجَلِّ الْخَطِيبِ رَئِيسِ اللُّغَةِ وَخَازِنِ دَارِ الْعِلْمِ أَبِي زَكَرِيَّا يَحْيَى بْنِ عَلِيٍّ التَّبْرِيزِيِّ قَالَ لِي : كُنْت أَقْرَأُ خُطَبَ ابْنِ نَبَاتَةَ عَلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْعَرَبِيِّ اللُّغَوِيِّ الْفَرَائِضِيِّ فَوَصَلْت إلَى قَوْلِهِ : وَتِذْكَارُهُمْ تُوَاصِلُ مَسِيلَ الْعَبَرَاتِ، وَقَرَأْته بِخَفْضِ التَّاءِ فَرَدَّ عَلَيَّ، وَقَالَ وَتَذْكَارُهُمْ بِفَتْحِهَا ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ تِفْعَالٌ إلَّا التِّلْقَاءَ وَإِلَّا التِّبْيَانَ، وَتِعْشَارٌ وَتِنْزَالٌ مَوْضِعَانِ، وَتِقْصَارٌ : قِلَادَةٌ. قَالَ لِي التَّبْرِيزِيُّ : ثُمَّ قَرَأْت خُطَبَ ابْنِ نَبَاتَةَ عَلَى بَعْضِ أَشْيَاخِي، فَلَمَّا وَصَلْت إلَى اللَّفْظِ وَذَكَرْت لَهُ كَلَامَ ابْنِ الْعَرَبِيِّ قَالَ لِي : اُكْتُبْ مَا أَمَلِي عَلَيْك. فَأَمْلَى عَلَيَّ : الْأَشْيَاءُ الَّتِي جَاءَتْ عَلَى تِفْعَالٍ ضَرْبَانِ : مَصَادِرُ وَأَسْمَاءٌ ؛ فَأَمَّا الْمَصَادِرُ فَالتِّلْقَاءُ وَالتِّبْيَانُ ؛ وَهُمَا فِي الْقُرْآنِ. وَالْأَسْمَاءُ : رَجُلٌ تِنْبَالٌ : أَيْ قَصِيرٌ. وَزَعَمَ قَوْمٌ أَنَّ التَّاءَ فِي تِنْبَالٍ أَصْلِيَّةٌ فَيَكُونُ وَزْنُهُ فِعْلَالًا. وَذَكَرَ مَا قَالَ ابْنُ دُرَيْدٍ وَزَادَ التِّنْضَالُ من الْمُنَاضَلَةِ [ والتِّيغَارُ حَبٌّ مَقْطُوعٌ يَزِيدُ فِي الْخَابِيَةِ، وَتِرْيَاعٌ : مَوْضِعٌ ]، وَالتِّرْبَانُ وَتِرْغَامٌ اسْمُ شَاعِرٍ، وَيُقَالُ جَاءَ لِتِنْفَاقِ الْهِلَالِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا، وَالتِّمْتَانُ وَاحِدُ التِّمْتَانَيْنِ، وَهِيَ خُيُوطٌ تُضْرَبُ بِهَا الْفُسْطَاطُ. وَرَجُلٌ تِمْزَاحٌ كَثِيرُ الْمُزَاحِ، وَالتِّمْسَاحُ الدَّابَّةُ الْمَعْرُوفَةُ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : التِّمْثَالُ عَلَى قِسْمَيْنِ حَيَوَانٌ وَمَوَاتٌ، وَالْمَوَاتُ عَلَى قِسْمَيْنِ : جَمَادٌ وَنَامٍ، وَقَدْ كَانَتْ الْجِنُّ تَصْنَعُ لِسُلَيْمَانَ جَمِيعَهُ، وَذَلِكَ مَعْلُومٌ من طَرِيقَيْنِ :
أَحَدُهُمَا عُمُومُ قَوْلِهِ :﴿ تَمَاثِيلَ ﴾.
وَالثَّانِي مَا رُوِيَ من طُرُقٍ عَدِيدَةٍ، أَصْلُهَا الإسرائليات ؛ لِأَنَّ التَّمَاثِيلَ من الطَّيْرِ كَانَتْ عَلَى كُرْسِيِّ سُلَيْمَانَ.
فَإِنْ قِيلَ : لَا عُمُومَ لِقَوْلِهِ :﴿ تَمَاثِيلَ ﴾ فَإِنَّهُ إثْبَاتٌ فِي نَكِرَةٍ، وَالْإِثْبَاتُ فِي النَّكِرَةِ لَا عُمُومَ لَهُ ؛ إنَّمَا الْعُمُومُ فِي النَّفْيِ فِي النَّكِرَةِ حَسْبَمَا قَرَرْتُمُوهُ فِي الْأُصُولِ.
قُلْنَا : كَذَلِكَ نَقُولُ، بَيْدَ أَنَّهُ قَدْ اُقْتُرِنَ بِهَذَا الْإِثْبَاتِ فِي النَّكِرَةِ مَا يَقْتَضِي حَمْلَهُ عَلَى الْعُمُومِ، وَهُوَ قَوْلُهُ :﴿ مَا يَشَاءُ ﴾ فَاقْتِرَانُ الْمَشِيئَةِ بِهِ يَقْتَضِي الْعُمُومَ لَهُ.
فَإِنْ قِيلَ : فَكَيْفَ شَاءَ عَمَلَ الصُّوَرِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا ؟
قُلْنَا : لَمْ يَرِدْ أَنَّهُ كَانَ مَنْهِيًّا عَنْهَا فِي شَرْعِهِ، بَلْ وَرَدَ عَلَى أَلْسِنَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ أَنَّهُ كَانَ أَمْرًا مَأْذُونًا فِيهِ، وَاَلَّذِي أُوجِبَ النَّهْيَ عَنْهُ فِي شَرْعِنَا - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - مَا كَانَتْ الْعَرَبُ عَلَيْهِ من عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ وَالْأَصْنَامِ، فَكَانُوا يُصَوِّرُونَ وَيَعْبُدُونَ، فَقَطَعَ اللَّهُ الذَّرِيعَةَ وَحَمَى الْبَابَ.
فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ قَالَ حِينَ ذَمَّ الصُّوَرَ وَعَمَلَهَا من الصَّحِيحِ قَوْلَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ :﴿ مَنْ صَوَّرَ صُورَةً عَذَّبَهُ اللَّهُ حَتَّى يَنْفُخَ فِيهَا الرُّوحَ، وَلَيْسَ بِنَافِخٍ ﴾. وَفِي رِوَايَةٍ :﴿ الَّذِينَ يُشَبِّهُونَ بِخَلْقِ اللَّهِ ﴾ ؛ فَعَلَّلَ بِغَيْرِ مَا زَعَمْتُمْ.
قُلْنَا : نُهِيَ عَنْ الصُّورَةِ، وَذَكَرَ عِلَّةَ التَّشْبِيهِ بِخَلْقِ اللَّهِ، وَفِيهَا زِيَادَةُ عِلَّةِ عِبَادَتِهَا من دُونِ اللَّهِ، فَنَبَّهَ عَلَى أَنَّ نَفْسَ عَمَلِهَا مَعْصِيَةٌ، فَمَا ظَنُّك بِعِبَادَتِهَا !
وَقَدْ وَرَدَ فِي كُتُبِ التَّفْسِيرِ شَأْنُ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا، وَأَنَّهُمْ كَانُوا أُنَاسًا، ثُمَّ صُوِّرُوا بَعْدَ مَوْتِهِمْ وَعُبِدُوا. وَقَدْ شَاهَدْت بِثَغْرِ الْإِسْكَنْدَرِيَّة إذَا مَاتَ مِنْهُمْ مَيِّتٌ صَوَّرُوهُ من خَشَبٍ فِي أَحْسَنِ صُورَةٍ، وَأَجْلَسُوهُ فِي مَوْضِعِهِ من بَيْتِهِ وَكَسَوْهُ بِزَّتَهُ إنْ كَانَ رَجُلًا وَحِلْيَتَهَا إنْ كَانَتْ امْرَأَةً، وَأَغْلَقُوا عَلَيْهِ الْبَابَ.
فَإِذَا أَصَابَ أَحَدًا مِنْهُمْ كَرْبٌ أَوْ تَجَدَّدَ لَهُ مَكْرُوهٌ فَتَحَ الْبَابَ [ عَلَيْهِ ] وَجَلَسَ عِنْدَهُ يَبْكِي وَيُنَاجِيهِ بِكَانَ وَكَانَ حَتَّى يَكْسِرَ سَوْرَةَ حُزْنِهِ بِإِهْرَاقِ دُمُوعِهِ، ثُمَّ يُغْلِقُ الْبَابَ عَلَيْهِ وَيَنْصَرِفُ عَنْهُ، وَإِنْ تَمَادَى بِهِمْ الزَّمَانُ يَعْبُدُوهَا من جُمْلَةِ الْأَصْنَامِ وَالْأَوْثَانِ، فَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ إنْ قُلْنَا : إنَّ شَرِيعَةَ مَنْ قَبْلَنَا لَا تَلْزَمُنَا فَلَيْسَ يُنْقَلُ عَنْ ذَلِكَ حُكْمٌ. وَإِنْ قُلْنَا : إنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا شَرْعٌ لَنَا فَيَكُونُ نَهْيُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الصُّوَرِ نَسْخًا، وَهِيَ :
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِي قِسْمِ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ قَبْلَ هَذَا.
وَإِنْ قُلْنَا : إنَّ الَّذِي كَانَ يُصْنَعُ لَهُ الصُّوَرُ الْمُبَاحَةُ من غَيْرِ الْحَيَوَانِ وَصُورَتِهِ فَشَرْعُنَا وَشَرْعُهُ وَاحِدٌ.
وَإِنْ قُلْنَا : إنَّ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْهِ مَا كَانَ شَخْصًا لَا مَا كَانَ رَقْمًا فِي ثَوْبٍ فَقَدْ اخْتَلَفَتْ الْأَحَادِيثُ فِي ذَلِكَ اخْتِلَافًا مُتَبَايِنًا بَيَّ
الْآيَةُ الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى :﴿ قُلْ إنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ من عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ من شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ﴾.
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْلُهُ :﴿ يُخْلِفُهُ ﴾ يَعْنِي يَأْتِي بِثَانٍ بَعْدَ الْأَوَّلِ، وَمِنْهُ الْخِلْفَةُ فِي النَّبَاتِ. وَقَالَ أَعْرَابِيٌّ لِأَبِي بَكْرٍ : يَا خَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّهِ. فَقَالَ : لَا. بَلْ أَنَا الْخَالِفَةُ بَعْدَهُ. [ قَالَ ثَعْلَبٌ : يُرِيدُ بِالْقَاعِدِ بَعْدَهُ ]، وَالْخَالِفَةُ الَّذِي يَسْتَخْلِفُهُ الرَّئِيسُ عَلَى أَهْلِهِ وَمَالِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فِي مَعْنَى الْخَلَفِ هَاهُنَا أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ :
الْأَوَّلُ : يُخْلِفُهُ إذَا رَأَى ذَلِكَ صَلَاحًا، كَمَا يُجِيبُ الدُّعَاءَ إذَا شَاءَ.
الثَّانِي يُخْلِفُهُ بِالثَّوَابِ.
الثَّالِثُ : مَعْنَى يُخْلِفُهُ، فَهُوَ أَخْلَفَهُ ؛ لِأَنَّ كُلَّ مَا عِنْدَ الْعَبْدِ من خَلَفِ اللَّهِ وَرِزْقِهِ.
رَوَى أَشْهَبُ وَابْنُ نَافِعٍ وَابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : يَقُولُ اللَّهُ :﴿ يَا ابْنَ آدَمَ، أَنْفِقْ أُنْفِقْ عَلَيْك ﴾. وَهَذِهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الْخَلَفَ فِي الدُّنْيَا بِمِثْلِ الْمُنْفِقِ بِهَا إذَا كَانَتْ النَّفَقَةُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ، وَهُوَ كَالدُّعَاءِ كَمَا تَقَدَّمَ سَوَاءٌ ؛ إمَّا أَنْ تُقْضَى حَاجَتُهُ، وَكَذَلِكَ فِي النَّفَقَةِ يُعَوَّضُ مِثْلَهُ وَأَزْيَدَ، وَإِمَّا أَنْ يُعَوَّضَ، وَالتَّعْوِيضُ هَاهُنَا بِالثَّوَابِ، وَإِمَّا أَنْ يُدَّخَرَ لَهُ، وَالِادِّخَارُ هَاهُنَا مِثْلُهُ فِي الْآخِرَةِ.
سورة سبأ
معلومات السورة
الكتب
الفتاوى
الأقوال
التفسيرات

سورةُ (سَبَأٍ) من السُّوَر المكِّية، وقد نزَلتْ بعد سورة (لُقْمانَ)، وافتُتِحت بحمدِ الله وإثباتِ العلم له، وجاءت على ذِكْرِ إثباتِ البعث والجزاء، وأنَّه سبحانه يُعطِي مَن أطاع وآمَن، ويَمنَع من كفَر وجحَد، وقومُ (سَبَأٍ) هم مثالٌ واقعي لكفرِ النعمة وجحودها، ومثالٌ لقدرةِ الله عزَّ وجلَّ في الإيجاد والإعدام والتصرُّف في الكون، و(سَبَأٌ): اسمٌ لرجُلٍ.

ترتيبها المصحفي
34
نوعها
مكية
ألفاظها
884
ترتيب نزولها
58
العد المدني الأول
56
العد المدني الأخير
56
العد البصري
56
العد الكوفي
56
العد الشامي
55

* سورةُ (سَبَأٍ):

سُمِّيت سورةُ (سَبَأٍ) بهذا الاسم؛ لورودِ قصة أهل (سَبَأٍ) فيها، و(سَبَأٌ): اسمٌ لرجُلٍ؛ صح عن عبدِ اللهِ بن عباسٍ رضي الله عنهما أنه قال: «إنَّ رجُلًا سألَ رسولَ اللهِ ﷺ عن سَبَأٍ؛ ما هو؟ أرجُلٌ أم امرأةٌ أم أرضٌ؟ فقال: «بل هو رجُلٌ، ولَدَ عشَرةً، فسكَنَ اليمَنَ منهم ستَّةٌ، وبالشَّامِ منهم أربعةٌ؛ فأمَّا اليمانيُّون: فمَذْحِجٌ، وكِنْدةُ، والأَزْدُ، والأشعَريُّون، وأنمارٌ، وحِمْيَرُ، عرَبًا كلُّها، وأمَّا الشَّاميَّةُ: فلَخْمٌ، وجُذَامُ، وعاملةُ، وغسَّانُ»». أخرجه أحمد (٢٨٩٨).

1. الاستفتاح بالحمد (١-٢).

2. قضية البعث والجزاء (٣-٩).

3. أمثلة عن شكرِ النعمة وكفرها (١٠-٢١).

4. داودُ وسليمان عليهما السلام مثالٌ عملي للأوَّابين الشاكرين (١٠-١٤).

5. قومُ (سَبَأٍ) مثالٌ واقعي لعاقبة كفرِ النِّعمة (١٥-٢١).

6. حوار مع المشركين (٢٢-٢٨).

7. مِن مَشاهدِ يوم القيامة (٢٩-٣٣).

8. التَّرَف والمُترَفون (٣٤-٣٩).

9. عَوْدٌ إلى مَشاهدِ يوم القيامة (٤٠-٤٢).

10. عود إلى حال المشركين في الدنيا (٤٣-٤٥).

11. دعوة للتفكُّر والنظر (٤٦-٥٤).

ينظر: "التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم " لمجموعة من العلماء (6 /172).

مقصدُها هو إثباتُ قدرةِ الله عزَّ وجلَّ على الإيجادِ والإعدامِ والتَّصرُّفِ في الكونِ، يُعطِي مَن شكَر، ويَمنَع مَن جحَد وكفَر، وذلك حقيقٌ منه إثباتُ يوم البعث والجزاء، ووقوعُه لا محالة، وقصَّةُ (سَبَأٍ) أكبَرُ دليل على ذلك المقصد.

ينظر: "مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور" للبقاعي (2 /377).