هذه السورة، قال في التحرير، مكية بإجماعهم.
قال ابن عطية : مكية إلا قوله :﴿ ويرى الذين أوتوا العلم ﴾، فقالت فرقة : مدنية فيمن أسلم من أهل الكتاب، كعبد الله بن سلام وأشباهه. انتهى.
وسبب نزولها أن أبا سفيان قال لكفار مكة، لما سمعوا ﴿ ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ﴾ إن محمداً يتوعدنا بالعذاب بعد أن نموت، ويخوّفنا بالبعث، واللات والعزى لا تأتينا الساعة أبداً، ولا نبعث.
فقال الله :﴿ قل ﴾ يا محمد ﴿ بلى وربي لتبعثن ﴾ قاله مقاتل ؛ وباقي السورة تهديد لهم وتخويف.
ومن ذكر هذا السبب، ظهرت المناسبة بين هذه السورة والتي قبلها.
ﰡ
[سورة سبإ (٣٤) : الآيات ١ الى ٥٤]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (١) يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (٢) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٣) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٤)وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (٥) وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (٦) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (٧) أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ (٨) أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (٩)
وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً يَا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (١٠) أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١١) وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ (١٢) يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ (١٣) فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ (١٤)
لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (١٥) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (١٦) ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلاَّ الْكَفُورَ (١٧) وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ (١٨) فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (١٩)
وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢٠) وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (٢١) قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ وَما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (٢٢) وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا مَاذَا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (٢٣) قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٤)
قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٢٥) قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (٢٦) قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ كَلاَّ بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٧) وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (٢٨) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٩)
قُلْ لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ لَا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ (٣٠) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (٣١) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (٣٢) وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (٣٣) وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (٣٤)
وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (٣٥) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (٣٦) وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ (٣٧) وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ (٣٨) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (٣٩)
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ (٤٠) قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (٤١) فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (٤٢) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالُوا مَا هَذَا إِلاَّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ وَقالُوا مَا هَذَا إِلاَّ إِفْكٌ مُفْتَرىً وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (٤٣) وَما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (٤٤)
وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما بَلَغُوا مِعْشارَ مَا آتَيْناهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (٤٥) قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ (٤٦) قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٤٧) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (٤٨) قُلْ جاءَ الْحَقُّ وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ (٤٩)
قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (٥٠) وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (٥١) وَقالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (٥٢) وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (٥٣) وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ (٥٤)
فَإِنْ كُنْتَ مَأْكُولًا فَكُنْ خَيْرَ آكِلٍ | وَإِلَّا فَأَدْرِكْنِي وَلَمَّا أُمَزَّقِ |
عَلَيْهَا أُسُودٌ ضَارِيَاتٌ لَبُوسُهُمْ | سَوَابِغُ بِيضٌ لَا يُخَرِّقُهَا النَّبْلُ |
فَظَنَّ تِبَاعًا خَيْلُنَا فِي بُيُوتِكُمْ | كَمَا تَابَعَتْ سَرْدَ الضأن الخوارز |
وَعَلَيْهِمَا مَسْرُودَتَانِ قَضَاهُمَا | دَاوُدُ أَوْ صَنِعُ السَّوَابِغِ تُبَّعُ |
الْفِلِزُّ النُّحَاسُ وَالْحَدِيدُ وَمَا جَرَى مَجْرَاهُ. الْجِفَانُ: جَمْعُ جَفْنَةٍ، وَهِيَ مَعْرُوفَةٌ. الْجَوَابِي:
الْحِيَاضُ الْعِظَامُ، وَاحِدُهَا جَابِيَةٌ، لِأَنَّهُ يُجْبَى فِيهَا الْمَاءُ، أَيْ يُجْمَعُ. قَالَ الشَّاعِرُ:
بِجِفَانٍ تَعْتَرِي نَادِينَا | مِنْ سَدِيفٍ حِينَ قَدْ هَاجَ الضَّبَرُ |
كَالْجَوَابِي لَا تَفِي مُتْرَعَةً | لِقِرَى الْأَضْيَافِ أَوْ لِلْمُحْتَظِرِ |
نَفَى الذَّمَّ عَنْ آلِ الْمُحَلِّقِ جَفْنَةٌ | كَجَابِيَةِ السَّيْحِ الْعِرَاقِيِّ تَفْهَقُ |
وَقُدُورٌ كَالرُّبَا رَاسِيَاتٌ | وَجِفَانٌ كَالْجَوَابِي مُتْرَعَةْ |
ضَرَبْنَا بِمِنْسَاءَةٍ وَجْهَهُ | فَصَارَ بِذَاكَ مَهِينًا ذَلِيلَا |
إِذَا دَبَبْتَ عَلَى الْمِنْسَاةِ مِنْ هَرَمٍ | فَقَدْ تَبَاعَدَ عَنْكَ اللَّهْوُ وَالْغَزَلُ |
وَقَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: الْخَمْطُ ثَمَرُ شَجَرَةٍ عَلَى صُورَةِ الْخَشْخَاشِ لَا يُنْتَفَعُ بِهِ. وَقَالَ الْقُتَبِيُّ:
يُقَالُ لِلْحُمَّاضَةِ خَمْطَةُ اللَّبَنِ. إِذَا أَخَذَ شَيْئًا مِنْ الرِّيحِ فَهُوَ خَامِطٌ وَخَمِيطٌ وَتَخَمَّطَ الْفَحْلُ:
فَهِيَ تَنُوشُ الحوض نوشا من غلا | نَوْشًا بِهِ تَقْطَعُ أَجْوَازَ الفلا |
تمنى نئيش أَنْ يَكُونَ أَطَاعَنِي | وَقَدْ حَدَثَتْ بَعْدَ الْأُمُورِ أُمُورُ |
وَجِئْتُ نَئِيشًا بعد ما | فاتك الخبز نئيشا أخيرا |
هَذِهِ السُّورَةُ، قَالَ فِي التَّحْرِيرِ، مَكِّيَّةٌ بِإِجْمَاعِهِمْ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: مَكِّيَّةٌ إِلَّا قَوْلَهُ:
وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ، فَقَالَتْ فِرْقَةٌ: مَدَنِيَّةٌ فِيمَنْ أَسْلَمَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ وَأَشْبَاهِهِ. انْتَهَى. وَسَبَبُ نُزُولِهَا أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ قَالَ لِكُفَّارِ مَكَّةَ، لَمَّا سَمِعُوا
فَقَالَ اللَّهُ: قُلْ يَا مُحَمَّدُ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ «٢»، قَالَهُ مُقَاتِلٌ وَبَاقِي السُّورَةِ تَهْدِيدٌ لَهُمْ وَتَخْوِيفٌ. وَمَنْ ذَكَرَ هَذَا السَّبَبَ، ظَهَرَتِ الْمُنَاسَبَةُ بَيْنَ هَذِهِ السُّورَةِ وَالَّتِي قَبْلَهَا.
الْحَمْدُ لِلَّهِ: مُسْتَغْرِقٌ لِجَمِيعِ الْمَحَامِدِ. وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ: ظَاهِرُهُ الِاسْتِغْرَاقُ. وَلَمَّا كَانَتْ نِعْمَةُ الْآخِرَةِ مُخْبَرًا بِهَا، غَيْرَ مَرْئِيَّةٍ لَنَا فِي الدُّنْيَا، ذَكَرَهَا لِيُقَاسَ نِعَمُهَا بِنِعَمِ الدُّنْيَا، قِيَاسَ الْغَائِبِ عَلَى الشَّاهِدِ، وَإِنِ اخْتَلَفَا فِي الْفَضِيلَةِ وَالدَّيْمُومَةِ. وَقِيلَ: أَلْ لِلْعَهْدِ وَالْإِشَارَةِ إِلَى قَوْلِهِ: وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ «٣»، أَوْ إِلَى قَوْلِهِ: وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ «٤». وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْفَرْقُ بَيْنَ الْحَمْدَيْنِ وُجُوبُ الْحَمْدِ فِي الدُّنْيَا، لِأَنَّهُ عَلَى نِعَمِهِ مُتَفَضِّلٌ بِهَا، وَهُوَ الطَّرِيقُ إِلَى تَحْصِيلِ نِعْمَةِ الْآخِرَةِ، وَهِيَ الثَّوَابُ. وَحَمْدُ الْآخِرَةِ لَيْسَ بِوَاجِبٍ، لِأَنَّهُ عَلَى نِعْمَةٍ وَاجِبَةِ الِاتِّصَالُ إِلَى مُسْتَحِقِّهَا، إِنَّمَا هُوَ تَتِمَّةُ سُرُورِ الْمُؤْمِنِينَ وَتَكْمِلَةُ اغْتِبَاطِهِمْ يَلْتَذُّونَ بِهِ. انْتَهَى، وَفِيهِ بَعْضُ تَلْخِيصٍ.
يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ، مِنَ الْمِيَاهِ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: مِنَ الْأَمْوَاتِ وَالدَّفَائِنِ. وَما يَخْرُجُ مِنْها، مِنَ النَّبَاتِ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: مِنْ جَوَاهِرِ الْمَعَادِنِ. وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ، مِنَ الْمَطَرِ وَالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ وَالصَّاعِقَةِ وَالرِّزْقِ وَالْمَلَكِ. وَما يَعْرُجُ فِيها، من أَعْمَالِ الْخَلْقِ.
وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: وَمَا يَنْزِلُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ. وَقِيلَ: مِنَ الْأَقْضِيَةِ وَالْأَحْوَالِ وَالْأَدْعِيَةِ وَالْأَعْمَالِ.
وَقِيلَ: مِنَ الْأَنْعَامِ وَالْعَطَاءِ.
وَقَرَأَ عَلِيٌّ، وَالسُّلَمِيُّ: وَمَا يُنْزَلُ بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ النُّونِ وَشَدِّ الزَّايِ
، أَيِ اللَّهُ تَعَالَى. وبلى جَوَابٌ لِلنَّفْيِ السَّابِقِ مِنْ قَوْلِهِمْ لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ، أَيْ بَلَى لَتَأْتِيَنَّكُمْ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: لَتَأْتِيَنَّكُمْ بِتَاءِ التَّأْنِيثِ، أَيِ السَّاعَةُ الَّتِي أَنْكَرْتُمْ مَجِيئُهَا. وَقَرَأَ طَلْقٌ عَنْ أَشْيَاخِهِ بِيَاءِ الْغَيْبَةِ، أَيْ لَيَأْتِيَنَّكُمُ الْبَعْثُ، لِأَنَّهُ مَقْصُودُهُمْ مِنْ نَفْيِ السَّاعَةِ أَنَّهُمْ لَا يُبْعَثُونَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَوْ عَلَى مَعْنَى السَّاعَةِ، أَيِ الْيَوْمَ، أَوْ عَلَى إِسْنَادِهِ إِلَى اللَّهِ عَلَى مَعْنَى لَيَأْتِيَنَّكُمْ أَمْرُ عَالِمِ الْغَيْبِ كَقَوْلِهِ: أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ «٥»، أَيْ أَمْرُهُ. وَيَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ ضَمِيرُ السَّاعَةِ، لِأَنَّهُ مَذْهُوبٌ بِهِ مَذْهَبَ التَّذْكِيرِ، لَا يَكُونُ إِلَّا فِي الشِّعْرِ، نَحْوَ قَوْلِهِ:
وَلَا أَرْضَ أَبْقَلَ إِبْقَالَهَا
(٢) سورة التغابن: ٦٤/ ٧.
(٣) سورة يونس: ١٠/ ١٠. [.....]
(٤) سورة الزمر: ٣٩/ ٧٤.
(٥) سورة الأنعام: ٦/ ١٥٨.
عالِمِ بِالرَّفْعِ عَلَى إِضْمَارِ هُوَ وَجَوَّزَ الْحَوْفِيُّ وَأَبُو الْبَقَاءِ أَنْ يَكُونَ مُبْتَدَأً، وَالْخَبَرُ لَا يَعْزُبُ. وَقَالَ الْحَوْفِيُّ: أَوْ خَبَرُهُ مَحْذُوفٌ، أَيْ عَالِمُ الْغَيْبِ هُوَ، وَبَاقِي السَّبْعَةِ: عَالِمِ بِالْجَرِّ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ، وَأَبُو الْبَقَاءِ: وَذَلِكَ عَلَى الْبَدَلِ. وَأَجَازَ أَبُو الْبَقَاءِ أَنْ تَكُونَ صِفَةً، وَيَعْنِي أَنَّ عَالِمَ الْغَيْبِ يَجُوزُ أَنْ يَتَعَرَّفَ، وَكَذَا كُلُّ مَا أُضِيفَ إِلَى مَعْرِفَةٍ مِمَّا كَانَ لَا يَتَعَرَّفُ بِذَلِكَ يَجُوزُ أَنْ يَتَعَرَّفَ بِالْإِضَافَةِ، إِلَّا الصِّفَةَ الْمُشَبَّهَةَ فَلَا تَتَعَرَّفُ بِإِضَافَةٍ. ذَكَرَ ذَلِكَ سِيبَوَيْهِ فِي كِتَابِهِ، وَقَلَّ مَنْ يَعْرِفُهُ. وَقَرَأَ ابْنُ وَثَّابٍ، وَالْأَعْمَشُ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ: عَلَّامِ عَلَى الْمُبَالَغَةِ وَالْخَفْضِ، وَتَقَدَّمَتْ قِرَاءَةُ يَعْزُبُ فِي يُونُسَ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ، بِرَفْعِ الرَّاءَيْنِ، وَاحْتُمِلَ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى مِثْقالُ، وَأَنْ يَكُونَ مُبْتَدَأً، وَالْخَبَرُ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا فِي كِتابٍ وَعَلَى الِاحْتِمَالِ الْأَوَّلِ، يَكُونُ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ تَوْكِيدًا لِمَا تَضَمَّنَ النَّفْيَ فِي قَوْلِهِ: لَا يَعْزُبُ، وَتَقْدِيرُهُ: لَكِنَّهُ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ ضَبْطِ الشَّيْءِ وَالتَّحَفُّظِ بِهِ، فَكَأَنَّهُ فِي كِتَابٍ، وَلَيْسَ ثَمَّ كِتَابٌ حَقِيقَةً. وَعَلَى التَّخْرِيجِ الْأَوَّلِ، يَكُونُ الْكِتَابُ هُوَ اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ، وَقَتَادَةُ: بِفَتْحِ الرَّاءَيْنِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: عَطْفًا عَلَى ذَرَّةٍ.
وَرُوِيَتْ عَنْ أَبِي عَمْرٍو، وَعَزَاهَا أَيْضًا إِلَى نَافِعٍ، وَلَا يَتَعَيَّنُ مَا قَالَ، بَلْ تَكُونُ لَا لِنَفْيِ الْجِنْسِ، وَهُوَ مُبْتَدَأٌ، أَعْنِي مَجْمُوعَ لَا وَمَا بُنِيَ مَعَهَا عَلَى مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ، وَالْخَبَرُ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ، وَهُوَ مِنْ عَطْفِ الْجُمَلِ، لَا مِنْ عَطْفِ الْمُفْرَدَاتِ، كَمَا قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: جَوَابًا لِسُؤَالِ مَنْ قَالَ: هَلْ جَازَ عَطْفُ وَلا أَصْغَرُ عَلَى مِثْقالُ، وَعَطْفُ وَلا أَصْغَرُ عَلَى ذَرَّةٍ؟ قُلْتُ: يَأْبَى ذَلِكَ حَرْفُ الِاسْتِثْنَاءِ، إِلَّا إِذَا جَعَلْتَ الضَّمِيرَ فِي عَنْهُ لِلْغَيْبِ، وَجَعَلْتَ الْغَيْبَ اسْمًا لِلْخَفِيَّاتِ قَبْلَ أَنْ تُكْتَبَ فِي اللَّوْحِ، لِأَنَّ إِثْبَاتَهَا فِي اللَّوْحِ نَوْعٌ مِنَ الْبُرُوزِ عَنِ الْحِجَابِ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ لَا يَنْفَصِلُ عَنِ الْغَيْبِ شَيْءٌ وَلَا يَزُولُ عَنْهُ إِلَّا مَسْطُورًا فِي اللَّوْحِ. انْتَهَى. وَلَا يُحْتَاجُ إِلَى هَذَا التَّأْوِيلِ إِذَا جَعَلْنَا الْكِتَابَ الْمُبِينَ لَيْسَ اللَّوْحَ الْمَحْفُوظَ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ، بِخَفْضِ الرَّاءَيْنِ بِالْكَسْرَةِ، كَأَنَّهُ نَوَى مُضَافًا إِلَيْهِ مَحْذُوفًا، التَّقْدِيرُ: وَلَا أَصْغَرِهِ وَلَا أَكْبَرِهِ، وَمِنْ ذَلِكَ
تحن نفوس الورى وأعلمنا | بنا يركض الْجِيَادِ فِي السَّدَفِ |
لِيَجْزِيَ، فَقَدْ وَضَعَ اللَّهُ فِي الْعُقُولِ وَرَكَّبَ فِي الْغَرَائِزِ وُجُوبَ الْجَزَاءِ، وَأَنَّ الْمُحْسِنَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ ثَوَابٍ، وَالْمُسِيءُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ عِقَابٍ: انْتَهَى، وَفِي السُّؤَالِ بَعْضُ اخْتِصَارٍ، وَفِيهِ دَسِيسَةُ الِاعْتِزَالِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: لِيَجْزِيَ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: لَا يَعْزُبُ، وَقِيلَ: بِقَوْلِهِ لَتَأْتِيَنَّكُمْ، وَقِيلَ: بِالْعَامِلِ فِي كِتابٍ مُبِينٍ: أَيْ إِلَّا مُسْتَقِرًّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ لِيَجْزِيَ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: مُعْجِزِينَ مُخَفَّفًا، وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَالْجَحْدَرِيُّ وَأَبُو السِّمَاكِ: مُثَقَّلًا وَتَقَدَّمَ فِي الْحَجِّ، أَيْ مُعَجِّزِينَ قُدْرَةَ اللَّهِ فِي زَعْمِهِمْ. وَقَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ: مَعْنَاهُ مُثَبِّطِينَ عَنِ الْإِيمَانِ مَنْ أَرَادَهُ، مُدْخِلِينَ عَلَيْهِ الْعَجْزَ فِي نَشَاطِهِ، وَهَذَا هُوَ سَعْيُهُمْ فِي الْآيَاتِ، أَيْ فِي شَأْنِ الْآيَاتِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: مُسَابِقِينَ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يَفُوتُونَنَا. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: مُرَاغِمِينَ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: مُجَاهِدِينَ فِي إِبْطَالِهَا. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَحَفْصٌ وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: أَلِيمٌ هُنَا، وَفِي الْجَاثِيَةِ بِالرَّفْعِ صِفَةً لِلْعَذَابِ، وَبَاقِي السَّبْعَةِ بِالْجَرِّ صِفَةً لِلرِّجْزِ، وَالرِّجْزُ: العذاب السيء.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: وَالَّذِينَ سَعَوْا مُبْتَدَأٌ، وَالْخَبَرُ فِي الْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ، وَهِيَ أُولئِكَ.
وَقِيلَ: هُوَ مَنْصُوبٌ عَطْفًا عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا، أَيْ وَلِيَجْزِيَ الَّذِينَ سَعَوْا. وَاحْتَمَلَ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَتَانِ الْمُصَدَّرَتَانِ بأولئك هُمَا نَفْسَ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، وَاحْتَمَلَ أَنْ تَكُونَا مُسْتَأْنَفَتَيْنِ، وَالثَّوَابُ وَالْعِقَابُ مَا تَضَمَّنَتَا مِمَّا هُوَ أَعْظَمُ، كَرِضَا اللَّهِ عَنِ الْمُؤْمِنِ دَائِمًا، وَسُخْطِهِ عَلَى الْفَاسِقِ دَائِمًا. قَالَ الْعُتْبِيُّ: وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: وَيَرَى اسْتِئْنَافُ إِخْبَارٍ عَمَّنْ أُوتِيَ الْعِلْمَ،
الْحَقَّ بِالنَّصْبِ، مَفْعُولًا ثَانِيًا ليرى، وَهُوَ فَصْلٌ وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: بِالرَّفْعِ جَعَلَ هُوَ مبتدأ والحق خبره، وَالْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ الثَّانِي ليرى، وَهُوَ لُغَةُ تَمِيمٍ، يَجْعَلُونَ مَا هُوَ فَصْلٌ عِنْدَ غَيْرِهِمْ مُبْتَدَأً، قَالَهُ أَبُو عُمَرَ الْجَرْمِيُّ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الفاعل ليهدي هُوَ ضَمِيرُ الَّذِي أُنْزِلَ، وَهُوَ الْقُرْآنُ، وَهُوَ اسْتِئْنَافُ إِخْبَارٍ. وَقِيلَ: هُوَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ عَلَى إِضْمَارِ، وَهُوَ يَهْدِي، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى الْحَقَّ، عَطْفِ الْفِعْلِ عَلَى الِاسْمِ، كَقَوْلِهِ: صافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ «١»، أَيْ قَابِضَاتٍ، كَمَا عُطِفَ الِاسْمُ عَلَى الْفِعْلِ فِي قَوْلِهِ:
فألفيته يوما يبير عدوه | وبحر عطاء يستحق الْمَعَابِرَا |
بِإِبْدَالِ الْهَمْزَةِ يَاءً مَحْضَةً. وَحَكَى عَنْهُ الزَّمَخْشَرِيُّ: يُنْبِئُكُمْ، بالهمز من أنبأ، وإذا جَوَابُهَا مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: تُبْعَثُونَ، وَحُذِفَ لِدِلَالَةِ مَا بَعْدَهُ عَلَيْهِ، وَهُوَ الْعَامِلُ إِذَا، عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ ذَلِكَ، وَقَالَ أَيْضًا هُوَ وَالنَّحَّاسُ: الْعَامِلُ مُزِّقْتُمْ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ:
هُوَ خطأ وإفساد للمعنى. انتهى. وَلَيْسَ بِخَطَأٍ وَلَا إِفْسَادٍ لِلْمَعْنَى، وَإِذَا الشَّرْطِيَّةُ مُخْتَلَفٌ فِي الْعَامِلِ فِيهَا، وَقَدْ بَيَّنَّا مَا كَتَبْنَاهُ فِي (شَرْحِ التَّسْهِيلِ) أَنَّ الصَّحِيحَ أَنْ يَعْمَلَ فِيهَا فِعْلُ الشَّرْطِ، كَسَائِرِ أَدَوَاتِ الشَّرْطِ. وَالْجُمْلَةُ الشَّرْطِيَّةُ يَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ مَعْمُولَةً لينبئكم، لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى يَقُولُ
حَذَارِ فَقَدْ نبئت أنك للذي | ستنجزى بِمَا تَسْعَى فَتَسْعَدُ أَوْ تشقى |
أَلَمْ تَعْلَمْ مُسَرَّحِيَ الْقَوَافِي | فلا عيابهن وَلَا اجْتِلَابَا |
وَلَمَّا كَانَ الْكَلَامُ فِي الْبَعْثِ قَالَ: بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ، فَرَتَّبَ الْعَذَابَ عَلَى إِنْكَارِ الْبَعْثِ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي وَصْفِ الضَّلَالِ بِالْبُعْدِ، وَهُوَ مِنْ أَوْصَافِ الْمَحَالِّ اسْتُعِيرَ لِلْمَعْنَى، وَمَعْنَى بَعْدَهُ: أَنَّهُ لَا يَنْقَضِي خَبَرُهُ الْمُتَلَبَّسُ بِهِ. أَفَلَمْ يَرَوْا: أَيْ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ، إِلى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ: أَيْ حَيْثُ مَا تَصَرَّفُوا، فَالسَّمَاءُ وَالْأَرْضُ قَدْ أَحَاطَتَا بِهِمْ، وَلَا يَقْدِرُونَ أَنْ يَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِهِمَا، وَلَا يَخْرُجُوا عَنْ مَلَكُوتِ اللَّهِ
إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ، كَمَا فَعَلْنَا بِقَارُونَ، أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ، كَمَا فَعَلْنَا بِأَصْحَابِ الظُّلَّةِ، أَوْ أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مُحِيطًا بِهِمْ، وَهُمْ مَقْهُورُونَ تَحْتَ قُدْرَتِنَا؟ إِنَّ فِي ذلِكَ النَّظَرِ إِلَى السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَالْفِكْرِ فِيهِمَا، وَمَا يَدُلَّانِ عَلَيْهِ مِنْ قُدْرَةِ اللَّهِ، لَآيَةً: لَعَلَامَةً وَدَلَالَةً، لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ:
رَاجِعٍ إِلَى رَبِّهِ، مُطِيعٍ لَهُ. قَالَ مُجَاهِدٌ: مُخْبِتٍ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: مُسْتَقِيمٍ. وَقَالَ أَبُو رَوْقٍ:
مُخْلِصٍ فِي التَّوْحِيدِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: مُقْبِلٍ إِلَى رَبِّهِ بِقَلْبِهِ، لِأَنَّ الْمُنِيبَ لَا يَخْلُو مِنَ النَّظَرِ فِي آيَاتِ اللَّهِ عَلَى أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مِنَ الْبَعْثِ وَمِنْ عِقَابِهِ مَنْ يُكْفَرَ بِهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ وَنُسْقِطْ بِالنُّونِ فِي الثَّلَاثَةِ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ، وَابْنُ وَثَّابٍ، وَعِيسَى، وَالْأَعْمَشُ، وَابْنُ مُطَرِّفٍ: بِالْيَاءِ فِيهِنَّ وَأَدْغَمَ الْكِسَائِيُّ الْفَاءَ فِي الْبَاءِ فِي نَخْسِفْ بِهِمْ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ، لِأَنَّ الْبَاءَ أَضْعَفُ فِي الصَّوْتِ مِنَ الْفَاءِ، فَلَا تُدْغَمُ فِيهَا، وَإِنْ كَانَتِ الْبَاءُ تُدْغَمُ فِي الْفَاءِ، نَحْوُ: اضرب فُلَانًا، وَهَذَا مَا تُدْغَمُ الْبَاءُ فِي الْمِيمِ، كَقَوْلِكَ:
اضْرِبْ مَالِكًا، وَلَا تُدْغَمُ الْمِيمُ فِي الْبَاءِ، كَقَوْلِكَ: اصمم بِكَ، لِأَنَّ الْبَاءَ انْحَطَّتْ عَنِ الْمِيمِ بِفَقْدِ الْغُنَّةِ الَّتِي فِي الْمِيمِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَقَرَأَ الْكِسَائِيُّ نَخْسِفْ بِهِمْ، بِالْإِدْغَامِ، وَلَيْسَتْ بِقَوِيَّةٍ. انْتَهَى. وَالْقِرَاءَةُ سُنَّةٌ مُتَّبَعَةٌ، وَيُوجَدُ فِيهَا الْفَصِيحُ وَالْأَفْصَحُ، وَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ تَيْسِيرِهِ تَعَالَى الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ، فَلَا الْتِفَاتَ لِقَوْلِ أَبِي عَلِيٍّ وَلَا الزَّمَخْشَرِيِّ.
وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ، أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ، وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ، يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ، فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ
مُنَاسَبَةُ قِصَّةِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ، عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، لِمَا قَبْلَهَا، هِيَ أَنَّ أُولَئِكَ الْكُفَّارَ أَنْكَرُوا الْبَعْثَ لِاسْتِحَالَتِهِ عِنْدَهُمْ، فَأُخْبِرُوا بِوُقُوعِ مَا هُوَ مُسْتَحِيلٌ فِي الْعَادَةِ مِمَّا لَا يُمْكِنُهُمْ إِنْكَارُهُ، إِذْ طَفَحَتْ بِبَعْضِهِ أَخْبَارُهُمْ وَشُعَرَاؤُهُمْ عَلَى مَا يَأْتِي ذِكْرُهُ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ، مِنْ تَأْوِيبِ الْجِبَالِ وَالطَّيْرِ مَعَ دَاوُدَ، وَإِلَانَةِ الْحَدِيدِ، وَهُوَ الْجُرْمُ الْمُسْتَعْصِي، وَتَسْخِيرِ الرِّيحِ لِسُلَيْمَانَ، وَإِسَالَةِ النُّحَاسِ لَهُ، كَمَا أَلَانَ الْحَدِيدَ لِأَبِيهِ، وَتَسْخِيرِ الْجِنِّ فِيمَا شَاءَ مِنَ الْأَعْمَالِ الشَّاقَّةِ.
وَقِيلَ: لَمَّا ذَكَرَ مَنْ يُنِيبُ مِنْ عِبَادِهِ، ذَكَرَ مِنْ جُمْلَتِهِمْ دَاوُدَ، كَمَا قَالَ: فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ «١»، وَبَيَّنَ مَا آتَاهُ اللَّهُ عَلَى إِنَابَتِهِ فَقَالَ: وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلًا، وَقِيلَ: ذَكَرَ نِعْمَتَهُ عَلَى دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ، عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، احْتِجَاجًا عَلَى مَا مَنَحَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
أَيْ لَا تَسْتَبْعِدُوا هَذَا، فَقَدْ تَفَضَّلْنَا عَلَى عَبِيدِنَا قَدِيمًا بِكَذَا وَكَذَا. فَلَمَّا فَرَغَ التَّمْثِيلُ لِمُحَمَّدٍ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، رَجَعَ التَّمْثِيلُ لَهُمْ بِسَبَأٍ، وَمَا كَانَ مِنْ هَلَاكِهِمْ بِالْكُفْرِ وَالْعُتُوِّ. انْتَهَى. وَالْفَضْلُ الَّذِي أُوتِيَ دَاوُدُ: الزَّبُورُ، وَالْعَدْلُ فِي الْقَضَاءِ، وَالثِّقَةُ بِاللَّهِ، وَتَسْخِيرُ الْجِبَالِ، وَالطَّيْرِ، وَتَلْيِينُ الحديد، أقوال. يا جِبالُ: هو إضمار القول، إما مصدر، أي قولنا يا جِبالُ، فَيَكُونُ بَدَلًا مِنْ فَضْلًا، وَإِمَّا فِعْلًا، أَيْ قُلْنَا، فَيَكُونُ بَدَلًا مِنْ آتَيْنا، وَإِمَّا عَلَى الِاسْتِئْنَافِ، أَيْ قلنا يا جِبالُ، وَجَعَلَ الْجِبَالَ بِمَنْزِلَةِ الْعُقَلَاءِ الَّذِينَ إِذَا أَمَرَهُمْ أَطَاعُوا وَأَذْعَنُوا، وَإِذَا دَعَاهُمْ سَمِعُوا وَأَجَابُوا، إِشْعَارًا بِأَنَّهُ مَا مِنْ حَيَوَانٍ وَجَمَادٍ وَنَاطِقٍ وَصَامِتٍ إِلَّا وَهُوَ مُنْقَادٌ لِمَشِيئَتِهِ، غَيْرُ مُمْتَنِعٍ عَلَى إِرَادَتِهِ، وَدَلَالَةً عَلَى عِزَّةِ الرُّبُوبِيَّةِ وَكِبْرِيَاءِ الْأُلُوهِيَّةِ، حَيْثُ نَادَى الْجِبَالَ وَأَمَرَهَا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: أَوِّبِي، مُضَاعَفُ آبَ يؤب، وَمَعْنَاهُ: سَبِّحِي مَعَهُ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ وَابْنُ زَيْدٍ. وَقَالَ مُؤَرِّجٌ، وَأَبُو مَيْسَرَةَ: أَوِّبِي: سَبِّحِي، بِلُغَةِ الْحَبَشَةِ، أَيْ يُسَبِّحُ هُوَ وَتُرَجِّعُ هِيَ مَعَهُ التَّسْبِيحَ، أَيْ تُرَدِّدُ بِالذِّكْرِ، وَضُعِّفَ الْفِعْلُ لِلْمُبَالَغَةِ، قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ. وَيَظْهَرُ أَنَّ التَّضْعِيفَ لِلتَّعْدِيَةِ، فَلَيْسَ لِلْمُبَالَغَةِ، إِذْ أَصْلُهُ آبَ، وَهُوَ لَازِمٌ بِمَعْنَى:
رَجَعَ اللَّازِمِ فَعُدِّيَ بِالتَّضْعِيفِ، إِذْ شَرَحُوهُ بِقَوْلِهِمْ: رَجِّعِي مَعَهُ التَّسْبِيحَ.
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَمَعْنَى تَسْبِيحِ الْجِبَالِ: أَنَّ اللَّهَ يَخْلُقُ فِيهَا تَسْبِيحًا، كَمَا خَلَقَ الْكَلَامَ فِي الشَّجَرَةِ، فَيُسْمَعُ مِنْهَا مَا يُسْمَعُ مِنَ الْمُسَبِّحِ، مُعْجِزَةً لِدَاوُدَ. قِيلَ: كَانَ ينوح على ذنبه
وَقَوْلُهُ: كَمَا خَلَقَ الْكَلَامَ فِي الشَّجَرَةِ، يَعْنِي أَنَّ الَّذِي يَسْمَعُ مُوسَى هُوَ مِمَّا خَلَقَهُ اللَّهُ فِي الشَّجَرَةِ مِنَ الْكَلَامِ، لَا أَنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ حَقِيقَةً، وَهُوَ مَذْهَبُ الْمُعْتَزِلَةِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: تُسَاعِدُهُ الْجِبَالُ عَلَى نَوْحِهِ بِأَصْدَائِهَا فَلَيْسَ بِشَيْءٍ، لِأَنَّ الصَّدَى لَيْسَ بِصَوْتِ الْجِبَالِ حَقِيقَةً، وَاللَّهُ تَعَالَى نَادَى الْجِبَالَ وَأَمَرَهَا بِأَنْ تُؤَوِّبَ مَعَهُ، وَالصَّدَى لَا تُؤْمَرُ الْجِبَالُ بِأَنْ تَفْعَلَهُ، إِذْ لَيْسَ فِعْلًا لَهَا، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ آثَارِ صَوْتِ الْمُتَكَلِّمِ عَلَى مَا يَقُومُ عَلَيْهِ الْبُرْهَانُ. وَقَالَ الْحَسَنُ: مَعْنَى أَوِّبِي مَعَهُ: سِيرِي مَعَهُ أَيْنَ سَارَ، وَالتَّأْوِيبُ: سَيْرُ النَّهَارِ. كَانَ الْإِنْسَانُ يَسِيرُ اللَّيْلَ ثُمَّ يَرْجِعُ لِلسَّيْرِ بِالنَّهَارِ، أَيْ يُرَدِّدُهُ، وَقَالَ تَمِيمُ بْنُ مُقْبِلٍ:
لَحِقْنَا بِحَيٍّ أَوَّبُوا السَّيْرَ بعد ما | رَفَعْنَا شُعَاعَ الشَّمْسِ وَالطَّرْفُ تَجْنَحُ |
يَوْمَانِ يَوْمُ مَقَامَاتٍ وَأَنْدِيَةٍ | وَيَوْمُ سَيْرٍ إِلَى الْأَعْدَاءِ تَأْوِيبِ |
فَأَمْرُ الْجِبَالِ كَأَمْرِ الْوَاحِدَةِ الْمُؤَنَّثَةِ، لِأَنَّ جَمْعَ مَا لَا يَعْقِلُ يَجُوزُ فِيهِ ذَلِكَ، وَمِنْهُ: يَا خَيْلَ اللَّهِ ارْكَبِي، وَمِنْهُ: يَا رَبِّ أُخْرَى، وَقَدْ جَاءَ ذَلِكَ فِي جَمِيعِ مَا يَعْقِلُ مِنَ الْمُؤَنَّثِ، قَالَ الشَّاعِرُ:
تَرَكْنَا الْخَيْلَ وَالنَّعَمَ الْمُفَدَّى | وَقُلْنَا لِلنِّسَاءِ بِهَا أَقِيمِي |
وَقِيلَ: أُعْطِيَ قُوَّةً يَلِينُ بِهَا الْحَدِيدُ.
وَقَالَ مُقَاتِلٌ: وَكَانَ يَفْرَغُ مِنَ الدِّرْعِ فِي بَعْضِ يَوْمٍ أَوْ فِي بَعْضِ لَيْلَةٍ ثَمَنُهَا أَلْفُ دِرْهَمٍ، وَكَانَ دَاوُدُ يَتَنَكَّرُ فَيَسْأَلُ النَّاسَ عَنْ حَالِهِ، فَعَرَضَ لَهُ مَلَكٌ فِي صُورَةِ إِنْسَانٍ فَسَأَلَهُ، فَقَالَ: نِعْمَ الْعَبْدُ لَوْلَا خَلَّةٌ فِيهِ، فَقَالَ: وَمَا هِيَ؟ فَقَالَ: يَرْتَزِقُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، وَلَوْ أَكَلَ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ تَمَّتْ فَضَائِلُهُ، فَدَعَا اللَّهَ أَنْ يُعَلِّمَهُ صَنْعَةً وَيُسَهِّلَهَا عَلَيْهِ، فَعَلَّمَهُ صَنْعَةَ الدُّرُوعِ وَأَلَانَ لَهُ الْحَدِيدَ فَأَثْرَى، وَكَانَ يُنْفِقُ ثُلُثَ الْمَالِ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ.
وَأَنْ فِي أَنِ اعْمَلْ مَصْدَرِيَّةٌ، وَهِيَ عَلَى إِسْقَاطِ حَرْفِ الْجَرِّ، أَيْ أَلَنَّاهُ لِعَمَلِ سابِغاتٍ. وَأَجَازَ الْحَوْفِيُّ وَغَيْرُهُ أَنْ تَكُونَ مُفَسِّرَةً، وَلَا يَصِحُّ، لِأَنَّ مِنْ شَرْطِهَا أَنْ يَتَقَدَّمَهَا مَعْنَى الْقَوْلِ، وَأَنْ لَيْسَ فِيهِ مَعْنَى الْقَوْلِ.
وَقَدَّرَ بَعْضُهُمْ قَبْلَهَا فِعْلًا مَحْذُوفًا حَتَّى يَصِحَّ أَنْ تَكُونَ مُفَسِّرَةً، وَتَقْدِيرُهُ: وَأَمَرْنَاهُ أَنِ اعْمَلْ، أَيِ اعْمَلْ، وَلَا ضَرُورَةَ تَدْعُو إِلَى هَذَا الْمَحْذُوفِ. وقرىء: صَابِغَاتٍ، بِالصَّادِّ بَدَلًا مِنَ السِّينِ، وَتَقَدَّمَ أَنَّهَا لُغَةٌ فِي قَوْلِهِ: وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ. وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ، قَالَ ابْنُ زَيْدٍ:
هُوَ فِي قَدْرِ الْحَلْقَةِ، أَيْ لَا تَعْمَلْهَا صَغِيرَةً فَتَضْعُفَ، فَلَا يَقْوَى الدِّرْعُ عَلَى الدِّفَاعِ، وَلَا كَبِيرَةً فَيُنَالَ لَابِسُهَا مِنْ خِلَالِهَا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ فِي الْمِسْمَارِ، لَا يَرِقُّ فَيَنْكَسِرُ، وَلَا يَغْلُظُ فَيَفْصِمُ، بِالْفَاءِ وَبِالْقَافِ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: إِنَّ الدُّرُوعَ كَانَتْ قَبْلُ صَفَائِحَ كَانَتْ ثِقَالًا، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ صَنَعَ الدِّرْعَ حِلَقًا.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْأَمْرَ فِي قَوْلِهِ: اعْمَلُوا آلَ داوُدَ لِآلِ دَاوُدَ، وَإِنْ لَمْ يَجْرِ لَهُمْ ذِكْرٌ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَمْرًا لِدَاوُدَ شَرَّفَهُ اللَّهُ بِأَنْ خَاطَبَهُ خِطَابَ الْجَمْعِ.
وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ،
قَالَ الْحَسَنُ: عَقَرَ سُلَيْمَانُ الْخَيْلَ عَلَى مَا فَوَّتَتْهُ مِنْ صَلَاةِ الْعَصْرِ، فَأَبْدَلَهُ اللَّهُ خَيْرًا مِنْهَا، وَأَسْرَعَ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: الرِّيحَ بِالنَّصْبِ، أَيْ ولسليمان سَخَّرْنَا الرِّيحَ وَأَبُو بَكْرٍ: بِالرَّفْعِ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَالْخَبَرُ فِي الْمَجْرُورِ، وَيَكُونُ الرِّيحُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ تَسْخِيرُ الرِّيحِ، أَوْ عَلَى إِضْمَارِ الْخَبَرِ، أَيِ الرِّيحُ مُسَخَّرَةٌ.
وَقَرَأَ الْحَسَنُ، وَأَبُو حَيْوَةَ، وَخَالِدُ بْنُ إِلْيَاسَ: الرِّيَاحُ، بِالرَّفْعِ جَمْعًا. وَقَالَ قَتَادَةُ: كَانَتْ تَقْطَعُ فِي الْغُدُوِّ إِلَى قُرْبِ الزَّوَالِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ، وَفِي الرَّوَاحِ مِنْ بَعْدِ الزَّوَالِ إِلَى الْغُرُوبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ. وَقَالَ الْحَسَنُ: فَخَرَجَ مِنْ مُسْتَقَرِّهِ بِالشَّامِ يُرِيدُ تَدْمُرَ الَّتِي بَنَتْهَا الْجِنُّ بِالصِّفَاحِ وَالْعُمُدِ، فَيُقِيلُ فِي إِصْطَخْرَ وَيَرُوحُ مِنْهَا فَيَبِيتُ فِي كَابِلَ مِنْ أَرْضِ خُرَاسَانَ. وَالْغُدُوُّ لَيْسَ الشَّهْرُ هُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ جَرَى غُدُوُّهَا، أَيْ جَرْيُهَا فِي الْغُدُوِّ مَسِيرَةَ شَهْرٍ، وَجَرَى رَوَاحُهَا، أَيْ جَرْيُهَا فِي الرَّوَاحِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ. وَأَخْبَرَ هُنَا فِي الْغُدُوِّ عَنِ الرَّوَاحِ بِالزَّمَانِ وَهُوَ شَهْرٌ، وَيَعْنِي
غَدْوَتُهَا وَرَوْحَتُهَا عَلَى وَزْنِ فَعْلَةٍ، وَهِيَ الْمَرَّةُ الْوَاحِدَةُ مِنْ غَدَا وَرَاحَ. وَقَالَ وَهْبٌ: كَانَ مُسْتَقَرُّ سُلَيْمَانَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، بِتَدْمُرَ، وَكَانَتِ الْجِنُّ قَدْ بَنَتْهَا لَهُ بِالصِّفَاحِ وَالْعُمُدِ وَالرُّخَامِ الْأَبْيَضِ وَالْأَشْقَرِ، وَفِيهِ يَقُولُ النَّابِغَةُ:
إِلَا سُلَيْمَانَ قَدْ قَالَ الْإِلَهُ لَهُ | قُمْ فِي البرية فاصددها عن العبد |
وَجَيْشُ الْجِنِّ إِنِّي قَدْ أَذِنْتُ لَهُمْ | يَبْنُونَ تَدْمُرَ بِالصِّفَاحِ وَالْعُمُدِ |
وَنَحْنُ وَلَا حَوْلَ سِوَى حَوْلِ رَبِّنَا | نَرُوحُ مِنَ الْأَوْطَانِ مِنْ أَرْضِ تَدْمُرِ |
إِذَا نَحْنُ رُحْنَا كَانَ رَيْثُ رَوَاحِنَا | مَسِيرَةَ شَهْرٍ والغدو لآخر |
أُنَاسٌ أَعَزَّ اللَّهُ طَوْعًا نُفُوسَهُمْ | بِنَصْرِ ابْنِ دَاوُدَ النَّبِيِّ الْمُطَهَّرِ |
لَهُمْ فِي مَعَانِي الدِّينِ فَضْلٌ وَرِفْعَةٌ | وَإِنْ نُسِبُوا يَوْمًا فَمِنْ خَيْرِ مَعْشَرِ |
وَإِنْ رَكِبُوا الرِّيحَ الْمُطِيعَةَ أَسْرَعَتْ | مُبَادِرَةً عَنْ يُسْرِهَا لَمْ تُقَصِّرِ |
تُظِلُّهُمْ طَيْرٌ صُفُوفٌ عَلَيْهِمْ | مَتَّى رَفْرَفَتْ مِنْ فَوْقِهِمْ لَمْ تُنْشَرِ |
وَقَالَ السُّدِّيُّ: كَانَ مَعَهُ مَلَكٌ بِيَدِهِ سَوْطٌ مِنْ نَارٍ، كُلَّمَا اسْتَعْصَى عَلَيْهِ ضَرَبَهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَرَاهُ الْجِنِّيُّ.
وَلِبَعْضِ الْبَاطِنِيَّةِ، أَوْ مَنْ يُشْبِهُهُمْ، تَحْرِيفٌ فِي هَذِهِ الْجُمَلِ. إِنَّ تَسْبِيحَ الجبال هو نَوْعِ قَوْلِهِ: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ «١»، وَإِنَّ تَسْخِيرَ الرِّيحِ هُوَ أَنَّهُ رَاضَ الْخَيْلَ وَهِيَ كَالرِّيحِ، وَإِنَّ غُدُوُّها شَهْرٌ يَكُونُ فَرْسَخًا، لِأَنَّ مَنْ يَخْرُجُ لِلتَّفَرُّجِ لَا يَسِيرُ فِي غَالِبِ الْأَمْرِ أَشَدَّ مِنْ فَرْسَخٍ. وَإِلَانَةُ الْحَدِيدِ وَإِسَالَةُ الْقِطْرِ هُوَ اسْتِخْرَاجُ ذَوْبِهِمَا بِالنَّارِ وَاسْتِعْمَالُ الْآلَاتِ مِنْهُمَا.
وَمِنَ الْجِنِّ: هُمْ نَاسٌ مِنْ بَنِي آدَمَ أَقْوِيَاءُ شُبِّهُوا بِهِمْ فِي قُوَاهُمْ، وَهَذَا تَأْوِيلٌ فَاسِدٌ وَخُرُوجٌ بِالْجُمْلَةِ عَمَّا يَقُولُهُ أَهْلِ التَّفْسِيرِ فِي الْآيَةِ، وَتَعْجِيزٌ لِلْقُدْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ، نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ ذَلِكَ. وَالْمَحَارِيبُ، قَالَ مُجَاهِدٌ: الْمَشَاهِدُ، سُمِّيَتْ بِاسْمِ بَعْضِهَا تَجَوُّزًا. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ:
الْقُصُورُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: كِلَيْهِمَا. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: مَسَاكِنُ. وَقِيلَ: مَا يُصْعَدُ إِلَيْهِ بِالدَّرَجِ، كَالْغُرَفِ. وَالتَّمَاثِيلُ: الصُّوَرُ، وَكَانَتْ لِغَيْرِ الْحَيَوَانِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: كَانَتْ تَمَاثِيلُ حَيَوَانٍ، وَكَانَ عَمَلُهَا جَائِزًا فِي ذَلِكَ الشَّرْعِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هِيَ صُوَرُ الْمَلَائِكَةِ وَالنَّبِيِّينَ، وَالصَّالِحِينَ، كَانَتْ تُعْمَلُ فِي الْمَسَاجِدِ مِنْ نُحَاسٍ وَصُفْرٍ وَزُجَاجٍ وَرُخَامٍ، لِيَرَاهَا النَّاسُ، فَيَعْبُدُوا نَحْوَ عِبَادَتِهِمْ، وَهَذَا مِمَّا يَجُوزُ أَنْ يَخْتَلِفَ فِيهِ الشَّرَائِعُ، لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ مُقَبَّحَاتِ الْفِعْلِ، كَالظُّلْمِ وَالْكَذِبِ. وَعَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ: لَمْ يَكُنِ اتِّخَاذُ الصُّوَرِ إِذْ ذَاكَ مُحَرَّمًا، أَوْ صُوَرًا مَحْذُوفَةَ الرؤوس. انْتَهَى، وَفِيهِ بَعْضُ حَذْفٍ. وَقِيلَ: التَّمَاثِيلُ طَلْسَمَاتٌ، فَيَعْمَلُ تِمْثَالًا لِلتِّمْسَاحِ، أَوْ لِلذُّبَابِ، أَوْ لِلْبَعُوضِ، وَيَأْمُرُ أَنْ لَا يَتَجَاوَزَ ذَلِكَ الْمُمَثَّلَ بِهِ مَا دَامَ ذَلِكَ التمثال والتصوير حرام فِي شَرِيعَتِنَا. وَقَدْ وَرَدَ تَشْدِيدُ الْوَعِيدِ عَلَى الْمُصَوِّرِينَ، وَلِبَعْضِ الْعُلَمَاءِ اسْتِثْنَاءٌ فِي شَيْءٍ مِنْهَا. وَفِي حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ: لَعَنَ اللَّهُ الْمُصَوِّرِينَ، وَلَمْ يَسْتَثْنِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. وَحَكَى مَكِّيٌّ فِي الْهِدَايَةِ أَنَّ قَوْمًا أَجَازُوا التَّصْوِيرَ، وَحَكَاهُ النَّحَّاسُ عَنْ قَوْمٍ وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ: وَتَماثِيلَ، قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ، وَمَا أَحْفَظُ مِنْ أَئِمَّةِ الْعِلْمِ مَنْ يُجَوِّزُهُ.
وقرىء: كَالْجَوابِ بِلَا يَاءٍ، وَهُوَ الْأَصْلُ، اجْتِزَاءٌ بِالْكَسْرَةِ، وَإِجْرَاءٌ الألف وَاللَّامِ مُجْرَى مَا عَاقَبَهَا، وَهُوَ التَّنْوِينُ، وَكَمَا يُحْذَفُ مَعَ التَّنْوِينِ يُحْذَفُ مَعَ مَا عَاقَبَهُ، وَهُوَ أَلْ.
والراسيات: الثَّابِتَاتُ عَلَى الْأَثَافِيِّ، فَلَا تُنْقَلُ وَلَا تُحْمَلُ لِعِظَمِهَا. وقدمت المحاريب
وَقَالَ عَقِبَ: أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ، واعْمَلُوا صالِحاً، وَعَقِبَ مَا يَعْمَلُهُ الْجِنُّ:
اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً، إِشَارَةً إِلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَسْتَغْرِقُ فِي الدُّنْيَا وَلَا يَلْتَفِتُ إِلَى زَخَارِفِهَا، وَأَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَعْمَلَ صَالِحًا، اعْمَلُوا آلَ داوُدَ. وَقِيلَ: مَفْعُولُ اعْمَلُوا مَحْذُوفٌ، أَيِ اعْمَلُوا الطَّاعَاتِ وَوَاظِبُوا عَلَيْهَا شُكْرًا لِرَبِّكُمْ عَلَى مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْكُمْ، فَقِيلَ:
انْتَصَبَ شُكْرًا عَلَى الْحَالِ، وَقِيلَ: مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ، وَقِيلَ: مَفْعُولٌ لَهُ بِاعْمَلُوا، أَيِ اعْمَلُوا عَمَلًا هُوَ الشُّكْرُ، كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْعِبَادَاتِ كُلِّهَا فِي أَنْفُسِهَا هِيَ الشُّكْرُ إِذَا سَدَّتْ مَسَدَّةً، وَقِيلَ: عَلَى الْمَصْدَرِ لِتَضْمِينِهِ اعْمَلُوا اشْكُرُوا بِالْعَمَلِ لِلَّهِ شُكْرًا.
رُوِيَ أَنَّ مُصَلَّى آلِ دَاوُدَ لَمْ يَخْلُ قَطُّ مِنْ قَائِمٍ يُصَلِّي لَيْلًا وَنَهَارًا، وَكَانُوا يَتَنَاوَبُونَهُ. وَكَانَ سُلَيْمَانُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، يَأْكُلُ الشَّعِيرَ، وَيُطْعِمُ أَهْلَهُ الْخُشْكَارَ، وَالْمَسَاكِينَ الدَّرْمَكَ، وَمَا شَبِعَ قَطُّ، فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: أَخَافُ إِنْ شَبِعْتُ أَنْ أنس الجياع.
والشَّكُورُ: صِيغَةُ مُبَالَغَةٍ، وَأُرِيدَ بِهِ الْجِنْسُ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الشَّكُورُ: مَنْ يَشْكُرُ عَلَى أَحْوَالِهِ كُلِّهَا. وَقَالَ السُّدِّيُّ: مَنْ يَشْكُرُ عَلَى الشُّكْرِ. وَقِيلَ: مَنْ يَرَى عَجْزَهُ عَنِ الشُّكْرِ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ تَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ خِطَابًا لِآلِ دَاوُدَ، وَهُوَ الظَّاهِرُ، وَأَنْ تَكُونَ خِطَابًا لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفِيهَا تَنْبِيهٌ وَتَحْرِيضٌ عَلَى الشُّكْرِ.
فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ: أَيْ أَنْفَذْنَا عَلَيْهِ مَا قَضَيْنَا عَلَيْهِ فِي الْأَزَلِ مِنَ الْمَوْتِ، وَأَخْرَجْنَاهُ إِلَى حَيِّزِ الْوُجُودِ. وَجَوَابُ لَمَّا النَّفْيُ الْمُوجَبُ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لَمَّا حَرْفٌ لَا ظَرْفٌ، خِلَافًا لِمَنْ زَعَمَ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ ظَرْفًا لَكَانَ الْجَوَابُ هُوَ الْعَامِلُ وَمَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ، وَهِيَ نَافِيَةٌ، وَلَا يَعْمَلُ مَا قَبْلَهَا فِيمَا بَعْدَهَا، وَقَدْ مَضَى لَنَا نَظِيرُ هَذَا فِي يُوسُفَ فِي قَوْلِهِ: وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ «١».
وَكَانَ سُلَيْمَانُ قَدْ أَمَرَ الْجِنَّ بِبَنَاءِ صَرْحٍ لَهُ، فَبَنَوْهُ لَهُ. وَدَخَلَهُ مُخْتَلِيًا لِيَصْفُوَ لَهُ يَوْمٌ مِنَ الدَّهْرِ مِنَ الْكَدَرِ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ شَابٌّ فَقَالَ لَهُ: كَيْفَ دَخَلْتَ عَلَيَّ بِغَيْرِ إِذَنٍ؟ فَقَالَ: إِنَّمَا دَخَلْتُ بِإِذْنٍ، قَالَ: وَمَنْ أَذِنَ لَكَ؟
قَالَ: رَبُّ هَذَا الصَّرْحِ. فَعَلِمَ أَنَّهُ مَلَكُ الْمَوْتِ أَتَى بِقَبْضِ رُوحِهِ، فَقَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ، هَذَا الْيَوْمُ الَّذِي طَلَبْتُ فِيهِ الصَّفَا، فَقَالَ لَهُ: طَلَبْتَ مَا لَمْ يُخْلَقْ، فَاسْتَوْثَقَ مِنَ الِاتِّكَاءِ عَلَى الْعَصَا، فَقَبَضَ رُوحَهُ، وَبَقِيَتِ الْجِنُّ تَعْمَلُ عَلَى عَادَتِهَا. وَكَانَ سُلَيْمَانُ قَصَدَ تَعْمِيَةَ مَوْتِهِ، لِأَنَّهُ كَانَ بَقِيَ مِنْ تَمَامِ بِنَاءِ الْمَسْجِدِ عَمَلُ سَنَةٍ، فَسَأَلَ اللَّهَ تَمَامَهَا عَلَى يَدِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ، وَكَانَ يَخْلُو بِنَفْسِهِ الشَّهْرَيْنِ وَالثَّلَاثَةَ، فَكَانُوا يَقُولُونَ: إِنَّهُ يَتَحَنَّثُ.
وَقِيلَ: إِنَّ مَلَكَ الْمَوْتِ أَعْلَمَهُ أَنَّهُ بَقِيَ مِنْ حَيَاتِهِ سَاعَةٌ، فَدَعَا الشَّيَاطِينَ فَبَنَوْا لَهُ الصَّرْحَ، وَقَامَ يُصَلِّي مُتَّكِئًا عَلَى عَصَاهُ، فَقَبَضَ رُوحَهُ وَهُوَ مُتَّكِئٌ عَلَيْهَا. وَكَانَتِ الشَّيَاطِينُ تَجْتَمِعُ حَوْلَ مِحْرَابِهِ، فَلَا يَنْظُرُ أَحَدٌ مِنْهُمْ إِلَيْهِ فِي صَلَاتِهِ إِلَّا احْتَرَقَ، فَمَرَّ وَاحِدٌ مِنْهُمْ فَلَمْ يَسْمَعْ صَوْتَهُ، ثُمَّ رَجَعَ فَلَمْ يَسْمَعْ، فَنَظَرَ فَإِذَا هُوَ قَدْ خَرَّ مَيِّتًا، وَكَانَ عُمْرُهُ ثَلَاثًا وَخَمْسِينَ سَنَةً. مَلَكَ بَعْدَ مَوْتِ أَبِيهِ وَهُوَ ابن ثلاث عشرة سنة، وَكَانَ أَبُوهُ قَدْ أَسَّسَ بُنْيَانَ الْمَسْجِدِ مَوْضِعَ بِسَاطِ مُوسَى، فَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يُتِمَّهُ، وَوَصَّى بِهِ ابْنَهُ، فَأَمَرَ الشَّيَاطِينَ بِإِتْمَامِهِ، وَمَاتَ قبل تمامه.
ودَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ: هِيَ سُوسَةُ الْخَشَبِ، وَهِيَ الْأَرَضَةُ. وَقِيلَ: لَيْسَتْ سُوسَةَ الْخَشَبِ، لِأَنَّ السُّوسَةَ لَيْسَتْ مِنْ دَوَابِّ الْأَرْضِ، بَلْ هَذِهِ حَيَوَانٌ مِنَ الْأَرْضِ شَأْنُهُ أَنْ يَأْكُلَ الْخَشَبَ، وَذَلِكَ مَوْجُودٌ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ، مِنْهَا أَبُو حَاتِمٍ: الْأَرْضُ هُنَا مَصْدَرُ أَرَضَتِ الْأَبْوَابُ، وَالْخَشَبُ أَكَلَتْهَا الْأَرَضَةُ فَكَأَنَّهُ قَالَ: دَابَّةُ الْأَكْلِ الَّذِي هُوَ بِتِلْكَ الصُّورَةِ. وَإِذَا كَانَ الْأَرَضُ مَصْدَرًا، كَانَ فِعْلُهُ أَرَضَتِ الدَّابَّةُ الْخَشَبَ تَأْرُضُهُ أَرَضًا فَأَرِضَ بِكَسْرِ الرَّاءِ نَحْوُ: جَدَعْتُ أَنْفَهُ فَجَدِعَ. وَيُقَالُ: إِنَّهُ مَصْدَرٌ لِفِعْلٍ مَفْتُوحِ الْعَيْنِ، قِرَاءَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَالْعَبَّاسِ بْنِ الْفَضْلِ:
الْأَرَضُ بِفَتْحِ الرَّاءِ، لِأَنَّ مَصْدَرَ فَعَلَ الْمُطَاوِعِ لِفِعْلٍ يَكُونُ عَلَى فَعَلٍ نَحْوِ: جَدَعَ أَنْفُهُ جَدَعًا وَأَكَلَتِ الْأَسْنَانُ أَكَلًا، مُطَاوِعُ أَكَلْتُ. وَقِيلَ: الْأَرَضُ بِفَتْحِ الرَّاءِ جَمْعُ أَرَضَةٍ، وَهُوَ مِنْ إِضَافَةِ الْعَامِّ إِلَى الْخَاصِّ، لِأَنَّ الدَّابَّةَ أَعَمُّ مِنَ الْأَرْضِ. وَقِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ: بِسُكُونِ الرَّاءِ، فَالْمُتَبَادِرُ أَنَّهَا الْأَرْضُ الْمَعْرُوفَةُ، وَتَقَدَّمَ أَنَّهَا مَصْدَرٌ لِأَرَضَتِ الدَّابَّةُ الْخَشَبَ. وَتَأْكُلُ: حَالٌ، أَيْ أَكَلَتْ مِنْسَأَتَهُ، وَهِيَ حَالٌ مُصَاحِبَةٌ. وَتَقَدَّمَ أَنَّ الْمِنْسَأَةَ هِيَ الْعَصَا،
وَكَانَتْ فِيمَا رُوِيَ مِنْ خُرْنُوبٍ، وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ يَتَعَبَّدُ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَتَنْبُتُ لَهُ فِي مِحْرَابِهِ كُلَّ سَنَةٍ شَجَرَةٌ تُخْبِرُهُ بِمَنَافِعِهَا فَيَأْمُرُ فَتُقْلَعُ، وَيَتَصَرَّفُ فِي مَنَافِعِهَا، وَتُغْرَسُ لِتَتَنَاسَلَ. فَلَمَّا قَرُبَ مَوْتُهُ، نَبَتَتْ شَجَرَةٌ وَسَأَلَهَا
وَرُوِيَ أَنَّ سُلَيْمَانَ كَانَ فِي قُبَّةٍ، وَأَوْصَى بَعْضَ أَهْلِهِ بِكِتْمَانِ مَوْتِهِ عَنِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ سَنَةً لِيَتِمَّ الْبِنَاءُ الَّذِي بدىء فِي زَمَنِ دَاوُدَ، فَلَمَّا مَضَى لِمَوْتِهِ سَنَةٌ، خَرَّ عَنِ الْعَصَا وَنُظِرَ إِلَى مِقْدَارِ مَا تَأْكُلُهُ الْأَرَضَةُ يَوْمًا وَقِيسَ عَلَيْهِ، فَعُلِمَ أَنَّهَا أَكَلَتِ الْعَصَا مِنْهُ سَنَةً.
وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَجَمَاعَةٌ: مَنْسَاتُهُ بِأَلِفٍ، وَأَصْلُهُ مِنْسَأَتُهُ، أُبْدِلَتِ الْهَمْزَةُ أَلِفًا بَدَلًا غَيْرَ قِيَاسِيٍّ. وقال أبو عمرو: أنا لَا أَهْمِزُهَا لِأَنِّي لَا أَعْرِفُ لَهَا اشْتِقَاقًا، فَإِنْ كَانَتْ مِمَّا لَا تُهْمَزُ، فَقَدِ احْتَطْتُ، وَإِنْ كَانَتْ تُهْمَزُ، فَقَدْ يَجُوزُ لِي تَرْكُ الْهَمْزَةِ فِيمَا يُهْمَزُ. وَقَرَأَ ابْنُ ذَكْوَانَ وَجَمَاعَةٌ، مِنْهُمْ بَكَّارٌ وَالْوَلِيدَانِ بْنُ عُتْبَةَ وَابْنُ مُسْلِمٍ:
مِنْسَأْتُهُ، بِهَمْزَةٍ سَاكِنَةٍ، وَهُوَ مِنْ تَسْكِينِ التَّحْرِيكِ تَخْفِيفًا، وَلَيْسَ بِقِيَاسٍ. وَضَعَّفَ النُّحَاةُ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ، لِأَنَّهُ يَلْزَمُ فِيهَا أَنْ يَكُونَ مَا قَبْلَ التَّأْنِيثِ سَاكِنًا غَيْرَ الْفَاءِ. وَقِيلَ: قِيَاسُهَا التَّخْفِيفُ بَيْنَ بَيْنَ، وَالرَّاوِي لَمْ يَضْبُطْ، وَأَنْشَدَ هَارُونُ بْنُ مُوسَى الْأَخْفَشُ الدِّمَشْقِيُّ شَاهِدًا عَلَى سُكُونِ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ قَوْلَ الرَّاجِزِ:
صَرِيعُ خَمْرٍ قَامَ مِنْ وَكْأَتِهِ | كَقَوْمَةِ الشَّيْخِ إِلَى مِنْسَأْتِهِ |
فَلَمَّا خَرَّ: أَيْ سَقَطَ عَنِ الْعَصَا مَيِّتًا، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي خَرَّ عَائِدٌ عَلَى سُلَيْمَانَ. وَقِيلَ: إِنَّهُ لَمْ يَمُتْ إِلَى أَنْ وُجِدَ فِي سَفَرٍ مُضْطَجِعًا، وَلَكِنَّهُ كَانَ فِي بَيْتٍ مَبْنِيٍّ عَلَيْهِ، وَأَكَلَتِ الْأَرَضَةُ عَتَبَةَ الْبَابِ حَتَّى خَرَّ الْبَابُ، فَعُلِمَ مَوْتُهُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَاتَ فِي مُتَعَبَّدِهِ عَلَى فِرَاشِهِ، وَقَدْ أَغْلَقَ الْبَابَ عَلَى نَفْسِهِ فَأَكَلَتِ الْأَرَضَةُ الْمِنْسَأَةَ، أَيْ عَتَبَةَ الْبَابِ، فَلَمَّا خَرَّ، أَيِ الْبَابُ. انْتَهَى، وَهَذَا فِيهِ ضَعْفٌ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَتِ الْمِنْسَأَةُ هِيَ الْعَتَبَةُ، وَعَادَ الضَّمِيرُ عَلَيْهَا، لَكَانَ التَّرْكِيبُ: فَلَمَّا خَرَّتْ، بِتَاءِ التَّأْنِيثِ، وَلَا يَجِيءُ حَذْفُ مِثْلِ هَذِهِ التَّاءِ
وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ مِنَ تَبَيَّنَ بِمَعْنَى عَلِمَ وَأَدْرَكَ، وَالْجِنُّ هُنَا خَدَمُ الْجِنِّ، وَضَعَفَتُهُمْ أَنْ لَوْ كانُوا: أَيْ لَوْ كَانَ رُؤَسَاؤُهُمْ وَكُبَرَاؤُهُمْ يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ، قَالَهُ قَتَادَةُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَوْ عَلِمَ الْمُدَّعُونَ عِلْمَ الْغَيْبِ مِنْهُمْ عَجْزَهُمْ، وَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ، وَإِنْ كَانُوا عَالِمِينَ قَبْلَ ذَلِكَ بِحَالِهِمْ، وَإِنَّمَا أُرِيدَ بِهِمُ التَّهَكُّمُ كَمَا يُتَهَكَّمُ بِمُدَّعِي الْبَاطِلِ إِذَا دُحِضَتْ حُجَّتُهُ وَظَهَرَ إِبْطَالُهُ، كَقَوْلِكَ: هَلْ تَبَيَّنْتَ أَنَّكَ مُبْطِلٌ وَأَنْتَ لَا تَعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ لذلك متبينا؟ انتهى.
ويجىء تَبَيَّنَ بِمَعْنَى بَانَ وَظَهَرَ لَازِمًا، وَبِمَعْنَى عَلِمَ مُتَعَدِّيًا مَوْجُودٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ. قَالَ الشَّاعِرُ:
تَبَيَّنَ لِي أَنَّ الْقَمَاءَةَ ذِلَّةٌ | وَأَنَّ أَعِزَّاءَ الرِّجَالِ طِيَالُهَا |
أَفَاطِمُ إِنِّي مَيِّتٌ فتبيني | ولا تجزعي على الأنام بموت |
لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ
. لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى حَالَ الشَّاكِرِينَ لِنِعَمِهِ بِذِكْرِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ، بَيَّنَ حَالَ الْكَافِرِينَ بِأَنْعُمِهِ بِقِصَّةِ سَبَأٍ، مَوْعِظَةً لِقُرَيْشٍ وَتَحْذِيرًا وَتَنْبِيهًا عَلَى مَا جَرَى لِمَنْ كَفَرَ أَنْعُمَ اللَّهِ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي سَبَأٍ فِي النَّمْلِ. وَلَمَّا مَلَكَتْ بِلْقِيسُ، اقْتَتَلَ قَوْمُهَا عَلَى مَاءِ وَادِيهِمْ، فَتَرَكَتْ مُلْكَهَا وَسَكَنَتْ قَصْرَهَا، وَرَاوَدُوهَا عَلَى أَنْ تَرْجِعَ فَأَبَتْ فَقَالُوا: لَتَرْجِعِنَّ أَوْ لَنَقْتُلَنَّكِ، فَقَالَتْ لَهُمْ: لَا عُقُولَ لَكُمْ وَلَا تُطِيعُونِي، فَقَالُوا: نُطِيعُكِ، فَرَجَعَتْ إِلَى وَادِيهِمْ، وَكَانُوا إِذَا مُطِرُوا، أَتَاهُمُ السَّيْلُ مِنْ مَسِيرَةِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، فَأَمَرَتْ بِهِ فَسُدَّ مَا بَيْنَ الْجَبَلَيْنِ بِمَسَاءَةٍ بِالصَّخْرِ وَالْقَارِ، وَحَبَسَتِ الْمَاءَ مِنْ وَرَاءِ السَّدِّ، وَجَعَلَتْ لَهُ أَبْوَابًا بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ، وَبَنَتْ مِنْ دُونِهِ بِرْكَةً فِيهَا اثْنَا عَشَرَ مَخْرَجًا عَلَى عَدَدِ أَنْهَارِهِمْ، وَكَانَ الْمَاءُ يَخْرُجُ لَهُمْ بِالسَّوِيَّةِ إِلَى أَنْ كَانَ مِنْ شَأْنِهَا مَعَ سُلَيْمَانَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، مَا سَبَقَ ذِكْرُهُ فِي سُورَةِ النَّمْلِ. وَقِيلَ: الَّذِي بَنَى لَهُمُ السَّدَّ هُوَ حِمْيَرُ أَبُو الْقَبَائِلِ الْيَمَنِيَّةِ. وَعَنِ الضَّحَّاكِ: كَانُوا فِي الْفَتْرَةِ الَّتِي بَيْنَ عِيسَى وَمُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قِيلَ: وَكَانَ لَهُمْ رَئِيسٌ يُلَقَّبُ بِالْحِمَارِ، وَكَانَ فِي الْفَتْرَةِ، فَمَاتَ وَلَدُهُ، فَرَفَعَ رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ فَبَزَقَ وَكَفَرَ، فَلِذَا يُقَالُ فِي الْمَثَلِ: أَكْفَرُ مِنْ حِمَارٍ، وَيُقَالُ: بِرْكَةُ جَوْفِ حِمَارٍ، أَيْ كَوَادِي حِمَارٍ، لَمَّا حَالَ بِهِمُ السَّيْلُ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: فِي مَسَاكِنِهِمْ، جَمْعًا وَالنَّخَعِيُّ، وَحَمْزَةُ، وَحَفْصٌ: مُفْرَدًا بِفَتْحِ الْكَافِ وَالْكِسَائِيُّ: مُفْرَدًا بِكَسْرِهَا، وَهِيَ قِرَاءَةُ الْأَعْمَشِ وَعَلْقَمَةَ. وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ: كَسْرُ الْكَافِ لُغَةٌ فَاشِيَةٌ، وَهِيَ لُغَةُ النَّاسِ الْيَوْمَ وَالْفَتْحُ لُغَةُ الْحِجَازِ، وَهِيَ الْيَوْمَ قَلِيلَةٌ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: هِيَ لُغَةٌ يَمَانِيَّةٌ فَصِيحَةٌ، فَمَنْ قَرَأَ الْجَمْعَ فَظَاهِرٌ، لِأَنَّ كُلَّ أَحَدٍ لَهُ مَسْكَنٌ، وَمَنْ أَفْرَدَ يَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ عَلَى الْمَصْدَرِ، أَيْ فِي سُكْنَاهُمْ، حَتَّى لَا يَكُونَ مُفْرَدًا يُرَادُ بِهِ الْجَمْعُ، لِأَنَّ سِيبَوَيْهِ يَرَى ذَلِكَ ضَرُورَةً نَحْوَ: كُلُوا فِي بَعْضِ بَطْنِكُمْ تَعْفُوا، يُرِيدُ بُطُونَكُمْ. وَقَوْلُهُ:
قَدْ عَضَّ أَعْنَاقَهُمْ جِلْدُ الْجَوَامِيسِ أَيْ جُلُودُ.
كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ: قَوْلُ اللَّهِ لَهُمْ عَلَى أَلْسِنَةِ الْأَنْبِيَاءِ الْمَبْعُوثِينَ إِلَيْهِمْ، وَرُوِيَ ذَلِكَ مَعَ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ، أَوْ قَوْلُ لِسَانِ الْحَالِ لَهُمْ، كَمَا رَأَوْا نِعَمًا كَثِيرَةً وَأَرْزَاقًا مَبْسُوطَةً، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى تَكْمِيلِ النِّعْمَةِ عَلَيْهِمْ، حَيْثُ لَمْ يَمْنَعْهُمْ مِنْ أَكْلِ ثِمَارِهَا خَوْفٌ وَلَا مَرَضٌ.
وَاشْكُرُوا لَهُ عَلَى مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْكُمْ، بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ: أَيْ كَرِيمَةُ التُّرْبَةِ، حَسَنَةُ الْهَوَاءِ، رَغْدَةُ النِّعَمِ، سَلِيمَةٌ مِنَ الْهَوَامِّ وَالْمَضَارِّ، وَرَبٌّ غَفُورٌ، لَا عِقَابَ عَلَى التَّمَتُّعِ بِنِعَمِهِ فِي الدُّنْيَا، وَلَا عَذَابَ فِي الْآخِرَةِ، فَهَذِهِ لَذَّةٌ كَامِلَةٌ خَالِيَةٌ عَنِ الْمَفَاسِدِ الْعَاجِلَةِ وَالْمَآلِيَّةِ. وَقَرَأَ رُوَيْسٌ: بِنَصْبِ الْأَرْبَعَةِ. قَالَ أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى: اسْكُنُوا بَلْدَةً طَيِّبَةً وَاعْبُدُوا رَبًّا غَفُورًا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَدْحِ. وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى مَا كَانَ مِنْ جَانِبِهِ مِنَ الْإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ، ذَكَرَ مَا كَانَ مِنْ جَانِبِهِمْ فِي مُقَابَلَتِهِ فَقَالَ: فَأَعْرَضُوا: أَيْ عَمَّا جَاءَ بِهِ إِلَيْهِمْ أنبياؤهم،
وَقَالَ الْأَخْفَشُ: هُوَ عَرَبِيٌّ، وَيُقَالُ لِذَلِكَ الْبِنَاءِ بِلُغَةِ الْحِجَازِ الْمُسَنَّاةُ، كَأَنَّهَا الْجُسُورُ وَالسِّدَادُ، وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُ الْأَعْشَى:
وَفِي ذَاكَ لِلْمُؤْتَسِي أُسْوَةٌ | مَآرِبُ عَفَى عَلَيْهَا العرم |
رجام بَنَتْهُ لَهُمْ حِمْيَرُ | إِذَا جَاشَ دِفَاعُهُ لَمْ يَرِمْ |
فَأَرْوَى الزُّرُوعَ وَأَشْجَارَهَا | عَلَى سَعَةٍ مَاؤُهُ إِذْ قُسِمْ |
فَصَارُوا أَيَادِيَ لَا يَقْدِرُو | نَ مِنْهُ عَلَى شِرْبِ طِفْلٍ فَطِمْ |
وَمِنْ سَبَأٍ لِلْحَاضِرِينَ مَآرِبُ | إِذَا بَنَوْا مِنْ دُونِهِ سَيْلَ الْعَرِمِ |
وَلَمَّا غَرِقَ مَنْ غَرِقَ، وَنَجَا مَنْ نَجَا، تَفَرَّقُوا وَتَحَرَّفُوا حَتَّى ضَرَبَتِ العرب بهم المثل
(٢) سورة السجدة: ٣٢/ ٢٢.
وَدَخَلَتِ الْبَاءُ فِي بِجَنَّتَيْهِمْ عَلَى الزَّائِلِ، وَانْتُصِبَ مَا كَانَ بَدَلًا، وَهُوَ قَوْلُهُ:
جَنَّتَيْنِ عَلَى الْمَعْهُودُ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ، وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا لِمَنْ يَنْتَمِي لِلْعِلْمِ يَفْهَمُ الْعَكْسَ حَتَّى قَالَ بَعْضُهُمْ: وَلَوْ أَبْدَلَ ضَادًا بِظَاءٍ لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ، وَهُوَ خَطَأٌ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ، وَلَوْ أَبْدَلَ ظَاءً بِضَادٍ، وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى ذَلِكَ فِي الْبَقَرَةِ فِي قَوْلِهِ: وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ «١». وَسَمَّى هَذَا الْمُعَوَّضَ جَنَّتَيْنِ عَلَى سَبِيلِ الْمُقَابَلَةِ، لِأَنَّ مَا كَانَ فِيهِ خَمْطٌ وَأَثْلٌ وَسِدْرٌ لَا يُسَمَّى جَنَّةً، لِأَنَّهَا أَشْجَارٌ لَا يَكَادُ يَنْتَفِعُ بِهَا. وَجَاءَتْ تَثْنِيَةُ ذَاتٍ عَلَى الْأَصَحِّ فِي رَدِّ عَيْنِهَا فِي التَّثْنِيَةِ فَقَالَ: ذَواتَيْ أُكُلٍ، كَمَا جَاءَ ذَواتا أَفْنانٍ «٢». وَيَجُوزُ أَنْ لَا تَرُدَّ فَتَقُولَ: ذَاتَا كَذَا عَلَى لَفْظِ ذَاتٍ، وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ الْخِلَافِ فِي ضَمِّ كَافِ أُكُلٍ وَسُكُونِهَا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: أُكُلٍ مُنَوَّنًا، وَالْأُكُلُ: الثَّمَرُ الْمَأْكُولُ، فَخَرَّجَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ عَلَى أَنَّهُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ أُكُلِ خَمْطٍ قَالَ أَوْ وُصِفَ الْأُكُلُ بِالْخَمْطِ كَأَنَّهُ قِيلَ ذَوَاتِي أُكُلٍ شَبَعٍ. انْتَهَى.
وَالْوَصْفُ بِالْأَسْمَاءِ لَا يَطَّرِدُ، وَإِنْ كَانَ قَدْ جَاءَ مِنْهُ شَيْءٌ، نَحْوُ قَوْلِهِمْ: مَرَرْتُ بِقَاعٍ عَرْفَجٍ كُلِّهِ. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ: الْبَدَلُ فِي هَذَا لَا يَحْسُنُ، لِأَنَّ الْخَمْطَ لَيْسَ بِالْأَكْلِ نَفْسِهِ. انْتَهَى. وَهُوَ جَائِزٌ عَلَى مَا قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، لِأَنَّ الْبَدَلَ حَقِيقَةٌ هُوَ ذَلِكَ الْمَحْذُوفُ، فَلَمَّا حُذِفَ أُعْرِبَ مَا قَامَ مَقَامَهُ بِإِعْرَابِهِ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: وَالصِّفَةُ أَيْضًا كَذَلِكَ، يُرِيدُ لَا بِجَنَّتَيْنِ، لِأَنَّ الْخَمْطَ اسْمٌ لَا صِفَةٌ، وَأَحْسَنُ مَا فِيهِ عَطْفُ الْبَيَانِ، كَأَنَّهُ بَيَّنَ أَنَّ الْأُكُلَ هَذِهِ الشَّجَرَةُ وَمِنْهَا. انْتَهَى. وَهَذَا لَا يَجُوزُ عَلَى مَذْهَبِ الْبَصْرِيِّينَ، إِذْ شَرْطُ عَطْفِ الْبَيَانِ أَنْ يَكُونَ مَعْرِفَةً، وَمَا قَبْلَهُ مَعْرِفَةٌ، وَلَا يُجِيزُ ذَلِكَ فِي النَّكِرَةِ مِنَ النَّكِرَةِ إِلَّا الكوفيون، فأبو علي أخذ بِقَوْلِهِمْ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو: أُكُلِ خَمْطٍ بِالْإِضَافَةِ: أَيْ ثَمَرِ خمط. وقرىء: وَأَثْلًا وَشَيْئًا بِالنَّصْبِ، حَكَاهُ الْفَضْلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَطْفًا عَلَى جَنَّتَيْنِ. وَقَلِيلٍ صِفَةٌ لِسِدْرٍ، وَقَلَّلَهُ لِأَنَّهُ كَانَ أَحْسَنَ أَشْجَارِهِ وَأَكْرَمَ، قَالَهُ الْحَسَنُ، وَذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى مَا أَجْرَاهُ عَلَيْهِمْ مِنْ تَخْرِيبِ بِلَادِهِمْ، وَإِغْرَاقِ أَكْثَرِهِمْ، وَتَمْزِيقِهِمْ فِي الْبِلَادِ، وَإِبْدَالِهِمْ بِالْأَشْجَارِ الْكَثِيرَةِ الْفَوَاكِهِ الطَّيِّبَةِ الْمُسْتَلَذَّةِ، الْخَمْطِ وَالْأَثْلِ وَالسِّدْرِ. ثُمَّ ذَكَرَ سَبَبَ ذَلِكَ، وَهُوَ كُفْرُهُمْ بِاللَّهِ وَإِنْكَارُ نِعَمِهِ. وَهَلْ نُجازِي بِذَلِكَ الْعِقَابِ إِلَّا الْكَفُورَ: أَيِ الْمَبَالِغَ فِي الْكُفْرِ، يُجَازَى بِمِثْلِ فِعْلِهِ قَدْرًا بِقَدْرٍ، وأما المؤمن
(٢) سورة الرحمن: ٥٥/ ٤٨.
وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً: جَاءَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ بَعْدَ قَوْلِهِ: وَبَدَّلْناهُمْ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِمْ مِنَ جَنَّتَيْهِمْ، وَذَكَرَ تَبْدِيلَهَا بِالْخَمْطِ وَالْأَثْلِ وَالسِّدْرِ، ذَكَرَ مَا كَانَ أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِمْ مِنَ اتِّصَالِ قُرَاهُمْ، وَذَكَرَ تَبْدِيلَهَا بِالْمَفَاوِزِ وَالْبَرَارِي. وَقَوْلُهُ: وَجَعَلْنا، وَصَفَ تَعَالَى حَالَهُمْ قَبْلَ مَجِيءِ السَّيْلِ، وَهُوَ أَنَّهُ مَعَ مَا كَانَ مِنْهُمْ مِنَ الْجَنَّتَيْنِ وَالنِّعْمَةِ الْخَاصَّةِ بِهِمْ، كَانَ قَدْ أَصْلَحَ لَهُمُ الْبِلَادَ الْمُتَّصِلَةَ بِهِمْ وَعَمَّرَهَا وَجَعَلَهُمِ أَرْبَابَهَا، وَقَدَّرَ السَّيْرَ بِأَنْ قَرَّبَ الْقُرَى بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: حَتَّى كَانَ الْمُسَافِرُ مِنْ مَأْرِبَ إِلَى الشَّامِ يَبِيتُ فِي قَرْيَةٍ وَيَقِيلُ فِي أُخْرَى، وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى حَمْلِ زَادٍ.
وَالْقُرَى: الْمُدُنُ، وَيُقَالُ لِلْجَمْعِ الصَّغِيرِ أَيْضًا قَرْيَةٌ. وَالْقُرَى الَّتِي بُورِكَ فِيهَا بِلَادُ الشَّامِ، بِإِجْمَاعٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ. وَالْقُرَى الظَّاهِرَةُ هِيَ الَّتِي بَيْنَ الشَّامِ وَمَأْرِبَ، وَهِيَ الصِّغَارُ الَّتِي هِيَ الْبَوَادِي. انْتَهَى. وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ أَنَّ الْقُرَى الَّتِي بُورِكَ فِيهَا هِيَ قُرَى الشَّامِ بِإِجْمَاعٍ لَيْسَ كَمَا ذَكَرَ، قَالَ مُجَاهِدٌ: هِيَ السَّرَاوَى. وَقَالَ وَهْبٌ: قُرَى صَنْعَاءَ. وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: قُرَى مَأْرِبَ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قُرَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ. وَبَرَكَتُهَا: كَثْرَةُ أَشْجَارِهَا أَوْ ثِمَارِهَا. وَوَصَفَ قُرًى بِظَاهِرَةً، قَالَ قَتَادَةُ: مُتَّصِلَةٌ عَلَى الطَّرِيقِ، يَغْدُونَ فَيَقِيلُونَ فِي قَرْيَةٍ، وَيَرُوحُونَ فَيَبِيتُونَ فِي قَرْيَةٍ. قِيلَ: كَانَ كُلُّ مِيلٍ قَرْيَةً بِسُوقٍ، وَهُوَ سَبَبُ أَمْنِ الطَّرِيقِ. وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: ظَاهِرَةً:
مُرْتَفِعَةً، أَيْ فِي الْآكَامِ وَالظِّرَابِ، وَهُوَ أَشْرَفُ الْقُرَى. وَقِيلَ: ظَاهِرَةً، إِذَا خَرَجْتَ مِنْ هَذِهِ ظَهَرَتْ لَكَ الْأُخْرَى. وَقِيلَ: ظَاهِرَةً: مَعْرُوفَةً، يُقَالُ هَذَا أَمْرٌ ظَاهِرٌ: أَيْ مَعْرُوفٌ، وَقِيلَ:
ظَاهِرَةً: عَامِرَةً. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّ معنى ظاهر: خَارِجَةً عَنِ الْمُدَّةِ، فَهِيَ عِبَارَةٌ عَنِ الْقُرَى الصِّغَارِ الَّتِي هِيَ فِي ظَوَاهِرِ الْمُدُنِ، كَأَنَّهُ فَصَلَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ بَيْنَ الْقُرَى الصِّغَارِ وَبَيْنَ الْقُرَى الْمُطْلَقَةِ الَّتِي هِيَ الْمُدُنُ. وَظَوَاهِرُ الْمُدُنِ: مَا خَرَجَ عَنْهَا فِي الْفَيَافِي وَالْفُحُوصِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: نَزَلْنَا بِظَاهِرِ فَلَاةٍ أَيْ خَارِجًا عَنْهَا، وَقَوْلُهُ: ظاهِرَةً: تَظْهَرُ، تُسَمِّيهِ النَّاسُ إِيَّاهَا بِالْبَادِيَةِ وَالضَّاحِيَةِ، وَمِنْ هَذَا قَوْلُ الشَّاعِرِ:
فَلَوْ شَهَدَتْنِي مِنْ قُرَيْشٍ عِصَابَةٌ | قُرَيْشُ الْبِطَاحُ لَا قُرَيْشُ الظَّوَاهِرُ |
وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: سِيرُوا، أَمْرٌ حَقِيقَةً عَلَى لِسَانِ أَنْبِيَائِهِمْ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَلَا قَوْلَ ثَمَّ، وَلَكِنَّهُمْ لَمَّا مُكِّنُوا مِنَ السَّيْرِ، وَسُوِّيَتْ لَهُمْ أَسْبَابُهُ، فَكَأَنَّهُمْ أُمِرُوا بِذَلِكَ وَأُذِنَ لَهُمْ فِيهِ.
انْتَهَى. وَدُخُولُ الْفَاءِ فِي قَوْلِهِ فَكَأَنَّهُمْ لَا يَجُوزُ، وَالصَّوَابُ كَأَنَّهُمْ لِأَنَّهُ خَبَرُ لَكِنَّهُمْ. وَقَالَ قَتَادَةُ: كَانُوا يَسِيرُونَ مَسِيرَةَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فِي أَمَانٍ، وَلَوْ وَجَدَ الرَّجُلُ قَاتِلَ ابْنِهِ لَمْ يُهِجْهُ، وَكَانَ الْمُسَافِرُ لَا يَأْخُذُ زَادًا وَلَا سِقَاءً مِمَّا بَسَطَ اللَّهُ لَهُمْ مِنَ النِّعَمِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: سِيرُوا فِيها، إِنْ شِئْتُمْ بِاللَّيْلِ، وَإِنْ شِئْتُمْ بِالنَّهَارِ، فَإِنَّ الْأَمْنَ فِيهَا لَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَوْقَاتِ أَوْ سِيرُوا فِيهَا آمِنِينَ وَلَا تَخَافُونَ، وَإِنْ تَطَاوَلَتْ مُدَّةُ أَسْفَارِكُمْ فِيهَا وَامْتَدَّتْ أَيَّامًا وَلَيَالِيَ أَوْ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَكُمْ وَأَيَّامَكُمْ مُدَّةَ أَعْمَارِكُمْ، فَإِنَّكُمْ فِي كُلِّ حِينٍ وَزَمَانٍ لَا تُلْقُونَ فِيهَا إِلَّا آمَنِينَ.
انْتَهَى. وَقَدَّمَ اللَّيَالِيَ، لِأَنَّهَا مَظِنَّةُ الْخَوْفِ لِمَنْ قَالَ: وَمَنَّ عَلَيْهِمْ بِالْأَمْنِ، حَتَّى يُسَاوِيَ اللَّيْلُ النَّهَارَ فِي ذَلِكَ.
وَلَمَّا طَالَتْ بِهِمْ مُدَّةُ النِّعْمَةِ بَطَرُوا وَمَلُّوا الْعَافِيَةَ، وَطَلَبُوا اسْتِبْدَالَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ، كَمَا فَعَلَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ، وَقَالُوا: لَوْ كَانَ جَنْيُ ثِمَارِنَا أَبْعَدَ لَكَانَ أَشْهَى وَأَغْلَى قِيمَةً، فَتَمَنَّوْا أَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الشَّامِ مَفَاوِزَ لِيُرَكِّبُوا الرَّوَاحِلَ فِيهَا وَيَتَزَوَّدُوا الْأَزْوَادَ فَقَالُوا:
رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا. وَقَرَأَ جُمْهُورُ السَّبْعَةِ: رَبَّنَا بِالنَّصْبِ عَلَى النِّدَاءِ، بَاعِدْ: طَلَبٌ وَابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَهِشَامٌ: كَذَلِكَ، إِلَّا أَنَّهُمْ شَدَّدُوا الْعَيْنَ وَابْنُ عَبَّاسٍ، وابْنُ الْحَنَفِيَّةِ، وَعَمْرُو بْنُ فَائِدٍ: رَبُّنَا رَفْعًا، بَعَدَ فِعْلًا مَاضِيًا مُشَدَّدَ الْعَيْنِ وَابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا، وَابْنُ الْحَنَفِيَّةِ أَيْضًا وَأَبُو رَجَاءٍ، وَالْحَسَنُ، وَيَعْقُوبُ، وَأَبُو حَاتِمٍ، وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ، وَابْنُ يَعْمَرَ أَيْضًا وَأَبُو صَالِحٍ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَالْكَلْبِيُّ،
وَمُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ، وَسَلَّامٌ، وَأَبُو حَيْوَةَ:
كَذَلِكَ، إِلَّا أَنَّهُ بِأَلِفٍ بَيْنِ الْبَاءِ وَالْعَيْنِ وَسَعِيدُ بْنُ أَبِي الْحَسَنِ أَخِي الْحُسَيْنِ، وَابْنُ الْحَنَفِيَّةِ أَيْضًا، وَسُفْيَانُ بْنُ حُسَيْنٍ، وَابْنُ السَّمَيْفَعِ: رَبَّنَا بِالنَّصْبِ، بَعُدَ بِضَمِّ الْعَيْنِ
فِعْلًا مَاضِيًا بَيْنَ بِالنَّصْبِ، إِلَّا سَعِيدًا مِنْهُمْ، فَضَمَّ نُونَ بَيْنَ جَعَلَهُ فَاعِلًا، وَمَنْ نَصَبَ، فَالْفَاعِلُ ضَمِيرٌ يَعُودُ عَلَى السَّيْرِ، أَيْ أَبْعِدِ السَّيْرَ بَيْنَ أَسْفَارِنَا، فَمَنْ نَصَبَ رَبَّنَا جَعَلَهُ نِدَاءً، فَإِنْ جَاءَ بَعْدَهُ طَلَبٌ كَانَ ذَلِكَ أَشَرًا مِنْهُمْ وَبَطَرًا وَإِنْ جَاءَ بَعْدَ فِعْلًا مَاضِيًا كَانَ ذَلِكَ شَكْوَى مِمَّا أَحَلَّ بِهِمْ مِنْ بُعْدِ
بَيْنَ سَفَرِنَا مُفْرَدًا وَالْجُمْهُورُ: بِالْجَمْعِ. وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ: عَطْفٌ عَلَى فَقالُوا. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: هُوَ حَالٌ، أَيْ وَقَدْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بِتَكْذِيبِ الرُّسُلِ. فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ: أَيْ عِظَاةً وَعِبَرًا يُتَحَدَّثُ بِهِمْ وَيُتَمَثَّلُ. وَقِيلَ: لَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ إِلَّا الْحَدِيثُ، وَلَوْ بَقِيَ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لَمْ يَكُونُوا أَحَادِيثَ. وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ: أَيْ تَفْرِيقًا، اتَّخَذَهُ النَّاسُ مَثَلًا مَضْرُوبًا، فقال كثير:
أيادي سبايا عَزَّ مَا كُنْتُ بَعْدَكُمْ | فَلَمْ يَحْلُ لِلْعَيْنَيْنِ بَعْدَكِ مَنْظَرُ |
وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ سَبَأَ أَبُو عَشَرَةِ قَبَائِلَ، فَلَمَّا جَاءَ السَّيْلُ عَلَى مَأْرِبٍ، وَهُوَ اسْمُ بَلَدِهِمْ، تَيَامَنَ مِنْهُمْ سِتَّةُ قَبَائِلَ، أَيْ تَبَدَّدَتْ فِي بِلَادِ الْيَمَنِ: كِنْدَةُ وَالْأَزْدُ وَالسِّفْرُ وَمُذْحِجُ وَأَنْمَارُ، الَّتِي مِنْهَا بَجِيلَةُ وَخَثْعَمٌ، وَطَائِفَةٌ قِيلَ لَهَا حُجَيْرٌ بَقِيَ عَلَيْهَا اسْمُ الْأَبِ الْأَوَّلِ وَتَشَاءَمَتْ أَرْبَعَةٌ: لَخْمٌ وَجُذَامٌ وَغَسَّانُ وَخُزَاعَةُ، وَمِنْ هَذِهِ الْمُتَشَائِمَةِ أَوْلَادُ قُتَيْلَةَ، وَهُمُ الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ، وَمِنْهَا عَامِلَةٌ وَغَيْرُ ذَلِكَ.
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ: أَيْ فِي قَصَصِ هَؤُلَاءِ لَآيَةً: أَيْ عَلَامَةً. لِكُلِّ صَبَّارٍ، عَنِ الْمَعَاصِي وَعَلَى الطَّاعَاتِ. شَكُورٍ، لِلنِّعَمِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي عَلَيْهِمْ عَائِدٌ عَلَى مَنْ قَبْلَهُ مِنَ أَهْلِ سَبَأٍ، وَقِيلَ: هُوَ لِبَنِي آدَمَ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَقَتَادَةُ، وَطَلْحَةُ، وَالْأَعْمَشُ، وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ، وَالْكُوفِيُّونَ: صَدَّقَ بِتَشْدِيدِ الدَّالِ، وَانْتَصَبَ ظَنَّهُ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ بِصَدَّقَ، وَالْمَعْنَى: وَجَدَ ظَنَّهُ صَادِقًا، أَيْ ظَنَّ شَيْئًا فَوَقَعَ مَا ظَنَّ. وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ: بِالتَّخْفِيفِ، فَانْتَصَبَ ظَنَّهُ عَلَى الْمَصْدَرِ، أَيْ يَظُنُّ ظَنًّا، أَوْ عَلَى إِسْقَاطِ الْحَرْفِ، أَيْ فِي ظَنِّهِ، أَوْ عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ نَحْوُ قَوْلِهِمْ: أَخْطَأْتُ ظَنِّي، وَأَصَبْتُ ظَنِّي، وَظَنَّهُ هَذَا كَانَ حِينَ قال: لَأُضِلَّنَّهُمْ «١»، وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ «٢»، وَهَذَا مِمَّا قَالَهُ ظَنًّا مِنْهُ، فَصَدَقَ هَذَا الظن.
(٢) سورة الحجر: ١٥/ ٣٩. [.....]
وَجَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَأَبُو الْجَهْجَاهِ الْأَعْرَابِيُّ مِنْ فُصَحَاءِ الْعَرَبِ، وَبِلَالُ بْنُ أَبِي بَرْزَةَ: بِنَصْبِ إِبْلِيسَ وَرَفْعِ ظَنَّهُ.
أَسْنَدَ الْفِعْلَ إلى ظنه، لأنه ظنا فَصَارَ ظَنُّهُ فِي النَّاسِ صَادِقًا، كَأَنَّهُ صَدَقَهُ ظَنَّهُ وَلَمْ يُكَذِّبْهُ. وَقَرَأَ عَبْدُ الْوَارِثِ عَنْ أَبِي عَمْرٍو: إبليس ظَنُّهُ، بِرَفْعِهِمَا، فَظَنُّهُ بَدَلٌ مِنْ إِبْلِيسُ بَدَلُ اشْتِمَالٍ.
فَاتَّبَعُوهُ: أَيْ فِي الْكُفْرِ. إِلَّا فَرِيقاً: هُمُ الْمُؤْمِنُونَ، وَمِنْ لِبَيَانِ الْجِنْسِ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ لِلتَّبْعِيضِ لِاقْتِضَاءِ ذَلِكَ، أَنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اتَّبَعُوا إِبْلِيسَ. وَفِي قَوْلِهِ:
إِلَّا فَرِيقاً، تَقْلِيلٌ، لِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ بِالْإِضَافَةِ إِلَى الْكُفَّارِ قَلِيلٌ، كَمَا قَالَ: لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا. وَما كانَ لَهُ: أَيْ لِإِبْلِيسَ، عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ: أَيْ مِنْ تَسَلُّطٍ وَاسْتِيلَاءٍ بِالْوَسْوَسَةِ وَالِاسْتِوَاءِ، وَلَا حُجَّةٍ إِلَّا الْحِكْمَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ تَمَيُّزِ الْمُؤْمِنِ بِالْآخِرَةِ مِنَ الشَّاكِّ فِيهَا.
وَعَلَّلَ التَّسَلُّطَ بِالْعِلْمِ، وَالْمُرَادُ مَا تَعَلَّقَ بِهِ الْعِلْمُ، قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. وَقَالَ ابْنُ عطية: إِلَّا لِنَعْلَمَ مَوْجُودًا، لِأَنَّ الْعِلْمَ مُتَقَدِّمٌ أَوَّلًا. انْتَهَى. وَقَالَ مَعْنَاهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ، قَالَ: لِنَعْلَمَ حَادِثًا كَمَا عَلِمْنَاهُ قَبْلَ حُدُوثِهِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: لِيَعْلَمَ اللَّهُ بِهِ الْمُؤْمِنَ مِنَ الْكَافِرِ عَامًّا ظَاهِرًا يَسْتَحِقُّ بِهِ الْعِقَابَ وَالثَّوَابَ وَقِيلَ: لِيَعْلَمَ أَوْلِيَاؤُنَا وَحِزْبُنَا. وَقَالَ الْحَسَنُ: وَاللَّهِ مَا كَانَ لَهُ سَوْطٌ وَلَا سَيْفٌ، وَلَكِنَّهُ اسْتَمَالَهُمْ فَمَالُوا بِتَزْيِينِهِ. انْتَهَى. كَمَا قال تعالى عنه: ما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي «١». وَقَرَأَ الزُّهْرِيُّ: إِلَّا لِيُعْلَمَ، بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ اللَّامِ، مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ. وَقَالَ ابْنُ خَالَوَيْهِ: إِلَّا لِيُعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْيَاءِ. وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ، إِمَّا لِلْمُبَالَغَةِ عَدَلَ إِلَيْهَا عَنْ حَافِظٍ، وَإِمَّا بِمَعْنَى مُحَافِظٍ، كَجَلِيسٍ وَخَلِيلٍ. وَالْحِفْظُ يَتَضَمَّنُ الْعِلْمَ وَالْقُدْرَةَ، لِأَنَّ مَنْ جَهِلَ الشَّيْءَ وَعَجَزَ لَا يُمْكِنُهُ حِفْظُهُ.
قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ وَما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ، وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا مَاذَا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ، قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ، قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ، قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ، قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ كَلَّا بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ، وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ، وَيَقُولُونَ مَتى هذَا
لَمَّا بَيَّنَ حَالَ الشَّاكِرِينَ وَحَالَ الْكَافِرِينَ، وَذَكَرَ قُرَيْشًا وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِمَنْ مَضَى، عَادَ إِلَى خِطَابِهِمْ فَقَالَ: قُلْ، يَا مُحَمَّدُ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ ضُرِبَ لَهُمُ الْمَثَلُ بِقِصَّةِ سَبَأٍ الْمَعْرُوفَةِ عِنْدَهُمْ بِالنَّقْلِ فِي أَخْبَارِهِمْ وَأَشْعَارِهِمْ، ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ، وَهُمْ مَعْبُودَاتُهُمْ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالْأَصْنَامِ، وَهُوَ أَمْرٌ بِدُعَاءٍ هُوَ تَعْجِيزٌ وَإِقَامَةٌ لِلْحُجَّةِ. وَرُوِيَ أَنَّ ذَلِكَ نَزَلَ عِنْدَ الْجُوعِ الَّذِي أَصَابَ قُرَيْشًا، أَيِ ادْعُوهُمْ لِيَكْشِفُوا عَنْكُمْ مَا حَلَّ بِكُمْ، وَالْجَئُوا إِلَيْهِمْ فِيمَا يَعِنُّ لَكُمْ. وَزَعَمَ: مِنَ الْأَفْعَالِ الَّتِي تَتَعَدَّى إِلَى اثْنَيْنِ إِذَا كَانَتْ اعْتِقَادِيَّةً، وَالْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ هُوَ الضَّمِيرُ الْمَحْذُوفُ الْعَائِدُ عَلَى الَّذِينَ، وَالثَّانِي مَحْذُوفٌ أَيْضًا لِدَلَالَةِ الْمَعْنَى، وَنَابَتْ صِفَتُهُ مَنَابَهُ، التَّقْدِيرُ: الَّذِي زَعَمْتُمُوهُمْ آلِهَةً مِنْ دُونِهِ وَحَسَّنَ حَذْفَ الثَّانِي قِيَامُ صِفَتِهِ مَقَامَهُ، وَلَوْلَا ذَلِكَ مَا حَسُنَ، إِذْ فِي حَذْفِ إِحْدَى مَفْعُولَيْ ظَنَّ وَأَخَوَاتِهَا اخْتِصَارًا خِلَافٌ، مَنَعَ ذَلِكَ ابْنُ مَلَكُوتٍ، وَأَجَازَهُ الْجُمْهُورُ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ قَلِيلٌ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الثَّانِي مِنْ دُونِهِ، لِأَنَّهُ لَا يَسْتَقِلُّ كَلَامًا. لَوْ قُلْتُ: هُمْ مَنْ دُونِهِ، لَمْ يَصِحَّ، وَلَا الْجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِهِ: لَا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَتْ هَذِهِ النِّسْبَةُ مَزْعُومَةً لَهُمْ لَكَانُوا مُعْتَرِفِينَ بِالْحَقِّ قَائِلِينَ لَهُ. وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ تَوْحِيدًا مِنْهُمْ، وَأَنَّ آلِهَتَهُمْ وَمَعْبُودَاتِهِمْ لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا بِاعْتِرَافِهِمْ. ثُمَّ أَخْبَرَ عَنْ آلِهَتِهِمْ أَنَّهُمْ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ، وَهُوَ أَحْقَرُ الْأَشْيَاءِ، وَإِذَا انْتَفَى مِلْكُ الْأَحْقَرِ عَنْهُمْ، فَمِلْكُ الْأَعْظَمِ أَوْلَى. ثُمَّ ذَكَرَ مَقَرَّ ذَلِكَ الْمِثْقَالِ، وهو السموات وَالْأَرْضُ. ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّهُمْ ما لهم في السموات وَلَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شِرْكَةٍ، فَنَفَى نَوْعَيِ الْمُلْكِ مِنَ الِاسْتِبْدَادِ وَالشِّرْكَةِ. ثُمَّ نَفَى الْإِعَانَةَ مِنْهُمْ لَهُ تَعَالَى فِي شَيْءٍ مِمَّا أَنْشَأَ بِقَوْلِهِ: وَما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ، فَبَيَّنَ عَجْزَ مَعْبُودَاتِهِمْ مِنْ جَمِيعِ الْجِهَاتِ.
وَلَمَّا كَانَ مِنَ الْعَرَبِ مَنْ يَعْبُدُ الْمَلَائِكَةَ لِتَشْفَعَ لَهُ، نَفَى أَنَّ شَفَاعَتَهُمْ تَنْفَعُ، وَالنَّفْيُ مُنْسَحِبٌ عَلَى الشَّفَاعَةِ، أَيْ لَا شَفَاعَةَ لَهُمْ فَتَنْفَعُ، وَلَيْسَ الْمَعْنَى أَنَّهُمْ يَشْفَعُونَ، وَلَا تَنْفَعُ
استثناء مُفَرَّغٌ، فَالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ لِأَحَدٍ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ.
وَاحْتَمَلَ قَوْلُهُ لِأَحَدٍ أَنْ يَكُونَ مَشْفُوعًا لَهُ، وَهُوَ الظَّاهِرُ، فَيَكُونَ قَوْلُهُ: إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ، أَيِ الْمَشْفُوعِ، أَذِنَ لِأَجْلِهِ أَنْ يَشْفَعَ فِيهِ وَالشَّافِعُ لَيْسَ بِمَذْكُورٍ، وَإِنَّمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْمَعْنَى.
وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ شَافِعًا، فَيَكُونَ قَوْلُهُ: إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ بِمَعْنَى: إِلَّا لِشَافِعٍ أَذِنَ لَهُ أَنْ يَشْفَعَ، وَالْمَشْفُوعُ لَيْسَ بِمَذْكُورٍ، إِنَّمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْمَعْنَى. وَعَلَى هَذَا الِاحْتِمَالِ تَكُونُ اللَّامُ فِي أَذِنَ لَهُ لَامَ التَّبْلِيغِ، لَا لَامَ الْعِلَّةِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يَقُولُ: الشَّفَاعَةُ لِزَيْدٍ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ الشَّافِعُ، كَمَا يَقُولُ: الْكَرَمُ لِزَيْدٍ، وَعَلَى مَعْنَى أَنَّهُ الْمَشْفُوعُ لَهُ، كَمَا تَقُولُ: الْقِيَامُ لِزَيْدٍ، فَاحْتَمَلَ قَوْلُهُ: وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ أَنْ يَكُونَ عَلَى أَحَدِ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ، أَيْ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا كَائِنَةً لِمَنْ أَذِنَ لَهُ مِنَ الشَّافِعِينَ وَمُطْلَقَةً لَهُ، أَوْ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا كَائِنَةً لمن أذن له، أي لِشَفِيعِهِ، أَوْ هِيَ اللَّامُ الثَّانِيَةُ فِي قَوْلِكَ: أَذِنَ لِزَيْدٍ لِعَمْرٍو، أَيْ لِأَجْلِهِ، وَكَأَنَّهُ قِيلَ: إِلَّا لِمَنْ وَقَعَ الْإِذْنُ لِلشَّفِيعِ لِأَجْلِهِ، وَهَذَا وَجْهٌ لَطِيفٌ، وَهُوَ الْوَجْهُ، وَهَذَا تَكْذِيبٌ لِقَوْلِهِمْ: هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ «١». انْتَهَى. فَجَعَلَ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ اسْتِثْنَاءً مُفَرَّغًا مِنَ الْأَحْوَالِ، وَلِذَلِكَ قَدَّرَهُ: إِلَّا كَائِنَةً، وَعَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ اسْتِثْنَاءٌ مِنَ الذَّوَاتِ.
وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: الْمَذَاهِبُ الْمُفْضِيَةُ إِلَى الشِّرْكِ أَرْبَعَةٌ: قَائِلٌ: إِنَّ الله خلق السموات وَجَعَلَ الْأَرْضَ وَالْأَرْضِيَّاتِ فِي حُكْمِهَا، وَنَحْنُ مِنْ جُمْلَةِ الْأَرْضِيَّاتِ، فَنَعْبُدُ الْكَوَاكِبَ وَالْمَلَائِكَةَ السَّمَاوِيَّةَ، وَهُمْ إِلَهُنَا، وَاللَّهُ إِلَهُهُمْ، فَأُبْطِلَ بِقَوْلِهِ: لَا يَمْلِكُونَ، فِي السَّماواتِ، كَمَا اعْتَرَفْتُمْ، وَلا فِي الْأَرْضِ، خِلَافَ مَا زَعَمْتُمْ. وَقَائِلٌ: السموات مِنَ اللَّهِ اسْتِبْدَادًا، وَالْأَرْضِيَّاتُ مِنْهُ بِوَاسِطَةِ الْكَوَاكِبِ، فَإِنَّهُ تَعَالَى خَلَقَ الْعَنَاصِرَ وَالتَّرْكِيبَاتِ الَّتِي فِيهَا بِالِاتِّصَالَاتِ وَحَرَكَاتٍ وَطَوَالِعَ، فَجَعَلُوا مَعَ اللَّهِ شُرَكَاءَ فِي الْأَرْضِ، وَالْأَوَّلُونَ جَعَلُوا الْأَرْضَ لِغَيْرِهِ، فَأُبْطِلَ بِقَوْلِهِ: وَما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ، أَيِ الْأَرْضُ، كَالسَّمَاءِ لِلَّهِ لَا لِغَيْرِهِ، وَلَا لِغَيْرِهِ فِيهِمَا نَصِيبٌ. وَقَائِلٌ: التَّرْكِيبَاتُ وَالْحَوَادِثُ مِنَ اللَّهِ، لَكِنْ فَوَّضَ إِلَى الْكَوَاكِبِ، وَفِعْلُ الْمَأْذُونِ يُنْسَبُ إِلَى الْآذِنِ، وَيُسَلَبُ عَنِ الْمَأْذُونِ لَهُ فِيهِ، جَعَلُوا السموات
أُذِنَ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَبَاقِي السَّبْعَةِ: بِفَتْحِهَا، أَيْ أَذِنَ اللَّهُ لَهُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ:
قُلُوبِهِمْ عَائِدٌ عَلَى مَا عَادَتْ عَلَيْهِ الضَّمَائِرُ الَّتِي لِلْغَيْبَةِ فِي قَوْلِهِ: لَا يَمْلِكُونَ، وفي ما لَهُمْ، وما لَهُ مِنْهُمْ، وَهُمُ الْمَلَائِكَةُ الَّذِينَ دَعَوْهُمْ آلِهَةً وَشُفَعَاءَ، وَيَكُونُ التَّقْدِيرُ:
إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ منهم.
وحَتَّى: تَدُلُّ عَلَى الْغَايَةِ، وَلَيْسَ فِي الْكَلَامِ عَائِدٌ عَلَى أَنَّ حَتَّى غَايَةٌ لَهُ. فَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ الظَّاهِرُ، كَأَنَّهُ قَالَ: وَلَا هُمْ شُفَعَاءُ كَمَا تُحِبُّونَ أَنْتُمْ، بَلْ هُمْ عَبْدَةٌ أَوْ مُسْلِمُونَ أَبَدًا، يَعْنِي مُنْقَادُونَ، حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ. قَالَ: وَتَظَاهَرَتِ
الْأَحَادِيثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّ قَوْلَهُ: حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ، إِنَّمَا هِيَ فِي الْمَلَائِكَةِ إِذَا سَمِعَتِ الْوَحْيَ، أَيْ جِبْرِيلَ
، وَبِالْأَمْرِ يَأْمُرُ اللَّهُ بِهِ سَمِعَتْ، كَجَرِّ سِلْسِلَةِ الْحَدِيدِ عَلَى الصَّفْوَانِ، فَتَفْزَعُ عِنْدَ ذَلِكَ تَعْظِيمًا وَهَيْبَةً. وَقِيلَ: خَوْفٌ أَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ، فَإِذَا فُزِّعَ ذَلِكَ عَنْ قُلُوبِهِمْ، أَيْ أُطِيرَ الْفَزَعُ عَنْهَا وَكُشِفَ، يَقُولُ بَعْضُهُمْ لبعض ولجبريل: مَاذَا قالَ رَبُّكُمْ؟ فَيَقُولُ المسؤلون: قَالَ الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ، وَبِهَذَا الْمَعْنَى مِنْ ذِكْرِ الْمَلَائِكَةِ فِي صَدْرِ الْآيَاتِ تَتَّسِقُ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى الْأُولَى، وَمَنْ لَمْ يَشْعُرْ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ مُشَارٌ إِلَيْهِمْ مِنْ أَوَّلِ قَوْلِهِ: الَّذِينَ زَعَمْتُمْ لَمْ تَتَّصِلْ لَهُ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا، فَلِذَلِكَ اضْطَرَبَ الْمُفَسِّرُونَ فِي تَفْسِيرِهَا حَتَّى قَالَ بَعْضُهُمْ فِي الْكُفَّارِ، بَعْدَ حُلُولِ الْمَوْتِ: فَفُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ بِفَقْدِ الْحَيَاةِ، فَرَأَوُا الْحَقِيقَةَ، وَزَالَ فَزَعُهُمْ مِمَّا يُقَالُ لَهُمْ فِي حَيَاتِهِمْ، فَيُقَالُ لَهُمْ حِينَئِذٍ:
مَاذَا قالَ رَبُّكُمْ؟ فَيَقُولُونَ: قَالَ الْحَقَّ، يُقِرُّونَ حِينَ لَا ينفعهم الْإِقْرَارُ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: الْآيَةُ فِي جَمِيعِ الْعَالَمِ. وَقَوْلُهُ: حَتَّى، يُرِيدُ فِي الْآخِرَةِ، وَالتَّأْوِيلُ الْأَوَّلُ فِي الْمَلَائِكَةِ هُوَ الصَّحِيحُ، وَهُوَ الَّذِي تَظَاهَرَتْ بِهِ الْأَحَادِيثُ، وَهَذَا بِعِيدٌ. انْتَهَى. وَإِذَا كَانَ الضَّمِيرُ فِي عَنْ قُلُوبِهِمْ لَا يَعُودُ عَلَى الَّذِينَ زَعَمْتُمْ، كَانَ عَائِدًا عَلَى مَنْ عَادَ عَلَيْهِ الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ، وَيَكُونُ الضَّمِيرُ فِي عَلَيْهِمْ عَائِدًا عَلَى جَمِيعِ
وَالْجُمْلَةُ بَعْدَ مِنْ قَوْلِهِ: قُلِ ادْعُوا اعْتِرَاضِيَّةٌ بَيْنَ الْمُغَيَّا وَالْغَايَةِ. قَالَ ابْنُ زَيْدٍ:
أَقَرُّوا بِاللَّهِ حِينَ لَا يَنْفَعُهُمُ الْإِقْرَارُ، فَالْمَعْنَى: فَزَّعَ الشَّيْطَانُ عَنْ قُلُوبِهِمْ وَفَارَقَهُمْ مَا كَانَ يَطْلُبُهُمْ بِهِ، قالُوا مَاذَا قالَ رَبُّكُمْ. وَقَالَ الْحَسَنُ: وَإِنَّمَا يُقَالُ لِلْمُشْرِكِينَ مَاذَا قالَ رَبُّكُمْ عَلَى لِسَانِ الْأَنْبِيَاءِ، فَأَقَرُّوا حِينَ لَا يَنْفَعُ. وَقِيلَ: حَتَّى غَايَةٌ مُتَعَلِّقَةٌ بِقَوْلِهِ:
زَعَمْتُمْ، أَيْ زَعَمْتُمُ الْكُفْرَ إِلَى غَايَةِ التَّفْزِيعِ، ثُمَّ تَرَكْتُمْ مَا زَعَمْتُمْ وَقُلْتُمْ: قَالَ الْحَقَّ.
انْتَهَى. فَيَكُونُ فِي الْكَلَامِ التفاوت مِنْ خِطَابٍ فِي زَعَمْتُمْ إِلَى غَيْبَةٍ فِي فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: فَإِذَا أُذِّنَ فَزِعَ وَدَامَ فَزَعُهُ حَتَّى إِذَا أُزِيلَ التَّفْزِيعُ عَنْ قُلُوبِهِمْ.
قَالَ بَعْضُ الشَّافِعِينَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ لِبَعْضِ الْمَلَائِكَةِ: مَاذَا قالَ رَبُّكُمْ فِي قَبُولِ شَفَاعَتِنَا؟ فَيُجِيبُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: قَالَ أَيِ اللَّهُ الْحَقَّ، أَيِ الْقَوْلَ الْحَقَّ، وَهُوَ قبول شفاعتهم، إذ كَانَ تَعَالَى أَذِنَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ، وَلَا يَأْذَنُ إِلَّا وَهُوَ مُرِيدٌ لِقَبُولِ الشَّفَاعَةِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ بِمَ اتَّصَلَ قَوْلُهُ: حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ؟ وَلَا شَيْءَ وَقَعَتْ حَتَّى غَايَةً لَهُ. قُلْتُ: بِمَا فُهِمَ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ مِنْ أَنَّ ثَمَّ انْتِظَارَ الْإِذْنِ وَتَوَقُّفًا وَتَمَهُّلًا وَفَزَعًا مِنَ الرَّاجِينَ لِلشَّفَاعَةِ وَالشُّفَعَاءِ، هَلْ يُؤْذَنُ لَهُمْ أَوْ لَا يُؤْذَنُ؟ وَأَنَّهُ لَا يُطْلَقُ الْإِذْنُ إِلَّا بَعْدَ مَلِيٍّ مِنَ الزَّمَانِ وَطُولٍ مِنَ التَّرَبُّصِ. وَمِثْلُ هَذِهِ الْحَالِ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ، عَزَّ مِنْ قَائِلٍ: رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً، يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً «١»، كَأَنَّهُ قِيلَ: يَتَرَبَّصُونَ وَيَتَوَقَّفُونَ مَلِيًّا فَزِعِينَ وَهِلِينَ.
حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ: أَيْ كُشِفَ الْفَزَعُ مِنْ قُلُوبِ الشَّافِعِينَ وَالْمَشْفُوعِ لَهُمْ بِكَلِمَةٍ يَتَكَلَّمُ بِهَا رَبُّ الْعِزَّةِ فِي إِطْلَاقِ الْإِذِنِ. تَبَاشَرُوا بِذَلِكَ وَسَأَلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا: مَاذَا قالَ رَبُّكُمْ؟ قَالَ الْحَقَّ، أَيِ الْقَوْلَ الْحَقَّ، وَهُوَ الْإِذْنُ بِالشَّفَاعَةِ لِمَنِ ارْتَضَى. انْتَهَى.
وَتُلَخِّصُ مِنْ هَذَا أَنَّ حَتَّى غَائِيَّةٌ إِمَّا لِمَنْطُوقٍ وَهُوَ زَعَمْتُمْ، وَيَكُونُ الضَّمِيرُ فِي عَنْ قُلُوبِهِمْ الْتِفَاتًا، وَهُوَ لِلْكُفَّارِ، أَوْ هُوَ فَاتَّبَعُوهُ، وَفِيهِ تَنَاسُقُ الضَّمَائِرِ لِغَائِبٍ. وَالْفَصْلُ بِالِاعْتِرَاضِ وَالضَّمِيرُ أَيْضًا لِلْكُفَّارِ، وَالضَّمِيرُ فِي قالُوا لِلْمَلَائِكَةِ، وَضَمِيرُ الْخِطَابِ فِي رَبُّكُمْ، وَالْغَائِبِ فِي قالُوا الثَّانِيَةِ لِلْكُفَّارِ. وَإِمَّا لِمَحْذُوفٍ، فَمَا قَدَّرَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ لَا يَصِحُّ أَنْ يُغَيَّا،
وَكَوْنُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي قِصَّةِ الْوَحْيِ قَالَ: «فَإِذَا جَاءَهُمْ جِبْرِيلُ فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ»
، لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ فِي الْمَلَائِكَةِ حَالَةَ تَكَلُّمِ اللَّهِ بِالْوَحْيِ.
وَالْحَدِيثُ رَوَاهُ ابْنُ مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «إِذَا تَكَلَّمَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِالْوَحْيِ سَمِعَ أَهْلُ السَّمَاءِ صَلْصَلَةً كَجَرِّ السِّلْسِلَةِ عَلَى الصَّفَا، فَيُصْعَقُونَ، فَلَا يَزَالُونَ كَذَلِكَ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَإِذَا جَاءَهُمْ جِبْرِيلُ فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ، فَيَقُولُونَ: يَا جِبْرِيلُ مَاذَا قَالَ رَبُّكَ؟ قَالَ فَيَقُولُ الْحَقَّ، فَيُنَادُونَ الْحَقَّ».
وَمَا قَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ يُحْتَمَلُ، إِلَّا أَنَّ فِيهِ تَخْصِيصَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ بِالْمَلَائِكَةِ، وَالَّذِينَ عَبَدُوهُمْ مَلَائِكَةٌ وَغَيْرُهُمْ. وَتَخْصِيصَ مَنْ أَذِنَ لَهُ بِالْمَلَائِكَةِ أَيْضًا، وَالْمَأْذُونُ لَهُمْ فِي الشَّفَاعَةِ الْمَلَائِكَةُ وَغَيْرُهُمْ. أَلَا تَرَى إِلَى مَا حَكَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي «الشَّفَاعَةِ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ؟» «١».
وَقُرِئَ: فُزِّعَ مُشَدَّدًا، مِنَ الْفَزَعِ، مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، أَيْ أُطِيرَ الْفَزَعُ عَنْ قُلُوبِهِمْ. وَفُعِّلَ تَأْتِي لِمَعَانٍ مِنْهَا: الْإِزَالَةُ، وَهَذَا مِنْهُ نَحْوُهُ: قَرَّدْتُ الْبَعِيرَ، أَيْ أَزَلْتُ الْقُرَادَ عَنْهُ. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَطَلْحَةُ، وَأَبُو الْمُتَوَكِّلِ النَّاجِيُّ، وَابْنُ السَّمَيْفَعِ، وَابْنُ عَامِرٍ: مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ مِنَ الْفَزَعِ أَيْضًا، وَالضَّمِيرُ الْفَاعِلُ فِي فَزَعَ إِنْ كَانَ الضَّمِيرُ فِي عَنْ قُلُوبِهِمْ لِلْمَلَائِكَةِ، فَهُوَ اللَّهُ، وَإِنْ كَانَ لِلْكُفَّارِ، فَالضَّمِيرُ لِمُغْوِيهِمْ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ: فُزِّعَ مِنَ الْفَزَعِ، بِتَخْفِيفِ الزَّايِ، مَبْنِيًّا للمفعول، وعَنْ قُلُوبِهِمْ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِهِ، كَقَوْلِكَ: انْطَلَقَ يَزِيدُ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ أَيْضًا، وَأَبُو الْمُتَوَكِّلِ أَيْضًا، وَقَتَادَةُ، وَمُجَاهِدٌ: فَزَّعَ مُشَدَّدًا، مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ مِنَ الْفَزَعِ.
وَقَرَأَ الْحَسَنُ أَيْضًا: كَذَلِكَ، إِلَّا أَنَّهُ خَفَّفَ الزاء. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، وَالْحَسَنُ أَيْضًا، وَأَيُّوبُ السِّخْتِيَانِيُّ، وَقَتَادَةُ أَيْضًا، وَأَبُو مِجْلَزٍ: فُرِّغَ مِنَ الْفَرَاغِ، مُشَدَّدَ الرَّاءِ، مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ.
وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَعِيسَى افْرَنْقَعَ: عَنْ قُلُوبِهِمْ، بِمَعْنَى انْكَشَفَ عَنْهَا، وَقِيلَ: تَفَرَّقَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالْكَلِمَةُ مُرَكَّبَةٌ مِنْ حُرُوفِ الْمُفَارَقَةِ مَعَ زِيَادَةِ الْعَيْنِ، كَمَا رُكِّبَ قَمْطَرَ مِنْ حُرُوفِ الْقَمْطِ مَعَ زِيَادَةِ الرَّاءِ. انْتَهَى. فَإِنْ عَنِيَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنَّ الْعَيْنَ مِنْ حُرُوفِ الزِّيَادَةِ، وَكَذَلِكَ الرَّاءُ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِهِ، فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، لِأَنَّ الْعَيْنَ وَالرَّاءَ لَيْسَتَا مِنْ حُرُوفِ الزِّيَادَةِ.
وَإِنْ عَنَى أَنَّ الْكَلِمَةَ فِيهَا حُرُوفٌ، وَمَا ذَكَرُوا زَائِدًا إِلَى ذَلِكَ الْعَيْنِ وَالرَّاءِ كَمَادَّةِ فَرْقَعَ وَقَمْطَرَ، فَهُوَ صَحِيحٌ لَوْلَا إِيهَامُ مَا قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي هَذِهِ الْكَلِمَةِ، لَمْ أَذْكُرْ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ لمخالفتها
إِذَا فَزِعُوا طَارُوا إِلَى مُسْتَغِيثِهِمْ | طِوَالَ الرِّمَاحِ لَا ضِعَافٌ وَلَا عُزْلُ |
وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ وَالَّتِي قَبْلَهَا لَا تَكَادُ تُلَائِمُ أَلْفَاظَ الْقُرْآنِ، فَاللَّهَ أَسْأَلُ أَنْ يَرْزُقَنَا فَهْمَ كِتَابِهِ، وَأَقْرَبُهَا عِنْدِي أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ فِي قُلُوبِهِمْ عَائِدًا عَلَى مَنْ عَادَ عَلَيْهِ اتَّبَعُوهُ وَعَلَيْهِمْ، وَمِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ، وَتَكُونُ الْجُمْلَةُ بَعْدَ ذَلِكَ اعْتِرَاضًا. وَقَوْلُهُ: قالُوا، أَيِ الْمَلَائِكَةُ، لِأُولَئِكَ الْمُتَّبِعِينَ الشَّاكِينَ يَسْأَلُونَهُمْ سُؤَالَ تَوْبِيخٍ: مَاذَا قالَ رَبُّكُمْ، عَلَى لِسَانِ مَنْ بُعِثَ إِلَيْكُمْ بَعْدَ أَنْ كُشِفَ الْغِطَاءُ عَنْ قُلُوبِهِمْ، فَيُقِرُّونَ إِذْ ذَاكَ أَنَّ الَّذِي قَالَهُ، وَجَاءَتْ بِهِ أَنْبِيَاؤُهُ، وَهُوَ الْحَقُّ، لَا الْبَاطِلُ الَّذِي كُنَّا فِيهِ مِنِ اتِّبَاعِ إِبْلِيسَ. وَشَكِّنَا فِي الْبَعْثِ مَاذَا يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مَا مَنْصُوبَةً بِقَالَ، أَيْ أَيَّ شَيْءٍ قَالَ رَبُّكُمْ، وَأَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى أَنَّ ذَا مَوْصُولَةٌ، أَيْ مَا الَّذِي قَالَ رَبُّكُمْ، وَذَا خَبَرُهُ، وَمَعْمُولُ قَالَ ضَمِيرٌ مَحْذُوفٌ عَائِدٌ عَلَى الْمَوْصُولِ. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: قَالُوا الْحَقُّ، بِرَفْعِ الْحَقِّ، خَبَرُ مُبْتَدَأٍ، أَيْ مَقُولُهُ الْحَقُّ، وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ، تَنْزِيهٌ مِنْهُمْ لَهُ تَعَالَى وَتَمْجِيدٌ. ثُمَّ رَجَعَ إِلَى خِطَابِ الْكُفَّارِ فَسَأَلَهُمْ عَمَّنْ يَرْزُقُهُمْ، مُحْتَجًّا عَلَيْهِمْ بِأَنَّ رَازِقَهُمْ هُوَ اللَّهُ، إِذْ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَقُولُوا إِنَّ آلِهَتَهُمْ تَرْزُقُهُمْ وَتَسْأَلُهُمْ أَنَّهُمْ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ، وَأَمَرَهُ بِأَنْ يَتَوَلَّى الْإِجَابَةَ وَالْإِقْرَارَ عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ: قُلِ اللَّهُ، لِأَنَّهُمْ قَدْ لَا يُجِيبُونَ حُبًّا فِي الْعِنَادِ وَإِيثَارًا لِلشِّرْكِ.
وَمَعْلُومٌ أنه لا جواب لم وَلَا لِأَحَدٍ إِلَّا بِأَنْ يَقُولَ هُوَ اللَّهُ. وَإِنَّا: أَيِ الْمُوَحِّدِينَ الرَّازِقَ الْعَابِدِينَ، أَوْ إِيَّاكُمْ: الْمُشْرِكِينَ الْعَابِدِينَ الْأَصْنَامَ وَالْجَمَادَاتِ. لَعَلى هُدىً: أَيْ
فأني ماوأيك كَانَ شَرًّا | فَسِيقَ إِلَى الْمَقَادَةِ فِي هَوَانِ |
أَتَهْجُوهُ وَلَسْتَ لَهُ بكفؤ | فَشَرُّكُمَا لِخَيْرِكُمَا الْفِدَاءُ |
قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا هَذَا أَدْخَلُ فِي الْإِنْصَافِ وَأَبْلَغُ مِنَ الْأَوَّلِ، وَأَكْثَرُ تَلَطُّفًا وَاسْتِدْرَاجًا، حَيْثُ سَمَّى فِعْلَهُ جُرْمًا، كَمَا يَزْعُمُونَ، مَعَ أَنَّهُ مُثَابٌ مَشْكُورٌ. وَسَمَّى فِعْلَهُمْ عَمَلًا، مَعَ أَنَّهُ مَزْجُورٌ عَنْهُ مَحْظُورٌ. وَقَدْ يُرَادُ بِأَجْرَمْنَا نِسْبَةُ ذَلِكَ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ دُونَ الرَّسُولِ، وَذَلِكَ مَا لَا يَكَادُ يَخْلُو الْمُؤْمِنُ مِنْهُ مِنَ الصَّغَائِرِ، وَالَّذِي تَعْمَلُونَ هُوَ الْكُفْرُ وَمَا دُونَهُ مِنَ الْمَعَاصِي الْكَبَائِرُ. قِيلَ: وَهَذِهِ الْآيَةُ مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ السَّيْفِ. قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا: أَيْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ يَفْتَحُ: أَيْ يَحْكُمُ، بِالْحَقِّ: بِالْعَدْلِ، فَيُدْخِلُ الْمُؤْمِنِينَ الْجَنَّةَ وَالْكُفَّارَ النَّارَ. وَهُوَ الْفَتَّاحُ: الْحَاكِمُ الْفَاصِلُ، الْعَلِيمُ بِأَعْمَالِ الْعِبَادِ. وَالْفَتَّاحُ وَالْعَلِيمُ صِيغَتَا مُبَالَغَةٍ، وَهَذَا فِيهِ تَهْدِيدٌ وَتَوْبِيخٌ. تَقُولُ لِمَنْ نَصَحْتَهُ وَخَوَّفْتَهُ فَلَمْ يَقْبَلْ: سَتَرَى سُوءَ عَاقِبَةِ الْأَمْرِ. وَقَرَأَ عِيسَى: الْفَاتِحُ اسْمُ فَاعِلٍ، وَالْجُمْهُورُ: الْفَتَّاحُ.
قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ: الظَّاهِرُ أَنْ أَرَى هُنَا بِمَعْنَى أَعْلَمَ، فَيَتَعَدَّى إِلَى ثَلَاثَةٍ: الضَّمِيرُ لِلْمُتَكَلِّمِ هُوَ الْأَوَّلُ، والذين الثاني، وشركاء الثَّالِثُ، أَيْ أَرُونِي بِالْحُجَّةِ وَالدَّلِيلِ كَيْفَ وَجْهُ الشِّرْكَةِ، وَهَلْ يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ أَوْ يَرْزُقُونَكُمْ؟ وَقِيلَ: هِيَ رؤية بصر، وشركاء نُصِبَ عَلَى الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ الْمَحْذُوفِ فِي أَلْحَقْتُمْ، إِذْ تَقْدِيرُهُ: أَلْحَقْتُمُوهُمْ بِهِ فِي حَالِ تَوَهُّمِهِ شُرَكَاءَ لَهُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا ضَعِيفٌ، لِأَنَّ اسْتِدْعَاءَ رُؤْيَةِ الْعَيْنِ فِي هَذَا لَا غِنَاءَ لَهُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: مَا مَعْنَى قَوْلِهِ: أَرُونِي، وَكَانَ يَرَاهُمْ وَيَعْرِفُهُمْ؟
قُلْتُ: أَرَادَ بِذَلِكَ أَنْ يُرِيَهُمُ الْخَطَأَ الْعَظِيمَ فِي إِلْحَاقِ الشُّرَكَاءِ بِاللَّهِ، وَأَنْ يُقَايِسَ عَلَى أَعْيُنِهِمْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَصْنَامِهِمْ، لِيُطْلِعَهُمْ عَلَى حَالَةِ الْقِيَاسِ إليه والإشراك به. وكَلَّا: رَدْعٌ لَهُمْ عَنْ مَذْهَبِهِمْ بَعْدَ مَا كَسَرَهُ بِإِبْطَالِ الْمُقَايَسَةِ، كَمَا قَالَ إِبْرَاهِيمُ: أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ «١»، بَعْدَ مَا حَجَّهُمْ، وَقَدْ نَبَّهَ عَلَى تَفَاحُشِ غَلَطِهِمْ، وَأَنْ يُقَدِّرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ بِقَوْلِهِ:
هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ، كَأَنَّهُ قَالَ: أَيِ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ مِنْ هَذِهِ الصِّفَاتِ؟ وَهُوَ
وَقَوْلُ ابْنِ عَطِيَّةَ، لِأَنَّ اسْتِدْعَاءَ رُؤْيَةِ الْعَيْنِ فِي هَذَا لَا غِنَاءَ لَهُ، أَيْ لَا نَفْعَ لَهُ، لَيْسَ بِجَيِّدٍ، بَلْ فِي ذَلِكَ تَبْكِيتٌ لَهُمْ وَتَوْبِيخٌ، وَلَا يُرِيدُ حَقِيقَةَ الْأَمْرِ، بَلِ الْمَعْنَى: أَنَّ الَّذِينَ هُمْ شُرَكَاءُ اللَّهِ عَلَى زَعْمِكُمْ، هُمْ مِمَّنْ إِنْ أَرَيْتُمُوهُمُ افْتَضَحْتُمْ، لِأَنَّهُمْ خَشَبٌ وَحَجَرٌ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْحِجَارَةِ وَالْجَمَادِ، كَمَا تَقُولُ لِلرَّجُلِ الْخَسِيسِ الْأَصْلِ: اذْكُرْ لِي أَبَاكَ الَّذِي قَايَسْتَ بِهِ فُلَانًا الشَّرِيفَ وَلَا تُرِيدُ حَقِيقَةَ الذِّكْرِ، وَإِنَّمَا أَرَدْتَ تَبْكِيتَهُ، وَأَنَّهُ إِنْ ذكر أباه افتضح.
وكَافَّةً: اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ كَفَّ، وَقِيلَ: مَصْدَرٌ كَالْعَاقِبَةِ وَالْعَافِيَةِ، فَيَكُونُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ إِلَّا ذَا كَافَّةٍ، أَيْ ذَا كَفٍّ لِلنَّاسِ، أَيْ مَنْعٍ لَهُمْ مِنَ الْكُفْرِ، أَوْ ذَا مَنْعٍ مِنْ أَنْ يَشِذُّوا عَنْ تَبْلِيغِكَ. وَإِذَا كَانَ اسْمَ فَاعِلٍ، فَقَالَ الزَّجَّاجُ وَغَيْرُهُ: هُوَ حَالٌ مِنَ الْكَافِ فِي أَرْسَلْناكَ، وَالْمَعْنَى: إِلَّا جَامِعًا لِلنَّاسِ فِي الْإِبْلَاغِ، وَالْكَافَّةُ بِمَعْنَى الْجَامِعِ، وَالْهَاءُ فِيهِ لِلْمُبَالَغَةِ، كَهِيَ فِي عَلَّامَةٍ وَرَاوِيَةٍ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِلَّا إِرْسَالَةً عَامَّةً لَهُمْ مُحِيطَةً بِهِمْ، لِأَنَّهَا إِذَا شَمِلَتْهُمْ فَقَدْ كَفَتْهُمْ أَنْ يَخْرُجَ مِنْهَا أَحَدٌ مِنْهُمْ، قَالَ: وَمَنْ جَعَلَهُ حَالًا مِنَ الْمَجْرُورِ مُتَقَدِّمًا عَلَيْهِ فَقَدْ أَخْطَأَ، لِأَنَّ تَقَدُّمَ حَالِ الْمَجْرُورِ عَلَيْهِ فِي الْأَصَالَةِ بِمَنْزِلَةِ تَقَدُّمِ الْمَجْرُورِ عَلَى الْجَارِّ، وَكَمْ تَرَى مِمَّنْ يَرْتَكِبُ هَذَا الْخَطَأَ ثُمَّ لَا يَقْنَعُ بِهِ حَتَّى يَضُمَّ إِلَيْهِ أَنْ يَجْعَلَ اللَّامَ بِمَعْنَى إِلَى، لِأَنَّهُ لَا يَسْتَوِي لَهُ الْخَطَأُ الْأَوَّلُ إِلَّا بِالْخَطَأِ الثَّانِي، فَلَا بُدَّ مِنَ ارْتِكَابِ الْخَطَأَيْنِ.
انْتَهَى. أَمَّا كَافَّةً بِمَعْنَى عَامَّةً، فَالْمَنْقُولُ عَنِ النَّحْوِيِّينَ أَنَّهَا لَا تَكُونُ إِلَّا حَالًا، وَلَمْ يَتَصَرَّفْ فِيهَا بِغَيْرِ ذَلِكَ، فَجَعْلُهَا صِفَةً لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، خُرُوجٌ عَمَّا نَقَلُوا، وَلَا يحفظ أيضا استعمله صِفَةً لِمَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ. وَأَمَّا قَوْلُ الزَّجَّاجِ: إِنَّ كَافَّةً بِمَعْنَى جَامِعًا، وَالْهَاءُ فِيهِ لِلْمُبَالَغَةِ، فَإِنَّ اللُّغَةَ لَا تُسَاعِدُ عَلَى ذَلِكَ، لِأَنَّ كَفَّ لَيْسَ بِمَحْفُوظٍ أَنَّ مَعْنَاهُ جَمَعَ. وَأَمَّا قَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ: وَمَنْ جَعَلَهُ حَالًا إِلَى آخِرِهِ، فَذَلِكَ مُخْتَلَفٌ فِيهِ. ذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ، وَذَهَبَ أَبُو عَلِيٍّ وَابْنُ كَيْسَانَ وَابْنُ بُرْهَانَ وَمِنْ مُعَاصِرِينَا ابْنُ مَالِكٍ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ، وَهُوَ الصَّحِيحُ. وَمِنْ أَمْثِلَةِ أَبِي عَلِيٍّ زَيْدٌ: خَيْرُ مَا يَكُونُ خَيْرٌ مِنْكَ، التَّقْدِيرُ: زِيدٌ خَيْرٌ مِنْكَ خَيْرُ مَا يكون، فجعل خير مَا يَكُونُ حَالًا مِنَ الْكَافِ فِي مِنْكَ، وَقَدَّمَهَا عَلَيْهِ، قَالَ الشَّاعِرُ:
إِذَا الْمَرْءُ أَعْيَتْهُ الْمُرُوءَةُ نَاشِئًا | فَمَطْلَبُهَا كَهْلًا عَلَيْهِ شَدِيدُ |
تَسَلَّيْتُ طُرًّا عَنْكُمْ بَعْدَ بَيْنِكُمْ | بِذِكْرِكُمْ حتى كأنكم عندي |
مَشْغُوفَةً بِكَ قَدْ شَغَفَتْ وَإِنَّمَا | حَتَمَ الْفِرَاقُ فَمَا إِلَيْكَ سَبِيلُ |
غَافِلًا تَعْرِضُ الْمَنِيَّةُ لِلْمَرْ | ءِ فَيُدْعَى وَلَاتَ حِينَ إِبَاءِ |
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: مِيعادُ يَوْمٍ بِالْإِضَافَةِ. وَلَمَّا جَعَلَ الزَّمَخْشَرِيُّ الْمِيعَادَ ظَرْفَ زَمَانٍ قَالَ: أما الإضافة فإضافة تَبْيِينٌ، كَمَا تَقُولُ: سَحْقُ ثَوْبٍ وَبَعِيرُ سَانِيَةٍ. وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ، وَالْيَزِيدِيُّ: مِيعَادٌ يَوْمًا بِتَنْوِينِهِمَا. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَأَمَّا نَصْبُ الْيَوْمِ فعلى التعظيم بإضمار
ولَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ: يَعْنِي الَّذِي تَضَمَّنَ التَّوْحِيدَ وَالرِّسَالَةَ وَالْبَعْثَ الْمُتَقَدِّمَ ذِكْرُهَا فِيهِ. وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ: هُوَ مَا نَزَلَ مِنْ كُتُبِ اللَّهِ الْمُبَشِّرَةِ بِرَسُولِ اللَّهِ.
يُرْوَى أَنَّ كُفَّارَ مَكَّةَ سَأَلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ، فَأَخْبَرُوهُمْ أَنَّهُمْ يَجِدُونَ صِفَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي كُتُبِهِمْ، وَأَغْضَبَهُمْ ذَلِكَ، وَقَرَنُوا إِلَى الْقُرْآنِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ كُتُبِ اللَّهِ فِي الْكُفْرِ
، وَيَكُونُ الَّذِينَ كَفَرُوا مُشْرِكِي قُرَيْشٍ وَمَنْ جَرَى مَجْرَاهُمْ. وَالْمَشْهُورُ أَنَّ بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ: التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ وَمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْكُتُبِ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ. وقالت فرقة: بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ: هِيَ الْقِيَامَةِ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا خَطَأٌ، قَائِلُهُ لَمْ يَفْهَمْ أَمْرَ بَيْنِ الْيَدِ فِي اللُّغَةِ، وَأَنَّهُ الْمُتَقَدِّمُ فِي الزَّمَانِ، وَقَدْ بَيَّنَاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ. انْتَهَى. وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ: أَخْبَرَ عَنْ حَالِهِمْ فِي صِفَةِ التَّعَجُّبِ مِنْهَا، وَتَرَى فِي مَعْنَى رَأَيْتَ لِإِعْمَالِهَا فِي الظَّرْفِ الْمَاضِي، وَمَفْعُولُ تَرَى مَحْذُوفٌ، أَيْ حَالَ الظَّالِمِينَ، إِذْ هُمْ مَوْقُوفُونَ. وَجَوَابُ لَوْ مَحْذُوفٌ، أَيْ لَرَأَيْتَ لَهُمْ حَالًا مُنْكَرَةً مِنْ ذُلِّهِمْ وَتَخَاذُلِهِمْ وَتَحَاوُرِهِمْ، حَيْثُ لَا يَنْفَعُهُمْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ. ثُمَّ فَسَّرَ ذَلِكَ الرُّجُوعَ وَالْجَدَلَ بِأَنَّ الْأَتْبَاعَ، وَهُمُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا، قَالُوا لِرُؤَسَائِهِمْ عَلَى جِهَةِ التَّذْنِيبِ وَالتَّوْبِيخِ وَرَدِّ اللَّائِمَةِ عَلَيْهِمْ: لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ: أَيْ أَنْتُمْ أَغْوَيْتُمُونَا وَأَمَرْتُمُونَا بِالْكُفْرِ. وَأَتَى الضَّمِيرُ بَعْدَ لَوْلَا ضَمِيرُ رَفْعٍ عَلَى الْأَفْصَحِ. وَحَكَى الْأَئِمَّةُ سِيبَوَيْهِ وَالْخَلِيلُ وَغَيْرُهُمَا مَجِيئَهُ بِضَمِيرِ الْجَرِّ نَحْوُ: لَوْلَاكُمْ، وَإِنْكَارُ الْمُبَرِّدِ ذَلِكَ لَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ. وَلَمَّا كَانَ مَقَامًا، اسْتَوَى فيه المرءوس وَالرَّئِيسُ.
بَدَأَ الْأَتْبَاعُ بِتَوْبِيخِ مُضِلِّيهِمْ، إِذْ زَالَتْ عَنْهُمْ رِئَاسَتُهُمْ، وَلَمْ يُمْكِنْهُمْ أَنْ يُنْكِرُوا أَنَّهُمْ
فَالْجَمْعُ الْمُقِرُّونَ بِأَنَّ الذِّكْرَ قَدْ جَاءَهُمْ، فَقَالَ لَهُمْ رُؤَسَاؤُهُمْ: أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ، فَأَتَوْا بِالِاسْمِ بَعْدَ أَدَاةِ الِاسْتِفْهَامِ إِنْكَارًا، لِأَنْ يَكُونُوا هُمُ الَّذِينَ صَدُّوهُمْ. صُدِدْتُمْ مِنْ قِبَلِ أَنْفُسِكُمْ وَبِاخْتِيَارِكُمْ بَعْدَ أَدَاةِ الِاسْتِفْهَامِ، كَأَنَّهُمْ قَالُوا: نَحْنُ أَخْبَرْنَاكُمْ وَحُلْنَا بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الذِّكْرِ بَعْدَ أَنْ هَمَمْتُمْ عَلَى الدُّخُولِ فِي الْإِيمَانِ، بَلْ أَنْتُمْ مَنَعْتُمْ أَنْفُسَكُمْ حَظَّهَا وَآثَرْتُمُ الضَّلَالَةَ عَلَى الْهُدَى، فَكُنْتُمْ مُجْرِمِينَ كَافِرِينَ بِاخْتِيَارِكُمْ، لَا لِقَوْلِنَا وَتَسْوِيلِنَا. وَلَمَّا أَنْكَرَ رُؤَسَاؤُهُمْ أَنَّهُمُ السَّبَبُ فِي كُفْرِهِمْ، وَأَثْبَتُوا بِقَوْلِهِمْ: بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ، أَنَّ كُفْرَهُمْ هُوَ مِنْ قِبَلِ أَنْفُسِهِمْ، قَابَلُوا إِضْرَابًا بِإِضْرَابٍ، فَقَالَ الْأَتْبَاعُ: بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ: أَيْ مَا كَانَ إِجْرَامُنَا مِنْ جِهَتِنَا، بَلْ مَكْرُكُمْ لَنَا دَائِمًا وَمُخَادَعَتُكُمْ لَنَا لَيْلًا وَنَهَارًا، إِذْ تَأْمُرُونَنَا وَنَحْنُ أَتْبَاعٌ لَا نَقْدِرُ عَلَى مُخَالَفَتِكُمْ، مُطِيعُونَ لَكُمْ لِاسْتِيلَائِكُمْ عَلَيْنَا بِالْكُفْرِ بِاللَّهِ وَاتِّخَاذِ الْأَنْدَادِ. وَأُضِيفَ الْمَكْرُ إِلَى اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ اتَّسَعَ فِي الظَّرْفَيْنِ، فَهُمَا فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ عَلَى السِّعَةِ، أَوْ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى الْإِسْنَادِ الْمَجَازِيِّ، كَمَا قَالُوا: لَيْلٌ نَائِمٌ، وَالْأَوْلَى عِنْدِي أَنْ يَرْتَفِعَ مَكْرُ عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ، أَيْ بَلْ صَدَّنَا مَكْرُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُ الْقَائِلِ: أَنَا ضَرَبْتُ زَيْدًا بَلْ ضَرَبَهُ عَمْرٌو، فَيَقُولُ: بَلْ ضَرَبَهُ غُلَامُكَ، وَالْأَحْسَنُ فِي التَّقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: ضَرَبَهُ غُلَامُكَ.
وَقِيلَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُبْتَدَأً وَخَبَرًا، أَيْ سَبَبُ كُفْرِنَا. وَقَرَأَ قتادة، ويحيى بن يعمر: بَلْ مَكْرٌ بِالتَّنْوِينِ، اللَّيْلَ وَالنَّهَارُ نُصِبَ عَلَى الظَّرْفِ. وَقَرَأَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ بْنِ مُحَمَّدٍ، وَأَبُو رَزِينٍ، وَابْنُ يَعْمَرَ أَيْضًا: بِفَتْحِ الْكَافِ وَشَدِّ الرَّاءِ مَرْفُوعَةً مُضَافَةً، وَمَعْنَاهُ: كَدَوْرِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَاخْتِلَافِهِمَا، وَمَعْنَاهَا: الْإِحَالَةُ عَلَى طُولِ الْأَمَلِ، وَالِاغْتِرَارِ بِالْأَيَّامِ مَعَ أَمْرِ هَؤُلَاءِ الرُّؤَسَاءِ الْكُفْرَ بِاللَّهِ. وَقَرَأَ ابْنُ جُبَيْرٍ أَيْضًا، وَطَلْحَةُ، وَرَاشِدٌ هَذَا مِنَ التَّابِعِينَ مِمَّنْ صَحَّحَ الْمَصَاحِفَ بِأَمْرِ الْحَجَّاجِ: كَذَلِكَ، إِلَّا أَنَّهُمْ نَصَبُوا الرَّاءَ عَلَى الظَّرْفِ، وَنَاصِبُهُ فِعْلٌ مُضْمَرٌ، أَيْ صَدَدْتُمُونَا مَكْرَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، أَيْ فِي مَكْرِهِمَا، وَمَعْنَاهُ دَائِمًا. وَقَالَ صَاحِبُ الَّلَوَامِحِ: يَجُوزُ أَنْ يَنْتَصِبَ بِإِذْ تَأْمُرُونَنَا مَكْرَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ. انْتَهَى. وَهَذَا وَهْمٌ، لِأَنَّ مَا بَعْدَ إِذْ لَا يَعْمَلُ فِيمَا قَبْلَهَا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: بَلْ يَكُونُ الْإِغْرَاءُ مَكْرًا دَائِمًا لَا يَفْتَرُونَ عَنْهُ. انْتَهَى.
وَجَاءَ قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بِغَيْرِ وَاوٍ، لِأَنَّهُ جَوَابٌ لِكَلَامِ الْمُسْتَضْعَفِينَ، فَاسْتُؤْنِفَ، وَعُطِفَ وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا عَلَى مَا سَبَقَ مِنْ كَلَامِهِمْ، وَالضَّمِيرُ فِي وَأَسَرُّوا لِلْجَمِيعِ الْمُسْتَكْبِرِينَ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ، وَهُمْ الظَّالِمُونَ الْمَوْقُوفُونَ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ فِي سُورَةِ يُونُسَ، وَالنَّدَامَةُ مِنَ الْمَعَانِي الْقَلْبِيَّةِ، فَلَا
وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ، وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالًا وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ، قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ، وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ، وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ، قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ، وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ، قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ، فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ، وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالُوا مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ وَقالُوا مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرىً وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ.
وَما أَرْسَلْنا الْآيَةَ: هَذِهِ تَسْلِيَةٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مِمَّا مُنِيَ بِهِ مِنْ قَوْمِهِ قُرَيْشٍ، مِنَ الْكُفْرِ وَالِافْتِخَارِ بِالْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ. وَأَنَّ مَا ذَكَرُوا مِنْ ذَلِكَ هُوَ عَادَةُ الْمُتْرَفِينَ مَعَ أَنْبِيَائِهِمْ، فَلَا يُهِمَّنَّكَ أمرهم. ومِنْ نَذِيرٍ: عَامٌّ، أَيْ تُنْذِرُهُمْ بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ لَمْ يوحدوه. وقالَ مُتْرَفُوها: جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ، وَنَصَّ عَلَى الْمُتْرَفِينَ لِأَنَّهُمْ أَوَّلُ الْمُكَذِّبِينَ لِلرُّسُلِ، لِمَا شُغِلُوا بِهِ مِنْ زَخْرَفَةِ الدُّنْيَا وَمَا غَلَبَ عَلَى عُقُولِهِمْ مِنْهَا، فَقُلُوبُهُمْ أَبَدًا مَشْغُولَةٌ مُنْهَمِكَةٌ بِخِلَافِ الْفُقَرَاءِ. فَإِنَّهُمْ خَالُونَ مِنْ مُسْتَلِذَّاتِ الدُّنْيَا، فَقُلُوبُهُمْ أَقْبَلُ لِلْخَيْرِ، وَلِذَلِكَ هُمْ أَتْبَاعُ الْأَنْبِيَاءِ، كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ هِرَقْلَ. وَبِمَا مُتَعَلِّقٌ بِكَافِرُونَ، وَبِهِ مُتَعَلِّقٌ بِأُرْسِلْتُمْ، وَمَا عَامَّةٌ فِي مَا جَاءَتْ بِهِ النُّذُرُ مِنْ طَلَبِ الْإِيمَانُ بِاللَّهِ وَإِفْرَادُهُ بِالْعِبَادَةِ وَالْإِخْبَارِ بِأَنَّهُمْ رُسُلُهُ إِلَيْهِمْ، وَالْبَعْثِ
وَإِمَّا أَنْ يَكُونُوا مُقِرِّينَ بِهَا حَقِيقَةً، أَوْ عَلَى سَبِيلِ الْفَرْضِ، فَيَقُولُونَ: كَمَا أَنْعَمَ عَلَيْنَا فِي الدُّنْيَا، يُنْعِمُ عَلَيْنَا فِي الْآخِرَةِ عَلَى حَالَةِ الدُّنْيَا قِيَاسًا فَاسِدًا، فَأَبْطَلَ اللَّهُ ذَلِكَ بِأَنَّ الرِّزْقَ فَضْلٌ مِنْهُ يُقَسَّمُ عَلَيْنَا فِي الْآخِرَةِ عَلَى حَالَةِ الدُّنْيَا، كَمَا شَاءَ. لِمَنْ يَشاءُ، فَقَدْ يُوَسِّعُ عَلَى الْعَاصِي وَيُضَيِّقُ عَلَى الطَّائِعِ، وَقَدْ يُوَسِّعُ عَلَيْهِمَا، وَالْوُجُودُ شَاهِدٌ بِذَلِكَ، فَلَا تُقَاسُ التَّوْسِعَةُ فِي الدُّنْيَا، لِأَنَّ ذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ إِنَّمَا هُوَ عَلَى الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ: وَيُقَدِّرُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ مُشَدَّدًا وَالْجُمْهُورُ: مُخَفَّفًا، وَمَعْنَاهُ: وَيُضَيِّقُ مُقَابِلُ يَبْسُطُ.
وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ: مِثْلِ هَؤُلَاءِ الْكَفَرَةِ، لَا يَعْلَمُونَ أَنَّ الرِّزْقَ مَصْرُوفٌ بِالْمَشِيئَةِ، وَلَيْسَ دَلِيلًا عَلَى الرِّضَا ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ أَمْوَالَهُمْ وَأَوْلَادَهُمُ الَّتِي افْتَخَرُوا بِهَا لَيْسَتْ بِمُقَرِّبَةٍ مِنَ اللَّهِ، وَإِنَّمَا يُقَرِّبُ الْإِيمَانُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: بِالَّتِي، وَجَمْعُ التَّكْسِيرِ مِنَ الْعُقَلَاءِ وَغَيْرِهِمْ يَجُوزُ أَنْ يُعَامَلُ مُعَامَلَةَ الْوَاحِدَةِ الْمُؤَنَّثَةِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الَّتِي هِيَ التَّقْوَى، وَهِيَ الْمُقَرِّبَةُ عِنْدَ اللَّهِ زُلْفَى وَحْدَهَا، أَيْ لَيْسَتْ أَمْوَالُكُمْ تِلْكَ الْمَوْضُوعَةَ لِلتَّقْرِيبِ. انْتَهَى. فَجَعَلَ الَّتِي نَعْتًا لِمَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ وَهِيَ التَّقْوَى. انْتَهَى، وَلَا حَاجَةَ إِلَى تَقْدِيرِ هَذَا الْمَوْصُوفِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الَّتِي رَاجِعٌ إِلَى الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ، وَقَالَهُ الْفَرَّاءُ. وَقَالَ أَيْضًا، هُوَ وَالزَّجَّاجُ: حذف من الْأَوَّلُ لِدَلَالَةِ الثَّانِي عَلَيْهِ، وَالتَّقْدِيرُ: وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى. انْتَهَى. وَلَا حَاجَةَ لِتَقْدِيرِ هَذَا الْمَحْذُوفِ، إِذْ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الَّتِي لِمَجْمُوعِ الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ: بِاللَّاتِي جُمْعًا، وَهُوَ أَيْضًا رَاجِعٌ لِلْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ. وَقُرِئَ بِالَّذِي، وَزُلْفَى مَصْدَرٌ، كَالْقُرْبَى، وَانْتِصَابُهُ عَلَى الْمَصْدَرِيَّةِ مِنَ الْمَعْنَى، أَيْ يُقَرِّبُكُمْ. وَقَرَأَ الضَّحَّاكُ: زُلَفًا بِفَتْحِ اللَّامِ وَتَنْوِينِ الْفَاءِ، جَمْعُ زُلْفَةٍ، وَهِيَ الْقُرْبَةُ.
إِلَّا مَنْ آمَنَ: الظَّاهِرُ أَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ، وَهُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ، أَيْ لَكِنْ
وَمَذْهَبُ الْأَخْفَشِ وَالْكُوفِيِّينَ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُبْدَلَ مِنْ ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِ وَالْمُتَكَلِّمِ، لَكِنَّ الْبَدَلَ فِي الْآيَةِ لَا يَصِحُّ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يصح تفريغ الْفِعْلِ الْوَاقِعِ صِلَةً لِمَا بَعْدَ إِلَّا؟ لَوْ قُلْتَ: مَا زَيْدٌ بِالَّذِي يَضْرِبُ إِلَّا خَالِدًا، لَمْ يَصِحَّ. وَتَخَيَّلَ الزَّجَّاجُ أَنَّ الصِّلَةَ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى مَنْفِيَّةً، أَنَّهُ يَصِحُّ الْبَدَلُ، وَلَيْسَ بِجَائِزٍ إِلَّا فِيمَا يَصِحُّ التَّفْرِيغُ لَهُ. وَقَدِ اتَّبَعَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ فَقَالَ:
إِلَّا مَنْ آمَنَ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ كُمْ فِي تُقَرِّبُكُمْ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْأَمْوَالَ لَا تُقَرِّبُ أَحَدًا إِلَّا الْمُؤْمِنَ الصَّالِحَ الَّذِي يُنْفِقُهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْأَوْلَادَ لَا تُقَرِّبُ أَحَدًا إِلَّا مَنْ عَلَّمَهُمُ الْخَيْرَ وَفَّقَهُمْ فِي الدِّينِ وَرَشَّحَهُمْ لِلصَّلَاحِ وَالطَّاعَةِ. انْتَهَى، وَهُوَ لَا يَجُوزُ. كَمَا ذَكَرْنَا، لَا يَجُوزُ: مَا زِيدٌ بِالَّذِي يَخْرُجُ إِلَّا أُخُوَّةً، وَلَا مَا زَيْدٌ بِالَّذِي يَضْرِبُ إِلَّا عَمْرًا، وَلَا مَا زِيدٌ بِالَّذِي يَمُرُّ إِلَّا بِبَكْرٍ.
وَالتَّرْكِيبُ الَّذِي رَكَّبَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ مِنْ قَوْلِهِ: لَا يُقَرِّبُ أَحَدًا إِلَّا الْمُؤْمِنَ، غَيْرُ مُوَافِقٍ لِلْقُرْآنِ فَفِي الَّذِي رَكَّبَهُ يَجُوزُ مَا قَالَ، وَفِي لَفْظِ الْقُرْآنِ لَا يَجُوزُ. وَأَجَازَ الْفَرَّاءُ أَنْ تَكُونَ مَنْ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ، وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ عِنْدَهُ مَا هُوَ الْمُقَرَّبُ إِلَّا مَنْ آمَنَ. انْتَهَى. وَقَوْلُهُ كَلَامٌ لَا يَتَحَصَّلُ مِنْهُ مَعْنًى، كَأَنَّهُ كَانَ نَائِمًا حِينَ قَالَ ذَلِكَ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: جَزاءُ الضِّعْفِ عَلَى الْإِضَافَةِ، أُضِيفَ فِيهِ الْمَصْدَرُ إِلَى الْمَفْعُولِ، وَقَدَرَّهُ الزَّمَخْشَرِيُّ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ الَّذِي لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، فَقَالَ: أَنْ يجاوز الضِّعْفَ، وَالْمَصْدَرُ فِي كَوْنِهِ يُبْنَى لِلْمَفْعُولِ الَّذِي لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ فِيهِ خِلَافٌ، وَالصَّحِيحُ الْمَنْعُ، وَيُقَدَّرُ هُنَا أَنْ يُجَاوِزَ اللَّهُ بِهِمُ الضِّعْفَ، أَيْ يُضَاعِفُ لَهُمْ حَسَنَاتِهِمْ، الْحَسُنَّةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، وَبِأَكْثَرَ إِلَى سَبْعِمِائَةٍ لِمَنْ يَشَاءُ. وَقَرَأَ قَتَادَةُ: جَزَاءٌ الضِّعْفُ بِرَفْعِهِمَا فَالضِّعْفُ بَدَلٌ، وَيَعْقُوبُ فِي رِوَايَةٍ بِنَصْبِ جَزَاءً وَرَفْعِ الضِّعْفُ، وَحَكَى هَذِهِ الْقِرَاءَةَ الدَّانِيُّ عَنْ قَتَادَةَ، وَانْتُصِبَ جَزَاءً عَلَى الْحَالِ، كَقَوْلِكَ: فِي الدَّارِ قَائِمًا زَيْدٌ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: فِي الْغُرُفاتِ جَمْعًا مَضْمُومُ الرَّاءِ وَالْحَسَنُ، وَعَاصِمٌ: بِخِلَافٍ عَنْهُ وَالْأَعْمَشُ، وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: بِإِسْكَانِهَا وَبَعْضُ الْقُرَّاءِ: بفتحها وَابْنُ وَثَّابٍ، وَالْأَعْمَشُ، وَطَلْحَةُ، وَحَمْزَةُ: وَأَطْلَقَ فِي اخْتِيَارِهِ فِي الْغُرْفَةِ عَلَى التَّوْحِيدِ سَاكِنَةَ الرَّاءِ وَابْنُ وَثَّابٍ أَيْضًا: بِفَتْحِهَا عَلَى التَّوْحِيدِ. وَلَمَّا ذَكَرَ جَزَاءَ مَنْ آمَنَ، ذَكَرَ عِقَابَ مَنْ كفر، ليظهر تباين الجزأين، وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ نَظِيرِ هَذِهِ الْكَلِمَةِ. وَلَمَّا كَانَ افْتِخَارُهُمْ بِكَثْرَةِ الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ، أُخْبِرُوا أَنَّ ذَلِكَ عَلَى مَا شَاءَ اللَّهُ كَبُرَ، وَذَلِكَ الْمَعْنَى تَأْكِيدٌ
قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ: مَسَاقَ مَا قِيلَ لِلْكُفَّارِ، بَلْ مَسَاقَ الْوَعْظِ وَالتَّزْهِيدِ فِي الدُّنْيَا، وَالْحَضِّ عَلَى النَّفَقَةِ فِي طَاعَةِ اللَّهِ، وَإِخْلَافِ مَا أَنْفَقَ، إِمَّا مُنْجَزًا فِي الدُّنْيَا، وَإِمَّا مُؤَجَّلًا فِي الْآخِرَةِ، وَهُوَ مَشْرُوطٌ بِقَصْدِ وَجْهِ اللَّهِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مَنْ كَانَ عِنْدَهُ مِنْ هَذَا الْمَالِ مَا يُقِيمُهُ فليقتصد، وَأَنَّ الرِّزْقَ مَقْسُومٌ، وَلَعَلَّ مَا قُسِّمَ لَهُ قَلِيلٌ، وَهُوَ يُنْفِقُ نَفَقَةَ الْمُوَسَّعِ عَلَيْهِ، فَيُنْفِقُ جَمِيعَ مَا فِي يَدِهِ، ثُمَّ يَبْقَى طُولَ عُمْرِهِ فِي فَقْرٍ وَلَا يَتَأَتَّى. وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ: فِي الْآخِرَةِ، وَمَعْنَى الْآيَةِ: مَا كَانَ مِنْ خَلَفٍ فَهُوَ مِنْهُ. وَجَاءَ الرَّازِقِينَ جَمْعًا، وَإِنْ كَانَ الرَّازِقُ حَقِيقَةً هُوَ اللَّهُ وَحْدَهُ، لِأَنَّهُ يُقَالُ: الرَّجُلُ يَرْزُقُ عِيَالَهُ، وَالْأَمِيرُ جُنْدَهُ، وَالسَّيِّدُ عَبْدَهُ، وَالرَّازِقُونَ جُمِعَ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ، لَكِنْ أُولَئِكَ يُرْزَقُونَ مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ، وَمَلَّكَهُمْ فيه التصرف، ولله تَعَالَى يَرْزُقُ مِنْ خَزَائِنَ لَا تَفْنَى، وَمِنْ إِخْرَاجٍ مِنْ عَدَمٍ إِلَى وُجُودٍ.
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً: أَيِ الْمُكَذِّبِينَ، مَنْ تَقَدَّمَ وَمَنْ تَأَخَّرَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ:
نَحْشُرُهُمْ، نَقُولُ بِالنُّونِ فِيهِمَا، وَحَفْصٌ بِالْيَاءِ، وَتَقَدَّمَتْ فِي الْأَنْعَامِ «١». وَخِطَابُ الْمَلَائِكَةِ تَقْرِيعٌ لِلْكُفَّارِ، وَقَدْ عَلِمَ تَعَالَى أَنَّ الْمَلَائِكَةَ مُنَزَّهُونَ بَرَاءٌ مِمَّا وُجِّهَ عَلَيْهِمْ مِنَ السُّؤَالِ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ عَلَى طَرِيقِ تَوْقِيفِ الْكُفَّارِ، وَقَدْ عُلِمَ سُوءُ مَا ارْتَكَبُوهُ مِنْ عِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ، وَأَنَّ مَنْ عَبَدُوهُ مُتَبَرِّئٌ مِنْهُمْ. وهؤُلاءِ مُبْتَدَأٌ. وَخَبَرُهُ كانُوا يَعْبُدُونَ، وإِيَّاكُمْ مَفْعُولُ يَعْبُدُونَ. وَلَمَّا تَقَدَّمَ انْفَصَلَ، وَإِنَّمَا قُدِّمَ لِأَنَّهُ أَبْلَغُ فِي الْخِطَابِ، وَلِكَوْنِ يَعْبُدُونَ فَاصِلَةً. فَلَوْ أَتَى بِالضَّمِيرِ مُنْفَصِلًا، كَانَ التَّرْكِيبُ يَعْبُدُونَكُمْ، وَلَمْ تَكُنْ فَاصِلَةً. وَاسْتُدِلَّ بِتَقْدِيمِ هَذَا الْمَعْمُولِ عَلَى جَوَازِ تَقْدِيمِ خَبَرِ كَانَ عَلَيْهَا إِذَا كَانَ جُمْلَةً، وَهِيَ مَسْأَلَةُ خِلَافٍ، أَجَازَ ذَلِكَ ابْنُ السَّرَّاجِ، وَمَنَعَ ذَلِكَ قَوْمٌ مِنَ النَّحْوِيِّينَ، وَكَذَلِكَ مَنَعُوا تَوَسُّطَهُ إذا كان جملة.
قال ابْنُ السَّرَّاجِ: الْقِيَاسُ جَوَازُ ذَلِكَ، وَلَمْ يُسْمَعْ. وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ مِنَ الْآيَةِ أَنَّ تَقْدِيمَ الْمَعْمُولِ مُؤْذِنٌ بِتَقْدِيمِ الْعَامِلِ، فَكَمَا جَازَ تَقْدِيمُ إِيَّاكُمْ، جَازَ تَقْدِيمُ يَعْبُدُونَ، وَهَذِهِ الْقَاعِدَةُ لَيْسَتْ مُطَّرِدَةً، وَالْأَوْلَى مَنْعُ ذَلِكَ إِلَى أَنْ يَدُلَّ عَلَى جَوَازِهِ سَمَاعٌ مِنَ الْعَرَبِ. وَلَمَّا أجابوا الله بدأوا بتنزيهه وبراءته مِنْ كُلِّ سُوءٍ، كَمَا قَالَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: سُبْحانَكَ، ثُمَّ انْتَسَبُوا إِلَى مُوَالَاتِهِ دُونَ أُولَئِكَ الْكَفَرَةِ، أَيْ أَنْتَ وَلِيُّنا، إِذْ لَا مُوَالَاةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ.
لَكِنَّ الْإِضْرَابَ بِبَلْ يَدُلُّ عَلَيْهِ وَذَلِكَ لأن المعبود إذا لَمْ يَكُنْ رَاضِيًا بِعِبَادَةِ عَابِدِهِ مُرِيَدًا لَهَا، لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ الْعَابِدُ عَابِدًا لَهُ حَقِيقَةً، فَلِذَلِكَ قَالُوا: بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ، لِأَنَّ أَفْعَالَهُمُ الْقَبِيحَةَ مِنْ وَسْوَسَةِ الشَّيَاطِينِ وَإِغْوَائِهِمْ وَمُرَادَاتِهِمْ عَابِدُونَ لَهُمْ حَقِيقَةً، فَلِذَلِكَ قَالُوا: بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ، إِذِ الشَّيَاطِينُ رَاضُونَ تِلْكَ الْأَفْعَالَ. وَقِيلَ: صَوَّرَتْ لَهُمُ الشَّيَاطِينُ صُوَرَ قَوْمٍ مِنَ الْجِنِّ، وَقَالُوا: هَذِهِ صُوَرُ الْمَلَائِكَةِ فَاعْبُدُوهَا. وَقِيلَ: كَانُوا يَدْخُلُونَ فِي أَجْوَافِ الْأَصْنَامِ إِذَا عُبِدَتْ، فَيَعْبُدُونَ بِعِبَادَتِهَا. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: لَمْ تَنْفِ الْمَلَائِكَةُ عِبَادَةَ الْبَشَرِ إِيَّاهَا، وَإِنَّمَا أَقَرَّتْ أَنَّهَا لَمْ يَكُنْ لَهَا فِي ذَلِكَ مُشَارَكَةٌ. وَعِبَادَةُ الْبَشَرِ الْجِنَّ هِيَ فِيمَا يُقِرُّونَ بِطَاعَتِهِمْ إِيَّاهُمْ، وَسَمَاعِهِمْ مِنْ وَسْوَسَتِهِمْ وَإِغْوَائِهِمْ، فَهَذَا نَوْعٌ مِنَ الْعِبَادَةِ. وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي الْأُمَمِ الْكَافِرَةِ مَنْ عَبَدَ الْجِنَّ، وَفِي الْقُرْآنِ آيَاتٌ يَظْهَرُ مِنْهَا أَنَّ الْجِنَّ عُبِدَتْ، فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ وَغَيْرِهَا. انْتَهَى. وَإِذَا هُمْ قَدْ عَبَدُوا الْجِنَّ، فَمَا وَجْهُ قَوْلِهِمْ: أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنُونَ، وَلَمْ يَقُولُوا جَمِيعُهُمْ، وَقَدْ أَخْبَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ؟ وَالْجَوَابُ أَنَّهُمْ لَمْ يَدَّعُوا الْإِحَاطَةَ، إِذْ قَدْ يَكُونُ فِي الْكُفَّارِ مَنْ لَمْ يَطَّلِعِ الْمَلَائِكَةُ عَلَيْهِمْ، أو أنهم حلموا عَلَى الْأَكْثَرِ بِإِيمَانِهِمْ بِالْجِنِّ لِأَنَّ الْإِيمَانَ مِنْ عَمَلِ الْقَلْبِ، فَلَمْ يَذْكُرُوا الِاطِّلَاعَ عَلَى جَمِيعِ أَعْمَالِ قُلُوبِهِمْ، لِأَنَّ ذَلِكَ لِلَّهِ تَعَالَى. وَمَعْنَى مُؤْمِنُونَ: مُصَدِّقُونَ أَنَّهُمْ مَعْبُودُوهُمْ، وَقِيلَ:
مُصَدِّقُونَ أَنَّهُمْ بَنَاتُ اللَّهِ، وَأَنَّهُمْ مَلَائِكَةٌ، وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً «١». وَأَمَّا مَنْ قَالَ بِأَنَّ الْأَكْثَرَ بِمَعْنَى الْجَمِيعِ، فَلَا يَرِدُ عَلَيْهِ شَيْءٌ، لَكِنَّهُ لَيْسَ مَوْضُوعَ اللُّغَةِ.
فَالْيَوْمَ: هُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، وَالْخِطَابُ فِي بَعْضُكُمْ، قِيلَ: لِلْمَلَائِكَةِ، لِأَنَّهُمُ الْمُخَاطَبُونَ فِي قَوْلِهِ: أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ، وَيَكُونُ ذَلِكَ تَبْكِيتًا لِلْكُفَّارِ حِينَ بَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ مَنْ عَبَدُوهُ لَا يَنْفَعُ وَلَا يَضُرُّ، وَيُؤَيِّدُهُ: وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى «٢»، وَلِأَنَّ بَعْدَهُ: وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا، وَلَوْ كَانَ الْخِطَابُ لِلْكُفَّارِ، لَكَانَ التَّرْكِيبُ فَذُوقُوا. وَقِيلَ: الْخِطَابُ لِلْكُفَّارِ، لِأَنَّ ذِكْرَ الْيَوْمِ يَدُلُّ عَلَى حُضُورِهِمْ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: وَيَقُولُ، تَأْكِيدًا لبيان حالهم في الظل. وَقِيلَ:
هُوَ خِطَابٌ مِنَ اللَّهِ لِمَنْ عُبِدَ وَمَنْ عَبَدَ. وَقَوْلُهُ: نَفْعاً، قِيلَ: بِالشَّفَاعَةِ، وَلا ضَرًّا بِالتَّعْذِيبِ. وَقِيلَ هُنَا: الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ، وَفِي السَّجْدَةِ: الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ «٣» كُلٌّ مِنْهُمَا، أَيْ مِنَ الْعَذَابِ وَمِنَ النَّارِ، لِأَنَّهُمْ هُنَا لَمْ يَكُونُوا مُلْتَبِسِينَ بالعذاب،
(٢) سورة الأنبياء: ٢١/ ٢٨.
(٣) سورة السجدة: ٣٢/ ٢٠.
وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ، إِلَى تَالِي الْآيَاتِ، الْمَفْهُومُ مِنْ قَوْلِهِ: وَإِذا تُتْلى، وَهُوَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَحَكَى تَعَالَى مَطَاعِنَهُمْ عِنْدَ تِلَاوَةِ القرآن عليهم، فبدأوا أَوَّلًا:
بِالطَّعْنِ فِي التَّالِي، فَإِنَّهُ يَقْدَحُ فِي مَعْبُودَاتِ آلِهَتِكُمْ. ثَانِيًا: فِيمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ مِنَ الْقُرْآنِ، بِأَنَّهُ كَذِبٌ مُخْتَلَقٌ مِنْ عِنْدِهِ، وَلَيْسَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. وَثَالِثًا: بِأَنَّ مَا جَاءَ بِهِ سِحْرٌ وَاضِحٌ لِمَا اشْتَمَلَ عَلَى مَا يُوجِبُ الِاسْتِمَالَةَ وَتَأْثِيرَ النُّفُوسِ لَهُ وَإِجَابَتَهُ. وَطَعَنُوا فِي الرَّسُولِ، وَفِيمَا جَاءَ بِهِ، وَفِي وَصْفِهِ، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ صَدَرَ مِنْ مَجْمُوعِهِمْ، وَاحْتَمَلَ أَنْ تَكُونَ كُلُّ جُمْلَةٍ مِنْهَا قَالَهَا قَوْمٌ غَيْرُ مَنْ قَالَ الْجُمْلَةَ الْأُخْرَى. وَفِي قَوْلِهِ: لَمَّا جاءَهُمْ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ حِينَ جَاءَهُمْ لَمْ يُفَكِّرُوا فِيهِ، بَلْ بَادَرُوهُ بِالْإِنْكَارِ وَنِسْبَتِهِ إِلَى السِّحْرِ، وَلَمْ يَكْتَفُوا بِقَوْلِهِمْ، إِنَّهُ سِحْرٌ حَتَّى وَصَفُوهُ بِأَنَّهُ وَاضِحٌ لِمَنْ يَتَأَمَّلُهُ. وَقِيلَ: إِنْكَارُ الْقُرْآنِ وَالْمُعْجِزَةِ كَانَ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ، فَقَالَ تَعَالَى: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ، عَلَى وَجْهِ الْعُمُومِ.
وَما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ، وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما بَلَغُوا مِعْشارَ مَا آتَيْناهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ، قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ، قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ، قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ، قُلْ جاءَ الْحَقُّ وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ، قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ، وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ، وَقالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ، وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ، وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ.
وَما آتَيْناهُمْ: أَهْلَ مَكَّةَ، مِنْ كُتُبٍ، قَالَ السُّدِّيُّ: مِنْ عِنْدِنَا، فَيَعْلَمُوا بِدِرَاسَتِهَا بُطْلَانَ مَا جِئْتَ بِهِ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: فَنَقَضُوا أَنَّ الشِّرْكَ جَائِزٌ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ: أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ
وَقَالَ قَتَادَةُ: مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى الْعَرَبِ كِتَابًا قَبْلَ الْقُرْآنِ، وَلَا بَعَثَ إِلَيْهِمْ نَبِيًّا قَبْلَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَالْمَعْنَى: مِنْ أَيْنَ كَذَّبُوا، وَلَمْ يَأْتِهِمْ كِتَابٌ، وَلَا نَذِيرٌ بِذَلِكَ؟ وَقِيلَ: وَصَفَهُمْ بِأَنَّهُمْ قوم آمنون، أَهْلُ جَاهِلِيَّةٍ، وَلَا مِلَّةَ لَهُمْ، وَلَيْسَ لَهُمْ عَهْدٌ بِإِنْزَالِ الْكِتَابِ وَلَا بِعْثَةِ رَسُولٍ. كَمَا قَالَ: أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ «٢»، فَلَيْسَ لِتَكْذِيبِهِمْ وَجْهٌ مُثْبَتٌ، وَلَا شُبْهَةُ تَعَلُّقٍ. كَمَا يَقُولُ أَهْلُ الْكِتَابِ، وَإِنْ كَانُوا مُبْطِلِينَ: نَحْنُ أَهْلُ الْكِتَابِ وَالشَّرَائِعِ، وَمُسْتَنِدُونَ إِلَى رُسُلٍ مِنْ رُسُلِ اللَّهِ. وَقِيلَ:
الْمَعْنَى أَنَّهُمْ يَقُولُونَ بِآرَائِهِمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ، يَقُولُ بَعْضُهُمْ سِحْرٌ، وَبَعْضُهُمُ افْتِرَاءٌ، وَلَا يَسْتَنِدُونَ فِيهِ إِلَى أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ، وَلَا إِلَى خَبَرِ مَنْ يُقْبَلُ خَبَرُهُ. فَإِنَّا آتَيْنَاهُمْ كُتُبًا يَدْرُسُونَهَا، وَلَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رَسُولًا وَلَا نَذِيرًا فَيُمْكِنُهُمْ أَنْ يَدَّعُوَا، أَنَّ أَقْوَالَهُمْ تَسْتَنِدُ إِلَى أَمْرِهِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: يَدْرُسُونَها، مُضَارِعُ دَرَسَ مخففا وأبو حَيْوَةَ: بِفَتْحِ الدَّالِ وَشَدِّهَا وَكَسْرِ الرَّاءِ، مُضَارِعُ ادَّرَسَ، افْتَعَلَ مِنَ الدَّرْسِ، وَمَعْنَاهُ: تَتَدَارَسُونَهَا. وَعَنْ أَبِي حَيْوَةَ أَيْضًا: يُدَرَّسُونَهَا، مِنَ التَّدْرِيسِ، وَهُوَ تَكْرِيرُ الدَّرْسِ، أَوْ مِنْ دُرِسَ الْكِتَابُ مُخَفَّفًا، وَدُرِّسَ الْكِتَابُ مُشَدَّدًا التَّضْعِيفُ بِاعْتِبَارِ الْجَمْعِ. وَمَعْنَى قَبْلَكَ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: أَيْ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ نَذِيرٍ يُشَافِهُهُمْ بِشَيْءٍ، وَلَا يُبَاشِرُ أَهْلَ عَصْرِهِمْ، وَلَا مِنْ قُرْبٍ مِنْ آبَائِهِمْ. وَقَدْ كَانَتِ النِّذَارَةُ فِي الْعَالَمِ، وَفِي الْعَرَبِ مَعَ شُعَيْبٍ وَصَالِحٍ وَهُودٍ. وَدَعْوَةُ اللَّهِ وَتَوْحِيدُهُ قَائِمٌ لَمْ تَخْلُ الْأَرْضُ مِنْ دَاعٍ إِلَيْهِ، وَإِنَّمَا الْمَعْنَى: مِنْ نَذِيرٍ يَخْتَصُّ بِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ بَقِيَتْ إِلَيْهِمْ، وَقَدْ كَانَ عِنْدَ الْعَرَبِ كَثِيرٌ مِنْ نِذَارَةِ إِسْمَاعِيلَ، وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ وَكانَ رَسُولًا نَبِيًّا «٣»، وَلَكِنْ لَمْ يَتَجَرَّدْ لِلنِّذَارَةِ، وَقَاتَلَ عَلَيْهَا، إِلَّا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. انْتَهَى.
وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ: تَوَعُّدٌ لَهُمْ مِمَّنْ تَقَدَّمَهُمْ مِنَ الْأُمَمِ، وَمَا آلَ إِلَيْهِ أَمْرُهُمْ، وَتَسْلِيَةٌ لِرَسُولِهِ بِأَنَّ عَادَتَهُمْ فِي التَّكْذِيبِ عَادَةُ الْأُمَمِ السَّابِقَةِ، وَسَيَحِلُّ بِهِمْ مَا حَلَّ بِأُولَئِكَ.
وَأَنَّ الضَّمِيرَيْنِ فِي: بَلَغُوا وَفِي: مَا آتَيْناهُمْ عَائِدَانِ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، لِيَتَنَاسَقَا مَعَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَكَذَّبُوا، أَيْ مَا بَلَغُوا فِي شُكْرِ النِّعْمَةِ وَجَزَاءِ الْمِنَّةِ مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ مِنَ النِّعَمِ وَالْإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَقَتَادَةُ، وَابْنُ زَيْدٍ: الضَّمِيرُ فِي بَلَغُوا لِقُرَيْشٍ، وَفِي مَا آتَيْناهُمْ لِلْأُمَمِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ. وَالْمَعْنَى: وَمَا بَلَغَ هَؤُلَاءِ بَعْضَ مَا آتَيْنَا أُولَئِكَ مِنْ طُولِ الْأَعْمَارِ وَقُوَّةِ الْأَجْسَامِ وَكَثْرَةِ الْأَمْوَالِ، وحيث كذبوا رسلي
(٢) سورة الزخرف: ٤٣/ ٢١. [.....]
(٣) سورة مريم: ١٩/ ٥٤.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: فَلَيْسَ أَنَّهُ أَعْلَمُ مِنْ أُمَّتِهِ، وَلَا كِتَابٌ أَبْيَنَ مِنْ كِتَابِهِ. وَالْمِعْشَارُ مِفْعَالٌ مِنَ الْعُشْرِ، وَلَمْ يُبْنَ عَلَى هَذَا الْوَزْنِ مِنْ أَلْفَاظِ الْعَدَدِ غَيْرُهُ وَغَيْرُ الْمِرْبَاعِ، وَمَعْنَاهُمَا: الْعُشْرُ وَالرُّبْعُ. وَقَالَ قَوْمٌ: الْمِعْشَارُ عُشْرُ الْعُشْرِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ. انْتَهَى. وَقِيلَ:
وَالْعُشْرُ فِي هَذَا الْقَوْلِ عُشْرُ الْمُعْشَرَاتِ، فَيَكُونُ جزءا مِنْ أَلْفِ جُزْءٍ. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهُوَ الْأَظْهَرُ، لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْمُبَالَغَةُ فِي التَّقْلِيلِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: مَا مَعْنَى فَكَذَّبُوا رُسُلِي، وَهُوَ مُسْتَغْنًى عَنْهُ بِقَوْلِهِ وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ؟ قُلْتُ: لَمَّا كَانَ مَعْنَى قَوْلِهِ:
وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، وَفَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمُ التَّكْذِيبَ، وَأَقْدَمُوا عَلَيْهِ، جُعِلَ تَكْذِيبُ الرُّسُلِ مُسَبَّبًا عَنْهُ، وَنَظِيرُهُ أَنْ يَقُولَ الْقَائِلُ: أَقْدَمَ فُلَانٌ عَلَى الْكُفْرِ، فَكَفَرَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَنْعَطِفَ عَلَى قَوْلِهِ: مَا بَلَغُوا، كَقَوْلِكَ: مَا بَلَغَ زَيْدٌ مِعْشَارَ فَضْلِ عَمْرٍو، فَيُفَضَّلَ عَلَيْهِ. فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ: لِلْمُكَذِّبِينَ الأوّلين، فليحذروا من مثله. انتهى. وفكيف:
تَعْظِيمٌ لِلْأَمْرِ، وَلَيْسَتِ اسْتِفْهَامًا مُجَرَّدًا، وَفِيهِ تَهْدِيدٌ لِقُرَيْشٍ، أَيْ أَنَّهُمْ مُعَرَّضُونَ لِنَكِيرٍ مِثْلِهِ، وَالنَّكِيرُ مَصْدَرٌ كَالْإِنْكَارِ، وَهُوَ مِنَ الْمَصَادِرِ الَّتِي جَاءَتْ عَلَى وَزْنِ فَعِيلٍ، وَالْفِعْلُ عَلَى وَزْنِ أَفْعَلَ، كَالنَّذِيرِ وَالْعَذِيرِ مِنْ أَنْذَرَ وأعذر، وحذفت إلى مِنْ نَكِيرِ تَخْفِيفًا لِأَنَّهَا أَجْزَأَتْهُ.
قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ، قَالَ: هِيَ طَاعَةُ اللَّهِ وَتَوْحِيدُهُ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: هِيَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. قَالَ قَتَادَةُ: هِيَ أَنْ تَقُومُوا. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: أَنْ تَقُومُوا فِي مَوْضِعِ خَفْضٍ عَلَى الْبَدَلِ مِنْ وَاحِدَةٍ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: بِواحِدَةٍ: بِخَصْلَةٍ وَاحِدَةٍ، وَهُوَ فَسَّرَهَا بِقَوْلِهِ: أَنْ تَقُومُوا على أن عَطْفُ بَيَانٍ لَهَا. انْتَهَى. وَهَذَا لَا يَجُوزُ، لِأَنَّ بِوَاحِدَةٍ نَكِرَةٌ، وَأَنْ تَقُومُوا
إِذَا اجْتَمَعُوا جَاءُوا بِكُلِّ غَرِيبَةٍ | فَيَزْدَادُ بَعْضُ الْقَوْمِ مِنْ بَعْضِهِمْ عِلْمَا |
قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ الْآيَةُ: فِي التَّبَرِّي مِنْ طَلَبِ الدُّنْيَا، وَطَلَبِ الْأَجْرِ عَلَى النُّورِ الَّذِي أَتَى بِهِ، وَالتَّوَكُّلِ عَلَى اللَّهِ فِيهِ. وَاحْتَمَلَتْ مَا أَنْ تَكُونَ مَوْصُولَةً مُبْتَدَأً، وَالْعَائِدُ مِنَ الصِّلَةِ مَحْذُوفٌ تقديره: سألتكموه، وفَهُوَ لَكُمْ الْخَبَرُ. وَدَخَلَتِ الْفَاءُ لِتَضَمُّنِ الْمُبْتَدَأِ مَعْنَى الشَّرْطِ، وَاحْتَمَلَتْ أَنْ تَكُونَ شَرْطِيَّةً مَفَعُولَةً بِسَأَلْتُكُمْ، وَفَهُوَ لَكُمْ جُمْلَةٌ هِيَ جَوَابُ الشَّرْطِ. وَقَوْلُهُ: مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ عَلَى مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: نَفْيُ مَسْأَلَةٍ لِلْأَجْرِ، كَمَا يَقُولُ الرَّجُلُ لِصَاحِبِهِ: إِنْ أَعْطَيْتَنِي شَيْئًا فَخُذْهُ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يُعْطِهِ شَيْئًا، وَلَكِنَّهُ أَرَادَ الْبَتَّ لِتَعْلِيقِهِ الْأَخْذَ بما لم يمكن، وَيُؤَيِّدُهُ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ. وَالثَّانِي: أَنْ يُرِيدَ بِالْأَجْرِ مَا فِي قوله: قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا «١»، وَفِي قوله: لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى «٢»، لِأَنَّ اتِّخَاذَ السبيل إلى الله نصيبهم مَا فِيهِ نَفْعُهُمْ، وَكَذَلِكَ الْمَوَدَّةُ فِي الْقَرَابَةِ، لِأَنَّ الْقَرَابَةَ قَدِ انْتَظَمَتْ وَإِيَّاهُمْ، قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَفِيهِ بَعْضُ زِيَادَةٍ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْأَجْرُ: الْمَوَدَّةُ فِي الْقُرْبَى.
وَقَالَ قَتَادَةُ: فَهُوَ لَكُمْ، أَيْ ثَمَرَتُهُ وَثَوَابُهُ، لِأَنِّي سَأَلْتُكُمْ صِلَةَ الرَّحِمِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: تَرَكْتُهُ لَكُمْ. وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ: مُطَّلِعٌ حَافِظٌ، يَعْلَمُ أَنِّي لَا أَطْلُبُ أَجْرًا عَلَى نُصْحِكُمْ وَدُعَائِكُمْ إِلَيْهِ إِلَّا مِنْهُ، وَلَا أَطْمَعُ مِنْكُمْ فِي شَيْءٍ.
وَالْقَذْفُ: الرَّمْيُ بِدَفْعٍ وَاعْتِمَادٍ، وَيُسْتَعَارُ لِمَعْنَى الْإِلْقَاءِ لِقَوْلِهِ: فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ «٣»، وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ «٤». قَالَ قَتَادَةُ: يَقْذِفُ بِالْحَقِّ: يُبَيِّنُ الْحُجَّةَ وَيُظْهِرُهَا. وَقَالَ ابْنُ الْقُشَيْرِيِّ: يُبَيِّنُ الْحُجَّةَ بِحَيْثُ لَا اعْتِرَاضَ عَلَيْهَا، لِأَنَّهُ عَلَّامُ الْغُيُوبِ، وَأَنَا مُسْتَمْسِكٌ بِمَا يُقْذَفُ إِلَيَّ مِنَ الْحَقِّ. وَأَصْلُ الْقَذْفِ: الرَّمْيُ بِالسَّهْمِ، أَوِ الحصا وَالْكَلَامِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَقْذِفُ الْبَاطِلَ بِالْحَقِّ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ بِالْحَقِّ هُوَ الْمَفْعُولُ، فَالْحَقُّ هُوَ الْمَقْذُوفُ مَحْذُوفًا، أَيْ يَقْذِفُ، أَيْ يُلْقِي مَا يُلْقِي إِلَى أَنْبِيَائِهِ من الوحي والشرع
(٢) سورة الشورى: ٤٢/ ٢٣.
(٣) سورة طه: ٢٠/ ٣٩.
(٤) سورة الأحزاب: ٣٣/ ٢٦.
هُوَ رَفْعٌ، لأن تأويل قُلْ رَبِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: رَفْعٌ مَحْمُولٌ عَلَى مَحَلِّ إِنَّ وَاسْمِهَا، أَوْ عَلَى الْمُسْتَكِنِّ فِي يَقْذِفُ، أَوْ هُوَ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ. انْتَهَى. أَمَّا الْحَمْلُ عَلَى مَحَلِّ إِنَّ وَاسْمِهَا فَهُوَ غَيْرُ مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ عِنْدَ أَصْحَابِنَا عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ فِي كُتُبِ النَّحْوِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ عَلَى الْمُسْتَكِنِّ فِي يَقْذِفُ، فَلَمْ يُبَيِّنْ وَجْهَ حَمْلِهِ، وَكَأَنَّهُ يُرِيدُ أَنَّهُ بَدَلٌ مِنْ ضَمِيرِ يَقْذِفُ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: هُوَ نَعْتٌ لِذَلِكَ الضَّمِيرِ، لِأَنَّ مَذْهَبَهُ جَوَازُ نَعْتِ الْمُضْمَرِ الْغَائِبِ. وَقَرَأَ عِيسَى، وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ، وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ، وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ، وَأَبُو حَيْوَةَ، وَحَرْبٌ عَنْ طَلْحَةَ: عَلَّامَ بِالنَّصْبِ فَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: صِفَةٌ لِرَبِّي. وَقَالَ أَبُو الْفَضْلِ الرَّازِيُّ، وَابْنُ عَطِيَّةَ: بَدَلٌ. وَقَالَ الْحَوْفِيُّ: بَدَلٌ أَوْ صِفَةٌ وَقِيلَ: نَصْبٌ عَلَى الْمَدْحِ.
وَقُرِئَ: الْغُيُوبِ بِالْجَرِّ، أَمَّا الضَّمُّ فَجَمْعُ غَيْبٍ، وَأَمَّا الْكَسْرُ فَكَذَلِكَ اسْتَثْقَلُوا ضَمَّتَيْنِ وَالْوَاوَ فَكُسِرَ، وَالتَّنَاسُبُ الْكَسْرُ مَعَ الْيَاءِ وَالضَّمَّةُ الَّتِي عَلَى الْيَاءِ مَعَ الْوَاوِ وَأَمَّا الْفَتْحُ فَمَفْعُولٌ لِلْمُبَالَغَةِ، كَالصَّبُورِ، وَهُوَ الشَّيْءُ الَّذِي غَابَ وَخَفِيَ جِدًّا.
وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّهُ يَقْذِفُ بِالْحَقِّ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ، أَخْبَرَ أَنَّ الْحَقَّ قَدْ جَاءَ، وَهُوَ الْقُرْآنُ وَالْوَحْيُ، وَبَطَلَ مَا سِوَاهُ مِنَ الْأَدْيَانِ، فَلَمْ يَبْقَ لِغَيْرِ الْإِسْلَامِ ثَبَاتٌ، لَا فِي بَدْءٍ وَلَا فِي عَاقِبَةٍ، فَلَا يُخَافُ عَلَى الْإِسْلَامِ مَا يُبْطِلُهُ، كَمَا قَالَ: لَا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ «١». وَقَالَ قَتَادَةُ: الْبَاطِلُ: الشَّيْطَانُ، لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَلَا يَبْعَثُهُ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ:
الْأَصْنَامُ لَا تَفْعَلُ ذَلِكَ. وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ: لَا يَبْتَدِئُ الصَّنَمُ مِنْ عِنْدِهِ كَلَامًا فَيُجَابُ، وَلَا يَرُدُّ مَا جَاءَ مِنَ الْحَقِّ بِحُجَّةٍ. وَقِيلَ: الْبَاطِلُ: الَّذِي يُضَادُّ الْحَقَّ، فَالْمَعْنَى: ذَهَبَ الْبَاطِلُ بِمَجِيءِ الْحَقِّ، فلم يبق مِنْهُ بَقِيَّةٌ، وَذَلِكَ أَنَّ الْجَائِيَ إِذَا هَلَكَ لَمْ يَبْقَ لَهُ إِبْدَاءٌ وَلَا إِعَادَةٌ، فَصَارَ قَوْلُهُمْ: لَا يُبْدِي وَلَا يُعِيدُ، مَثَلًا فِي الْهَلَاكِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
أَفْقَرُ مِنْ أُهَيْلِهِ عَبِيدٌ | فَالْيَوْمَ لَا يُبْدِي وَلَا يُعِيدُ |
الْبَاطِلُ، لِأَنَّهُ صَاحِبُ الْبَاطِلِ، لِأَنَّهُ هَالِكٌ، كَمَا قِيلَ لَهُ الشَّيْطَانُ مِنْ شَاطَ إِذَا هَلَكَ. وَقِيلَ:
الْحَقُّ: السَّيْفُ.
عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ، وَحَوْلَ الْكَعْبَةِ ثَلَاثُمِائَةٍ وَسِتُّونَ صَنَمًا، فَجَعَلَ يَطْعَنُهَا بِعُودِ نَبْقَةٍ وَيَقُولُ: «جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً «١»، جاءَ الْحَقُّ وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ».
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ، بِفَتْحِ اللَّامِ، فَإِنَّما أَضِلُّ، بِكَسْرِ الضَّادِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ، وَابْنُ وَثَّابٍ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ الْمُقْرِيُّ: بِكَسْرِ اللَّامِ وَفَتْحِ الضَّادِ، وَهِيَ لُغَةُ تَمِيمٍ، وَكَسَرَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ هَمْزَةَ أَضِلُّ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لُغَتَانِ نَحْوُ: ضَلَلْتُ أَضِلُّ، وَظَلَلْتُ أَظِلُّ. وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي، وَأَنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً، أَيْ فَبِوَحْيِ رَبِّي.
وَالتَّقَابُلُ اللَّفْظِيُّ: وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَإِنَّمَا أَهْتَدِي لَهَا، كَمَا قَالَ: وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها «٢»، مُقَابِلُ: مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ «٣»، وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها «٤»، مُقَابِلُ: فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ «٥»، أَوْ يُقَالُ: فَإِنَّمَا أَضِلُّ بِنَفْسِي. وَأَمَّا فِي الْآيَةِ فَالتَّقَابُلُ مَعْنَوِيٌّ، لِأَنَّ النَّفْسَ كُلُّ مَا عَلَيْهَا فَهُوَ لَهَا، أَيْ كُلُّ وَبَالٍ عَلَيْهَا فَهُوَ بِسَبَبِهَا. إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ «٦» وَمَا لَهَا مِمَّا يَنْفَعُهَا فَبِهِدَايَةِ رَبِّهَا وَتَوْفِيقِهِ، وَهَذَا حُكْمٌ عَامٌّ لِكُلِّ مُكَلَّفٍ. وَأَمَرَ رَسُولَهُ أَنْ يُسْنِدَهُ إِلَى نَفْسِهِ، لِأَنَّهُ إِذَا دَخَلَ تَحْتَهُ مَعَ جَلَالَةِ مَحَلِّهِ وَسِرِّ طَرِيقَتِهِ كَمَا غَيْرُهُ أَوْلَى بِهِ. انْتَهَى، وَهُوَ مِنْ كَلَامِ الزَّمَخْشَرِيِّ. إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ، يُدْرِكُ قَوْلَ كُلِّ ضَالٍّ وَمُهْتَدٍ وَفِعْلَهُ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا، أَنَّهُ وَقْتُ الْبَعْثِ وَقِيَامِ السَّاعَةِ، وَكَثِيرًا جَاءَ:
وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ «٧»، وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ «٨»، وَكُلُّ ذَلِكَ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَعَبَّرَ بِفَزِعُوا، وَأُخِذُوا، وَقَالُوا وَحِيَلَ بِلَفْظِ الْمَاضِي لِتَحَقُّقِ وُقُوعِهِ بِالْخَبَرِ الصَّادِقِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالضَّحَّاكُ: هَذَا فِي عَذَابِ الدُّنْيَا. وَقَالَ الْحَسَنُ:
فِي الْكُفَّارِ عِنْدَ خُرُوجِهِمْ مِنَ الْقُبُورِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ، وَالسُّدِّيُّ:
فِي أَهْلِ بَدْرٍ حِينَ ضُرِبَتْ أَعْنَاقُهُمْ، فَلَمْ يَسْتَطِيعُوا فِرَارًا مِنَ الْعَذَابِ، وَلَا رُجُوعًا إِلَى التَّوْبَةِ.
وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ، وَابْنُ أَبِي أَبْزَى: فِي جَيْشٍ لِغَزْوِ الْكَعْبَةِ، فَيُخْسَفُ بِهِمْ فِي بَيْدَاءَ مِنَ الْأَرْضِ، وَلَا يَنْجُو إِلَّا رَجُلٌ مِنْ جُهَيْنَةَ، فَيُخْبِرُ النَّاسَ بِمَا نَالَهُ، قَالُوا، وله قيل:
(٢ و ٣) سورة فصلت: ٤١/ ٤٦، وسورة الجاثية: ٤٥/ ١٥.
(٤ و ٥) سورة الزمر: ٣٩/ ٤١.
(٦) سورة يوسف: ١٢/ ٥٣.
(٧) سورة الأنعام: ٦/ ٢٧.
(٨) سورة السجدة: ٣٢/ ١٢.
وَرُوِيَ فِي هَذَا الْمَعْنَى حَدِيثٌ مُطَوَّلٌ عَنْ حُذَيْفَةَ. وَذَكَرَ الطَّبَرِيُّ أَنَّهُ ضَعِيفُ السَّنَدِ، مَكْذُوبٌ فِيهِ عَلَى رِوَايَةِ ابْنِ الْجَرَّاحِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَعَنِ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَزَلَتْ فِي خَسْفِ الْبَيْدَاءِ، وَذَلِكَ أَنَّ ثَمَانِينَ أَلْفًا يَغْزُونَ الْكَعْبَةَ لِيُخْرِبُوهَا، فَإِذَا دَخَلُوا الْبَيْدَاءَ خُسِفَ بِهِمْ. وَذُكِرَ فِي حَدِيثِ حُذَيْفَةَ أَنَّهُ تَكُونُ فِتْنَةٌ بَيْنَ أَهْلِ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ، إِذْ خَرَجَ السُّفْيَانِيُّ مِنَ الْوَادِي الْيَابِسِ فِي فَوْرِهِ، ذَلِكَ حِينَ يَنْزِلُ دِمَشْقَ، فَيَبْعَثُ جَيْشًا إِلَى الْمَدِينَةِ فَيَنْتَهِبُونَهَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، ثُمَّ يَخْرُجُونَ إِلَى مَكَّةَ فَيَأْتِيهِمْ جِبْرِيلُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَيَضْرِبُهَا، أَيِ الْأَرْضَ، بِرِجْلِهِ ضَرْبَةً، فَيَخْسِفُ اللَّهُ بِهِمْ فِي بَيْدَاءَ مِنَ الْأَرْضِ، وَلَا يَنْجُو إِلَّا رَجُلٌ مِنْ جُهَيْنَةَ، فَيُخْبِرُ النَّاسَ بِمَا نَالَهُ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: فَلا فَوْتَ، وَلَا يَتَفَلَّتُ مِنْهُمْ إِلَّا رَجُلَانِ مِنْ جُهَيْنَةَ، وَلِذَلِكَ جَرَى الْمَثَلُ: «وَعِنْدَ جُهَيْنَةَ الْخَبَرُ الْيَقِينُ»، اسْمُ أَحَدِهِمَا بَشِيرٌ، يُبَشِّرُ أَهْلَ مَكَّةَ، وَالْآخَرِ نَذِيرٌ، يَنْقَلِبُ بِخَبَرِ السُّفْيَانِيِّ. وَقِيلَ: لَا يَنْقَلِبُ إِلَّا رَجُلٌ وَاحِدٌ يُسَمَّى نَاجِيَةَ مِنْ جُهَيْنَةَ، يَنْقَلِبُ وَجْهُهُ إِلَى قَفَاهُ. وَمَفْعُولُ تَرَى مَحْذُوفٌ، أَيْ وَلَوْ تَرَى الْكُفَّارَ إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ، أَيْ لَا يَفُوتُونَ اللَّهَ، وَلَا يَهْرُبُ لَهُمْ عَنْمَا يُرِيدُ بِهِمْ. وَقَالَ الْحَسَنُ: فَلَا فَوْتَ مِنْ صَيْحَةِ النُّشُورِ، وَأُخِذُوا مِنْ بَطْنِ الْأَرْضِ إِلَى ظَهْرِهَا. انْتَهَى. أَوْ مِنَ الْمَوْقِفِ إِلَى النَّارِ إِذَا بُعِثُوا، أَوْ مِنْ ظَهْرِ الْأَرْضِ إِلَى بَطْنِهَا إِذَا مَاتُوا، أَوْ مِنْ صَحْرَاءِ بَدْرٍ إِلَى الْقَلِيبِ، أَوْ مِنْ تَحْتِ أَقْدَامِهِمْ إِذَا خُسِفَ بِهِمْ، وَهَذِهِ أَقْوَالٌ مَبْنِيَّةٌ عَلَى تِلْكَ الْأَقْوَالِ السَّابِقَةِ فِي عَوْدِ الضَّمِيرِ فِي فَزِعُوا.
وَوَصْفُ الْمَكَانِ بِالْقُرْبِ مِنْ حَيْثُ قُدْرَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، فَحَيْثُ مَا كَانُوا هُوَ قَرِيبٌ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: فَلا فَوْتَ، مَبْنِيٌّ عَلَى الْفَتْحِ، وَأُخِذُوا: فِعْلًا مَاضِيًا، وَالظَّاهِرُ عَطْفُهُ عَلَى فَزِعُوا، وَقِيلَ: عَلَى فَلا فَوْتَ، لِأَنَّ مَعْنَاهُ فَلَا يُفَوَّتُوا وَأُخِذُوا. وَقَرَأَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ مَوْلَى بَنِي هَاشِمٍ عَنْ أَبِيهِ، وَطَلْحَةُ فَلَا فَوْتٌ، وَأَخْذٌ مَصْدَرَيْنِ مُنَوَّنَيْنِ. وَقَرَأَ أُبَيٌّ: فَلَا فَوْتَ مَبْنِيًّا، وَأَخْذٌ مَصْدَرًا مُنَوَّنًا، وَمَنْ رَفَعَ وَأَخْذٌ فَخَبَرُ مُبْتَدَأٍ، أَيْ وَحَالُهُمَا أَخْذٌ أَوْ مُبْتَدَأٌ، أَيْ وَهُنَاكَ أَخْذٌ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَقُرِئَ: وَأَخْذٌ، وَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى مَحَلِّ فَلَا فَوْتَ، وَمَعْنَاهُ: فَلَا فَوْتَ هُنَاكَ، وَهُنَاكَ أَخْذٌ. انْتَهَى. كَأَنَّهُ يَقُولُ: لَا فَوْتَ مَجْمُوعٌ لَا، وَالْمَبْنِيِّ مَعَهَا فِي مَوْضِعِ مُبْتَدَأٍ، وَخَبَرُهُ هُنَاكَ، فَكَذَلِكَ وَأَخْذٌ مُبْتَدَأٌ، وَخَبَرُهُ هُنَاكَ، فَهُوَ مِنْ عَطْفِ الْجُمَلِ، وَإِنْ كَانَتْ إِحْدَاهُمَا تَضَمَّنَتِ النَّفْيَ وَالْأُخْرَى تَضَمَّنَتِ الْإِيجَابَ. وَالضَّمِيرُ فِي بِهِ عَائِدٌ عَلَى اللَّهِ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ، أَيْ يقولون ذلك عند ما يَرَوْنَ الْعَذَابَ. وَقَالَ الْحَسَنُ:
عَلَى الْبَعْثِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: عَلَى الْقُرْآنِ. وَقِيلَ: عَلَى الْعَذَابِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَغَيْرُهُ:
تَمَنَّى أن تؤوب إِلَيَّ مَيُّ | وَلَيْسَ إِلَى تَنَاوُشِهَا سَبِيلُ |
هُمِزَتِ الْوَاوُ الْمَضْمُومَةُ كَمَا هُمِزَتْ فِي أُجُوهٍ وَأُدُورٍ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَأَمَّا التَّنَاؤُشُ بِالْهَمْزِ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ التَّنَاوُشِ، وَهُمِزَتِ الْوَاوُ لَمَّا كَانَتْ مَضْمُومَةً ضَمَّةً لَازِمَةً، كَمَا قَالُوا:
أَفْتَيْتُ. وَقَالَ الْحَوْفِيُّ: وَمَنْ هَمَزَ احْتَمَلَ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مِنَ النَّاشِ، وَهُوَ الْحَرَكَةُ فِي إِبْطَاءٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ نَاشَ يَنُوشُ، هُمِزَتِ الْوَاوُ لِانْضِمَامِهَا، كَمَا هُمِزَتِ أَفْتَيْتُ وَأَدْوُرُ. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: وَيُقْرَأُ بِالْهَمْزِ من أجل ضمة الْوَاوِ، وَقِيلَ: هِيَ أَصْلٌ مِنْ نَاشَهُ.
انْتَهَى. وَمَا ذَكَرُوهُ مِنَ أَنَّ الْوَاوَ إِذَا كَانَتْ مَضْمُومَةً ضَمَّةً لَازِمَةً يَجُوزُ أَنْ تُبْدَلَ هَمْزَةً، لَيْسَ عَلَى إِطْلَاقِهِ، بَلْ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ فِي الْمُتَوَسِّطَةِ إِذَا كَانَ مُدْغَمَةً فِيهَا، وَنَحْوُ يَعُودُ ويقوم مَصْدَرَيْنِ وَلَا إِذَا صَحَّتْ فِي الْفِعْلِ نَحْوُ: تَرَهْوَكَ تَرَهْوُكًا، وَتَعَاوَنَ تَعَاوُنًا، وَلَمْ يَسْمَعْ هَمْزَتَيْنِ مِنْ ذَلِكَ، فَلَا يَجُوزُ. وَالتَّنَاوُشُ مِثْلُ التَّعَاوُنِ، فَلَا يَجُوزُ هَمْزُهُ، لِأَنَّ وَاوَهُ قَدْ صَحَّتْ فِي الْفِعْلِ، إِذْ يَقُولُ: تَنَاوَشَ.
وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ: الضَّمِيرُ فِي بِهِ عَائِدٌ عَلَى مَا عَادَ عَلَيْهِ آمَنَّا بِهِ عَلَى الْأَقْوَالِ، والجملة حالية، ومِنْ قَبْلُ نُزُولِ الْعَذَابِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَيَقْذِفُونَ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، حِكَايَةَ حَالٍ مُتَقَدِّمَةٍ. قَالَ الْحَسَنُ: قَوْلُهُمْ لَا جَنَّةَ وَلَا نَارَ، وَزَادَ قَتَادَةُ: وَلَا بَعْثَ وَلَا نَارَ. وَقَالَ
وَحِيلَ بَيْنَهُمْ، قَالَ الْحَوْفِيُّ: الظَّرْفُ قَائِمٌ مَقَامَ اسْمِ مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ. انْتَهَى. وَلَوْ كَانَ عَلَى مَا ذَكَرَ، لَكَانَ مَرْفُوعًا بينهم، كفراءة مَنْ قَرَأَ: لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ «٢»، فِي أحد المعنيين، لَا يُقَالُ لِمَا أُضِيفَ إِلَى مَبْنِيٍّ وَهُوَ الضَّمِيرُ بَنَى، فَهُوَ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ، وَإِنْ كَانَ مَبْنِيًّا. كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ فِي قَوْلِهِ: وَإِذْ مَا مَثَّلَهُمْ، يُشِيرُ إِلَى أَنَّهُ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ لِإِضَافَتِهِ إِلَى الضَّمِيرِ، وَإِنْ كَانَ مَفْتُوحًا، لِأَنَّهُ قَوْلٌ فَاسِدٌ. يَجُوزُ أَنْ تَقُولَ: مَرَرْتُ بِغُلَامَكَ، وَقَامَ غُلَامَكَ بِالْفَتْحِ، وَهَذَا لَا يَقُولُهُ أَحَدٌ. وَالْبِنَاءُ لِأَجْلِ الْإِضَافَةِ إِلَى الْمَبْنِيِّ لَيْسَ مُطْلَقًا، بَلْ لَهُ مَوَاضِعُ أُحْكِمَتْ فِي النَّحْوِ، وَمَا يَقُولُ قَائِلٌ ذَلِكَ في قول الشَّاعِرُ:
وَقَدْ حِيلَ بَيْنَ الْعِيرِ وَالنَّزَوَانِ فَإِنَّهُ نَصَبَ بَيْنَ، وَهِيَ مُضَافَةٌ إِلَى مُعْرَبٍ، وَإِنَّمَا يَخْرُجُ مَا وَرَدَ مِنْ نَحْوِ هَذَا عَلَى أَنَّ الْقَائِمَ مَقَامَ الْفَاعِلِ هُوَ ضَمِيرُ الْمَصْدَرِ الدَّالُّ عَلَيْهِ، وَحِيلَ هُوَ، أَيِ الْحَوْلُ، وَلِكَوْنِهِ أُضْمِرَ لَمْ يَكُنْ مَصْدَرًا مُؤَكِّدًا، فَجَازَ أَنْ يُقَامَ مَقَامَ الْفَاعِلِ، وَعَلَى ذَلِكَ يَخْرُجُ قول الشاعر:
(٢) سورة الأنعام: ٦/ ٩٤.
وَقَالَتْ مَتَى يُبْخَلْ عَلَيْكَ وَيُعْتَلَلْ | بِسُوءٍ وَإِنْ يُكْشَفْ غَرَامُكَ تَدْرُبِ |
وَيَتَرَجَّحُ بِأَنَّ مَا يُفْعَلُ بِجَمِيعِهِمْ إِنَّمَا هُوَ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، وَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بِفِعْلٍ إِذَا كَانَتِ الْحَيْلُولَةُ فِي الدُّنْيَا. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: أَشْيَاعُهُمْ أَصْحَابُ الْفِيلِ، يَعْنِي أَشْيَاعَ قُرَيْشٍ، وَكَأَنَّهُ أَخْرَجَهُ مُخْرَجَ التَّمْثِيلِ. وَأَمَّا التَّخْصِيصُ، فَلَا دَلِيلَ عَلَيْهِ. إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ: يَعْنِي فِي الدُّنْيَا، وَمُرِيبٍ اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ أَرَابَ الرَّجُلُ: أَتَى بِرِيبَةٍ وَدَخَلَ فِيهَا، وَأَرَبْتُ الرَّجُلَ: أَوْقَعْتَهُ فِي رِيبَةٍ، وَنِسْبَةُ الْإِرَابَةِ إِلَى الشَّكِّ مَجَازٌ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِلَّا أَنْ بَيْنَهُمَا فَرْقًا، وَهُوَ أَنَّ الْمُرِيبَ مِنَ الْمُتَعَدِّي مَنْقُولٌ مِمَّنْ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مُرِيبًا مِنَ الْأَعْيَانِ إِلَى الْمَعْنَى، وَمِنَ اللَّازِمِ مَنْقُولٌ مِنْ صَاحِبِ الشَّكِّ إِلَى الشَّكِّ، كَمَا تَقُولُ: شِعْرُ شَاعِرٍ. انْتَهَى، وَفِيهِ بَعْضُ تَبْيِينٍ. قِيلَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَرْدَفَهُ عَلَى الشَّكِّ، وَهُمَا بِمَعْنًى لِتَنَاسُقِ آخِرِ الْآيَةِ بِالَّتِي قَبْلَهَا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ، كَمَا تَقُولُ: عَجَبٌ عجيب، وشتاشات، وَلَيْلَةٌ لَيْلَاءُ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الشَّكُّ الْمُرِيبُ أَقْوَى مَا يَكُونُ مِنَ الشَّكِّ وأشده إظلاما.
سورة سبأ
سورةُ (سَبَأٍ) من السُّوَر المكِّية، وقد نزَلتْ بعد سورة (لُقْمانَ)، وافتُتِحت بحمدِ الله وإثباتِ العلم له، وجاءت على ذِكْرِ إثباتِ البعث والجزاء، وأنَّه سبحانه يُعطِي مَن أطاع وآمَن، ويَمنَع من كفَر وجحَد، وقومُ (سَبَأٍ) هم مثالٌ واقعي لكفرِ النعمة وجحودها، ومثالٌ لقدرةِ الله عزَّ وجلَّ في الإيجاد والإعدام والتصرُّف في الكون، و(سَبَأٌ): اسمٌ لرجُلٍ.
ترتيبها المصحفي
34نوعها
مكيةألفاظها
884ترتيب نزولها
58العد المدني الأول
56العد المدني الأخير
56العد البصري
56العد الكوفي
56العد الشامي
55* سورةُ (سَبَأٍ):
سُمِّيت سورةُ (سَبَأٍ) بهذا الاسم؛ لورودِ قصة أهل (سَبَأٍ) فيها، و(سَبَأٌ): اسمٌ لرجُلٍ؛ صح عن عبدِ اللهِ بن عباسٍ رضي الله عنهما أنه قال: «إنَّ رجُلًا سألَ رسولَ اللهِ ﷺ عن سَبَأٍ؛ ما هو؟ أرجُلٌ أم امرأةٌ أم أرضٌ؟ فقال: «بل هو رجُلٌ، ولَدَ عشَرةً، فسكَنَ اليمَنَ منهم ستَّةٌ، وبالشَّامِ منهم أربعةٌ؛ فأمَّا اليمانيُّون: فمَذْحِجٌ، وكِنْدةُ، والأَزْدُ، والأشعَريُّون، وأنمارٌ، وحِمْيَرُ، عرَبًا كلُّها، وأمَّا الشَّاميَّةُ: فلَخْمٌ، وجُذَامُ، وعاملةُ، وغسَّانُ»». أخرجه أحمد (٢٨٩٨).
1. الاستفتاح بالحمد (١-٢).
2. قضية البعث والجزاء (٣-٩).
3. أمثلة عن شكرِ النعمة وكفرها (١٠-٢١).
4. داودُ وسليمان عليهما السلام مثالٌ عملي للأوَّابين الشاكرين (١٠-١٤).
5. قومُ (سَبَأٍ) مثالٌ واقعي لعاقبة كفرِ النِّعمة (١٥-٢١).
6. حوار مع المشركين (٢٢-٢٨).
7. مِن مَشاهدِ يوم القيامة (٢٩-٣٣).
8. التَّرَف والمُترَفون (٣٤-٣٩).
9. عَوْدٌ إلى مَشاهدِ يوم القيامة (٤٠-٤٢).
10. عود إلى حال المشركين في الدنيا (٤٣-٤٥).
11. دعوة للتفكُّر والنظر (٤٦-٥٤).
ينظر: "التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم " لمجموعة من العلماء (6 /172).
مقصدُها هو إثباتُ قدرةِ الله عزَّ وجلَّ على الإيجادِ والإعدامِ والتَّصرُّفِ في الكونِ، يُعطِي مَن شكَر، ويَمنَع مَن جحَد وكفَر، وذلك حقيقٌ منه إثباتُ يوم البعث والجزاء، ووقوعُه لا محالة، وقصَّةُ (سَبَأٍ) أكبَرُ دليل على ذلك المقصد.
ينظر: "مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور" للبقاعي (2 /377).