تفسير سورة الزمر

حومد

تفسير سورة سورة الزمر من كتاب أيسر التفاسير المعروف بـحومد.
لمؤلفه أسعد محمود حومد .

﴿الكتاب﴾
(١) - هَذَا الكِتَابُ العَظِيمُ (أَيْ القُرْآنُ) مَنَزَّلٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ، المَنِيعِ الجَانِبِ (العَزِيزِ)، الحَكِيمِ فِي شَرْعِهِ وَقَدَرِهِ وَأَفْعَالِهِ، فَهُوَ الحَقُّ الذِي لاَ شَكَّ فِيهِ وَلاَ مِرْيَةَ.
﴿الكتاب﴾
(٢) - إِنَّ اللهَ تَعَالَى هُوَ الذِي أَنْزَلَ إِلَيْكَ القُرْآنَ (الكِتَابَ) آمِراً بِالحَقِّ وَالعَدْلِ الوَاجِبِ اتِّبَاعُهُمَا، والعَمَلُ بِهِمَا، فَاعْبُدْهُ يَا مُحَمَّدُ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ والعِبَادَةَ، وَادْعُ الخَلْقَ إِلَى ذَلِكَ.
مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ - مُمَحِّضاً لَهُ الطَّاعَةَ والعِبَادَةَ.
﴿كَاذِبٌ﴾
(٣) - أَلاَ للهِ وَحْدَهُ العِبَادَةُ والطَّاعَةُ، وَلاَ شَرِكَةَ لأَحَدٍ مَعَهُ فِيهِمَا، لأَنَّ كُلَّ مَا دُونَهُ هُوَ مُلْكٌ لَهُ، وَعَلَى المَمْلُوكِ طَاعَةُ مَالِكِهِ، وَعَلَى العَبْدِ أَنْ يُخْلِصَ العِبَادَةَ للهِ، والذِينَ يَعْبُدُونَ الأَصْنَامَ مِنَ المُشرِكِينَ يَقُولُونَ إِنَّ الذِي يَحْمِلُهُمْ عَلَى عِبَادَتِهَا هُوَ أَنَّهُمْ مَثَّلُوا بِهَذِهِ الأَصْنَامِ المَلاَئِكَةَ، فَعَبَدُوا تِلْكَ الصُّورَ تُنْزِيلاً لَهَا مَنْزِلَةَ المَلاَئِكَةِ، لِيَشْفُعُوا لَهُمْ عِنْدَ اللهِ فِي حَاجَاتِهِمْ.
وَكَانَ المُشْرِكُونَ يُبَرِّرُونَ عِبَادَتَهُمْ لِمَنْ هُمْ دُونَ اللهِ بِأَنَّ الإِلَهَ الأَعْظَمَ أَجَلُّ مِنْ أَنْ يَعْبُدَهُ البَشَرُ مُبَاشَرَةً، فَهُمْ يَعْبُدُونَ هَذِهِ الآلِهَةَ، وَهِيَ تَعْبُدُ الإِلَهَ الأَعْظَمَ. واللهُ تَعَالَى يَحْكُمُ يَوْمَ القِيَامَةِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ خُصُومِهِمْ، مُتَّبِعِي الحَقِّ وَسُبُلِ الهُدَى، فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ التَّوْحِيدِ وَالشِّرْكِ، وَيُجَازِي كُلَّ وَاحِدٍ بِعَمَلِهِ.
وَاللهُ تَعَالَى لاَ يُرْشِدُ إِلَى الحَقِّ مَنْ هُوَ كَاذِبٌ مُفْتَرٍ عَلَيْهِ، فَيْزْعُمُ أَنَّ لَهُ وَلَداً أَوْ صَاحِبَةً. تَعَالَى اللهُ عَنْ ذَلِكَ عُلُوّاً كَبِيراً.
زُلْفَى - تَقَرُّباً.
﴿سُبْحَانَهُ﴾ ﴿الواحد﴾
(٤) - لَوْ أَرَادَ اللهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لَكَانَ الأَمْرُ عَلَى خِلاَفِ مَا يَزْعُمُونَ، وَلَمَا رَضِيَ إِلاَ بِأَكْمَلِ الأَبْنَاءِ، فَكَيْفَ نَسَبَ هَؤُلاَءِ الجَهَلَةُ المُشْرِكُونَ إِلَيْهِ البَنَاتِ؟ وَلَكِنَّهُ تَعَالَى لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً، وَلاَ يَنْبَغِي لَهُ ذَلِكَ، سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عُلُوّاً كَبِيراً عَمَّا يَقُولُونَ وَيَأْفِكُونَ، وَعَمَّا يَنْسُبُونَ إِلَيهِ فَهُوَ الوَاحِدُ الأَحَدُ، الذِي قَهَرَ كُلَّ شَيءٍ، فَدَانَتْ لَهُ الخَلاَئِقُ وَذَلَّتْ.
سُبْحَانَهُ - تَنْزِيهاً لَهُ عَنِ اتِّخَاذِ وَلَدٍ.
﴿السماوات﴾ ﴿الليل﴾ ﴿الغفار﴾ (٥) - خَلَقَ اللهُ السَّمَاوَاتِ والأَرْضَ وَمَا فِيهِما عَلَى أَكْمَلِ وَجْهٍ، وَأَبْدَعِ نِظَامٍ، وَجَعَلَهَا قَائِمَةً عَلَى الحَقِّ والصَّوَابِ، وَالحِكَمِ وَالمَصَالِحِ، يُتْبِعُ اللَّيْلَ النَّهَارَ، وَيُتْبعُ النَّهَارَ اللَّيْلَ، فَهُمَا مُتَعَاقِبَانِ مُتَلاَزِمَانِ لاَ يَفْتَرِقَانِ، وَجَعَل الشَّمْسَ والقَمَرَ يَجْرِيَانِ فِي مَدَارَيِهِمَا بِنِظَامٍ لاَ يَخْرُجَانِ عَنْهُ، وَجَعَلَهُمَا مُسَخَّرَين مُذَلَّلَيْنِ لإِرَادَةِ اللهَ تَعَالَى، وَيَسْتَمِرَّانِ فِي دَوَرَانِهِمَا إِلَى أَجَلٍ عَيَّنَهُ اللهُ لَهُمَا، هُوَ يَوْمُ القِيَامَةِ، ثُمَّ يَنْتَهِي أَمْرُهُمَا. وَاللهُ هُوَ العَزِيزُ القَادِرُ عَلَى الانْتِقَامِ مِمَّنَ عَادَاهُ، وَهُوَ الغَفَّارُ الكَثِيرُ الغُفْرَانِ الذِي يَصْفَحُ عَنْ ذُنُوبِ مَنْ تَابَ إِلَيهِ، وَرَجَعَ إِلَيهِ مُنيباً مُسْتَغْفِراً.
يُكَوِّرُ اللَّيَْلَ عَلَى النَّهَارِ - يَلفُّهُ عَلَى النَّهَارِ لَفَّ اللبَاسِ عَلَى اللابِسِ فَيَسْتُرُهُ فَتَظْهَرُ الظُّلْمَةُ.
﴿وَاحِدَةٍ﴾ ﴿الأنعام﴾ ﴿ثَمَانِيَةَ﴾ ﴿أَزْوَاجٍ﴾ ﴿أُمَّهَاتِكُمْ﴾ ﴿ظُلُمَاتٍ﴾
(٦) - وَقَدْ خَلَقَكُمْ اللهُ تَعَالَى يَا أَيُّهَا النَّاسُ، عَلَى اخِتْلاَفِ أَلْوَانِكُمْ وَأَلْسِنَتِكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ هِيَ آدَمُ، ثُمَّ خَلَقَ مِنْ آدَمَ حَوّاءَ، ثُمَّ بَثَّ مِنْهُمَا فِي الأَرْضِ رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً، وَخَلَقَ لَكُمْ مِنَ الأَنْعَامِ ثَمَانِيَةِ أَزْوَاجٍ هِيَ التِي ذَكَرَهَا فِي سَورَةِ الأَنْعَامِ ﴿مَّنَ الضأن اثنين وَمِنَ المعز اثنين﴾ أَيْ أَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَ مِنْ كُلِّ صُنْفٍ ذَكَراً وَأُنْثَى، وَقَدَّرَكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ، فَيَكُونُ المَخْلُوقُ أَوَّلاً نُطْفَةً ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً، ثُمَّ يَخْلُقُ لَهُ لَحْماً وِعظَاماً وَأَوْعِيَةً، وَيَنْفَخُ فِيهِ الرُّوحَ، فَيَصِيرُ خَلْقاً آخَرَ، فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الخَالِقِينَ.
وَتَكُونُ الأَجِنَّةُ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِهَا مُحَاطًةً بِأَغْشِيَةٍ ثَلاثَةٍ سَمَّاهَا اللهُ تَعَالَى، ظُلَمَاتٍ، وَهِذَهِ الأَغْشِيَةُ يَعْرِفُهَا الطِّبُّ، وَلاَ تَظْهَرُ إِلاَّ بِالتَّشْرِيحِ الدَّقِيقِ، وَإِنْ بَدَتْ لِلْعَينِ وَكَأَنَّهَا غِشَاءٌ وَاحِدٌ (كَمَا يَقُولُ الدُّكْتُورُ عَبْدُ العَزِيزِ إِسْمَاعِيلُ)، (وَقِيلَ أَيْضاً إِنَّ هَذِهِ الظُّلُمَاتِ الثَّلاَثَ هِي ظُلْمَةُ الرَّحِمِ، وَظُلْمَةُ المُشَيْمَةِ، وَظُلْمَةُ البَطْنِ)، وَذَلِكَ الخَالِقُ القَادِرُ عَلَى خَلْقِ الكَوْنِ وَتَدْبِيرِهِ، كَمَا بَيَّنَهُ لَكُمْ هُوَ اللهُ رَبُّكُمْ، لَهُ المُلْكُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ، وَلاَ تَنْبَغِي العِبَادَةُ إِلاَّ لَهُ، وَكَيْفَ تُصْرِفُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ تَعَالَى، مَعَ تَوَفِّرِ مُوجِبَاتِهَا وَدَوَاعِيهَا، إِلَى عِبَادَةِ غَيْرِهِ مِمَّا لاَ يَقْدِرُ عَلَى شَيءٍ؟
أَنْزَلَ لَكُمْ - أَنْشَأَ وَأَحْدَثَ لأَجْلِكُمْ.
ظُلَمَاتٍ ثَلاَثٍ - ظُلُمَاتِ المُشَيْمَةِ ذَاتِ الأَغْلِفَةِ الثَّلاَثَةِ، أَوْ هِيَ ظُلَمَاتُ الرَّحِمِ، والبَطْنِ، وَالمُشَيْمَةِ.
فَأَنَّى تُصْرَفُونَ - فَكَيْفَ تُصْرَفُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ إِلَى مَا سِوَاهُ.
(٧) - وَإِنْ تَكْفُرُوا يَا أَيُّهَا النَّاسُ بِاللهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، مَعَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ بَيَانٍ يُوجِبُ عَلَيْكُمُ الإِيْمَانَ والشُّكْرِ فَإِنَّ كُفْرَكُمْ لَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً، فَهُوَ الغَنِيَّ عَنْ سَائِر خَلْقِهِ، وَلَكِنَّهُ تَعَالَى لاَ يُحِبُّ الكُفْرَ لِعِبَادِهِ، وَلاَ يَأْمُرُهُمْ بِهِ، وَإِنَّمَا يُحِبُّ لِعِبَادِهِ أَنْ يُؤْمِنُوا بِهِ، وَيَشْكُرُوهُ عَلَى نَعَمِهِ وَأَفْضَالِهِ عَلَيْهِمْ. وَكُلَّ نَفْسٍ تُحَاسَبُ عَمَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ، وَلاَ تُسْأَلُ نَفْسٌ عَمَّا فَعَلْتَهُ نَفْسٌ أُخْرَى؛ وَيَوْمَ القِيَامَةِ يَرْجِعُ الخَلْقُ إِلَى اللهِ فَيُخْبِرُهُمْ بِمَا عَمِلُوا، وَبِمَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ، وَمَا أَعْلَنُوهُ، وَيُحَاسِبُهُمْ عَلَيْهِ لأَنَّهُ لاَ تَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ.
لاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ - لاَ تَحْمِلُ نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً أَوْ إِثْماً.
﴿الإنسان﴾ ﴿يدعوا﴾ ﴿أَصْحَابِ﴾
(٨) - وَالإِنْسَانُ الكَافِرُ لاَ يَتَذَكَّرُ رَبَّهُ إِلاَّ عِنْدَ الحَاجَةِ، فَإِذَا أَصَابِهُ البَلاَءُ فِي جَسَدِهِ، أَوْ أَصَابَتْهُ شِدَّةٌ فِي مَعِيشَتِهِ، أَوْ نَزَلَ بِهِ خَوْفٌ عَلَى حَيَاتِهِ اسْتَغَاثَ بِرَبِّهِ، وَلَجَأَ إِلَيْهِ، وَدَعَاهُ مُخْلِصاً مُنِيباً لِيَكْشِفَ عَنْهُ مَا نَزَلَ بِهِ مِنْ بَلاَءٍ وَشِدَّةٍ، فَإِذَا صَرَفَ اللهُ عَنْهُ مَا نَزَلَ بِهِ، وَأَغْدَقَ عَلَيْهِ نِعَمَهُ، نَسِيَ اللهَ، وَتَرَكَ التَّضَرُّعَ إِلَيهِ، وَجَعَلَ للهِ شُرَكَاءَ، وَأَضَلَّ النَّاسَ، وَمَنَعَهُمْ مِنَ الإِيْمَانِ بِاللهِ.
وَيَتَوَعَّدُ اللهُ هَذَا الكَافِرَ وَأَمْثَالَهُ، فَيَقُولُ لِرَسُولِهِ الكَرِيمِ قُلْ لَهُ: تَمَتَّعْ بِمِا أَنْتَ فِيهِ مِنْ زُخْرُفٍ وَنَعِيمٍ زَائِلٍ، وَلَذَّةٍ عَابِرَةٍ، فَمَا هِيَ إِلاَّ مُدَّةٌ يَسِيرَةٌ فَيَنْتَهِي أَجَلُكَ، ثُمَّ تَصِيرُ إِلَى النَّارِ، فَتَكُونُ مِنْ أَصْحَابِهَا، وَتَخْلُدُ فِيهَا أَبداً.
مُنِيباً إِلَيهِ - رَاجِعاً إِلَيهِ وَمُسْتَغِيثاً بِهِ.
خَوَّلَهُ نِعْمَةً - أَعْطَاهُ نِعْمَةً عَظِيمَةً تَفَضُّلاً وَإِحْسَاناً.
أَنْدَاداً - أَمْثَالاً يَعْبُدُونَهَا مِنْ دُونِ اللهِ.
﴿أَمَّنْ﴾ ﴿قَانِتٌ﴾ ﴿آنَآءَ﴾ ﴿الليل﴾ ﴿قَآئِماً﴾ ﴿يَرْجُواْ﴾ ﴿أُوْلُواْ﴾ ﴿الألباب﴾
(٩) - وَهَلْ يَسْتَوِي حَالُ هَذَا المُشْرِكِ الذِي يَكْفُرُ بِنعَمِ اللهِ، وَيُشْرِكُ بِهِ الأَصْنَامَ وَالأَنْدَادَ، وَلاَ يَذْكُرُ الله إِلاَّ عِنْدَ الشَّدَّةِ والبَلاَءِ، مَعَ حَالِ مَنْ هُوَ مُؤْمِنٌ قَائِمٌ بِأَدَاءِ الطَّاعَاتِ، وَدَائِبٌ عَلَى العِبَادَاتِ آنَاءَ اللَّيْلِ حِينَمَا يَكُونُ النَّاسُ نِياماً، لاَ يَرْجُو مِنْ أَدَائِهَا غَيْرَ رِضْوَانِ اللهِ وَثَوَابِهِ وَرَحْمَتِهِ، إِنَّهُمَا بِلاَ شَكٍّ لاَ يَسْتَوِيَانِ.
ثُمَّ أَكَّدَ اللهُ تَعَالَى عَدَمَ التَّسَاوِي بَيْنَ المُؤْمِنِ المُطِيعِ والكَافِرِ الجَاحِدِ، فَقَالَ لرَسُولِهِ الكَرِيمِ قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِهَؤَلاَءِ: هَلْ يَسْتَوِي الذِينَ يَعْلَمُونَ مَا لَهُمْ فِي طَاعَةِ رَبِّهِمْ مِنْ ثَوَابٍ، وَمَا لَهُمْ فِي مَعْصِيَتِهِ مِنْ عِقَابٍ، وَالذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ ذَلِكَ؟ وَإِنَّمَا يَعْتَبِرُ بِحُجَجِ اللهِ، وَيَتَّعِظُ بِهَا، وَيَتَدَبَّرُهَا أَهَلُ العُقُولِ والأَفْهَامِ، لاَ أَهْلَ الجَهْلِ والغَفْلَةِ.
هُوَ قَانِتٌ - مُطِيعٌ خَاضِعٌ لِلرَّب.
آناءَ اللَّيْلِ - سَاعَاتِهِ.
﴿ياعباد﴾ ﴿آمَنُواْ﴾ ﴿وَاسِعَةٌ﴾ ﴿الصابرون﴾
(١٠) - يَأَمُرُ اللهُ تَعَالَى رَسُولَهُ الكَرِيمَ بِأَنْ يَعِظَ المُؤْمِنينَ، وَبِأَنْ يَأْمُرَهُمْ بِتَقْوَى اللهِ تَعَالَى، وَالثَبَاتِ عَلَى طَاعَتِهِ، وَبِأَنْ يَذْكُرَ لَهُمْ أَنَّهُ مَنْ أَحْسَنَ مِنْهُمُ العَمَلَ فَلَهُ الجَزَاءُ الحَسَنُ فِي الدُّنْيَا والآخِرَةِ، وَأَنْ يَقُولَ لِلْمُؤْمِنِينَ مُرَغِّباً إِيَّاهُمْ فِي الهِجْرَةِ مِنْ مَكَّةَ إِلَى المَدِينَةِ: إِنَّ أَرْضَ اللهِ وَاسِعَةٌ فَإِذَا لَمْ يَسْتَطِيعُوا القِيَامَ بِعِبَادَةِ رَبِّهِمْ فِي البَلَدِ الذِي هُمْ فِيهِ، فَعَلَيهِم الهِجْرَةُ إِلَى مَكَانٍ آخَرَ تَتَوَفَّرُ فِيهِ حُرِّيَةُ العِبَادَةِ، وَإِن الله يُوفِّي الصَّابِرِينَ عَلَى الابْتِلاَءِ، ثَوَابَ أَعْمَالِهِمْ، وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ مَا شَاءَ بِغَيِرِ حِسَابٍ.
التَّقْوَى - اتِّخَاذُ شَيءٍ يُتَّقَى بِهِ المَكْرُوهُ.
بِغَيْرِ حِسَابٍ - بِلاَ نِهَايَةٍ لِمَا يُعْطِي أَوْ بِتَوْسِعَةٍ.
(١١) - وَقُلْ يَا مُحَمَّدُ لِمُشْرِكِي قَوْمِكَ: إِنَّ اللهَ أَمَرَنِي بِأَنْ أَعْبُدَهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَنْ أُخْلِصَ لَهُ العِبَادَةَ.
(١٢) - وَأَمَرَنِي رَبِي بِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَانْقَادَ، وَأَخْلَصَ العِبَادَةَ وَالتَّوحِيدَ للهِ.
(١٣) - وَقُلْ لَهُمْ: إِنِّي أَخَافُ - وَأَنَا رَسُولُ اللهِ - عَذَابَ يَوْمِ القِيَامَةِ الكَثِيرِ الأَهْوَالِ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي، وَتَرَكْتُ الإِخْلاَصَ لَهُ وَإِفْرَادَهُ بِالرّبُوِبيَّةِ.
(١٤) - وَقُلْ لَهُمْ: إِنَّنِي أَعْبُدُ اللهَ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وأُخْلِصُ لَهُ عِبَادَتِي.
﴿الخاسرين﴾ ﴿القيامة﴾
(١٥) - فَاعْبُدُوا أَنْتُمْ أَيُّهَا المُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ مَا شِئْتُمْ مِنْ أَصْنَامٍ وَأَوْثَانٍ، وَسَتَعْلَمُونَ سُوءَ مَنْقَلَبِكُمْ حِينَمَا تَلْقَوْنَ رَبَّكُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ. وَقُلْ لَهُمْ يَا مُحَمَّدُ: إِنَّ الخُسْرَانَ الذِي لاَ خُسْرَانَ بَعْدَهُ، هُوَ خُسْرَانُ النَّفْسِ وَإِضَاعَتُهَا بِالضَّلاَلِ، وَخُسَرَانُ الأَهْلِ، وَعَدَمُ الالْتِقَاءِ بِهِمْ يَوْمَ القِيَامَةِ، سَوَاءٌ ذَهَبَ الخَاسِرُ إِلَى النَّارِ وَأَهْلَهُ إِلَى الجَنَّةِ، أَوْ ذَهَبُوا جَمِيعاً إِلَى النَّارِ، وَذَلِكَ الخُسْرَانُ هُوَ الخُسْرَانُ المُبِينُ الظَّاهِرُ لِفَظًاعَتِهِ وَهَوْلِهِ.
﴿ياعباد﴾
يَصِفُ اللهُ تَعَالَى حَالَ هَؤُلاَءِ الخَاسِرِينَ وَهُمْ فِي نَارِ جَهَنَّمَ، فَيَقُولُ: إِنَّهُمْ يَكُونُونَ فِيهَا، وَمِنْ فَوْقِهِمْ طَبَقَاتٌ مُتَرَاكِمَةٌ مِنَ النَّارِ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ، وَكَأَنَّهَا الظُّلَلُ، وَمِنْ تَحْتِهِمْ طَبَقَاتٌ مِثْلُهَا، فَتَغْمُرُهُمْ النَّارُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، وَاللهُ تَعَالَى يَقُصُّ عَلَى النَّاسِ مَا سَيَكُونُ عَلَيْهِ حَالُ الكُفَّارِ يَوْمَ القِيَامَةِ لِيُخَوِّفَهُمْ مِنْ أَهْوَالِ ذَلِكَ اليومِ، فَيَزْدَجِرَ العُقَلاَءُ عَنِ الكُفْرِ وَالمَعَاصِي، وَيَعْمَلُوا بِطَاعَةِ اللهِ، فَيَا عِبَادَ الله اتَّقُوا رَبَّكُمْ تَعَالَى، وَبَالِغُوا فِي الخَوْفِ والحَذَرِ، وَلاَ تَرْتَكِبُوا مَا يُسْخِطُ رَبَّكُمْ عَلَيْكُمْ.
ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ - أَطْبَاقٌ مِنْهَا مُتَرَاكِمَةٌ.
﴿الطاغوت﴾
(١٧) - والذينَ اجْتَنَبُوا عِبَادَةَ الأَصْنَامِ، واتِّبَاعَ الشَّيَاطِينِ، وَأَقْبَلُوا عَلَى عِبَادَةِ رَبِّهِمْ مُعْرِضِينَ عَمّا سِوَاهُ، يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ بالثَّوَابِ العَظِيمِ حِينَ المَوْتِ، وَحِينَ يَلْقَونَ رَبَّهُمْ يَوْمَ الحِسَابِ.
الطَّاغُوتَ - الشَّيْطَانَ وَيُطْلَقُ عَلَى الوَاحِدِ والجَمْعِ وَسُمِّيَتْ عِبَادَةُ الأَوْثَانِ عِبَادَةً لِلشَّيْطَانِ. أَوْ هُوَ الأَوْثَانُ وَالمَعْبُودَاتُ البَاطِلَةُ.
أَنَابُوا إِلَى اللهِ - رَجَعُوا إِلى عِبَادَتِهِ وَحْدَهُ.
﴿أولئك﴾ ﴿هَدَاهُمُ﴾ ﴿أُوْلُواْ﴾ ﴿الألباب﴾
(١٨) - وَهَؤُلاَءِ الذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ، وَأَنَابُوا إِلَى رَبِّهِمْ، وَسَمِعُوا القَوْلَ فَاتَّبَعُوا أَحْسَنَهُ وَأَوْلاَهُ بالقَبُولِ.. هَؤُلاَءِ يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بالنَّعِيمِ المُقِيمِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ، وَأولَئِكَ هُمُ الذِينَ وَفَّقَهُمُ اللهَ تَعَالَى لِلرَّشَادِ وَالصَّوَابِ، وَأولَئِكَ هُمْ أَصْحَابُ العُقُولِ والأَفْهَامِ السَّلِيمَةِ.
(١٩) - أَفَمَنْ كَتَبَ اللهُ عَلَيْهِ الشَّقَاوَةَ، هَلْ تَقْدِرُ أَنْتَ أَنْ تُنْقِذَهُ مِمَّا هُوَ فِيهِ مِنَ الضّّّلاَلَةِ والهَلَكَةِ؟ إِنَّهُ لاَ يَمْلِكُ أَحَدٌ هِدَايَةَ الخَلْقِ إِلاَّ اللهُ تَعَالَى، وَأَنْتَ يَا مُحَمَّدُ لاَ تَمْلِكُ القُدْرَةَ عَلَى إِنْقَاذِ أحدٍ مِنَ النَّارِ، بَعْدَ أَنْ وَجَبَتْ لَهُ العُقُوبَةُ.
حَقَّ عَلَيْهِ - وَجَبَ وَثَبَتَ عَلَيهِ.
﴿الأنهار﴾
(٢٠) - أَمَّا المُتَّقُونَ مِنْ عِبَادِ اللهِ، فَإِنَّ اللهَ يَجْزِيهِمْ عَلَى إِيْمَانِهِمْ وَعَمَلِهِم الصَّالِحِ بِإِدْخَالِهِم الجَنَّةَ، وَبِأَنْ يَجْعَلَ لَهُمْ فِيهَا دُوْراً شَاهِقَةً (غُرَفٌ) مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ مُحْكَمةُ البُنْيَانِ، وَتَجْرِي الأَنْهَارُ خِلاَلَ أَشْجَارِهَا، وَهَذَا وَعْدٌ مِنَ اللهِ حَقٌّ لِلمُتَّقِينَ، وَاللهُ لاَ يُخْلِفُ وَعْدَهُ أبداً.
لَهُمْ غُرَفٌ - مَنَازِلُ رَفِيعَةٌ عَالِيةٌ فِي الجَنَّةِ.
﴿يَنَابِيعَ﴾ ﴿أَلْوَانُهُ﴾ ﴿فَتَرَاهُ﴾ ﴿حُطَاماً﴾ ﴿الألباب﴾
(٢١) - يُشَبَّهُ اللهُ تَعَالَى حَالَ الدُّنْيَا فِي نَضْرَتِهَا وَسُرْعَةِ انْقِضَائِها بِحَالِ المَاءِ الذِي يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ فَيَجْرِي عُيوناً فِي الأَرْضِ فَتُسْقَى بِهَذَا الماءِ الأَرضُ فَتنبِتُ الزَّرعَ والنَّبَاتَ والخُضْرَةَ من كُلِّ لونٍ، وَتُصْبِحُ الأََرضُ خِضَرَةً نَضِرَةً، ثُمَّ لا يَلْبَثُ هذا النَّبَاتُ أَنْ يَنْضجَ وَيَجِفَّ وَيَصْفَرَّ، ثُمَّ يُصْبحَ يَابساً يَتَكسَّرُ. وفي كُلِّ ذَلِكَ عِظَةٌ وعِبْرَةٌ لِذَوي العُقُولِ السَّلِيمَةِ تَنَبِّهُهُمْ إِلى عَدَمِ الاغترارِ بالدُّنيا وزُخْرُفِهَا وَنَعِيمِهَا الزَّائِلِ.
سَلَكَهُ يَنَابِيعَ - أَدْخَلَهُ فِي عُيونٍ وَمَجَارٍ.
يَهِيجُ - يَنْضُجُ وَيَجِفُّ.
يَجْعَلُهُ حَطَاماً - يُصَيِّرُهُ هَشِيماً مُحَطَّماً مُفَتَّتاً.
﴿لِلإِسْلاَمِ﴾ ﴿لِّلْقَاسِيَةِ﴾ ﴿أولئك﴾ ﴿ضَلاَلٍ﴾
(٢٢) - هَلْ يَسْتَوِي مَنْ دَخْلَ نُورُ الإِيْمَانِ إِلى قَلْبِهِ، وَانْشَرَحَ صَدْرُهُ لَهُ، لِمَا رَأَى فِيهِ مِنَ الخَيرِ والصَّوَابِ والهِدَايَةِ، مَعَ مَنْ أًَعْرَضَ عَنِ النَّظَرَ فِي آيَاتِ اللهِ، وَهُوَ قَاسِي القَلْبِ بَعِيدٌ عَنِ الهُدَى والحَقِّ؟ إِنَّهُمَا لاَ يَسْتَوِيَانِ أَبَداً. فَالوَيلُ وَالهَلاَكُ لِمَنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ، فَأَصْبَحَتْ لاَ تَلينُ لِذِكْرِ اللهِ، فَهَؤُلاَءِ القُسَاةُ القُلُوبِ هُمْ فِي غَوَايَةٍ ظَاهِرَةٍ (فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ).
(" وَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: إِذَا دَخَلَ النُّورُ القَلْبَ انْشَرَحَ وَانْفَسَحَ، وَعَلاَمَةُ ذَلِكَ: الإِنَابَةُ إِلَى دَارِ الخُلُودِ، والتَّجَافِي عَنْ دَارِ الغُرُورِ، والتَّاَهُّبُ لِلْمَوْتِ قَبْلَ نُزُولِ المَوْتِ ").
فَوَيلٌ - فَهَلاَكٌ أَوْ حَسْرَةٌ أَوْ شِدَّةُ عَذَابٍ.
﴿كِتَاباً﴾ ﴿مُّتَشَابِهاً﴾
(٢٣) - اللهُ تَعَالَى أَنْزَلَ أَحْسَنَ الحَدِيثِ قُرْآناً يُشْبِهُ بَعْضُهُ بَعْضاً (مَثَانِيَ)، وَيَتَرَدَّدُ فِيهِ القَوْلُ، مَعَ المَوَاعِظِ والأَحْكَامِ لِيَفْهَمَ النَّاسُ مَا أَرَادَ رَبُّهُمْ تَعَالَى، وَإِذَا تُلِيَتْ مَعَهُ آيَاتُ العَذَابِ والعِقَابِ اقْشَعَرَّتْ لَهَا جُلُودُ الذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ، وَوَجِلَتْ لَهَا قُلُوبُهُمْ، وَإِذَا تُلِيَتْ آيَاتُ الرَّحْمَةِ وَالمَغْفِرَةِ والثَّوَابِ تَلِينُ قُلُوبُهُمْ، وَتَطَمئِنُّ نُفُوسُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ. وَمَنْ كَانَتْ هَذَهِ صِفَتُهُ فَقَدْ هَدَاهُ اللهُ، وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ، وَمَنْ أَضَلَّهُ اللهُ لِعِلْمِهِ أَنَّهُ سَيُعْرِضُ عَنِ الحَقِّ فَلَيْسَ لَهُ مَنْ يَهْدِيهِ مِنْ دُونِ اللهِ.
أَحْسَنَ الحَدِيثِ - أَبْلَغَهُ وَأَصْدَقَهُ وَأَوْفَاهُ وَهُوَ القُرْآنُ.
كِتَاباً مُتَشَابِهاً - يُشْبِهُ بَعْضُهُ بَعْضاً فِي إِعْجَازِهِ وَهِدَايَتِهِ.
مَثَانِي - مُكَرِّراً فِيهِ الأَحْكَامَ والمَوَاعِظَ.
تَقْشَعِرُّ مِنْهُ - تَرْتَعِدُ وَتَنْقَبِضُ مِنْ قَوَارِعِهِ.
تَلِينُ جُلُودُهُمْ - تَسْكُنُ وَتَطْمِئنُّ، وَتُصْبحُ لَيِّنَةً غَيْرَ مُنْقَبِضَةٍ.
﴿القيامة﴾ ﴿لِلظَّالِمِينَ﴾
(٢٤) - لاَ يَسْتَوِي المُجْرِمُونَ وَالمُتَّقُونَ يَوْمَ القِيَامَةِ، فَالمُجْرِمُونَ الكَافِرُونَ يَأْتُونَ يَوْمَ القِيَامَةِ وأَيْدِيهِمْ مَغْلُولَةٌ إِلَى أَعْنَاقِهِمْ، فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَدْفَعُوا بِهَا سُوءَ العَذَابِ عَنْ وُجُوهِهِمْ، وَيُضْطَرُّونَ إِلَى تَلَقِّي العَذَابِ بِوُجُوهِهِمْ، وَيُقَالُ لَهُمْ تَبكيتاً وَتَقْرِيعاً: ذُوقُوا العَذَابَ الأَلِيمَ جَزَاءً لَكُمْ عَلَى كُفْرِكُمْ وَإِجْرَامِكُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا.
أَمَّا المُؤْمِنُونَ المُتَّقُونَ فَيَأْتُونَ يَومَ القِيَامَةِ آمِنِينَ مُطْمَئِنِّينَ، لاَ يَحْتَاجُونَ إِلَى اتِّقَاءِ مَحْظُورٍ مَخُوفٍ.
﴿فَأَتَاهُمُ﴾
(٢٥) - كَذَّبَتِ الأُمَمُ السَّابِقَةُ رُسَلَهَا فَصَبَّ اللهُ العَذَابَ عَلَى الذِينَ كَذَّبُوا رُسُلَهُ، وَأَخَذَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ.
﴿الحياة﴾
(٢٦) - فَأَخْزَاهُمُ اللهُ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا بِمَا أَنْزَلَهُ بِهِمْ مِنَ العَذَابِ وَالنَّكَالِ، وَإنَّ عَذَابَ الآخِرَةِ أَكْبَرُ وأَشَدُّ نَكَالاً مِنَ عَذَابِ الدُّنْيَا، لَوْ كَانُوا مِنْ أَهْلِ العِلْمِ والنَّظَر والتَّقْدِيرِ.
الخِزْيُ - الذُّلُّ والهَوَانُ.
﴿القرآن﴾
(٢٧) - وَلَقَدْ أَرَادَ اللهُ تَعَالَى أَنْ يُقَرِّبَ المَعَانِي مِنْ أَفْهَامِ النَّاسِ فَضَرَبَ لَهُمُ الأَمْثَالَ فِي القُرْآنِ، وَنَوَّعَ الأَمْثَالَ فِيهِ زِيَادَةً فِي تَقْرِيبِ المَعَانِي وَإِِيضَاحِهَا، لَعَلَّ النَّاسَ يَفْهَمُونَ وَيُدِرْكُونَ مَا أَرَادَهُ الله تَعَالَى، وَلَعَلَّهُمْ يَعْتَبِرُونَ بِمَا قَصَّهُ عَلَيْهِمْ.
﴿قُرْآناً﴾
(٢٨) - وَقَدْ جَعَلَ اللهُ تَعَالَى القُرْآنَ عَرَبياً وَاضَحاً لاَ لَبْسَ فِيهِ وَلاَ غُمُوضَ، وَلاَ عِوَجَ وَلاَ انْحِرَافَ لِيَفْهَمَ العَرَبُ مَعَانِيَهُ. وَيَعُوا مَرَامِيَهُ، لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ اللهَ، وَيَحْذَرُونَ نِقَمَهُ.
عِوَجٍ - اخْتِلاَفٍ وَاضْطِرَابٍ وَاعْوِجَاجٍ.
﴿مُتَشَاكِسُونَ﴾
(٢٩) - يَضْرِبُ اللهُ تَعَالى فِي هَذِهِ الآَيَةِ مَثَلاً لِلْمُشْرِكِ الذِي يَعْبُدُ آلِهَةً مَعَ اللهِ، وَلِلمُؤمِنِ الذِي يُخْلِصُ العِبَادَةَ للهِ وَحْدَهُ، وَيَقُولُ تَعَالَى: إِنَّ مَثَلَ هَذِينِ الرَّجُلِينِ كَمَثَلِ عَبْدَينِ أَحَدِهِمَا يَمْلِكُهُ شُرَكَاءٌ مُخْتَلِفُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ، فَهُمْ يَتَجَاذَبُونَهُ فِي أُمُورِهِمْ، وَهُوَ حَائِرٌ فِي أَمْرِهِ، إِذَا هُوَ أَرْضَى أَحَدَهُمْ أَغْضَبَ الآخَرِينَ، وَإِذَا احْتَاجَ إِلَيْهِمْ فِي أَمْرٍ مُهِمٍّ طَلَبَ إِلَيْهِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الآخَرِينَ، فَهُوَ عَذَابٍ دَائِمٍ وَنَصَبٍ. أَمَّا العَبْدُ الآخَرُ فَيَمْلِكُهُ رَجُلٌ سَوِيٌ وَاحِدٌ، يَقُومُ العَبْدُ عَلَى خِدْمَتِهِ بِرَاحَةٍ وَإِخْلاَصٍ، فَأِيُّ العَبْدَينِ أَحْسَنُ حَالاً؟ فَكَمَا أَنَّهُ لاَ يَشُكُّ عَاقِلٌ فِي أَنَّ العَبْدَ الذِي يَخْدُمُ سَيِّداً وَاحِداً أَحْسَنُ حَالاً، كَذَلِكَ لاَ شَكَّ فِي أَنَّ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ أَحْسَنُ حَالاً مِنَ المُشْرِكِ.
وَإِذْ أَقَامَ اللهُ تَعَالَى الحُجَّةَ عَلَى المُشْرِكِينَ حَمِدَ نَفْسَهُ الكَرِيمَةَ عَلَى هَذَا البَيَانِ، والإِيْضَاحِ، وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ هَذِهِ الحَقِيقَةَ، وَلِذَلِكَ فَإِنَّهِمْ يُشْرِكُونَ بِاللهِ.
شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ - مُتَنَازِعُونَ شَرِسُو الطِّبَاعِ.
سَلَماً لِرَجُلٍ - خَالِصاً لَهُ مِنَ الشَّرِكَةِ والمُنَازَعَةِ.
(٣٠) - سَتَمُوتُ أَنْتَ يَا مُحَمَّدُ، وَسَيَمُوتُونَ هُمْ أَيْضاً.
﴿القيامة﴾
(٣١) - ثُمَّ يَبْعَثُكُمُ اللهُ تَعَالَى يَوْمَ القِيَامَةِ مِنْ قُبُورِكُمْ، وَيَحْشُرُكُمْ إِلَيْهِ فَتَخْتَصِمُونَ عِنْدَهُ، فَتَحْتَجُّ أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِأَنَّكَ أَبْلَغْتَهُمْ مَا أَرْسَلَكَ بِهِ رَبُّكَ إِلَيْهِمْ فَكَذَّبُوكَ، وَيَأْتُونَ هُمْ بِأَعْذَارٍ وَاهِيةٍ لاَ تُفِيدُهُمْ، وَلاَ تَدْفَعُ عَنْهُمْ سُوءَ العَذَابِ.
﴿لِّلْكَافِرِينَ﴾
(٣٢) - لاَ أَحَدَ أَكْثَرُ ظُلْماً مِنْ شَخْصٍ قَالَ عَلَى اللهِ الكَذِبَ فَجَعَلَ مَعَهُ آلِهَةً أُخْرَى، وَادَّعَى أَنَّ المَلاَئِكَةَ بَنَاتُ اللهِ، أَوْ جَعَلَ للهِ وَلَداً، ثُمَّ كَذَّبَ بِالحَقِّ (بِالصِّدْقِ) لَمَّا جَاءَهُ عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِ اللهِ، وَهُوَ الدَّعْوَةِ إِلَى تَوْحِيدِ اللهِ والإِيْمَانِ بِهِ، وَالإِيمَانِ بِالبِعْثِ والنَّشُورِ. وَالله تَعَالَى سَيَجْزِي مَنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ الكَذِبَ، وَكَذَّبَ بِالحَقِ بِإِدَخَالِهِ نَارَ جَهَنَّمَ يَوْمَ القِيَامَةِ، أَفَلا تَكْفِي نَارُ جَهَنَّمَ الكَافِرِينَ جَزَاءً لَهُمْ، وَمَثْوىً وَمَنْزِلاً عَلَى أَعْمَالِهِم القَبِيحَةِ.
مَثْوًى لِلْكَافِرينَ - مَأْوَى وَمَقَامٌ لَهُمْ.
﴿أولئك﴾
(٣٣) - والذِي جَاءَ بِالحَقِّ والصِّدْقِ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِ وَهُوَ رَسُولُ اللهِ ﷺ، وَالذِي صَدَّقَ بالحقِّ الذِي جَاءَ بِهِ رَسُولُ اللهِ (وَهُمُ المُؤْمِنُونَ)، هُمُ الذِينَ اتَّقَوا الله فَوَحَّدَوهُ، وَتَبَرَّؤوا مِنَ الشِّرْكِ وَمِنْ عِبَادَةِ الأَصْنَامِ وَالأَوْثَانِ والأَنْدَادِ، وَأَدَّوا الطَّاعَاتِ للهِ رَجَاءَ ثَوَابهِ.
﴿يَشَآءُونَ﴾
(٣٤) - وَهَؤُلاَءِ المَتَّقُونَ لَهُمْ الكَرَامَةُ عِنْدَ رَبِّهِمْ فَيُدْخِلُهُمْ جَنَّتَهُ، وَلَهُمْ مَا تَشْتَهِيهِ أَنْفُسُهُمْ، وَتَقَرُّبِهِ أَعْيُنُهُمْ، وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلَهُ.
(٣٥) - وَيَجْزِيهِمُ اللهُ تَعَالَى بِذَلِكَ الجَزَاءِ الحَسَنِ لِيُحَقِّقُ مَا أَرَادَهُ لَهُمْ مِنْ خَيْرٍ وَكَرَامةٍ، وَمِنْ فَضْلٍ يَزِيدُ عَلَى العَدْلِ يُعَامِلُهُمْ بِهِ. فَالعَدْلُ أَنْ تُحْسَبَ الحَسَنَاتُ وَتُحْسَبَ السَّيِّئَاتُ ثُمَّ يَكُونَ الجَزَاءُ. أَمَّا الفَضْلُ فَهُوَ أَنْ يُعَامِلَهُمْ كَمَا قَالَ تَعَالى، وَهُو أَنْ يُكَفِّرَ عَنْهُمْ أَسْوأَ أَعْمَالِهِم فَلاَ يَبْقَى لَها حِسَابٌ في مِيزَانِهِم، وَأَنْ يَجزِيَهمْ أَجْرَهُمْ بِحِسَابِ الأَحْسَنِ فِيما كَانُوا يَفْعَلُونَه، فَتزِيدُ الحَسَنَاتُ وَتَرْجَحُ عَلَى السَّيئاتِ فِي المِيزَانِ.
(٣٦) - واللهُ تَعَالَى يَكْفِي الذِي يَعْبُدُهُ وَيَتَوَكَّلُ عَلَيهِ فَيُؤَمِّنُ الرِّزْقَ لَهُ، وَيصْرِفُ عَنْهُ البَلاَءَ، وَيَنْصُرُهُ عَلَى الأَعْدَاءِ. وَيُخَوِّفُكَ المُشْرِكُونَ بِغيرِ اللهِ مِنَ الأَصْنَامِ وَالأَنْدادِ التِي يَعْبُدُونَها جَهَلاً وَضَلاَلاً، فَهَذِهِ الأَصْنَامُ لا تَضُرُّ ولا تَنْفَعُ، وَكُلُّ نَفْعٍ وَضُرٍّ لا يَصِلُ إِلا بِإِرَادَةِ اللهِ تَعَالى.
وَمَنْ أًَضَلَّهُ اللهُ فَلا هَادِيَ لَهُ يَهدِيهِ إِلى الرَّشَادِ، وَيُنِقِذَهُ مِنَ الضَّلالَةِ.
(٣٧) - وَمَنْ يُوَفِّقُهُ اللهُ إِلَى الخَيْرِ والهُدَى والسَّعَادَةِ فَلاَ يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يُضِلَّهُ، وَلاَ أَنْ يَصُدَّهُ عَنْ مَقْصَدِهِ إِذْ لاَ رَادَّ لأَمرِ اللهِ. وَاللهُ عَزِيزٌ لاَ يُغَالَبُ، وَهُوَ تَعَالَى ذُو قُدْرَةٍ عَلَى الانْتِقَامِ مِنْ أَعْدَائِهِ، وَمَنْ لَجَأَ إِلَى بَابِهِ الكَرِيمِ فَلا يُضَامُ.
﴿لَئِن﴾ ﴿السماوات﴾ ﴿أَفَرَأَيْتُم﴾ ﴿كَاشِفَاتُ﴾ ﴿مُمْسِكَاتُ﴾
(٣٨) - وَإِذَا سَأَلْتَ هَؤُلاَءِ المُشْرِكِينَ: مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ والأَرْضَ، فَإِنَّهُمْ يَعْتَرِفُونَ بِأَنَّهُ اللهُ العَالِمُ الحَكِيمُ. وَإِذَا كَانُوا يُقِرُّونَ بِوُجُودِ اللهِ وَقُدْرَتِهِ عَلَى الخَلْقِ، فَكَيْفَ سَاغَ لَهُمْ عِبَادَةُ غَيْرِهِ، أَوْ إِشْرَاكُ غَيْرِهِ مَعَهُ فِي العِبَادَةِ؟
فَقُلْ لَهُمْ يَا مُحَمَّدُ: أَخْبِرُونِي عَنْ آلِهَتِكُمْ هَذِهِ هَلْ تَقْدِرُ أَنْ تَكْشِفَ عَنِّي ضُراً أَرَادَ اللهُ أَنْ يُنْزِلَهُ بِي، أَوْ تَمْنَعَ وُصُولِ خَيْرٍ أَرَادَ اللهُ أَنْ يُوِصِلَهُ إِلَيَّ؟ وَلاَ شَكَّ فِي أَنَّهُمْ سَيُقِرُّونَ بِأَنَّهَا غَيرُ قَادِرَةٍ عَلَى شَيءٍ مِنْ ذَلِكَ، فَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ الأَصْنَامُ لاَ تَقْدِرُ عَلَى شَيءٍ فَلاَ يَنْبَغِي لِعَاقِلٍ أَنْ يَعْبُدَهَا وَيُخَاصِمَ فِي سَبِيلِهَا. وَقُلْ لَهُمْ: إِنَّ اللهَ تَعَالَى حَسْبِي وَكَافِيَّ. وَأَنَا أَتَوَكَّلُ عَلَيْهِ فِي جَمِيعِ أُمُورِي، وَعَلَيْهِ يَجِبُ أَنْ يَتَوَكَّلَ مَنْ أَرَادَ التَّوَكُّلَ وَالاعْتِمَادَ.
(وَفِي الحَدِيثِ: " مَنْ أَرَادَ أَنْ يَكُونَ أَقْوَى النَّاسِ، فَلْيَتَوكَّلْ عَلَى اللهِ "). (أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ).
أَفَرَأَيْتُمْ - أَخْبِرُونِي.
حَسْبِي اللهُ - اللهُ كَافِيَّ فِي جَمِيعِ أُمُورِي.
﴿ياقوم﴾ ﴿عَامِلٌ﴾
(٣٩) - وَقُلْ يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلاَءِ المُشْرِكِينَ: اعْمَلُوا أَنْتُمْ عَلَى طَريقَتِكُمْ مَا تَرَوْنَهُ حَسَناً، وَإِني أَعْمَلُ عَلَى طَرِيقَتِي وَمَنْهَجِي مَا يُوَفِّقُنِي اللهُ إِلَيْهِ فِي سَبِيلِ إِبْلاَغِ دَعْوَةِ اللهِ إِلى النَّاسِ، وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ فِي نِهَايَةِ الأَمْرِ مَنْ سَيَِكُونُ الرابحُ الفَائِزُ أَنَا أَوْ أَنْتُمْ؟
مَكَانَتِكُمْ - حَالَتِكُمْ المَتَمَكِّنِينَ مِنْهَا، أَوْ مَنْهَجِكُمْ، وَطَرِيقَتِكُمْ.
(٤٠) - وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ المَبْطِلُ الذِي يَنْزِلُ بِهِ عَذَابُ اللهِ المُخْزِي المُهِينُ فِي الدُّنْيَا، وَمَنْ يَكُونُ العَذَابُ عَاقَبَتَهُ فِي الآخِرَةِ، وَيَخْلُدُ فِيهِ مَهَاناًَ.
يُخْزِيهِ - يُذِلُّهُ.
يَحِلُّ عَلَيهِ - يَجِبُ عَلَيْهِ.
﴿الكتاب﴾
(٤١) - إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ القُرْآنَ يَا مُحَمَّدُ، مُشْتَمِلاً عَلَى الحَقِّ الثَّابِتِ لِتُبِلِّغَهُ إِلى جَمِيعِ الخَلْقِ مِنْ إِنْسٍ وَجِنٍّ، وَلِتَدْعُوَهُمْ إِلَى عِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَلِتُنْذِرَهُمْ عِقَابَهُ وَعَذَابَهُ، فَمَنِ اهْتَدَى وَآمَنَ بِمَا جِئْتَهُ بِهِ فَإِنَّ فَائِدَةَ ذَلِكَ تَعُودُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ وَضَلَّ، فَإِنَّهُ لاَ يُضِلُّ إِلاَّ نَفْسَهُ، وَلاَ يَضُرُّ إِلاَّ نَفَسَهُ، وَأَنْتَ يَا مُحَمَّدُ لَسْتَ رَقِيباً تُرَاقِبُ مَنْ أُرْسِلْتَ إِلَيْهِمْ، وَإِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ مُبَلِّغٌ، وَعَلَيْكَ البَلاَغُ وَعَلَى اللهِ الحِسَابُ.
﴿لآيَاتٍ﴾
(٤٢) - اللهُ تَعَالَى هُوَ الذِي يَقْبِضُ الأَنْفُسَ حِينَ انْتِهَاءِ الآجَالِ بِالمَوْتِ، وَيَتَوفَّى الأَنْفُسَ النَّائِمَةَ التِي لَمْ يَحِنْ أَجَلُهَا، فَيَقْبِضُهَا عَنِ التَّصَرُّفِ فِي الأَجْسَادِ، مَعَ بَقَاءِ الأَرْوَاحِ مُتَّصِلَةً بِهَا، فَيُمْسِكُ اللهُ الأَنْفُسَ، التِي قَضَى عَلَيْهَا بالمَوْتِ، فَلا يَرُدُّهَا إِلى الأَجْسَادِ، وَيَرُدُّ الأَنْفُسَ النَائِمَةَ إِلَى الأَجْسَادِ حِينَ اليَقَظَةِ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّى، وَهُوَ وَقْتُ المَوْتِ المُقَرَّرِ، وَفِيمَا ذُكِرَ آيَاتٌ عَظِيمَةٌ، وَدَلاَلاَتٌ كَبِيرَةٌ عَلَى قُدْرَةِ اللهِ وَحِكْمَتِهِ، لِمَنْ يَتَفَكَّرُونَ فِي عَجَائِبِ صُنْعِ اللهِ.
يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ - يَقْبِضُهَا عَنِ الأَبْدَانِ.
(٤٣) - أَمْ أَنَّ المُشْرِكِينَ اتَّخَذُوا الآلِهَةَ التِي يَعْبُدُونَهَا شَفَعَاءَ لَهُمْ عِنْدَ اللهِ؟ فَقُلْ لَهُمْ يَا مُحَمَّدُ: أَتَتَخِذُونَ هَذِهِ الأَصْنَام شُفَعَاءَ لَكُمْ عِنْدَ اللهِ كَمَا تَزْعُمُونَ؟ حَتَّى وَلَوْ كَانَتْ لاَ تَمْلِكُ لَكُمْ نَفْعاً وَلاَ ضَراً، وَلاَ تَعْقِلُ أَنَّكُمْ تَعْبُدُونَهَا؟
﴿السماوات﴾ ﴿الشفاعة﴾
(٤٤) - وَقُلْ لَهُمْ: إِنَّ الشَّفَاعَةَ للهِ وَحْدَهُ، فَلَيْسَ لأَحَدٍ شَيءٌ مِنْهَا، إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ، وَلِمَنِ ارْتَضَاهُ وَأَذِنَ لَهُ، فَمَرْجِعُهَا كُلُّهَا إِلَيهِ، فَهُوَ مَالِكُ السَّمَاوَاتِ والأَرْضِ، وَالمُتَصَرِّفُ فِيهَا، وَلاَ شَرَكَةَ لأَحَدٍ فِيهَا، وَإِلَيهِ يَرْجَعُ الخَلْقُ يَوْمَ القِيَامَةِ فَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ بِعَدْلِهِ، وَيَجْزِي كُلا بِعَمَلِهِ.
للهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً - لاَ يَشْفَعُ عِنْدَهُ أَحَدٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ.
(٤٥) - وَإِذَا قِيلَ أَمَامَ المُشْرِكِينَ الذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، تَشْمَئِزُّ قُلُوبُهُمْ، وَتَنْقَبِضُ قَسَمَاتُ وُجُوهِهِمْ غَيْظاً وَأَلَماً، وَإِذَا ذُكِرَتِ الآلِهَةُ التِي يَعْبُدُونَهَا مِنْ دُونِ اللهِ، اسْتَبْشَرُوا وَفَرِحُوا.
اشْمَأَزَّتْ - نَفَرَتْ وَانْقَبَضَتْ عَنِ التَّوْحِيدِ.
﴿السماوات﴾ ﴿عَالِمَ﴾ ﴿الشهادة﴾
(٤٦) - فَادْعُ يَا مُحَمَّدُ اللهَ وَحْدَهُ، فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ والأَرْضِ، وَمُبْدِعَهُمَا عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ سَبَقَ، عَالِمَ السِّرِّ والعَلاَنِيةِ، وَقُلِ: اللَّهُمَّ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ، فَتَفْصِلُ بَيْنَهُمْ بالحَقِّ يَوْمَ القِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا يَخْتَلِفُونَ فِيهِ فِي الدُّنْيَا، فَاحْكُمْ بَيْنِي وَبَيْنَ هَؤُلاءِ المُشْرِكِينَ المُكَذِّبِينَ.
فَاطِرَ - مُبْدِعَ وَمُخَتَرِعَ وَخَالِقَ.
﴿القيامة﴾
(٤٧) - وَلَوْ أَنَّ هَؤُلاَءِ المُشْرِكِينَ مَلَكُوا جَمِيعَ مَا فِي الأَرْضِ مِنْ مَالٍ، وَمَلَكُوا مِثْلَهُ مَعَهُ، وَرَأَوا سُوءَ العَذَابِ الذِي يَنْتَظِرُهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ، لَتَمَنَّوْا أَنْ يُقَدِّمُوا جَمِيعَ ذَلِكَ فِدَاءً لَهُمْ مِنَ العَذَابِ، وَلَكِنَّ النَّاسَ فِي ذَلِكَ اليَوم يَأْتُونَ رَبَّهُمْ فُرَادَى لاَ يَمْلِكُونَ شَيئاً، وَلَوْ مَلَكُوا شَيئاً لمَا قُبِلَ مِنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ فِدَاءً.
وَفَي ذَلِكَ اليَومِ العَصِيبِ يَظْهَرُ لِلْمُشْرِكِينَ مِنْ عَذَابِ اللهِ الذِي أَعَدَّهُ لَهُمْ مَا لَمْ يَكُنْ فِي حِسَابِهِمْ، وَمَا لَمْ يُحَدِّثُوا أَنْفُسَهُمْ بِهِ.
يَحْتَسِبُونَ - يَظُنُّونَهُ وَيَتَوَقَّعُونَهُ وَيُدْخِلُونَهُ فِي حِسَابِهِمْ.
﴿يَسْتَهْزِئُونَ﴾
(٤٨) - وَتَظْهَرُ لَهُمْ فِي ذَلِكَ اليَومِ صَحَائِفُ أَعْمَالِهِمْ وَفِيهَا جَمِيعُ مَا اجْتَرَحُوهُ مِنَ السَّيِئَاتِ، وَارْتَكَبُوهُ مِنَ الآثَامِ، فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُمْ سَيُجَازَوْنَ عَلَى جَمِيعٍ أَعْمَالِهِمْ، عَظِيمِهَا وحَقيرِهَا، وَيُحِيطُ بِهِم العَذَابُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، وَيُوقِنُونَ بِأَنَّهُمْ لاَ نَجَاةَ لَهُمْ مِنْهُ، لِكُفْرِهِمْ وَاسْتِهْزَائِهِمْ بِمَا كَانَ يًنْذِرِهِمْ بِهِ رَسُولُ اللهِ ﷺ، فِي الدَّارِ الدُّنْيَا مِنَ العَذَابِ.
حَاقَ بِهِمْ - نَزَلَ بِهِمْ أَوْ أَحَاطَ بِهِمْ.
﴿الإنسان﴾ ﴿خَوَّلْنَاهُ﴾
(٤٩) - يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى عَنْ حَالِ الإِنْسَانِ، وَهُوَ هُنَا يَقْصَدُ المُشْرِكِينَ، الدُّعَاءَ، وَإِذَا كَشَفَ عَنْهُ الضُّرَّ، وَآتَاهُ النِّعْمَةَ، طَغَى وَبَغَى وَكَفَرَ، وَقَالَ: إِنَّ اللهَ آتاهُ النِّعْمَةَ والمَالَ لأَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ ذَلِكَ، وَلَوْلاَ كَرَامَتُهُ عَلَى اللهِ لِمَا أَعْطَاهُ، وَلَكِنَّ الأَمْرَ لَيْسَ كَمَا يَقُولُ هَذَا الإِنْسَانُ، فإِنَّ اللهَ أَنْعَمَ عَلَيهِ بِهَذِهِ النِّعْمَةِ لِيَخْتَبِرَهُ فِيمَا أَنْعَمَ عَلَيهِ لِيَرَى أَيطِيعُ وَيَشْكُرُ، أَمْ يَطْغَى وَيَكْفُرُ؟ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ذَلِكَ فَيَقُولُونَ مَا يَقُولُونَ، وَيَدَّعُونَ مَا يَدَّعُونَ.
خَوّلْنَاه نِعْمَةً - أَعْطِيَنَاهُ إِيَّاهَا تَفَضُّلاً وَإِحْسَاناً.
هِيَ فِتْنَةٌ - تِلْكَ النِّعْمَةُ امْتِحَانٌ وَابْتِلاَءٌ.
(٥٠) - وَقَدْ قَالَ هذِهِ المَقَالَةَ، وَادَّعَى هَذا الادِّعَاءَ كَثيرٌ مِنَ الأَمَمِ السَّابِقَةِ، فَلمْ يًُغْنِ عَنْهُمْ شَيْئاً مَا يَكْسِبُونَ مِنْ مَتَاعِ الدُّنيَا، وَلا ما يَجْمعُونَ مِنْ حُطَامِها حينَ أَنْزَلَ اللهُ بِهِمْ عُقُوبَتَهُ، بِسَبَبِ تَكْذِيِبهِمْ، وَاسْتِهزائِهِمْ بِرُسُلِ رَبِّهِمْ إِلِيهِمْ.
(٥١) - فَحَلَّ بِأْولَئِكَ المُكَذِّبِينَ مِنَ الأُمَمِ السَّالِفَةِ جَزَاءُ السَّيِئَاتِ التِي اكْتَسَبُوهَا، فَعُوجِلُوا بالخِزْي فِي الدُّنْيَا، وَسَيُصِيبُهُم العَذَابُ الأَلِيمُ الدَّائِمُ فِي الآخِرَةِ.
وَالذِينَ كَفَرُوا بِاللهِ، وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ مِنْ قُرَيشٍ (مِنْ هَؤُلاَءِ) سَيَنْزِلُ بِهِمْ عِقَابُ السَّيِئَاتِ التِي اكْتَسَبُوهَا، كَمَا نَزَلَ بِالذِّينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، وَسَيَرْجِعُونَ إِلَى اللهِ فَيُحَاسِبُهُمْ عَلَى أَعْمَالِهِمْ، وَلَنْ يُعْجزُوا الله طَلَباً.
بِمُعْجِزِينَ - بَفَائِتِينَ مِنْ العَذَابِ بِالهَرَبِ.
﴿لآيَاتٍ﴾
(٥٢) - أَلاَ يَعْلَمُ هَؤُلاَءِ المُشْرِكُونَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى يُوسِّعُ الرِّزْقَ عَلَى قَومٍ، وَيُضَيِّقُهُ عَلَى قَوْم، وَلَيْسَ ذَلِكَ جَهْلاً مِنَ المُقِلِّ بِمَعْرِفَةِ طَلَبِ الرِّزْقِ، وَلاَ عِلْماً بِالمُوَسَّعِ عَلَيهِ فِي طَلَبِهِ وَسَعْيهِ، وَرَبَّمَا كَانَ العَاقِلُ القَادِرُ ضَيِّقَ الرِّزْقِ، والجَاهِلُ الأَحْمَقُ ذَا بَسْطَةٍ فِي المَالِ، وَإِنَّمَا هُوَ اللهُ تَعَالَى يُعْطِي مَنْ يَشَاءُ، وَيُضَيِّقُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ، لِحِكَمٍ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ، وَفِي ذَلِكَ دَلاَلاَتٌ وَعِبَرٌ وَعِظَاتٌ لِقَومٍ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ، وَيُوقِنُونَ أَنَّ الذِي يَفْعَلُ ذَلِكَ هُوَ اللهُ.
يَقْدِرُ - يُضَيِّقُهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ بِحِكْمَتِهِ.
﴿ياعبادي﴾
(٥٣) - يَدْعُو اللهُ تَعَالَى العُصَاةَ والكَفَرَةَ والمُسْرِفِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِتَجَاوَزِ حُدُودِ مَا شَرَعَ اللهُ، إِلَى التَّوْبَةِ والإِنَابَةِ إِلَيهِ تَعَالَى، وَيُخْبِرُهُمْ بِأَنَّهُ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً لِمَنْ تَابَ وَأَنَابَ، وَرَجَعَ عَمَّا كَانَ فِيهِ مِنَ الكُفْرِ والعِصْيَانِ والإِسْرَافِ فِي الأَمْرِ، إِلَى الإِيْمَانِ والطَّاعَةِ لأَنَّ اللهَ تَعَالَى هُوَ الغَفُورُ وَهُوَ الرَّحِيمُ. (وَجَاءَ فِي الحَدِيثِ: " كَفَّارَةُ الذُّنُوبِ النَّدَامَةُ ")
(وَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: " لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَجَاءَ اللهُ تَعَالَى بِقَومٍ يُذْنِبُونَ فَيَغْفِرُ لَهُمْ "). (أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَه).
أَسْرَفُوا - تَجَاوَزُوا الحَدَّ فِي المَعَاصِي.
لاَ تَقْنَطُوا - لا تَيْأَسُوا.
الذُنُوبَ جَمِيعاً - إِلاَّ الشِّرْكَ.
(٥٤) - وَيَسْتَحِثُّ اللهُ تَعَالَى الذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ إِلَى المُسَارَعَةِ إِلَى التَّوْبَةِ، وَيَقُولُ لَهُم: ارْجِعُوا إِلَى رَبِّكُمْ بِالتَّوْبَةِ، والعَمَلِ الصَّالِحِ قَبْلَ أَنْ تَحِلَّ بِكُمْ نِقَمُهُ، وَقَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ بِكُمُ العَذَابُ، وَحِينَئِذٍ لاَ تَجِدُونَ مَن ْيَنْصُرُكُمْ مِنْ بَأَسِ الله. وَلاَ مَنْ يَدْفَعُ عَنْكُمْ عَذَابَهُ.
أَنِيبُوا إِلى رَبكُمْ - ارْجِعُوا إِلَيهِ بِالتَوْبةِ والطَّاعَةِ.
أَسْلِمُوا إِليهِ - أَخْلِصُوا لَهُ عِبَادَتَكُمْ.
(٥٥) - ثُمَّ يَأَمُرُ اللهُ تَعَالَى عِبَادَهُ بِاتِّبَاعِ مَا أَمَرَهُمْ بِهِ (وَهُوَ أَحْسَنُ مَا أَنْزَلَ اللهُ إِلَى عِبَادِهِ)، وَبِاجْتِنَابِ مَا نَهَاهُمْ عَنْهُ، مِنْ قَبلِ أَنْ يَنْزِلَ بِهِم العَذَاب فَجْأَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ، وَلاَ يَنْتَظِرُونَ وَقُوعَهُ حِينَ يَغْشَاهُمْ.
بَغْتَةً - فَجْأَةَ.
﴿ياحسرتا﴾ ﴿الساخرين﴾
(٥٦) - يَأْمُرُ اللهُ تَعَالَى عِبَادَهُ بِالإِيمَانِ وبِالرُّجُوعِ إِلَيهِ تَعَالَى لِكَيلاَ يَأْتِيَ يَومُ القَيَامَةِ، فَتَقُولَ بَعْضُ الأَنْفُسِ حِينَ تَرَى صِدْقَ مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلَ: يَا حَسْرَتِي عَلَى تَقْصِيرِي فِي طَاعَةِ اللهِ تَعَالَى، وَعَلى سُخْرِيتِي وَاسْتِهْزَائِي بِرَسُولِ اللهِ، وَبَمَا جَاءَنِي بِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ.
يَا حَسْرَتَا - يَا نَدَامَتِي وَيَا حُزْنِي.
فَرَّطْتُ - قَصَّرْتُ.
فِي جَنْبِ اللهِ - فِي حَقِّهِ وَفِي طَاعَتِهِ.
السَّاخِرِينَ - المُسْتَهْزِئينَ.
﴿هَدَانِي﴾
(٥٧) - أَوْ تَقُولَ بَعْضُ الأَنْفُسِ حِينَ تَرَى العَذَابَ يَوْمَ القِيَامَةِ: لَوْ أَنَّ اللهَ هَدَانِي وَأَرْشَدَنِي إِلَى دِينِهِ وَطَاعَتِهِ، لَكُنْتُ فِي الدُّنْيَا مِمّن اتَّقَى اللهَ، وَتَرَكَ الشِّرْكَ، وَأَقْلَعَ عَنِ ارْتِكَابِ المَعَاصِي.
(٥٨) - أَوْ تَقُولَ بَعْضُ الأَنْفُسِ المُذْنِبَةِ حِينَ تَرَى العَذَابَ يَومَ القِيَامَةِ: لَيْتَ لِي رَجْعَةً إِلَى الدُّنْيَا فَاتَّبعَ الرُّسُلَ، وَأَكُونَ مِنَ المُهْتَدِينَ المُحْسِنينَ فِي أَعَمَالِهِمْ.
كَرَّةً - رَجْعَةً إِلَى الدُّنْيَا.
﴿آيَاتِي﴾ ﴿الكافرين﴾
(٥٩) - وَيَقُولُ اللهُ تَعَالَى لِهَؤُلاَءِ المُتَبَاطِئِينَ فِي التَّوْبَةِ: إِنَّ رَدَّهُ تَعَالَى عَلَى تِلْكَ الأَنْفُسِ التِي تَتَمَنَّى المُنَى يَوْمَ القِيَامَةِ، وَتَتَحَسَّرُ عَلَى مَا كَانَ مِنْهَا مِنْ قُصُورٍ، هُوَ أَنَّهُ لاَ فَائِدَةَ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ اليَومَ، فَقَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فِي الدُّنْيَا عَلَى لِسَانِ رُسُلِي تُذَكِّرُكَ وَتَدْعُوكَ وَتُنذِرُكَ فَكَذَّبْتَ بِهَا، وَاسْتَكْبَرْتَ عَنْ قَبُولِهَا، وَكُنْتَ مِنَ الثَّابِتِينَ عَلَى الكُفْرِ.
﴿القيامة﴾
(٦٠) - وَتَرَى يَا مُحَمَّدُ يَوْمَ القِيَامَةِ، الذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ، فَزَعَمُوا أَنْ لَهُ وَلَداً أَوْ صَاحِبَةً أَوْ شَرِيكاً، أَوْ عَبَدُوا مَعَ اللهِ شُرَكَاءَ.. الخ قَدْ اسَوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ مِنَ الخزْيِ والحَزْنِ والكَآبَةِ، ثُمَّ يَدخُلُونَ النَّارَ لِيَلْقَوا فِيهَا العَذَابَ الذِي يَسْتَحِقُّونَهُ. أَوَ لَيْسَتْ جَهَنَّمُ كَافِيةً سِجْناًَ وَمَوْئِلاً لِلْمُتَكَبِّرينَ فَيَرَوْا فِيهَا الخِزْيَ والهَوَانَ بِسَبَبِ تَكَبُّرِهِمْ وَتَجَبُّرِهِمْ. وَاسْتِعْلاَئِهِمْ عَنِ الانْقِيَادِ لِلحَقِّ.
مَثْوَى - مَأْوًى ومقَامٌ.
(٦١) - وَيُنَجِّي اللهُ تَعَالَى مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ الذِينَ اتَّقَوا الشِّرْكَ والمَعَاصِي بِمَا سَبَقَ لَهُمْ فِي عِلْمِ اللهِ مِنَ السَّعَادَةِ والفَوْزِ (بِمَفَازَتِهِم)، وَيُنِيلُهُمْ مَا يَبْتَغُونَهُ، وَيُعْطِيهِمْ فَوْقَ مَا كَانُوا يَؤَمِّلُونَ، وَلاَ يَمَسُّهُمْ أَذَى جَهَنَّمَ، وَلاَ يَحْزُنُهُم الفَزَعُ الأَكْبَرُ، بَلْ هُمْ آمِنُونَ مِنَ كُلِّ فَزَعٍ.
المَفَازَةُ - الظَّفَرُ بِالبغْيَةِ.
﴿خَالِقُ﴾
(٦٢) - اللهُ سُبْحَانَهُ هُوَ الخَالِقُ لِجَمِيعِ مَا فِي الوُجُودِ، وَهُوَ القَائِمُ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ يَتَوَلَّى الوُجُودِ بِحِفْظِهِ وَرِعَايَتِهِ، فَالأَشْيَاءُ جَمِيعُهَا مُحْتَاجَةٌ إِلَى اللهِ في وُجُودِهَا وَفِي بَقَائِهَا.
﴿السماوات﴾ ﴿بِآيَاتِ﴾ ﴿أولئك﴾ ﴿الخاسرون﴾
(٦٣) - وَاللهُ تَعَالَى هُوَ الحَافِظُ لِخَزَائِنِ السَّمَاوَاتِ والأَرْضِ، وَمُدَبِّرُهَا وَمَالِكُهَا وَمَالِكُ مفَاتِيحِهَا (مَقَالِيدِهَا) فَهُوَ المُتَصَرِّفُ بِكُلِّ شَيءٍ مَخْزُونٍ فِيهَا.
(وَقَدْ يَكُونُ المَعْنَى: وَللهِ تَعَالَى وَحْدَهُ تَصَارِيفُ أُمُورِ السَّمَاوَاتِ والأَرْضِ، فَلاَ يَتَصَرَّفُ فِيهنَّ سِوَاهُ).
والذِينَ كَفَرُوا بِاللهِ وَبِآيَاتِ اللهِ وَحُجَجِهِ الدَّالَّةِ عَلَى وُجُودِهِ وَوحْدَانِيَّتِهِ تَعَالَى، أولئِكَ هُمُ الخَاسِرُونَ، الذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهمْ وَأَهْلِيهِمْ.
المَقَالِيدُ - المَفَاتِيحُ والخَزَائِن، وَقِيلَ إِنَّهُ فَارِسِيٌ مَعَرَّبٌ.
﴿الجاهلون﴾
(٦٤) - دَعَا كُفَّارُ قُرَيشٍ رَسُولَ اللهِ ﷺ أَنْ يَعْبُدَ مَعَهُمْ أَصْنَامَهُمْ عَلَى أَنْ يَعْبُدُوا هُمْ مَعَهُ اللهَ، مَعَ اسْتِمْرَارِهِمْ عَلَى عِبَادَةِ أَصْنَامِهِمْ، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى هَذِهِ الآيَةَ، وَفِيهَا يُوَبِّخُ اللهُ تَعَالَى هَؤُلاَءِ الجَاِهِلِينَ، وَيَأْمرُ رَسُولَهُ الكَرِيمَ بِأَنْ يَرَدَّ عَلَيهِمْ بِقَوْلِهِ: أَفَتَأْمُرُونَنِي أَيُّهَا الجَاهِلُونَ بِأَنْ أَعْبُدَ غَيْرَ اللهِ بَعْدَ مَعْرِفَتِي بِاللهِ وَمُشَاهَدَتِي الأَدِلَّةَ والآيَاتِ الدَّالَّةَ عَلَى عَظَمَتِهِ وَتَفَرُّدِهِ بِالأُلْوَهِيَّةِ والخَلْقِ؟ إِنَّ هَذَا لَنْ يَكُونَ أَبَداً.
﴿لَئِنْ﴾ ﴿الخاسرين﴾
(٦٥) - يُحَذِّرُ اللهُ تَعَالَى عِبَادَهُ مِنَ الشِّرْكِ عَلَى لِسَانِ جَمِيعِ الأَنْبِيَاءِ، وَيَقُولُ تَعَالَى لِرَسُولِهِ الكَرِيم: لَقَدْ أَوْحَى اللهُ إِلَيكَ أَنَّهُ إِذَا حَصَلَ مِنْكَ إِشْرَاكٌ بِهِ بِعِبَادَةِ الأَصْنَامِ أَوِ الأَوْثَانِ لَيَبْطُلَنَّ عَمَلُكَ جَمِيعُهُ، وَكُلُّ مَا فَعَلْتَهُ مِنْ أَفْعَالِ الخَيْرِ والبِرِّ (كَصِلَةِ الرَّحمِ، وَبِرِّ الفُقَرَاءِ.. الخ)، وَلَتَكُونَّن مِنَ الخَاسِرِينَ فِي الدُّنْيَا والآخِرَةِ، وَهَذَا مَا أَوْحَاهُ اللهُ تَعَالَى إِلَى جَمِيعِ الأَنْبِيَاءِ والرُّسُلِ.
لَيَحْبَطَنَّ - لَيَهْلِكَنَّ وَلَيَبْطُلَنَّ.
﴿الشاكرين﴾
(٦٦) - لاَ تُطِعْ قَوْمَكَ يَا مُحَمَّدُ فِي عِبَادَةِ الأَصْنَامِ، التِي يَدْعُونَكَ إِلَى عِبَادَتِهَا، وَاعْبُدِ اللهَ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ لَهُ عَلَى مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيكَ مِنَ الخَيرِ بِهِدَايَتِكَ إِلَى طَرِيقِهِ المُسْتَقِيمِ.
﴿القيامة﴾ ﴿السماوات﴾ ﴿مَطْوِيَّاتٌ﴾ ﴿سُبْحَانَهُ﴾ ﴿تعالى﴾
(٦٧) - مَا عَظَّمَ هَؤُلاَءِ المُشْرِكُونَ اللهَ حَقَّ التَّعْظِيمِ الذِي يَسْتَحِقُّهُ جَنَابُهُ، إِذ عَبَدُوا مَعَهُ غَيْرَهُ، وَهُوَ العَظِيمُ القَادِرُ، المَالِكُ لِكُلِّ شَيءٍ، وَالأَرْضُ كُلُّهَا تَكُونُ فِي قَبْضَتِهِ تَعَالَى، وَطَوْعَ أَمْرِهِ وَتَحْتَ قَدَرِهِ وَسُلْطَانِهِ، والسَّمَاوَاتُ تُطْوَى يَوْمَ القِيَامَةِ بِيَمِينِهِ تَعَالَى طَيَّ السِّجِل عَلَى مَا فِيهِ مِنَ الكِتَابَةِ، لاَ يَسْتَعْصِي عَلَيِهِ شَيءٌ، تَعَالَى الله وَتَنَّزَهَ عَمَّا يَقُولُهُ المُشْرِكُونَ، وعَمَّا يَجْعَلُونَ لَهُ مِنَ الشُّرَكَاءِ وَالأَنْدَادِ، والصَّاحِبَةِ والوَلَدِ.
﴿السماوات﴾
(٦٨) - يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى عَنْ هَوْلِ يَومِ القِيَامَةِ، وَمَا يَكُونُ فِيهِ مِنَ الأَهْوَالِ العَظِيمَةِ، والآيَاتِ والزَّلاَزِلِ، وَيَقُولُ تَعَالَى إِنَّ الصُّورَ (وَهُوَ قَرْنٌ إِذَا نُفِخَ فِيهِ أَحْدَثَ صَوْتاً) يُنْفَخُ فِيهِ نَفْخَتَانِ: نَفْخَةٌ يَمُوتُ فِيهَا الخَلْقُ وَمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ والأَرْضِ مِنَ المَخْلُوقَاتِ، وَيُصْعَقُونَ إِلاَّ مَنْ شَاءَ اللهُ أَنْ يَسْتَثْنِيَهُ مِنَ الصَعَقِ، ثُمَّ يُنْفَخُ فِيهِ النَّفْخَةُ الثَّانِيَةُ فَيَقُومُ الخَلْقُ مِنْ قُبُورِهِمْ أَحْيَاءَ يَنْظُرُونَ حَوْلَهُمْ بَعْدَ أَنْ كَانُوا عِظَاماً وَرُفَاتاً.
الصُّورُ - قَرْنٌ يُنْفَخُ فِيهِ فَيُحْدِثُ صَوْتاً.
صَعِقَ - هَلَكَ وَمَاتَ.
﴿الكتاب﴾ ﴿جِيءَ﴾ ﴿بالنبيين﴾
(٦٩) - وَتُضَيءُ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا حِينَ يَتَجَلَّى تَعَالَى عَلَى الخَلاَئِقِ المَحْشَورَةِ إِلَيهِ، وَيُوضَعُ الكِتَابُ الذِي يَحْوِي أَعْمَالَ الخَلاَئِقِ جَمِيعاً وَيُحْصِيهَا عَلَيهِمْ (وَقِيلَ بَلْ إِنَّ كِتَابَ أَعْمَالِ كُلِّ وَاحِدٍ يُوضَعُ فِي يَدِهِ).
وَيُؤتَى بِالنَّبِيِّينَ لِيَشْهَدُوا عَلَى الأُمَمِ بِأَنَّهُمْ أَبْلَغُوهُمْ رِسَالاَتِ رَبِّهِمْ إِلََيهِمْ، وَيُؤْتَى بالشُّهَدَاءِ - وَهُمُ المَلاَئِكَةُ الحَفَظَةُ المُوَكَّلُونَ بِالعِبَادِ لِيحْصُوا أَعْمَالَهُمْ - لِيَشْهَدُوا أَيضاً عَلَى الخَلاَئِقِ. ثُمَّ يَقْضِي اللهُ تَعَالَى بَينَ العِبَادِ بِالحِقِّ والعَدْلِ فَلاَ يَنْقُصُ مِنْ ثَوابٍ، وَلاَ يَزِيدُ فِي عِقَابٍ (وَلا يُظْلَمُونَ).
وُضِعَ الكِتَابُ - أُعْطِيتْ صُحْفُ الأَعْمَالِ لأَصْحَابِهَا أَوْ يُوضَعُ الكَتَابُ الحَاوِي أَعْمَالَ الخَلاَئِقِ لِيُحَاسِبَهُمُ اللهُ عَلَى أَسَاسِهِ.
(٧٠) - وَتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ الجَزَاءَ العَادِلَ الذِي تَسْتَحِقُّهُ عَلَى أَعْمَالِهَا، إِنْ خَيْراً فَخَيْراً، وَإِنْ شَرّاً فَشَرّاً. وَاللهُ تَعَالَى هُوَ الأَعْلَمُ بِمَا كَانَ يَفْعَلُهُ العِبَادُ فِي الدُّنْيَا، فَلاَ يَفُوتُهُ مِنْهُ شَيءٌ.
﴿جَآءُوهَا﴾ ﴿أَبْوَابُهَا﴾ ﴿آيَاتِ﴾ ﴿الكافرين﴾
(٧١) - وَيُسَاقُ الذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ جَمَاعَاتٍ (زُمَراً) سَوْقاً عَنِيفاً بِزَجْرٍ وَتَهْدِيدٍ، وَحِينَمَا يَصِلُونَ إِلَيها، تَفْتَحُ لَهُمْ جَهَنَّمُ أَبُوَابَهَا، وَيَقُولُ لَهُمْ حُرَاسُ جَهَنَّمَ (خَزَنَتُهَا) : أَلَمْ يَأْتِكُم فِي الدُّنْيَا رُسُلٌ مِن جِنْسِكُمْ يُحَذِّرُونَكُمْ مِنَ هَوْلِ هَذَا اليَوْمِ؟ فَيُجِيبُونَ مَعْتَرِفِينَ، وَيَقُولُونَ: نَعَمْ لَقَدْ جَاءَهُمْ رُسُلٌ مِنْ رَبِّهِمْ، وَدَعَوْهُم إِلَى الإِيْمَانِ بِاللهِ والإِقْلاَعِ عَنِ الكُفْرِ.. وََلَكِنَّهُمْ كَذَّبُوا الرُّسُلَ، وَخَالَفُوهُمْ، وَاسْتَهْزَؤُوا بِهِمْ لِمَا سََبَقَ لَهُمْ مِنَ الشَّقَاوَةِ والضَّلاَلَةِ، فَعَدَلُوا بِسُوءِ اخْتِيَارِهِمْ عَنِ الحَقِّ إِلَى البَاطِلِ فَاسْتَحَقُّوا هَذَا المَصِيرَ.
زُمَراً - جَمَاعَاتٍ مُتَفَرِّقَةً مُتَتَابِعَةً.
حَقَّتْ - وَجَبَتْ وَثَبَتَتْ.
﴿أَبْوَابَ﴾ ﴿خَالِدِينَ﴾
(٧٢) - وَحِينَئِذٍ يَقُولُ لَهُمْ خَزَنَةُ جَهَنَّمَ: ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ لِتَبْقَوْا فِيهَا خَالِدِينَ أَبداً، وَبِئْسَتْ جَهَنَّمُ مَصِيراً وَمَقِيلاً لِمَنْ كَانُوا يَتَكَبَّرُونَ فِي الدُّنْيَا بِغَيِرِ حَقٍّ، وَيَرْفضُونَ اتِّبَاعَ الحَقِّ، فَبِئْسَ الحَالُ، وَبِئْسَ المَآلُ.
﴿جَآءُوهَا﴾ ﴿أَبْوَابُهَا﴾ ﴿سَلاَمٌ﴾ ﴿خَالِدِينَ﴾
(٧٣) - وَيُوِجَّهُ المُتَّقُونَ إِلَى الجَنَّةِ جَمَاعَاتٍ إِثْرَ جَمَاعَاتٍ: المُقَرَّبُونَ، ثُمَّ الأَبْرَارُ، ثُمَّ الذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الذِينَ يَلُونَهُمْ.. فَإِذَا وَصَلُوا الجَنَّةَ تُفْتَحُ لَهُمْ أَبْوَابُهَا لاسْتِقْبَالِهِمْ، وَيَسْتَقْبِلُهُمْ حُرَّاسُهَا (خَزَنُتهَا) بالتَّحِيَةِ وَالسَّلاَمِ، وَيَقُولُونَ لَهُمْ: طَابَتْ أَعْمَالُكُمْ وَأَقْوَالُكُمْ، وَطَابَ سَعْيُكُمْ وَجَزَاؤُكُمْ، فَادْخُلُوا الجَنَّةَ لِتَمْكُثُوا فِيهَا خَالِدِينَ أَبَداً.
طِبْتُمْ - طَهُرْتُمْ مِنْ دَنَسِ الكُفْرِ والمَعَاصِي.
﴿العاملين﴾
(٧٤) - وَيَقُولُ المُؤْمِنُونَ حِينَ يَعَايِنُونَ فِي الجَنَّةِ الجَزَاءَ الوَافِرَ الذِي أَعَدَّهُ اللهُ لَهُمْ، وَالنَّعِيمَ المُقِيمَ: الحَمْدُ للهِ الذِي كَانَ وَعَدَنَا عَلَى ألْسِنَةِ رُسُلِهِ الكِرَامِ بِالثَّوَابِ الكَرِيمِ فِي الآخِرَةِ فَصَدّقْنَا مَا وَعَدَنَا بِهِ، وَأَكْرَمَنَا بِأَنْ جَعَلَنَا نَتَصَرَّفُ فِي أَرْضِ الجِنَّةِ تَصَرُّفَ الوَارِثِ فِيمَا يَرِثُ، فَنَتَّخِذُ مِنْهَا مَبَاءَةً وَمَسْكَناً حَيْثُ نَشَاءَ، فَنِعْمَ الأَجْرُ أَجْرُنَا عَلَى عَمَلِنَا، وَنِعْمَ الثَّوَابُ ثَوَابُنَا الذِي أَكْرَمَنَا بِهِ اللهُ تَعَالَى.
صَدَقَنَا وَعْدَهُ - أًَنْجَزَنَا مَا وَعَدَنَا مِنَ النَّعِيمِ.
نَتَبَّوأُ - نَنْزِلُ.
﴿الملائكة﴾ ﴿العالمين﴾
(٧٥) - وَيُحْدِقُ المَلاَئِكَةُ فِي ذَلِكَ اليَوْمِ مِنْ حَوْلِ عَرْشِ رَبِّهِم الرَّحْمَنِ يُمَجِّدُونَهُ وَيُعَظِّمُونَهُ وَيُنَزِّهُونَهُ عَنِ الجَوْرِ وَعَنِ النَّقَائِصِ، وَقَدْ قُضِيَ الأَمْرُ، وَحَكَمَ الرَّبُّ بَيْنَ الخَلاَئِقِ بِعَدْلِهِ التَّامِّ، وَنَطَقَ الكَوْنُ أَجْمَعُهُ بِحَمْدِ اللهِ وَشُكْرِهِ عَلَى حِكْمَتِهِ وَعَدْلِهِ فِي حُكْمِهِ.
حَافِّينَ - مُحِيطِينَ وَمُحْدِقِينَ.
سورة الزمر
معلومات السورة
الكتب
الفتاوى
الأقوال
التفسيرات

سورةُ (الزُّمَر) من السُّوَر المكية، وقد جاءت بدلائلَ كثيرةٍ على وَحْدانية الله، واستحقاقه للألوهية، وذكَرتْ آياتٍ لله عز وجل في هذا الكون، وبيَّنت مآلَ مَن آمن واتقى، ومآلَ من عصى وكفَر بالله؛ مِن تقسيمِ الله لهم إلى زُمَرٍ: زُمْرة إلى الجنة والسعادة، وزُمْرة إلى النار والشقاء، وقد أُثِر عن النبي صلى الله عليه وسلم قراءتُه لسورة (الزُّمَر) قبل النوم.

ترتيبها المصحفي
39
نوعها
مكية
ألفاظها
1177
ترتيب نزولها
59
العد المدني الأول
72
العد المدني الأخير
72
العد البصري
72
العد الكوفي
75
العد الشامي
73

* قوله تعالى: {يَٰعِبَادِيَ اْلَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ اْللَّهِۚ إِنَّ اْللَّهَ يَغْفِرُ اْلذُّنُوبَ جَمِيعًاۚ إِنَّهُۥ هُوَ اْلْغَفُورُ اْلرَّحِيمُ ٥٣ وَأَنِيبُوٓاْ إِلَىٰ رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُواْ لَهُۥ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ اْلْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ ٥٤ وَاْتَّبِعُوٓاْ أَحْسَنَ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ اْلْعَذَابُ بَغْتَةٗ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ} [الزمر: 53-55]:

عن عُمَرَ بن الخطَّابِ رضي الله عنه، قال: «لمَّا اجتمَعْنا للهجرةِ، اتَّعَدتُّ أنا وعيَّاشُ بنُ أبي ربيعةَ وهشامُ بنُ العاصِ المِيضأةَ، مِيضأةَ بني غِفَارَ فوقَ سَرِفَ، وقُلْنا: أيُّكم لم يُصبِحْ عندها فقد احتبَسَ؛ فَلْيَمضِ صاحِباه، فحُبِسَ عنَّا هشامُ بنُ العاصِ.

فلمَّا قَدِمْنا مَنزِلَنا في بني عمرِو بنِ عوفٍ، وخرَجَ أبو جهلِ بنُ هشامٍ والحارثُ بنُ هشامٍ إلى عيَّاشِ بنِ أبي ربيعةَ، وكان ابنَ عَمِّهما وأخاهما لأُمِّهما، حتى قَدِمَا علينا المدينةَ، فكلَّماه، فقالا له: إنَّ أُمَّك نذَرتْ ألَّا تَمَسَّ رأسَها بمُشْطٍ حتى تَراكَ، فرَقَّ لها، فقلتُ له: يا عيَّاشُ، واللهِ، إن يريدُك القومُ إلا عن دِينِك؛ فاحذَرْهم؛ فواللهِ، لو قد آذى أمَّك القَمْلُ لَامتشَطتْ، ولو قد اشتَدَّ عليها حرُّ مكَّةَ، أحسَبُه قال: لاستَظلَّتْ، قال: إنَّ لي هناك مالًا فآخُذُه، قال: قلتُ: واللهِ، إنَّك لَتَعلَمُ أنِّي مِن أكثَرِ قُرَيشٍ مالًا؛ فلك نصفُ مالي، ولا تَذهَبْ معهما، فأبى إلا أن يخرُجَ معهما، فقلتُ له لمَّا أبى عليَّ: أمَا إذ فعَلْتَ ما فعَلْتَ، فخُذْ ناقتي هذه؛ فإنَّها ناقةٌ ذَلُولٌ؛ فالزَمْ ظَهْرَها، فإن رابَك مِن القومِ رَيْبٌ، فانْجُ عليها.

فخرَجَ معهما عليها، حتى إذا كانوا ببعضِ الطريقِ، قال أبو جهلِ بنُ هشامٍ: واللهِ، لقد استبطأتُ بعيري هذا، أفلا تَحمِلُني على ناقتِك هذه؟ قال: بلى، فأناخَ وأناخَا؛ ليَتحوَّلَ عليها، فلمَّا استوَوْا بالأرضِ عَدَيَا عليه، فأوثَقاه، ثم أدخَلاه مكَّةَ، وفتَنَاه فافتتَنَ، قال: فكنَّا نقولُ: واللهِ، لا يَقبَلُ اللهُ ممَّن افتتَنَ صَرْفًا ولا عَدْلًا، ولا يَقبَلُ توبةَ قومٍ عرَفوا اللهَ ثم رجَعوا إلى الكفرِ لبلاءٍ أصابهم.

قال: وكانوا يقولون ذلك لأنفسِهم، فلمَّا قَدِمَ رسولُ اللهِ ﷺ المدينةَ، أنزَلَ اللهُ عز وجل فيهم وفي قولِنا لهم وقولِهم لأنفسِهم: {يَٰعِبَادِيَ اْلَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ اْللَّهِۚ إِنَّ اْللَّهَ يَغْفِرُ اْلذُّنُوبَ جَمِيعًاۚ إِنَّهُۥ هُوَ اْلْغَفُورُ اْلرَّحِيمُ} [الزمر: 53] إلى قولِه: {وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ} [الزمر: 55].

قال عُمَرُ: فكتَبْتُها في صحيفةٍ، وبعَثْتُ بها إلى هشامِ بنِ العاصِ، قال هشامٌ: فلَمْ أزَلْ أقرَؤُها بذِي طُوًى أصعَدُ بها فيه حتى فَهِمْتُها، قال: فأُلقِيَ في نفسي أنَّها إنَّما نزَلتْ فينا، وفيما كنَّا نقولُ في أنفسِنا، ويقالُ فينا، فرجَعْتُ فجلَسْتُ على بعيري، فلَحِقْتُ برسولِ اللهِ ﷺ بالمدينةِ». أخرجه البزار (١٥٥).

* قوله تعالى: {وَمَا قَدَرُواْ اْللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِۦ وَاْلْأَرْضُ جَمِيعٗا قَبْضَتُهُۥ يَوْمَ اْلْقِيَٰمَةِ وَاْلسَّمَٰوَٰتُ مَطْوِيَّٰتُۢ بِيَمِينِهِۦۚ سُبْحَٰنَهُۥ وَتَعَٰلَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر: 67]:

عن عبدِ اللهِ بن مسعودٍ رضي الله عنه، قال: «أتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم رجُلٌ مِن أهلِ الكتابِ، فقال: يا أبا القاسمِ، أبلَغَك أنَّ اللهَ عز وجل يَحمِلُ الخلائقَ على إصبَعٍ، والسَّمواتِ على إصبَعٍ، والأرَضِينَ على إصبَعٍ، والشَّجَرَ على إصبَعٍ، والثَّرى على إصبَعٍ، قال: فضَحِكَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم حتى بدَتْ نواجذُه، قال: فأنزَلَ اللهُ تعالى: {وَمَا قَدَرُواْ اْللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِۦ وَاْلْأَرْضُ جَمِيعٗا قَبْضَتُهُۥ يَوْمَ اْلْقِيَٰمَةِ} [الزمر: 67] إلى آخرِ الآيةِ». أخرجه البخاري (٧٤١٥).

* سورة (الزُّمَر):

سُمِّيت سورةُ (الزُّمَر) بهذا الاسم؛ لأنَّ اللهَ ذكَر فيها زُمْرة السُّعداء من أهل الجنة، وزُمْرة الأشقياء من أهل النار.

* كان صلى الله عليه وسلم لا ينامُ حتى يَقرأَ (الزُّمَر):

عن عائشةَ أمِّ المؤمنين رضي الله عنها، قالت: «كان النبيُّ ﷺ لا ينامُ حتى يَقرأَ الزُّمَرَ، وبني إسرائيلَ». أخرجه الترمذي (٣٤٠٥).

1. القرآن تنزيلٌ من الله تعالى، والعبادة له وَحْده (١-٤).

2. آيات الله تعالى في الآفاق والأنفس (٥-٧).

3. مقارنة بين المؤمن والكافر (٨-٩).

4. إرشادٌ للمؤمنين، ووعيد لعبَدةِ الأصنام (١٠-٢٠) .

5. دلائل وَحْدانية الله تعالى، وقُدْرته (٢١).

6. حال المؤمنين مع القرآن، عذاب الكافرين (٢٢-٢٦).

7. ضَرْبُ الأمثال للتذكير (٢٧-٣١).

8. وعيدٌ للمشركين، ووعد للمؤمنين (٣٢-٣٧).

9. ضَلال المشركين، وتهديد الله لهم (٣٨-٤٠).

10. مظاهر قدرة الله تعالى (٤١-٤٨).

11. الإنسان بين الضَّراء والسَّراء (٤٩-٥٢).

12. دعوة للرجوع إلى الله تعالى (٥٣-٥٩).

13. دلائلُ ألوهية الله تعالى، ووَحْدانيته (٦٠-٦٧).

14. أهوال الآخرة، ومآل الأشقياء والسُّعداء (٦٨-٧٥).

ينظر: "التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (6 /478).

مقصدُ سورة (الزُّمَر) هو الدَّلالة على صِدْقِ الله عزَّ وجلَّ في وعدِه؛ فحاشاه أن يفُوتَه شيء، أو أن يُخلِفَ وعدَه، وقد أعذَرَ إلى الكفار بإنذارِهم بالحشر، وهو واقعٌ حاصل بتقسيم الناس إلى زُمَرٍ على ما يستحِقُّون من أعمالهم: زُمْرة المتقين الأبرار، وزُمْرة الكفار الأشرار.

ينظر: "مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور" للبقاعي (2 /423).