ﰡ
[الجزء الثاني]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
تفسير سورة الجن عدد ٤٠- ٧٢نزلت في مكة بعد الأعراف، وهي ثمان وعشرون آية، ومائتان وخمس وثمانون كلمة، وثمانمائة وسبعون حرفا، لا ناسخ ولا منسوخ فيها، ومثلها في عدد الآي سورة نوح، وبينا السور المبدوءة بكلمة قل وما يتعلق فيها في سورة الكافرين فراجعها.
(بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)
قال تعالى يا سيد الرسل «قُلْ» لقومك وغيرهم من الإنس والجن والملائكة «أُوحِيَ» اليوم «إِلَيَّ» من ربي «أَنَّهُ اسْتَمَعَ» قراءة القرآن بدلالة ذكره بعده وهذا مما حسن حذفه «نَفَرٌ» قال في المجمل النفر والرهط يستعمل إلى الأربعين، وقد وهم الحريري بقوله إنه يطلق على ما فوق العشرة وغلط غيره القائل بأنه ما بين الثلاثة إلى العشرة، واعلم أنه لا يختص بالرجال ولا بالناس كما قاله الآخرون لإطلاقه هنا على الجن، والفرق بينه وبين الرهط بأن الرهط يرجعون لأب واحد والنفر لآباء متفرقين، وهما اسما جمع لا واحد له من لفظه «مِنَ الْجِنِّ» وهم فصيلة على حدة قال تعالى (وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ (مِنْ قَبْلُ) مِنْ نارِ السَّمُومِ) الآية ٢٨ من سور الحجر في ج ٢، وقد نسب إبليس عليه اللعنة إلى هذه الفصيلة بدليل قوله تعالى (كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ) الآية ٥٢ من سورة الكهف في ج ٢ أيضا. هذا، وقد أمر سبحانه وتعالى نبيه ﷺ أن يظهر لأصحابه رضوان الله عليهم واقعة الجن هذه معه ويطلعهم عليها، ليعلموا عموم رسالته، وأنه كما هو مبعوث إلى الإنس مبعوث إلى الجن أيضا، ولتعلم قريش بأسرها هذا وتحدث به غيرها، وليفطنوا أن الجن مع تمردهم وعتوهم لما سمعوا القرآنوخلاصة ما جاء في هذه القصة هو ما رواه محمد بن اسحق عن زيد بن زياد عن محمد بن كعب القرفي قال: لما انتهى رسول الله ﷺ إلى الطائف، جلس لأشرافهم ودعاهم إلى الله والإيمان به بالقول والفعل، وأعلمهم بأنه رسوله إليهم كما هو لغيرهم، فلم يرد الله بهم خيرا، وذلك في بدء السنة العاشرة من البعثة، فأغروا به السفهاء والعبيد وآذوه بالقول والفعل، ولما أيس منهم ﷺ رجع حتى كان ببطن نخلة قام من جوف الليل يصلي فمر به نفر من جنّ نصيبين (سبعة أو تسعة لم يثبت عددهم على الحقيقة والآية عامة والنفر يطلق على الواحد حتى الأربعين كما مر بك) كانوا قاصدين اليمن حين منعوا من استراق السمع من السماء ورموا بالشهب أكثر من ذي قبل احتراما لمبعث الرسول ومعجزة له وإكراما، فاستمعوا لقراءته حتي فرغ من صلاته، فآمنوا به ﷺ إجابة لما سمعوه من القرآن. وقال قتادة ذكر لنا ابن مسعود حين قدم الكوفة فرأى شيوخا شمطا من الزط فأفزعوه حين رآهم، قال أظهروا فقيل له إن هؤلاء قوم من الزط. فقال ما أشبههم بالنفر الذين صرفوا إلى رسول الله ﷺ ليلة الجن، وفى رواية أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال لأصحابه إني أمرت أن أقرأ على الجن الليلة فأيكم يتبعني؟ فأطرقوا، ثم استتبعهم فأطرقوا، ثم استتبعهم الثالثة فتبعه عبد الله بن مسعود، قال ولم يحضر معه أحد غيره، فانطلقنا حتى إذا كنا بأعلى مكة دخل نبي الله ﷺ شعبا يقال له شعب الحجون وخط لي خطا ثم أمرني أن أجلس فيه، وقال لا تخرج منه حتى أعود إليك فانطلق عليهم فافتتح القرآن فجعلت أرى مثل النسور تهوي، وسمعت لغطا شديدا حتى خفت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورأيت غبشة أسودة كثيرة حالت بيني وبينه حتى لا أسمع صوته،
صحب النبي صلّى الله عليه وسلم فقط بعد أن قال ما قال، وهنا يقول هو نفسه ما صحبه منا
مطلب رواية الجن ورمي النجوم:
هذا وإن في الحديث الأول إثبات رؤية الجن له ﷺ وفي هذا الحديث أيضا، إلا أن ابن عباس أنكرها فيما رواه عنه البخاري ومسلم قال ابن عباس ما قرأ رسول الله ﷺ على الجن ولا رآهم، ولكن انطلق في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء وأرسل عليهم الشهب فرجعت الشياطين إلى قومهم، فقالوا ما لكم، قالوا حيل بيننا وبين خبر السماء وأرسلت علينا الشهب! قالوا وما ذاك إلا من شيء قد حدث، فأضربوا مشارق الأرض ومغاربها، فمر النفر الذين أخذوا نحو تهامة بالنبي ﷺ وهو بنخلة عامدين إلى سوق عكاظ وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر، فلما سمعوا القرآن
والعير يرهقها الغبار وجحشها... ينقض خلفها انقضاض الكوكب
وقال اويس بن حجر:
وانقض كالدري يتبعه... نقع يثور تخاله طينا
وقال عوف بن الجزع يصف فرسا:
يرد علينا العير من دون الفه... أو الثور كالدري يتبعه الدم
فهؤلاء جاهليون لا مخضرم فيهم فلو لم تكن قبلا لما نطق بها هؤلاء أما ماهية الجنّ فمختلف فيها، فمنهم من قال إن الجن جسم هوائي يتشكل بأشكال مختلفة، ومنهم من قال انها جواهر ليست بأجسام ولا أعراض وتختلف ماهيتها بعضها عن بعض، فمنها خيّرة كريمة محبة للخيرات، ومنها خسيسة دنيئة شريرة ولعة بالقبائح والآفات، ومنهم من قال إنهم حاصلون في الحيّز موصوفون بالطول والعرض والعمق، فمنهم اللطيف ومنهم، الكثيف، والعلوي والسفلي، ولا يمنع من هذا أن يكون لهم علم مخصوص وقدرة مخصوصة على الأفعال العجيبة التي يعجز عنها البشر كما أشار اليه في سورة ص الآية ٢٧ المارة، وما سيأتي في الآيتين ١٦/ ٣٩ من سورة النمل، والآيتين ١١/ ١٢ من سورة سبأ والآية ٨٢ من الأنبياء في ج ٢، وغيرها مما نورده في محله إن شاء الله، وذلك بإقدار الله إياهم، فمن أنكر شيئا مما تقوم فهو على غير طريقة أهل السنة والجماعة، وإنّ ما أجمعوا عليه في هذا الشأن مستند للكتاب والسنة كما علمت، وان ما تمسّك به المنكرون من أنه لا بدّ من صلابة البنية حتى تكون النفس المتلبسة بها قادرة على الأفعال الشاقة وأن البنية شرط للحياة ولا حياة بلا بنية، كلها أقوال واهية استدرجوا بها لإنكار وجود الجنّ ولم يعلموا أن انكارهم إنكار للقرآن إن كانوا مسلمين وللتوراة والإنجيل ان كانوا يهودا أو نصارى، وهو كفر بحت والعياذ بالله، لأن القادر على خلقهم قادر أن يضع فيهم صلابة بالبنية وحياة فيها، وقدرة على الأفعال
: ولا ينفع ذا الجدّ منك الجد «وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا» إبليس عليه اللعنة لتعريفه بالإضافة إليهم، وقيل إن الضمير في سفيهنا يعود إلى المردة منهم، فتكون الإضافة للجنس، وهو بعيد لأن الظاهر يأباه «عَلَى اللَّهِ شَطَطاً» ٤ كذبا تجاوزا عليه عدوانا وكفرا إذ تبين لنا كذب قوله من إسناد الشريك والصاحبة والولد إليه تعالى عن ذلك «وَأَنَّا ظَنَنَّا» قبل أن نسمع هذا القرآن من الرسول محمد «أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً» ٥ لأنهم يقولون لنا ذلك ويؤكدون أقوالهم بالإيمان بأن لله ولدا وصاحبة وشريكا، وكنا نصدق لأنا لا نعرف أن أحدا يحلف بالله كاذبا، وقد ظهر لنا الآن أنه منزه عن ذلك كله، وأنهم كانوا يكذبون علينا وعلى خالقهم جل شأنه «وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ» وذلك أن الجاهلية كانوا اعتادوا إذا أمسى أحدهم في أرض قفر يقولون إنا نعوذ بسيّد هذا الوادي من شر سفهاء قومه، فيقول عظماء الجن سدنا الإنس أيضا. روى البغوي بإسناد الثعلبي عن أبي السائد الأنصاري قال: خرجت مع أبي إلى المدينة في حاجة وذاك أول ذكر رسول الله ﷺ بمكة، فآوانا المبيت إلى راعي غنم، فلما انتصف الليل جاء ذئب فأخذ حملا من الغنم، فوثب الراعي فقال يا عامر الوادي جارك، فنادى مناد لا نراه يا سرحان أرسله، فإذا الحمل يشتد حتى دخل الغنم ولم تصبه كدمة، فأنزل الله على رسوله بمكة هذه الآية «فَزادُوهُمْ رَهَقاً» ٦ الرهق في كلام العرب الإثم وغشيان المحارم. قال الأعشى:
قال تعالى حكاية عنهم أيضا «وَأَنَّا لَمَسْنَا» وجسسنا «السَّماءَ» طلبا لبلوغها واستماع كلام من فيها كما كانت العادة قبلا «فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً» من الملائكة أكثر من ذي قبل بأضعاف كثيرة جدا «وَشُهُباً» ٨ تنقض من نجومها المضيئة علينا بكثرة أيضا خلافا لما كانت عليه قبلا «وَأَنَّا كُنَّا» قبل مبعث النبي محمد «نَقْعُدُ مِنْها» أي السماء «مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ» فنسترق ما يقع فيها من بعض القول حيث كنا نجد أمكنه في السماء خالية من الحرص وبعض المواقع منها عارية من الشهب، أما الآن فكلها ملأى من الحرس والشهب بكثرة لم تعهدها قبل، لذلك ماعدنا نقعد فيها خوفا أن نحترق «فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ» بعد مبعث حضرة الرسول وإلى ما شاء الله «يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً» ٩ يرمى به حالا فكان الشهب تترصد من يطلب الاستماع في السماء فترميه حالا وتحرقه. قال ابن عباس كانت الجن تصعد الى السماء لتستمع الوحي، فإذا سمعوا الكلمة زادوا عليها تسعا فيحدثون ويبلغونها الى الكهنة، فلما بعث ﷺ منعوا مقاعدهم، فذكروا ذلك لإبليس، ولهذا كانت الناس تتهافت على الكهنة تهافت الفراش على النار فيعظمونهم ويحترمونهم ويسألونهم عن مصالحهم الحاضرة والمستقبلة، لأنهم قد يصدقون لأن ما يلقيه الجن
«وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ» في معاملتهم بعضهم مع بعض وسائر الخلق لا يريدون إلا الخير «وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ» يخلطون عملا صالحا وآخر سيئا مع أنفسهم وغيرهم لانا «كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً» ١١ جماعات متفرقين وأصنافا متقطعين مسلمين كاملين ومسلمين فاسقين وآخرين كافرين مثل الإنس الآن، إذ منهم المؤمن والكافر والفاسق وبين ذلك، كالنصيرية والدروز والإسماعيلية والعلوية والرافضة والقدرية والمرجئة والكرامية والدهرية وغيرهم، فرقا متباينة بالأخلاق والعادات والتدين «وَأَنَّا ظَنَنَّا» تحققنا وأيقنا، وهكذا كلّ ظن في القرآن يكون معناه اليقين «أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ» إذا فررنا في أقطارها فإنا نكون في قبضة متى أراد «وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً» ١٢ إلى آفاق السماء ولانا تحققنا أنه قادر علينا أينما كنا لانفلت من قبضته ولا مقر لنا منه أبدا كيف وهو جل جلاله يقول (وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ) الآية ٦٦ من سورة الزمر في ج ٢ هذا «وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى» من حضرة الرسول «آمَنَّا بِهِ» أي القرآن الذي قرأه علينا المعبر عنه بالهدى جزمنا بأنه من الله وآمنا به وبمن أنزله عليه المرسل لهداية الخلق إنسهم وجنهم
الكافرون الذين بقوا على كفرهم فلم يسلموا وماتوا على ذلكَ كانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً»
١٥ في الآخرة وقودا لها.
مطلب فتح أن وكسرها في هذه السورة:
هذا، وقد اختلف القراء في فتح أن وكسرها من أول السورة إلى هنا عدا التي بعد القول إذ لا قول فيها، فقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وخلف وحفص بفتح الهمزة، ووافقهم أبو جعفر في ثلاث منها وهي: ١- وأنه تعالى، ٢- وأنه كان يقول، ٣- وأنه كان رجال. واتفقوا على الفتح في أنه استمع، وأن المساجد لله، لأن ذلك لا يصح أن يكون من قول الجن بل هو مما أوحي للنبيّ خاصة، وقالوا يصح بالبواقي الفتح والكسر، فوجه الكسر بالعطف على إنا التي هي بعد قالوا من عطف الجمل، ووجه الفتح على المفعولية. ومن المعلوم أن
(وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ) الآية ٣٠ من سورة الأنبياء في ج ٢، وقال بعض المفسرين إن هذه الآية خوطب بها أهل مكة على طريق الالتفات بعد أن أتم الخبر عن الجن أي لو استقام أهل مكة على الطريقة السمحة المعروفة طريق الحق والإيمان والهدى والرشد لأكثرنا عليهم الماء الذي هو أصل معاشهم وفي كثرته تكثير
والذي خصّ هذه الآية بأهل مكة أراد أنها على حد قوله تعالى (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) الآية ٩٦ من آل عمران المارة وهو وجيه لو لم يكن فيه الالتفات وتغيير نسق العطف دون حاجة فضلا عن استقامة المعنى بالنسبة لما قبل الآية وبعدها واتباع الظاهر أظهر، قال تعالى «وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ» الذي ذكر به عباده من آيات وعبر ولم يوحده حسبما أمر وعكف على إشراك غيره معه وأصر ومات على ذلك وانقبر «يَسْلُكْهُ» يدخله «عَذاباً صَعَداً» ١٧ شاقا يعلوه ويغلبه فلا يطيقه، راجع تفسير الآية ١٧ من سورة المزمل المارة، وهنا يتبادر لي أن التفسير من قوله (وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا) إلى هنا على طريق الالتفات الذي ذكر آنفا أولى، لأن إعادة الضمير من هناك إلى هنا إلى الجن مطلقا أو إلى القاسطين منهم على رأي البعض أو لمن ثبت منهم ومن الإنس على الكفر على قول الآخر أولى لأن الجن لا ينتفعون بالماء انتفاع الإنس، ولأن استعمال الاستقامة على الطريقة في الاستقامة على الكفر وجعل النعمة استدراجا من غير قرينة على الاستدراج مخالف لظاهر القرآن، فضلا عن أن الطريقة جاءت معرفة فانصرافها إلى الطريقة المثلى وهي ملة الإسلام طريقة الهدى والرشد أولى من صرفها إلى طريقة الضلال والكفر على غير ظاهرها من غير دليل، لهذا لم أره موفقا لمخالفة نسق التنزيل. وبما أن هذه الآية معطوفة على قوله تعالى (أَنَّهُ اسْتَمَعَ) أي أوحي إلي أنه استمع وأوحي إلي (أَنْ لَوِ اسْتَقامُوا) ولا يضر تقدم المعطوف على غيره على القول به لظهور الحال وعدم الالتباس لذلك فإن إعادة الضمير إلى الجن فقط بغير محله، كما أن حصره بالإنس فقط غير موافق، فيكون الأحسن والأجمع للقولين عوده للجن والإنس معا تبعا لبعض المفسرين العظام، فيكون إسقاء الماء للإنس بطريق التغليب على الجن والاستقامة للإنس والجن معا ومثله كثير ووجيه اتباعه والأخذ به والله أعلم.
المراد بالمساجد أعضاء الإنسان السبعة، أي الجبهة واليدين والرجلين والركبتين التي يسجد عليها، لأنها مخلوقة لله فلا تسجدوا عليها لغيره. وهذا قول صحيح لكنه لا يصح أن يكون تفسيرا للآية لمخالفة الظاهر دون دليل أو حاجة، وإنا عهدنا على أنفسنا أن لا نحول في تفسيرنا هذا عن ظاهر القرآن ما وجدنا مخرجا البتة، وهذه الأعضاء وإن ورد فيها أحاديث صحيحة لكن لا على أنها تفسير لهذه الآية.
روى البخاري ومسلم عن ابن عباس قال: أمرنا النبي ﷺ أن نسجد على سبعة أعضاء وأن لا نكفّ شعرا (كف الشعر عقصه وغرز طرفه في أعلى الضفيرة) ولا ثوبا (بأن نؤخره عن المسجد إذا وقع عليه) والمراد بالأعضاء السبعة ما ذكرناه آنفا «وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ» محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا معطوف أيضا على أنه استمع «يَدْعُوهُ» بقراءة القرآن في الموقع الذي مر ذكره قبلا. هذا، وما جاء بالخبر من أنه كان يصلي بأصحابه صلاة الصبح عند تفسير الآية ٩ المارة يحمل على صلاة كان يصليها تعبدا وهي ركعتان بالغداة وركعتان بالعشيّة فرضت عليه خاصة، لأن الصلاة لم تفرض بعد ولأن حادثة الجنّ وقعت قبل الإسراء كما أشرنا آنفا إلا أن يقال إن الإسراء في السنة الخامسة عند نزول سورة والنجم، أو أن الإسراء
«قُلْ» لهم أيضا «إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا» إذا بقيتم على كفركم «وَلا رَشَداً» ٢١ إذا آمنتم بالله وحده، ومعنى رشدا هنا نفعا لأنها بمقابلة ضرا، أي لا أقدر على شيء من ذلك كله، لأنه من خصائص الله الذي أرسلني إليكم منذرا لا مسيطرا ولا كفيلا «قُلْ» لهم أيضا «إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ» إذا أنا رجعت إلى دينكم وأرادني بسوء فلن يقدر أحد على دفع عذابه عني، وهذا كقول صالح لقومه (فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ) الآية ٦٢ من سورة هود في ج ٢ «وَلَنْ
٢٢ نفقا أدخل فيه إلى الأرض ومحترزا اختبئ فيه أو ملجأ ألجأ إليه من عذابه، وقد يراد به اللحد وفيه قال:
لا شيء ينفعني من دون رؤيتها | لا يشتفي رامق ما لم يصب رهقا |
يا لهف نفسي ونفسي غير مجدية | عني وما من قضاء الله ملتحدا |
وحده بالرفع وقرى بالنصب على المدح والاختصاص «فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً» ٢٦ من خلقه «إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ» فإنه يطلعه على بعض غيبه معجزة له وبرهانا على صدقه، والتنوين فيه للتعظيم «فَإِنَّهُ» جل شأنه «يَسْلُكُ» يدخل «مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ» أي ذلك الرسول المرتضى «رَصَداً» ٢٧ حرسا من الملائكة يحرسونه من تعرض الشياطين حينما يريد اطلاعه على غيبه، ويحفظون ذلك الغيب من أن يتخطّفه الجن والمردة فيصونه من أن يخلطوا به ما ليس منه، كما يفعلونه مع الكهنة عند استراقهم السمع، فإنهم إذا تلقفوا الكلمة خلطوا معها تسعة أمثالها كذبا فيخبرونهم بها من حيث لا يعلم الصدق من الكذب «لِيَعْلَمَ» ذلك الرسول المراد به هنا وهو محمد ﷺ والله أعلم، لأنه هو المخاطب في هذه السورة والمعهود فيها، وقرىء بكسر اللام وضم الياء، أي ليعلم غيره بذلك الغيب وقرىء بالمجهول، أي ليكون ذلك الغيب معلوما «أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا» أي الملائكة المخصصون بتبليغ الوحي رسل الله في أرضه والمراد بعضهم وهو جبريل عليه السلام لأنه المخصوص بذلك، أي أخبروا رسل الله «رِسالاتِ رَبِّهِمْ» كما تلقوها حرفيا مصونة من اختطاف الجن والشياطين وعارية عن خلطهم بها ما ليس منها. ويجوز عود الضمير إلى الله وعليه يكون المعنى ليعلم الله جل شأنه أن الرسل قد أبلغوا رسالاته خلقه مثلما أخذوها منه، وهو عالم بذلك قبل ذلك، وعلى عوده إلى محمد بمعنى آخر، وهو ليعلم محمد أن الرسل قبله أبلغوا رسالات ربهم كاملة كما هي، وأن الله حفظهم ودفع عنهم شر أعدائهم وأهلكهم نصرة لهم وخذلانا لأمثالهم الخارجين على الأنبياء صلوات الله عليهم، وخير الأقوال الثلاثة آخرها، وهناك قولان آخران أحدهما أشدّ ضعفا من الآخر وهو عود الضمير إلى من كذب وأشرك، أي ليعلم هؤلاء أن الرسل أبلغوا، والثاني عوده لإبليس، أي ليعلم أن الرسل قد أبلغوا إلخ، وهما ليس شيء والله أعلم «وَأَحاطَ» الله جل جلاله «بِما لَدَيْهِمْ» أي الرسل وعلمه محيط بهم وبجميع خلقه وأحوالهم من جميع جهاتهم قبل خلقهم وإرسالهم، ولم يزل عليما بهم فلا يخفى عليه شيء من
جميع ما خلقه وعلم كيفيته وكميته أيضا من حيوان وجماد وقطر وورق شجر وزبد بحر وذر وغيره، والله تعالى يعلم ما وراء ذلك مما لا يعلم البشر، ولم يسمع به، ولم يخطر بباله.
مطلب في كرامات الأولياء وعمر رضي الله عنه:
قال بعض المفسرين: إن هذه الآية مبطلة لكرامة الأولياء لأنهم مهما علت رتبتهم وسمت معارفهم فلن يبلغوا درجة الرسل، وإن الله خص بغيبه بعض المرسلين المرضيين عنده بالاطلاع على بعض غيبه، ومبطل للكهانة والتنجيم والتنويم وغيرها من باب أولى، لأن أصحابها أبعد شيء عن الارتضاء وأقرب شيء للسخط، حتى قال الواحدي إن في هذه الآية دليلا على أن من ادعى أن النجوم تدله على ما يكون من حياة أو موت أو غيرهما فقد كفر بالقرآن. هذا ما قاله هذان وغيرهم تبعا هم كثيرون، أما الذي أجمعت عليه أهل السنة والجماعة فهو إثبات وقوع الكرامة للأولياء ودليل لوجودها ويجب هذا عقيدة أيضا، قال صاحب مبدأ الأمالي:
كرامات الولي بدار دنيا | لها كون فهم أهل النوال |
والفرق بين النبي والولي من هذه الحيثية هو أن المعجزة أمر خارق للعادة مع عدم المعارضة مقرونة بالتحدي، وأن الكرامة أمر خارق للعادة مع المعارضة وعدم التحدّي، لأن الولي إذا ادعى خرق العادة مع التحدي كفر، وقد يظهر على يده أمر خارق للعادة من غير دعواه، وفيها دليل على ثبوت نبوة النبي أيضا التابع له ذلك الولي الذي ظهر على يده أمر خارق، فلو لم تكن نبوته حقا لما ظهر على يد من تابعه أمر خارق للعادة، فخرج بهذا الكاهن والمنجم والمنوم، لأن الأول ليس تابعا لرسول لانسداد باب الكهانة بمبعثه صلى الله عليه وسلم، والمنجم يتبع بإخباره ما يظهر له من حركات النجوم وسيرها وطلوعها وغروبها، والمنوم يتبع بإخباره ما يظهر له من قراءة الأفكار حينا والشعوذة حينا، وإنما خص الولي لتوغله بعبادة ربه وإخلاصه له وقطع نفسه إليه، وهؤلاء ليسوا كذلك فحكمهم حكم الكاهن، فمن ادعى منهم علم الغيب فهو كاذب كافر، وقد سبق لنا بحث واف في هذا الباب في سورة والنجم فراجعه تقنع، وله صلة في تفسير الآيات المشار إليها آنفا وفي الآية ٣٧ من سورة آل عمران في ج ٣. هذا، ولا يوجد سورة بالقرآن.
مختومة بما ختمت به هذه السورة، والله أعلم، وأستغفر الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين آمين.
تفسير سورة يس عدد ٤١- ٣٦
نزلت بمكة بعد سورة الجن عدا الآية ٤٥ فإنها نزلت بالمدينة، وهي ثلاث وثمانون آية، وسبعمائة وعشر كلمات، وثلاثة آلاف حرف، لا ناسخ ولا منسوخ فيها.