ﰡ
التفسير وأوجه القراءة
١ - ﴿طس﴾؛ أي: هذه طس؛ أي: هذه السورة مسماة به، وقد مر الكلام مفصلًا في فواتح السور أنها إن كانت اسمًا للسورة، فمحلها الرفع على أنها خبر مبتدأ كما قدرنا، أو على أنها مبتدأ خبرها ما بعدها، وإن لم تكن هذه الحروف اسمًا للسورة بل مسرودة على نمط التعديد، فلا محل لها من الإعراب، وقد مر أيضًا أن القول الأسلم في تفسيرها أن يقال: الله أعلم بمراده بذلك. وقيل (١): الطاء من اللطيف، والسين من السميع، حكاه الثعلبي، وقيل: ﴿الطاء﴾: إشارة إلى طوله؛ أي: فضله، و ﴿السين﴾: إلى سنائه؛ أي: علوه.
وفي "التأويلات النجمية": يشير بطائه إلى طيب قلوب محبيه، وبالسين إلى سر بينه وبين قلوب محبيه، لا يسعهم فيه ملك مقرب ولا نبي مرسل. وقيل: إنه قسم أقسم الله به، وهو من أسمائه، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وفي رواية أخرى عنه قال: هو اسم الله الأعظم، وفي "كشف الأسرار": ﴿الطاء﴾: إشارة إلى طهارة قدسه، و ﴿السين﴾ إشارة إلى سناء عزه. يقول تعالى بطهارة قدسي وسناء عزي: لا أخيب أمل من أمل لطفي، انتهى. وقيل غير ذلك، والله أعلم بأسرار كتابه.
﴿تِلْكَ﴾؛ أي (٢): هذه السورة العظيمة الشأن، أو آيات هذه السورة. ﴿آيَاتُ الْقُرْآنِ﴾؛ أي: بعض آيات القرآن المعروف بعلو الشأن، والإشارة بـ ﴿تِلْكَ﴾ إلى السورة المترجم عنها باسم خاص، والإتيان بإشارة البعيد؛ لتنزيل البعد الرتبي منزلة البعد الحسين، والقرآن عبارة عن جميع القرآن، أو عن جيمع المنزل عند نزول هذه السورة؛ إذ هو المتسارع إلى اللهم حينئذ عند الإطلاق.
(٢) روح البيان.
أي: هذه السورة آيات الكلام الجامع بين القرآنية والكتابية، وكونه قرآنًا من جهة أنه يقرأ، وكونه كتابًا بسبب أنه يكتب، وقدم الوصف الأول؛ لتقدم القرآنية على حال الكتابية، وأخَّره في سورة الحجر حيث قال: ﴿الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (١)﴾ نظرًا إلى حالته التي قد صار عليها، فإنه مكتوب والكتابة سبب القراءة، وقيل: نظرًا إلى أن الإشارة إلى امتيازه عن سائر الكتب بعد التنبيه على انطوائه على كمالات غيره من الكتب أدخل في المدح، فإن وصفه بالكتابية مفصح عن اشتماله على صفة كمال الكتب الإلهية، فكأنه كلها.
وأما تعريف القرآن هنا (١) وتنكير الكتاب، وتعريف الكتاب في سورة الحجر وتنكير القرآن؛ فلصلاحية كل واحد منهما للتعريف والتنكير. وفي "كشف الأسرار": القرآن والكتاب اسمان علمان للمنزل على محمد، ووصفان لأنه يُقرأ ويُكتب، فحيث جاء بلفظ التعريف فهو العلم، وحيث جاء بلفظ النكرة فهو الوصف.
وقال شيخ الإِسلام: إن قلت (٢): الكتاب المبين هو القرآن، فكيف عطفه عليه من أن العطف يقتضي المغايرة؟
قلتُ: المغايرة تصدق بالمغايرة لفظًا ومعنى، وباللفظ فقط، وهو هنا من الثاني، كما في قوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ﴾. أو المراد بالكتاب المبين هو اللوح المحفوظ، فهو هنا من الأول. فإن قلت: لم قدم القرآن هنا على الكتاب وعكس في الحجر؟
(٢) فتح الرحمن.
وقال أبو حيان (١): وأضاف الآيات إلى القرآن والكتاب المبين على سبيل التفخيم لها والتعظيم؛ لأن المضاف إلى العظيم عظيم، والكتاب المبين؛ إما اللوح المحفوظ وإبانته أنه قد خط فيه كل ما هو كائن فهو يبينه للناظرين، وإما السورة، وإما القرآن وإبانتهما أنهما يبينان ما أودعاه من العلوم والحكم والشرائع، وأن إعجازهما ظاهر مكشوف، ونكر ﴿وَكِتَابٍ مُبِينٍ﴾؛ ليبهم بالتنكير فيكون أفخم له، كقوله: ﴿فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ﴾. وإذا أريد به القرآن فعطفه من عطف إحدى الصفتين على الأخرى؛ لتغايرهما في المدلول عليه بالصفة من حيث إن مدلول القرآن الاجتماع، ومدلول كتاب الكتابة، انتهى. ونظيره قولهم: هذا فعل السخي والجواد الكريم.
ومعنى الآية: أي إن (٢) هذه الآيات التي أنزلتها إليك أيها الرسول لآيات القرآن وآيات كتاب بين واضح لمن تدبَّره، وفكَّر فيه أنه من عند الله سبحانه أنزله إليك، لم تتقوله أنت ولا أحد من خلقه، إذ لا يستطيع ذلك مخلوق ولو تظاهر معه الجن والإنس.
وقرأ الجمهور (٣): ﴿وَكِتَابٍ مُبِينٍ﴾ بجر ﴿كِتَابٍ﴾ عطفًا على ﴿الْقُرْآنِ﴾، أي: تلك آيات القرآن وآيات كتاب مبين. وقرأ ابن أبي عبلة وأبو المتوكل وأبو عمران: ﴿وَكِتَابٍ مُبِينٍ﴾ بالرفع فيهما عطفًا على ﴿آيَاتُ﴾، والأصل: وآيات كتاب، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، فأعرب بعرابه حالة كون تلك الآيات.
٢ - ﴿هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ﴾؛ أي: هادية لهم ومبشرة لهم بالجنة، فأقيم المصدر مقام الفاعل؛ للمبالغة كأنها نفس الهدى والبشارة.
ومعنى هدايتها لهم وهم مهتدون أنَها تزيدهم هدى، قال تعالى: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا﴾ وأما معنى تبشيرها إياهم فظاهر؛ لأنها تبشرهم
(٢) المراغي.
(٣) زاد المسير والبحر المحيط.
٣ - ثم وصف المؤمنين الذين لهم الهدى والبشرى، فقال: ﴿الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ﴾؛ أي: يؤدون الصلوات الخمس بأركانها وشرائطها في مواقيتها. ﴿وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ﴾؛ أي: يعطون الصدقة المفروضة للمستحقين. وتخصيص (١) الصلاة والزكاة بالذكر؛ لأنهما قرينتا الإيمان، وقطرا العبادات البدنية والمالية، مستتبعان لسائر الأعمال الصالحة، والموصول في محل جر صفة لـ ﴿لْمُؤْمِنِينَ﴾، أو بدل، أو عطف بيان منه، أو منصوب على المدح، أو مرفوع على تقدير مبتدأ. وجملة قوله: ﴿وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ﴾ في محل النصب حال من ﴿الواو﴾ في الصلة، فهي من تتمة الصلة؛ أي: الذين (٢) يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة، والحال أنهم يصدقون بالآخرة بأنها آتية مع ما فيها، ويعلمونها علمًا يقينًا لا شك فيه، فإن تحمل مشاق العبادات إنما يكون لخوف العاقبة والوقوف على المحاسبة. وكرر (٣) الضمير للدلالة على الحصر، كأنه قيل: أي: لا يوقن بالآخرة حق الإيقان إلا هؤلاء الجامعون بين الإيمان والعمل الصالح، لا من عداهم، وجعل الخبر مضارعًا؛ للدلالة على التجدد في كل وقت، وعدم الانقطاع.
وقال أبو حيان (٤): ولما كان إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة مما يتجدد ولا يستغرق إلا زمان.. جاءت الصلة فعلية، ولما كان الإيمان بالآخرة بما هو ثابت عندهم مستقر الديمومة.. جاءت الجملة اسمية، وأكد المسند إليه فيها بتكراره.
وفي "زاده" ولما كان (٥) إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة مما يتكرر ويتجدد في
(٢) روح البيان.
(٣) الشوكاني.
(٤) البحر المحيط.
(٥) زاده.
ومعنى الآية: أي (١) إن المؤمنين حق الإيمان هم الذين يعملون الصالحات، فيقيمون الصلاة المفروضة على أكمل وجوهها، ويؤدون الزكاة التي تطهير أموالهم وأنفسهم من الأرجاس، ويوقنون بالمعاد إلى ربهم، وأن هناك يومًا يحاسبون فيه على أعمالهم خيرها وشرها، فيذلون أنفسهم في طاعته رجاء ثوابه، وخوف عقابه، وليسوا كاولئك المكذبين الذين لا يبالون أحسنوا أم أساؤوا، أطاعوا أم عصوا؛ لأنهم إن أحسنوا لا يرجون ثوابًا وإن أساؤوا لم يخافوا عقابا.
٤ - ثم لما ذكر سبحانه أهل السعادة ذكر بعدهم أهل الشقاوة، فقال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ﴾ ولا يصدقون بالبعث بعد الموت؛ وهم الكفار. ﴿زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ﴾ القبيحة حيث جعلناها مشتهاة للطبع محبوبة للنفس، كما ينبىء عنه قوله عليه السلام: "حفَّت النار بالشهوات"؛ أي: جعلت محفوفة ومحاطة بالأمور المحبوبة المشتهاة.
واعلم (٢): أن كل مشيئة وتزيين وإضلال ونحو ذلك منسوبة إلى الله تعالى بالأصالة، وإلى غيره بالتبعية. وقال الزمخشري: فإن قلت: كيف أسند تزيين أعمالهم إلى ذاته هنا، وأسنده إلى الشيطان في قوله: ﴿وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ﴾؛.. قلت: بين الإسنادين فرق، وذلك أن إسناده إلى الشيطان حقيقة، وإسناده إلى الله مجاز. اهـ وهذا تأويل منه على طريق الاعتزال.
﴿فَهُمْ يَعْمَهُونَ﴾؛ أي: يترددون في ضلالتهم، كما يكون حال الضال عن الطريق، وقيل: أي: يتحيرون ويترددون على التجدد والاستمرار في الاشتغال بها، والانهماك فيها من غير ملاحظة لما يتبعها من الضرر والعقوبة، لا يهتدون
(٢) روح البيان.
٥ - ﴿أُولَئِكَ﴾ الموصوفون بالكفر والعمه: مبتدأ، خبره ﴿الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ﴾؛ أي: أشد العذاب واْقبحه في الدنيا، كالقتل والأسر يوم بدر، ووجه تخصيصه بعذاب الدنيا قوله بعده: ﴿وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ﴾؛ أي: أشد الناس خسرانًا وأعظمهم خيبة؛ لاشترائهم الضلالة بالهدى، فخسروا الجنة ونعيمها وحرموا النجاة من النار.
قال بعضهم (١): واعلم أن أهل الدنيا في خسارة الآخرة، وأهل الآخرة في خسارة المولى، فمن لم يلتفت إلى الكونين ربح المولى. والمعنى: أي (٢): إن الذين لا يصدقون بالآخرة وقيام الساعة، والمعاد إلى الله بعد الموت، وبالثواب والعقاب.. حببنا إليهم قبيح أعمالهم، ومددنا لهم في غيهم، فهم في ضلالهم حيارى تائهون، يحسبون أنهم يحسنون صنعًا، لا يفكرون في عقبى أمرهم، ولا ينظرون إلى ما يؤول إليه سلوكهم. قال الزجاج: أي: جعلنا جزاءهم على كفرهم أن زينا لهم ما هم فيه بأن جعلناه مشتهى بالطبع محبوبًا إلى النفس، أولئك الموصوفون هم الذين لهم سوء العذاب في الدنيا بقتلهم وأسرهم حين قتال المؤمنين، كما وقع في بدر، وهم في الآخرة أعظم خسرانًا مما هم فيه في الدنيا؛ لأن عذابهم فيها مستمر لا ينقطع، وعذابهم في الدنيا ليس بدائم، بل هو زائل لا بقاء له.
٦ - ثم مهد سبحانه مقدمة نافعة لما سيذكره بعد ذلك من الأخبار العجيبة، فقال ﴿وَإِنَّكَ﴾ يا محمد ﴿لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ﴾؛ أي: لتعطى القرآن بطريق التلقية والتلقين. ﴿مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ﴾؛ أي: من عند رب حيكم فيما دبره لخلقه. ﴿عَلِيمٍ﴾ بأحوال خلقه؛ أي: تلقن القرآن من عند الله سبحانه وتعالى بواسطة جبريل، لا من عند نفسك، ولا من تلقاء غيرك، كما يزعم الكفار. ﴿لَدُنْ﴾ بمعنى: عند، وتنوين (٣)
(٢) المراغي.
(٣) روح البيان.
والمعنى: أي وإنك أيها الرسول لتحفظ القرآن وتعلمه من عند حكيم بتدبير خلقه عليم بأخبارهم وما فيه الخير لهم، فخبره هو الصدق، وحكمه هو العدل، كما قال: ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا﴾.
قصص موسى عليه السلام
٧ - ثم شرع في بيان بعض تلك العلوم، فقال: ﴿إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ﴾؛ أي: واذكر يا محمد لقومك قصة قول موسى لزوجته ومن معها من ولده وخادمه في وادي الطور، وذلك أنه مكث بمدين عند شعيب عشر سنين، ثم سار بأهله بنت شعيب إلى مصر لزيارة أمه وأخيه هارون فضل الطريق في ليلة مظلمة شديدة البرد، وقد أخذ امرأته الطلق، فقدح فأصلد زنده، فبدا له من جانب الطور نار، فقال لأهله: اثبتوا مكانكم. ﴿إِنِّي آنَسْتُ﴾ وأبصرت ﴿نَارًا﴾.
قال مقاتل: النار هو النور، وهو نور رب العزة رآه ليلة الجمعة عن يمين الجبل بالأرض المقدسة. ﴿سَآتِيكُمْ مِنْهَا﴾؛ أي: من تلك النار؛ أي: ممن عندها. ﴿بِخَبَرٍ﴾؛ أي: عن حال الطريق أين هو. و ﴿السين﴾ (١): للدلالة على بعد المسافة، أو لتحقيق الوعد بالإتيان. وإن أبطأ فيكون للتأكيد. ﴿أَوْ آتِيكُمْ﴾ منها. ﴿بِشِهَابٍ قَبَسٍ﴾؛ أي: بشعلة نار مقبوسة؛ أي: مأخوذة من معظم النار ومن أصلها إن لم أجد عندها من يدلني على الطريق، فإن سنة الله سبحانه أن لا يجمع حرمانين على عبده، يقال: اقتبست منه نارًا، أو علمًا: استفدته منه، والشهاب:
وقرأ الكوفيون عاصم وحمزة والكسائي ويعقوب إلا زيدًا (١): ﴿بِشِهَابٍ﴾ منونًا. فـ ﴿قَبَسٍ﴾: بدل منه، أو صفة له؛ لأنه بمعنى المقبوس. وقرأ باقي السبعة بالإضافة غير منون؛ وهي قراءة الحسن. قال الفراء: هذه الإضافة كالإضافة في قولهم: مسجد الجامع، وصلاة الأولى، أضاف الشيء إلى نفسه لاختلاف أسمائه. وقال النحاس: هي إضافة النوع إلى الجنس، كما تقول: ثوب خزٍّ وخاتم حديد.
فإن قلت: قال (٢) في سورة طه: ﴿لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ﴾ وفي القصص: ﴿لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ﴾ ب صيغة الترجي في السورتين، وقال هنا: ﴿سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَر﴾ بصيغة الإخبار والتيقن، فبين الإخبار والترجي تناقض، فكيف يجمع بينهما؟
قلتُ: لا تناقض بينهما؛ لأن الراجي إذا قوي رجاؤه يقول: سأفعل كذا بصيغة الأخبار وإن كانت الخيبة يمكن أن تقع. وعبارة شيخ الإِسلام: كيف قال هنا ذلك، وفي طه: ﴿نَارًا لَعَلِّي﴾، وأحدهما قطع وجزم، والآخر ترجّ، والقضية واحدة؟
قلتُ: قد يقول الراجي إذا قوي رجاؤه: سأفعل كذا، وسيكون كذا مع تجويزه عدم الجزم.
﴿لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ﴾؛ أي: رجاء أن تستدفئوا بها، أو لكي تستدفئوا بها، وتدفعوا البرد بحرها، وكان الزمان شتاء والليلة مثلجة، يقال: صلى بالنار واصطلى بها إذا استدفا بها، والصلاء النار العظيمة، والاصطلاء الاستدفاء بها. قال بعضهم: الاصطلاء بالنار يقسي القلب، ولم يرو أنه - ﷺ - اصطلى بالنار.
(٢) روح البيان بتصرف.
وقد كان هذا حين مسيره من مدين إلى مصر، ولم يكن معه سوى امرأته، وكانا يسيران ليلًا، فاشتبه عليهما الطريق والبرد شديد، وفي مثل هذه الحال يستبشر النَّاس بمشاهدة النار من بعد؛ لما يرجى فيها من زاول الحيرة، وأمن الطريق، ومن الانتفاع بها للاصطلاء، ومن ثم قال لها هذه المقالة.
٨ - ﴿فَلَمَّا جَاءَهَا﴾؛ أي: فلما جاء موسى النار ووصل إليها، أي: جاء ذلك النور الذي ظنه نارًا. قال السدي: كان في النار ملائكة، والنار هنا مجرد نور، ولكنه ظن موسى أنها نار، فلما وصل إليها وجدها نورًا، وكانت الشجرة سمرة. ﴿نُودِيَ﴾ موسى من قبل الله تعالى؛ أي: جاءه النداء؛ وهو الكلام المسموع من جانب الطور، وأن في قوله: ﴿أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ﴾ إما مفسرة بمعنى أي؛ لأن في النداء معنى القول؛ أي: قيل له (٢): بورك من في النار، وبورك: مجهول بارك، وهو خبر لا دعاء؛ أي: جعل مباركًا، وهو ما فيه الخير والبركة؛ أي: بورك من في مكان النار؛ وهي البقعة المباركة المذكورة في قوله: ﴿نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ﴾ واستعملت ﴿مَن﴾ بمعنى (ما) حينئذ، ويدل عليه قراءة أبي: ﴿تباركت الأرض ومن حولها﴾ وعنه أيضًا: بوركت النار ﴿وَمَنْ حَوْلَهَا﴾؛ أي: ومن حول مكان النار.
والظاهر (٣): أن المبارك فيه عام في كل من في تلك البقعة وحواليها من أرض الشام الموسومة بالبركات؛ لكونها مبعث الأنبياء، وكفاتهم أحياء وأمواتًا،
(٢) النسفي.
(٣) روح البيان.
وقرأ أبيّ وابن عباس ومجاهد: ﴿أن بوركت النار ومن حولها﴾ أو مصدرية؛ أي: نودي موسى بأن بورك من في النار ومن حولها، أو مخففة من الثقيلة؛ أي: نودي بأنه بورك، والضمير ضمير الشأن. وقيل (١): المراد بـ ﴿مَنْ فِي النَّار﴾ هو موسى عليه السلام لقربه منها. و ﴿مَنْ حَوْلَهَا﴾ الملائكة؛ أي: نودي ببركة من في النار؛ أي: بتطهيره مما يشغل قلبه عن الله سبحانه، وتخليصه للنبوة والرسالة؛ أي: ناداه الله سبحانه وتعالى بأنا قدسناك يا موسى، واخترناك للرسالة، وهذه تحية من الله سبحانه لموسى، وتكرمة له، وبارك يتعدَّى بنفسه، كما هنا، وبـ "على" كما في قوله: ﴿وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ﴾ وبـ ﴿في﴾ كما في قوله: ﴿وَبَارَكَ فِيهَا﴾.
وفي ابتداء (٢) خطاب الله سبحانه موسى بذلك عند مجيئه بشارة بأنه قد قضي له أمر عظيم ديني تنتشر بركاته في أقطار الأرض المقدسة، وهو تكليمه تعالى إياه، واستنباؤه له وإظهار المعجزات على يده، وكل موضع يظهر فيه مشاهدة الحق ومكالمته يكون ذا بركة، ألا ترى إلى قول القائل:
إِذَا نَزَلَتْ سَلْمَى بِوَادٍ فَمَاؤُهُ | زُلَالٌ وَسِلْسَالٌ وَجَنَّاتُهُ وَرْدُ |
(٢) روح البيان.
(٣) المراح.
وحاصل معنى الآية: أي (١) فلما وصل موسى إلى النور الذي ظنه نارًا.. نودي بأن بورك من في مكان النار ومن حول مكانها، ومكانها هي البقعة المباركة المذكورة في قوله تعالى: ﴿نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ﴾ ومن حولها هو من في ذلك الوادي وحواليه من أرض الشام الموسومة بالبركات، ومهبط الخيرات؛ لكونها مبعث الأنبياء وكفاتهم أحياء وأمواتًا. وقوله: ﴿وَسُبْحَانَ اللَّهِ﴾ تنزيه لنفسه عما لا يليق به في ذاته وحكمته، وإيذان بأن مدبر ذلك الأمر هو رب العالمين.
٩ - ﴿يَا مُوسَى﴾؛ أي (٢): إن مكلمك ﴿أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾؛ أي: القوي القادر على ما يبعد من الأوهام، كقلب العصا حية، وأمر اليد الفاعل ما أفعله بحكمة بالغة، وتدبير تامّ، و ﴿أَنَا﴾ خبر ﴿إن﴾، و ﴿اللَّهُ﴾ عطف بيان له، و ﴿الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾: صفتان لله ممهدتان؛ لما أراد الله أن يظهره على يد موسى عليه السلام من المعجزات.
قيل (٣): معناه أن موسى قال: من المنادي؛ قال: إنه أنا الله. وقال أكثر المفسرين: إن الضمير في ﴿إِنَّهُ﴾ ضمير الشأن، وجملة ﴿أَنَا اللَّهُ﴾ جملة مفسرة للشان.
١٠ - وقوله ﴿وَأَلْقِ عَصَاكَ﴾ معطوف على ﴿بُورِكَ﴾، فكلاهما تفسير ﴿نُودِيَ﴾؛ أي: نودي أن بورك من في النار، وأن ألق عصاك.
فإن قلت: لم قال هنا: و ﴿ألق﴾ بدون ذكر أن، وفي القصص بذكرها؟
(٢) المراح.
(٣) الخازن.
قال أبو الليث: الصحيح أن الثعبان كان عند فرعون، والجان عند الطور، وقرأ الحسن (٢) والزهري وعمرو بن عبيد: ﴿جأن﴾ بهمزة مكان الألف، كأنه فر من التقاء الساكنين.
﴿وَلَّى مُدْبِرًا﴾؛ أي: هرب موسى منها مدبرًا؛ أي: رجع وأعرضين عنها هاربًا خوفًا منها. قال في "كشف الأسرار": أي أدبر عنها، وجعلها خلف ظهره. ﴿وَلَمْ يُعَقِّبْ﴾؛ أي: ولم يرجع على عقبه، من عقب المقاتل إذا كر بعد الفر، وإنما اعتراه الرعب؛ لظنّه أن ذلك الأمر أريد به هلاك نفسه، ويدل عليه قوله: ﴿يَا مُوسَى﴾؛ أي: قال الله تعالى: يا موسى ﴿لَا تَخَفْ﴾ من الحية وضررها، أو لا تخف من غيري مطلقًا ثقة بي لقوله: ﴿إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ﴾ أي: عندي ﴿الْمُرْسَلُونَ﴾ في حالة الإيحاء والإرسال، لا في جميع الأوقات، بل حين يوحي إليهم في وقت الخطاب، فإنهم حينئذ مستغرقون في مطالعة شؤون الله تعالى، لا يخطر ببالهم خوف من أحد أصلًا. أما الخوف في غير هذه الحالة فلا يفارقهم، قال النبي عليه السلام: "أنا أخشاكم"،
١١ - ولا يخاف من الملك العدل إلا ظالم، كما قال تعالى: ﴿إِلَّا مَنْ ظَلَمَ﴾ استثناء متصل من ﴿المرسلين﴾؛ أي: إلا من ظلم
(٢) البحر المحيط.
﴿ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا﴾؛ أي: توبة وندما. ﴿بَعْدَ سُوءٍ﴾؛ أي: بعد عمل سوء ﴿فَإِنِّي غَفُورٌ﴾ للتائبين ﴿رَحِيمٌ﴾؛ أي: مشفق عليهم بقبول توبتهم، وهذا تعريض لطيف بما وقع من موسى عليه السلام من وكزه القبطي. و (١) اختار النحاس هذا القول؛ أي: جعله استثناء متصلًا، وقال: علم من عصى منهم فاستثناه، فقال: إلا من ظلم، وإن كنت قد غفرت له كآدم وداود وموسى، ولا مانع من الخوف بعد المغفرة، فإن نبينا - ﷺ - الذي غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر كان يقول: "وددت أني شجرة تعضد".
وقيل: الاستثناء منقطع؛ أي: لكن من ظلم ثم بدل حسنًا بعد سوء. وقيل: الاستثناء من محذوف، تقديره: أي: لا يخاف لدي المرسلون، وإنما يخاف غيرهم ممن ظلم إلا من ظلم ثم بدل حسنًا إلخ. قاله الفراء، ورده النحاس. والمعنى: على الانقطاع؛ أي: لكن (٢) من ظلم من سائر العباد فإنه يخاف إلا إذا تاب فبدل بتوبته حسنًا بعد سوء فإني أغفر له، وأمحو ذنوبه، وجميع آثارها، كما فعل السحرة الذين آمنوا بموسى. وفي هذا بشارة عظيمة لسائر البشر، فإن من عمل ذنبًا ثم أقلع عنه وتاب وأناب فإن الله يتوب عليه، كما قال تعالى: ﴿وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى (٨٢)﴾ وقال: ﴿وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا (١١٠)﴾
وقال أبو حيان: والأظهر (٣) أن قوله: ﴿إِلَّا مَنْ ظُلِمَ﴾: استثناء منقطع؛ إذ الأنبياء معصومون من وقوع الظلم والواقع من غيرهم. وقال الأخفش وأبو عبيدة: ﴿إِلَّا﴾: حرف عطف بمعنى ﴿الواو﴾ في التشريك في اللفظ، والمعنى: والتقدير: ولا من ظلم، وهذا ليسى بشيء؛ لأن معنى ﴿إِلَّا﴾ مباين لمعنى
(٢) المراغي.
(٣) البحر المحيط.
وقرأ أبو جعفر وزيد بن أسلم (١): ﴿إِلَّا مَنْ ظُلِمَ﴾ بفتح الهمزة وتخفيف اللام حرف استفتاح وتنبيه، و ﴿مَنْ﴾ شرطية، وجوابها ﴿فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾. وقرأ الجمهور: ﴿حُسْنًا﴾ بضم الحاء وإسكان السين منونًا. وقرأ محمد بن عيسى الأصبهاني كذلك إلا أنه لم ينون، جعله فعلى فامتنع الصرف، وابن مقسم بضم الحاء والسين منونًا. وقرأ مجاهد وأبو حيوة وابن أبي ليلى والأعمش وأبو عمرو في رواية الجعفي وأبو زيد وعصمة وعبد الوارث وهارون وعياش بفتحهما منونًا.
قال شيخ الإِسلام زكريا: قوله تعالى: ﴿يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ﴾ فإن قلت (٢): قال ذلك هنا، وقال في سورة القصص: ﴿يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ﴾ بزيادة ﴿أَقْبِلْ﴾، فلم خالف بين الموضعين؟
قلتُ: لأن ما هنا بني عليه كلام يناسبه، وهو ﴿إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ﴾ فناسبه الحذف، وما هناك لم يبن عليه شيء فناسبه زيادة ﴿أَقْبِلْ﴾ جبرًا له، وليكون في مقابلة مدبرًا؛ أي: أقبل آمنًا غير مدبر ولا تخف.
وقال أيضًا: قوله تعالى: ﴿إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (١٠) إِلَّا مَنْ ظَلَمَ...﴾ الآية، إن قلت: كيف وجه صحة الاستثناء فيه مع أن الأنبياء معصومون من المعاصي؟
قلتُ: الاستثناء منقطع؛ أي: لكن من ظلم من غير الأنبياء فإنه يخاف، فإن تاب وبدل حسنًا بعد سوء فإني غفور رحيم، أو متصل يحمل الظلم على ما يصدر من الأنبياء من ترك الأفضل، أو ﴿إِلَّا﴾ بمعنى: ولا، كما في قوله تعالى: ﴿لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ وإنما خص المرسلين بالذكر؛ لأن الكلام في قصة موسى وكان من المرسلين، وإلا فسائر الأنبياء كذلك وإن لم يكن بعضهم رسلًا.
(٢) فتح الرحمن.
﴿تَخْرُجْ﴾ يدك حالة كونها ﴿بَيْضَاءَ﴾؛ أي: براقة لها شعاع كشعاع الشمس؛ أي: إن أدخلتها تخرج على هذه الصفة ﴿مِنْ غَيْرِ سُوءٍ﴾؛ أي: من غير آفة وعلة ومرض، كبرص وبهق ونحوهما مما يبيض الجسم.
فإن قلت: لِمَ (٢) ثم أتى هنا بلفظ ﴿أَدْخِلْ﴾، وفي القصص بلفظ ﴿اسْلُكْ﴾ هو فلم خالف بين الموضعين؟
قلتُ: أتى هنا بلفظ ﴿أَدْخِلْ﴾ وهناك بلفظ ﴿اسْلُكْ﴾؛ لأن الإدخال أبلغ من السلوك؛ لأن ماضيه أكثر حروفًا من ماضي السلوك، فناسب ﴿أَدْخِلْ﴾ كثرة الآيات في قوله: ﴿تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ﴾؛ أي: معها مرسلًا إلى فرعون، وناسب ﴿اسلك﴾ قلتها، وهي سلوك اليد وضم الجناح المعبر عنهما بقوله: ﴿فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ﴾.
وقوله: ﴿فِي تِسْعِ آيَاتٍ﴾ خبر لمبتدأ محذوف؛ أي: هاتان الآيتان المذكورتان؛ الأولى منهما تغيير ما في يده، وقلبها من جماد إلى حيوان، والثانية تغيير يده نفسها، وقلب أوصافها إلى أوصاف أخرى نورانية؛ أي (٣): هما داخلتان في جملة تسع آيات، فتكون الآيات تسعًا بالعصا واليد؛ وهن: العصا، واليد البيضاء، والجدب في البوادي، ونقص الثمرات، والطوفان، والجراد، والقمل، والدم، والضفادع، حالة كونك مبعوثًا بها ﴿إِلَى فِرْعَوْنَ﴾ اللعين ﴿وَقَوْمِهِ﴾
(٢) فتح الرحمن.
(٣) روح البيان.
والظاهر (١): أن قوله: ﴿إِلَى فِرْعَوْنَ﴾ متعلق بمحذوف حال من فاعل ﴿أَلْقِ﴾ و ﴿أَدْخِلْ﴾، وأن قوله: ﴿فِي تِسْعِ﴾ متعلق بمحذوف حال من مفعولهما؛ أي: ألق عصاك، وأدخل يدك حالة كون العصا واليد مع جملة الآيات التسع، فإن الآيات إحدى عشرة: العصا واليد، والفلق، والطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، والطمسة، والجدب في بواديهم، والنقصان في مزارعهم، وحالة كونك مرسلًا بها إلى فرعون وقومه القبط إنهم كانوا قومًا خارجين عن ربقة الانقياد لأمري والعبودية لألوهيتي.
فإن قلت: قال هنا (٢): بلفظ ﴿وَقَوْمِهِ﴾، وفي القصص بلفظ ﴿وَمَلَئِهِ﴾ فما الفرق بين الموضعين؟
قلت: الفرق بينهما أن الملأ أشراف القوم، ولم يوصفوا ثَمَّ بما وصف به القوم من قوله: ﴿فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (١٣) وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (١٤)﴾ الآية، فناسب ذكر القوم هنا؛ ليعم هذا الوصف الكل، وذكر الملأ ثم.
١٣ - و ﴿الفاء﴾ في قوله: ﴿فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآيَاتِنَا﴾ للإفصاح؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفت أنا بعثناه إلى فرعون وقومه في تسع آيات، وأردت بيان حالهم حين جاءهم موسى بآياتنا.. فأقول لك: لما جاءهم موسى بآياتنا التسع، وظهرت على يده حالة كون تلك الآيات ﴿مُبْصِرَةً﴾؛ أي: مستنيرة واضحة. وعبارة "الجمل"؛ أي: مضيئة إضاءة معنوية في كلها، وحسية أيضًا في بعضها؛ وهو اليد. اهـ. شيخنا.
(٢) فتح الرحمن.
وقرأ علي بن الحسين وقتادة مبصرة بفتح الميم والصاد؛ أي: مكانًا يكثر فيه البصر.
١٤ - ثم بين أن هذا التكذيب إنما كان باللسان فحسب، لا بالقلب، فقال: ﴿وَجَحَدُوا بِهَا﴾؛ أي: وكذبوا بتلك الآيات بألسنتهم، ولم يقروا أنها من عند الله سبحانه، والواو: في قوله: ﴿وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ﴾ للحال؛ أي: وقد أيقنتها أنفسهم، وعلمتها قلوبهم وضمائرهم علمًا يقينيًا أنها من عند الله وليست بسحر؛ أي: كذبوها بألسنتهم حالة كون أنفسهم مستيقنة لها. قال أبو الليث: وإنما استيقنتها قلوبهم؛ لأن كل آية رأوها استغاثوا بموسى، وسألوا منه بأن يكشف عنهم، فكشف عنهم، فظهر لهم بذلك أنها من الله تعالى.
وقوله: ﴿ظُلْمًا﴾ نفسانيًا ﴿وَعُلُوًّا﴾؛ أي: استكبارًا شيطانيًا، علتان لـ ﴿جَحَدُوا﴾؛ أي: جحدوا بها ظلما لتلك الآيات؛ إذ حطوها عن مرتبتها العالية، وسموها سحرًا وعلوًا؛ أي: ترفعًا عن الإيمان بها، وهم يعلمون أنها من الله سبحانه، أو حالان من ﴿الواو﴾ في ﴿وَجَحَدُوا﴾؛ أي: حالة كونهم ظالمين لتلك الآيات ومترفعين عن الإيمان بها.
وقرأ عبد الله وابن وثاب والأعمش وطلحة وأبان بن تغلب: ﴿وعليًا﴾ بقلب ﴿الواو﴾ ياء، وكسر العين واللام، وأصله فعول، لكنهم كسروا العين إتباعًا. وروي ضمها عن ابن وثاب والأعمش وطلحة. والمعنى: أي وكذبوا بها
(٢) المراغي.
والخلاصة: أنهم تكبروا عن أن يؤمنوا بها، وهم يعلمون أنها من عند الله يسبحانه وتعالى. ﴿فَانْظُرْ﴾ يا محمد وفكر ﴿كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ﴾ في الأرض وهو الإغراق في الدنيا والإحراق في الآخرة، أي فانظر أيها الرسول ما آل إليه أمر فرعون وقومه من الإغراق على الوجه الذي فيه العبر للظالمين ومن إخراجهم من الجنات والعيون والزروع والمقام الكريم.
وفي هذا تحذير للمكذبين بمحمد - ﷺ - الجاحدين لما جاء به من عند ربه أن يصيبهم مثل ما أصاب أولئك؛ لعلهم يقلعون عن عنادهم واستكبارهم حتى لا تنزل بهم القوارع، ويأخذهم العذاب من حيث لا يشعرون، فمن قدر على إهلاك فرعون كان قادرًا على إهلاك من هو على صفته، وذلك إلى يوم القيامة، فإن جلال الله سبحانه دائم للأعداء، كما أن جماله باق للأولياء، مستمر في كل عصر وزمان، فعلى العاقل أن يتعظ بحال غيره، ويترك الأسباب المؤدية إلى الهلاك مثل الظلم والعلو الذي هو من صفات النفس الأمارة، ويصلح حاله بالعدل والتواضع، وغير ذلك مما هو من ملكات القلب.
قصة داود وسليمان عليهما السلام
١٥ - ولما فرغ سبحانه من قصة موسى شرع في قصة داود بن إيشا وقصة ابنه سليمان عليهما السلام، وهذه القصص وما قبلها وما بعدها هي كالبيان والتقرير لقوله: ﴿وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (٦)﴾ فقال: ﴿و﴾ عزتي وجلالي. ﴿لَقَدْ آتَيْنَا﴾ وأعطينا ﴿دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ﴾ ابنه عليهما السلام ﴿عِلْمًا﴾؛ أي: طائفة عظيمة من العلم، فعلمنا داود صنعة الدروع ولبوس الحرب، وعلمنا سليمان منطق الطير والدواب وتسبيح الجبال ونحو ذلك، مما لم نؤته أحدًا ممن قبلهما، فشكرا الله سبحانه على ما أولاهما من منته ﴿وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا﴾ بما آتانا
تنبيه: وعاش داود مئة سنة، وبينه وبين موسى خمس مئة وتسع وستون سنة. وعاش سليمان نيفًا وخمسين سنة، وبينه وبين محمد ألف وسبع مئة سنة. اهـ. شيخنا نقلًا عن "التجيير".
فائدة: قال في "مشكاة الأنوار": قالت نملة لسليمان عليه السلام: يا نبي الله أتدري لم صار اسم أبيك داود، واسمك سليمان؟ قال: لا. قالت: لأن أباك داوى قلبه عن جراحة الالتفات إلى غير الله سبحانه فَوُدَّ، وأنت سليم تصغير سليم آن لك، أي: حان لك أن تلحق بأبيك، انتهى.
فائدة أخرى: وعلم (١) سبحانه وتعالى سبعة أنفار سبعة أشياء: علم آدم أسماء الأشياء، فكان سببًا في حصول السجود والتحية، وعلم الخضر علم الفراسة، فكان سببًا لوجدان موسى ويوشع تلميذًا له، وعلم يوسف التعبير، فكان سببًا لوجدان الأهل والمملكة، وعلم داود صنعة الدروع، فكان سببًا لوجدان الرياسة والدرجة، وعلم سليمان منطق الطير فكان سببًا لوجدان بلقيس، وعلم عيسى الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل، فكان سببًا لزوال التهمة عن الشر، وعلم محمدًا - ﷺ - الشرع والتوحيد، فكان سببًا لوجود الشفاعة.
وقال الزمخشري: قوله: ﴿وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾ فإن قلت: أليس (٢) هذا موضع الفاء دون ﴿الواو﴾، كقولك: أعطيته فشكر، ومنعته فصبر؟
قلت: بلى، ولكن عطفه بالواو إشعارًا بأن ما قالاه بعض ما أحدث فيهما إيتاء العلم، وشيء من موجبه، فاضر ذلك، ثم عطف عليه التحميد، كأنه قال: ولقد آتيناهما علمًا فعملا به وعلماه، وعرفا حق النعمة فيه والفضيلة، وقالا الحمد لله. والكثير المفضل عليه من لم يؤت علمًا، أو من لم يؤت مثل علمهما، كذا قال أبو حيان. وقال غيره: والمفضل عليه من لم يؤت مثل علمهما، لا من
(٢) الكشاف.
وقال الماوردي: المراد بقوله: ﴿عِلْمًا﴾ علم الكيمياء، وذلك لأنه من علوم الأنبياء والمرسلين والأولياء العارفين، والكيمياء في الحقيقة القناعة بالموجود، وترك التشوق إلى المفقود. وفي الآية إيماء (١) إلى فضل العلم وشرف أهله، وأن نعمة العلم من أجل النعم التي ينعم الله بها على عباده، وأن من أوتيه فقد أوتي فضلًا على كثير من العباد، ومنحا شرفًا جليلًا حيث شكرا عليه، وجعلاه أساس الفضل، ولم يعتبرا شيئًا دونه مما أوتياه من الملك العظيم.
﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾ وفيها تحريض للعلماء على أن يحمدوا الله على ما آتاهم من فضله، وأن يتواضعوا، ويعتقدوا أن في عباد الله من يفضلهم فيه، وفوق كل ذي علم عليم، ونعم ما قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه: كل الناس أفقه من عمر.
وروي (٢): أن رجلًا سأل رسول الله - ﷺ - عن أفضل الأعمال؟ فقال: "العلم بالله والفقه في دينه". وكررهما عليه، فقال يا رسول الله أسألك عن العمل؟ فتخبرني عن العلم، فقال: "إن العلم ينفعك معه قليل من العمل، وإن الجهل لا ينفعك معه كثير العمل". والمتعبد بغير علم كحمار الطاحونة، يدور ولا يقطع المسافة.
وهذا التفضيل سبب لمزيد الحمد والشكر لله تعالى، فإن الثناء بقدر الموهبة والعطية، نحمد الله تعالى على آلائه ونعمائه، ونستزيد العلم وقطراته من دَأْمَائِه، ونسأله التوفيق في طريق التحقيق، والثبات على العمل الصالح بالعلم النافع الذي هو للهوى قامع، وللشهوات دافع، إنه المتفضل المنعم الكبير والوهاب الفياض الرحيم.
١٦ - ﴿وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ﴾ بن داود أباه ﴿دَاوُودَ﴾ عليهما السلام؛ أي قام مقامه في
(٢) روح البيان.
وقال قتادة في معنى الآية (٢): ورث نبوته وملكه وعلمه، وأعطي ما أعطي داود، وزيد له تسخير الريح والشياطين، وكان أعظم ملكًا منه، وأقضى منه، وكان داود أشد تعبدًا من سليمان، شاكرًا لنعم الله تعالى، اهـ.
ثم ذكر بعض نعم الله عليه، ﴿وَقَالَ﴾؛ أي: سليمان تشهيرًا لنعمة الله تعالى عليه ودعاء للناس إلى الإيمان إلى التصديق به بذكر المعجزات الباهرة التي أوتيها؛ أي: لا فخرًا وتكبرًا.
قال البقلي (٣): إن سليمان عليه السلام أخبر الخلق بما وهبه الله تعالى؛ لأن المتمكن إذا بلغ درجة التمكين يجوز له أن يخبر الخلق بما عنده من موهبة الله؛ لزيادة المؤمنين، وللحجة على المنكرين. قال تعالى: ﴿وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (١١)﴾؛ أي قال سليمان متحدثًا بنعمة ربه ومنبها إلى ما شرفه به يكون أجدر ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا﴾ (النون) (٤) نون الواحد المطاع على عادة الملوك، فإنهم متكلمون مثل ذلك، رعاية لقاعدة السياسة، لا تكبرًا وتجبرًا. وكذا في ﴿وَأُوتِينَا﴾ وقال بعضهم: ﴿عُلِّمْنَا﴾؛ أي: أنا وأبي، وهذا ينافي اختصاص سليمان بفهم منطق الطير على ما هو المشهور؛ أي: علمنا الله سبحانه وتعالى ﴿مَنْطِقَ الطَّيْرِ﴾؛ أي: صوت الطير؛ أي: قال سليمان مخاطبًا للناس، تحدثًا بما أنعم الله به عليه،
(٢) المراغي.
(٣) روح البيان.
(٤) روح البيان.
وقدم منطق الطير (١)؛ لأنها نعمة خاصة به لا يشاركه فيها غيره. قال جماعة من المفسرين: إنه علم منطق جميع الحيوانات، وإنما ذكر الطير؛ لأنه كان جندًا من جنوده يسير معه لتظليله من الشمس. وقال قتادة والشعبي: إنما علم منطق الطير خاصة، ولا يعترض ذلك بالنملة، فإنها من جملة الطير، وكثيرًا ما تخرج لها أجنحة فتطير، وكذلك كانت هذه النملة التي سمع كلامها وفهمه.
وسميت (٢) أصوات الطير منطقًا اعتبارًا بسليمان الذي كان يفهمه، فمن فهم من شيء معنى.. فذلك الشيء بالنسبة إليه ناطق وإن كان صامتًا، وبالنسبة إلى من لا يفهم عنه صامت وإن كان ناطقًا.
وقد اجتهد (٣) كثير من الباحثين في العصر الحاضر فعرفوا كثيرًا من لغات الطيور؛ أي: تنوع أصواتها لأداء أغراضها المختلفة، من حزن وفرح، وحاجة إلى طعام وشراب، واستغاثة من عدو إلى نحو ذلك من الأغراض القليلة التي جعلها الله سبحانه للطير.
وفي هذا معجزة لكتابه الكريم؛ لقوله في آخر السورة: ﴿وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا﴾.
وإنك لتعجب إذ ترى اليوم أن كثيرًا من الأمم تبحث في لغات الطيور والحيوان والحشرات، كالنمل والنحل، وتبحث في تنوع أصواتها لتنوع أغراضها، فكأنه تعالى يقول: إنكم لا تعرفون لغات الطيور الآن، وعلمتها سليمان، وسيأتي يوم ينتشر فيه علم أحوال مخلوقاتي، ويطلع الناس على عجائب صنعي فيها.
(٢) روح البيان.
(٣) المراغي.
فإن قلت: كيف (١) سوى بينه في قوله: ﴿مِنْ كُلِّ شَيْءٍ﴾ وبين بلقيس في قول الهدهد ﴿وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ﴾؟
قلتُ: الفرق بينهما أنها أوتيت من كل شيء من أسباب الدنيا فقط؛ لعطف ذلك على تملكهم، وسليمان أوتي من كل شيء من أسباب الدين والدنيا؛ لعطف ذلك على المعجزة؛ وهي: ﴿مَنْطِقَ الطَّيْرِ﴾
قال مقاتل: كان سليمان عليه السلام جالسًا إذ مر به طير يصوت، فقال لجلسائه: هل تدرون ما يقول هذا الطائر الذي مر بنا؟ قالوا: أنت أعلم. قال سليمان: إنه قال لي: السلام عليك أيها الملك المسلط على بني إسرائيل، أعطاك الله الكرامة، وأظهرك على عدوك، إني منطلق إلى فروخي، ثم أمر بك الثانية. وإنه سيرجع إلينا الثانية، فانظروا إلى رجوعه، قال: فنظر القوم إذ مر بهم، فقال: السلام عليك أيها الملك، إن شئت إيذن لي كيما أكتسب على فروخي حتى أشبعها ثم آتيك، فتفعل ما شئت، فأخبرهم سليمان بما قال، فأذن له.
﴿إِنَّ هَذَا﴾ المذكور من التعليم والإيتاء ﴿لَهُوَ الْفَضْلُ﴾ والإحسان من الله تعالى ﴿الْمُبِينُ﴾؛ أي: الواضح الذي لا يخفى على أحد. وفي "الوسيط": لهو الزيادة الظاهرة على ما أعطي غيرنا، قاله على سبيل الشكر والحمد، كما قال
١٧ - ﴿وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ﴾؛ أي: جمع له بقهر وإكراه بأيسر أمر ﴿جُنُودُهُ﴾ وعساكره ﴿مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ﴾ من مختلف النواحي؛ ليحارب بهم من لم يدخل في طاعته، وإنما (١) قال: ﴿جُنُودُهُ﴾؛ لاختلاف أجناس عساكره، فكل جنس من الخلق جند على حدة، قال تعالى: ﴿وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ﴾ فالبعوض لنمرود جند، والأبابيل لأصحاب الفيل جند، والمعنى: أخرج لسليمان وجمع له عساكره في مسير وسفر كان له من الشام إلى طرف اليمن.
وفي "فتح الرحمن": من إِصطخر إلى اليمن، وإِصطخر - بكسر الهمزة وفتح الخاء - بلدة من بلاد فارس كانت دار السلطنة لسليمان عليه السلام. من الجن والإنس والطير؛ أي: جمع له بمباشرة الرؤساء من كل جنس؛ لأنه كان إذا أراد سفرًا أمر فجمع له طوائف من هؤلاء الجنود؛ ليجمعوا له أجناسهم، وقدم الجن للمسارعة إلى الإيذان بكمال قوة ملكه من أول أمر؛ لما أن الجن طائفة طاغية بعيدة من الحشر والتسخير ﴿فَهُمْ يُوزَعُونَ﴾؛ أي: يحبسون ويمنعون من الانتشار والتفرق، حتى يرد أولهم على آخرهم، من الوزع بمعنى الكف والمنع عن التفرق والانتشار. والوازع الذي يكف الجيش عن الانتشار، ويكف الرعية عن التظالم والفساد، وجمعه وزعة، والمعنى يحبس أوائلهم على أواخرهم ليتلاحقوا، ويجتمعوا ولا ينتشروا حتى ساقوا، كما هو حال الجيش الكثير، وكان لكل صنف من جنوده وزعة ومنعة ترد أولادهم على أخراهم صيانة من التفرق.
قال محمد بن القرظي (٢): كان مُعَسْكَرُ سليمان عليه السلام مئة فرسخ في مئة فرسخ، خمسة وعشرون للإنس، وخمسة وعشرون للجن، وخمس وعشرون للطير، وخمسة وعشرون للوحش، وكان له ألف بيت من القوارير مصنوعة على الخشب، فيها ثلاث مئة منكوحة؛ يعني حرة، وسبع مئة سرية. وقد نسجت له
(٢) الفتوحات.
وفي "أبي السعود" قوله: ﴿فَهُمْ يُوزَعُونَ﴾؛ أي: يحبس أوائلهم على أواخرهم؛ أي: يوقف أوائل العسكر حتى يلحقهم الأواخر، فيكونون مجتمعين لا يتخلف منهم أحد، وذلك للكثرة العظيمة. ويجوز أن يكون ذلك لترتيب الصفوف، كما هو المعتاد في العساكر، وفيه إشعار بكمال مسارعتهم إلى السير، وتخصيص حبس أوائلهم بالذكر دون سوق آخرهم مع أن التلاحق يحصل بذلك أيضًا؛ لما أن أواخرهم غير قادرين على ما يقدر عليه أوائلهم من السير السريع، وهذا كله إذا لم يكن سيرهم بتيسير الله الريح في الجو، اهـ.
١٨ - ﴿حَتَّى﴾: ابتدائية؛ لدخولها على الجملة، وغائية؛ لكونها غاية لمحذوف يدل عليه قوله: ﴿فَهُمْ يُوزَعُونَ﴾ تقديره: فساروا حتى ﴿إِذَا أَتَوْا﴾ أي: ساروا مشاة على الأرض، وركبانًا حتى إذا أتوا وأشرفوا ﴿عَلَى وَادِ النَّمْلِ﴾ من فوق، وبلغوا آخره، ولعلهم أرادوا أن ينزلوا عند منتهى الوادي؛ إذ حينئذ يخافهم ما في الأرض لا عند مسيرهم في الهواء، كما في "الإرشاد"، ولعل هذه القصة قبل تسخير الله له الريح. والوادي مسيل الماء، والنمل معروف، الواحدة نملة.
ومعنى واد النمل (١): وادٍ يكثر فيه النمل، كما يقال: بلاد الثلج لبلد يكثر فيه الثلج، والمراد هنا: واد بالشام أو بالطائف كثير النمل، والمشهور أنه النمل الصغير. وقيل: كان نمل ذلك المكان كالذئاب والبخاتي، ولذا قال بعضهم: ﴿في وادي النمل﴾: هو واد يسكنه الجن والنمل مراكبهم، ووقف القراء (٢) جميعهم على ﴿وَادِ﴾ بدون ياء إتباعًا للرسم، حيث لم يكن الحذف عندهم
(٢) زاد المسير.
والمعنى: فهم يسيرون ممنوعًا بعضهم من مفارقة بعض، حتى إذا أتوا على وادٍ النمل، وقطعوه، وبلغوا آخره، وأرادوا النزول. ﴿قَالَتْ نَمْلَةٌ﴾ من نمال الوادي؛ وهي ملكة النملة، وكانت عرجاء ذات جناحين في عظم الديك، أو النعجة، أو الذئب، واسمها منذرة أو طاخية، أو جرمى، سميت بهذا الاسم في التوراة أو في الإنجيل، أو في بعض الصحف الإلهية، سماها الله تعالى بهذا الاسم، وعرفها به الأنبياء قبل سليمان، وخصت بالتسمية لنطقها، وإلا فكيف يتصور أن يكون للنملة اسم علم، والنمل لا يسمي بعضهم بعضًا، ولا يتميز للآدميين صورة بعضهم من بعض حتى يسمونهم، ولا هم واقعون تحت ملك بني آدم كالخيل والكلاب ونحوهما، كما في كتاب التعريف والأعلام للسهيلي رحمه الله، وهي من الحيونات التي تدخل الجنة.
أي: قالت قولًا مشتملًا على حروف وأصوات على وجه النصيحة، وهو جواب ﴿إِذَا﴾.
﴿يَاأَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ﴾؛ أي: حجركم ﴿لَا يَحْطِمَنَّكُمْ﴾؛ أي: لا يكسرنكم من الحطم؛ وهو الكسر. ﴿سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ﴾ يحطمنكم، ولا يعلمون بمكانكم، والجملة الاسمية حال من فاعل ﴿يَحْطِمَنَّكُمْ﴾؛ أي: والحال (١) أنهم لا يشعرون أنهم يحطمونكم؛ إذ لو شعروا لم يفعلوا؛ أي: إن من عدل سليمان وفضله وفضل جنوده أنهم لا يحطمون نملة فما فوقها إلا بأن لا يشعروا، كأنها شعرت عصمة الأنبياء من الظلم والأذى إلا على سبيل السهو.
وجعل خطاب النمل كخطاب العقلاء؛ لفهمها لذلك الخطاب، وجملة ﴿لَا يَحْطِمَنَّكُمْ﴾ نهي لهم عن الحطم، والمراد: نهيها عن التوقف والتأخر في دخول مساكنهم بحيث يحطمونها، قال مقاتل: سمع سليمان كلامها من ثلاثة أميال،
وقرأ الحسن (١) وطلحة بن مصرف ومعتمر بن سليمان وأبو سليمان التيمي وأبو مجلز وأبو رجاء وعاصم الجحدري: ﴿نمُلة﴾ - بضم الميم - على وزن سمرة، وعن سليمان التيمي ﴿نُمُلة﴾ ونمل بضم النون والميم فيهما، وقرأ شهر بن حوشب وأبي بن كعب وأبو المتوكل وعاصم الجحدري ﴿مسكنكم﴾ على الإفراد، وعن أبي ﴿دخلن مساكنكن لا يحطمنكم﴾ مخففة النون التي قبل الكاف.
وقرأ الحسن وأبو رجاء وقتادة وعيسى بن عُمر الهمداني الكوفي ونوح القاضي: ﴿لا يُحطمنكم﴾ بضم الياء وفتح الحاء وشد الطاء والنون، مضارع حطم المضعف. وقرأ (٢) أبي بن كعب وأبو رجاء: ﴿ليحطمنكم﴾ بغير ألف بعد اللام. وقرأ ابن مسعود ﴿لا يَحْطمكم﴾ بفتح الياء وسكون الحاء وتخفيف الطاء وسكون الميم وحذف النون.
وقرأ عمرو بن العاص وأبان ﴿يَحْطِمَنْكم﴾ بفتح الياء وسكون الحاء والنون ساكنة أيضًا والطاء خفيفة. وقرأ أبو المتوكل وأبو مجلز: ﴿لا يحطمنكم﴾: بفتح الياء وكسر الحاء وتشديد الطاء والنون جميعًا، أصله لا يحتطمنكم من الاحتطام. وقرأ ابن السميقع وابن يعمر وعاصم الجحدري: ﴿يحطمنكم﴾ بضم الياء وسكون الحاء وتخفيف الطاء وتشديد النون من الإحطام.
وفي "القرطبي" (٣): قال الثعلبي: كان للنملة جناحان، فصارت من الطير، فلذلك علم منطقها، ولولا ذلك لما علمه. قال أبو إسحاق الثعلبي: ورأيت في بعض الكتب أن سليمان قال لها: لم حذرت النمل، أخفت من ظلمي أم علمت أني نبي عدل، فلم قلت لا يحطمنكم سليمان وجنوده؟ فقالت النملة: أما سمعت قولي وهم لا يشعرون، مع أني لم أرد حطم النفوس، وإنما أردت حطم القلوب
(٢) زاد المسير.
(٣) القرطبي.
أَلَمْ تَرَنَا نَهْدِيْ إِلَى اللهِ مَالَهُ | وَإِنْ كَانَ عَنْهُ ذَا غِنًى فَهْوَ قَابِلُهْ |
وَلَوْ كَانَ يُهْدَى لِلْجَلِيْلِ بِقَدْرِهِ | لأَقْصَرَ عَنْهُ الْبَحْرُ يَوْمًا وَسَاحِلُهْ |
وَلَكِنَّنَا نَهْدِيْ إِلَى مَنْ نُحِبُّهُ | فَيَرْضَى بِهَا عَنَّا وَيُشْكَرُ فَاعِلُهْ |
وَمَا ذَاكَ إِلَّا مِنْ كَرِيْمِ فِعَالِهِ | وِإِلَّا فَمَا فِيْ مُلْكِنَا مَا يُشَاكِلُهْ |
وحكى الزمخشري عن أبي حنيفة - رحمه الله -: أنه وقف على قتادة، وهو يقول: سلوني، فأمر أبو حنيفة شخصًا أن يسأل قتادة عن نملة سليمان، هل كانت ذكرأ أو أنثى؟ فلم يجب قتادة، فقيل لأبي حنيفة في ذلك، فقال: كانت أنثى، واستدل على ذلك بلحاق علامة التأنيث بالفعل المسند إليه. اهـ. ورده بعضهم؛ لأنه يصح أن يقال في الذكر: قالت نملة على إرادة الواحدة.
قال بعضهم: ضحك سليمان كان ظاهره تعجبًا من قول النملة، وباطنه فرحًا بما أعطاه الله سبحانه من فهم كلام النملة، وسرورًا بشهرة حاله وحال جنوده في باب التقوى والشفقة فيما بين أصناف المخلوقات، فإنه لا يسر نبي بأمر الدنيا وإنما كان يسر بما كان من أمر الدين. وقرأ ابن السمقيع: ﴿ضحكا﴾ جعله مصدرًا؛ لأن تبسم بمعنى ضحك، فانتصابه على المصدرية، أو على أنه مصدر في موضع الحال كقراءة ﴿ضَاحِكًا﴾.
﴿وَقَالَ﴾ سليمان ﴿رَبِّ أَوْزِعْنِي﴾ أي: ألهمني، وفقني. وقرأ البزي وورش بفتح ياء ﴿أَوْزِعْنِي﴾. ﴿أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ﴾ بها ﴿عَلَيَّ﴾ من النبوة والملك والعلم والعدل وفهم كلام الطير ونحوها. ﴿وَ﴾ أنعمت بها ﴿عَلَى وَالِدَيَّ﴾ أي: والدي ووالدتي، وأدرج فيه (٣) ذكر والديه تكثيرًا للنعمة أو تعميمًا لها، فإن النعمة عليهما نعمة عليه والنعمة عليه يرجع نفعها إليهما، لا سيما الدينية. اهـ "بيضاوي".
قال أهل الكتاب (٤): وأمه هي زوجة أوريا بوزن قوتلا التي امتحن الله سبحانه بها داود.
أي (٥): وأنعمت بها على والدي داود بن إيشا بالنبوة، وتسبيح الجبال
(٢) روح البيان.
(٣) البيضاوي.
(٤) القرطبي.
(٥) روح البيان.
قال ابن قتيبة (١): معنى ﴿أَوْزِعْنِي﴾: ألهمني، وأصل الإيزاع: الإغراء بالشيء، يقال: أوزعته بكذا؛ أي: أغريته به، وهو موزع بكذا، مولع بكذا. وقال الزجاج: تأويله في اللغة: كفني عن الأشياء، إلا عن شكر نعمتك. والمعنى: كفني عما يباعدني منك.
﴿و﴾ ألهمني ﴿وَأَنْ أَعْمَلَ﴾ عملًا ﴿صَالِحًا﴾ أي: مخلصًا لوجهك ﴿تَرْضَاهُ﴾؛ أي: تقبله منى قيد العمل الصالح بذلك؛ لأن العمل الصالح قد لا يرضاه المنعم لنقص في العامل، كما قيل:
إِذَا كَانَ الْمُحِبُّ قَلِيْلَ حَظٍّ | فَمَا حَسَنَاتُهُ إِلَّا ذُنُوْبُ |
فإن قيل (٢): درجات الأنبياء أفضل من درجات الصالحين، فما السبب في أن الأنبياء يطلبون جعلهم من الصالحين، وقد تمنى يوسف عليه السلام ذلك بقوله: ﴿فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ﴾؟
(٢) الفتوحات.
وإصلاح الله تعالى (١) الإنسان يكون تارة بخلقه إياه صالحًا، وتارة بإزالة ما فيه من الفساد، والأول أعز وأندر.
٢٠ - ﴿وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ﴾ والتفقد: تطلب ما غاب عنك، وتعرف أحواله. والطير: اسم جنس لكل ما يطير، وكانت تصحبه في سفره، وتظله بأجنحتها؛ أي: تعرف سليمان أحوال الطير، وبحث عنها - فلم ير الهدهد فيما بينها، أي (٢): نزل سليمان منزلًا، واحتاج إلى الماء، فطلبوه فلم يجدوه، فطلب الهدهد ليدل على الماء؛ لأنه يعرف موضع الماء قربه وبعده، فينقر الأرض ثم تجيء الشياطين فيحفرونها ويستخرجون الماء في ساعة يسيرة. ﴿فَقَالَ﴾ سليمان ﴿مَا لِيَ﴾؛ أي: أي شيء ثبت لي حال كوني ﴿لَا أَرَى الْهُدْهُدَ﴾ وكان رئيس الهداهد، واسمه يعفور، وقيل: عنبر، كما أخرج ابن أبي حاتم عن الحسن؛ أي: ما لي لا أراه، هل ذلك لساتر ستره عني، أو لشيء آخر؛ ثم ظهر له أنه غائب، فقال: ﴿أَمْ كَانَ﴾؛ أي الهدهد ﴿مِنَ الْغَائِبِينَ﴾ أي: من الذين غابوا عني، و ﴿أَمْ﴾ هي المنقطعة التي تقدر ببل وبالهمزة. أي (٣): بل أكان من الغائبين، كأنه لما لم يره ظن أنه حاضر، ولا يراه لساتر أو غيره، فقال: ما لي لا أراه، ثم احتاط فلاح له أنه غائب، فأضرب عن ذلك، وأخذ يقول: أهو غائب، كأنه يسأل عن صحة ما لاح له.
والصحيح (٤): أن ﴿أَمْ﴾ في هذا الموضع هي المنقطعة؛ لأن شرط المتصلة تقدم همزة الاستفهام، فلو تقدمها أداة الاستفهام غير الهمزة كانت أم منقطعة، وهنا تقدم عليها ﴿ما﴾ ففات شرط المتصلة.
(٢) المراح.
(٣) البيضاوي.
(٤) البحر المحيط الشوكاني وزاد المسير.
(٥) البحر المحيط الشوكاني وزاد المسير.
وخلاصة ذلك: اْغاب عني الهدهد الآن، فلم أره حين تفقدته، أم كان قد غاب من قبل ولم أشعر بغيبته.
وفي "التأويلات النجمية": يشير إلى أن الواجب على الملوك التيقظ في مملكتهم وحسن قيامهم وتكفلهم بأمور رعاياهم، وتفقد أصغر رعيتهم، كما يتفقدون أكبرها بحيث لم يخف عليهم غيبة الأصاغر والأكابر منهم، كما أن سليمان تفقد حال أصغر طير من الطيور، ولم يخف عليه غيبته ساعة، ثم غاية شفقته على الرعية أحال النقص والتقصير إلى نفسه، فقال: ﴿مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ﴾ وما قال: ما للهدهد لم أره؛ لرعاية مصالح الرعية، وتأديبهم، قال: ﴿أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ﴾ يعني: من الذين غابوا عني بلا إذني.
روي: أن سليمان عليه السلام لما فرغ من بناء بيت المقدس.. تجهز للحج، فوافى الحرم، وأقام به ما شاء، وكان ينحر في كل يوم طول مقامه فيه خمسة آلاف ناقة، وخمسة آلاف بقرة، وعشرين ألف شاة، ثم عزم على السير إلى اليمن، فخرج من مكة صباحًا، فوافى صنعاء وقت الزوال، فرأى أرضًا حسناء أعجبته خضرتها، فنزل بها ليتغذى ويصلي، فلم يجد الماء، فتفقد الهدهد، وكان حين اشتغل سليمان بالنزول ارتفع نحو السماء، فنزل إلى بستان بلقيس، فإذا هو بهدهد آخر، وكان اسم هدهد سليمان يعفور، وهدهد اليمن عفير، فقال: عفير ليعفور: من أين أقبلت؟ قال: أقبلت من الشام مع صاحبي سليمان بن داود، قال: ومن سليمان؟ قال: ملك الإنس والجن والشياطين، والطير والوحش والرياح، قال يعفور: ومن ملك هذه البلاد؟ قال عفير: امرأة يقال لها: بلقيس، وإن - لصاحبك ملكًا عظيمًا، ولكن ليس ملك بلقيس دونه،
٢١ - فلما دخل العصر سأل سليمان الإنس والجن والشياطين عن الماء، فلم يعلموا، فتفقد الهدهد فلم يره فدعا عريف الطير؛ وهو النسر، فسأله عن الهدهد، فقال: أصلح الله الملك ما أدري أين هو، وما أرسلته إلى مكان! فغضب سيلمان عند ذلك، وقال: ﴿لَأُعَذِّبَنَّهُ﴾؛ أي: والله لأعذبن الهدهد بسبب غيبته فيما لم آذن فيه، ﴿عَذَابًا شَدِيدًا﴾؛ أي: عذابًا موجعًا بنتف ريشه وإلقائه في الشمس، أو حيث النمل تأكله، أو جعله مع ضده في قفص، فهذا عذاب الطير، ﴿أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ﴾ بالسكين، ليعتبر به أبناء جنسه، ﴿أَوْ لَيَأْتِيَنِّي﴾ الهدهد ﴿بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ﴾؛ أي: بحجة تبين عذره، فلا أذبح ولا أعذب، يشير (١) إلى أن حفظ المملكة يكون بكمال السياسة، وكمال العدل، فلا يتجاوز عن جرم المجرمين، ويقبل منهم العذر الواضح بعد البحث عنه، والحلف في الحقيقة على أحد الأولين على عدم الثالث، فكلمة ﴿أَو﴾ بين الأولين للتخيير، وفي الثالث للترديد بينه وبينهما.
وفيه (٢): دليل على الإغلاظ على العاصين وعقابهم، وبدأ أولًا بأخف العقابين؛ وهو التعذيب، ثم أتبعه بالأشد؛ وهو إذهاب المهجة بالذبح، وأقسم على هذين؛ لأنهما من فعله، وأقسم على الإتيان بالسلطان وليس من فعله لما نظم الثلاثة في الحكم بـ ﴿أَو﴾، كأنه قال: ليكونن أحد الثلاثة.
ثم دعا العقاب (٣)؛ وهو أشد الطير طيرانًا، فقال له: على بالهدهد الساعة، فارتفع العقاب في الهواء، فالتفت يمينًا وشمالًا، فرأى الهدهد من نحو اليمن، فانقض العقاب نحوه، يريده، وعلم الهدهد أن العقاب يقصده بسوء، فقال: بحق الله الذي قواك، وأقدرك علي، وإلا ما رحمتني، ولم تتعرض لي بسوء، فتركه
(٢) البحر المحيط.
(٣) المراح.
قرأ (١) ابن كثير وحده بنون التوكيد المشددة بعدها نون الوقاية. وقرأ الباقون بنون مشددة فقط؛ وهي نون التوكيد. وقرأ عيسى بن عمر بنون مشددة مفتوحة غير موصولة بالياء. وقرأ الجمهور: ﴿أَوْ لَيَأْتِيَنِّي﴾ نون مشددة بعدها ياء المتكلم.
قال شيخ الإِسلام (٢): قوله تعالى: ﴿لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (٢١)﴾ توعد به سليمان الهدهد مع أنه غير مكلف بيانًا لكونه خص بذلك، كما خص بعلم منطقه. اهـ.
٢٢ - ﴿فَمَكَثَ﴾ الهدهد بعد تفقد سليمان إياه مكثًا ﴿غَيْرَ بَعِيدٍ﴾ أي: غير طويل، أو مكث زمانًا غير مديد، يشير إلى أن الغيبة، وإن كانت موجبة للعذاب الشديد؛ وهو الحرمان من سعادة الحضور ومنافعه، ولكنه من أمارات السعادة سرعة الرجوع، وتدارك الفائت.
قرأ الجمهور: ﴿فَمَكَثَ﴾: بضم الكاف. وقرأ عاصم وحده بفتحها، ومعناه على القراءتين: أقام زمانًا غير طويل. قال سيبويه: مكث مكوثًا من باب قعد قعودًا. وقيل: إن الضمير في مكث لسليمان. والمعنى: بقي سليمان بعد التفقد والتوعد زمانًا غير طويل، والأول أولى.
وقرأ ابن مسعود: ﴿فتمكث﴾: بزيادة تاء من باب تفعل. ﴿فَقَالَ﴾ معطوف على محذوف تقديره: فمكث الهدهد غير بعيد، فجاء فعوتب على مغيبه، فقال معتذرًا عن ذلك: ﴿أَحَطْتُ﴾ علمًا ومعرفة ﴿بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ﴾ علمًا ومعرفة؛ أي:
(٢) فتح الرحمن.
وقيل: هنا محذوفات تقديرها (٢): فلما قرب الهدهد منه رفع رأسه وأرخى ذنبه وجناحيه يجرهما تواضعًا لسليمان، فلما دنا منه أخذ برأسه فمده إليه، وقال له: أين كنت؟ لأعذبنك عذابًا شديدًا، فقال: يا نبي الله اذكر وقوفك بين يدي الله تعالى، فلما سمع سليمان ذلك ارتعد، وعفا عنه، ثم سأله، فقال: ما الذي أبطأك عني؛ فقال الهدهد: ﴿فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ﴾؛ أي: علمت ما لم تعلم أيها الملك، وبلغت إلى ما لم تبلغ.
وذلك (٣) لأنه كان مما لم يشاهده سليمان، ولم يسمع خبره من الجن والإنس يشار إلى سعة كرم الله تعالى ورحمته بأن يختص طائرًا بعلم ما لم يعلمه نبي مرسل، وهذا لا يقدح في حال النبي - ﷺ - والرسول بأن لا يعلم علمًا غير نافع في النبوة.
والحاصل: أن الذي أحاط به الهدهد كان من الأمور المحسوسة التي لا تعد الإحاطة بها فضيلة، ولا الغفلة عنها نقيصة؛ لعدم توقف إدراكها إلا على مجرد إحساس يستوي فيه العقلاء وغيرهم. وفي "القرطبي": فإن قلت: كيف يخفى على سليمان مكانها، وكانت المسافة بينهما قريبة؛ وهو مسيرة ثلاث مراحل بين صنعاء ومأرب؟ فالجواب أن الله عَزَّ وَجَلَّ أخفى ذلك عنه لمصلحة رآها، كما أخفى مكان يوسف على يعقوب. اهـ.
وفي "الأسئلة المقحمة": هذا سوء أدب في المخاطبة، فكيف واجهه بمثله، وقد احتمله وعفاه؟ والجواب أنه لا بأس به؛ لأنه عقبه بفائدة، والخشونة المصاحبة بفائدة قد يحتملها الأكابر، انتهى.
ثم أشار إلى أنه بصدد إقامة خدمة مهمة له، كما قال: ﴿وَجِئْتُكَ﴾ أيها
(٢) المراح.
(٣) روح البيان.
﴿بِنَبَإٍ﴾؛ أي: بخبر خطير ﴿يَقِينٍ﴾؛ أي: صادق محقق لا شك فيه، يشير إلى أن شرط المخبر أن لا يخبر عن شيء إلا أن يكون متيقنًا فيه لا سيما عند الملوك.
وقرأ الجمهور (١): ﴿مِنْ سَبَإٍ﴾ - بكسر الهمزة مصروفًا هنا -، وفي قوله: ﴿لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ﴾ على جعله اسمًا لحي، أو الموضع، أو للأب، كما في حديث فروة بن مسيك وغيره عن رسول الله - ﷺ -، أنه اسم رجل ولد عشرة من الأولاد، تيامن ستة منهم، وتشاءم أربعة، والستة الذين تيامنوا: حمير، وكندة، والأزد، وأشعر، وخشعم، وبجيلة، والأربعة الذي تشاءموا: لخم، وجذام، وعاملة، وغسان.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بفتح الهمزة غير مصروف فيهما. وقرأ قنبل من طريق النبال بإسكانها فيهما. وقرأت (٢) فرقة: ﴿بنبأ﴾ بألف عوض الهمزة، وكأنها قراءة من قرأ: ﴿لسبا﴾ بالألف لتوازن الكلمتين، كما توازنتا في قراءة من قرأهما بالهمزة المكسور والتنوين.
وقرأ الأعمش: ﴿من سبأ﴾ بكسر الهمزة من غير تنوين، حكاها عنه ابن خالويه وابن عطية. ويبعد توجيهها، وقرأ ابن كثير في رواية: ﴿من سبًا﴾ بتنوين الباء على وزن رحى، جعله مقصورًا مصروفًا. وذكر أبو معاوية أنه قرأ: ﴿من سبْا﴾ بسكون الباء وهمزة مفتوحة غير منونة، بناء على فعلى، فامتنع الصرف للتأنيث اللازم. وروى ابن حبيب عن اليزيدي ﴿من سبأ﴾ بألف ساكنة، كقولهم:
(٢) البحر المحيط.
قال الزمخشري (١): ألهم الله سبحانه الهدهد، فكافح سليمان بهذا الكلام على ما أوتي من فضل النبوة والحكمة، والعلوم الجمة، والإحاطة بالمعلومات الكثيرة ابتلاء له في علمه، وتنبيهًا على أن في أدنى خلقه وأضعفه من أحاط بما لم يحط به سليمان لتتحاقر إليه نفسه، ويصغر إليه علمه، ويكون لطفًا له في ترك الإعجاب الذي هو فتنة العلماء، وأعظم بها فتنة، اهـ.
٢٣ - ولما أبهم الهدهد أولًا، ثم أبهم ثانيًا دون ذلك الإبهام.. صرح بما كان أبهمه، فقال: ﴿إِنِّي وَجَدْتُ﴾ ورأيت ﴿امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ﴾؛ أي: تملك أهل سبأ، وهذه الجملة كالبيان والتفسير للجملة التي قبلها؛ أي: ذلك النبأ اليقين هو كون هذه المرأة تملك هؤلاء.
وإيثار ﴿وَجَدْتُ﴾ على رأيت؛ لأنه أراه عليه السلام كونه عند غيبته بصدد خدمته بإبراز نفسه في معرض من يتفقد أحوال تلك المرأة، كأنها ضالة ليعرضها على سليمان، والضمير في ﴿تَمْلِكُهُمْ﴾ لسبأ على أنه اسم للحي، أو لأهل المدلول عليهم بذكر مدينتهم على أنه اسم لها، يعني أنها تملك الولاية والتصرف عليهم ولم يرد به ملك الرقبة، والمراد بها بلقيس بنت شرحبيل بن مالك بن ريان من نسل يعرب بن قحطان، وكان أبوها ملك أرض اليمن كلها، وورث الملك من أربعين أبًا، ولم يكن له ولد غيرها، فغلبت بعده على الملك، ودانت لها الأمة، وكانت هي وقومها يعبدون النار، وكان أبوها يقول لملوك الأطراف ليس أحد منكم كفؤًا لي، وأبى أن يتزوج منهم، فزوجوه امرأة من الجن يقال لها: قارعة، أو ريحانة بنت السكن، فولدت بلقيس، وتسمى بلقة، وبلقيس - بالكسر -، كما في "القاموس". وذلك يدل على إمكان العلوق بين الإنسي والجني، كما قيل. وذلك لأن الجن وإن كانوا من النار، لكنهم ليسوا بباقين على عنصرهم الناري، كالإنس ليسوا بباقين على عنصرهم الترابي، فيمكن أن يحصل الازدواج
﴿وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ﴾؛ أي: من الأشياء التي يحتاج إليها الملوك، من الخيل وعتاد الحرب والسلاح، والسياسية، والهيبة، والمال، والنعيم ﴿وَلَهَا عَرْشٌ﴾؛ أي: سرير ﴿عَظِيمٌ﴾؛ أي: كبير؛ أي: بالنسبة إلى حالها، أو إلى عروش أمثالها من الملوك. ووصفه (١) بالعظم؛ لأنه كما قيل كان طولها ثمانين ذراعًا في ثمانين ذراعًا، وطوله في الهواء ثمانين ذراعًا، مقدمه من ذهب مفصص بالياقوت الأحمر والزبرجد الأخضر، ومؤخره من فضة مكلل بأنواع الجواهر، له أربع قوائم قائمة من ياقوت أحمر، وقائمة من ياقوت أخضر، وقائمة من زبرجد، وقائمة من در، وصفائح السرير من ذهب، وعليه سبعة أبيات لكل بيت باب مغلق، وكان عليه من الفرش ما يليق به.
والحال: أنه (٢) بين في هذه الآية شؤونهم الدنيوية، وذكر منها ثلاثة أمور:
١ - أن ملكتهم امرأة؛ وهي بلقيس بنت شراحيل، وكان أبوها من قبلهم ملكًا جليل القدر، واسع الملك.
٢ - أنها أوتيت من الثراء وأبهة الملك، وما يلزم ذلك من عتاد الحرب والسلاح، وآلات القتال الشيء الكثير الذي لا يوجد مثله إلا في الممالك العظمى.
٣ - أن لها سريرًا عظيمًا تجلس عليه، مرصعًا بالذهب وأنواع اللآلىء والجواهر، في قصر كبير رفيع الشأن، وفي هذا أكبر الأدلة على عظمة الملك وسعة رقعته، ورفعة شأنه بين الممالك.
(٢) المراغي.
﴿وَزَيَّنَ لَهُمُ﴾؛ أي: حسن لهم ﴿الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ﴾ القبيحة التي هي عبادة الشمس ونظائرها من أصناف الكفر والمعاصي ﴿فَصَدَّهُمْ﴾؛ أي: صدهم الشيطان بسبب ذلك التزين ومنعهم ﴿عَنِ السَّبِيلِ﴾؛ أي: عن طريق الحق والصواب، وهو الإيمان بالله وتوحيده ﴿فَهُمْ﴾؛ أي: تلك المرأة وقومها بسبب صد الشيطان إياهم ﴿لَا يَهْتَدُونَ﴾ إلى ذلك السبيل.
والمعنى: أي لقيتها وقومها في ضلال مبين، فهم يعبدون الشمس لا رب الشمس وخالق الكون، وزين لهم الشيطان أعمالهم القبيحة، فظنوا حسنًا ما ليس بالحسن، وصدهم عن الطريق القويم الذي بعث به الأنبياء والرسل؛ وهو إخلاص السجود والعبادة لله وحده.
٢٥ - وقوله: ﴿أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ﴾: مفعول له للصد على حذف اللام منه؛ أي: فصدهم عن السبيل لئلا يسجدوا لله، وهو ذم لهم على ترك السجود، فلذا وجب السجود عند تمام هذه الآيات.
قرأ الجمهور: ﴿أَلَّا يَسْجُدُوا﴾ بالتشديد (١)، خرجت على أن قوله: ﴿أَلَّا يَسْجُدُوا﴾ في موضع نصب على أن يكون بدلًا من قوله: ﴿أَعْمَالَهُمْ﴾؛ أي: فزين لهم الشيطان ألا يسجدوا، وما بين المبدل منه والبدل معترض، أو في موضع جر على أن يكون بدلًا من ﴿السَّبِيلِ﴾؛ أي: فصدهم عن أن لا يسجدوا، وعلى هذا التخريج تكون ﴿لا﴾ زائدة؛ أي: فصدهم عن أن يسجدوا لله، فيكون قوله: ﴿فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ﴾ معترضًا بين المبدل منه والبدل، ويحتمل أن يكون على تقدير اللام على أنه مفعول به لـ ﴿زين﴾، أو ﴿صدهم﴾؛ أي: زين لهم أعمالهم لئلا
وعلى قراءة الجمهور - أعني التشديد - ليست هذه الآية موضع لسجدة؛ لأن ذلك إخبار عنهم بترك السجود؛ إما بالتزيين، أو بالصد، أو بمنع الاهتداء، وقد رجح كونه علة للصد الزجاج. ورجح الفراء كونه علة لـ ﴿زين﴾. قال: زين لهم أعمالهم لئلا يسجدوا، ثم حذفت اللام.
وقرأ ابن عباس (١) وأبو عبد الرحمن السلمي والحسن والزهري وقتادة وأبو العالية وحميد الأعرج والأعمش وابن أبي عبلة والكسائي ﴿أَلَّا يَسْجُدُوا﴾ بتخفيف ﴿أَلَّا﴾ على معنى: ألا يا هؤلاء اسجدوا فتكون ﴿أَلَّا﴾ على هذه القراءة حرف تنبيه واستفتاح، وما بعدها حرف نداء، والمنادى محذوف، واكتفى منه بـ ﴿يا﴾ و ﴿اسجدوا﴾ فعل أمر، ويكون الوقف على قوله: ﴿ألا يا﴾ والابتداء بـ ﴿اسجدوا﴾. وكان (٢) حق الخط على هذه القراءة أن يكون هكذا ﴿ألا يا اسجدوا﴾، ولكن الصحابة رضي الله عنهم أسقطوا الألف من يا، وهمزة الوصل من ﴿اسجدوا﴾ خطًا، ووصلوا الياء بسين ﴿اسجدوا﴾ فصارت صورة الخط هكذا: ﴿أَلَّا يَسْجُدُوا﴾ والمنادى محذوف، تقديره: ألا يا هؤلاء اسجدوا. وقد حذفت (٣) العرب المنادى كثيرًا من كلامها. ومنه قول الشاعر:
أَلَا يَا أسْلَمِيْ يَا دَارَمَيَّ عَلَى الْبِلَى | وَلاَ زَالَ مُنْهَلًا بِجَرْعَائِكِ الْقَطْرُ |
يَا اسْلَمِيْ يَا هِنْدُ هِنْدَ بَنِيْ بَدْرٍ | وَإِن كَانَ جَبَانًا عِدَا آخِرُ الدَّهْرِ |
(٢) الشوكاني.
(٣) البحر المحيط.
فَقَالَت أَلَا يَا اسْمَعْ أعِظْكَ بِخُطْبَةٍ | فَقُلْتُ سَمِعْنَا فَانْطُقِي وَأَصِيْبِيْ |
وقال الزمخشري: فإن قلت (٣): من أين للهدهد الهدي إلى معرفة الله ووجوب السجود له، وإنكار السجود للشمس، وإضافته إلى الشيطان وتزيينه؟
قلتُ: لا يبعد أن يلهمه الله سبحانه، كما ألهم غيره من الطيور، وسائر الحيوانات والمعارف اللطيفة التي لا تكاد العقلاء يهتدون لها. ومن أراد استقراء ذلك فجليه بكتاب "الحيوان" خصوصًا في زمان نبي سخرت له الطيور، وعلم منطقها، وجعل ذلك معجزة له، انتهى.
وقال الزمخشري أيضًا: فإن قلت أَسَجْدَةُ التلاوة واجبة في قراءتي التشديد والتخفيف جميعًا، أو في واحدة منهما؟
قلتُ: هي واجبة فيهما، وإحدى القراءتين أمر بالسجود، والأخرى ذم للتارك. وما ذكره الزجاج من وجوب السجدة مع التخفيف دون التشديد فغير مرجوع إليه. انتهى.
(٢) الشوكاني.
(٣) الكشاف.
وقرأ أبي وعيسى بن عمر (٢): ﴿الخب﴾: بنقل حركة الهمزة إلى الباء، وحذف الهمزة تخفيفًا. وقرأ عبد الله بن مسعود وعكرمة ومالك بن دينار: ﴿الخبا﴾ بالألف بدل الهمزة، فلزم فتح ما قبلها. قال أبو حاتم: وهذا لا يجوز في العربية، ورد عليه بأن سيبويه حكى عن العرب أن الألف تبدل من الهمزة إذا كان قبلها ساكن.
وقرأ الجمهور: ﴿الْخَبْءَ﴾ بسكون الباء والهمزة. وفي قراءة عبد الله: ﴿يخرج الخبء من السماوات والأرض﴾ قال الفراء: ومن وفي يتعاقبان. ﴿وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ﴾ في القلوب ﴿وَمَا تُعْلِنُونَ﴾ بالألسنة والجوراح. وذكر ﴿وَمَا تُعْلِنُونَ﴾؛ لتوسيع دائرة العلم؛ للتنببه على تساويهما بالنسبة إلى العلم الإلهي.
وقرأ الجمهور (٣): بالتحتية في الفعلين. وقرأ الجحدري وعيسى بن عمر وحفص عن عاصم والكسائي بالتاء فيهما للخطاب. أما القراءة الأولى فلكون الضمائر المتقدمة ضمائر غيبة، وأما القراءة الثانية فلكون قراءة الزهري والكسائي فيهما الأمر بالسجود، والخطاب لهم بذلك فهذا عندهم من تمام ذلك الخطاب.
والمعنى: أن الله سبحانه يخرج ما في هذا العالم الإنساني من الخفاء بعلمه له، كما يخرج ما خفي في السموات والأرض.
٢٦ - ثم بعدما وصف الرب سبحانه بما تقدم مما يدل على عظيم قدرته، وجليل
(٢) البحر المحيط.
(٣) الشوكاني.
قرأ الجمهور (١): ﴿الْعَظِيمِ﴾ بالجر نعتًا لـ ﴿الْعَرْشِ﴾. وقرأ ابن محيصن والضحاك بالرفع نعتًا لـ الرب، وخص العرش بالذكر؛ لأنه أعظم المخلوقات، كما ثبت ذلك في الحديث المرفوع إلى رسول الله - ﷺ -، ووصفه بالعظيم؛ لأنه أعظم ما خلق الله سبحانه من الأجرام، وما سواه في ضمنه.
وقال الزمخشري: فإن قلت: كيف سوى الهدهد بين عرش بلقيس وعرش الله في الوصف العظيم؟
قلت: بين الوصفين فرق؛ لأن وصف عرشها تعظيم له بالإضافة إلى عروش أبناء جنسها من الملوك، ووصف عرش الله سبحانه بالعظم تعظيم له بالنسبة إلى سائر ما خلق الله من السموات والأرض، فبين العظمين تفاوت عظيم.
وقال ابن زيد: من قوله: ﴿أَحَطْتُ﴾ إلى قوله: ﴿الْعَظِيمِ﴾ كلام الهدهد. انتهى. وقوله: ﴿رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ﴾ محل سجود بالاتفاق، كما في "فتح الرحمن"، يستحب للقارىء والمستمع أن يسجد عند قراءتها.
وحاصل معنى الآيتين: أي (٢) فصدهم عن السبيل حتى لا يهتدوا ويسجدوا لله الذي يظهر المخبوء في السموات والأرض، كالمطر والنبات، والمعادن المخبوءة في الأرض، ويعلم ما يخفيه العباد وما يعلنونه من الأقوال والأفعال، كما قال: ﴿سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ (١٠)﴾ ولما بين أن كل العوالم مفتقرة إليه ومحتاجة إلى تدبيره.. ذكر ما هو كالدليل على ذلك، فأبان أن أعظمها قدرًا؛ وهو العرش الذي هو مركز تدبير شؤون العالم هو الخالق به، وهو محتاج إليه، فقال: ﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (٢٦)﴾ أي: هو الله الذي لا تصلح العبادة إلا له، وهو رب
(٢) المراغي.
٢٧ - ولما ذكر الهدهد (١) قصة بلقيس.. لم يتغير سليمان عليه السلام لذلك، ولم يستفزه الطمع لما سمع من ملكها، كعادة الملوك في الطمع في ملك غيرهم، فلما ذكر الهدهد عبادة بلقيس وقومها غير الله سبحانه اغتاظ سليمان، وأخذته حمية الدين، وجعل يبحث عن تحقق ذلك. و ﴿قَالَ﴾؛ أي: سليمان للهدهد، استئناف بياني، كأنه قيل: فما فعل سليمان بعد فراغ الهدهد من كلامه، فقيل: قال: ﴿سَنَنْظُرُ﴾ فيما أخبرتنا، وسنتعرف في مقالتك بالتجربة من النظر بمعنى التأمل، والسين للتأكيد. ﴿أَصَدَقْتَ﴾ فيما قلت ﴿أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ﴾ فيه، هذه الجملة استفهامية في محل نصب على أنه مفعول ﴿سَنَنْظُرُ﴾، و ﴿أَمْ﴾ هي المتصلة، وقوله: ﴿أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ﴾ أبلغ من قوله: أم كذبت؛ لأن المعنى من الذين اتصفوا بالكذب وصار خلقًا لهم؛ أي: قال له: سنختبر مقالك ونتعرف حقيقته بالامتحان، أصادق أنت فيما تقول أم كاذب فيه؛ لنتخلص من الوعيد.
وفي هذا (٢): دلالة على أن خبر الواحد، وهو الحديث الذي يرويه الواحد والاثنان فصاعدًا ما لم يبلغ حد الشهرة والتواتر لا يوجب العلم، فيجب التوقف فيه على حد التجويز، وفيه دليل على أن لا يطرح، بل يجب أن يتعرف هل هو صدق أو كذب، فإن ظهرت أمارات صدقه قبل، وإلا لم يقبل.
٢٨ - فكتب سليمان - أي: في المجلس أو بعده - كتابًا إلى بلقيس، فقال فيه: من عبد الله سليمان بن داود إلى ملكة سبأ بلقيس: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ السلام على من أَتبع الهدى، أما بعد: فلا تعلوا علي وائتوني مسلمين، ثم طبعه بالمسك، وختمه بخاتمه المنقوش على فصه اسم الله الأعظم، ودفعه إلى الهدهد فأخذه بمنقاره، أو علقه بخيط، وجعل الخيط في عنقه، وقال: ﴿اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا﴾؛ أي: اذهب بهذا الكتاب، فالباء للتعدية، وتخصيصه بالرسالة دون سائر
(٢) روح البيان.
وفي "التأويلات النجمية" يشير إلى أنه لما صدق فيما أخبر، وبذل النصح لملكه، وراعى جانب الحق.. عوض عليه حتى أهل لرسالة رسول الحق على ضعف صورته ومعناه.
﴿فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ﴾؛ أي: اطرحه على بلقيس وقومها؛ لأنه ذكرهم معها في قوله: ﴿وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا﴾. وفي "الإرشاد": وجمع الضمير؛ لما أن مضمون الكتاب الكريم دعوة الكل إلى الإِسلام قال الزجاج (١): في ﴿أَلْقِهْ﴾ خمسة أوجه: إثبات الياء في اللفظ وحذفها، وإثبات الكسرة للدلالة عليها، وبضم الهاء، وإثبات ﴿الواو﴾، وبحذف ﴿الواو﴾ هو إثبات الضمة للدلالة عليها، وبإسكان الهاء. وقرأ بهذه اللغة الخامسة أبو عمرو هو حمزة وأبو بكر. وقرأ قالون بكسر الهاء فقط من غير ياء، وروي عن هشام وجهان: إثبات الياء لفظًا، وحذفه مع كسر الهاء، وقرأ الباقون إثبات الياء في اللفظ. وفي "الروح" قوله: فالقه بسكون الهاء تخفيفًا لغة صحيحة، أو على نية الوقف يعني: أن أصله ﴿ألقه﴾ بكسر القاف والهاء على أنه ضمير مفعول راجع إلى الكتاب، فسكن لما ذكر. اهـ.
﴿ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ﴾؛ أي: أعرض عنهم بترك وليهم وقربهم، وابتعد إلى مكان تتوارى فيه، وتسمع ما يجيبونه. أمره بالتولي؛ لكون التنحي بعد دفع الكتاب من أحسن الآداب التي يتأدب بها رسل الملوك، والمراد التنحي إلى مكان يسمع فيه حديثهم حتى يخبر سليمان بما سمع. ﴿فَانْظُرْ﴾؛ أي: أي تأمل وتعرف ﴿مَاذَا يَرْجِعُونَ﴾؛ أي: ماذا يرجع بعضهم إلى بعض من القول.
قال ابن الشيخ: ﴿مَاذَا﴾ اسم واحد استفهام منصوب بـ ﴿يَرْجِعُونَ﴾، أو مبتدأ، و ﴿ذَا﴾ بمعنى الذي، و ﴿يَرْجِعُونَ﴾ صلتها، والعائد محذوف؛ أي: أي شيء الذي يرجعونه؟
٢٩ - فألقى الكتاب على نحرها، وتوارى في الكوة، فانتبهت فزعة، فلما رأت الخاتم ارتعدت وخضعت؛ لأن ملك سليمان كان في خاتمه، فعند ذلك ﴿قَالَتْ﴾ بلقيس لأشراف قومها.
وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة أن أهل مشورتها كانوا ثلاث مئة واثني عشر رجلًا. ﴿يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ﴾ وهم عظماء قومها، يجمع على أملاء كنبا وأنباء ﴿إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ﴾؛ أي: مختوم، وفي الكلام حذف، والتقدير: فذهب الهدهد، فألقاه إليهم، فسمعها تقول: يا أيها الملأ إني ألقي إلى كتاب كريم؛ أي (٢): مكرم علي معظم لدي؛ لكونه مختومًا بخاتم عجيب وأصلًا على نهج غير معتاد، كما قال في "الأسئلة المقحمة": معجزة سليمان كانت في خاتمه، فختم الكتاب بالخاتم الذي فيه ملكه، فأوقع الرعب في قلبها حتى شهدت بكرم كتابه إظهارًا لمعجزته، انتهى.
ويدل على أن الكريم هنا بمعنى المختوم. قوله - ﷺ -: "كرم الكتاب ختمه". وقيل: معنى ﴿كَرِيمٌ﴾: مرضي في لفظه ومعانيه، أو ﴿كَرِيمٌ﴾: شريف؛ لأنه صدر بالبسملة.
٣٠ - وقوله: ﴿إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ﴾ استئناف بياني، كأنه قيل: ممن هو، وماذا مضمونه فقالت: إنه من سليمان؛ أي: إن هذا الكتاب مرسل من سليمان. ﴿وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾؛ أي (٣): وإن ما اشتمل عليه من الكلام، وتضمنه من القول مفتتح بالتسمية، وبعد التسمية
٣١ - ﴿أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ﴾؛ أي: لا تتكبروا عليَّ كما
(٢) روح البيان.
(٣) الشوكاني.
(٤) روح البيان.
و ﴿أن﴾ هي المفسرة، أو مصدرية، و ﴿لا﴾ ناهية، وقيل: نافية، ومحل الجملة الرفع على أنها بدل من ﴿كِتَابٌ﴾، أو خبر مبتدأ محذوف؛ أي: هو أن لا تعلوا، وهذه (١) البسملة ليست بآية تامة مثل ﴿بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا﴾ بخلاف ما وقع في أوائل السور، فإنها آية منفردة نزلت مئة وأربع عشرة مرة، عدد السور، كذا قاله بعضهم.
قرأ الجمهور (٢): ﴿إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ﴾ بكسرهما على الاستئناف، وقرأ عكرمة وابن أبي عبلة بفتحهما على إسقاط حرف الجر؛ أي: لأنه. وقرأ أبي: ﴿أن من سليمان وأن بسم الله﴾ بحذف الضميرين وإسكان النونين على أنهما مفسرتان، أو مخففتان من الثقيلة. وقرأ عبد الله بن مسعود: ﴿وإنه من سليمان﴾ بزيادة ﴿الواو﴾ عطفًا على ﴿إِنِّي أُلْقِيَ﴾. وروى ذلك أيضًا عن أبي. وقرأ أشهب العقيلي وابن السميقع: ﴿أن لا تغلوا﴾ بالغين المعجمة من الغلو؛ وهو تجاوز الحد في الكبر.
فإن قلت: لم قدم (٣) سليمان اسمه على اسم الله سبحانه في قوله: ﴿إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (٣٠)﴾؟.
قلت: قدم سليمان اسمه على اسم الله تعالى مع أن المناسب عكسه؛ لأنه عرف أن بلقيس تعرف اسمه دون اسم الله تعالى، فخاف أن تستخف باسم الله تعالى أول ما يقع نظرها عليه، أو كان اسمه على عنوان الكتاب واسم الله تعالى في باطنه.
﴿وَأْتُونِي﴾ حال كونكم ﴿مُسْلِمِينَ﴾؛ أي: منقادين للدين مؤمنين بما جئت به، فإن الإيمان لا يستلزم الإِسلام والانقياد، دون العكس. وهذا (٤) الكلام كان في غاية الإيجاز مع كمال الدلالة على المقصود؛ لاشتماله على البسملة الدالة على
(٢) فتح الرحمن.
(٣) البيضاوي.
(٤) البحر المحيط.
وروي (١): أنه لم يكتب أحد بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قبل سليمان عليه السلام، والظاهر أن الكاتب هو ما نص الله عليه فقط، واحتمل أن يكون مكتوبًا بالعربي؛ إذ الملوك يكون عندهم من يترجم بعدة ألسن، فكتب بالخط العربي، واللفظ العربي؛ لأنها كانت عربية من نسل تبع بن شراحيل الحميري، واحتمل أن يكون باللسان الذي كان سليمان يتكلم به، وكان عندها من يترجم لها؛ إذ كانت هي عارفة بذلك اللسان.
ونص هذا الكتاب مع وَجازَيه يدل على أمور:
١ - إنه مشتمل على إثبات الإله ووحدانيته وقدرته، وكونه رحمانًا رحيمًا.
٢ - نهيهم عن اتباع أهوائهم، ووجوب اتباعهم للحق.
٣ - أمرهم بالمجيء إليه منقادين خاضعين. وبهذا يكون الكتاب قد جمع كل ما لا بد منه في الدين والدنيا.
الإعراب
﴿طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ (١) هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (٢) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (٣)﴾
﴿طس﴾ قد تقدم إعراب هذه الكلمة، وتقدم لنا أن القول الأسلم في معنى هذه الكلمة تفويض علمها إلى الله سبحانه، وعلى هذا القول ليس لهذه الكلمة محل من الإعراب؛ لأن الإعراب فرع عن إدراك المعنى ﴿تِلْكَ﴾: مبتدأ. ﴿آيَاتُ﴾
﴿إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (٤) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (٥) وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (٦)﴾
﴿إِنَّ الَّذِينَ﴾: ناصب واسمه. ﴿لَا يُؤْمِنُونَ﴾: فعل وفاعل صلة الموصول. ﴿بِالْآخِرَةِ﴾: متعلق بـ ﴿يُؤْمِنُونَ﴾ ﴿زَيَّنَّا﴾: فعل وفاعل، ﴿لَهُمْ﴾: متعلق به. ﴿أَعْمَالَهُمْ﴾: مفعول به، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر ﴿إِنَّ﴾، والجملة مستأنفة، ﴿فَهُمْ﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة، ﴿هم﴾ مبتدأ، وجملة ﴿يَعْمَهُونَ﴾ خبره، والجملة الاسمية في محل الرفع معطوفة على جملة ﴿زَيَّنَّا﴾. ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ﴾: مبتدأ وخبر، والجملة مستأنفة. ﴿لَهُمْ﴾: خبر مقدم. ﴿سُوءُ الْعَذَابِ﴾: مبتدأ مؤخر، والجملة صلة الموصول. ﴿وَهُمْ﴾: مبتدأ. ﴿فِي الْآخِرَةِ﴾: متعلق بـ ﴿الْأَخْسَرُونَ﴾. ﴿هُمْ﴾: تأكيد للمبتدأ. ﴿الْأَخْسَرُونَ﴾: خبر المبتدأ، والجملة معطوفة على جملة الصلة ﴿وَإِنَّكَ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية. ﴿إنك﴾: ناصب واسمه. ﴿لَتُلَقَّى﴾:
﴿إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (٧)﴾
﴿إِذْ﴾: ظرف لما مضى من الزمان متعلق بمحذوف تقديره: اذكر يا محمد لقومك قصة إذ قال موسى، والجملة المحذوفة مستأنفة. ﴿قَالَ مُوسَى﴾: فعل وفاعل. ﴿لِأَهْلِهِ﴾: متعلق بـ ﴿قَالَ﴾، والجملة الفعلية في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿إِذْ﴾. ﴿إِنِّي﴾: ناصب واسمه. ﴿آنَسْتُ نَارًا﴾: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة في محل الرفع خبر ﴿إن﴾، وجملة ﴿إن﴾ في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿سَآتِيكُمْ﴾ ﴿السين﴾: حرف تنفيس واستقبال، ﴿آتِيكُمْ﴾: فعل وفاعل مستتر ومفعول به. ﴿مِنْهَا﴾: جار ومجرور حال من خبر؛ لأنه صفة نكرة قدمت عليها. ﴿بِخَبَرٍ﴾: متعلق بـ ﴿آتِيكُمْ﴾، والجملة الاسمية في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾ على كونها مستأنفة، ﴿أَوْ﴾: حرف عطف وتنويع، وهي مانعة خلو. ﴿آتِيكُمْ﴾: فعل وفاعل ومفعول به معطوف على ﴿آتِيكُمْ﴾ الأول. ﴿بِشِهَابٍ﴾: متعلق بـ ﴿آتِيكُمْ﴾. ﴿قَبَسٍ﴾: بدل من ﴿بِشِهَابٍ﴾، أو نعت له على تأويله بمشتق؛ أي: شهاب مقتبس؛ أي: مأخوذ من نار. ﴿لَعَلَّكُمْ﴾: ناصب واسمه، وجملة ﴿تَصْطَلُونَ﴾ في محل الرفع خبر ﴿لَعَلَّ﴾، وجملة ﴿لعل﴾ في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾ على كونها معللة لما قبلها.
﴿فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (٨)﴾.
﴿فَلَمَّا﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة على محذوف معلوم من السياق تقديره: فذهب موسى من عند أهله، فلما جاءها نودي. ﴿لَمَّا﴾ اسم شرط غير جازم في محل نصب مفعول فيه ظرف زمان. ﴿جَاءَهَا﴾: فعل ومفعول به، وفاعله ضمير مستتر
﴿يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٩) وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (١٠) إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (١١)﴾.
﴿يَا مُوسَى﴾: منادى مفرد العلم، وجملة النداء مستأنفة. ﴿إِنَّهُ﴾: ناصب واسمه والهاء: إما ضمير الشأن، أو عائدة إلى ما دل عليه ما قبلها، يعني إن مكلمك. ﴿أَنَا﴾: مبتدأ. ﴿اللَّهُ﴾: خبره، والجملة في محل الرفع خبر ﴿إن﴾. ﴿الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾: صفتان للجلالة. ﴿وَأَلْقِ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿أَلْقِ﴾: فعل أمر، وفاعل مستتر يعود على ﴿مُوسَى﴾. ﴿عَصَاكَ﴾: مفعول به ومضاف إليه، والجملة معطوفة على ﴿بُورِكَ﴾ لأن المعنى: نودي أن بورك من النار وأن ألق عصاك، وهذا مما يرجح كون ﴿أن﴾ مفسرة. ﴿فَلَمَّا﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة على محذوف تقديره: فألقاها فاستحالت حية فلما رآها. ﴿لما﴾: اسم شرط غير جازم. في محل نصب مفعول فيه ظرف زمان ﴿رَآهَا﴾: فعل وفاعل مستتر
﴿وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (١٢) فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (١٣) وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (١٤)﴾
﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (١٥) وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (١٦) وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (١٧)﴾
﴿وَلَقَدْ﴾: ﴿الواو﴾: اسئنافية، و ﴿اللام﴾: موطئة للقسم، ﴿قَدْ﴾: حرف تحقيق. ﴿آتَيْنَا دَاوُودَ﴾: فعل وفاعل ومفعول أول. ﴿وَسُلَيْمَانَ﴾: معطوف على ﴿دَاوُودَ﴾. ﴿عِلْمًا﴾: مفعول ثان لـ ﴿آتَيْنَا﴾، والجملة الفعلية جواب القسم لا محل لها من الإعراب. ﴿وَقَالَا﴾: ﴿الواو﴾: عاطف على محذوف تقديره: فعملا بما أعطياه بالقلب بالعزم وعملا به بالجوارح بالمباشرة، وعملا به باللسان، وقالا الحمد لله، والجملة المحذوفة معطوفة على ﴿آتَيْنَا﴾. ﴿قَالَا﴾: فعل وفاعل معطوف على الجملة المحذوفة. ﴿الْحَمْدُ﴾: مبتدأ. ﴿لِلَّهِ﴾: جار ومجرور خبر المبتدأ، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالَا﴾. ﴿الَّذِي﴾ صفة للجلالة. ﴿فَضَّلَنَا﴾: فعل وفاعل مستتر ومفعول به، والجملة صلة الموصول. ﴿عَلَى كَثِير﴾: متعلق بـ ﴿فَضَّلَنَا﴾. ﴿مِنْ عِبَادِهِ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه صفة لـ ﴿كَثِيرٍ﴾. ﴿الْمُؤْمِنِينَ﴾: صفة لـ ﴿عِبَادِهِ﴾. ﴿وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ﴾: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة مستأنفة. ﴿وَقَالَ﴾: فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على ﴿سُلَيْمَانُ﴾ معطوف على ﴿وَرِثَ﴾. ﴿يَا أَيُّهَا﴾: حرف نداء. ﴿أي﴾: منادى نكرة مقصودة، و ﴿ها﴾: حرف تنبيه زائد تعويضًا عما فات؛ أي: من الإضافة. ﴿النَّاسُ﴾: بدل من ﴿أي﴾ وجملة النداء في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿عُلِّمْنَا﴾: فعل ونائب فاعل. ﴿مَنْطِقَ الطَّيْرِ﴾: مفعول ثان لـ ﴿عُلِّمْنَا﴾، والجملة في
﴿حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (١٨) فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ (١٩)﴾.
﴿حَتَّى﴾: حرف جر وغاية لمحذوف تقديره: فساروا حتى إذا أتوا. ﴿إِذَا﴾: ظرف لما يستقبل من الزمان. ﴿أَتَوْا﴾: فعل وفاعل، والجملة في محل الخفض بإضافة إذا إليها، والظرف متعلق بالجواب الآتي. ﴿عَلَى﴾: حرف جر. ﴿وَادِ﴾: مجرور بـ ﴿عَلَى﴾، وحذفت الياء في الخط تبعًا للفظ. ﴿النَّمْلِ﴾: مضاف إليه، الجار والمجرور متعلق بـ ﴿أَتَوْا﴾. ﴿قَالَتْ نَمْلَةٌ﴾: فعل وفاعل، والجملة جواب ﴿إِذَا﴾، وجملة ﴿إِذَا﴾ الشرطية في محل الخفض بـ ﴿حَتَّى﴾ الجارة تقديره: فساروا إلى قول النملة وقت إتيانهم وادي النمل. ﴿يَا أَيُّهَا﴾: ﴿يا﴾ حرف نداء ﴿أَيّ﴾: منادى نكرة مقصودة، ﴿ها﴾: حرف تنبيه. ﴿النَّمْلُ﴾: بدل من ﴿أَي﴾، وجملة النداء في محل النصب مقول ﴿قَالَتْ﴾. ﴿ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ﴾: فعل وفاعل ومفعول به على السعة، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالَتْ﴾ على كونها جواب
﴿وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ﴾: فعل وفاعل مستتر ومفعول به، والجملة مستأنفة مسوقة في سرد أمر آخر حدث لسليمان أثناء مسيره الذي كان فيه قصة النمل. ﴿فَقَالَ﴾: فعل وفاعل مستتر معطوف على ﴿تَفَقَّدَ﴾. ﴿مَا﴾: اسم استفهام في محل الرفع مبتدأ مبني على السكون. ﴿لي﴾: جار ومجرور خبر المبتدأ، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿لَا﴾: نافية. ﴿أَرَى﴾: فعل مضارع وفاعل مستتر. ﴿الْهُدْهُدَ﴾: مفعول به، والجملة في محل النصب حال من ياء المتكلم. ﴿أَمْ﴾: منقطعة بمعنى بل. ﴿كَانَ﴾: فعل ماض ناقص، واسمه ضمير يعود على ﴿الْهُدْهُدَ﴾. ﴿الْغَائِبِينَ﴾: خبره، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾.
وفي "الفتوحات": قوله: ﴿أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ﴾: ﴿أَمْ﴾: منقطعة، كأنه لما لم يره ظن أنه حاضر ولا يراه لساتر أو غيره، فقال: ﴿مَا لِيَ لَا أَرَى﴾، ثم احتاط فلاح له أنه غائب فأضرب عن ذلك، وأخذ يقول: أهو غائب، كأنه يسأل عن صحة ما لاح له. اهـ. "بيضاوي". وعلى هذا فتقدر ببل والهمزة، أو ببل وحدها، أو بالهمزة وحدها، اهـ.
﴿لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (٢١)﴾.
﴿لَأُعَذِّبَنَّهُ﴾: ﴿اللام﴾: موطئة للقسم، ﴿أُعَذِّبَنّ﴾: فعل مضارع في محل الرفع مبني على الفتح؛ لاتصاله بنون التوكيد القيلة، وفاعله ضمير مستتر يعود على ﴿سُلَيْمَانُ﴾، و ﴿الهاء﴾: مفعول به ﴿عَذَابًا﴾ مفعول مطلق. ﴿شَدِيدًا﴾: صفة له، والجملة جواب القسم. ﴿أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ﴾: فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بالنون، وفاعله ضمير يعود على ﴿سُلَيْمَانُ﴾، و ﴿الهاء﴾: مفعول به، والجملة معطوفة على جملة ﴿لَأُعَذِّبَنَّهُ﴾. ﴿أَوْ لَيَأْتِيَنِّي﴾ ﴿أَوْ﴾: حرف عطف، و ﴿اللام﴾: حرف موطئة للقسم. ﴿يَأْتِيَنِّي﴾: فعل مضارع في محل الرفع؛ لتجرده عن الناصب والجازم مبني على الفتح؛ لاتصاله بنون التوكيد، وفاعله ضمير يعود على ﴿الْهُدْهُدَ﴾، ونون الوقاية حرف لا محل لها من الإعراب؛ لأن أصله: لياتينني بثلاث نونات، و ﴿الياء﴾: مفعول به. ﴿بِسُلْطَانٍ﴾: متعلق بـ ﴿يَأْتِيَنِّي﴾.
﴿فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (٢٢)﴾.
﴿فَمَكَثَ﴾: ﴿الفاء﴾: استئنافية، ﴿مَكَثَ﴾: فعل ماض وفاعل مستتر، والجملة مستأنفة. ﴿غَيْرَ بَعِيدٍ﴾: منصوب على الظرفية الزمانية؛ أي: زمانًا غير بعيد، أو على المكانية؛ أي: مكانًا غير بعيد. ﴿فَقَالَ﴾: فعل وفاعل مستتر يعود على ﴿الْهُدْهُدَ﴾، معطوف على ﴿مَكَثَ﴾. ﴿أَحَطْتُ﴾: فعل وفاعل، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿بِمَا﴾: متعلق بـ ﴿أَحَطْتُ﴾. ﴿لَمْ﴾: حرف جزم. ﴿تُحِطْ﴾: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على ﴿سُلَيْمَانُ﴾ مجزوم بـ ﴿لَمْ﴾. ﴿بِهِ﴾: متعلق بـ ﴿تُحِطْ﴾، والجملة صلة الموصول. ﴿وَجِئْتُكَ﴾: فعل وفاعل ومفعول به معطوف على ﴿أَحَطْتُ﴾. ﴿مِنْ سَبَإٍ﴾: متعلق بمحذوف حال من ﴿نَبَأ﴾؛ لأنه صفة نكرة قدمت عليها. ﴿بِنَبَإٍ﴾: متعلق بـ ﴿جِئْتُكَ﴾. ﴿يَقِينٍ﴾ صفة ﴿نباء﴾.
﴿إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (٢٣)﴾.
﴿إِنِّي﴾: ناصب واسمه. ﴿وَجَدْتُ امْرَأَةً﴾ فعل وفاعل ومفعول به، ووجد هنا يتعدى لمفعول واحد؛ لأنه من وجدان الضالة، والجملة في محل الرفع خبر إن، وجملة ﴿إن﴾ في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿تَمْلِكُهُمْ﴾: فعل وفاعل مستتر يعود على ﴿امْرَأَةً﴾، ومفعول به، والجملة صفة لـ ﴿امْرَأَةً﴾. ﴿وَأُوتِيَتْ﴾: فعل ماض مغير الصيغة، ونائب فاعله ضمير يعود على ﴿امْرَأَةً﴾ والجملة معطوفة على جملة ﴿تَمْلِكُهُمْ﴾. ﴿مِنْ كُلِّ شَيْءٍ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿أُوتِيَتْ﴾. ﴿وَلَهَا﴾: خبر مقدم. ﴿عَرْشٌ﴾: مبتدأ مؤخر. ﴿عَظِيمٌ﴾: صفة لـ ﴿عَرْشٌ﴾، والجملة في محل النصب حال من نائب فاعل ﴿أوتيت﴾.
﴿وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ (٢٤)﴾
﴿وَجَدْتُهَا﴾: فعل وفاعل ومفعول به ﴿وَقَوْمَهَا﴾: معطوف على الهاء، أو مفعول معه، والجملة الفعلية بدل من جملة قوله: ﴿وَجَدْتُ امْرَأَةً﴾، فهي داخلة في
﴿أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (٢٥) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (٢٦)﴾
﴿أَلَّا﴾: ﴿أن﴾: حرف نصب ومصدر مبني بسكون على النون المدغمة في لام ﴿لا﴾، وحذفت في الخط اتباعًا لرسم المصحف العثماني، ﴿لا﴾: زائدة. ﴿يَسْجُدُوا﴾: فعل وفاعل منصوب بحذف النون، وجملة ﴿أن﴾ المصدرية مع صلتها في تأويل مصدر منصوب على المفعولية لـ ﴿يَهْتَدُونَ﴾، لكن بنزع الخافض، وهو إلى. والمعنى: فهم لا يهتدون إلى السجود، وعلى هذا الإعراب لا يصح الوقف على ﴿يَهْتَدُونَ﴾. ويجوز أن يكون المصدر بدلًا من ﴿أَعْمَالَهُمْ﴾، و ﴿لَا﴾: نافية حينئذ، والتقدير: وزين لهم الشيطان أعمالهم عدم السجود، ويجوز أن يكون بدلًا من ﴿السَّبِيلِ﴾، و ﴿لا﴾: زائدة، وفيه أوجه آخر كما أشرنا إليها في مبحث التفسير. ﴿لِلَّهِ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿يَسْجُدُوا﴾. ﴿الَّذِي﴾: صفة للجلالة. ﴿يُخْرِجُ الْخَبْءَ﴾: فعل وفاعل مستتر ومفعول به، والجملة صلة الموصول. ﴿فِي السَّمَاوَاتِ﴾: متعلق بـ ﴿يُخْرِجُ﴾. ﴿وَالْأَرْضِ﴾: معطوف على ﴿السَّمَاوَاتِ﴾. ﴿وَيَعْلَمُ﴾: فعل وفاعل مستتر معطوف على ﴿يُخْرِجُ﴾. ﴿مَا﴾: مفعول ﴿يَعْلَمُ﴾، وجملة ﴿تُخْفُونَ﴾ صلة الموصول، والعائد محذوف؛ أي: ما تخفونه.
﴿قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (٢٧) اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ (٢٨)﴾
﴿قَالَ﴾: فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على ﴿سُلَيْمَانُ﴾، والجملة مستأنفة استئنافًا بيانيًا. ﴿سَنَنْظُرُ﴾: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على ﴿سُلَيْمَانُ﴾، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿أَصَدَقْتَ﴾: ﴿الهمزة﴾: فيه للاستفهام، ﴿صَدَقْتَ﴾: فعل وفاعل، والجملة في محل النصب مفعول ﴿نَنْظُر﴾ معلق عنها بهمزة الاستفهام. ﴿أَمْ﴾: متصلة معادلة للهمزة. ﴿كُنْتَ﴾: فعل ناقص واسمه. ﴿مِنَ الْكَاذِبِينَ﴾: خبر ﴿كان﴾، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة ﴿صَدَقْتَ﴾. ﴿اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا﴾: قبله محذوف تقديره: ثم كتب سليمان كتابًا، فقال اذهب بكتابي هذا. ﴿اذْهَبْ﴾: فعل أمر، وفاعل مستتر يعود على ﴿الْهُدْهُدَ﴾. ﴿بِكِتَابِي﴾: متعلق به. ﴿هَذَا﴾ صفة لـ ﴿كِتَابِي﴾، أو بدل منه، والجملة الفعلية في محل النصب مقول للقول المحذوف، كما قدرنا. ﴿فَأَلْقِهْ﴾ ﴿الفاء﴾: عاطفة، ﴿أَلْقِهْ﴾: فعل أمر وفاعل مستتر ومفعول به. ﴿إِلَيْهِمْ﴾: متعلق به، والجملة معطوفة على جملة ﴿اذْهَبْ﴾، ﴿ثُمَّ﴾: حرف عطف. ﴿تَوَلَّ﴾: فعل أمر وفاعل مستتر معطوف على ﴿أَلْقِ﴾. ﴿عَنْهُمْ﴾: متعلق بـ ﴿تَوَلَّ﴾، أو بمحذوف حال من فاعل ﴿تَوَلَّ﴾؛ أي: متجاوزًا إياهم إلى مكان قريب تتوارى فيه ﴿فَانْظُرْ﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة، ﴿انْظُرْ﴾: فعل أمر، وفاعل مستتر معطوف على ﴿تَوَلَّ﴾. ﴿مَاذَا﴾: اسم استفهام مركب في محل النصب مفعول مقدم لـ ﴿يَرْجِعُونَ﴾. ﴿يَرْجِعُونَ﴾: فعل وفاعل؛ أي: أي شيء يرجعون؟، أو ﴿ما﴾: اسم استفهام مبتدأ ﴿ذَا﴾: اسم موصول بمعنى الذي في محل الرفع خبره، وجملة ﴿يَرْجِعُونَ﴾: صلة ﴿ذَا﴾، والعائد محذوف تقديره: أي شيء الذي يرجعونه؛ وعلى كلا التقديرين، فالجملة الاستفهامية قد علق عنها العامل، وهو ﴿انْظُرْ﴾ بالاستفهام، فمحلها
﴿قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ (٢٩) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (٣٠) أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (٣١)﴾
﴿قَالَتْ﴾: فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على بلقيس، والجملة مستأنفة. ﴿يَا﴾: حرف نداء. ﴿أي﴾: منادى نكرة مقصودة، ﴿هَا﴾: حرف تنبيه زائد. ﴿الْمَلَأُ﴾: صفة لـ ﴿أي﴾، وجملة النداء في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿إِنِّي﴾: ناصب واسمه. ﴿أُلْقِيَ﴾: فعل ماض مغير الصيغة. ﴿إِلَيَّ﴾: متعلق به. ﴿كِتَابٌ﴾: نائب فاعل. ﴿كَرِيمٌ﴾: صفة لـ ﴿كِتَابٌ﴾، وجملة ﴿أُلْقِيَ﴾ في محل الرفع خبر ﴿إِنِّ﴾، وجملة ﴿إن﴾ في محل النصب مقول ﴿قَالَتْ﴾ على كونها جواب النداء. ﴿إِنَّهُ﴾: ناصب واسمه. ﴿مِنْ سُلَيْمَانَ﴾: خبر ﴿إنَّ﴾، وجملة ﴿إنَّ﴾ مستأنفة مسوقة للرد على سؤال مقدر، كأنهم قالوا: ممن هو وما هي منطوياته. ﴿وَإِنَّهُ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿إِنَّهُ﴾: ناصب واسمه، وجملة البسملة خبرها، وجملة ﴿إِنَّ﴾ معطوفة على جملة ﴿إن﴾ الأولى. ﴿أَلَّا﴾: ﴿أن﴾: مفسرة. ﴿لَّا﴾: ناهية. ﴿تَعْلُوا﴾: فعل وفاعل مجزوم بـ ﴿لا﴾ الناهية. ﴿عَلَيَّ﴾: متعلق به، والجملة الفعلية مفسرة لـ ﴿كِتَابٌ﴾؛ لتضمنه معنى القول دون حروفه؛ أي: ألقي إلى أن لا تعلوا علي. ويجوز أن تكون ﴿أن﴾ مصدرية ناصبة للفعل، و ﴿لَّا﴾: نافية، و ﴿أن﴾ وما في حيزها مصدر مؤول في محل رفع بدل من ﴿كِتَابٌ﴾، أو خبر لمبتدأ محذوف؛ أي: مضمونه أن لا تعلوا، أو في محل النصب بنزع الخافض؛ أي: بأن لا تعلوا. ﴿وَأْتُونِي﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿وَأْتُونِي﴾: فعل أمر مبني على حذف النون، والواو: فاعل، و ﴿النون﴾: للوقاية، و ﴿الياء﴾: مفعول به. ﴿مُسْلِمِينَ﴾: حال من فاعل ﴿وَأْتُونِي﴾.
التصريف ومفردات اللغة
﴿هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ﴾: هما مصدران أقيما مقام الفاعل للمبالغة، كأنهما نفس الهدى والبشارة.
﴿سُوءُ الْعَذَابِ﴾ والسوء: كل ما يسوء الإنسان ويغمه.
﴿الْأَخْسَرُونَ﴾ أي: أشد الناس خسرانًا لحرمانهم الثواب، واستمرارهم في العذاب.
﴿وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ﴾؛ أي: لتلقن وتعطي، يقال: تلقى الكلام من فلان ولقنه إذا أخذه من لفظه وفهمه. وعبارة "القرطبي": أي: يلقى إليك فتتلقاه، وتعلمه وتأخذه من لدن حكيم عليم. وفي "السمين": لقي مخففًا يتعدى لواحد، ومضعفًا يتعدى لاثنين، فأقيم أولهما هنا مقام الفاعل، والثاني: ﴿الْقُرْآنَ﴾. اهـ.
﴿إِنِّي آنَسْتُ نَارًا﴾ أي: أبصرت إبصارًا حصل لي به أنس، يقال: آنست نارًا، وآنست فزعًا، وآنست منه رشدًا، فهو يطلق على المادي والمعنوي.
﴿بِخَبَرٍ﴾ أي: عن الطريق وحاله. ﴿أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ﴾؛ أي: بشعلة نار قبس؛ أي: بقطعة من النار مقبوسة، ومأخوذة من أصلها. يقرأ بإضافة ﴿بِشِهَابٍ﴾ إلى ﴿قَبَسٍ﴾، فالإضافة فيه للبيان؛ لأن الشهاب يكون قبسًا وغيره، كالكوكب فهو من إضافة النوع إلى جنسه، كخاتم حديد وثوب خز، وهي بمعنى من؛ أي: شهاب من قبس، ويقرأ بتنوين ﴿شِهَابٍ﴾، فـ ﴿قَبَسٍ﴾ على هذا بدل منه، أو نعت له على تأويله بالمفعول؛ أي: شهاب مقتبس؛ أي: مأخوذ من نار، فالشهاب الشعلة، والقبسس النار. والشهاب في الأصل كل مضيء متولد من النار، وما يرى كأنه كوكب انقض، والكوكب عمومًا، والسنان لما فيه من البريق، وجمعه شهب وشُهبان وشِهبان وأشهب، ويقال: فلان شهاب حرب إذا كان ماضيًا فيها،
وفي "المفردات": الشهاب: الشعلة الساطعة من النار المتوقدة، والقبس: المتناول من الشعلة، والاقتباس، ثم استعير لطلب العلم والهداية.
﴿لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ﴾: فيه الإبدال من تاء الافتعال؛ لأن أصله تصتلون، فقلبت التاء طاء لوقوعها بعد حرف الإطباق، وهو الصاد على القاعدة التصريفية، وهو من صلي بالنار - بكسر اللام - من باب تعب. وفي "المصباح": صلى بالنار وصليها صلى - من باب تعب -: وجد حرها، والصلاء - بوزن كتاب - حر النار، والنار العظيمة، وصليت اللحم أصليه - من باب رمى - شويته. وفي "الأساس": وصلي النار وصلى بها يصلى النار الكبرى وتصلاها وتصلى بها، وأصلاه وصلاه، وشاة مصلية: مشوية، وقد صليتها. ومعنى ﴿تَصْطَلُونَ﴾: تستدفئون بها. قال الشاعر:
النَّارُ فَاكِهَةُ الشِّتَاءِ فَمَنْ يُرِدْ | أَكْلَ الْفَوَاكِهِ شَاتِيًا فَلْيَصْطَلِ |
﴿وَلَّى مُدْبِرًا﴾ قال: ولى عنها: أعرض عنها، وأدبر عنها: جعلها تلي ظهره. ﴿وَلَمْ يُعَقِّبْ﴾ لم يعطف ولم ينتظر من عقب المقاتل إذا كر بعد الفر.
قال الشاعر:
فَمَا عَقبُوْا إِذْ قِيْلَ هَلْ مِنْ مُعَقِّبٍ | وَلَا نَزَلَوُا يَوْمَ الْكَرِيْهَةِ مَنْزِلاَ |
﴿فِي جَيْبِكَ﴾؛ أي: طوق قميصك، وسمي جيبك؛ لأنه يجاب؛ أي: يقطع ليدخل فيه الرأس. ﴿جَحَدُوا بِهَا﴾ أي: كذبوها. ﴿وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ﴾؛ أي: علمت علمًا يقينيًا أنها من عند الله، والجحود: إنكار الشيء بعد المعرفة والإيقان تعنتًا، وأريد هنا التكذيب؛ لئلا يلزم استدراك قوله: ﴿وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ﴾.
﴿وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ﴾؛ أي: قام مقامه في النبوة والملك.
﴿عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ﴾؛ أي: أعطينا فهم ما يريده كل طائر إذا صوت. والمنطق: مصدر ميمي لنطق ينطق - من باب ضرب - نطقًا ومنطقًا ونطوقًا؛ أي: تكلم بصوت وحروف تعرف بها المعاني، والمنطق: الكلام، وقد يستعمل في غير الإنسان. يقال: سمعت منطق الطير.
وقال البيضاوي: والنطق والمنطق في المتعارف: كل لفظ يعبر به عما في الضمير مفردًا كان أو مركبًا، مفيدًا كان أو غير مفيد، وقد يطلق على ما يصوت به على التشبيه أو التبع، كقولهم: نطقت الحمامة إذا صوتت، ومنه الناطق والصامت للحيوان والجماد، وعلم المنطق: هو علم يبحث في صحيح الفكر وفاسده، فهو يضع القواعد التي تعصم الذهن من الوقوع في الأخطاء.
والطير جمع طائر، كريب وراكب، وهو كل ذي جناح يسبح في الهواء ويجري، وكان سليمان يعرف نطق غير الطير أيضًا، كما يجيء من قصة النمل، لكنه أدرج هذا في قوله ﴿وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ﴾ وخص منطق الطير؛ لشرف الطير على سائر الحيوان.
﴿وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ﴾ الحشر: إخراج الجماعة من مقرهم وإزعاجهم عنه إلى الحرب وغيرها.
﴿فَهُمْ يُوزَعُونَ﴾؛ أي: يحبس أولهم ليلحق آخرهم، فيكونون مجتمعين لا يتخلف منهم أحد. وفي "المختار": وزعه يزعه وزعًا مثل وضعه يضعه وضعًا؛ أي: كله فانتزع هو؛ أي: كف، وأوزعه بالشيء أغراه به، واستوزعت الله
﴿قَالَتْ نَمْلَةٌ﴾ النَمل والنُمل - بضم الميم - حيوان حريص على جمع الغذاء، يتخذ قرى تحت الأرض، فيها منازل ودهاليز، وغرف وطبقات منعطفة يملؤها حبوبًا وذخائر للشتاء. الواحدة: نملة، ونملة للذكر والأنثى. والجمع: نمال كرملة ورمال. وفي "الروح": ونملة مؤنث حقيقي بدليل لحوق علامة التأنيث فعلها؛ لأن نملة تطلق على الذكر والأنثى، فإذا أريد تمييزها احتيج إلى مميز خارجي، نحو نملة ذكر، ونملة أنثى، وكذلك لفظة حمامة ويمامة من المؤنثات اللفظية. اهـ
﴿وَادِ النَّمْلِ﴾ والوادي: الموضع الذي يسيل فيه الماء، والنمل معروف، الواحدة: نملة، سميت نملة لتنملها؛ وهي كثرة حركتها وقلة قوائمها، ومعنى وادي النمل: واد يكثر فيه النمل، والمراد: واد بالشام أو بالطائف كثير النمل، والمشهور أنه النمل الصغير.
﴿لَا يَحْطِمَنَّكُمْ﴾ أي: لا يكسرنكم ويهشمنكم سليمان وجنوده. وفي "المختار": حطمه من باب ضرب؛ أي: كسره فانحطم وتحطم، والتحطيم: التكسير، والحطام: ما تكسر من اليبس. اهـ. ، وسمي حجر الكعبة الحطيم؛ لأنه كسر منها.
﴿أَوْزِعْنِي﴾ ألهمني، وحقيقته: اجعلني أزع شكر نعمتك عندي، وأكفه وارتبطه لا ينفلت عني حتى لا أنفك شاكرًا لك، وقد تقدم شرح هذه المادة قريبًا.
﴿وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ﴾ قال في "القاموس": تفقده طلبه عن غيبة. وفي "كشف الأسرار": التفقد: طلب المفقود، وإنما قيل له التفقد؛ لأن طالب الشيء درك بعضه ويفقد بعضه. في المفردات: التفقد التعهد، لكن حقيقة التفقد تعرف فقدان
﴿الْهُدْهُدَ﴾ - بضمتين مع سكون الدال - والهُدَهِد - بضم ففتح فكسر - والهداهد: طائر ذو خطوط وألوان كثيرة، الواحدة: هدهدة بضمتين بينهما سكون، وهدهدة بضم ففتح فكسر، وهداهدة، والجمع: هداهد وهداهيد.
ويقولون: هو أبصر من هدهد؛ لأنهم يزعمون أنه يرى الماء تحت الأرض، وفي "حياة الحيوان": الهدهد: منتن الريح طبعًا؛ لأنه يبني أفحوصه في الزبل. وهذا عام في جنسه وإن بخر المجنون بعرف الهدهد أبرأه ولحمه إذا بخر به معقود عن المرأة، أو مسحور أبرأه. وفي "الفتاوى الزينية": سئل عن أكل الهدهد أيجوز أم لا؛ أجاب نعم يجوز. انتهى.
﴿عَذَابًا شَدِيدًا﴾: الإيجاع الشديد، وعذبه تعذيبًا أكثر حبسه في العذاب. ﴿أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ﴾ وأصل الذبح شق حلق الإنسان. اهـ. "روح".
﴿أَوْ لَيَأْتِيَنِّي﴾ بنون مشددة مفتوحة؛ هي نون التوكيد الثقيلة بعدها نون مكسورة؛ هي نون الوقاية، وقرىء ﴿لَيَأْتِيَنِّي﴾ بنون مشددة مكسورة أصله: ليأتينني بثلاث نونات، فحذفت النون التي قبل ياء المتكلم لتوالي الأمثال.
﴿فَمَكَثَ﴾ بضم الكاف وفتحها، والأول من باب قرب، والثاني من باب نصر، وفي "القاموس" وغيره: مكث يمكث - من باب نصر - مكثًا بفتح فسكون ومكثًا بفتحتين ومكوثًا ومكيثي بالمكان أقام ولبث فهو ماكث. والاسم المكث بضم الميم، والمِكث بكسرها، ومكث يمكث - من باب قرب - مكاثة نبت ورزن. اهـ والمكث: ثبات مع انتظار.
﴿بِمَا لَمْ تُحِطْ﴾ والإحاطة بالشيء علمًا: أن يعلمه من جميع جهاته حتى لا يخفى عليه معلوم ما. اهـ "خازن".
﴿مِنْ سَبَإٍ﴾ وسبأ: بلاد واقعة جنوبي غربي الجزيرة العربية في اليمن،
﴿تَمْلِكُهُمْ﴾؛ أي: تسوسهم وتدبر أمورهم، لا ملك الرقبة ﴿وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ﴾ والعرش في الأصل: شيء مسقف، ويراد به هنا سرير عظيم، أعني: سرير الملك. ﴿فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ﴾ والسبيل من الطريق ما هو معتاد السلوك.
﴿الْخَبْءَ﴾: مصدر بمعنى المخبوء، يقال: خبأت الشيء أخبؤه خبأ - من باب نفع -؛ أي: سترته، والخبء في السموات المطر وفي الأرض النبات.
﴿سَنَنْظُرُ﴾ من النظر بمعنى التأمل، والسين للتأكيد؛ لنعرف بالتجربة البتة.
﴿تَوَلَّ عَنْهُمْ﴾؛ أي: تنح عنهم إلى مكان قريب تتوارى فيه؛ ليكون ما يقولونه بسمع منك. ﴿فَانْظُرْ﴾؛ أي: تأمل وفكر. ﴿يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ﴾ والملأ: عظماء القوم الذين يملؤون العيون مهابة، والقلوب جلالة، جمعه أملاء كنبأ وأنباء. ﴿أَلَّا تَعْلُوا﴾؛ أي: ألا تتكبروا ولا تنقادوا للهوى والنفس. ﴿مُسْلِمِينَ﴾؛ أي: منقادين خاضعين.
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: الإشارة بالبعيد عن القريب في قوله: ﴿تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ﴾ للإيذان ببعد منزلته في الفضل والشرف.
ومنها: التنكير للتعظيم والتفخيم في قوله: ﴿وَكِتَابٍ مُبِينٍ﴾؛ أي: كتاب عظيم الشأن رفيع القدر.
ومنها: الإتيان بالمصدر بدل اسم الفاعل؛ للمبالغة في قوله: {هُدًى
ومنها: تكرير الضمير في قوله: ﴿وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ﴾ لإفادة الحصر والاختصاص، وأما وجه تكراره هنا فهو أنه كان أصل الكلام هم يوقنون بالآخرة، ثم قدم المجرور على عامله عناية به، فوقع فاصلًا بين المبتدأ والخبر، فأريد أن يلي المبتدأ خبره. وقد حال المجرور بينهما، فطرّي ذكره ليليه الخبر، ولم يفت مقصود العناية بالجار والمجرور حيث بقي على حاله مقدمًا، ولا يستنكر أن تعاد الكلمة مفصولة له وحدها بعدما يوجب التطرية. ومثله ﴿وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ﴾ وفيه المقابلة اللطيفة بين الجملتين.
ومنها: العدول في الصلة عن الجملة الفعلية إلى الجملة الاسمية؛ لإفادة التأكيد والمبالغة والدوام، فإن الإيمان والإيقان بالآخرة أمر ثابت مطلوب دوامه، ولذلك أتي به جملة اسمية، وجعل خبرها فعلًا مضارعًا، فقال: ﴿وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ﴾؛ للدلالة على أن إيقانهم يستمر على سبيل التجدد، أما إقامة الصلاة ايتاء الزكاة مما يتكرر ويتجدد في أوقاتهما المعينة، ولذلك أتى بهما فعلين، فقال: ﴿الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ﴾.
ومنها: التأكيد بـ ﴿إن﴾ واللام في قوله: ﴿إِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ﴾؛ أي: لوجود المتشككين في القرآن.
ومنها: تنوين الاسمين للتعظيم في قوله: ﴿مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ﴾.
ومنها: الجمع بين الحكيم والعليم إشعارًا بأن علوم القرآن منها ما هو حكمة كالعقائد والشرائع، ومنها ما ليس كذلك كالقصص والأخبار الغيبية.
ومنها: استعمال أو بدل ﴿الواو﴾ في قوله: ﴿أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ﴾ آثر ﴿أو﴾ على ﴿الواو﴾؛ نكتة بلاغية رائعة، فإن ﴿أَوْ﴾ تفيد التخيير، وقد بني رجاءهُ على أنه إن لم يظفر بحاجتيه جميعًا فلن يعدم بواحدة منهما، وهما: إما هداية الطريق، وإما اقتباس النار هضمًا لنفسه، واعترافًا بقصوره نحو ربه.
ومنها: التعجيب من عظمة ما رأى في قوله: ﴿وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾.
ومنها: التشبيه في قوله: ﴿كَأَنَّهَا جَانٌّ﴾ حيث شبه الحية العظيمة المسماة بالثعبان بالجان؛ أي: الحية الصغيرة في سرعة الحركة والالتواء.
ومنها: التعريض بظلم موسى بقتل القبطي في قوله: ﴿إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ﴾.
ومنها: الطباق بين الحسن والسوء في قوله: ﴿حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ﴾، وبين ﴿وَلَّى مُدْبِرًا {وَلَمْ يُعَقِّبْ﴾.
ومنها: التشبيه المرسل المجمل في قوله: ﴿كَأَنَّهَا جَانٌّ﴾ ذكرت أداة التشبيه وحذفت وجه الشبه، فصار مرسلًا مجملًا.
ومنها: المجاز العقلي في إسناد الإبصار إلى الآيات في قوله: ﴿فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً﴾ حيث نسب الإبصار إليها مجازًا؛ لأنه بها يبصر، ويجوز أن يكون مجازًا مرسلًا، والعلاقة السببية؛ لأنها سبب الإبصار، وهذا أولى من قول بعضهم: إن مبصرة اسم فاعل بمعنى اسم المفعول نحو ماء دافق؛ أي: مدفوق إشعارًا بأنها لفرط وضوحها وإنارتها كأنها تبصر نفسها لو كانت مما يبصر.
ومنها: التنوين والتنكير في قوله: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا﴾؛ لتعظيم العلم الذي أوتياه وتكثيره، كأنه قال: علمًا أي، علم، وهو كذلك فإن علمهما كان مما يستغرب ويستعظم، ومن ذلك علم منطق الطير وسائر الحيوانات على أن كل علم بالإضافة إلى علم الله سبحانه قليل ضئيل.
ومنها: استعمال حرف الاستعلاء لإفادة الفوقية في قوله: ﴿حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ﴾ فعدى ﴿أَتَوْا﴾ بـ ﴿عَلَى﴾؛ لأن الإتيان كان من فوق، فأتى بحرف الاستعلاء.
فَمَا مَيْتٌ أَحْيَا لَهُ اللهُ مَيِّتًا | لِيُخْبِرَ قَوْمًا أُنْذِرُوْا بِبَيَانِ |
وَعَجْفَاءُ قَدْ قَامَتْ لِتُنْذِرَ قَوْمَهَا | وَأَهْلَ قُرَاهَا رَهْبَةَ الْحَدَثَانِ |
ومنها: التأكيد المكرر في قوله: ﴿لَأُعَذِّبَنَّهُ﴾، ﴿أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ﴾، ﴿أَوْ لَيَأْتِيَنِّي﴾؛ لتأكيد الأمر.
ومنها: طباق السلب في قوله: ﴿أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ﴾.
ومنها: جناس التصريف في قوله: ﴿وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ﴾ اختلاف صيغة الكلمتين بإبدال حرف من حرف إما من مخرجه، أو من قريب من مخرجه؛ وهو من محسنات الكلام المتعلقة باللفظ. وقال أبو حيان في تعريفه: وهو أن تنفرد كل كلمة من الكلمتين عن الأخرى بحرف. انتهى.
قال صاحب "الكشاف": وهذا من محاسن الكلام بشرط أن يجيء مطبوعًا غير متكلف، أو يصنعه عالم بجوهر الكلام، ولقد حسن في الآية، وباع لفظًا ومعنى، ألا ترى أنه لوهوضع مكان ﴿بِنَبَإٍ﴾ لفظة بخبر.. لكان المعنى صحيحًا، ولكن يفوت ما في النبأ من الزيادة التي معناها الخبر الهام، والتي يطابقها وصف الحال؛ لأنه جاء منغومًا عذب الجرس؛ لاتفاق سبأ ونبأ.
ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
﴿قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ (٣٢) قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ (٣٣) قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (٣٤) وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (٣٥) فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (٣٦) ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ (٣٧) قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (٣٨) قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (٣٩) قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (٤٠) قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ (٤١) فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (٤٢) وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ (٤٣) قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (٤٤) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ (٤٥) قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٤٦) قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (٤٧) وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (٤٨) قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (٤٩) وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (٥٠) فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (٥١) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٥٢) وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (٥٣) وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (٥٤) أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (٥٥)﴾.
التفسير وأوجه القراءة
٣٢ - قوله تعالى: ﴿قَالَتْ﴾؛ أي: بلقيس قبله حذف معلوم من السياق، تقديره:
ثم زادت في التأدب لهم، واستجلاب خواطرهم ليمحضوها النصح، ويشيروا عليها بالصواب، فقالت: ﴿مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا﴾؛ أي: فاصلة ومنفذة أمرًا من الأمور ﴿حَتَّى تَشْهَدُونِ﴾؛ أي: حتى تحضروا عندي، وتشيروا علي؛ أي: لا أقطع أمرًا إلا بمحضركم وبموجب آرائكم؛ أي: عادتي معكم أن لا أفعل أمرًا من الأمور المتعلقة بالملك حتى أحضركم وأشاوركم.
وفيه استمالة لقلوبهم (٢)؛ لئلا يخالفوها في الرأي والتدبير، وفيه إشارة إلى أن المرء لا ينبغي أن يكون مستبدًا برأيه، ويكون مشاورًا في جميع ما سنح له من الأمور، لا سيما الملوك يجب أن يكون لهم قوم من أهل الرأي والبصيرة، فلا يقطعون أمرًا إلا بمشاورتهم. والمعنى: أي (٣): قالت بلقيس لأشراف قومها: أيها الملأ أشيروا علي في أمر هذا الكتاب الذي ألقي إلى، فإني لا أقضي فيه برأي حتى تشهدوني فأشاوركم فيه.
وفي قولها هذا دلالة على إجلالهم، وتكريمهم ليمحضوها النصح، ويشيروا عليها بالصواب، ولتختبر عزمهم على مقاومة عدوهم، وحزمهم فيما يقيم أمرهم
(٢) روح البيان.
(٣) المراغي.
وفي قراءة عبد الله (١): ﴿مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا﴾ وقوله: ﴿حَتَّى تَشْهَدُونِ﴾ بكسر النون (٢) والفتح لحن؛ لأن النون إنما تفتح في موضع الرفع، وهذا في موضع النصب. وأصله: حتى تشهدونني، فحذفت النون الأولى للنصب والياء؛ لدلالة الكسرة عليها، وبالياء في الوصل والوقف. قرأ يعقوب: أي: حتى تحضروني، أو تشيروني، أو تشهدوا أنه صواب؛ أي: لا أبت الأمر إلا بمحضركم. وقيل: كان أهل مشورتها ثلاثمئة وثلاثة عشر رجلًا.
٣٣ - وقوله: ﴿قَالُوا﴾ أي: قال الملأ مجيبين لها، استئناف بياني، كأنه قيل: فماذا قالوا في جوابها؟ فقيل: قالوا: ﴿نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ﴾ في العدد والعدة؛ أي: ذووا قوة في الآلات والأجساد والعدد. ﴿وَأُولُو بَأْسٍ﴾ أخذ ﴿شَدِيدٍ﴾ لأعدائنا عند الحرب واللقاء؛ أي: لنا من الشجاعة والنجدة ما نمنع به أنفسنا وبلدنا ومملكتنا؛ أي: لنا شجاعة مفرطة، وبطش شديد، فلا نخاف أعداءنا.
وهذا تعريض (٣) منهم بالقتال إن أمرتهم بذلك، ثم فوضوا الأمر إليها؛ لعلمهم بصحة رأيها وقوة عقلها، فقالوا: ﴿وَالْأَمْرُ﴾ في شأننا هذا، بل في كل
(٢) النسفي.
(٣) روح البيان.
وفيه إشارة إلى أن شرط أهل المشاورة أن لا يحكموا على الرئيس المستشير بشيء، بل يخيرونه فيما أراد من الرأي الصائب، فلعله أعلم بصلاح حاله منهم،
٣٤ - فلما أحست منهم الميل إلى الحرب، والعدول عن سنن الصواب، بادعائهم القوى الذاتية والعرضية لم ترض به، لما علمت أن من سخر له الطير على هذا الوجه لا يعجزه شيء يريده، ومالت إلى الصلح، وبينت السبب في رغبتها فيه. ﴿قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً﴾ من القرى، ومدينة من المدن على منهاج الحراب والقتال.
قال الزجاج: أي إذا دخلوها عنوة عن قتال وغلبة ﴿أَفْسَدُوهَا﴾ أي (١): خربوا مبانيها، وغيروا مغانيها، وأتلفوا أموالها، وفرقوا شمل أهلها ﴿وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً﴾؛ أي: ذليلين بالقتل والأسر، والإجلاء وغير ذلك من أنواع الإهانة والإذلال؛ أي: أهانوا أشرافها، وحطوا مراتبهم، فصاروا عند ذلك أذلة. وإنما يفعلون ذلك لأجل أن يتم لهم الملك، وتستحكم لهم الوطأة، وتتقرر لهم في قلوبهم المهابة، والمقصود من قولها هذا تحذير قومها من مسير سليمان إليهم، ودخوله بلادهم، وقد صدقها الله سبحانه فيما قالت، فقال سبحانه: ﴿وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ﴾؛ أي: مثل ذلك الفعل من الإفساد، وجعل الأعزة أذلة يفعلون؛ أي: وكما قالت هي تفعل الملوك.
قال ابن الأنباري: الوقف على قوله: ﴿وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً﴾ وقف تام. فقال الله عَزَّ وَجَلَّ تحقيقًا لقولها: ﴿وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ﴾ وقيل (٢): هذه الجملة من تمام كلامها، ذكرته توكيدًا لما وصفته من حال الملوك، وتقريرًا بأن ذلك من عادتهم المستمرة؛ أي: إن الذين أرسلوا الكتاب يفعلون مثل الذي تفعله الملوك،
(٢) المراح.
وفي ذلك إشارة إلى أن العاقل مهما تيسر له دفع الخصوم بطريق صالح لا يوقع نفسه في خطر الهلاك بالمحاربة والمقاتلة بالاختيار، إلا أن يكون مضطرًا. قال بعضهم: من السؤدد الصلح وترك الإفراط في المغيرة.
وفي "الفتوحات المكية": للملك أن يعفو عن كل شيء إلا عن ثلاثة أشياء، وهي: التعرض للحرم، وإفشاء سره، والقدح في الملك. نسأل الله حسن الأدب في طريق الطلب.
ومعنى الآية: أي قالت لهم حين عرضوا عليها أنفسهم لقتال سليمان: إنّ الملوك إذا دخلوا قرية فاتحين أفسدوها بتخريب عمائرها، وإتلاف أموالها، وأذلوا أهلها بالأسر والإجلاء عن موطنهم، أو قتلوهم تقتيلًا ليتم لهم الملك والغلبة، وتتقرر لهم في النفوس المهابة، وهكذا يفعلون معنا، وفي هذا تحذير شديد لقومها من مسير سليمان إليهم ودخوله بلادهم.
٣٥ - ثم لما قدمت لهم هذه المقدمة، وبينت لهم ما في دخول الملوك إلى أرضهم من المفسدة.. أوضحت لهم وجه الرأي عندها، وصرحت لهم بصوابه، فقالت: ﴿وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ﴾؛ أي: إلى سليمان وقومه رسلًا ﴿بِهَدِيَّةٍ﴾ عظيمة، وهي (١) اسم للشيء المهدي بملاطفة ورفق ﴿فَنَاظِرَةٌ﴾ هو؛ أي: فمنتظرة. قال في "كشف الأسرار": الناظر ها هنا بمعنى المنتظر، و ﴿الفاء﴾ فيه للعطف على مرسلة.
﴿بِمَ﴾ أصله بما، على أنه استفهام؛ أي: بأي شيء. ﴿يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ﴾ بالجواب من عنده حتى أعمل بما يقتضيه الحال، و ﴿بِمَ﴾ متعلق بـ ﴿يَرْجِعُ﴾؛ أي: إني أجرب هذا الرجل بإرسال رسلي إليه بهدية مشتملة على نفائس الأموال، فإن كان ملكًا أرضيناه بذلك، وكفينا أمره، وإن كان نبيًا لم يرضه ذلك؛ لأن غاية مطلبه، ومنتهى أربه هو الدعاء إلى الدين فلا ينجينا منه إلا إجابته ومتابعته، والتدين بدينه، وسلوك طريقته، وإني ناظرة فيما يرجع به رسلي المرسلون بالهدية
والمعنى: أي (١) وإنى ساْرسل إليه هدية من نفائس الأموال؛ لأتعرف حاله، وأختبر أمره، أنبي هو أم ملك، فإن كان نبيًا لم يقبلها، ولم يرض منا إلا أن نتبعه على دينه، وإن كان ملكًا قبل الهدية، وانصرف إلى حين، فإن الهدايا مما تورث المودة، وتذهب العداوة. وفي الحديث: "تصافحوا يذهب الغل، وتهادوا تحابوا وتذهب الشحناء"، ولقد أحسن من قال:
هَدَايَا النَّاسِ بَعْضُهُمُ لِبَعْضٍ | تُوَلِّدُ في قلُوْبِهِمُ الْوِصَالاَ |
وَتَزْرَعُ فِيْ الضمِيْرِ هَوَى وَوِدًّا | وَتُكْسِبُهُمْ إِذَا حَضَرُوْا جَمَالاَ |
(٢) الخازن.
٣٦ - كما أخبر الله سبحانه عنه بقوله: ﴿فَلَمَّا جَاءَ﴾ أي: الرسول المبعوث من قبل بلقيس وهو المنذر بن عمرو ﴿سُلَيْمَانَ﴾، والمراد بهذا المضمر الجنس، فلا ينافي كونهم جماعة، كما يدل عليه قولها: ﴿بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ﴾.
وقرأ عبد الله (١): ﴿فلما جاؤوا﴾ وقرأ: ﴿ارجعوا﴾ جعله عائدًا على قوله: ﴿الْمُرْسَلُونَ﴾ ﴿قَالَ﴾ سليمان مخاطبًا للرسول والمرسل تغليبًا على الغائب؛ أي: قال بعدما جرى بينه وبينهم من قصة الحقة وغيرها، أنه خاطبهم أول ما جاؤوه، كما يفهم من ظاهر العبارة.
﴿أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ﴾ حقير، أصله: أتمدونني (٢)، فحذفت الياء اكتفاء بالكسرة الدالة عليها، والهمزة للاستفهام الإنكاري التوبيخي؛ أي؛ لا ينبغي لكم يا أهل سبأ أن تمدوني وتعاونوني بالمال، ثم علل هذا الإنكار بقوله: ﴿فَمَا﴾ موصولة ﴿آتَانِيَ اللَّهُ﴾ مما رأيتم آثاره من النبوة، والملك الذي لا غاية وراءه ﴿خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ﴾ من المال ومتاع الدنيا، فلا حاجة لي إلى هديتكم، ولا وقع لها عندي؛
(٢) روح الببان.
وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو (١): ﴿أتمدونني﴾ بنونين وياء في الوصل. وروي المسيبي عن نافع: ﴿أتمدوني﴾ بنون واحدة خفيفة وياء في الوصل والوقف. وقرأ عاصم وابن عامر والكسائي: ﴿أَتُمِدُّونَنِ﴾ بغير ياء في الوصل والوقف. وقرأ حمزة ﴿أتمدوني بمال﴾ بنون واحدة مشددة ووقف على الياء. وقرأ ابن كثير وابن عامر وحمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم: ﴿فما آتان الله﴾ بكسر النون من غير ياء. وقرأ أبو عمرو ونافع وحفص عن عاصم: ﴿فَمَا آتَانِيَ﴾ بفتح الياء، فكأنهم فتحوا التاء، غير الكسائي، فإنه أمالها من ﴿أتاني الله﴾.
أي: قال منكرًا لإمدادهم له بالمال مع علو سلطانه، وكثرة أمواله (٢): أتساعدونني وتكرمونني بمال حقير، فما آتاني الله من النبوة والملك العظيم والأموال الكثيرة خير مما آتاكم من المال الذي هذه الهدية من جملته، ثم إنه أضرب عن الإنكار المتقدم، فقال؛ ﴿بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ﴾؛ أي: بما يهدى إليكم من الأموال. فالمضاف إليه ضمير المهدي إليه ﴿تَفْرَحُونَ﴾ حبًا لزيادة المال وكثرته لما أنكم لا تعلمون إلا ظاهرًا من الحياة الدنيا، توبيخًا لهم بفرحهم بهذه الهدية فرح فخر وخيلاء، وأما أنا فلا أفرح بها، وليست الدنيا من حاجتي؛ لأن الله سبحانه وتعالى قد أعطاني منها ما لم يعطه أحدًا من العالمين، ومع ذلك أكرمني بالنّبوة. والمراد بهذا الإضراب من سليمان بيان السبب الحامل لهم على الهدية مع الإزدراء بهم والحط عليهم.
وفي "الإرشاد" (٣): إضراب عما ذكر من إنكار الإمداد بالمال إلى التوبيخ بفرحهم بهديتهم التي أهدوها إليه افتخارًا وامتنانًا، واعتدادًا بها، كما ينبىء عنه ما ذكر من حديث الحقة والجزعة وتغيير زي الغلمان والجواري وغير ذلك. انتهى.
(٢) الشوكاني.
(٣) روح البيان.
وفي "التأويلات" يشير إلى أن الهدية موجبة لاستمالة القلوب، ولكن أهل الدين لما عارضهم أمر ديني في مقابلة منافع كثيرة دنيوية.. رجحوا طرف الدين على طرف المنافع الكثيرة الدنيوية، واستقلوا كثرتها؛ لأنها فانية، واستكبروا قليلًا من أمور الدين؛ لأنها باقية، كما فعل سليمان لما جاءه الرسول بالهدية.. استغل كثرتها، وقال: فما آتاني الله من كمالات الدين والقربات والدرجات الأخروية خير مما آتاكم من الدنيا وزخارفها. ﴿بَلْ أَنْتُمْ﴾: أمثالكم من أهل الدنيا بمثل هديتكم الدنيوية الفانية تفرحون؛ لخسة نفوسكم، وجهلكم عن السعادات الأخروية الباقية.
قال جعفر الصادق: الدنيا أصغر قدرًا عند الله وعند أنبيائه وأوليائه من أن يفرحوا بشيء منها، أو يحزنوا عليه، فلا ينبغي لعالم ولا لعاقل أن يفرح بعرض الدنيا.
وعبارة المراح هنا: قوله: ﴿بِهَدِيَّتِكُمْ﴾ فالمصدر (١) إما مضاف لفاعله؛ أي: تفرحون بما تهدونه افتخارًا على أمثالكم، واعتدادًا به من حيث إنكم قدرتم على إهداء مثله، وإما مضاف لمفعوله؛ أي: تفرحون بما يهدى إليكم حبًا في كثرة أموالكم، وحالي خلاف حالكم، فلا أفرح بالدنيا، وليست الدنيا من حاجتي. وقيل: بل أنتم بهديتكم هذه تفرحون باخذها إن رددت إليكم.
٣٧ - ثم قال سليمان عليه السلام للمنذر بن عمرو أمير الوفد: ﴿ارْجِعْ﴾ أيها الرسول (٢)، أفرد الضمير هاهنا بعد جمع الضمائر الخمسة فيما سبق؛ لأن الرجوع مختص بالرسول، والإمداد ونحوه عام. أو خص أمير الرسل بالخطاب هنا،
(٢) روح البيان.
﴿إِلَيْهِمْ﴾؛ أي: إلى بلقيس وقومها بهديتهم؛ ليعلموا أن أهل الدين لا ينخدعون بحطام الدنيا، وإنما يريدون الإِسلام فليأتوا مسلمين مؤمنين، وإلا ﴿فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ﴾؛ أي: بجموع من الجن والإنس والتاييد الإلهي ﴿لَا قِبَلَ لَهُمْ﴾؛ أي: لا طاقة لهم ﴿بِهَا﴾؛ أي: بمقاومتها، ولا قدرة لهم على مقابلتها. وقرأ ابن مسعود: ﴿بهم﴾ بضمير جمع المذكور، واللام في ﴿لَنَأْتِيَنَّهُمْ﴾ موطئة للقسم المحذوف. وقوله: ﴿وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ﴾ معطوف على جواب القسم؛ أي: فوالله لنأتين بلقيس وقومها في أرضهم سبأ بجنود لا قبل له بها، ولنخرجنهم ﴿مِنْهَا﴾؛ أي: من سبأ وأرضهم التي هم فيها حالة كونهم ﴿أَذِلَّةً﴾ بذهاب ما كانوا فيه من العز؛ أي: ذليلين بذهاب ملكهم وعزهم. بعدما كانوا أعزة أهلها، وجملة قوله: ﴿وَهُمْ صَاغِرُونَ﴾؛ أي: أسارى مهانون بوقوعهم في أسر واستعباد بأغلال أيمانهم إلى أعناقهم، حال أخرى مفيدة لكون إخراجهم بطريق الإجلاء. وقيل (١): هي حال مؤكدة؛ لأن الصَّغار هو الذلة. وقيل: إن المراد بالصغار هنا الأسر والاستعباد. وقيل: إن الصغار الإهانة التي تسبب عنها الذلة.
٣٨ - ولما رجع رسل بلقيس إليها، وأخبروها بخبر سليمان.. قالت: والله قد علمت أنه ليس بملك، ولا لنا به من طاقة، وبعثت إلى سليمان أني قادمة إليك بملوك قومي حتى انظر ما أمرك، وما تدعو إليه من دينك، وتجهزت للمسير إلى سليمان. وقيل: أخبر جبريل سليمان بذلك، فقال سليمان: يا أيها الملأ أيكم يأتيني بعرشها... إلخ.
وروي عن ابن عباس (٢) - رضي الله عنهما - أنه قال: لما رجعت رسل بلقيس إليها من عند سليمان، وأخبروها الخبر.. قالت: قد عرفت والله ما هذا بملك، ولا لنا به من طاقة، وبعثت إلى سليمان أني قادمة إليك بملوك قومي حتى
(٢) المراح.
قيل: أراد سليمان أن يريها بعض ما خصه الله تعالى به من إجراء العجائب على يده الدالة على عظيم قدرة الله تعالى، وعلى صدقه في نبوته، وكان سليمان إذ ذاك في بيت المقدس، وعرشها في سبأ بلدة باليمن، وبينها وبين بيت المقدس مسيرة شهرين، وأن يعرف مقدار مملكتها قبل وصولها إليه؛ لأن العرش سرير المملكة، وقيل: إنما أراد أخذ عرشها قبل أن يصلوا إليه ويسلموا؛ لأنها إذا أسلمت وأسلم قومها.. لم يحل أخذ أموالهم بغير رضاهم، وهذا (١) بعيد عند أهل التحقيق، أو أراد أن يؤتي به فينكر ويغير، ثم ينظر أتثبته أم تنكره، اختبارًا لعقلها، ولهذا قال: ﴿نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا﴾.
قال ابن عطية: وظاهر الروايات أن هذه المقالة من سليمان هي بعد مجيء هديتها ورده إياها وبعثه الهدهد بالكتاب، وعلى هذا جمهور المتأولين. انتهى. وقيل: أراد أن يختبر صدق الهدهد في وصفه للعرش بالعظم. والقول الأول هو الذي عليه الأكثر.
٣٩ - ﴿قَالَ عِفْرِيتٌ﴾؛ أي: مارد خبيث ﴿مِنَ الْجِنِّ﴾ بيان له؛ إذ يقال للرجل
وقرأ الجمهور (٢): ﴿عِفْرِيتٌ﴾ - بكسر العين وسكون الفاء وكسر الراء وسكون المثناة التحتية وبالتاء -، وقرأ أبي بن كعب وأبو العالية وابن يعمر وعاصم الجحدري: ﴿عَفْريت﴾ - بفتح العين وكسر الراء - وقرأ أبو رجاء وأبو السمال وعيسى الثقفي وابن السميقع ورويت عن أبي بكر الصديق: ﴿عَفْريَة﴾ - بكسر العين وسكون الفاء وكسر الراء بعدها ياء مفتوحة بعدها تاء التأنيث -، وقرأت فرقة: ﴿عفر﴾ بلا ياء ولا تاء. ويقال في لغة طي وتميم: ﴿عفراة﴾ بالألف وتاء التأنيث، وفيه لغة سادسة: ﴿عفارية﴾ ويوصف بها الرجل، ولما كان قد يوصف به الإنس.. خص بقوله: ﴿مِنَ الْجِنِّ﴾. وقرأ ابن مسعود وابن السميقع أيضًا: ﴿عفراة﴾ بكسر العين وفتح الراء وبالف من غير ياء.
﴿أَنَا آتِيكَ بِهِ﴾ أي: بعرشها ﴿قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ﴾؛ أي: من مجلسك للحكومة بين الناس، وكان يجلس من الصبح إلى الظهر في كل يوم. وقيل: المعنى قبل أن تستوي من جلوسك قائمًا. وقوله: ﴿آتِيكَ﴾: فعل مضارع، أصله: أأتيك بهمزتين، فأبدلت الثانية ألفًا، وكذا في الموضع الآتي. وقيل: هو اسم فاعل، وهو (٣) الإنسب لمقام ادعاء الإتيان بلا محالة، وأوفق بما عطف عليه من الجملة الاسمية؛ أي: أنا آت به في تلك المدة البتة.
﴿وَإِنِّي عَلَيْهِ﴾؛ أي: على حمله والإتيان به ﴿لَقَوِيٌّ﴾ لا يثفل علي حمله ﴿أَمِينٌ﴾ على ما فيه من الجواهر واللؤلؤ والذهب والفضة، لا أغيره ولا أبدله
(٢) البحر المحيط. وزاد المسير.
(٣) روح البيان.
٤٠ - ولما قال سليمان عليه السلام: أريد أسرع من هذا ﴿قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ﴾ وهو آصف بن برخيا بن خالة سليمان، وكان وزيره وكاتبه ومؤدبه في حال صغره، وكان رجلًا صديقًا يقرأ الكتب الإلهية، ويعلم الاسم الأعظم الذي إذا دعي الله به أجاب، وقد خلقه الله لنصرة سليمان ونفاذ أمره.
فالمراد بالكتاب جنس الكتب المنزلة على موسى وإبراهيم وغيرهما، أو اللوح المحفوظ وأسراره المكنونة. قال ابن عطية: وقالت فرقة: هو سليمان نفسه، ويكون الخطاب على هذا للعفريت، كأن سليمان استبطأ ما قاله العفريت، فقال له تحقيرًا له: ﴿أَنَا آتِيكَ بِهِ﴾؛ أي: بعرشها ﴿قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ﴾ ويرجع ﴿إِلَيْكَ طَرْفُكَ﴾؛ أي: بصرك مما نظرت إليه يعني أنك ترسل طرفك إلى شيء فقبل أن ترده أبصرت العرش بين يديك.
والمعنى على هذا القول الأخير؛ أي (١): قال سليمان للعفريت محدثًا بنعمة الله وعظيم فضله عليه: أنا أفعل ما لا تستطيع أنت، أنا أحضره في أقصر ما يكون مدة، أنا أحضره قبل ارتداد طرفك إليك، وقد كان كما قال. وقال المعتزلة: هو جبريل؛ وذلك لأنهم لا يرون كرامة الأولياء، وقيل: الخضر، والأول أولى، وقيل: غير ذلك مما لا أصل له. والله أعلم.
ويروى (٢): أن اصف قال لسليمان عليه السلام: مد عينيك حتى ينتهي طرفك، فمد عينيه، فنظر نحو اليمن، فدعا آصف فغار العرش في مكانه، ثم نبع عند مجلس سليمان بقدرة الله تعالى قبل أن يرتد طرفه. قيل: كان الدعاء الذي دعا به اصف يا ذا الجلال والإكرام. وقيل: يا حي يا قيوم، وروي ذلك عن عائشة، وروي عن الزهري قال: دعاء الذي عنده علم من الكتاب: يا إلهنا وإله كل شيء إلهًا واحدًا لا إله إلا أنت ائتني بعرشها. والمراد بالطرف تحريك
(٢) النسفي.
قال شيخ الإِسلام (١): القائل في قوله تعالى: ﴿قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ﴾ هو كاتب سليمان واسمه آصف. فإن قلت: كيف قدر مع أنه غير نبي على ما لم يقدر عليه سليمان من إحضار عرش بلقيس في طرفة عين؟ قلت: يجوز أن يخص غير النبي بكرامة لا يشاركه فيها النبي، كما خصت مريم بأنها كانت ترزق من فاكهة الجنة، وزكريا لم يرزق منها، ولم يلزم من ذلك فضلها على زكريا، وقد نقل أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - كان إذا أراد الخروج إلى الغزاة.. قال لفقراء المهاجرين والأنصار ادعو لنا بالنصرة، فإن الله سبحانه ينصرنا بدعائكم، ولم يكونوا أفضل منه مع أن كرامة التابع من جملة كرامة المتبوع.
ويحكى: أن العلم الذي كان عند آصف هو اسم الله الأعظم، فدعا به، فأجيب له في الحال، وهو عند أكثر العلماء كما قال البندنيجي اسم الله، وقيل: يا حي يا قيوم، وقيل: يا ذام الجلال والإكرام، وقيل: الله يا رحمن، وقيل: يا إلهنا وإله كل شيء إلهًا واحدًا لا إله إلا أنت. انتهى.
قال بعضهم (٢): أراد سليمان أن يظهر كرامة أمته؛ ليعلم أن في أمم الأنبياء أهل الكرامات؛ لئلا ينكروا من كرامات الأولياء. وقال محمد بن المنكدر: إنما الذي عنده علم هو سليمان نفسه، قال له عالم من بني إسرائيل: أنت النبي ابن النبي، وليس أحد أوجه منك عند الله، فإن دعوت الله كان العرش عندك، فقال: صدقت، ففعل ذلك، فجيء بالعرش في الوقت.
قال الرازي: وهذا القول أقرب، والمخاطب العفريت الذي كلمه، وأراد سليمان عليه السلام إظهار المعجزة فطالبه أولًا، ثم بين أنه يتحصل له من سرعة الإتيان بالعرش ما لا يتهيأ للعفريت. قيل: خر سليمان ساجدًا ودعا باسم الله الأعظم، فغاب العرش تحت الأرض حتى ظهر عند كرسي سليمان. وإنما هذا
(٢) المراح.
قوله: ﴿فَلَمَّا رَآهُ﴾ قبله حذف، تقديره: فأذن له سليمان، فدعا الله، فأتي به فلما رآه سليمان؛ أي: فلما رأى سليمان العرش ﴿مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ﴾؛ أي: حاضرًا لديه؛ أي: متحولًا إليه من مأرب إلى الشام في قدر ارتداد الطرف ﴿قَالَ﴾ سليمان شاكرًا لربه لما آتاه الله سبحانه من هذه الخوارق ﴿هذا﴾؛ أي: إتيان العرش في هذه المدة القصيرة ﴿مِنْ فَضْلِ رَبِّي﴾؛ أي: من إحسانه إلى من غير استحقاق له من قبلي أكرمني به ﴿لِيَبْلُوَنِي﴾؛ أي: لكي يختبرني ﴿أَأَشْكُرُ﴾ بذلك، واعترف بأنه من فضله من غير حول منى ولا قوة. ﴿مْ أَكْفُرُ﴾ بترك الشكر عليه، وعدم القيام به، أو بأن أثبت لنفسي تصرفًا في ذلك.
قال الأخفش: المعنى لينظر أأشكر أم أكفر. والابتلاء: الاختبار، وإذا قيل (١): ابتلي فلان بكذا وبلاه.. يتضمن أمرين:
أحدهما: تعرف حاله، والوقوف على ما يجهل من أمره.
والثاني: ظهور جودته ورداءته، وربما قصد به الأمران، وربما يقصد به أحدهما، فإذا قيل بلاه الله كذا، وابتلاه.. فليس المراد إلا ظهور جودته، أو رداءته دون التعرف لحاله، والوقوف على ما يجهل منه؛ إذ كان تعالى علام الغيوب.
﴿أَأَشْكُرُ﴾ بأن أراني محض فضله تعالى من غير حول من جهتي ولا قوة، وأقوم بحقه ﴿أَمْ أَكْفُرُ﴾ بأن أجد لنفسي مدخلًا في البين، وأقصر في إقامة موجبه، و ﴿أَمْ﴾ هنا متصلة.
﴿وَمَنْ كَفَرَ﴾؛ أي: ترك شكر الله سبحانه على فضله وإحسانه إليه بأن لم يعرف النعمة، ولم يؤد حقها، فإن مضرة كفره ووباله عليه، لا يضر الله سبحانه كفرانه. ﴿فَإِنَّ رَبِّي﴾؛ أي: لأن ربي سبحانه ﴿غَنِيٌّ﴾ عن شكره، لا يضره ذلك الكفران ﴿كَرِيمٌ﴾ بالإفضال عليه، لا يقطع نعمه عنه بسبب إعراضه عن الشكر وكفران النعمة. قال الواسطي: ما كان منا من الشكر فهو لنا، وما كان منه من النعمة فهو إلينا، وله المنة والفضل علينا.
قال في "المفردات": المنحة والمحنة جميعًا بلاء، فالمحنة مقتضية للصبر، والمنحة مقتضية للشكر. والقيام بحقوق الصبر أيسر من القيام بحقوق الشكر، فصارت المنحة أعظم البلاءين، وبهذا النظر قال عمر - رضي الله عنه -: بلينا بالضراء فصبرنا، وبلينا بالسراء فلم نصبر، ولهذا قال أمير المؤمنين - رضي الله عنه -: من وسع عليه دنياه فلم يعلم أنه قد مكر به فهو مخدوع عن عقله. وقال الواسطي أيضًا في الشكر: إبطال رؤية الفضل كيف يوزاي شكر الشاكرين فضله، وفضله قديم وشكرهم محدث. اهـ.
قال في "الأسئلة المقحمة": في الآية دليل على إثبات الكرامات من وجهين:
أحدهما: أن العفريت من الجن لما ادعى إحضاره قبل أن يقوم سليمان من مقامه.. لم ينكر عليه سليمان، بل قال: أريد أعجل من ذلك، فإذا جاز أن يكون مقدورًا لعفريت من الجن.. فكيف لا يكون مقدورًا لبعض أولياء الله تعالى.
فصل
والكرامة (١): ظهور أمر خارق للعادة من قبل شخص صالح غير مقرون بدعوى النبوة والرسالة، فما لا يكون مقرونًا بالإيمان والعمل الصالح يسمى استدراجًا، وما يكون مقرونًا بدعوى النبوة يسمى معجزة. قال بعضهم: لا ريب عند أولي التحقيق أن كل كرامة نتيجة فضيلة من علم أو عمل أو خلق حسن، فلا يعول على خرق العادة بغير علم صحيح، أو عمل صالح، فطي الأرض إنما هو نتيجة عن طي العبد أرض جسمه بالمجاهدات، وأصناف العبادات، وإقامته على طوال الليالي بالمناجاة، والمشي على الماء لمن أطعم الطعام وكسا العراة؛ إما من ماله، أو بالسعي عليهم، أو علم جاهلًا، أو أرشد ضالًا؛ لأن هاتين الصفتين سر الحياتين، الحسية والعلمية، وبينهما وبين الماء مناسبة بينة.
وترك الظهور بالكرامات الحسية والعلمية أليق للعارف؛ لأنه محل الآفات، وللعارف استخدام الجن أو الملك في غذائه من طعامه وشرابه وفي لباسه. قال في "كشف الأسرار": قد تحصل الكرامة باختيار الولي ودعائه، وقد تكون بغيره، وفي الحديث: "كم من أشعث أغبر ذي طمرين - إزار ورداء باليين - لا يؤبه - يبالي - له لو أقسم على الله لأبره".
وكرامات الأولياء ملحقة بمعجزات الأنبياء؛ إذ لو لم يكن النبي صادقًا في معجزته ونبوته.. لم تكن الكرامة تظهر على من يصدقه، ويكون من جملة أمته، ولا ينكر كرامات الأولياء إلا أهل الحرمان سواء أنكروها مطلقًا، أو أنكروا كرامات أولياء زمانهم، وصدقوا كرامات الأولياء الذين ليسوا في زمانهم
٤١ - ﴿قَالَ﴾ سليمان، كرر الحكاية تنبيهًا على ما بين السابق واللاحق من المخالفة؛ لما أن الأول من باب الشكر، والثاني أمر لخدمه: ﴿نَكِّرُوا﴾؛ أي: غيروا ﴿لَهَا﴾؛ أي: لأجل إدراك مستوى عقلها. ﴿عَرْشَهَا﴾؛ أي: سريرها الذي جيء به؛ أي: غيروا هيئته وشكله بوجه من الوجوه، بحيث ينكر ويجهل، والأمر للشياطين، فجعل الشياطين أسفله أعلاه، وبنوا فوقه قبابًا أخرى هي أعجب من تلك القباب، وجعلوا موضع الجوهر الأحمر الأخضر وبالعكس؛ أي: غيروا سريرها إلى حال تنكره إذا رأته بزيادة أو نقصان.
قال الفراء وغيره: إنما أمرهم بتنكيره؛ لأن الشياطين قالوا له: إن في عقلها شيئًا، فأراد أن يمتحنها. وقيل: خافت الجن أن يتزوج بها سليمان، فيولد له منها ولد، فيبقوا مسخرين لآل سليمان أبدًا، فقالوا لسليمان: إنها ضعيفة العقل، ورجلها كرجل الحمار.
وقوله: ﴿نَنْظُرْ﴾ قراءة الجمهور بالجزم على أنه جواب الأمر (١). وقرأ أبو حيوة بالرفع على الاستئناف؛ أي: نختبر ﴿أَتَهْتَدِي﴾ إلى معرفته فتظهر رجاحة عقلها. ﴿أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ﴾ إلى معرفته فتطهر سخافة عقلها. وذلك (٢) أن الشياطين خافوا أن تفشي بلقيس أسرارهم إلى سليمان؛ لأن أمها كانت جنية، وأن يتزوجها سليمان، ويكون بينهما ولد جامع للجن والإنس فيرث الملك، ويخرجون من ملك سليمان إلى ملك هو أشد وأفظع، ولا ينفكون من التسخير، ويبقون في التعب والعمل أبدًا، فأرادوا أن يبغضوها إلى سليمان، فقالوا: إن في عقلها خللًا وقصورًا، وإنها شعراء الساقين، وإن رجليها كحافر الحمار، فأراد سليمان أن يختبرها في عقلها فأمر بتنكير العرش، واتخذ الصرح كما سيأتي؛
(٢) روح البيان.
٤٢ - ﴿فَلَمَّا جَاءَتْ﴾ بلقيس سليمان والعرش بين يديه ﴿قِيلَ﴾ لها من جهة سليمان بالذات، أو بالواسطة امتحانًا لعقلها: ﴿أهَكَذَا عَرْشُكِ﴾؛ أي: أمثل هذا عرشك الذي تركته في قصرك، وأغلقت عليه الأبواب، وجعلت عليه حراسًا، ولم يقل: هذا عرشك؛ لئلا يكون تلقينًا لها، فيفوت ما هو المقصود من الأمر بالتنكير، وهو اختيار عقلها ﴿قَالت﴾ بلقيس جوابًا له: ﴿كَأَنَّهُ﴾؛ أي: كأن عرشي ﴿هُوَ﴾؛ أي: هذا العرش الحاضر، أو كأن هذا الحاضر هو عرشي، فلوحت لما اعتراه بالتنكير من نوع مغاير في الصفات مع اتحاد الذات، فاستدل سليمان بذلك على كمال عقلها، حيث لم تقر ولم تنكر، ولم تقل لا، ولا قالت: نعم، بل شبهوا عليها فشبهت عليهم مع علمها بحقيقة الحال، ولو قيل لها: هذا عرشك؟ لقالت: نعم، لمعرفتها للعرش. وقال عكرمة: كانت حكيمة، لم تقل: نعم، خوفًا من أن تكذب، ولم تقل: لا، خوفًا من التكذيب لها.
وكأنها ظنت أن سليمان أراد بذلك اختبار عقلها، وإظهار معجزة لها، فقالت: ﴿وَأُوتِينَا الْعِلْمَ﴾؛ أي (١): وأعطينا العلم بكمال قدرته تعالى، وصحة نبوتك ﴿مِنْ قَبْلِهَا﴾؛ أي: من قبل هذه المعجزة التي شاهدناها الآن في العرش بما سمعناه من رسولنا المنذر بن عمرو من الآيات الدالة على ذلك ﴿وَكُنَّا مُسْلِمِينَ﴾؛ أي: منقادين خاضعين لأمر سليمان من ذلك الوقت. وهذا من تتمة كلام بلقيس.
والمعنى: وأوتينا العلم بالله وبصحة نبوة سليمان بالآيات المتقدمة من أمر الهدهد والرسل من قبلها؛ أي: من قبل الآية الظاهرة في العرش. وقيل: هو من كلام سليمان، والمعنى عليه: وأوتينا العلم بالله وبقدرته على ما يشاء من قبل هذه المرأة، وقيل: أوتينا العلم بإسلامها، وبمجيئها طائعة من قبلها؛ أي: من قبل مجيئها، وكنا مسلمين منقادين لأوامر الله تعالى.
ويكون الغرض من هذا (٢): شكر نعمة الله تعالى عليه أن خصه بمزيد العلم
(٢) الخازن.
وخلاصة المعنى على القول الأول: وعليه أكثر المفسرين؛ أي: وأوتينا العلم بكمال قدرة الله وصدق نبوتك من قبل هذه المعجزة بما شاهدناه من أمر الهدهد، وبما سمعناه من رسلنا إليك من الآيات الدالة على ذلك، وكنا منقادين لك من ذلك الحين، فلا حاجة إلى إظهار معجزات أخرى.
٤٣ - وقوله: ﴿وَصَدَّهَا﴾؛ أي: منع بلقيس من إظهار ما ادعته من الإِسلام إلى الآن. ﴿مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ سبحانه، بيان من جهته تعالى لما كان يمنعها من الإِسلام؛ أي: منعها عن عبادة الله سبحانه عبادة ما كانت تعبده من دون الله تعالى قديمًا؛ وهو الشمس، فـ ﴿مَا كَانَتْ تَعْبُدُ﴾ فاعل ﴿صد﴾ ويحتمل كون (٢) فاعل ﴿صد﴾ ضميرًا عائدًا على ﴿سُلَيْمَانُ﴾، و ﴿مَا﴾ مجرورة بحرف جر محذوف.
والمعنى: وصدها سليمان؛ أي: منعها وصرفها عن الذي كانت تعبده من دون الله، وحال بينها وبينه؛ وهو الشمس، أو المعنى (٣): وصدها الله سبحانه عن عبادتها القديمة بالتوفيق للإيمان، فيكون الفاعل ضميرًا يعود على ﴿اللَّهِ﴾ سبحانه، و ﴿مَا﴾: مفعول على الوجهين الأخيرين، وفاعل على الأول، والأول أولى، والجملة مستأنفة للبيان، كما ذكرنا.
وقوله: ﴿إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ﴾: تعليل لسببية عبادتها المذكورة؛ للصد عن عبادة الله سبحانه؛ أي: إنها كانت من قوم راسخين في الكفر، ولذلك لم تكن قادرة على إسلامها، وهي بين ظهرانيهم إلى أن دخلت تحت ملك سليمان؛ أي: فصارت من قوم مؤمنين، أو استئناف أخبر الله تعالى أنها كانت من مجوس يعبدون الشمس، فلا تعرف إلا عبادتها.
قرأ الجمهور (٤): بكسر الهمزة. وقرأ سعيد بن جبير وأبو حيوة وابن أبي
(٢) المراح بتصرف.
(٣) اليضاوي.
(٤) البحر المحيط.
والمعنى: أي (١) ومنعها ما كانت تعبده من دون الله تعالى؛ وهو الشمس عن إظهار الإِسلام، والاعتراف بوحدانيته تعالى من قبل أنها من قوم كانوا يعبدونها، ونشأت بين أظهرهم، ولم تكن قادرة على إظهار إسلامها إلى أن مثلت بين يدي سليمان، فاستطاعت أن تنطق بما كانت تعتقده في قرارة نفسها، ويجول في خاطرها.
٤٤ - روي: أن سليمان أمر قبل مقدمها ببناء قصر عظيم جعل صحنه - أي أرضه - من زجاج أبيض شفاف يجري من تحته الماء، وألقى فيه دواب البحر من سمك وغيره، فلما قدمت إليه استقبلها فيه، وجلس في صدره، فحين أرادت الوصول إليه.. حسبته ماء، فكشفت عن ساقيها؛ لئلا تبتل أذيالها، كما هي عادة من يخوض الماء، فقال لها سليمان: إن ما تظنينه ماء ليس بالماء، بل هو صرح قد صنع من الزجاج، فسترت ساقيها وعجبت من ذلك، وعلمت أن هذا ملك أعز من ملكها، وسلطان أعز من سلطانها، ودعاها سليمان إلى عبادة الله سبحانه، وعابها على عبادة الشمس دون الله سبحانه، فأجابته إلى ما طلب، وقالت: رب إني ظلمت نفسي بالثبات على ما كنت عليه من الكفر، وأسلمت مع سليمان لله رب كل شيء، وأخلصت له العبادة.
وإلى ما تقدم أشار سبحانه بقوله: ﴿قِيلَ لَهَا﴾ من جهة سليمان ﴿ادْخُلِي الصَّرْحَ﴾؛ أي: الصحن والبلاط المتخذ من زجاج. قال أبو عبيدة (٢): الصرح: القصر. وقال الزجاج: الصرح الصحن. يقال: هذه صرحة الدار وقاعتها. وقال ابن قتيبة: الصرح: بلاط اتخذ من قوارير، وجعل تحته ماء وسمك.
﴿فَلَمَّا رَأَتْهُ﴾؛ أي: فلما رأت بلقيس الصرح؛ أي: ذلك الصحن المتخد من
(٢) الشوكاني.
وقرأ ابن كثير وقنبل في رواية الأخريط عن وهب بن واضح: ﴿عن سأقيها﴾ بالهمز. قال أبو عليّ: وهي ضعيفة، وكذلك في قراءة قنبل ﴿يوم يكشف عن سأق﴾، وأما همزة السؤق وعلى سؤقه، فلغة مشهورة في همز ﴿الواو﴾ التي قبلها ضمة، ذكره أبو حيان.
أي: تَشَمَّرَت؛ لئلا تبتل أذيالها؛ لأجل أن تصل إلى سليمان، فإذا هي أحسن الناس ساقًا وقدمًا، خلا أنها شعراء. قال وهب بن منبه: فلما رأت اللجة فزعت وظنت أنها قصد بها الغرق، وتعجبت من كون كرسيه على الماء، ورأت ما هالها، ولم يكن لها بدّ من امتثال الأمر، فرفعت ثيابها عن ساقيها فرآهما، فإذا هي أحسن النساء ساقًا وقدمًا سليمة مما قالت الجن فيها إلا أنها كانت كثيرة الشعر في ساقيها، فلما علم الحال صرف بصره عنها.
﴿قَالَ﴾ سليمان عليه السلام حين رأى منها الدهشة والرعب لا تكشفي ساقيك ﴿إِنَّهُ﴾؛ أي: إن ما توهمته ماء ﴿صَرْحٌ﴾؛ أي: بلاط ﴿مُمَرَّدٌ﴾؛ أي: مملس؛ أي: أملس مصنوع ﴿مِنْ قَوَارِيرَ﴾؛ أي: من زجاج صاف شفاف، وليس بماء؛ جمع قارورة؛ أي: إن الذي ظننته ماء سقف مملس مصنوع من زجاج تحته ماء، فلا تخافي واعبري.
وحاصل مما في المقام كما مر قريبًا: أن سليمان (٢) أمر الشياطين قبل قدوم بلقيس بأن يحفروا على طريقها حفيرة، ويجعلوا سقفها زجاجًا أبيض شفافًا، ويصنعوا فيها ماء وسمكًا وضفدعًا وغير ذلك من حيوانات الماء، وصار الماء وما فيه يرى من هذا الزجاج، فمن أراد مجاوزته يمر فوق السطح الذي تحته الماء، ولا يمسه الماء، ومن لم يكن عالمًا بالحال يظن هذا ماء مكشوفًا ليس له
(٢) المراح.
وقال القيصري: أسلمت إسلام سليمان؛ أي: كما أسلم سليمان. و ﴿مَعَ﴾ في هذا الموضع كـ ﴿مع﴾ في قوله: ﴿يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ﴾؛ إذ لا شك أن زمان إيمان المؤمنين ما كان مقارنًا لزمان إيمان الرسل، وكذا إسلام بلقيس ما كان عند إسلام سليمان، فالمراد كما أنه آمن بالله آمنت بالله، وكما أنه أسلم لله أسلمت لله. انتهى.
ويجوز أن يكون ﴿مَعَ﴾ هنا واقعًا بعد، كما في قوله: ﴿إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (٦)﴾ وقال (٢) شيخ الإِسلام: حقيقة المعية الاتفاق في الزمان، وسليمان كان مسلمًا قبلها، ولم يقل بدل ﴿مَعَ سُلَيْمَانَ﴾ على يد سليمان؛ لأنها كانت ملكة فلم تذكر عبارة تدل على أنها صارت مولاة له بإسلامها، وإن كان الواقع كذلك. انتهى.
قيل لما أراد سليمان أن يتزوجها، وكره شعر ساقيها.. أمر الشياطين أن يتخذوا النورة والحمام لأجل إزالته، فكانتا من يومئذ، فلما تزوجها سليمان أحبها حباَ شديدًا حتى بقيت على نكاحه إلى أن مات عنها، ورزق منها بولد اسمه داود.
(٢) فتح الرحمن.
فائدة: روي (١) أن سليمان ملك وهو ابن ثلاث عشرة سنة، ومات وهو ابن ثلاث وخمسين سنة، فمدة ملكه أربعون سنة، ووفاته في أواخر سنة خمس وسبعين وخمس مئة لوفاة موسى عليه السلام، وبين وفاته والهجرة الشريفة الإِسلامية ألف وسبع مئة وثلاث وسبعون سنة، ونقل أن قبره ببيت المقدس عند الجيسمانية، وهو وأبوه داود في قبرٍ واحد، وعاش أبوه داود مئة سنة.
قصص صالح عليه السلام
٤٥ - قوله ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا﴾ معطوف (٢) على قوله: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ﴾ واللام فيه موطئة للقسم، وهذه القصة من جملة بيان قوله: ﴿وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (٦)﴾؛ أي: وعزتي وجلالي لقد أرسلنا ﴿إِلَى ثَمُودَ﴾ وهي قبيلة من العرب كانوا يعبدون الأصنام ﴿أَخَاهُمْ﴾ النسبي المعروف عندهم بالصدق والأمانة، وقوله: ﴿صَالِحًا﴾ عطف بيان من ﴿أَخَاهُمْ﴾، وهو صالح بن عبيد بن آسف بن كاشح بن حاذر بن ثمود، وعاش (٣) صالح مئتين وثمانين سنة، وبينه وبين هود مئة سنة، وعاش هود أربع مئة سنة وأربعًا وستين سنة، وبينه وبين نوح ثمان مئة سنة.
أي: أرسلناه إليهم بـ ﴿أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ﴾ سبحانه أي: وحدوه بالعبادة، ولا تعبدوا غيره معه، فـ ﴿إن﴾ مصدرية في محل الجر بالباء المحذوفة، ويصح كونها مفسرة؛ لأن الإرسال بمعنى الوحي يتضمن معنى القول، كما في "الكرخي".
و ﴿إِذَا﴾ في قوله: ﴿فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ﴾ فجائية؛ أي؛ ففاجأ إرساله تفرقهم واختصامهم، فآمن فريق وكفر فريق؛ أي: استمروا على كفرهم.
(٢) الشوكاني.
(٣) الفتوحات.
والمراد بالفريقين (١): المؤمنون منهم والكافرون، ومعنى الاختصام: أن كل فريق يخاصم على ما هو فيه، ويزعم أن الحق معه. وقيل: إن الخصومة بينهم في صالح هل هو مرسل أم لا؟ وقيل: أحد الفريقين صالح، والفريق الآخر جميع قومه؛ وهو ضعيف.
والمعنى (٢): إذا قوم صالح فريقان مؤمن به وكافر به يختصمون في الدين، فيقول كل فريق الحق معي، وهو مبين في قوله في سورة الأعراف: ﴿قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (٧٥) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (٧٦)﴾ وقال الفريق الكافر: يا صالح ائتنا بما تعدنا إن كنت من المرسلين.
ومعنى الآية: وعزتي وجلالي لقد بعثنا إلى ثمود أخاهم صالحا، وقلنا لهم: اعبدوا لله وحده لا شريك له، ولا تجعلوا معه إلهًا غيره. وحين دعاهم إلى ذلك افترقوا فرقتين؛ فريق صدق صالحًا، وآمن بما جاء به من عند ربه، وفريق كذبه، وكفر بما جاء به وصارا يتجادلان ويتخاصمان، وكل منهما يقول: أنا على الحق، وخصمي على الباطل.
٤٦ - ثم ذكر أن صالحًا ستعطف المكذبين، وكانوا أكثر عددًا وأشد عتوا وعنادًا، حتى قالوا: ﴿يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾؛ ﴿قَالَ﴾ صالح ﴿يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ﴾؛ أي: بالعقوبة التي يسوْءُكم نزولها بكم.
(٢) النسفي.
والاستعجال: طلب الشيء قبل أوانه، وأصل ﴿لِمَ﴾ لما على أنه استفهام، حذفت ألفها فرقًا بينها وبين ﴿ما﴾ الموصولة في صورة الجر بالحرف؛ أي: قال لهم: لأي غرض تطلبون عجلة العقوبة حيث قلتم ائتنا بما تعدنا قبل التوبة، فتؤخرونها إلى حين نزول العذاب، فإنهم كانوا من جهلهم وغوايتهم يقولون: إن وقع تبنا حينئذٍ وإلا فنحن على ما كنا عليه.
ثم نصحهم، وطلب إليهم أن يستغفروا ربهم لعلهم يرحمون، فقال: ﴿لَوْلَا﴾ حرف تحضيض بمعنى هلا؛ أي: هلا ﴿تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ﴾ سبحانه وتتوبون إليه من كفركم، فيغفر لكم عظيم جرمكم، ويصفح عن عقوبتكم على ما أتيتم به من الخطايا. ﴿لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ بقبولها؛ إذ قد جرت سنته أن لا تقبل التوبة بعد نزول العقوبة، أي (١): رجاء أن ترحموا أو لكي ترحموا فلا تعذبوا، فإن استعجال الخير أولى من استعجال الشر، ووصف العذاب بأنه سيئة مجازًا؛ إما لأن العذاب من لوازمه، أو لأنه يشبهه في كونه مكروهًا،
٤٧ - فكان جوابهم عليه بعد هذا الإرشاد الصحيح والكلام اللين أنهم ﴿قَالُوا﴾؛ أي: قال الفريق الكافر منهم لصالج ومن معه: إنا قد ﴿اطَّيَّرْنَا﴾ وتشاءمنا ﴿بِكَ﴾ يا صالح ﴿و﴾ بـ ﴿مَنْ﴾ دخل ﴿مَعَكَ﴾ في دينك؛ أي: كرهنا فالكم وفأل دينكم، حيث (٢) تتابعت علينا الشدائد والمصائب. من القحط والاختلاف منذ اخترعتم دينكم هذا، وكانوا قحطوا عند مبعثه بسبب تكذيبه، فقالوا: أصابنا هذا الشر من شؤمك وشؤم أصحابك فنسبوه إلى مجيئه، يعنون: شدتنا من شؤمك ومن شؤم من آمن معك؛ أي: من قبح حالكم وقبح دينكم، وقد كانت العرب أكثر الناس طيرة وأشقاهم بها، وكانوا إذا أرادوا سفرًا أو أمرًا من الأمور نفروا - حركوا - طائرًا من وكره، فإن طار يمنةً ساروا وفعلوا ما عزموا، وإن طار يسرةً تركوا ذلك.
(٢) المراح.
وأصل ﴿اطَّيَّرْنَا﴾ تطيرنا، وقد قرىء بذلك فادغمت التاء في الطاء، واجتلبت الهمزة لسكون الطاء، فإذا ابتدأت قلت: اطيرنا، وإذا وصلت لم تذكر الهمزة وتسقط لأنها همزة وصل.
فلما قالوا ذلك ﴿قَالَ﴾ لهم صالح ﴿طَائِرُكُمْ﴾؛ أي: حظكم ونصيبكم من الخير والشر مكتوب ﴿عِنْدَ اللَّهِ﴾ سبحانه وتعالى، ومقدر عليكم من عنده تعالى، لا من عندنا. وقيل: طائركم؛ أي: شدتكم ورخاؤكم من عند الله تعالى، لا من عندنا. وقال ابن عباس: الشؤم: الشدة التي أتتكم من عند الله بكفركم. وقيل: طائركم؛ أي: عملكم عند الله سمي طائرًا؛ لسرعة صعوده إلى السماء. وقيل طائركم؛ أي: سببكم الذي جاء منه شركم عند الله؛ وهو قدره، سمي القدر طائرًا لسرعة نزوله، ولا شيء أسرع من قضاء محتوم.
والمعنى: أن الشؤم الذي أصابكم هو من عند الله تعالى بسبب كفركم، ثم أوضح لهم سبب ما هم فيه بأوضح بيان، فقال: ﴿بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ﴾؛ أي: تختبرون (١) بتعاقب السراء والضراء؛ أي: الخير والشر، والدولة والنكبة، والسفولة والصعوبة، أو تعذبون بذنوبكم. وقيل: يفتنكم غيركم. وقيل: يفتنكم الشيطان بما تقعون فيه من الطيرة، أو بما لأجله تطيرون، فأضرب عن ذكر طائرهم الذي هو مبدأ ما يحيق بهم إلى ذكر ما هو الداعي إليه.
واختبار الله تعالى (٢): إنما هو لإظهار الجودة والرداءة، ففي الأنبياء والأولياء والصلحاء تظهر الجودة، ألا ترى أن أيوب عليه السلام امتحن فصبر، فظهر للخلق درجته وقربه من الله تعالى، وفي الكفار والمنافقين والفاسقين تظهر
(٢) روح البيان.
والابتلاء مطلقًا؛ أي: سواء كان في صورة المحبوب، أو في صورة المكروه رحمة من الله تعالى في الحقيقة؛ لأن مراده جذب عبده إليه، فإن لم ينجذب حكم عليه بالغضب في الدنيا والآخرة، كما ترى في الأمم السالفة، ومن يليهم في كل عصر إلى آخر الزمان.
والمعنى: أي (١) بل أنتم قوم يختبركم ربكم حين أرسلني إليكم أتطيعونه فتعملوا بما أمركم به، فيجزيكم الجزيل من ثوابه، أم تعصونه فتعملوا بخلافه فيحل بكم عقابه.
٤٨ - ثم ذكر أن قريته كانت كثيرة الفساد، فقال: ﴿وَكَانَ فِي الْمَدِينَة﴾؛ أي: في مدية ثمود، وهي الحجر، وتقدم في سورة الحجر أن الحجر واد بين المدينة والشام، وهو ديار ثمود. ﴿تِسْعَةُ رَهْطٍ﴾؛ أي: تسعة أشخاص، وبهذا الاعتبار وقع تمييزًا للتسعة، لا باعتبار لفظه، فإن مميز الثلاثة إلى العشرة مخفوض مجموع. قال (٢) ابن عباس - رضي الله عنهما -: أسماؤهم: وهي، ورعيم، وهرمي، وهريم، ودابّ، وصواب، ورباب، ومسطع، وقدار بن سالف عاقر الناقة، وأسماؤهم عن وهب بن منبه قد نظمها بعضهم في بيتين، فقال:
رَبَابٌ وَغَنْمٌ وَالْهَذِيْلُ وَمِسْطَعٌ | عُمَيْرٌ بَسِيْطٌ عَاصِمٌ وَقِدَارُ |
وَسَمْعَانُ رَهْطٍ الْمَاكِرِيْنَ بِصَالِحٍ | أَلَا إِنَّ عُدْوَانَ النُفُوْسِ جَوَارُ |
ثم وصف التسعة بقوله: ﴿يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ﴾؛ أي: يعملون الفساد في أرض الحجر بالشرك، وسائر أنواع المعاصي ﴿وَلَا يُصْلِحُونَ﴾؛ أي: لا يفعلون
(٢) المراح.
٤٩ - ﴿قَالُوا﴾ استئناف لبيان (١) بعض ما فعلوا من الفساد، أي: قال بعضهم لبعض في أثناء المشاورة في أمر صالح عليه السلام بعد أن عقروا الناقة، وتوعدهم بقوله: ﴿تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ﴾ ﴿تَقَاسَمُوا﴾؛ أي: تحالفوا، وهو أمر مقول لـ ﴿قَالُوا﴾، أو ماض وقع حالًا من ﴿الواو﴾ في ﴿قالوا﴾ بإضمار قد؛ أي: والحال أنهم تقاسموا بالله ﴿لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ﴾ أي: احلفوا لنباغتنه وأهله بالهلاك ليلًا؛ أي: لنأتين صالحًا ليلًا بغتة، فلنقتلنه وأهله ﴿ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ﴾؛ أي: لولي دم صالح وأهله إن سألنا عنه ﴿مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ﴾؛ أي: ما حضرنا هلاكه وهلاكهم فضلًا عن أن نتولى إهلاكهم فيكون مصدرًا، أي: ما هلاكهم فيكون زمانًا، أو مكان هلاكهم فيكون اسم مكان. ولا ندري من قتله ولا قتل أهله ﴿وَإِنَّا لَصَادِقُونَ﴾؛ أي: ونحلف إنا لصادقون فيما نقول، فهو من تمام القول، وإذا كانوا لم يشهدوا هلاكهم فهم لم يقتلوهم بالأولى، وأيضًا فهم إذا لم يقتلوا الأتباع فأحر بهم أن لا يقتلوا صالحًا.
وقرأ الجمهور (٢): ﴿تَقَاسَمُوا﴾ وابن أبي ليلى: ﴿تقسموا﴾ بغير ألف وتشديد السين، وكلاهما من القسم، والتقاسم والتقسيم كالتظاهر والتظهير، والظاهر أن قوله: ﴿تَقَاسَمُوا﴾ فعل أمر محكي بالقول، وهو قول الجمهور. وقرأ (٣) حمزة والكسائي: ﴿لتبيتنه﴾ بتاء فوقية بعد اللام، وبالرفع للجمع ﴿ثم لتقولن﴾ بتاء فوقية وبالرفع للجمع. وقرأ مجاهد وأبو رجاء وحميد بن قيس: ﴿ليبيتنه﴾ بياء وتاء مضمومتين. ﴿ثم ليقولن﴾ بياء مفتوحة وقاف مضمومة وواو ساكنة ولام مضمومة.
وعبارة أبي حيان: وقرأ الجمهور (٤): ﴿لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ﴾ بالنون فيهما، والحسن وحمزة والكسائي بتاء خطاب الجمع، ومجاهد وابن وثاب
(٢) البحر المحيط.
(٣) المراح.
(٤) البحر المحيط.
وقرأ الجمهور: ﴿مَهْلِكَ﴾ - بضم الميم وفتح اللام - من أهلك الرباعي. وقرأ حفص والمفضل: ﴿مَهْلِكَ﴾ بفتح الميم وكسر اللام، وأبو بكر وأبان عن عاصم بفتهما، فأما القراءة الأولى فتحتمل المصدر والزمان والمكان؛ أي: ما شهدنا إهلاك أهله، أو زمان إهلاكهم، أو مكان إهلاكهم. ويلزم من هذين أنهم إذا لم يشهدوا الزمان، ولا المكان أن لا يشهدوا الإهلاك. وأما القراءة الثانية فالقياس يقتضي أن يكون للزمان والمكان؛ أي: ما شهدنا زمان هلاكهم ولا مكانه. والثالثة يقتضي القياس أن يكون مصدرًا؛ أي: ما شهدنا هلاكه.
والمعنى: أنهم توافقوا (١) وحلفوا بالله لندخلن على صالح ومن آمن به، وهم أربعة آلاف ليلًا بغتة، ونقتلهم جميعًا، ثم لنقولن لولي دم صالح: ما حضرنا قتلهم أو وقته أو مكانه، فلا ندري من قتلهم وإنا لصادقون في إنكارنا لقتلهم؛ أي: لو اتهمنا قوم صالح حلفنا لهم أنا لم نحضر.
قال الزجاج: كان هؤلاء النفر تحالفوا أن يبيتوا صالحًا وأهله، ثم ينكروا عند أوليائه أنهم ما فعلوا ذلك ولا رأوه، وكان هذا مكرًا منهم،
٥٠ - ومن ثم قال سبحانه محذرًا لهم ولأمثالهم: ﴿وَمَكَرُوا مَكْرًا﴾؛ أي (٢): غدروا غدرًا بهذه المحالفة حين قصدوا تبييت صالح وأهله ﴿وَمَكَرْنَا مَكْرًا﴾؛ أي: جازيناهم على مكرهم بتعجيل العذاب لهم ﴿وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ﴾ بمكرنا؛ أي: وغدر هؤلاء التسعة الرهط الذين يفسدون في الأرض بصالح؛ إذ ساروا إليه ليلًا ليقتلوه وأهله وهو لا يشعر بذلك فأخذناهم بعقوبتنا، وعجلنا لهم العذاب من حيث لا يشعرون بمكر الله بهم، والمكر: صرف الغير عما يقصده بحيلة.
٥١ - ﴿فَانْظُرْ﴾ أي: فكر يا محمد في أنه ﴿كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ﴾؛
(٢) الخازن.
أي: ففكر (١) يا محمد كيف آل أمرهم، وكيف كانت عاقبة مكرهم؟ فقد أهلكناهم وقومهم الذين لم يؤمنوا على وجه يقتضي النظر، ويسترعي الاعتبار، ويكون عظة لمن غدر كغدرهم في جميع الأزمان.
روي أنه كان لصالح في الحجر مسجد في شعب يصلي فيه، ولما قال لهم بعد عقرهم الناقة: إنكم تهلكون إلى ثلاثة أيام.. قالوا: زعم صالح أنه يفرغ منا إلى ثلاث، فنحن نفرغ منه ومن أهله قبل الثلاث، فذهبوا إلى الشعب ليقتلوه، فوقعت عليهم صخرة من جبالهم طبقت عليهم الشعب، فهلكوا وهلك الباقون في أماكنهم بالصيحة، ونجى لله صالحًا ومن آمن معه.
ومعنى الآية (٢): أن الله دمر التسعة الرهط المذكورين، ودمر قومهم الذين لم يكونوا معهم عند مباشرتهم لذلك. ومعنى التأكيد بـ ﴿أَجْمَعِينَ﴾ أنه لم يشذ منهم أحد، ولا سلم من العقوبة فرد من أفرادهم، فهو تأكيد لكل من المعطوف والمعطوف عليه.
وقال ابن الجوزي في صفة إهلاكهم أربعة أقوال (٣):
أحدهما: أنهم أتوا دار صالح شاهرين سيوفهم، فرمتهم الملائكة بالحجارة فقتلتهم، قاله ابن عباس.
والثاني: رماهم الله تعالى بصخرة فأهلكتهم، قاله قتادة.
والثالث: أنهم دخلوا غارًا ينتظرون مجيء صالح، فبعث الله صخرة سدت باب الغار، قاله ابن زيد.
(٢) الشوكاني.
(٣) زاد المسير.
وقرأ الجمهور (١): ﴿إنا دمرناهم﴾ بكسر الهمزة على الاستئناف، وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق وحمزة والكسائي بفتحها على أن جملة ﴿أنام﴾ بدل من ﴿عاقبة مكرهم﴾ أو خبر لمبتدأ محذوف تقديره: هي؛ أي: العاقبة تدميرهم، أو يكون على تقدير حرف الجر؛ أي: لأنا دمرناهم، وقرأ أبيّ: ﴿أن دمرناهم﴾ وهي أن التي شأنها أن تنصب المضارع، ويجوز فيها الأوجه الجائزة في أنا بفتح الهمزة.
٥٢ - ثم أكد ما تقدم، وقرره بقوله: ﴿فَتِلْكَ﴾ الآثار الموجودة في ديار ثمود ﴿بُيُوتُهُمْ﴾؛ أي: بيوت الذين كذبوا صالحًا حالة كونها ﴿خَاوِيَةً﴾؛ أي: خالية عن الأهل والسكان، من خوى البطن إذا خلا، أو حالة كونها ساقطة منهدمة من خوى النجم إذا سقط، وقال ابن عباس: أي: ساقط أعلاها على أسفلها.
﴿بِمَا ظَلَمُوا﴾؛ أي: بسبب ظلمهم المذكور وغيره كالشرك؛ أي: فتلك مساكنهم أصبحت خالية منهم؛ قد أهلكهم الله سبحانه بظلمهم أنفسهم بشركهم به وتكذيبهم برسوله. والمعنى: فانظر إلى بيوتهم خاوية.
وقرأ الجمهور (٢): ﴿خَاوِيَةً﴾ بالنصب على الحال. قال الزمخشري: عمل فيها ما دل عليه ﴿تِلْكَ﴾ من معنى الإشارة. وقرأ عيسى بن عمر وعاصمَ بن عمرَ ونصر بن عاصم والجحدري برفع ﴿خَاوِيَةً﴾ على أنه خبر لمبتدأ محذوف؛ أي: هي خاوية، أو على الخبر عن ﴿تلك﴾ و ﴿بُيُوتُهُمْ﴾ بدل من ﴿تلك﴾، أو عطف بيان له، أو على أنه خبر كان لـ ﴿تلك﴾.
﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ﴾؛ أي: إن في فعلنا بثمود ما قصصناه عليك، وهو استئصالنا إياهم بالتدمير، وخلاء مساكنهم منهم، وبيوتهم هي بوادي القرى بين المدينة والشام. ﴿لَآيَةً﴾ عظيمة وعبرة بليغة وعظة زاجرة. ﴿لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾؛
(٢) البحر المحيط.
٥٣ - وبعد أن ذكر من هلكوا.. أردفهم بمن أنجاهم، فقال: ﴿وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾؛ أي: صالحًا ومن معه من المؤمنين من نقمتنا وعذابنا الذي أحللناه بثمود. وقوله ﴿وَكَانُوا يَتَّقُونَ﴾؛ أي: الكفر والمعاصي اتقاء مستمرا، معطوف على الصلة، فلذلك خصوا بالنجاة؛ أي: وإنما نجوا (٢)؛ لأنهم كانوا يتقون سخط الله، ويخافون شديد عذابه، وأليم عقابه بتصديقهم رسوله الذي أرسله إليهم، وكانوا أربعة آلاف، خرج بهم صالح إلى حضرموت، وهي مدينة من مدن اليمن، وسميت حضرموت؛ لأن صالحًا لما دخلها مات، ثم بنوا مدينة يقال لها: حاضوراء.
وفي هذا إيماء (٣) إلى أن الله ينجي محمدًا وأتباعه عند حلول العذاب بمشركي قريش، حين يخرج من بين ظهرانيهم، كما أحل بقوم صالح ما أحل حين خرج هو والمؤمنون به إلى أطراف الشام، ونزل رملة وفلسطين.
وفيه أيضًا إشارة (٤) إلى أن الهجرة من أرض الظلم إلى أرض العدل لازمة خصوصًا من أرض الظالمين المؤاخذين بأنواع العقوبات؛ إذ مكان الظلم ظلمة فلا نور للعبادة فيه، وإن الإنسان إذا ظلم في أرض ثم تاب، فالأفضل له أن يهاجر منها إلى مكان لم يعص الله تعالى فيه.
فإن قلت (٥): لم قال الله سبحانه هنا: ﴿أنجينا﴾ صيغة أفعل، وقال: في حم السجدة ﴿ونجينا﴾ بصيغة فعل المضعف، فما الفرق بين الموضعين؟.
(٢) المراغي.
(٣) المراغي.
(٤) روح البيان.
(٥) فتح الرحمن بتصرف.
قصة لوط عليه السلام
٥٤ - وقوله: ﴿وَلُوطًا﴾ منصوب بفعل مضمر معطوف على ﴿أَرْسَلْنَا﴾ في صدر قصة صالح. وقوله: ﴿إِذْ قَالَ﴾ ظرف للإرسال المحذوف، على أن المراد به أمر ممتد وقع فيه الإرسال، وما جرى بينه وبين قومه من الأفعال والأقوال. والمعنى: وعزتي وجلالي لقد أرسلنا لوطًا بن هاران وقت قوله: ﴿لِقَوْمِهِ﴾ الساكنين معه في قرية سدوم على وجه الإنكار عليهم والتوبيخ لهم ﴿أَتَأْتُونَ﴾؛ أي: هل تفعلون الفعلة ﴿الْفَاحِشَةَ﴾؛ أي: المتناهية في القبح. والمراد بها هنا اللواطة، والإتيان في الأدبار. وقال بعضهم: انتصاب ﴿لُوطًا﴾ بإضمار أذكر و ﴿إِذْ﴾ بدل منه؛ أي: واذكر لوطًا إذ قال لقومه على وجه الإنكار عليهم: ﴿أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ﴾ ﴿وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ﴾؛ إما من بصر القلب وهو العلم. والمعنى (١): أي: تأتونها، والحال أنكم تعلمون فحشا علمًا يقينيًا، وتعاطي القبيح من العالم بقبحه أقبح من غيره، ولذا قيل: فساد كبير جاهل متنسك وعالم متهتك، أو من نظر العين؛ أي: وأنتم تبصرونها بعضكم من بعض؛ لما أنهم كانوا يعلنون بها، ولا يستترون حال فعل الفاحشة عتوًا وتمردًا، فيكون أفحش. وجملة قوله: ﴿وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ﴾ في محل النصب على الحال متضمنة لتأكيد الإنكار.
والمعنى (٢): واذكر يا محمد لقومك قصة لوط إذ قال لقومه منذرًا ومحذِّرًا لهم: إنكم لتفعلون فاحشة لم يسبقكم بها أحد من بني آدم مع علمكم بقبحها لدى العقول والشرائع، واقتراف القبائح ممن يعلم قبحها أشنع.
(٢) المراغي.
فإن قلت (١): إذا فسرنا ﴿تُبْصِرُونَ﴾ بالعلم، وقد قال بعده ﴿قَوْمٌ تَجْهَلُونَ﴾ فيكون العلم جهلًا فبينهما مناقضة؟
تلت: معناه تفعلون فعل الجاهلين، وتعلمون أنه فاحشة، وقيل: تجهلون العاقبة، وقيل: أراد بالجهل السفاهة التي كانوا عليها.
وقرىء (٢): ﴿أَئِنَّكُمْ﴾ بتحقيق الهمزتين وبتسهيل الثانية وإدخال ألف بينهما على الوجهين أو تركه، فالقراءات أربع. واختار الخليل وسيبويه تخفيف الهمزة الثانية من ﴿أَئِنَّكُمْ﴾، فأما الخط فالسبيل فيه أن يكتب بألفين على الوجوه كلها؛ لأنها همزة مبتدأة دخلت عليها ألف الاستفهام. ذكره "القرطبي".
ومعنى الآية: أي (٣) أينبغي أن تاتوا الرجال، وتقودكم الشهوة إلى ذلك، وتذروا النساء اللاتي فيهن محاسن الجمال وفيهن مباهج الرجال، إنكم لقوم جاهلون سفهاء حمقى ماجنون.
وقد أشار سبحانه إلى قبيح فعلهم، وعظيم شناعته من وجوه:
(٢) الجلالين.
(٣) المراغي.
٢ - قوله: ﴿مِنْ دُونِ النِّسَاءِ﴾ وفي ذلك إيماء إلى أن تركهن، واستبدال الرجال بهن خطأ شنيع، وفعل قبيح.
٣ - قوله: ﴿بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ﴾ وفي هذا إيماء إلى أنهم يفعلون فعل الجهلاء الذين لا عقول لهم، ولا يدرون عظيم قبح ما يفعلون.
ونحو الآية قوله: ﴿أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ (١٦٥) وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ (١٦٦)﴾.
الإعراب
﴿قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ (٣٢) قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ (٣٣)﴾.
﴿قَالَتْ﴾: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على بلقيس، والجملة مستأنفة. ﴿قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي...﴾، إلى آخر الآية مقول محكي لـ ﴿قَالَتْ﴾، وإن شئت قلت: ﴿يَا﴾: حرف نداء. ﴿أَيُّ﴾: منادى نكرة مقصودة، ﴿هَا﴾: حرف تنبيه زائد تعويضًا عما فات؛ أي: من الإضافة. ﴿الْمَلَأُ﴾ صفة لـ ﴿أي﴾، وجملة النداء في محل النصب مقول ﴿قَالَتْ﴾. ﴿أَفْتُونِي﴾: فعل أمر وفاعل ونون وقاية ومفعول به، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾ على كونها جواب النداء. ﴿فِي أَمْرِي﴾ متعلق بـ ﴿أَفْتُونِي﴾. ﴿مَا﴾: نافية. ﴿كُنْتُ قَاطِعَةً﴾: فعل ناقص واسمه، وخبره. ﴿أَمْرًا﴾: مفعول به. لـ ﴿قَاطِعَةً﴾، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالَتْ﴾ ﴿حَتَّى﴾: حرف جر وغاية. ﴿تَشْهَدُونِ﴾: فعل مضارع منصوب بأن مضمرة وجوبًا بعد ﴿حَتَّى﴾ بمعنى إلى، وعلامة نصبه حذف النون، والنون الموجودة نون الوقاية، والواو فاعل، وياء المتكلم المحذوفة للفاصلة مفعول به، والجملة الفعلية مع أن المضمرة في تأويل مصدر مجرور بـ ﴿حَتَّى﴾ تقديره إلى شهودكم إياي، الجار والمجرور متعلق بـ ﴿كان﴾. ﴿قَالُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة
﴿قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (٣٤)﴾.
﴿قَالَتْ﴾: فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على بلقيس، والجملة مستأنفة. ﴿إِنَّ الْمُلُوكَ﴾: ناصب واسمه. ﴿إِذَا﴾ ظرف لما يستقبل من الزمان. ﴿دَخَلُوا﴾: فعل وفاعل. ﴿قَرْيَةً﴾: مفعول به على التوسع، والجملة الفعلية في محل الخفض بإضافة ﴿إِذَا﴾ إليها على كونها فعل شرط لها، والظرف متعلق بالجواب الآتي. ﴿أَفْسَدُوهَا﴾: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة جواب ﴿إِذَا﴾ لا محل لها من الإعراب. ﴿وَجَعَلُوا﴾: فعل وفاعل معطوف على ﴿أَفْسَدُوهَا﴾. ﴿أَعِزَّةَ أَهْلِهَا﴾: مفعول ﴿جَعَلُوا﴾ الأول ومضاف إليه. ﴿أَذِلَّةً﴾: مفعول ثان لـ ﴿وَجَعَلُوا﴾، وجملة ﴿إِذَا﴾ في محل الرفع خبر ﴿إِنَّ﴾، وجملة ﴿إِنَّ﴾ في محل النصب مقول ﴿قَالَتْ﴾ ﴿وَكَذَلِكَ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿كَذَلِكَ﴾: جار ومجرور صفة لمصدر محذوف. ﴿يَفْعَلُونَ﴾: فعل وقاعل، والجملة الفعلية في محل النصب معطوفة على جملة ﴿إِنَّ﴾ على كونها مقولًا لـ ﴿قَالَتْ﴾، والتقدير: ويفعلون فعلًا كائنًا كذلك المذكور
﴿وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (٣٥) فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (٣٦)﴾.
﴿وَإِنِّي﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿إِنِّي﴾ نا صب واسمه. ﴿مُرْسِلَةٌ﴾: خبره، ومفعوله محذوف تقديره: رسلًا، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة ﴿إِنّ﴾ في قوله: ﴿الْمُلُوكَ﴾. ﴿إِلَيْهِمْ﴾: متعلق بـ ﴿مُرْسِلَةٌ﴾. ﴿بِهَدِيَّةٍ﴾: متعلق به أيضًا. ﴿فَنَاظِرَةٌ﴾: معطوف على ﴿مُرْسِلَةٌ﴾. ﴿بِمَ﴾: ﴿الباء﴾: حرف جر، ﴿م﴾: اسم استفهام في محل الجر بالباء مبني بسكون على الألف المحذوف، فرقًا بينها وبين ﴿ما﴾ الموصولة، الجار والمجرور متعلق بـ ﴿يَرْجِعُ﴾، ولا يجوز تعلقه بـ ﴿نَاظِرَةٌ﴾؛ لأن الاستفهام له صدر الكلام فلا يعمل فيه ما قبله. ﴿يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ﴾: فعل وفاعل، والجملة في محل النصب مفعول ﴿نَاظِرَةٌ﴾ معلق عنه باسم الاستفهام ﴿فَلَمَّا جَاءَ﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة على محذوف تقديره: فأعدت الهدية فأرسلتها مع رسول إلى سليمان. ﴿لَمَّا﴾: اسم شرط غير جازم في محل نصب مفعول فيه ظرف زمان. ﴿جَاءَ﴾: فعل ماض، وفاعله ضمير مستتر يعود على الرسول. ﴿سُلَيْمَانَ﴾: مفعول به، والجملة الفعلية فعل شرط لـ ﴿لَمَّا﴾ في محل جر بالإضافة. ﴿قَالَ﴾: فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على ﴿سُلَيْمَانَ﴾، والجملة جواب ﴿لما﴾ لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿لما﴾ معطوفة على الجملة المحذوفة ﴿أَتُمِدُّونَنِ﴾: ﴿الهمزة﴾: للاستفهام الإنكاري التوبيخي. ﴿تُمِدُّونَنِ﴾: فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبات النون، والواو فاعل، والنون للوقاية، والياء المحذوفة مفعول به. ﴿بِمَالٍ﴾ معلق به؛ أي: تعاونونني بالمال، والجملة الفعلية في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿فَمَا﴾: ﴿الفاء﴾: تعليلية معللة؛ لما تقدم من إنكاره عليهم وتوبيخه إياهم. ﴿ما﴾: اسم موصول في محل الرفع مبتدأ. ﴿آتَانِيَ﴾: فعل ماض ونون وقاية ومفعول به مقدم. ﴿اللَّهُ﴾: فاعل مؤخر، والجملة الفعلية صلة لـ ﴿ما﴾ الموصولة، والعائد محذوف تقدمره: ما آتانيه الله. ﴿خَيْرٌ﴾: خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾ على
﴿ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ (٣٧)﴾.
﴿ارْجِعْ﴾: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود إلى رسول بلقيس. ﴿إِلَيْهِمْ﴾: متعلق به، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾ ﴿فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ﴾: ﴿الفاء﴾: استئنافية، و ﴿اللام﴾: موطئة للقسم. ﴿نأتينهم﴾: فعل مضارع مبني على الفتح؛ لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، وفاعله ضمير يعود على سليمان ومن معه تقديره: نحن، و ﴿الهاء﴾: مفعول به، و ﴿الميم﴾: علامة الجمع المذكور ﴿جُنُودٍ﴾ متعلق به، والجملة الفعلية جواب القسم لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿لَا﴾: نافية للجنس. ﴿قِبَلَ﴾: في محل النصب اسمها مبني على الفتح. ﴿لَهُمْ﴾: جار ومجرور خبر ﴿لَا﴾. ﴿بِهَا﴾: متعلق بـ ﴿قِبَلَ﴾ لتضمنه معنى المصدر؛ لأن حقيقته المقابلة والمقاومة، يقال: مالي به قبل؛ أي: طاقة، وجملة ﴿لَا﴾ في محل الجر صفة لـ ﴿جُنُودٍ﴾. ﴿وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة، و ﴿اللام﴾: موطئة للقسم. ﴿نُخْرِجَنَّهُمْ﴾: فعل مضارع مبني على الفتح؛ لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، وفاعله ضمير يعود على ﴿سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ﴾، و ﴿الهاء﴾: مفعول به، والجملة الفعلية جواب القسم، وجملة القسم في محل النصب معطوفة على جملة القسم الأول. ﴿مِنْهَا﴾: متعلق بـ ﴿نخرج﴾، والضمير يعود إلى سبأ؛ أي: بلادهم. ﴿أَذِلَّةً﴾: حال من ضمير المفعول. ﴿وَهُمْ صَاغِرُونَ﴾: ﴿الواو﴾: حالية. ﴿هم صاغرون﴾: مبتدأ وخبر، والجملة في محل النصب حال ثانية من الهاء في ﴿لنخرجنهم﴾
{قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (٣٨) قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ
﴿قَالَ﴾: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على سليمان، والجملة مستأنفة. ﴿يَا﴾: حرف نداء. ﴿أَيّ﴾: منادى نكرة مقصودة، و ﴿الهاء﴾: حرف تنبيه ﴿الْمَلَأُ﴾ صفة لـ ﴿أي﴾، وجملة النداء في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿أَيُّكُمْ﴾: مبتدأ ومضاف إليه. ﴿يَأْتِينِي﴾: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على ﴿أي﴾ ونون وقاية ومفعول به، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾ على كونها جواب النداء. ﴿بِعَرْشِهَا﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿يَأْتِينِي﴾ ﴿قَبْلَ﴾ منصوب على الظرفية متعلق بـ ﴿يَأْتِينِي﴾ ﴿أَنْ﴾ حرف نصب ومصدر ﴿يَأْتُونِي﴾ فعل مضارع منصوب بـ ﴿أَنْ﴾، علامة نصبه حذف النون، والواو: فاعل، و ﴿النون﴾: للوقاية، و ﴿الياء﴾: مفعول به. ﴿مُسْلِمِينَ﴾: حال من فاعل ﴿يَأْتُونِي﴾، والجملة الفعلية في تأويل مصدر مجرور بإضافة الظرف إليه. والتقدير: قبل إتيانهم إياي منقادين خاضعين. ﴿قَالَ عِفْرِيتٌ﴾: فعل وفاعل. ﴿مِنَ الْجِنِّ﴾: صفة لـ ﴿عِفْرِيتٌ﴾، والجملة مستأنفة. ﴿أَنَا﴾: مبتدأ. ﴿آتِيكَ﴾: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على ﴿عِفْرِيتٌ﴾ ومفعول به، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾: ﴿بِهِ﴾: متعلق بـ ﴿آتِيكَ﴾، وكذا الظرف في قوله: ﴿قَبْلَ أَنْ تَقُومَ﴾: متعلق به. ﴿أن﴾: حرف مصدر. ﴿تَقُومَ﴾: فعل مضارع منصوب بـ ﴿أَنْ﴾، وفاعله ضمير يعود على سُليمانُ. ﴿مِنْ مَقَامِكَ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿تَقُومَ﴾، والجملة الفعلية في تأويل مصدر مجرور بإضافة الظرف إليه. تقديره قبل قيامك من مقامك. ﴿وَإِنِّي﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿إِنِّي﴾: ناصب واسمه، ﴿عَلَيْهِ﴾: متعلق بما بعده. ﴿لَقَوِيٌّ﴾: ﴿اللام﴾: حرف ابتداء، ﴿قَوِيٌّ﴾: خبر ﴿إن﴾. ﴿أَمِينٌ﴾: خبر ثان لها؛ أي: قوي على حمله أمين على ما فيه، لا أختلس منه شيئًا، ولا أعبث به، وجملة ﴿إن﴾ في محل النصب معطوفة على جملة قوله ﴿أَنَا آتِيكَ بِهِ﴾ على كونها مقولًا لـ ﴿قَالَ﴾.
{قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ
﴿قَالَ الَّذِي﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. ﴿عِنْدَهُ﴾: ظرف ومضاف إليه خبر مقدم. ﴿عِلْمٌ﴾: مبتدأ مؤخر. ﴿مِنَ الْكِتَابِ﴾: صفة لـ ﴿عِلْمٌ﴾، والجملة الاسمية صلة الموصول. ﴿أَنَا﴾: مبتدأ، وجملة ﴿آتِيكَ بِهِ﴾: خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿قَبْلَ﴾: منصوب على الظرفية متعلق بـ ﴿آتِيكَ﴾. ﴿أَنْ﴾: حرف مصدر ونصب. ﴿يَرْتَدَّ﴾: منصوب بـ ﴿أَنْ﴾. ﴿إِلَيْكَ﴾: متعلق به. ﴿طَرْفُكَ﴾: فاعل، والجملة في تأويل مصدر مجرور بإضافة الظرف إليه، تقديره: قبل ارتداد طرفك إليك. ﴿فَلَمَّا﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة على محذوف. تقديره: ودعا آصف بالعلم الذي عنده، فغار العرش في مكانه بمأرب، ثم نبع بمجلس سليمان، فلما رآه. ﴿لما﴾: اسم شرط غير جازم في محل نصب على الظرفية الزمانية. ﴿رَآهُ﴾: فعل وفاعل مستتر يعود على ﴿سُلَيْمَانُ﴾ ومفعول به. ﴿مُسْتَقِرًّا﴾: حال من ضمير المفعول، والجملة الفعلية فعل شرط لـ ﴿ما﴾ في محل جر بالإضافة. ﴿عِنْدَهُ﴾: متعلق بـ ﴿مُسْتَقِرًّا﴾؛ أي: ساكنًا عنده. ﴿قَالَ﴾: فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على ﴿سُلَيْمَانُ﴾، والجملة جواب ﴿لَمَّا﴾ لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿لَمَّا﴾ معطوفة على تلك الجملة المحذوفة. ﴿هَذَا﴾: مبتدأ. ﴿مِنْ فَضْلِ رَبِّي﴾: جار ومجرور خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿لِيَبْلُوَنِي﴾: ﴿اللام﴾: حرف جر وتعليل، ﴿يبلو﴾: فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام كي، وعلامة نصبه فتحة ظاهرة في آخره، وفاعله ضمير يعود على ﴿رَبِّي﴾، و ﴿النون﴾: للوقاية، و ﴿الياء﴾: مفعول به، والجملة الفعلية مع أن المضمرة في تأويل مصدر مجرور باللام تقديره: لبلائه إياي، الجار والمجرور متعلق بمحذوف معلوم من السياق تقديره: تفضل عليّ بإحضار هذا العرش في قدر طرفة عين لبلائه إياي، والجملة المحذوفة في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿أَأَشْكُرُ﴾: ﴿الهمزة﴾: للاستفهام الذي يطلب به تعيين أحد الشيئين. ﴿أَشْكُرُ﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على ﴿سُلَيْمَانُ﴾، وجملة ﴿أَأَشْكُرُ﴾ في محل النصب بدل من الياء في ﴿يبلوني﴾، فهي بمثابة المفعول به. ﴿أَمْ﴾: حرف عطف متصلة، وجملة ﴿أَكْفُرُ﴾ معطوفة على جملة
﴿مَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ﴾.
﴿وَمَنْ﴾: ﴿الواو﴾: استئنافية. ﴿مَنْ﴾: اسم شرط في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط، أو الجواب، أو هما. ﴿شَكَرَ﴾: فعل ماض في محل الجزم بـ ﴿مَن﴾ على كونه فعل شرط لها، وفاعله ضمير يعود على ﴿مَن﴾. ﴿فَإِنَّمَا﴾: ﴿الفاء﴾: رابطة الجواب جوازًا. ﴿إِنَّمَا﴾: أداة حصر. ﴿يَشْكُرُ﴾ فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على ﴿مَنْ﴾ ﴿لِنَفْسِهِ﴾: متعلق بـ ﴿يَشْكُرُ﴾، والجملة الفعلية في محل الجزم جواب ﴿مَن﴾ الشرطية، وإنما جزمت المحل مع كونه مضارعًا؛ ليشاكل الجواب الشرط، وجملة ﴿مَنْ﴾ الشرطية في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾ على كونها مستأنفة. ﴿وَمَنْ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿مَنْ﴾: اسم شرط في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط، أو الجواب. ﴿أَكْفُرُ﴾: فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على ﴿مَنْ﴾، في محل الجزم بـ ﴿مَن﴾ الشرطية على كونه فعل شرط لها. ﴿فَإِنَّ﴾: ﴿الفاء﴾: رابطة الجواب وجوبًا، ﴿إن﴾: حرف نصب ﴿رَبِّي﴾: اسمها. ﴿غَنِيٌّ﴾: خبر أول لها. ﴿كَرِيمٌ﴾: خبر ثان، وجملة ﴿إن﴾ في محل الجزم جواب ﴿مَن﴾ الشرطية، وجملة ﴿مَنْ﴾ الشرطية معطوفة على جملة ﴿مَنْ﴾ الأولى
﴿قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ (٤١) فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (٤٢)﴾
﴿قَالَ﴾: فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على ﴿سُلَيْمَانُ﴾، والجملة مستأنفة. ﴿نَكِّرُوا﴾: فعل وفاعل. ﴿لَهَا﴾: متعلق به. ﴿عَرْشَهَا﴾: مفعول به، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿نَنْظُرْ﴾: فدل مضارع مجزوم بالطلب السابق، وفاعله ضمير يعود على ﴿سليمان﴾ ومن معه، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾، وقرىء بالرفع على الاستئناف. ﴿أَتَهْتَدِي﴾ ﴿الهمزة﴾: للاستفهام الذي يطلب به تعيين أحد الشيئين. ﴿تَهْتَدِي﴾: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على بلقيس، والجملة في محل النصب مفعول ﴿نَنْظُرْ﴾ علق عنها بالاستفهام. ﴿أَمْ﴾:
﴿وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ (٤٣)﴾.
﴿وَصَدَّهَا﴾: فعل ومفعول. ﴿مَا﴾: موصولة في محل الرفع فاعل، والجملة معطوفة على جملة ﴿أُوتِينَا﴾؛ لأنها من جملة كلام سليمان. ﴿كَانَتْ﴾: فعل ناقص، واسمها ضمير يعود على بلقيس، وجملة ﴿تَعْبُدُ﴾ في محل النصب خبر
﴿قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (٤٤)﴾
﴿قِيلَ﴾: فعل ماض مغير الصيغة. ﴿لَهَا﴾: متعلق به. ﴿ادْخُلِي الصَّرْحَ﴾: نائب فاعل محكي لـ ﴿قِيلَ﴾ والجملة مستأنفة، وإن شئت قلت: ﴿ادْخُلِي﴾: فعل أمر وفاعل. ﴿الصَّرْحَ﴾: مفعول به على التوسع، والجملة في محل الرفع نائب فاعل لـ ﴿قِيلَ﴾. ﴿فَلَمَّا﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة على محذوف تقديره: فدخلته. ﴿لما﴾: اسم شرط غير جازم في نصب على الظرفية الزمانية. ﴿رَأَتْهُ﴾: فعل وفاعل مستتر ومفعول به؛ لأن رأى بصرية، والجملة فعل شرط لـ ﴿لما﴾. ﴿حَسِبَتْهُ﴾: فعل وفاعل مستتر يعود على بلقيس ومفعول أول. ﴿لُجَّةً﴾: مفعول ثان لحسب، والجملة جواب ﴿لَمَّا﴾ لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿لَمَّا﴾ معطوفة على الجملة المحذوفة. ﴿وَكَشَفَتْ﴾: فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على بلقيس معطوف على ﴿حَسِبَتْهُ﴾. ﴿عَنْ سَاقَيْهَا﴾: متعلق بـ ﴿كَشَفَتْ﴾. ﴿قَالَ﴾: فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على ﴿سُلَيْمَانُ﴾، والجملة مستأنفة ﴿إِنَّهُ صَرْحٌ﴾: ناصب واسمه وخبره. ﴿مُمَرَّدٌ﴾: صفة أولى لـ ﴿صَرْحٌ﴾. ﴿مِنْ قَوَارِيرَ﴾: صفة ثانية لـ ﴿صَرْحٌ﴾، وجملة ﴿إن﴾: في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿قَالَتْ﴾: فعل ماض وفاعل مستتر يعود على بلقيس، والجملة مستأنفة. ﴿رَبِّ﴾: منادى مضاف حذف منه حرف النداء، وجملة النداء في محل النصب مقول ﴿قَالَتْ﴾. ﴿إِنِّي﴾: ناصب واسمه. ﴿ظَلَمْتُ نَفْسِي﴾: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة في محل الرفع خبر ﴿إن﴾، وجملة ﴿إن﴾ في محل النصب مقول ﴿قَالَتْ﴾ على كونها جواب النداء. ﴿وَأَسْلَمْتُ﴾: فعل وفاعل معطوف على ﴿ظَلَمْتُ﴾. ﴿مَعَ سُلَيْمَانَ﴾: ظرف ومضاف إليه متعلق بمحذوف حال من فاعل ﴿أَسْلَمْتُ﴾؛ أي: حالة كوني مصاحبة
﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ (٤٥)﴾
﴿وَلَقَدْ﴾ ﴿الواو﴾: استئثافية، و ﴿اللام﴾: موطئة للقسم، ﴿قَدْ﴾: حرف تحقيق. ﴿أَرْسَلْنَا﴾: فعل وفاعل. ﴿إِلَى ثَمُودَ﴾: متعلق بـ ﴿أَرْسَلْنَا﴾. ﴿أَخَاهُمْ﴾: مفعول به ومضاف إليه. ﴿صَالِحًا﴾: بدل من ﴿أَخَاهُمْ﴾، أو عطف بيان له، والجملة الفعلية مستأنفة مسوقة لبيان قصة صالح ﴿أَنِ﴾: مصدرية. ﴿اعْبُدُوا اللَّهَ﴾: فعل أمر وفاعل ومفعول به في محل النصب بـ ﴿أن﴾ المصدرية مبني على حذف النون، والجملة الفعلية مع ﴿أن﴾ المصدرية في تأويل مصدر مجرور بالباء المقدرة؛ أي: بعبادة الله، والجار المقدر متعلق بـ ﴿أَرْسَلْنَا﴾، ويصح كونها مفسرة؛ لأن الإرسال يتمضن معنى القول. ﴿فَإِذَا﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة. ﴿إذا﴾: فجائية حرف لا محل لها من الإعراب. ﴿هُمْ﴾: مبتدأ. ﴿فَرِيقَانِ﴾: خبر، وجملة ﴿يَخْتَصِمُونَ﴾ صفة لـ ﴿فَرِيقَانِ﴾ على المعنى، نحو قوله تعالى: ﴿وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا﴾؛ لأن كل فريق يضم جماعة، والجملة الاسمية معطوفة على جملة ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا...﴾ الخ؛ لأنها في معنى: ولقد أرسلنا صالحًا إلى ثمود، ففاجأ الإرسال افتراقهم واختصامهم.
﴿قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٤٦) قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (٤٧) وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (٤٨)﴾.
﴿قَالَ﴾: فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على ﴿صَالِحًا﴾، والجملة مستأنفة. ﴿يَا قَوْمِ﴾ إلى قوله: ﴿قَالُوا﴾ مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿يَا قَوْمِ﴾: منادى مضاف، وجملة النداء في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿لِمَ﴾: ﴿اللام﴾: حرف جر، ﴿ما﴾: اسم استفهام في محل الجر باللام، حذفت ألفها لدخول الجار عليه، الجار والمجرور متعلق بـ ﴿تَسْتَعْجِلُونَ﴾. ﴿تَسْتَعْجِلُونَ﴾ فعل وفاعل، والجملة في
﴿قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (٤٩)﴾.
﴿قَالُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. ﴿تَقَاسَمُوا﴾: فعل أمر وفاعل بمعنى: احلفوا، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾، ويجوز أن يكون فعلًا ماضيًا، وحينئذ يجوز أن يكون مفسرًا لـ ﴿قَالُوا﴾، كأنه قيل: ما قالوا، فقيل تقاسموا، ويجوز أن يكون مع فاعله جملة في محل نصب على الحال؛ أي:
﴿وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (٥٠) فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (٥١) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٥٢) وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (٥٣)﴾
﴿وَمَكَرُوا﴾ فعل وفاعل، ﴿مَكْرًا﴾: مفعول مطلق، والجملة مستأنفة. ﴿وَمَكَرْنَا﴾: فعل وفاعل معطوف على ﴿وَمَكَرُوا﴾. ﴿مَكْرًا﴾: مفعول مطلق أيضًا. ﴿وَهُمْ﴾: ﴿الواو﴾: حالية. ﴿هُمْ﴾: مبتدأ، وجمل ﴿لَا يَشْعُرُونَ﴾ خبره، والجملة الاسمية في محل النصب حال من مفعول ﴿مَكَرْنَا﴾ المحذوف؛ أي: ومكرناهم وهم لا يشعرون مكرنا بهم، أو حال من فاعل ﴿وَمَكَرُوا﴾. ﴿فَانْظُرْ﴾: ﴿الفاء﴾: استئنافية، ﴿انْظُر﴾: فعل أمر، وفاعل مستتر يعود على محمد، أو على أي مخاطب، والجملة مستأنفة. ﴿كَيْفَ﴾: اسم استفهام للاستفهام التعجبي في محل النصب خبر ﴿كَانَ﴾ مقدم عليها للزومه الصدارة. ﴿كَانَ﴾: فعل ماض ناقص. ﴿عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ﴾: اسمها ومضاف إليه، وجمل ﴿كَانَ﴾ في محل النصب مفعول
﴿وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (٥٤) أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (٥٥)﴾.
﴿وَلُوطًا﴾: مفعول به لفعل محذوف تقديره: ولقد أرسلنا لوطًا، والجملة المحذوفة إما مستأنفة، أو معطوفة على جملة قوله: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا﴾. ﴿إِذْ﴾: ظرف لما مضى من الزمان متعلق بـ: أرسلنا المقدر، أو بـ: اذكر المحذوف. ﴿قَالَ﴾: فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على ﴿لوط﴾، وجملة ﴿قَالَ﴾ في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿إِذْ﴾. ﴿لِقَوْمِهِ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿قَالَ﴾. ﴿أَتَأْتُونَ﴾: ﴿الهمزة﴾: للاستفهام الإنكاري التوبيخي.
التصريف ومفردات اللفة
﴿أَفْتُونِي﴾ أي: أشيروا إلى بما عندكم من الرأي والتدبير فيما حدث. والفتوى: الجواب في الحادئة، اشتقت على طريق الاستعارة من الفتي في السن. والمراد بالفتوى هنا: الإشارة إليها بما عندهم، وكما ذكرنا فيما حدث لها من الرأي والتدبير. والفتوى في العرف: هو الجواب في الحوادث المشكلة. قال بعضهم: الفتوى من الفتى؛ وهو الشاب القوي، وسميت الفتوى؛ لأن المفتي؛ أي. المجيب الحاكم بما هو صواب يقوي السائل في جواب الحادثة، كما مر.
﴿قَاطِعَةً أَمْرًا﴾؛ أي: باتة فيه منفذته. ﴿تَشْهَدُونِ﴾؛ أي: تحضروني. ﴿أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ﴾: اسم جمع بمعنى أصحاب، والواحد: ذو بمعنى صاحب، وقيل: جمع ذو على غير لفظه، وهو من ملحقات جمع المذكر السالم في إعرابه، والمؤنث أولات، وواحدتها: ذات، تقول: جاء أولو العلم وأولات الفضل، والمراد بالقوة: القوة الجسمية وكثرة الآلات، والمراد بالبأس: النجدة والثبات في الحرب.
﴿أَعِزَّةَ أَهْلِهَا﴾: جمع عزيز بمعنى القاهر الغالب، والشريف العظيم، مأخوذ من العزة؛ وهي حالة مانعة للإنسان من أن يغلب. ﴿أَذِلَّةً﴾: جمع ذليل؛ أي:
﴿بِهَدِيَّةٍ﴾: وهي اسم للشيء المهدي بملاطفة ورفق. قال في "المفردات": الهدية مختصة باللطف الذي يهدي بعضنا إلى بعض. اهـ.
هذا، والهدية اسم الشيء المهدي، كما أن العطية اسم للشيء المعطى، فتضاف إلى المهدي والمهدى إليه. تقول: هذه هدية فلان تريد هي التي أهداها، أو أُهديَت إليه، والمضاف إليه في قوله: ﴿بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ﴾ هو المهدي إليه؛ أي: بما يُهدى إليكم، وأما نحن فلسنا كذلك.
وفي "الفتوحات": قوله: ﴿بِهَدِيَّتِكُمْ﴾ والهدية: مصدر بمعنى الإهداء مضاف لفاعله؛ أي: تفرحون بما تهدونه افتخارًا على أمثالكم، أو لمفعوله؛ أي: تفرحون بما يهدى إليكم حبًا في كثرة أموالكم، فإن الهدايا مم يورث المودة ويذهب الشحناء، وفي الحديث: "تصافحوا يذهب الغل، وتهادوا تحابوا" ولقد أحسن من قال شعرًا:
هَدَايَا النَّاسِ بَعْضُهُمُ لِبَعْضٍ | تُوَلِّدُ في قُلُوْبِهِمُ الْوِصَالاَ |
وَتَزْرَعُ في الضَّمِيْرِ هَوًى وَوِدًّا | وَتُكْسِبُهُمْ إِذَا حَضَرُوْا جَمَالاَ |
﴿بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا﴾ أي: لا طاقة لهم بمقاومتها، ولا قدرة لهم على مقابلتها. قال في "المختار": رآه قبلًا - بفتحين - وقبلا - بضمتين - وقبلًا - بكسر بعده فتح -؛ أي: مقابلة وعيانا. قال تعالى: ﴿أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا﴾ قبل فلان حق؛ أي: عنده. وما لي به قبل؛ أي: طاقة. انتهى. والذي يفهم من "المفردات": أنه في الأصل بمعنى عند، ثم يستعار للقوة والقدرة على المقابلة؛ أي: المجازاة، فيقال: لا قبل لي بكذا؛ أي: لا يمكنني أن أقابله، ولا قبل لهم
﴿وَهُمْ صَاغِرُونَ﴾ يقال: صغر صغرًا بالكسر في ضد الكبر، وصغارًا بالفتح في الذلة، والصاغر الراضي بالمنزلة الدنيئة، وكل من هذه الذلة والصغار مبني على الإنكار والإصرار، كما أن كلًّا من العز والشرف مبني على التصديق والإقرار.
﴿عِفْرِيتٌ﴾ العفريت من البشر الخبيث الماكر الذي يعفر أقرانه، ومن الشياطين والجن المارد، وجمعه: عفاريت، ومؤنثه: عفريته، والعفرية: مثله.
﴿مِنْ مَقَامِكَ﴾؛ أي: مجلسك الذي تجلس فيه للحكم. ﴿لَقَوِيٌّ﴾؛ أي: قادر على حمله لا أعجز عنه. ﴿أَمِينٌ﴾؛ أي: على ما فيه من اللآلىء والجواهر وغيرها.
﴿أَنَا آتِيكَ بِهِ﴾: يحتمل أنه مضارع أصله: أأتي بهمزتين، فوزنه أفعل، فالهمزة الأولى زائدة للمضارعة، والثانية أصلية فاء الكلمة، ويحتمل أنه اسم فاعل فوزنه فاعل، فالهمزة الأولى أصلية فاء الكلمة، والألف بعدها زائدة كالتي في ضارب وقائم اهـ. شيخنا.
﴿قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ﴾ قال أبو السعود: الطرف: تحريك الأجفان وفتحها للنظر إلى شيء، وارتداده انضمامها، ولكونه أمرًا طبيعيا غير منوط بالقصد آثر الارتداد على الرد. اهـ شيخنا. وفي "القاموس": إن الطرف كما يطلق على نظر العين يطلق على العين نفسها. اهـ.
﴿لِيَبْلُوَنِي﴾ وفي "المفردات": يقال: بلى الثوب بلى خلق، وبلوته اختبرته كأني أخلقته من كثرة اختباري له.
﴿نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا﴾؛ أي: غيروا هيئته وشبهله بحيث لا يعرف بسهولة. قال الراغب: التنكير: جعل الشيء بحيث لا يعرف ضد التعريف، ومنه نقل إلى مصطلح أهل العربية. اهـ. "شهاب".
﴿ادْخُلِي الصَّرْحَ﴾ قال في "الكشاف": الصرح القصر، وكل بناء عال سمي
﴿لُجَّةً﴾ واللجة: الماء الكثير. وفي "المفردات": لجة: البحر تردد أمواجه. وفي "كشف الأسرار": اللجة: الضحضاح من الماء، وهو الماء اليسير، أو إلى الكعبين وأنصاف السوق، أو ما لا غرق فيه، كما في "القاموس". والمعنى: ظننت أنه ماء كثير بين يدي سرير سليمان.
﴿عَنْ سَاقَيْهَا﴾ تثنية ساق؛ وهي ما بين الكعبين، كعب الركبة وكعب القدم؛ أي: تشمرت لئلا تبتل أذيالها.
﴿صَرْحٌ مُمَرَّدٌ﴾؛ أي: ذو سطح أملس، ومنه الأمرد؛ لملاسة وجه؛ أي: نعومته لعدم وجود الشعر به. وفي "القاموس": التمريد في البناء التمليس والتسوية، وبناء ممرد مطول، والمارد: المرتفع العالي، وشجرة مرداء إذا لم يكن عليها ورق.
﴿مِنْ قَوَارِيرَ﴾؛ أي: مصنوع من الزجاج الصافي، وليس بماء. جمع قارورة، وفي "المصباح": القارورة: إناء من زجاج، والجمع القوارير، والقارورة أيضًا وعاء الرطب والتمر؛ وهي القوصرة. وتطلق القارورة على المرأة؛ لأن الولد أو المني يقر في رحمها، كما يقر الشيء من الإناء، أو تشبيهًا بآنية الزجاج لضعفها. قال الأزهري: والعرب تكني عن المرآة بالقارورة والقوسرة. وفي "القاموس": والقارورة: حدقة العين، وما قر فيه الشراب، أو نحوه، أو يخص بالزجاج. و ﴿قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ﴾؛ أي: من زجاج في بياض الفضة وصفاء الزجاج.
﴿فَرِيقَانِ﴾ أي: طائفتان؛ طائفة مؤمنة، وأخرى كافرة. ﴿يَخْتَصِمُونَ﴾؛ أي: يجادل بعضهم بعضًا ويحاجه، من الاختصام، وأصله: أن يتعلق كل واحد بخصم الآخر بالضم؛ أي: بجانبه. ﴿بِالسَّيِّئَةِ﴾ العقوبة التي تسوء صاحبها. ﴿قَبْلَ﴾
﴿لَوْلَا﴾ للتحضيض، بمعنى: هلَّا، وهي كلمة تفيد الحث على حصول ما بعدها. ﴿اطَّيَّرْنَا﴾؛ أي: تطايرنا، وتشاءمنا بك وبمن معك في دينك، حيث تتابعت علينا الشدائد، وأصل اطيرنا: تطيرنا أدغمت التاء في الطاء، فتعذر الابتداء بالساكن، واجتلبت همزة الوصل، فصار اطيرنا.
وأصل ذلك أنهم كانوا إذا خرجوا مسافرين، فمروا بطائر يزجرونه، فإن مر سانحًا تيمنوا، وإن مر بارحًا تشاءموا، فلما نسبوا الخير والشر إلى الطير استعير لما كان سببًا لهما من قدر الله سبحانه وقسمته، أو عمل العبد. وفي "القاموس": البارح من الصيد ما مر من ميامنك إلى مياسرك، وبرح الظبي بروحًا: ولّاك مماسره ومر، وسنح سنوحًا ضد برح، ومن لي بالسانح بعد البارح؛ أي: المبارك بعد المشؤوم. انتهى.
قال في "كشف الأسرار": هذا كان اعتقاد العرب في بعض الوحوش والطيور أنها إذا صاحت في جانب دون جانب دل على حدوث آفات وبلايا. ونهى رسول الله - ﷺ -. وقال: "أقروا الطير على مكناتها"؛ لأنها أوهام لا حقيقة معها. والمكنات بيض الضبة، واحدتها: مكنة. قال ابن الملك: كان أهل الجاهلية إذا قصد واحد إلى حاجة، وأتى من جانبه الأيسر طير وغيره يتشاءم به فيرجع، هذا هو الطيرة.
﴿فِي الْمَدِينَةِ﴾: هي البلد. من أخذها من مدن بالمكان يمدن إذا أقام فيه، فهي فعيلة، والجمع: مدائن بالهمز والميم أصلية والياء زائدة، ومن أخذها من وإن يدين فالميم زائدة والياء أصلية، وهي مفعولة، ويقال: دنت الرجل: ملكته. ودنت له: خضعت له وأطعت، ويقال: للأمة مدينة؛ لأنها مملوكة. وفي معاجم اللغة: مدن بالمكان يمدن - من باب نصر - مدونًا إذا أقام، وهو فعل ممات. ومدن المدينة آتاها، ومدن المدائن - بالتشديد - بناها ومصرّها، وتمدّن: تخلق باخلاق أهل المدن، وانتقل من الهمجية إلى حالة الإنس والظرف، وتجمع المدينة على مدن بسكون الدال، ومدن بضمها، ومدائن. والمدينة: علم أطلق
﴿تِسْعَةُ رَهْطٍ﴾ الرهط: قوم الرجل وقبيلته، وعدد يجمع من الثلاثة إلى العشرة، وليس فيهم امرأة، ولا واحد له من لفظه، وجمعه أرهط وأرهاط. وجمع الجمع أراهط وأراهيط، وإذا أضيف إلى الرهط عدد كان المراد به الشخص والنفس، نحو عشرون رهطًا؛ أي: شخصًا. ويقال: نحن ذوو رهط؛ أي: مجتمعون. وفي "المصباح": الرهط: ما دون العشرة من الرجال ليس فيهم امرأة. وسكون الهاء أفصح من فتحها، وهو جمع لا واحد له من لفظه. وقيل: الرهط من سبعة إلى عشرة، وما دون السبعة إلى الثلاثة نفر، والفرق بينه وبين النفر أن الرهط من الثلاثة أو من السبعة إلى العشرة، ليس فيهم امرأة، والنفر من الثلاثة إلى التسعة.
﴿لَنُبَيِّتَنَّهُ﴾ والبيات: مباغتة العدو ومفاجاته بالإيقاع به ليلًا. ﴿لِوَلِيِّهِ﴾؛ أي لمن له حق القصاص من ذوي قرابته إذا قتل. ﴿مَهْلِكَ﴾ بضم الميم وفتح اللام؛ أي: إهلاكهم مصدر ميمي من أهلك الرباعي، وبفتح الميم واللام؛ أي: هلاكهم مصدر ميمي من هلك الثلاثي، وبفتح الميم وكسر اللام؛ أي: وقت هلاكه أو مكانه، فهو للظرف؛ لأنه من باب ضرب.
﴿وَمَكَرُوا مَكْرًا﴾: صرف الغير عما يقصده بحيلة. وقيل: المكر: التدبير الخفي لعمل الشر، ومكرهم: هو ما أخفوه من تدبير القتل بصالح ومكر الله إهلاكهم من حيث لا يشعرون على سبيل الاستعارة المنضمة إلى المشاكلة، كما في الكشاف وشروحه اهـ "شهاب"؛ أي: تشبيهًا له بالمكر من حيث كونه إضرارًا في خفية؛ لأن المكر قصد الإضرار على طريق الغدر والحيلة اهـ "زاده". ﴿أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ﴾ التدمير: استئصال الشيء بالهلاك.
﴿خَاوِيَةً﴾؛ أي: خالية عن السكان، من خوى البطن إذا خلا، أو ساقطة متهدمة، من خوى النجم إذا سقط. اهـ "بيضاوي". وخوى بالمعنَيَيْن من باب رمى.
البلاغة
وقد تضمت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: حكاية الحال الماضية في قوله: ﴿حَتَّى تَشْهَدُونِ﴾ حيث عبرت عن الماضي بالمضارع.
ومنها: التأكيد في قوله: ﴿وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ﴾؛ لأن هذه الجملة سيقت لتأكيد ما قبلها.
ومنها: الإيجاز بالحذف في قوله: ﴿فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ﴾؛ لأنه معطوف على محذوف تقديره: فأعدت الهدية مع رسول بكتاب فأرسلته، فلما جاء سليمان الخ.
ومنها: جناس الاشتقاق في قوله: ﴿تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ﴾.
ومنها: الكناية في قوله: ﴿قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ﴾ فإن ارتداد الطرف كناية عن الإسراع. والطرف: هو تحريك أجفانك إذا نظرت، فوضع موضع النظر، ولما كان الناظر موصوفًا بإرسال الطرف وصف برد الطرف، ووصف الطرف بالارتداد.
ومنها: الطباق في قوله: ﴿وَمَنْ شَكَرَ﴾ وقوله: ﴿وَمَنْ كَفَرَ﴾.
ومنها: التشبيه المرسل المجمل في قوله: ﴿كَأَنَّهُ هُوَ﴾ أي: كأنه عرشي في الشكل والوصف.
ومنها: التجنيس، وهو تالف الكلمتين في تأليف حروفهما في قوله:
ومنها: الطباق بين ﴿بِالسَّيِّئَةِ﴾ و ﴿الْحَسَنَةِ﴾ في قوله: ﴿لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ﴾.
ومنها: التحضيض في قوله: ﴿لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ﴾.
ومنها: جناس الاشتقاق في قوله: ﴿اطَّيَّرْنَا﴾ ﴿طَائِرُكُمْ﴾.
ومنها: الطباق بين ﴿يُفْسِدُونَ﴾ و ﴿يُصْلِحُونَ﴾.
ومنها: الاستعارة التصريحية في قوله: ﴿طَائِرُكُمْ﴾؛ لأنه مستعار لما كان سببًا للخير والشر من قدر الله تعالى وقسمته، أو من عمل العبد، كما في "الروح".
ومنها: التمام كما سماه قدامة في نقد الشعر، أو التميم كما سماه الحاتمي في قوله: ﴿وَلَا يُصْلِحُونَ﴾ وهو أن تأتي في الكلام كلمة إذا طرحت منه نقص معناه في ذاته، أو في صفاته، ولفظه تام؛ لأن قوله: ﴿وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ﴾ مفهومه أن شأنهم الإفساد البحت، ولكن قوله: ﴿يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ﴾ لا يدفع أن يندر منهم، أو من أحدهم بعض الصلاح فتمم الكلام بقوله: ﴿وَلَا يُصْلِحُونَ﴾ دفعًا لتلك الندرة أن تقع، أو أن يخالج بعض الأذهان شك في أنها ستقع، وبذلك قطع كل رجاء في إصلاح أمرهم، وحسن حالهم. اهـ من الدرويش.
ومنها: المشاكلة في قوله: ﴿وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا﴾ المشاكلة معناها: ذكر الشيء بلفظ غيره لوقوعه في صحبته؛ لأن الله تعالى تقدس أن يستعمل في حقه المكر، إلا أنه استعمل هنا مشاكلة، وهو كثير في القرآن، أما مكرهم: فهو ما بيتوه لصالح، وما انتووه من إهلاكه وأهله خفية. وأما مكر الله تعالى بهم: فهو إهلاكهم من حيث لا يشعرون.
وفيه أيضًا الاستعارة المنضمة إلى المشاكلة، فقد شبه الاهلاك بالمكر في كونه إضرارًا في الخفاء؛ أي: من حيث لا يشعرون.
ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع (١).
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
وكان الفراغ من مسودة هذا المجلد بعون الملك ذي الكبرياء في أوائل ليلة الأربعاء من الثلث الثالث من الشهر الرابع من شهور سنة ألف وأربع مئة وثلاثة عشر من سنين الهجرة النبوية، على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التحية من تاريخ ٢٥/ ٤/ ١٤١٣ هـ.
انتهى المجلد العشرون بعون الله وتوفيقه، ويليه المجلد الحادي العشرون، وأوله قوله تعالى: ﴿فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ...﴾ الآية.
وَقُلْ بِذُلٍّ رَبِّ لاَ تَقْطَعَنِّي | عَنْكَ بِقَاطِعٍ وَلاَ تَحْرِمَنِّيْ |
مِنْ سِرِّكَ الأْبهَى الْمُزِيْلِ لِلْعَمَى | وَاخْتُمْ بِخَيْرٍ يَا رَحِيْمَ الرُّحَمَا |
تأليف
الشيخ العلامة محمد الأمين بن عبد الله الأرمي العلوي الهرري الشافعي
المدرس بدار الحديث الخيرية في مكة المكرمة
إشراف ومراجعة
الدكتور هاشم محمد علي بن حسين مهدي
خبير الدراسات برابطة العالم الإسلامي - مكة المكرمة
«المجلد الحادي والعشرون»
الطبعة الأولى
١٤٢١ هـ - ٢٠٠١ م
دار طوق النجاة
بيروت - لبنان
[٢١]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله الواحد الأحد الماجد الفرد الصمد، الذي لم يتخذ صاحبة ولا ولد، ولم يكن له كفوًا أحد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة توصلنا إلى رضاه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله ومصطفاه، صلى الله سبحانه عليه، وعلى آله وصحبه الذين رقوا في ذرى المجد بتقاه، وسلَّم عليهم وعلى كل عاضّ بسنته وهداه، ما تعاقب الجديدان وتصارع الحق والبطلان.أما بعد: فإني لما فرغت من تفسير الجزء التاسع عشر من القرآن الكريم بعون الله سبحانه وتيسيره.. تفرغت وتصديت بقدر مكانتي لتفسير الجزء العشرين منه إن شاء الله سبحانه وتعالى، مع ما بي من العوائق والمعائق، مستمطرًا من سحائب كرمه وجوده، ومستمدًا من وابل فيضه وإمداده، فقلت: وبالله التوفيق:
قال الله سبحانه جلَّ وعلا:
{فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (٥٦) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ (٥٧) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (٥٨) قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (٥٩) أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (٦٠) أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (٦١) أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (٦٢) أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٦٣) أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (٦٤) قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (٦٥)
المناسبة
قوله تعالى: ﴿قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما قص (١) على رسوله - ﷺ - قصص أولئك الأنبياء السالفين، وذكر أخبارهم الدالة على كمال قدرته، وعظيم شأنه، وعلى ما خصهم به من المعجزات الباهرة الناطقة بجلال أقدارهم، وصدق أخبارهم، وفيها بيان صحة الإِسلام والتوحيد، وبطلان الشرك والكفر، وأن من اقتدى بهم فقد اهتدى، ومن أعرض عنهم فقد تردى في مهاوي الردى، ثم شرح صدره - ﷺ - بما في تضاعيف تلك القصص من العلوم الإلهية، والمعارف الربانية الفائضة من عالم القدس، مقررًا بذلك قوله: ﴿وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (٦)﴾.. أردف هذا بأمره - ﷺ - بأن يحمده تعالى على تلك النعم، ويسلم على الأنبياء كافة عرفانًا لفضلهم، وأداء لحق تقدمهم واجتهادهم في الدين، وتبليغ رسالات ربهم على أكمل الوجوه وأمثل السبل، ثم ذكر الأدلة على تفرده بالخلق والتقدير، ووجوب عبادته وحده، وأنه لا ينبغي عبادة شيء سواه من الأصنام والأوثان.
قوله تعالى: ﴿قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ...﴾ الآية، مناسبة
قوله تعالى: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر فيما سلف جهلهم بالآخرة وعماهم عنها.. أردف بيان ذلك وإيضاحه بأنهم ينكرون الإخراج من القبور بعد أن صاروا ترابًا، وأنهم قالوا: تلك مقالة سمعناها من قبل، وما هي إلا أسطورة من أساطير الأولين وخرافاتهم.
ثم أمر الله سبحانه رسوله أن يرشدهم إلى صدق هذا، بالسير في الأرض حتى يروا عاقبة المجرمين بسبب تكذيبهم للرسل فيما دعوهم إليه من الإيمان بالله واليوم الآخر.
ثم صبر سبحانه رسوله على ما يناله من أذى المشركين، ووعده بالنصر عليهم، ثم ذكر أنهم مكذبون بالساعة وغيرها من العذاب والجزاء الموعود، وأنهم يسألون عن ذلك سخرية واستهزاء، وأجابهم بأن العذاب سينزل بهم قريبًا، ثم ذكر فضله على عباده بأنه لا يعجل لهم العذاب مع استحقاقهم له، إذ هم لا يشكرونه على ذلك، ثم بين أنه تعالى عليم بالسر والنجوى، وأنه مطلع على ما تكنه القلوب، وأنه ما من شيء مهما خفي فالله عليم به، وهو مثبت عنده في كتاب مبين.
التفسير وأوجه القراءة
٥٦ - ﴿فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ﴾؛ أي: قوم لوط، وقرأ الجمهور (١) بنصب ﴿جَوَابَ﴾ على أنه خبر ﴿كَانَ﴾، واسمها: ﴿إِلَّا أَنْ قَالُوا﴾؛ أي: إلا قولهم؛ أي: إلا قول بعضهم لبعض: ﴿أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ﴾؛ أي: أخرجوا لوطًا وابنتيه زعورا
وقرأ الحسن وابن إسحاق برفع ﴿جوابُ﴾ على أنه اسم ﴿كَانَ﴾ وخبرها ما بعده؛ أي: فلم يكن جواب قومه إلا قولهم، والأول أولى. ثم عللوا ما أمروا به بعضهم بعضًا من الإخراج بقولهم: ﴿إِنَّهُمْ﴾؛ أي: إن آل لوط ﴿أُنَاسٌ﴾ جمع إنس، والناس مخفف منه، ﴿يَتَطَهَّرُونَ﴾؛ أي: يتنزهون عن أدبار الرجال، وعن جميع أفعالنا أو عن الأقذار، ويعدون أفعالنا قذرًا.
وعن ابن عباس - رضي الله عنهما -: قالوا ذلك استهزاء منهم بهم. وهذا الجواب (١) هو الذي صدر عنهم في المرة الأخيرة من مرات المواعظ بالأمر والنهي، لا أنه لم يصدر منهم كلام آخر غيره.
٥٧ - ﴿فَأَنْجَيْنَاهُ﴾؛ أي لوطًا ﴿وَأَهْلَهُ﴾ أي: بنتيه زعورا ورويثا وامرأته المؤمنة بأن أمرناهم بالخروج من القرية، ﴿إِلَّا امْرَأَتَهُ﴾ الكافرة المسماة بواهلة، لم ننجها بل ﴿قَدَّرْنَاهَا﴾ وقضينا كونها ﴿مِنَ الْغَابِرِينَ﴾ أي: من الباقين في العذاب، فلذا لم تخرج من القرية مع لوط، أو خرجت ومُسِخت حجرًا.
وقرأ الجمهور (٢): ﴿قَدَّرْنَا﴾ بتشديد الدال، وقرأ أبو بكر بتخفيفها، ومعنى القراءتين واحد مع دلالة زيادة البناء على زيادة المعنى.
٥٨ - ﴿وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ﴾ بعد قلب قريتهم، وجعل عاليها سافلها، أو على شذاذهم، ومن كان منهم في الأسفار، ﴿مَطَرًا﴾ غير معهود، وهو حجارة السجيل، والتأكيد بالمصدر يدل على شدة المطر، وأنه غير معهود، ﴿فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ﴾؛ أي: بئس وقح مطر من أُنذر بعذاب الله فلم يخف منه، والمخصوص بالذم محذوف، تقديره: مطرهم هذا.
وحاصل معنى الآيات (٣): أي فلم يكن جوابهم للوط - إذ نهاهم عما أمره
(٢) البحر المحيط.
(٣) المراغي.
ولما وصلوا إلى هذا الحد من قبح الأفعال والأقوال دمر الله عليهم، وللكافرين أمثالها، وإلى هذا أشار بقوله: ﴿فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ﴾ أي: فأهلكناهم وأنجينا لوطًا وأهله، إلا امرأته جعلناها بتقديرنا وحكمتنا من الباقين في العذاب، لأنها كانت على طريقتهم راضية بقبيح أفعالهم، وكانت ترشد قومها إلى ضيفان لوط ليأتوا إليهم، لا أنها كانت تفعل الفواحش تكرمة لنبي الله عليه السلام لا كرامة لها.
ثم بين ما أهلكوا به، فقال: ﴿وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ...﴾ إلخ؛ أي: وأمطرنا عليهم مطرًا غير ما عُهد من نوعه، فقد كان حجارة من سجيل، فبئس ذلك المطر مطر الذين أنذرهم الله سبحانه عقابًا لهم على معصيتهم إياه، وخوَّفهم بأسه بإرسال الرسول إليهم.
٥٩ - ﴿قُلِ﴾ يا محمد ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾ سبحانه على جميع نعمه التي من جملتها إهلاك أعداء الأنبياء والمرسلين وأتباعهم الصديقين، فإنهم لما كانوا إخوانه عليه السلام كانت النعمة عليهم نعمة عليه، ﴿وَسَلَامٌ﴾؛ أي: وسلامة ونجاة ﴿عَلَى عِبَادِهِ﴾ سبحانه وتعالى ﴿الَّذِينَ﴾ صفة لعباده ﴿اصْطَفَى﴾؛ أي: الذين اصطفاهم الله تعالى، وجعلهم صفوة خليقته في الأزل، وهداهم واجتباهم للنبوة والرسالة والولاية في الأبد، فهم الأنبياء والمرسلون وخواصهم المقربون الذين سلموا من الآفات، ونجوا من العقوبات مطلقًا.
وقرأ أبو السماك: ﴿قل الحمد لله﴾ وكذا ﴿قل الحمد لله سيريكم﴾ بفتح اللام، ذكره أبو حيان.
والحاصل (٢): أن الله سبحانه أمر رسوله أن يحمده شكرًا له على نعمه التي لا تعد ولا تحصى، وأن يسلم على عباده الذين اصطفاهم لرسالته، وهم أنبياؤه الكرام ورسله الأخيار.
ومن تلك النعم النجاة والنصر والتأييد لأوليائه، وحلول الخزي والنكال باعدائه، ونحو الآية قوله تعالى: ﴿سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (١٨٠) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (١٨١) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (١٨٢)﴾.
وفي هذا تعليم حسن وأدب جميل، وبعث على التيمُّن بالذِكْرين، والتبرك بهما، والاستظهار بمكانهما على قَبول ما يلقى إلى السامعين والإصغاء إليه، وإنزاله من قلوبهم المنزلة التي يبغيها المستمع، ولقد توارث العلماء والخطباء والوعاظ كابرًا عن كابر هذا الأدب، فحمدوا الله، وصلوا على رسوله - ﷺ - أمام كل علم مفاد، وقبل كل عظة، وفي مفتتح كل خطبة، وتبعهم المترسلون، فأجروا عليه أوائل كتبهم في الفتوح والتهاني، وغير ذلك من الحوادث التي لها شأن.
ثم شرع يوبخ المشركين، ويتهكم بهم، وينبههم إلى ضلالهم وجهلهم، إذ آثروا عبادة الأصنام على عبادة الواحد القهار، فقال: ﴿آللَّهُ﴾ (٣) بالمد بمقدار الألفين، أصله (أألله) على أن الهمزة الأولى استفهام، والثانية وصل، فمدوا الأولى تخفيفًا، والمعنى: آللهُ الذي ذُكرت شؤونه العظيمة ﴿خَيْرٌ﴾ أي: أنفع لعابديه ﴿أَمَّا﴾؛ أي: أم الذي، فأم متصلة وما موصولة، ﴿يُشْرِكُونَ﴾ به من الأصنام؛ أي: أم الأصنام أنفع لعابديها، يعني: الله خير.
(٢) المراغي.
(٣) روح البيان.
وقرأ أبو عمرو وعاصم والحسن وقتادة ويعقوب ﴿يُشْرِكُونَ﴾ بالياء التحتية على الغيبة؛ أي: آلله الذي ذُكرت أفعاله وصفاته الدالة على عظيم قدرته خير أمَّا يشركون به تعالى من الأصنام، وقرأ الباقون: بالتاء الفوقية على الخطاب؛ أي: آلله خير أم آلهة تشركونها بالله تعالى يا أهل مكة، وهي اختيار أبي عبيد وأبي حاتم.
وفي ذلك (٢) ما لا يخفى من تسفيه آرائهم، وتقبيح معتقداتهم وإلزامهم الحجة، إذ من البيّن أنه ليس فيما أشركوه به سبحانه شائبة خير حتى يوازن بينها وبين ما هو محض الخير، فهو من وادي ما حكاه سيبويه، تقول العرب: "السعادة أحب إليك أم الشقاء"، وكما قال حسان يهجو أبا سفيان بن حرب، ويمدح النبي - ﷺ -:
أَلاَ يَا أَيُّهَا الْمَأْمُوْلُ فِيْ كُلِّ حَاجَةٍ | إِلَيْكَ شَكَوْتُ الضُّرَّ فَارْحَمْ شِكَايَتِيْ |
أَلاَ يَا رَجَائِيْ أَنْتَ كَاشِفُ كُرْبَتِيْ | فَهَبْ لِيْ ذُنُوْبِي كُلَّهَا وَاقْضِ حَاجَتِيْ |
فَزَادِيْ قَلِيْلٌ مَا أرَاهُ مُبَلِّغِي | عَلَى الزَّادِ أبْكِيْ أَمْ لِبُعْدِ مَسَافَتِيْ |
أَتَيْتُ بِأَعْمَالٍ قِبَاحٍ رَدِيْئَةِ | وَمَا فِيْ الْوَرَى خَلْقٌ جَنَى كَجِنَايَتِيْ |
أتَهْجُوْهُ وَلَسْتَ لَهُ بِكُفْءٍ | فَشَرُّكُمَا لِخَيْرِكُمَا الْفِدَاءُ |
وقرأ الجمهور (٣): ﴿أَمَّنْ خَلَقَ﴾ وفي الأربعة بعدها بشد الميم، وهي ميم
(٢) المراغي.
(٣) البحر المحيط.
ثم (١) عدل على الغيبة إلى التكلم لتأكيد الاختصاص بذاته فقال: ﴿فَأَنْبَتْنَا بِهِ﴾ بِهِ؛ أي: بسبب ذلك الماء ﴿حَدَائِقَ﴾؛ أي: بساتين محدقة ومحاطة بالحوائط، من الإحداق وهو الإحاطة، قال الفراء: الحديقة البستان الذي عليه حائط، فإن لم يكن عليه حائط فهو البستان وليس بحديقة، وقال قتادة وعكرمة: الحدائق النخل، وقوله: ﴿ذَاتَ بَهْجَةٍ﴾ صفة لحدائق، ولم يقل (٢): ذوات بهجة على الجمع؛ لأن المعنى جماعة حدائق؛ أي: صاحبة حسن ورونق يبتهج ويسر به النظار، والبهجة هي الحسن الذي يبتهج به من رآه.
وقرأ الجمهور: ﴿ذَاتَ﴾ بالإفراد، ﴿بَهْجَةٍ﴾ بسكون الهاء، وجمع التكسير يجري في الوصف مجرى الواحدة، كقوله: ﴿أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ﴾ وهو على معنى جماعة، وقرأ ابن أبي عبلة: ﴿ذوات﴾ بالجمع، ﴿بهجة﴾ بتحريك الهاء بالفتح، ذكره أبو حيان.
﴿مَا كَانَ لَكُمْ﴾؛ أي: ما صح وما أمكن لكم ﴿أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا﴾؛ أي: شجر الحدائق فضلًا عن ثمرها؛ أي: ما كان لكم مقدرة على أن تنبتوا شجر البساتين فضلًا عن ثمرها، وسائر صفاتها البديعة، ومعنى (٣) هذا النفي الحظر والمنع من فعل هذا؛ أي: ما كان للبشر ولا يتهيأُ لهم ذلك، ولا يدخل تحت مقدرتهم، لعجزهم عن إخراج الشيء من العدم إلى الوجود.
والمعنى (٤): أي أعبادة ما تعبدون أيها المشركون من أوثانكم التي لا تضر ولا تنفع خير أم عبادة من خلق السموات على ارتفاعها وصفائها، وجعل فيها
(٢) الشوكاني.
(٣) الشوكاني.
(٤) المراغي.
ثم زاد في التوبيخ فنفى الألوهية عما يشركون بعد تبكيتهم على نفي الخيرية عنها، فقال: ﴿إِلَهٌ﴾؛ أي: هل إله آخر ومعبود سواه كائن ﴿مَعَ اللَّهِ﴾ الذي تقدم ذكر بعض أفعاله، التي لا يكاد يقدر عليها غيره، حتى يقرَّ به، ويُجعل شريكًا له في العبادة. وقرىء؛ ﴿أإلهًا﴾ بالنصب على تقدير أتدعون إلهًا، أو أتشركون، وقرىء (١): ﴿أإله﴾ بتحقيق الهمزتين وتسهيل الثانية، وإدخال ألف بينهما على الوجهين، وترك الإدخال فيهما في مواضعه الخمسة، فالقراءات أربعة كلها سبعية.
والمعنى: أي أإله غيره يقرون به، ويجعلونه شريكًا له في العبادة، مع تفرده جل شأنه بالخلق والتكوين، ونحو الآية قوله: ﴿وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ﴾.
ثم انتقل من تبكيتهم إلى بيان سوء حالهم، فقال: ﴿بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ﴾ بالله غيره، أو يعدلون عن الحق إلى الباطل.
أي: بل (٢) هؤلاء المشركون قوم دأبهم العدول عن طريق الحق، والانحراف عن جادة الاستقامة في جميع شؤونهم، ومن ثم يفعلون ما يفعلون من العدول عن الحق الواضح، وهو التوحيد، ويعكفون على الضلال المبين، وهو الإشراك، وفي معنى الآية قوله: ﴿أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ﴾، وقوله ﴿أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (٢٢)﴾، وقوله: {وَجَعَلُوا
(٢) المراغي.
٦١ - ثم أضرب وانتقل إلى التبكيت بوجه آخر أدخل في الإلزام فقال: ﴿أَمّ﴾ منقطعة ﴿مَّن﴾ موصولة ﴿جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا﴾ صلتها؛ أي: بل (١) أمن جعل الأرض مستقرًا لمن فيها، يستقر عليها الإنسان والدواب، بإظهار بعضها من الماء بالارتفاع، وتسويتها حسبما يدور عليه منافعهم، خير من الذين يشركون من الأصنام، وذكر بعض الآيات بلفظ الماضي لأن بعض أفعاله تقدم وحصل مفروغًا منه، وبعضها يفعلها حالًا بعد حال.
﴿وجَعَلَ﴾ معطوف على الصلة، ﴿خِلَالَهَا﴾ مفعول ثان لجعل - جمع خلل - وهي الفرجة بين الشيئين، ﴿أَنْهَارًا﴾ مفعول أول له، قدم الثاني عليه لكونه ظرفًا، وعلى هذا المفاعيل للفعلين الآتيين؛ أي: وجعل أنهارًا جارية ينتفعون بها في خلال الأرض وأوساطها، ﴿وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ﴾؛ أي: جبالًا ثوابت تمنعها أن تميل بأهلها وتضطرب، ويتكون فيها المعادن، وينبع في حضيضها الينابيع، ويتعلق بها من المصالح ما لا يخفى، ﴿وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ﴾؛ أي: العذب والمالح، أو خليجي فارس والروم ﴿حَاجِزًا﴾؛ أي: برزخًا مانعًا من الممازجة والمخالطة؛ أي: جعل بين البحرين العذب والمالح حاجزًا من قدرته، فلا يختلط أحدهما بالآخر، فلا هذا يغيِّر ذاك، ولا ذاك يدخل في هذا، وقد مر بيانه في سورة الفرقان.
ولما كانت كل (٢) هذه المذكورات نعمة عظيمة مستقلة تكرر العامل فيها في قوله: ﴿وَجَعَلَ﴾ فكانت من عطف الجمل المستقل كل واحدة منها بالامتنان ولم يشرك في عامل واحد فيكون من عطف المفردات.
(٢) البحر المحيط.
﴿أَإِلَهٌ﴾ أي: هل معبود آخر كائن ﴿مَعَ اللَّهِ﴾ سبحانه في الوجود، أو في إبداع هذه الكائنات، وإيجاد هذه الموجودات، يعني ليس معه غيره، ﴿بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾؛ أي: بل أكثر هؤلاء المشركين لا يعلمون شيئًا من الأشياء، ولذلك لا يفهمون بطلان ما هم عليه من الشرك مع كمال ظهوره، أو لا يعلمون قدر عظمة الله تعالى، وما عليهم من ضر في إشراكهم غيره به، وما لهم من نفع في إفرادهم إياه بالألوهية، وإخلاصهم العبادة له، وبراءتهم من كل معبود سواه.
٦٢ - ثم زادهم توبيخًا من وجه ثالث فقال: ﴿أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ﴾؛ أي: بل أمن (٢) يجيب دعوة المضطر المكروب المجهود الذي لا حول له ولا قوة، وقيل: المضرور بالحاجة المحوجة من مرض أو نازلة من نوازل الدهر، يعني: إذا نزلت بأحد نازلة بادر إلى الالتجاء والتضرع إلى الله تعالى، وقيل: هو المذنب إذا استغفر، واللام (٣) في المضطر للجنس لا للاستغراق، فلا يلزم منه إجابة كل مضطر، فقد لا يجاب دعاء بعض المضطرين لمانع يمنع من ذلك، بسبب يحدثه العبد يحول بينه وبين إجابة دعائه، وإلا فقد ضمن الله سبحانه إجابة دعاء المضطر
(٢) الخازن.
(٣) الشوكاني.
والحكمة في إجابة دعاء المضطر: أن ذلك الاضطرار الحاصل له يتسبب عنه الإخلاص، وقطع النظر عما سوى الله تعالى، فقد أخبر الله سبحانه بأنه يجيب دعاء المخلصين له الدين، وإن كانوا كافرين، فقال: ﴿حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ﴾ وقال: ﴿فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ﴾ فأجابهم عند ضرورتهم وإخلاصهم مع علمه بأنهم سيعودون إلى شركهم.
والمضطر من الاضطرار إفتعال من الضرورة، وهي الحالة المحوجة إلى اللجاء، والمضطر الذي أحوجه شدة ما به إلى اللجاء إلى الله والتضرع إليه تعالى؛ أي: بل أمن يجيب دعاء المضطر المكروب ﴿إِذَا دَعَاهُ﴾ ذلك المضطر إلى كشف ما به من الضرر، والضمير المنصوب راجع إلى ﴿مَنْ﴾ الموصولة التي أريد بها الله سبحانه، والمستتر الفاعل يعود على المضطر.
وقوله: ﴿وَيَكْشِفُ السُّوءَ﴾ معطوف على الصلة عطف تفسير، و ﴿إِذَا﴾ مجردة عن معنى الشرط؛ أي: أمن يجيب الملجأ إلى ضيق من الأمر ﴿وَيَكْشِفُ﴾؛ أي: يزيل عنه ﴿السُّوءَ﴾ والضر الذي نزل به خير أم الذي يشركون به من الأصنام؟ وقال (١) بعضهم: فصل بين الإجابة وكشف السوء، فالإجابة بالقول والكشف بالطول، والإجابة بالكلام، والكشف بالإنعام، ودعاء المضطر لا حجاب له، ودعاء المظلوم لا مرد له، ولكل أجل كتاب اهـ.
﴿وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ﴾ أي: سكانها؛ أي: يجعلكم خلفاء فيها بأن ورثكم سكناها والتصرف فيها ممن كان قبلكم من الأمم، يخلف كل قرن منكم القرن الذي قبله، ومعنى هذا: أي يجعلكم متوارثين سكناها ممن قبلكم بعد انقراضهم، فتعمرون الدنيا وتزينونها بأنواع الصنائع والحرف، بمعنى: يهلك قرنًا
وحاصل المعنى (١): أي أمن تشركون بالله خير أم من يجيب المكروب الذي يحوجه المرض أو الفقر أو النازلة من نوازل الدهر إلى اللجاء، والتضرع إليه إذا دعاه وقت اضطراره، ويرفع عن الإنسان ما يسوءُه من فقر أو مرض، ويجعلكم خلفاء من قبلكم من الأمم في الأرض، فيورثكم إياها بالسكنى والتصرف فيها.
وجاء رجل إلى مالك بن دينار فقال: أسألك بالله أن تدعو لي، فأنا مضطر، قال: إذًا فاسأله، فإنه يجيب المضطر إذا دعاه. وقال الشاعر:
وإنَّيْ لأدْعُوْ اللهَ وَالأَمْرُ ضيِّقٌ | عَلَيَّ فَمَا يَنْفَكُّ أنْ يَتَفَرَّجَا |
وَرُبَّ أَخٍ سُدَّتْ عَلَيْهِ وُجُوْهُهُ | أَصَابَ لَهَا لَمَّا دَعَا اللهَ مَخْرَجَا |
وفي "صحيح مسلم": أن النبي - ﷺ - قال لمعاذ لما وجهه إلى أرض اليمن: "واتق دعوة المظلوم فليس بينها وبين الله حجاب" وقرأ الحسن في رواية: ﴿ونجعلكم﴾ بنون المتكلم المعظم، كانه استئناف إخبار ووعد.
﴿أَإِلَهٌ﴾ أي: هل معبود آخر كائن ﴿مَعَ اللَّهِ﴾ الذي يفيض على كافة الأنام هذه النعم الجسام. ثم بيَّن أن من طبيعة الإنسان أن لا يتذكر نعم الله عليه إلا قليلًا حيث قال: ﴿قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ﴾؛ أي: تتذكرون آلاء الله ونعمه تذكرًا قليلًا، وزمانًا قليلًا، ومن ثم أشركتم به غيره في العبادة، و ﴿مَا﴾ مزيدة (٢) لتأكيد معنى
(٢) روح البيان.
وقرأ الجمهور (١): ﴿تَذَكَّرُونَ﴾ بالفوقية على الخطاب، والحسن والأعمش وأبو عمرو وهشام ويعقوب: بالتحتية على الخبر ردًا على قوله: ﴿بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾، واختار هذه القراءة أبو حاتم، والذال في القراءتين مشددة لإدغام التاء فيها، وقرأ أبو حيوة شاذًا: ﴿تتذكرون﴾ بتاءين.
٦٣ - ثم زادهم تأنيبًا وتهكمًا من ناحية أخرى فقال: ﴿أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ﴾؛ أي: بل أمن يهديكم ويرشدكم إلى مقاصدكم ﴿فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ﴾؛ أي: في ظلمات الليالي فيهما بالنجوم وعلامات الأرض، على أن الإضافة للملابسة، أو في مشتبهات الطرق، يقال: طريقة ظلماء أو عمياء للتي لا منار بها، وشبهها بالظلمات لعدم ما يهتدون به فيها؛ أي: أهو خير أم الأصنام التي لا تنفع ولا تضر، و ﴿مَنْ﴾ موصولة كما سبق؛ أي؛ وأمن ﴿يُرْسِلُ الرِّيَاحَ﴾ حال كونها ﴿بُشْرًا﴾؛ أي: مبشرة بالمطر ﴿بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ﴾؛ أي: قدام المطر - وقيل: نزوله - خير أم الأصنام التي لا تنفع ولا تضر.
والمعنى (٢): أي أمن تشركون بالله خير أم من يرشدكم في ظلمات البر والبحر إذا أظلمت عليكم السبل، فضللتم الطريق، بما خلق من الدلائل السماوية، كما قال: ﴿وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ﴾ وقال: ﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ﴾، ومن يرسل الرياح أمام الغيث الذي يحيي موات الأرض.
ولما اتضحت الأدلة، ولم يبق لأحد في ذلك عذر ولا علة قال: ﴿أَإِلَهٌ﴾ أي: هل معبود آخر كائن ﴿مَعَ اللَّهِ﴾ سبحانه يقدر على مثل ذلك ﴿تَعَالَى اللَّهُ﴾ سبحانه وترفع ﴿يُشْرِكُونَ﴾ به؛ أي: تعالى الخالق القادر عن مشاركة العاجز
(٢) المراغي.
أي: تنزه ربنا المنفرد بالألوهية، ومن له صفات الكمال والجلال، ومن تخضع له جميع المخلوقات، وتذل لقهره وجبروته عن شرككم الذي تشركونه به، وعبادتكم معه ما تعبدون.
٦٤ - ثم أضاف إلى ذلك برهانًا آخر لعلهم يرتدعون عن غيهم فقال: ﴿أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ﴾؛ أي: بل أمن يوجد الخلق وينشىء أول مرة ﴿ثُمَّ يُعِيدُهُ﴾ أي: يعيد الخلق بعد الموت بالبعث؛ أي: يوجده بعد إماتته، خير أم الأصنام التي لا تنفع ولا تضر، كانوا يقرون بأن الله سبحانه هو الخالق، فألزمهم الإعادة؛ أي: إذا قدر على الابتداء فهو أقدر على الإعادة.
وفي "الكواشي": وسألوا عن بدء خلقهم وإعادتهم، مع إنكارهم البعث، لتقدم البراهين الدالة على ذلك من إنزال الماء وإنبات النبات وجفافه ثم عوده مرة ثانية، والعقل يحكم بإمكان الإعادة بعد الإبلاء، وهم يعلمون أنهم وُجدوا بعد أن لم يكونوا، فإيجادهم بعد أن كانوا أيسر.
و ﴿أَمّ﴾ في الجُمل الخمس للانتقال من التبكيت بما قبلها إلى التبكيت بوجه آخر (١)، أدخل في الإلزام بجهة من الجهات، ﴿وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ﴾؛ أي: بأسباب سماوية وأرضية، كالمطر والحر والبرد والنبات والمعادن والحيوان؛ أي: أهو خير أم ما تجعلونه شريكًا له مما لا يقدر على شيء من ذلك.
والمعنى: أمن تشركون به خير أم الذي ينشىء الخلق بادىء بدء، ويبتدعه من غير أصل سلف، ثم يفنيه إذا شاء، ثم يعيده إذا أراد كهيئته قبل أن يفنيه، والذي يرزقكم من السماء والأرض، فينزل من الأولى غيثًا، وينبت من الثانية نباتًا لأقواتكم وأقوات أنعامكم.
وهم وإن كانوا ينكرون الإعادة والبعث لم يُلتفت إلى ذلك الإنكار، لظهور
وبعد (١) أن ذكر البرهان تلو البرهان، وأوضح الحق حتى صار كفلق الصبح.. زاد في التهكم بهم، والإنكار عليهم، والتسفيه لعقولهم، فأمر رسوله أن يطلب منهم البرهان على صدق ما يدَّعون، فقال: ﴿قُلْ﴾ لهم يا محمد ﴿هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ﴾ وحجتكم عقليًا أو نقليًا بما يدل على أن معه تعالى إلهًا آخر، والبرهان أوكد الأدلة، وهو الذي يقتضي الصدق أبدًا، ﴿إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾؛ أي: في تلك الدعوى.
فائدة (٢): قوله تعالى: ﴿أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ﴾ ذُكر هنا في خمسة مواضع متوالية، وختم الأول بقوله: ﴿بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ﴾، والثانية بقوله: ﴿بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾، والثالثة بقوله: ﴿قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ﴾، والرابعة بقوله: ﴿تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ والخامسة بقوله: ﴿قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ ومعناه: أي عدلوا، وأول الذنوب العدول عن الحق، ثم لم يعلموا، ولو علموا ما عدلوا، ثم لم يتذكروا فيعلموا بالنظر والاستدلال، فأشركوا من غير حجة وبرهان، قل لهم يا محمد: هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين.
٦٥ - ثم بيَّن تعالى تفرده بعلم الغيب تكميلًا لما قبله من اختصاصه بالقدرة التامة، وتمهيدًا لما بعده من أمر البعث، فقال: ﴿قُلْ﴾ يا محمد لكافة الناس تعليما لهم ﴿لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ﴾؛ أي: لا يعلم أحد من المخلوقات الكائنة في السموات والأرض من الملائكة والإنس والجن الغيب الذي استأثر الله بعلمه، كوقت قيام الساعة، ونزول المطر، وبأي أرض تموت النفس، وماذا تكسب غدًا، فـ ﴿مَنْ﴾ الموصولة فاعل ﴿يَعْلَمُ﴾، و ﴿الْغَيْبَ﴾ مفعوله، ولفظ الجلالة في قوله: ﴿إِلَّا اللَّهُ﴾ مبتدأ، خبره محذوف، والاستثناء
(٢) فتح الرحمن.
والحاصل (٢): أن الله سبحانه يقول آمرًا رسوله - ﷺ -: أن يُعلم جميع خلقه أنه لا يعلم الغيب أحد من أهل السماوات والأرض، بل الله وحده هو الذي يعلم ذلك، كما قال: ﴿وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ﴾ الآية، وقال: ﴿إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ﴾ الآية.
والمراد بالغيب: الشؤون التي تتعلق بأمور الآخرة وأحوالها، وشؤون الدنيا التي لا تقع تحت حسِّنا، وليست في مقدورنا، وعن مسروق عن عائشة - رضي الله عنها -، أنها قالت: مَن زعم أن النبي - ﷺ - يعلم ما يكون في غد فقد أعظم الفرية على الله؛ لأن الله يقول: ﴿قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ﴾.
ثم ذكر بعض ذلك فقال: ﴿وَمَا يَشْعُرُونَ﴾؛ أي: وما يشعر من في السماوات من الملائكة، ولا من في الأرض من الإنس والجن، ولا يعلمون ﴿أَيَّانَ يُبْعَثُونَ﴾؛ أي: متى ينشرون من قبورهم لقيام الساعة، والله سبحانه تفرد بعلم ذلك؛ أي: وما يدري من في السماوات والأرض من خلقه متى هم مبعوثون من قبورهم لقيام الساعة، كما قال: ﴿ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً﴾؛ أي: ثقل علمها على أهل السموات والأرض فلا يشعرون بها، بل تأتيهم بغتة، فـ ﴿أَيَّانَ﴾ (٣) مركبة من أي واَن، فأي للاستفهام، وآن بمعنى الزمان، فلما ركبا
(٢) المراغي.
(٣) روح البيان.
وقرأ السلمي (١): ﴿إيان﴾ بكسر الهمزة، وهي لغة قبيلته بني سليم، وهي منصوبة بـ ﴿يبعثون﴾، ومعلقة ليشعرون، فتكون وما بعدها في محل نصب بنزع الخافض؛ أي: وما يشعرون بوقت بعثهم، ومعنى أيان معنى متى.
٦٦ - ثم أكد (٢) جهلهم بهذا اليوم بقوله: ﴿بَلِ ادَّارَكَ﴾؛ أي: بل انتهى وانقطع وانعدم ﴿عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ﴾؛ أي: علمهم بالآخرة، فـ ﴿فِي﴾ بمعنى الباء، والضمير للكفرة؛ أي: انعدم علمهم بالآخرة، وتبين عجزهم عن معرفة وقتها، فلم يكن لهم علم بشيء مما سيكون فيها قطعًا، مع توافر أسباب العلم من الأدلة العقلية والنقلية، وليس المراد أنه كان لهم علم بوقتها على الحقيقة، فانتفى شيئًا فشيئًا، بل المراد أن أسباب العلم ومبادئه من الدلائل العقلية والنقلية ضعفت في اعتبارهم وفكرهم شيئًا فشيئًا كلما تأملوا فيها، حتى لم يعد لها قيمة وكأن لم تكن.
ثم انتقل من وصفهم بالجهل بميقاتها إلى الحيرة في الآخرة نفسها، أتكون أولًا تكون، فقال: ﴿بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا﴾؛ أي: بل هم اليوم في الدنيا في حيرة عظيمة من تحققها ووجودها، أكائنة هي أم غير كائنة، كمن يحار في الأمر لا يجد عليه دليلًا، فضلًا عن تصديق ما سيحدث فيها من شؤون أخبرت عنها الكتب السماواية، كالثواب والعقاب والنعيم والعذاب والأهوال التي لا يُدرك كنهها العقل.
ثم ارتقى من وصفهم بالشك في أمرها إلى وصفهم بالعمى واختلال البصيرة، بحيث لا يدركون الدلائل التي تدل على أنها كائنة لا محالة، فقال: ﴿بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ﴾؛ أي: بل هم في عماية وجهل عظيم من أمرها، وعن كل ما يوصلهم إلى الحق في شأنها، والنظر في دلائلها، فلا يُدركون شيئًا من دلائلها لاختلال بصائرهم التي يكون بها الإدراك.
(٢) المراغي.
وقرأ الجمهور (٢): ﴿بَلِ ادَّارَكَ﴾ أصله تدارك فادغمت التاء في الدال فسكنت، فاجتلبت همزة الوصل ليمكن الابتداء بالساكن، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وأبو جعفر وحُميد وأهل مكة: ﴿بل أدارك﴾ على وزن أفعل، بمعنى تفاعل، ورُويت هذه القراءة عن أبي بكر عن عاصم، وقرأ أبي: ﴿أم تدارك﴾ على الأصل، وجعل ﴿أم﴾ بدل ﴿بل﴾ وقرأ سليمان بن يسار وأخوه عطاء بن يسار والأعمش: ﴿بل ادارك﴾ بنقل الهمزة إلى اللام وشد الدال، بناء على أن وزنه افتعل، فأُدغم الدال، وهي فاء الكلمة في التاء بعد قلبها دالًا فصار قلب الثاني للأول، لقولهم: اتَّرَدَ، وأصله اشتَرَدَ من الشَّرْد، والهمزة المحذوفة المنقول حركتها إلى اللام هي همزة الاستفهام، أُدخلت على ألف الوصل، فانحذفت ألف الوصل، ثم انحذفت هي، وألقيت حركتها على لام بل.
وقرأ أبو رجاء والأعرج وشيبة وطلحة وتوبة العنبري وابن عباس والأعمش وعاصم: ﴿بل إدارك﴾ بكسر لام بل وإثبات الياء بعدها وبهمزة قطع.
وقرأ عبد الله في رواية وابن عباس في رواية، وابن أبي جمرة وغيره عنه والحسن وقتادة وابن محيصن: ﴿بل آدرك﴾ بمدة بعد همزة الاستفهام، أصله أأدرك، فقلبت الثانية ألفا تخفيفًا كراهة الجمع بين همزتين، وأنكر أبو عمرو ابن العلاء هذه القراءة، ووجهها، وقال أبو حاتم: لا يجوز الاستفهام بعد بل؛ لأن بل إيجاب والاستفهام في هذا الموضع إنكار، بمعنى لم يكن، فلا يصح وقوعهما معًا للتنافي الذي بين الإيجاب والإنكار انتهى.
وقرأ مجاهد: ﴿أم أدرك﴾ جعل ﴿أم﴾ بدل ﴿بل﴾ وأدرك على وزن أفعل، وقرأ ابن عباس أيضًا: ﴿بل ادارك﴾ بهمزة داخلة على أدَّارك، فيسقط
(٢) البحر المحيط.
فأما قراءة من قرأ بالاستفهام فقال ابن عباس: هو للتقريع بمعنى لم يُدرك علمهم على الإنكار عليهم، وقال الزمخشري: هو استفهام على وجه الإنكار لإدراك علمهم، وكذلك قراءة من قرأ ﴿أم أدرك﴾ و ﴿أم تدارك﴾؛ لأنها أم التي بمعنى بل والهمزة، وأما قراءة من قرأ على الخبر فقال ابن عباس: المعنى بل تدارك علمهم ماجهلوه في الدنيا؛ أي: علموه في الآخرة، بمعنى: تكمل علمهم في الآخرة، بأن كل ما وُعدوا به حق، وهذا حقيقة إثبات العلم لهم، لمشاهدتهم عيانًا في الآخرة ما وُعدوا به في الدنيا غيبًا، وكونه بمعنى المضي، ومعناه الاستقبال؛ لأن الإخبار به صدق، فكأنه قد وقع.
قال الزمخشري (١): فإن قلت: هذه الإضرابات الثلاث ما معناها؟
قلت: ما هي إلا تنزيل لأحوالهم، وصفهم أولًا بأنهم لا يشعرون وقت البعث، ثم بأنهم لا يعلمون أن القيامة كائنة، ثم بأنهم يتحنبطون في شك ومرية، فلا يزيلونه، والإزالة مستطاعة، وقد جعل الآخرة مبدأ عماهم ومنشأه فلذلك عدَّاه بمن دون عن؛ لأن العاقبة والجزاء هو الذي جعلهم كالبهائم لا يتدبرون ولا يبصرون، انتهى.
فائدة: قال سهل بن عبد الله التستري رحمه الله (٢): ما عصى الله أحد بمعصية أشد من الجهل، قيل: يا أبا محمد هل تعرفُ شيئًا أشد من الجهل؟ قال: نعم الجهل بالجهل، فالجهل جهلان: جهل بسيط، هو سلب العلم، وجهل
(٢) روح البيان.
سَقَامُ الْحِرْصِ لَيْسَ لَهُ شِفَاءٌ | وَدَاءُ الْجَهْل لَيْسَ لَهُ طَبِيْبُ |
وَفِي الْجَهْلِ قَبْلَ الْمَوْتِ مَوْتٌ لأهْلِهِ | وَأجْسَامُهُمْ قَبْلَ الْقُبُوْرِ قُبُوْرُ |
وإنَّ أمْرَأً لَمْ يَحْيَ بِالْعِلْمِ مَيِّتٌ | وَلَيْسَ لَهُ حِيْنَ النُّشُوْرِ نُشُوْرُ |
والعني: أنخرج نحن وآباؤنا من القبور إذا صرنا ترابًا وعظامًا رفاتًا، لا والله
٦٨ - ﴿لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا﴾ الإخراج من القبور كما كنا أول مرة ﴿نَحْنُ﴾ وتقديم الموعود على نحن؛ لأنه المقصود بالذكر، وحيث أخر - كما في سورة المؤمنون - قصد به المبعوث، ﴿وَآبَاؤُنَا﴾ معطوف على ضمير ﴿وُعِدْنَا﴾، ﴿مِنْ قَبْلُ﴾؛ أي: من قبل وعد محمد إياه، يعني إن آباءنا وُعدوا به في الأزمنة المتقدمة ثم لم يبعثوا، ولن يبعثوا.
وعبارة الخطيب هنا (١): والله لقد وُعدنا هذا؛ أي: الإخراج من القبور كما كنا أول مرة نحن وآباؤنا من قبل؛ أي: من قبل محمد، فقد مرت الدهور على هذا الوعد ولم يقع منه شيء، فذلك دليل على أنه لا حقيقة له، فكأنه قيل: فما الفائدة المرادة به، فقالوا: إن هذا إلا أساطير الأولين؛ أي: أحاديثهم وأكاذيبهم التي كتبوها ولا حقيقة لها.
فإن قيل: لِمَ قدم في هذه الآية ﴿هَذَا﴾ على ﴿نَحْنُ وَآبَاؤُنَا﴾، وفي سورة المؤمنون قدم ﴿نَحْنُ وَآبَاؤُنَا﴾ على ﴿هَذَا﴾؟
أجيب: بأن التقديم دليل على أن المقدم في كل موضع هو المعني بالذكر، وأن الكلام إنما سيق لأجله، ففي هذه الآية دليل على أن إيعاد البعث والإخراج هو الذي قُصد بالكلام، وفي آية المؤمنون دليل على أن إيعاد المبعوث بذلك الصدد، انتهت.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو (٢): ﴿أئذا﴾ ﴿أئنا﴾ بالجمع بين الاستفهامين، وقلب الثانية ياء، وفصل أبو عمرو بينهما بألف، وقرأ عاصم وحمزة بهمزتين، وقرأ نافع ﴿إذا﴾ بهمزة مكسورة، و ﴿أينا﴾ بهمزة الاستفهام، وقلب الثانية ياء وبينهما مدة، وقرأ الباقون: ﴿أئذا﴾ باستفهام ممدودًا، ﴿إننا﴾ بنونين من غير استفهام، ورجَّح أبو عبيد قراءة نافع، وردَّ على من جمع بين استفهامين.
٦٩ - ثم أمر الله سبحانه رسوله - ﷺ - أن يُرشدهم إلى وجه الصواب، مع التهديد والوعيد، فقال: ﴿قُلْ﴾ يا محمد لهؤلاء المكذبين بما جئتهم به من الأنباء من عند ربك ﴿سِيرُوا﴾ وامشوا أيها المكذبون المنكرون ﴿فِي الْأَرْضِ﴾؛ أي: في أرض
(٢) البحر المحيط.
والمعنى (١): فانظروا كيف كان آخر أمر المنكرين للبعث، المكذبين للرسل فيما دعوهم إليه من الإيمان بالله تعالى وباليوم الآخر، وهو هلاكهم بالعذاب الدنيوي؛ لأن في مشاهدة ذلك ما فيه كفاية لمن اعتبر.
٧٠ - ثم سلى رسوله - ﷺ - على ما وقع منهم من الإصرار على الكفر فقال: ﴿وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ﴾؛ أي: على ما وقع لهم فيما مضى من تكذيبهم لك، وإصرارهم على كفرهم؛ لأنهم خُلقوا لهذا، وليس النهي عن تحصيل الحزن؛ لأن الحزن ليس يدخل تحت اختيار الإنسان، فالنهي في الحقيقة إنما هو عن تعاطي ما يورث الحزن واكتسابه.
﴿وَلَا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ﴾ وحرج وغم ﴿مِمَّا يَمْكُرُونَ﴾ في المستقبل؛ أي: من مكرهم وكيدهم، وتدبيرهم الحيل في إهلاكك، ومنع الناس عن دينك، فإنه لا يحيق المكر السيء إلا بأهله، والله يعصمك من الناس، ويُظهر دينك على من خالفك في المشارق والمغارب.
وقرأ ابن كثير: ﴿ضَيْقٍ﴾ بكسر الضاد، وغيره بفتحها، يقال: ضاق الشيء ضَيقًا بالفتح، وضيقًا بالكسر، قرىء بهما، وهما لغتان، قال ابن السكيت: يقال:
٧١ - ثم أشار إلى أنهم لم يقصروا إنكارهم على الساعة، بل كان إنكارهم لغيرها من عذاب الله أشد بقوله: ﴿وَيَقُولُونَ﴾؛ أي: ويقول مشركو قريش المكذبون بما أتيتهم به من عند ربك ﴿مَتَى هَذَا الْوَعْدُ﴾؛ أي: متى يكون هذا العذاب الذي تعدنا به ﴿إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ في إخباركم بإتيانه، والجمع باعتبار شركة المؤمنين في الإخبار بذلك.
٧٢ - ثم أمر رسول الله - ﷺ - أن يجيبهم فقال: ﴿قُلْ﴾ يا محمد لهؤلاء المستعجهلين حلول العذاب ﴿عَسَى أَنْ يَكُونَ﴾؛ أي: أترجى أن يكون الشأن ﴿رَدِفَ لَكُمْ﴾؛ أي: تبعكم ولحقكم، وقرب منكم قرب الرديف من مردفه، واللام زائدة ﴿بَعْضُ﴾ العذاب ﴿الَّذِي﴾ حلوله بكم، فحل بهم عذاب يوم بدر، وسائر العذاب لهم مدخر ليوم البعث.
والمعنى: قل يا محمد لهؤلاء الكفار عسى أن يكون هذا العذاب الذي به توعدون تبعكم ولحقكم، فتكون اللام زائدة للتأكيد، أو بمعنى اقترب لكم ودنا منكم، فتكون غير زائدة، والمراد به ما حل بهم يوم بدر من النكال والوبال، وقيل هو عذاب القبر؛ أي: عسى أن يكون قد قرب ودنا وأزف بعض ذلك.
قال صاحب "الكشاف": عسى ولعل وسوف في وعد الملوك ووعيدهم تدل على صدق الأمر وجده، وما لا مجال للشك بعده، وإنما يعنون بذلك إظهار وقارهم، وأنهم لا يعجلون بالانتقام لإذلالهم بقهرهم وغلبتهم، وتوقعهم أن عدوهم لا يفوتهم، وأن الرمزة إلى الأغراض كافية من جهتهم، وهي كالتصريح من غيرهم، وعلى ذلك جرى وعد الله سبحانه ووعيده اهـ.
وقرأ الجمهور (١): ﴿ردِف﴾ بكسر الدال، وقرأ الأعرج: ﴿ردَف لكم﴾ بفتح الدال، وهي لغة، والكسر أشهر، وقرأ ابن عباس: ﴿أزف لكم﴾
والمعنى: أي وإن ربك لهو المنعم المتفضل على الناس جميعًا، بتركه المعاجلة بالعقوبة على المعصية والكفر، ولكن أكثرهم لا يعرفون حق فضله عليهم، فلا يشكره إلا القليل منهم، وفيه (١) إشارة إلى أن استعجال منكري البعث في طلب العذاب الموعود لهم من غاية جهلهم بحقائق الأمور، وإلا فقد ردفهم أنموذج من العذاب الأكبر، وهو العذاب الأدنى من البليات والمحن.
٧٤ - ثم بيَّن أنه مطلع على ما في صدورهم، فقال: ﴿وَإِنَّ رَبَّكَ﴾ يا محمد ﴿لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ﴾ وتُخفي وتستر ﴿صُدُورُهُمْ﴾ وقلوبهم من الخواطر ﴿و﴾ يعلم ﴿وَمَا يُعْلِنُونَ﴾؛ أي: ما يظهرون لغيرهم من الأقوال والأفعال، التي من جملتها ما حُكي عنهم من إستعجال العذاب، وفيه إيذان بأن لهم قبائح غير ما يظهرونه، وأنه تعالى يجازيهم.
والمعنى: أي وإن ربك يعلم الضمائر والسرائر، كما يعلم الظواهر، كما قال تعالى: ﴿سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ﴾، وقال: ﴿فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى﴾.
وقصارى ذلك: أنه يعلم ما يخفون من عداوة الرسول ومكايدهم له، وما يعلنون، وهو محصيها عليهم، ومجازيهم بذلك.
وقرأ الجمهور (٢): ﴿مَا تُكِنُّ﴾ بضم التاء من أكن الشيء إذا أخفاه، وقرأ ابن محيصن وحميد وابن السميقع: - بفتح التاء وضم الكاف - من كنَّ الشيء من باب نصر، يقال: كننته بمعنى سترته وأخفيت أثره.
(٢) البحر المحيط.
والمعنى: أي وما من أمر مكتوم، وسر خفي يغيب عن الناظرين في السماء، أو في الأرض إلا وهو مثبت في أم الكتاب، الذي أثبت ربنا فيه كل ما هو كائن من ابتداء الخلق إلى يوم القيامة، وهو بيِّن لمن نظر إليه، وقرأ ما فيه مما أثبته ربنا جلت قدرته، ونحو الآية قوله: ﴿أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (٧٠)﴾.
وقال الزمخشري (١): سميِّ الشيء الذي يغيب ويخفى غائبة، وخافية، فكانت التاء فيهما بمنزلتها في العاقبة والعافية، ونظيرهما النطيحة والذبيحة، والرمية في أنها أسماء غير صفات، ويجوز أن يكونا صفتين وتاؤهما للمبالغة، كالراوية والداعية، كما في قولهم: ويل للشاعر من راوية السوء، كأنه قال: وما من شيء شديد الغيبوبة والخفاء إلا وقد علمه الله تعالى وأحاط به، وأثبته في اللوح المبين الظاهر لمن ينظر فيه من الملائكة انتهى.
والخلاصة: أي وما من خافية فيهما إلا في لوح محفوظ ظاهر لمن يطالعه من الملائكة، ومن جملة ذلك ما يستعجلونه من العذاب، فإنه مؤقت بوقت، ومؤجل بأجل، علمه عند الله سبحانه، فكيف يستعجلونه قبل أجله المضروب له.
ثم إنه ينبغي للمؤمن أن يكون سليم الصدر، ولا يجعل في نفسه حقدًا وحسدًا وعداوة لأحد، والنصيحة في هذا للعقلاء أن لا يصيخوا إلى الواشي والنمام، والغيَّاب والعياب، فإن عرض المؤمن كدمه، ولا ينبغي إساءة الظن في حق المؤمن بأدنى سبب. وقد ورد: "الفتنة نائمة لعن الله من أيقظها".
﴿فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (٥٦)﴾.
﴿فَمَا﴾ ﴿الفاء﴾: استئنافية، ﴿ما﴾: نافية. ﴿كَانَ﴾: فعل ماض ناقص. ﴿جَوَابَ قَوْمِهِ﴾: خبر ﴿كَانَ﴾ مقدم على اسمها، ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ، ﴿أَنْ﴾: حرف نصب ومصدر، ﴿قَالُوا﴾: فعل وفاعل في محل النصب بـ ﴿أن﴾ المصدرية، والجملة الفعلية مع ﴿أَنْ﴾ المصدرية في تأويل مصدر مرفوع على كونه اسم ﴿كَانَ﴾ مؤخرًا عن خبرها، والتقدير: فما كان جواب قومه إلا قولهم: أخرجوا آل لوط، وجملة ﴿كَانَ﴾ مستأنفة استئنافًا بيانيًا. ﴿أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾، ﴿مِنْ قَرْيَتِكُمْ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿أَخْرِجُوا﴾، ﴿إِنَّهُمْ﴾: ناصب واسمه، ﴿أُنَاسٌ﴾: خبره، وجملة ﴿يَتَطَهَّرُونَ﴾: صفة لـ ﴿أُنَاسٌ﴾ وجملة ﴿إن﴾ من اسمها وخبرها في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾ على كونها معللة للإخراج.
﴿فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ (٥٧) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (٥٨)﴾.
﴿فَأَنْجَيْنَاهُ﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة على محذوف؛ تقديره: فخرج لوط من قريتهم بأهله فأنجيناه. ﴿أنجيناه﴾: فعل وفاعل ومفعول به. ﴿وَأَهْلَهُ﴾: معطوف على الهاء، أو مفعول معه، والجملة معطوفة على تلك المحذوفة. ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء، ﴿امْرَأَتَهُ﴾: منصوب على الاستثناء. ﴿قَدَّرْنَاهَا﴾: فعل وفاعل ومفعول به. ﴿مِنَ الْغَابِرِينَ﴾: متعلق بـ ﴿قَدَّرْنَاهَا﴾ والجملة الفعلية في محل النصب حال من ﴿امْرَأَتَهُ﴾؛ أي: حالة كونها مقدرًا كونها من الغابرين. ﴿وَأَمْطَرْنَا﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة، ﴿أَمْطَرْنَا﴾: فعل وفاعل، معطوف على ﴿أَنْجَيْنَاهُ﴾ ﴿عَلَيْهِمْ﴾: متعلق به. ﴿مَطَرًا﴾: مفعول به ﴿فَسَاءَ﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة، أو استئنافية، ﴿سَاءَ﴾ فعل ماض لإنشاء الذم. ﴿مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ﴾: فاعل ومضاف إليه، والجملة معطوفة على جملة ﴿أَمْطَرْنَا﴾، أو مستأنفة مسوقة لإنشاء الذم.
﴿قُلِ﴾: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة مستأنفة مسوقة لأمر رسوله - ﷺ - بحمده تعالى، وبالسلام على المصطفين الأخيار من خلقه، وكان هذا الحمد براعة استهلال؛ لما سيلقيه من البواهين والدلائل على الوحدانية والعلم والقدرة التي سيسرد ذكرها، وذلك بعد أن فرغ من قصص هذه السورة الخمس؛ ليكون نموذجًا يتأسى به كل كاتب وخطيب، ويحتذي به في كل علم مفاد. ﴿الْحَمْدُ﴾: مبتدأ، ﴿لِلَّهِ﴾: خبره، والجملة في محل النصب مقول ﴿قُلِ﴾. ﴿وَسَلَامٌ﴾: مبتدأ، وسوغ الابتداء به ما فيه من معنى الدعاء. ﴿عَلَى عِبَادِهِ﴾: خبر، والجملة معطوفة على جملة ﴿الْحَمْدُ﴾ على كونها مقولًا لـ ﴿قُلِ﴾، ﴿الَّذِينَ﴾: صفة لـ ﴿عِبَادِهِ﴾، ﴿اصْطَفَى﴾: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على ﴿اللَّهُ﴾، والجملة صلة الموصول، والعائد محذوف؛ تقديره: اصطفاهم الله سبحانه. ﴿آللَّهُ﴾ الهمزة: للاستفهام، يُطلب بها وبـ ﴿أَمَّ﴾ تعيين أحد الشيئين، ﴿آللَّهُ خَيْرٌ﴾: مبتدأ وخبر، والجملة في محل النصب مقول ﴿قُلِ﴾، ﴿أَمْ﴾: عاطفة متصلة لتوفر شروطها، وهو تقدم همزة الاستفهام عليها، ودخولها على المفرد ﴿مَا﴾: اسم موصول معطوف على الجلالة. ﴿يُشْرِكُونَ﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد محذوف؛ تقديره: أي أم الأصنام التي يشركونها به تعالى، وقيل: ﴿مَا﴾: مصدرية، والكلام حينئذٍ على حذفه مضاف من الأول؛ أي: توحيد الله خير أم شرككم. اهـ "سمين".
﴿أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ﴾.
﴿أَمَّنْ﴾: ﴿أم﴾ منقطعة بمعنى همزة التقرير، أو التوبيخ، وبل الإضرابية لعدم شرط كونها متصلة، ﴿مَّنْ﴾: اسم موصول في محل الرفع مبتدأ، ﴿خَلَقَ السَّمَاوَاتِ﴾: فعل ومفعول، وفاعل مستتر يعود على ﴿الله﴾، ﴿وَالْأَرْضَ﴾: معطوف على ﴿السَّمَاوَاتِ﴾، والجملة صلة الموصول، وخبر المبتدأ محذوف، تقديره؛ أمن خلق السماوات والأرض خير أم ما يشركون، والجملة الاسمية في محل النصب
﴿مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ﴾.
﴿مَا﴾: نافية، ﴿كَانَ﴾: فعل ماض ناقص، ﴿لَكُمْ﴾: خبرها، مقدم على اسمها، ﴿أَنْ﴾: حرف نصب ومصدر، ﴿تُنْبِتُوا﴾: فعل وفاعل منصوب بحذف النون، ﴿شَجَرَهَا﴾: مفعول به، والجملة الفعلية في تأويل مصدر مرفوع على كونه اسم ﴿كَانَ﴾ مؤخرًا، والتقدير: ما كان إنبات شجرها كائنًا لكم، وجملة ﴿كَانَ﴾ في محل النصب صفة ثانية لـ ﴿حَدَائِقَ﴾، أو حال منها لتخصصها بالصفة ﴿أَإِلَهٌ﴾: ﴿الهمزة﴾ للاستفهام الإنكاري، ﴿إلَهٌ﴾ مبتدأ، سوَّغ الابتداء بالنكرة تقدم الاستفهام عليه، ﴿مَعَ اللَّهِ﴾: ظرف ومضاف إليه متعلق بمحذوف خبر المبتدأ، تقديره: هل إله آخر كائن مع الله سبحانه، والجملة في محل النصب مقول ﴿قُلِ﴾. ﴿بَلْ﴾ حرف إضراب وانتقال من تبيكتهم بطريق الخطاب إلى بيان سوء حالهم، ﴿هُمْ قَوْمٌ﴾: مبتدأ وخبر، وجملة ﴿يَعْدِلُونَ﴾ صفة ﴿قَوْمٌ﴾، والجملة معترضة بين المقولات.
﴿أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (٦١)﴾.
﴿أَمَّنْ﴾: ﴿أم﴾: منقطعة، ﴿مَّنْ﴾ اسم موصول في محل الرفع مبتدأ، والخبر محذوف، تقديره: خير أما يشركون؟ والجملة الاسمية في محل النصب مقول ﴿قُلِ﴾، ﴿جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا﴾: فعل، وفاعل مستتر، ومفعولان، والجملة صلة لـ ﴿مَّنْ﴾ الموصولة. ﴿وَجَعَلَ﴾: فعل، وفاعل مستتر، معطوف على ﴿جَعَلَ﴾
﴿أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (٦٢)﴾.
﴿أَمَّنْ﴾ ﴿أم﴾: منقطعة، بمعنى همزة الاستفهام وبل الإضرابية، ﴿مَّنْ﴾: اسم موصول في محل الرفع مبتدأ، والخبر محذوف، تقديره: خير، والجملة في محل النصب مقول ﴿قُلِ﴾. و ﴿يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ﴾: فعل، وفاعل مستتر، ومفعول به، صلة الموصول. ﴿إِذَا﴾: ظرف لما يستقبل من الزمان، مجرد عن معنى الشرط، في محل النصب على الظرفية، متعلق بـ ﴿يُجِيبُ﴾. ﴿دَعَاهُ﴾: فعل ومفعول، وفاعل مستتر يعود على ﴿الْمُضْطَرَّ﴾، والجملة في محل الخفض بإضافة ﴿إِذَا﴾ إليها، والتقدير: أمن يجيب المضطر وقت دعوته إياه؟ ﴿وَيَكْشِفُ السُّوءَ﴾: فعل، وفاعل مستتر، ومفعول به، معطوف على ﴿يُجِيبُ﴾. ﴿وَيَجْعَلُكُمْ﴾: فعل، وفاعل مستتر، ومفعول أول. ﴿خُلَفَاءَ الْأَرْضِ﴾: مفعول ثان، والجملة معطوفة على جملة ﴿يُجِيبُ﴾. ﴿أَإِلَهٌ﴾: ﴿الهمزة﴾ للاستفهام، ﴿إِلَهٌ﴾: مبتدأ. ﴿مَعَ اللَّهِ﴾: خبره، والجملة في محل النصب مقول ﴿قُلِ﴾. ﴿قَلِيلًا﴾: صفة لمصدر محذوف، منصوب بما بعده؛ أي تذكرًا قليلًا، أو لوقت محذوف، و ﴿مَا﴾: زائدة؛ زيدت لتأكيد القلة، ﴿تَذَكَّرُونَ﴾: فعل وفاعل، والجمل في محل النصب مقول ﴿قُلِ﴾.
{أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ
﴿أَمَّنْ﴾ ﴿أم﴾: منقطعة، ﴿مَن﴾: مبتدأ خبره محذوف؛ أي: أمن يهديكم خير أما يشركون؟ والجملة في محل النصب مقول ﴿قُلِ﴾، ﴿يَهْدِيكُمْ﴾: فعل، وفاعل مستتر، ومفعول به، والجملة صلة الموصول، ﴿فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿يَهْدِيكُمْ﴾، ﴿وَالْبَحْرِ﴾: معطوف على ﴿الْبَرِّ﴾، ﴿وَمَنْ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿مَن﴾: اسم موصول في محل الرفع معطوف على ﴿مَنْ﴾ الأول، ﴿يُرْسِلُ﴾: فعل وفاعل مستتر، صلة الموصول، ﴿الرِّيَاحَ﴾: مفعول به، ﴿بُشْرًا﴾: حال من ﴿الرِّيَاحَ﴾، ﴿بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ﴾: ظرف ومضاف إليه، متعلق بـ ﴿يُرْسِلُ﴾. ﴿أَإِلَهٌ﴾: ﴿الهمزة﴾: للاستفهام الإنكاري، ﴿إله﴾: مبتدأ، ﴿مَعَ اللَّهِ﴾: خبره، والجملة في محل النصب مقول ﴿قُلِ﴾. ﴿تَعَالَى اللَّهُ﴾: فعل وفاعل، والجملة معترضة، ﴿عَمَّا﴾: متعلق بـ ﴿تَعَالَى﴾، ﴿يُشْرِكُونَ﴾: فعل وفاعل، والعائد محذوف؛ والتقدير: تعالى الله سبحانه عن الأصنام التي يشركونها به.
﴿أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (٦٤)﴾.
﴿أَمَّنْ﴾ ﴿أم﴾: منقطعة، ﴿مَّنْ﴾: اسم موصول في محل الرفع مبتدأ، والخبر محذوف، تقديره: خير، والجملة في محل النصب مقول ﴿قُلِ﴾، ﴿يَبْدَأُ الْخَلْقَ﴾: فعل وفاعل مستتر ومفعول به، والجملة صلة الموصول، ﴿ثُمَّ يُعِيدُهُ﴾: فعل وفاعل مستتر ومفعول به، معطوف على ﴿يَبْدَؤا﴾. ﴿وَمَنْ﴾: اسم موصول معطوف على ﴿مَّنْ﴾ الأول، ﴿يَرْزُقُكُمْ﴾: فعل، وفاعل مستتر ومفعول به صلة الموصول، ﴿مِنَ السَّمَاءِ﴾: متعلق بـ ﴿يَرْزُقُكُمْ﴾، ﴿وَالْأَرْضِ﴾ معطوف على ﴿السَّمَاءِ﴾، ﴿أَإِلَهٌ﴾: ﴿الهمزة﴾: للاستفهام الإنكاري، ﴿أَإِلَهٌ﴾: مبتدأ، ﴿مَعَ اللَّهِ﴾: خبره، والجملة في محل النصب مقول ﴿قُلِ﴾. ﴿قُل﴾: فعل أمر، وفاعل مستتر يعود على محمد، والجملة مستأنفة، ﴿هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ﴾: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة في محل النصب مقول ﴿قُلِ﴾، ﴿إن﴾: حرف شرط،
﴿قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (٦٥)﴾.
﴿قُلْ﴾: فعل أمر وفاعل مستتر يعود على محمد، والجملة مستأنفة، ﴿لَا﴾: نافية، ﴿يَعْلَمُ﴾ فعل مضارع، ﴿مَن﴾: اسم موصول في محل الرفع فاعل ﴿يَعْلَمُ﴾، والجملة في محل النصب مقول ﴿قُلْ﴾، ﴿فِي السَّمَاوَاتِ﴾: جار ومجرور صلة ﴿مَنْ﴾ الموصولة، ﴿وَالْأَرْضِ﴾: معطوف على ﴿السَّمَاوَاتِ﴾، ﴿الْغَيْبَ﴾: مفعول به، ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء منقطع بمعنى لكن، ﴿اللَّهُ﴾: مبتدأ، خبره محذوف، تقديره: لكن الله يعلم ذلك، والجملة الاستدراكية في محل النصب مقول ﴿قُلْ﴾، ويصج أن تكون ﴿مَنْ﴾: في محل نصب مفعولًا به، ﴿الْغَيْبَ﴾: بدل اشتمال منها، ﴿الله﴾: فاعل ﴿يَعْلَمُ﴾. والمعنى: قل لا يعلم الأشياء التي تحدث في السماوات والأرض الغائبة عنا إلا الله تعالى. ﴿وَمَا﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة، ﴿مَا﴾: نافية، ﴿يَشْعُرُونَ﴾: فعل وفاعل، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة ﴿لَا يَعْلَمُ﴾، ﴿أَيَّانَ﴾: اسم استفهام بمعنى متى، في محل النصب على الظرفية، متعلق بـ ﴿يُبْعَثُونَ﴾، وهي معلقة لـ ﴿يَشْعُرُونَ﴾ عن العمل فيما بعدها، ﴿يُبْعَثُونَ﴾: فعل ونائب فاعل، والجملة في محل النصب مقول ﴿قُلْ﴾.
﴿بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ (٦٦)﴾.
﴿بَلِ﴾: حرف إضراب انتقالي، ﴿ادَّارَكَ﴾: فعل ماض بمعنى انعدم واضمحل، ﴿عِلْمُهُمْ﴾ فاعل، والجملة مستأنفة، ﴿فِي الْآخِرَةِ﴾ متعلق بـ ﴿ادَّارَكَ﴾، أو بـ ﴿عِلْمُهُمْ﴾، وادارك وإن كان ماضيا لفظا فهو مستقبل معنى؛ لأنه كان حتما، كقوله: ﴿أَتَى أَمْرُ اللَّهِ﴾، ﴿بَلْ﴾: حرف إضراب انتقالي، ﴿هُمْ﴾: مبتدأ ﴿فِي شَكٍّ﴾: خبر، ﴿مِنْهَا﴾: صفة لـ ﴿شَكٍّ﴾، والجملة مستأنفة، ﴿بَلْ﴾:
﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ (٦٧) لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٦٨)﴾.
﴿وَقَالَ الَّذِينَ﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة، ﴿كَفَرُوا﴾ فعل وفاعل، صلة الموصول، ﴿أَإِذَا﴾ ﴿الهمزة﴾: للاستفهام الإنكاري داخلة على محذوف، تقديره: أنخرج من قبورنا إذا كنا ترابًا، ﴿إذا﴾: ظرف لما يستقبل من الزمان، مجرد عن معنى الشرط متعلق بنخرج المحذوف، لا بمخرجون؛ لأن ما بعد الهمزة وإن واللام لا يعمل فيما قبلها، ﴿كُنَّا تُرَابًا﴾: فعل ناقص واسمه وخبره، ﴿وَآبَاؤُنَا﴾: معطوف على اسم ﴿كان﴾ لوجود الفصل بـ ﴿تُرَابًا﴾، وجملة ﴿كان﴾ في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿إذا﴾، تقديره: أنخرج من قبورنا وقت كوننا ترابًا وأباؤنا؟، لا، والجملة المحذوفة في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿أَئِنَّا﴾ ﴿الهمزة﴾: للاستفهام الإنكاري، ﴿إنا﴾: ناصب واسمه، ﴿لَمُخْرَجُونَ﴾ ﴿اللام﴾: حرف ابتداء، ﴿مُخْرَجُونَ﴾: خبر إن، وهذه الجملة مع استفهامها مؤكدة للجملة التي قبلها، ﴿لَقد﴾ ﴿اللام﴾: موطئة للقسم، ﴿قَدْ﴾: حرف تحقيق. ﴿وُعِدْنَا﴾: فعل ونائب فاعل، ﴿هَذَا﴾: مفعول ثان لـ ﴿وُعِدْنَا﴾، ﴿نَحْنُ﴾: تأكيد لضمير ﴿وُعِدْنَا﴾، ﴿وَآبَاؤُنَا﴾ معطوف عليه، وجاز العطف عليه بوجود الفصل بالضمير المنفصل والمفعول الثاني، ﴿مِنْ قَبْلُ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿وُعِدْنَا﴾، ﴿إِنْ﴾: نافية، ﴿هَذَا﴾: مبتدأ، ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ، ﴿أَسَاطِيرُ﴾: خبر المبتدأ، ﴿الْأَوَّلِينَ﴾: مضاف إليه، والجملة في محل النصب مقول ﴿قُلْ﴾.
﴿قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (٦٩) وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (٧٠)﴾.
﴿قُلْ﴾: فعل أمر وفاعل مستتر يعود على محمد، والجملة مستأنفة،
﴿وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (٧١) قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (٧٢)﴾.
﴿وَيَقُولُونَ﴾: فعل وفاعل، والجله مستأنفة، ﴿مَتَى﴾: اسم استفهام في محل النصب على الظرفية الزمانية، متعلق بمحذوف خبر مقدم لـ ﴿هَذَا﴾ و ﴿هَذَا﴾: مبتدأ مؤخر، و ﴿الْوَعْدُ﴾: بدل منه، والجملة الاسمية في محل النصب مقول ﴿وَيَقُولُونَ﴾، ﴿إن﴾: حرف شرط، ﴿كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾: فعل ناقص واسمه وخبره، في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ الشرطية على كونها فعل شرط لها، وجواب الشرط محذوف دل عليه ما قبله، تقديره: إن كنتم صادقين فمتى هذا الوعد، والجملة الشرطية في محل النصب مقول ﴿وَيَقُولُونَ﴾. ﴿قُلْ﴾: فعل أمر، وفاعل مستتر يعود على النبي، والجملة مستأنفة، ﴿عَسَى﴾: فعل ماض من أفعال الرجاء، يرفع الاسم، وينصب الخبر، واسمها ضمير مستتر فيه، تقديره: هو، يعود على الشأن، ﴿أَنْ﴾: حرف مصدر، ﴿يَكُونَ﴾: فعل ناقص منصوب بـ ﴿أن﴾، واسمها ضمير مستتر يعود على الشأن، والمصدر المؤول من ﴿أَنْ يَكُونَ﴾: خبر ﴿عَسَى﴾، ﴿رَدِفَ﴾: فعل ماض بمعنى قرب، ﴿لَكُمْ﴾ متعلق به، ﴿بَعْضُ﴾:
﴿وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ (٧٣)﴾.
﴿وَإِنَّ رَبَّكَ﴾: ناصب واسمه، ﴿لَذُو فَضْلٍ﴾: خبره ومضاف إليه، و ﴿اللام﴾ حرف ابتداء، والجملة مستأنفة، ﴿عَلَى النَّاسِ﴾ متعلق بـ ﴿فَضْلٍ﴾، ﴿وَلَكِنَّ﴾ ﴿الواو﴾: حالية، ﴿لكن﴾: حرف نصب واستدراك، ﴿أَكْثَرَهُمْ﴾: اسمها، وجملة ﴿لَا يَشْكُرُونَ﴾ خبرها، وجملة الاستدراك في محل النصب حال من ﴿النَّاسِ﴾، والتقدير: وإن ربك لذو فضل على الناس حالة كون أكثرهم غير شاكرين له.
﴿وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ (٧٤) وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (٧٥)﴾.
﴿وَإِنَّ﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة، ﴿إِنَّ رَبَّكَ﴾: ناصب واسمه، ﴿لَيَعْلَمُ﴾ ﴿اللام﴾: حرف ابتداء، ﴿يَعْلَمُ﴾: فعل مضارع وفاعل مستتر، و ﴿مَا﴾: اسم موصول في محل النصب مفعول ﴿يعلم﴾، وجملة ﴿يعلم﴾ في محل الرفع خبر ﴿إِنَّ﴾، وجملة ﴿إِنَّ﴾: معطوفة على جملة ﴿إنَّ﴾ الأولى، ﴿تُكِنُّ صُدُورُهُمْ﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة ﴿مَا﴾ الموصولة، والعائد محذوف، تقديره: ما تكنه صدورهم. ﴿وَمَا﴾: معطوفة على ﴿مَا﴾ الأولى، وجملة ﴿يُعْلِنُونَ﴾ صلته، والعائد محذوف تقديره: وما يعلنونه، ﴿وَمَا﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة، ﴿مَا﴾: نافية، ﴿مِن﴾: زائدة، ﴿غَائِبَةٍ﴾: مبتدأ، وسوغ الابتداء، بالنكرة تقدم النفي عليها، ﴿فِي السَّمَاءِ﴾: صفة لـ ﴿غَائِبَةٍ﴾، ﴿وَالْأَرْضِ﴾: معطوف على ﴿السَّمَاءِ﴾، ﴿إِلَّا﴾: أداة حصر واستثناء مفرغ، ﴿فِي كِتَابٍ﴾: خبر ﴿غَائِبَةٍ﴾، ﴿مُبِينٍ﴾: صفة ﴿كِتَابٍ﴾
التصريف ومفردات اللغة
﴿يَتَطَهَّرُونَ﴾؛ أي: ينزهون أنفسهم، ويتباعدون عما نفعله، ويزعمون أنه من القاذورات.
﴿قَدَّرْنَاهَا﴾؛ أي: قضينا وحكمنا، ﴿مِنَ الْغَابِرِينَ﴾؛ أي: الباقين في العذاب، ﴿وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا﴾ هذا التأكيد يدل على شدة المطر، وأنه غير معهود.
﴿حَدَائِقَ﴾ جمع حديقة؛ أي: بستان من أحدق بالشيء إذا أحاط به، ولما كان البستان محوَّطًا بالحيطان سمي حديقة، وإلا فلا يسمى بها، وفي "المصباح": والحديقة البستان يكون عليه حائط، فعيلة بمعنى مفعولة؛ لأن الحائط أحدق بها؛ أي: أحاط، ثم توسعوا حتى أطلقوا الحديقة على البستان، وإن كان بغير حائط، والجمع الحدائق، وفي "الصحاح": الحديقة كل بستان عليه حائط، ومن أقوالهم: ورد عليَّ كتابك فتنزهت في آنق رياضه وبهجة حدائقه، وقال في "المفردات": الحدائق جمع حديقة، وهي قطعة من الأرض ذات ماء سميت بها تشبيهًا بحدقة العين في الهيثة وحصول الماء فيها، وحدقوا به وأحدقوا أحاطوا به، تشبيهًا لإدارة الحدقة. انتهى.
﴿ذَاتَ بَهْجَةٍ﴾ البهجة حسن اللون، وظهور السرور فيه؛ أي: صاحبة حسن ورونق يبتهج به النظار، وكل موضع ذي أشجار مثمرة محاط عليه فهو حديقة، وكل ما يسر منظره فهو بهجة، و ﴿ذَاتَ بَهْجَةٍ﴾ نعت لحدائق. وسوَّغ إفراده كون المنعوت جمع كثرة لما لا يعقل. قال بعضهم:
وَجَمْعُ كَثْرَةٍ لِمَا لاَ يَعْقِلُ | الأَفْصَحُ الإِفْرَاد فِيْهِ يَا فُلُ |
﴿قَرَارًا﴾ أي: مستقرًا؛ أي: دحاها وسواها بحيث يمكن الاستقرار عليها، يقال: قر في مكانه يقر قرارًا إذا ثبت ثبوتًا جامدًا، وأصله القر، وهو البرد، لأجل أن البرد يقتضي السكون، والحر يقتضي الحركة.
﴿وَجَعَلَ خِلَالَهَا﴾ جمع خلل، وهي الفرجة بين الشيئين، نحو خلل الدار، وخلل السحاب ونحوهما، أوساطها.
﴿رَوَاسِيَ﴾ أي: جبالًا ثوابت تمسكها وتمنعها من الحركة، يقال: رسا الشيء يرسو إذا ثبت، قال في "كشف الأسرار": الرواسي جمع الجمع، يقال: جبل راس وجبال راسية، ثم تُجمع الراسية على الرواسي.
﴿وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا﴾؛ أي: مانعًا معنويًا، وهو القدرة القاهرة، قال في "المفردات": الحجز المنع بين الشيئين بفاصل بينهما، وسمي الحجاز بذلك لكونه حاجزًا بين الشام والبادية، والحاجز هنا المانع الإلهي، إذ ليس هناك حاجزٌ حسي كما هو مشاهد.
﴿الْمُضْطَرَّ﴾ والمضطر هنا اسم مفعول من الاضطرار، وهو المكروب المجهود الذي لا حول له ولا قوة. والاضطرار افتعال من الضرورة، أصله المضتر قلبت تاء الافتعال طاء لوقوعها إثر مطبق، وهو الضاد، والضرورة هي الحالة المحوجة إلى اللجاء، والمضطر الذي أحوجته شدة من الشدائد إلى اللجاء والضراعة إلى الله تعالى، كالمرض والفقر والدين والغرق والحبس والجور والظلم وغيرها من نوازل الدهر، فكشفها بالشفاء والإغناء والإنجاء والإطلاق والتخليص. ذكره في "الروح".
﴿وَيَكْشِفُ السُّوءَ﴾ والسوء كل ما يسوء الإنسان؛ أي: يحزنه سواء كان في نفسه، أو في غيره، كولده أو صديقه أو أهله أو ماله. فذكره بعد الضر، من ذكر العام بعد الخاص. اهـ شيخنا.
﴿قُلْ هَاتُوا﴾ قال الحريري: تقول العرب للواحد المذكر: هات بكسر التاء، والجمع هاتوا، وللمؤنث هاتي، ولجماعة الإناث هاتين، وللاثنين من المذكر والمؤنث هاتيا دون هاتا، من غير أن يفرقوا في الأمر لهما، كما لم يفرقوا بينهما في ضمير المثنى، في مثل قولك غلامهما، وضربهما، ولا في علامة التثنية التي في قولك: الزيدان والهندان.
وكان الأصل في هات: آت المأخوذ من أتي؛ أي: أعطي، فقُلبت الهمزة هاء كما قُلبت في أرقت الماء، وفي إياك، فقيل: هرقت وهيَّاك. وفي "ملح العرب": أن رجلًا قال لأعرابي: هات. فقال: والله ما أهاتيك؛ أي: ما أعطيك.
﴿بُرْهَانَكُمْ﴾ والبرهان أوكد الأدلة، وهو الذي يقتضي الصدق أبدًا، ﴿الْغَيْبَ﴾ وهو كل ما غاب عن العباد، كالساعة وأمور الآخرة، ونحوها، ﴿أَيَّانَ يُبْعَثُونَ﴾؛ أي: متى يحشرون من القبور، فـ ﴿أَيَّانَ﴾ مركبة من أي وآن. فأي للاستفهام، وآن بمعنى الزمان، كما مر في مبحث التفسير.
﴿بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ﴾ أصله تدارك فابدلت التاء دالًا، وأسكنت للإدغام، واجتُلبت همزة الوصل للابتداء، ومعناه تلاحق وتدارك. قال في "القاموس": جهلوا علمها ولا علم عندهم من أمرها. انتهى، والمراد التتابع في الاضمحلال والفناء، ﴿فِي شَكٍّ﴾؛ أي: في حيرة عظيمة.
﴿بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ﴾؛ أي: جاهلون بحيث لا يكادون يدركون دلائلها لاختلال بصائرهم بالكلية، جمع عم، وهو أعمى القلب، قال في "المفردات":
﴿إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ﴾ والأساطير الأحاديث التي ليس لها حقيقة ولا نظام، جمع إسطار وإسطير بالكسر، وأسطور بالضم، وبالهاء في الكل، جمع سطر.
﴿عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ﴾ من الإجرام، وأصل الجرم قطع الثمر عن الشجر، والجرامة رديء الثمر المجروم، واستعير لكل اكتساب مكروه، ﴿رَدِفَ لَكُمْ﴾ وفي "القاموس": ردفه - كسمع ونصر - تبعه، ولكنه ضمن هنا معنى دنا أو قرب. ولذلك عدي باللام، أو أن اللام زائدة كما مر.
﴿مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ﴾؛ أي: ما تخفيه، من أكن إذا أخفى، والإكنان جعل الشيء في الكن، وهو ما يحفظ فيه الشيء.
﴿وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ﴾ في "السمين": في هذه التاء قولان:
أحدهما: أنها للمبالغة، كراوية وعلامة.
والثاني: أنها كالتاء الداخلة على المصادر، نحو العافية، والعاقبة، قال الزمخشري: ونظيرها الذبيحة والنطيحة والرمية في أنها أسماء غير صفات. اهـ.
قولهْ ﴿وَلَا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ﴾ بثبوت النون هنا على الأصل. وقد حذفت من هذا المضارع في القرآن في عشرين موضعًا، تسعة منها مبدوءة بالتاء، وثمانية بالياء، واثنان بالنون، وواحد بالهمزة. وهو قوله: ﴿وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا﴾ اهـ شيخنا. ﴿فِي ضَيْقٍ﴾ أي: في حرج وضيق صدر.
وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: جناس الاشتقاق في قوله: ﴿وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا﴾.
ومنها: براعة الاستهلال في قوله: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى﴾ فإنه كان هذا الحمد براعة استهلال لما سيلقيه من البراهين والدلائل على الوحدانية، والعلم والقدرة التي سيذكرها.
ومنها: أسلوب التبكيت والتهكم في قوله: ﴿آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ﴾.
ومنها: الالتفات في قوله: ﴿فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ﴾ بعد قوله: ﴿أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً﴾ فقد انتقل في نقل الأخبار من الغيبة إلى التكلم عن ذاته في قوله: ﴿فَأَنْبَتْنَا﴾ والسر فيه تأكيد اختصاص فعل الإنبات بذاته تعالى، وللإيذان بأن إنبات الحدائق المختلفة الأصناف، وما يبدو فيها من تزاويق الألوان، وتحاسين الصور ومتباين الطعوم، ومختلف الروائح المتفاوتة في طيب العرف والأريج. كل ذلك لا يقدر عليه إلا قادر خالق، وهو الله وحده، ولذلك رشح هذا الاختصاص بقوله بعد ذلك: ﴿مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا﴾ وقد أدرك أبو نواس هذه الحقيقة، فقال:
تَأَمَّلْ فِيْ رِيَاضِ الأَرْضِ وَانْظُرْ | إِلَى آثَارِ مَا صَنَعَ الْمَلِيْكُ |
عُيُوْنٌ مِنْ لُجَيْنٍ شَاخِصَاتٌ | بِأنْظَارِ هِيَ الذَّهَبُ السَّبِيْكُ |
عَلَى قُضُبِ الزَّبَرْجَدِ شَاهِدَاتٌ | بِأَنَّ اللهَ لَيْسَ لَهُ شَرِيْكُ |
ومنها: الطباق في قوله: ﴿ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ﴾.
ومنها: الاستعارة اللطيفة في قوله: ﴿بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ﴾؛ أي: أمام نزول المطر، فاستعار اليدين للأمام.
ومنها: الاستعارة في قوله: ﴿بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ﴾ استعار العمى للتعامي عن الحق وعدم التفكر والتدبر في آلاء الله سبحانه.
ومنها: الاستفهام الإنكاري في قوله: ﴿أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا﴾.
ومنها: تكرير همزة الإنكار في قوله: ﴿أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ﴾ للمبالغة في التعجب والإنكار.
ومنها: الوعيد والتهديد في قوله: ﴿قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (٦٩)﴾.
ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في ﴿الْمُجْرِمِينَ﴾ لأن أصل الإجرام قطع الثمر عن الشجر، فاستعير لكل اكتساب مكروه.
ومنها: التأكيد بـ ﴿إن﴾ و ﴿اللام﴾ في قوله: ﴿وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ﴾ وفي قوله: ﴿وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ﴾.
ومنها: الطباق في قوله: ﴿مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ﴾ لأن معنى تكن تخفي.
ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٧٦) وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (٧٧) إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (٧٨) فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (٧٩) إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (٨٠) وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (٨١) وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ (٨٢) وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ (٨٣) حَتَّى إِذَا جَاءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمَّاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٨٤) وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لَا يَنْطِقُونَ (٨٥) أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٨٦) وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ (٨٧) وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ (٨٨) مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (٨٩) وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٩٠) إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٩١) وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (٩٢) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٩٣)﴾
المناسبة
قوله تعالى: ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه لما ذكر ما يتعلق بالنشأة الأولى، وأنه خلق الإنسان من صلصال من حمأ مسنون، وما يتصل بالبعث والنشور، وأقام على ذلك الدليل يتلو الدليل بما لم يبق بعده مستزاد لمستزيد.. أردف ذلك الكلام على نبوة محمد - ﷺ -، وأقام الأدلة على صحتها، وصدق دعواه فيما يدعى، وكان من أعظم ذلك القرآن الكريم، لا جرم بين الله تعالى إعجازه من وجوه:
١ - أن ما فيه من القصص موافق لما في التوارة والإنجيل، مع أنه - ﷺ - كان
٢ - أن ما فيه من دلائل عقلية على التوحيد والبعث والنبوة والتشريع العادل المطابق لحاجة البشر في دنياهم وآخرتهم، لا يوجد له نظير في كتاب آخر، فلا بد أن يكون ذلك من عند الله تعالى.
٣ - أنه قد بلغ الغاية في الفصاحة والبلاغة، حتى لم يستطع أحد أن يتصدى لمعارضته، مع حرصهم عليها أشد الحرص، فدل ذلك على أنه خارج عن قوى البشر، وأنه من الملأ الأعلى، ومن لدن خالق القوى والقدر.
ثم ذكر بعد ذلك أنه جاء حكمًا على بني إسرائيل فيما اختلفوا فيه، فأبان لهم الحق في هذا، كاختلافهم في أمر المسيح فمن قائل هو الله، ومن قائل هو ابن الله، ومن قائل إنه ثالث ثلاثة، وقوم يقولون: إنه كاذب في دعواه النبوة، كما نسبوا مريم إلى ما هي منزهة عنه، وقالوا: إن النبي المبشَّر به في التوراة هو يوشع عليه السلام، أو هو نبي آخر يأتي آخر الدهر، إلى نحو ذلك مما اختلفوا فيه، وأنه لا يحكم إلا بالعدل، فقوله الحق وقضائه الفصل.
ثم أمر رسول - ﷺ - أن يتوكل عليه، فإنه حافظه، وناصره. وأن يُعرض عن اْولئك الذين لا يستمعون لدعوته؛ لأنهم صم بكم لا يعقلون، والذكرى لا تنفع إلا من له قلب يعي، وآذان تسمع دعوة الداعي إلى الحق فتستجيب لها.
قوله تعالى: ﴿وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر ما يدل على كمال علمه وقدرته، وأبان بعدئذٍ إمكان البعث والحشر والنشر، ثم فصل القول في إعجاز القرآن، ونبه بذلك إلى إثبات نبوة محمد - ﷺ -.. أردف ذلك بذكر مقدمات القيامة، وما يحدث من الأهوال حين قيامها، فذكر خروج دابة من الأرض تكلم الناس أنهم كانوا لا يؤمنون بآيات ربهم، وأنه حينئذ يُنفخ في الصور فيفزع من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله تعالى، وأن الجبال تجري وتمر مر السحاب.
مطيعين: يعملون الصالحات، فيثابون عليها بما هو خير منها، ويأمنون الفزع والخوف ساعتئذٍ.
وعاصين: يكبون في النار على وجوههم ويقال لهم حينئذٍ: هذا جزاء ما كنتم تعملون.
قوله تعالى: ﴿أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه لما بيَّن أحوال المبدأ والمعاد، وفصَّل أحوال القيامة.. أمر رسوله أن يقول لهؤلاء المشركين هذه المقالة، تنبيهًا لهم إلى أنه قد تم أمر الدعوة بما لا مزيد عليه، ولم يبق له بعد ذلك شأن سوى الاشتغال بعبادة الله تعالى، والاستغراق في مراقبته غير مبال بهم ضلوا أو رشدوا، صلحوا أو فسدوا، إثارة لهممهم بالطف وجه إلى تدارك أحوالهم، وتحصيل ما ينفعهم، والتدبر فيما يقرع أسماعهم من باهر الآيات التي تكفي في إرشادهم، وتشفي عللهم وأمراضهم.
التفسير وأوجه القراءة
٧٦ - ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ﴾ المنزل عليك يا محمد ﴿يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ اليهود والنصارى، ويبيِّن لهم، ﴿أَكْثَرَ﴾ الأمر ﴿الَّذِي هُمْ فِيهِ﴾ لجهالتهم ﴿يَخْتَلِفُونَ﴾ مثل اختلافهم في شأن المسيح، فمن قائل هو الله، ومن قائل هو ابن الله، ومن قائل إنه ثالث ثلاثة، وقوم يقولون: إنه كاذب في دعواه النبوة، كما نسبوا مريم إلى ما هي بريئة منه، وكاختلافهم في أمر عزير فمن قائل إنه ابن الله، ومن قائل إنه نبي، ومن قائل إنه رجل صالح، وكاختلافهم في المعاد الجسماني والروحاني، وصفات الجنة والنار، وتناكرهم في أشياء كثيرة حتى لعن بعضهم بعضًا، فلو أنصفوا وأخذوا بالقرآن، وأسلموا لسلموا من هذا الاختلاف، ووجدوا ما يرفع تفرقهم.
قلت: إنه يبين الكل لكن أكثره بالتصريح والتنصيص، وأقله بالرمز والإشارة، كما في "الكرخي".
والمعنى: أي إن هذا القرآن الذي أنزلته إليك أيها الرسول يقص على بني إسرائيل الحق في كثير مما اختلفوا فيه، وكان عليهم لو أنصفوا أن يتبعوه لكنهم لم يفعلوا، وكابروا مع وضوح الحق وظهور دليله، كما تفعلون أنتم أيها المشركون.
٧٧ - ثم وصف القرآن بقوله: ﴿وَإِنَّهُ﴾ أي: وإن هذا القرآن ﴿لَهُدًى﴾ للمؤمنين؛ أي: لهاد لهم إلى سبيل الرشاد، ﴿وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ الذين آمنوا به وصدقوه، وعملوا بما فيه مطلقًا، سواء كانوا من بني إسرائيل، أو من غيرهم، وخصوا بالذكر لأنهم المنتفعون به.
٧٨ - وبعد أن ذكر فضله وشرفه أتبعه بدليل عدله، فقال: ﴿إِنَّ رَبَّكَ﴾ يا محمد ﴿يَقْضِي بَيْنَهُمْ﴾؛ أي: يحكم بين المختلفين من بني إسرائيل يوم القيامة ﴿بِحُكْمِهِ﴾؛ أي: بعدله؛ أي: بحكمه العادل الحق الذي لا جور فيه، فينتقم من المبطل منهم، ويجازي المحسن بما يستحق من الجزاء، وقيل: يقضي بينهم في الدنيا فيُظهر ما حرَّفوه.
وقرأ الجمهور: ﴿بِحُكْمِهِ﴾ بضم الحاء وسكون الكاف، وقرأ (٢) أبو المتوكل وأبو عمران الجوني وعاصم الجحدري: ﴿بحكمه﴾ بكسر الحاء وفتح الكاف، جمع حكمة. وفي "فتح الرحمن": تجوَّز بحكمه عما يحكم به، وهو العدل، وإلا فالقضاء والحكم واحد. اهـ.
﴿وَهُوَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿الْعَزِيزُ﴾ الغالب القادر، الذي لا يرد حكمه
(٢) زاد المسير.
ولما كان (١) القضاء يقتضي تنفيذ ما يقضي به، والعلم بما يحكم به.. جاءت هاتان الصفتان عقبه، وهو العزة؛ أي: الغلبة والقدرة، والعلم،
٧٩ - وبعد أن أثبت لنفسه العلم والحكمة والجبروت والقدرة، أمر رسوله - ﷺ - أن يتوكل عليه وحده، فقال: ﴿فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ﴾ سبحانه؛ أي: فإذا كان الله موصوفًا بهذه الشؤون الجليلة فتوكل على الله؛ أي: فوِّض جميع أمورك إلى الله سبحانه، وثق به فيها، ولا تبال بمعاداتهم، فإنه كافيك كل ما أهمك، وناصرك على أعدائك حتى يبلغ الكتاب أجله.
والتوكل (٢) التبتل إلى الله، وتفويض الأمر إليه، والإعراض عن التشبث بما سواه، وأيضًا هو سكون القلب إلى الله، وطمأنينة الجوارح عند ظهور الهائل، ثم علل التوكل أولًا بقوله: ﴿إِنَّكَ﴾ أنت يا محمد ﴿عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ﴾؛ أي: على الدين الحق، الظاهر الواضح الذي لا خفاء في حقيقته، وهو دين الإِسلام، وإن خالفك فيه من خالفك ممن كتب عليه الشقاء، وصاحب الحق حقيق بالوثوق بحفظ الله ونصره.
٨٠ - ثم علله ثانيًا بقطع طمعه في إيمان قومه، وأنه لا أمل في استجابتهم لدعوته، فقال: ﴿إِنَّكَ﴾ يا محمد ﴿لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى﴾؛ أي (٣): لا تقدر على إسماع الحق لموتى القلوب، وهم الكفار؛ أي: لا تقدر أن تُفهم الحق من طبع الله سبحانه على قلوبهم، فأماتها، فإن كونهم كالموتى موجب لقطع الطمع في مشايعتهم، ومعاضدتهم رأسًا. وتخصيص الاعتماد به تعالى، وهو المعني بالتوكل عليه؛ لأنه إذا علم أن حالهم كحال الموتى في انتفاء الجدوى بالسماع صار ذلك سببًا قويًا في عدم الاعتداد بهم.
وإطلاق الإسماع على المعقول لبيان عدم سماعهم لشيء من المسموعات،
(٢) روح البيان.
(٣) المراغي.
﴿وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ﴾؛ أي: ولا تقدر أن تُسمع الصم الدعوة إلى أمر من الأمور، جمع أصم، والصمم فقدان حاسة السمع، وبه شُبه من لا يصغي إلى الحق، ولا يقبله، كما شبه هنا؛ أي: ولا تقدر أن تسمع الحق من أصمهم الله عن سماعه، وشبههم بالصم البكم ليبين أنه لا أمل في استجابتهم للدعوة؛ لأن الأصم الأبكم لا يسمع الداعي بحال.
وفي "التأويلات النجمية": ولا تُسمع الصم الذين أصمهم الله بحب الشهوات، فإن حبك الشيء يُعمي ويصم؛ أي: يعمي عن طريق الرشد، ويصم عن استماع الحق.
ثم ذكر جملة لتكميل التشبيه وتأكيده، فقال: ﴿إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ﴾؛ أي: لا تسمع الصم إذا أعرضوا عن الحق إعراضًا تامًا، وانصرفوا حال كونهم مدبرين؛ أي: معرضين عن الحق، تاركين ذلك وراء ظهورهم فتقييد (١) النفي بإذا لتكميل التشبيه، وتأكيد النفي، فإن إسماعهم في هذه الحالة أبعد؛ أي: إن الأصم لا يسمع الدعاء مع كون الداعي بمقابلة صماخه قريبًا منه، فكيف إذا كان خلفه بعيدًا منه، معرضًا عنه، موليًا مدبرًا.
وظاهر نفي سماع الموتى العموم (٢)، فلا يخص منه إلا ما ورد بدليل كما ثبت في الصحيح: إنه - ﷺ - خاطب القتلى في قليب - بئر - بدر، فقيل له: يا رسول الله إنما تكلم أجسادًا لا أرواح لها؛ فقال النبي - ﷺ -: "والذي نفس محمد بيده ما أنتم باسمع لما أقول منهم" أخرجه مسلم، وكما ثبت أن الميت يسمع قرع نعال المشيعين له إذا انصرفوا عنه.
(٢) المراغي.
قال قتادة الأصم إذا ولى مدبرًا ثم ناديته لم يسمع، كذلك الكافر لا يسمع ما يُدعى إليه من الإيمان.
وقصارى ما سلف: أنه تعالى أمر نبيَّه - ﷺ - بالتوكل عليه، والإعراض عما سواه؛ لأنه على الحق المبين، ومن سواه على الباطل، ولأنه تعالى مؤيده وناصره، ولأنه لا مطمع في مشايعة المشركين، ومعاضدتهم؛ لأنهم كالموتى، وكالصم البكم، فلا أمل في استجابتم للدعوة، ولا في قبولهم للحق.
٨١ - ثم أكد ما سلف وقطع أطماعه في إيمانهم على أتم وجه، فقال: ﴿وَمَا أَنْتَ﴾ يا محمد ﴿بِهَادِي الْعُمْيِ﴾؛ أي: بمرشد العميان وصارفهم، ﴿عَنْ ضَلَالَتِهِمْ﴾ وغوايتهم إلى الحق هداية موصلة إلى المطلوب، فإن الاهتداء لا يحصل إلا بالبصر، و ﴿عَنْ﴾ متعلقة بالهداية (٢)، باعتبار تضمنها لمعنى الصرف، والعُميُ جمع أعمى، والعمى فقدان البصر، فشُبِّه من افتقد البصيرة بمن فَقَدَ البصر في عدم الهداية.
قال في "المفردات": لم يعد تعالى افتقاد البصر في جانب افتقاد البصيرة عمى، حيث قال: ﴿فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾؛ أي: ما أنت بمرشد من أعماه الله عن الحق إرشادًا يوصله إلى المطلوب منه، وهو الإيمان، وليس في وسعك ذلك، ومثله قوله تعالى: ﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ﴾.
وقرأ الجمهور (٣): ﴿بِهَادِي الْعُمْيِ﴾ بإضافة هادي إلى العمي، وقرأ يحيى بن الحارث وأبو حيوة: ﴿بهاد﴾ منونًا ﴿العميَ﴾ بالنصب، وقرأ الأعمش وطلحة وابن وثاب وابن يعمر وحمزة: ﴿تهدي﴾ مضارع هدى ﴿العميَ﴾ بالنصب، وقرأ ابن
(٢) روح البيان.
(٣) البحر المحيط.
ثم زاد ذلك توكيدًا فقال: ﴿إِن تسُمِعُ﴾؛ أي: ما تُسمع دعوتك سماعًا نافعًا للسامع، ﴿إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا﴾ التنزيلية، ويصدق بها، وهي القرآن، لا من يكفر بها؛ أي: لا تُسمع إلا من سبق في علمنا إيمانه بآياتنا وتصديقه بكتابنا، ولما كان طريق الهداية هو إسماع الآيات التنزيلية قال: ﴿إِنْ تُسْمِعُ﴾، دون إن تهدي، مع قرب ذكر الهداية، وجملة قوله: ﴿فَهُمْ مُسْلِمُونَ﴾ تعليل لإيمانهم بها، كأنه قيل يؤمنون بآياتنا لكونهم منقادين للحق، مخلصين في إيمانهم.
والمعنى (١): أي إنما يستجيب لك من هو نافذ البصيرة، خاضع لربه متبتل إليه، مجيب لدعوة رسله.
والخلاصة: أنك لا تقدر أن تُفهم الحق وتسمعه إلا من يصدقون بآياتنا وحججنا، فإنهم هم الذين يسمعون منك ما تقول، ويتدبرونه، ويعملون به، إذ هم ينقادون للحق في كل حين.
واعلم (٢): أن الأصل هو العناية الأزلية، وما سبق في علم الله سبحانه من السعادة الأبدية، فالسعيد من سعد بقضاء الله، والشقي من شقي بقضاء الله سبحانه وتعالى، وإنما الأعمال بالخواتيم، اللهم اجعلنا بجزيل فضلك ووسيع كرمك من السعداء، ولا تجعلنا من الأشقياء.
٨٢ - ثم هدد العباد بذكر طرق من أشراط الساعة وأهوالها، فقال: ﴿وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ﴾؛ أي: وإذا وجب وثبت، وحل على الناس أجل ما قلنا في القرآن،
(٢) روح البيان.
والمعنى: إذا دنا واقترب قيام الساعة التي ذكرناها وبئناها في القرآن، قيل: اقترابها بموت العلماء، وذهاب العلم، وقيل: برفع القرآن، وقيل: إذا لم يأمروا بالمعروف ولم ينهوا عن المنكر.
﴿أَخْرَجْنَا لَهُمْ﴾؛ أي: للناس ﴿دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ﴾؛ أي: من جبل الصفا بمكة وهي فصيل ناقة صالح عليه السلام، فإنه لما عُقرت أمه هرب، فانفتح له حجر فدخل في جوفه، ثم انطبق عليه الحجر، فهو فيه حتى يخرج بإذن الله تعالى في آخر الزمان.
وعن علي - رضي الله عنه - أنها تخرج في ثلاثة أيام، والناس ينظرون إليها، فلا يخرج كل يوم إلا ثلثها، وعن الحسن: لا يتم خروجها إلا بعد ثلاثة أيام، وفي الحديث: "إن طولها ستون ذراعًا بذراع آدم عليه السلام، لا يُدركها طالب، ولا يفوتها هارب"، وقيل: اسم الدابة الجسَّاسة لتجسُّسها الأخبار للدجال؛ لأن الدجال كان موثقًا في دير في جزيرة بحر الشام، وكانت الجسَّاسة في تلك الجزيرة، كما في حديث المشارق في الباب الثامن.
وروى (٢) البغوي بإسناده عن الثعلبي عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه، ذكر رسول الله - ﷺ - الدابة، قلت: يا رسول الله من أين تخرج؟ قال: "من أعظم المساجد حرمة على الله، فبينما عيسى عليه السلام يطوف بالبيت ومعه المسلمون.. إذ تضطرب الأرض، وينشق الصفا مما يلي المسعى، وتخرج الدابة من الصفا أول ما يخرج منها رأسها، ملمعة ذات وبر وريش، لن يدركها الطالب، ولن يفوتها هارب، تسِمُ الناس مؤمنًا وكافرًا، فأما المؤمن: فتترك وجهه كأنه كوكب دري، وتكتب بين عينيه مؤمن. وأما الكافر: فتنكت بين عينيه نكتة
(٢) الخازن.
وروي عن ابن عباس أنه قرع الصفا بعصاه وهو محرم، وقال: إن الدابة لتسمع قرع عصاي هذه، وعن ابن عمر، قال: تخرج الدابة ليلة جمع، والناس يسيرون إلى منى، وعن أبي هريرة عن النبي - ﷺ -، قال: "بئس الشعب شعب أجياد"، مرتين أو ثلاثًا، قيل: ولم ذاك يا رسول الله؛ قال: "تخرج منه الدابة، تصرخ ثلاث صرخات يسمعها من بين الخافقين".
وروي عن ابن الزبير، أنه وصف الدابة، فقال: رأسها رأس ثور، وعينها عين خنزير، وأذنها أذن فيل، وقرنها قرن أيل، وصدرها صدر أسد، ولونها لون نمر، وخاصرتها خاصرة هر، وذنبها ذنب كبش، وقوائمها قوائم بعير، بين كل مفصلين اثنا عشر ذراعًا.
وعن عبد الله بن عمرو: تخرج الدابة من شعب أجياد، فتمس رأسها السحاب ورجلاها في الأرض، وروي عن علي، قال: ليست بدابة لها ذنب، ولكن لها لحية، وقال وهب: وجهها وجه رجل، وسائر خلقها كخلق الطير، فتُخبر من رآها أن أهل مكة كانوا بمحمد والقرآن لا يوقنون.
قال القرطبي (١): قد رفع الإشكال في هذه الدابة ما ذكرناه من حديث حذيفة، فليعتمد عليه.
واختلف في أي موضع تخرج؟ فقال عبد الله بن عمر: تخرج من الصفا، وروي عن قتادة: أنها تخرج في تهامة، وروي أنها تخرج من مسجد الكوفة من حيث فار تنُّور نوح - عليه السلام -، وقيل: من أرض الطائف، قال أبو قبيل: ضرب عبد الله بن عمرو أرض الطائف برجله، وقال: من هنا تخرج الدابة التي تكلم الناس، وقيل غير ذلك مما لا طائل تحته.
وما جاء (٢) في وصف الدابة، والمبالغة في طولها وعرضها وزمانها
(٢) المراغي.
وجملة قوله: ﴿تُكَلِّمُهُمْ﴾ صفة للدابة؛ أي: تكلم تلك الدابة الناس المعاصرين لخروجها، وتخبرهم ﴿أَنَّ النَّاسَ﴾ العصريين والمكلفين الموجودين الآن ﴿كَانُوا بِآيَاتِنَا﴾؛ أي: بآيات ربنا، ودلائل قدرته التي منها خروجي الدال على قرب الساعة ﴿لَا يُؤْمِنُونَ﴾؛ أي: لا يصدقون بها؛ أي: تكلم تلك الدابة من وُجد وقت خروجها على العموم الكفرة وغيرهم باللسان العربي الفصيح، أو تُكلِّم العرب بالعربي، والعجم بالعجمي، وتُخبرهم بأن الناس كانوا لا يؤمنون بآيات الله الناطقة بمجيء الساعة، وقربها كخروجي.
وقال الشوكاني: والمراد بالناس في الآية: هم الناس على العموم فيدخل في ذلك كل مكلف، وقيل: المراد بهم الكفار خاصة، وقيل: كفار مكة. والأول أولى. اهـ.
قال أبو حيان: والظاهر (١) أن قوله: ﴿تُكَلِّمُهُمْ﴾ بالتشديد، وهي قراءة الجمهور من الكلام، ويؤيده قراءة أبي ﴿تُنَبِّئُهُمْ﴾، وفي بعض القراءات ﴿تحدثهم﴾ وهي قراءة يحيى بن سلام، وقرأ عبد الله وأبو عمران الجوني ﴿تكلمهم بأن الناس﴾ قال السدي: تكلمهم ببطلان سائر الأديان سوى الإِسلام، وقيل: تخاطبهم فتقول للمؤمن هذا مؤمن، وللكافر هذا كافر، وقيل: معنى تكلمهم تجرحهم من الكلم والتشديد للتكثير، ويؤيده قراءة ابن عباس ومجاهد وابن جُبير وأبي زرعة والجحدري وأبي حيوة وابن أبي عبلة: ﴿تكلمهم﴾ بفتح التاء وسكون الكاف مخفف اللام، وقراءة من قرأ ﴿تجرحهم﴾ مكان تكلمهم، وسأل أبو الحوراء ابن عباس تُكلِّم أو تَكْلِم؟ فقال: كل ذلك تفعل، تُكلِّم المؤمن وتَكْلِمُ الكافر. انتهى، وروي أنها تسم الكافر في جبهته وتربده، وتمسح على وجه المؤمن فتبيضه.
٨٣ - ثم بيَّن سبحانه حال المكذبين حين مجيء الساعة بعد بيان بعض مباديها وأشراطها فقال: ﴿وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا﴾ والمراد (١) بهذا الحشر هو الحشر الخاص بهم للعذاب بعد الحشر العام لكل الخلق؛ أي: واذكر يا محمد قصة يوم يُجمع من كل أمة من الأمم جماعة ﴿مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ﴾ عند ذلك الحشر ﴿يُوزَعُونَ﴾؛ أي: يُرد أولهم على آخرهم، أو يُدفعون والفوج الجماعة من الناس، وقوله: ﴿مِمَّنْ يُكَذِّبُ﴾ بيان للفوج؛ أي: فوجًا مكذبين بآياتنا؛ لأن كل أمة، وكل عمر لم يخل من كفرة بالله من لدن تفريق بني آدم؛ لأن كل أمة منقسمة إلى مصدِّق ومكذب.
والمراد بالفوج هنا (٢): رؤساء الأمم المتبوعون في الكفر والتكذيب، فهم يحبسون حتى يلتحق بهم أسافلهم التابعون، كما قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: أبو جهل والوليد بن المغيرة وشيبة بن ربيعة يساقون بين يدي أهل مكة، وهكذا
(٢) روح البيان.
والمعنى: واذكر يا محمد لقومك - تحذيرًا لهم وترهيبًا - هول يوم جمعنا على وجه الإكراه من كل أمة من أمم الأنبياء جماعة كثيرة، مكذبين بكتابنا فهم يوقف أولهم حتى يجتمعوا ويتلاحقوا في موقف الحساب والمناقشة.
٨٤ - ﴿حَتَّى إِذَا جَاءُوا﴾ إلى موقف السؤال والجواب والمناقشة والحساب. ﴿قَالَ﴾ الله سبحانه موبخًا لهم على التكذيب، والالتفات فيه لتربية المهابة كما سيأتي في مبحث البلاغة، ﴿أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي﴾ الناطقة بلقاء يومكم هذا التي أنزلتُها على رسلي، وأمرتُهم ببلاغها إليكم.
﴿وَ﴾ الحال أنكم ﴿لَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا﴾؛ أي: لم تعرفوا ببطلانها فتُعرضوا عنها، والواو للحال، ونصب ﴿عِلْمًا﴾ على التمييز، كما سيأتي؛ أي: أكذبتم بها بادي الرأي، جاهلين لها غير ناظرين فيها نظرًا يؤدي إلى العلم بكنهها، ولا مستدلين على صحتها وبطلانها، تمردًا وعنادًا وجراءة على الله وعلى رسله.
وفي هذا (١): مزيد توبيخ وتقريع لهم؛ لأن من كذب بشيء ولم يحط به علمًا فقد كذب في تكذيبه، ونادى على نفسه بالجهل، وعدم الإنصاف، وسوء اللهم، وقصور الإدراك، ومن هذا القبيل من تصدَّى لذم علم من العلوم الشرعية، أو لذم علم هو مقدمة من مقدماتها، ووسيلة يتوسل بها إليها، ويفيد زيادة بصيرة في معرفتها، وتعقل معانيها، كعلوم اللغة العربية بأسرها، وهي اثنا عشر علمًا، وعلم أصول الفقه، فإنه يُتوسل به إلى استنباط الأحكام الشرعية عن أدلتها
﴿أم﴾ في قوله: ﴿أَمَّاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ هي المنقطعة، وقرأ أبو حيوة ﴿أماذا﴾ بتخفيف الميم، أدخل همزة الاستفهام على اسم الاستفهام على سبيل التوكيد والمعنى: بل أي شيء كنتم تعملون حتى شغلكم ذلك عن النظر فيها، والتفكر من معانيها، وهذا الاستفهام على طريق التبكيت لهم. يعني (١): لم يكن لهم عمل غير الجهل والتكذيب، والكفر والمعاصي، كأنهم لم يُخلقوا إلا لها، مع أنهم ما خُلقوا إلا للعلم والتصديق والإيمان والطاعة، يخاطبون بذلك تبكيتًا، فلا يقدرون أن يقولوا: فعلنا غير ذلك.
٨٥ - ثم يكبون في النار، وذلك قوله تعالى: ﴿وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ﴾؛ أي: حل بهم العذاب الذي هو مدلول القول الناطق بحلوله ونزوله ﴿بِمَا ظَلَمُوا﴾؛ أي: بسبب ظلمهم الذي هو التكذيب بآيات الله ﴿فَهُمْ لَا يَنْطِقُونَ﴾ باعتذار لشغلهم بالعذاب، أو لختم أفواههم.
والمعنى (٢): أي وحل بأولئك المكذبين بآيات الله السخط والغضب والعذاب بسبب تكذيبهم بها، فهم لا ينطقون بحجة، ولا معذرة يدفعون بها عن أنفسهم عظيم ما حل بهم من العذاب الأليم.
ونحو الآية قوله: ﴿هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ (٣٥) وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (٣٦)﴾
٨٦ - وبعد أن خوَّفهم من أهوال يوم القيامة ذكر الدليل على التوحيد والحشر والنبوة، فقال:
(٢) المراغي.
﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ﴾؛ أي: إن في جعل الليل والنهار، كما ذكر ﴿لَآيَاتٍ﴾؛ أي: لدلالات ظاهوة على التوحيد والبعث والنبوة ﴿لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾؛ أي: يصدقون بها، فيعتبرون. خصوا بالذكر؛ لأنهم المنتفعون بها دون الكافرين.
وحاصل معنى الآية (٢): أي ألم ير هؤلاء المكذبون بآياتنا تصريفنا الليل والنهار، ومخالفتنا بينهما بجعل ذاك سكنًا لم يسكنون فيه، ويهدؤون راحة لأبدانهم من تعب التصرف، والتقلب نهارًا، وجعل هذا مضيئًا يبصرون في الأشياء، ويعاينونها، فيتقلبون فيه لمعايشهم، فيتفكرون في ذلك، ويتدبرون، ويعلمون أن مصرِّف ذلك كذلك هو الإله الذي لا يُعجزه شيء، ولا يتعذر عليه إماتة الأحياء، وإحياء الأموات بعد الممات.
وفي ذلك أيضًا دليل على النبوة؛ لأنه كما يُقلِّب الليل والنار لمنافع المكلفين، ففي بعثة الأنبياء منافع عظيمة للناس في دنياهم ودينهم. فما المانع إذًا من بعثهم إليهم، بل الحاجة إلى ذلك أمس.
﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾؛ أي: إن فيما ذُكر لدلالة على قدرته على
(٢) المراغي.
قال حكيم: الدهر مقسوم بين حياة ووفاة، فالحياة اليقظة، والوفاة النوم، وقد أفلح من أدخل في حياته من وفاته. اهـ، فعلى العاقل أن يجدَّ في طريق الوصول، ليكون من أهل الوصال والحصول، ويتخلَّص من العذاب مطلقًا، فإن غاية العمر الموت، ونهاية الموت الحشر، ونتيجة الحشر إما السوق إلى الجنة، وإما السوق إلى النار، والمسوق إلى النار إما مؤمن عاص فعذابه التأديب والتطهير، وإما كافر مكذب فعذابه عذاب القطعية والتحقير.
والمؤمنون يتفاوتون في الدنيا في عقوباتهم على مقادير جرائمهم، فمنهم من يعذب ويُطلق، ومنهم من يعذب ويُحبس مدة على قدر ذنبه، ومنهم من يُحَدَّ، والحدود مختلفة، فمنهم من يقتل، وليس بعجب أن لا يسوى بين أهل النار إلا من لا خير فيه، وهم الكفار الذين ليسوا بموضع الرحمة؛ لأن الله تعالى رحمهم في الدنيا برسال الرسل وإنزال الكتب، فاختاروا الغضب بسلوك طريق التكذيب والعناد، فهم على السوية في عذاب الفرقة، إذ ليس لهم وصلة أصلًا، لا في الدنيا، ولا في العقبى؛ لأن من كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى، نسأل الله تعالى أن يفتح عيون بصائرنا عن سنات الغفلات، ويجعلنا من المتبعين لدينه في جميع الحالات، إنه قاضي الحاجات، ومانح المرادات، آمين آمين، يا مجيب الدعوات.
٨٧ - وبعد أن ذكر الحشر الخاص، وأقام الدليل عليه، ذكر الحشر العام فقال: ﴿وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّور﴾ هو معطوف على ﴿وَيَوْمَ نَحْشُرُ﴾ منصوب بناصبه المتقدم
أي: واذكر يا محمد لقومك أهوال يوم يُنفخ في الصور نفخة ثانية ينفخها إسرافيل لرد الأرواح إلى أجسادها، وهو يوم القيامة ﴿فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ﴾؛ أي: فيفزع منها، ويخاف جميع من في السموات والأرض لشدة ما سمعوا، والتعبير بالماضي في الفزع للدلالة على تحقق وقوعه؛ لأن المستقبل من فعل الله تعالى متيفن الوقوع كتيقن الماضي من غيره؛ لأن إحياءه تعالى حق.
والمراد بالفزع هاهنا ما يعتري الكل - مؤمنًا وكافرًا - من الرعب والتهيُّب الضروريَّين الجبليَّين عند البعث والنشور، بمشاهدة الأمور الهائلة الخارقة للعادات في الأنفس والآفاق، وقيل: المراد بالفزع هنا الإسراع والإجابة إلى النداء، من قولهم: فزعتُ إليك في كذا، أسرعتُ إلى إجابتك، والأول أولى بمعنى الآية.
والنفخات في الصور ثلاث (٢): الأولى نفخة الفزع، والثانية نفخة الصعق،
(٢) الشوكاني.
﴿إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ﴾ سبحانه أن لا يفزع عند تلك النفخة بأن يثبت قلبه، وهم الأنبياء والمرسلون، والشهداء والصالحون، الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، والملائكة الأربعة، وحملة العرش، والخزنة، والحور ونحوهم.
والمعنى (١): أي واذكر أيها الرسول لهم هول يوم النفخ في الصور، إذ يفزع من في السموات ومن في الأرض، لما يعتريهم من الرعب حين البعث والنشور، بمشاهدة الأهوال الخارقة للعادة في الأنفس والآفاق، إلا من ثبَّت الله قلبه.
﴿وَكُلٌّ﴾؛ أي: جميع الخلائق ﴿أَتَوْهُ﴾ سبحانه وتعالى وحضروه ﴿دَاخِرِينَ﴾؛ أي: ذليلين صاغرين؛ أي: وكل هؤلاء الفزعين المبعوثين حين النفخة يحضرون الموقف بين يدي رب العزة للسؤال والجواب، والمناقشة والحساب أذلاء صاغرين، لا يتخلف أحد عن أمره، كما قال: ﴿يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ﴾ وقال: ﴿ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ﴾، وقال: ﴿يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (٤٣)﴾.
وقرأ الجمهور (٢) ﴿أَتَوْهُ﴾ بضم التاء على صيغة اسم الفاعل مضافًا إلى الضمير الراجع إلى الله تعالى، وقرأ عبد الله وحمزة وحفص عن عاصم والأعمش ويحيى بن وثاب: ﴿أتوه﴾ فعلًا ماضيًا، وفي القراءتين رُوعي معنى كل من الجمع، وقرأ قتادة: ﴿وَكُلٌّ أَتَوْهُ﴾ فعلًا ماضيًا مسندًا لضمير كل على لفظها، وجمع داخرين على معناها، وقرأ الجمهور: ﴿دَاخِرِينَ﴾ بالألف بعد الدال، وقرأ الحسن والأعمش: ﴿دَخِرِينَ﴾ بغير ألف.
٨٨ - وقوله: ﴿وَتَرَى الجبَالَ﴾ معطوف على ﴿يُنْفَخُ﴾، داخل معه في حكم التذكير،
(٢) البحر المحيط.
وهذا أيضًا (١): مما يقع بعد النفخة الثانية عند حشر الخلق، فإن الله تعالى يبدل الأرض غير الأرض، ويغئر هيئتها، ويسير الجبال عن مقارِّها على ما ذُكر من الهيئة الهائلة، ليشاهدها أهل المحشر، وهي وإن اندكَّت وتصدعت عند النفخة الأولى فتسييرها وتسوية الأرض إنما يكونان بعد النفخة الثانية، كما نطق به قوله تعالى: ﴿وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ﴾ فإن صيغة الماضي في المعطوف الذي هو ﴿حشرناهم﴾ مع كون المعطوف عليه مستقبلًا وهو ﴿نُسَيِّرُ﴾ للدلالة على تقدم الحشر على التسيير والرؤية، كأنه قيل: وحشرناهم قبل ذلك، ثم علل إمكان ذلك وسرعة حصوله بقوله: ﴿صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ﴾؛ أي: ذلك الصنع العظيم صنع الله الذي أحكم كل شيء، وأودع فيه من الحكمة ما أودع، وانتصاب ﴿صُنْعَ اللَّهِ﴾ على المصدرية عند الخليل وسيبويه وغيرهما بفعل محذوف وجوبًا، تقديره: صنع الله الذي أتقن كل شيء؛ أي: أحسن خلق كل شيء، وأتى به على وجه الحكمة، ذلك النفخ في الصور، وما تفرَّع منه من الأمور الهائلة صنعًا، أي: صنع ذلك النفخ وما تفرع عليه صنعًا، وفعله فعلًا بديعًا، وهو مصدر مؤكد لمضمون ما قبله؛ أي: فإن نفخ الصور المؤدي إلى الفزع العام، وحضور الكل الموقف، وما فعل بالجبال إنما هو من صنع الله لا يحتمل غيره.
ثم علل ما تقدم من النفخ في الصور والقيام للحساب، ومجازاة العباد على أعمالهم بقوله: ﴿إِنَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ﴾؛ أي: عالم بظواهر أفعالكم وبواطنها أيها المكلفون، ولذلك فعل ما فعل من النفخ، والبعث ليجازيكم على أعمالكم، وهو الخبير المطلع على الظواهر والضمائر.
وقرأ الجمهور (٢): بالتاء الفوقية على الخطاب، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وهشام بالتحتية على الغيبة، والمعنى: أي إنه تعالى ذو علم وخبرة بما يفعل عباده من خير وشر، وطاعة ومعصية، وهو مجازيهم على ذلك أتمَّ الجزاء.
٨٩ - ثم بيَّن حال السعداء والأشقياء يومئذٍ، فقال ﴿مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ﴾ أي: بكلمة الشهادة (٣) والإخلاص فإنها الحبسنة المطلقة، وأحسن الحسنات، ﴿فَلَهُ خَيْرٌ﴾؛ أي: نفع وثواب حاصل ﴿مِنْهَا﴾؛ أي: من جهتها، ولأجلها، وهو الجنة، قاسم التفضيل لا يدل على المفاضلة إذ لا يوجد شيء خير من (إلا إله إلا الله)، ويجوز أن يكون اسم التفضيل على بابه إذا أريد بالحسنة غير الكلمة المشرفة من الطاعات، أيَّ طاعة كانت، والمعنى: من جاء يوم القيامة بالحسنة أيًا كانت.. فله من الجزاء والثواب ما هو خير وأفضل وأكثر منها، إذ ثبت له الشريف بالخسيس، والباقي بالفاني، وعشرة بل سبع مئة بواحدة، وقيل: المراد بالحسنة
(٢) الشوكاني.
(٣) روح البيان.
قيل: وهذه الجملة بيان لقوله: ﴿إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ﴾، وقيل: بيان لقوله: ﴿وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ﴾.
﴿وَهُمْ﴾؛ أي: الذين جاؤوا بالحسنات ﴿مِنْ فَزَعٍ﴾؛ أي: عظيم هائل لا يقادر قدره، وهو الفزع الحاصل من مشاهدة العذاب بعد تمام المحاسبة، وظهور الحسنات والسيئات، وهو الذي في قوله تعالى: ﴿لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ﴾، وعن الحسن: هو الفزع حين يؤمر بالعبد إلى النار، وقال ابن جريح: الفزع حين يذبح الموت، وينادى يا أهل الجنة خلود بلا موت، ويا أهل النار خلود بلا موت. وقرأ عاصم والكسائي وحمزة (٢): ﴿من فزعٍ﴾ بالتنوين.
و ﴿يَوْمَئِذٍ﴾؛ أي: يوم إذ ينفخ في الصور، منصوب على الظرفية، معمول لقوله: ﴿آمِنُونَ﴾ أو لـ ﴿فَزَعٍ﴾، ويدل على أنه معمول له قراءة من أضافه إليه، أو في موضع الصفة لـ ﴿فَزَعٍ﴾؛ أي: كائنٍ في ذلك الوقت، والمعنى عليه؛ أي: والذين جاؤوا بالحسنات آمنون من فزع كائن يوم إذ وقعت هذه الأهوال العظيمة اهـ "مراح".
وقرأ باقي السبعة بإضافة ﴿فَزَعٍ﴾ إلى ﴿يَوْمَئِذٍ﴾ فكسرَ الميمَ أبو عمرو وابن عامر وابن كثير وإسماعيل بن جعفر عن نافع، وفتحها بناء لإضافته إلى غير متمكن نافع في غير رواية إسماعيل، والتنوين في ﴿يَوْمَئِذٍ﴾ تنوين عوض عن الجملة المحذوفة، ويكون التقدير يوم إذ جاء بالحسنة، أو يوم إذ ترى الجبال، أو يوم إذ يُنفخ في الصور.
﴿آمِنُونَ﴾ لا يعتريهم ذلك الفزع الهائل، ولا يلحقهم ضرره أصلًا، وأما الفزع الذي يعتري كل من في السموات ومن في الأرض غير من استثناه الله تعالى فانما هو التهيُّبُ والرعبُ الحاصل في ابتداء النفخة، منن معاينة فنون الدواهي
(٢) البحر المحيط.
وعبارة "الخازن" هنا: فإن قلت (١): كيف نفى الفزع هنا، وقد قال قبله: ﴿فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ﴾؟
قلت: إن الفزع الأول هو ما لا يخلو عنه أحد عند الإحساس بشدة تقع، وهول يفجأ من رعب وهيبة، وإن كان المحسن يأمن وصول ذلك الضرر إليه، فأما الفزع الثاني فهو الخوف من العذاب فهم آمنون منه، وأما ما يلحق الإنسان من الرعب عند مشاهدة الأهوال فلا ينفك عنه أحد، اهـ.
٩٠ - ﴿وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَة﴾؛ أي: بالشرك الذي هو أسوأ المساوىء ﴿فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ﴾؛ أي: ألقوا وطرحوا فيها على وجوههم منكوسين، ويجوز أن يراد بالوجوه أنفسهم، كما أريدت بالأيدي في قوله: ﴿وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾ فإن الوجه والرأس والرقبة واليد يعبر بها عن جميع البدن، وخصت الوجوه بالذكر لأنها أشرف أعضاء الإنسان، لاجتماع الحواس فيها، وقال جماعة (٢) من الصحابة ومن بعدهم: حتى قيل إنه مجمع عليه بين أهل التأويل أن المراد بالسيئة هنا الشرك، ووجه التخصيص قوله: ﴿فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ﴾ فهذا الجزاء لا يكون إلا بمثل سيئة الشرك.
وجملة قوله: ﴿هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ مقول لقول محذوف، والقاثل خزنة جهنم، والاستفهام فيه للإنكار، فهو بمعنى النفي؛ أي: حالة كونهم مقولًا لهم ما تجزون إلا جزاء ما كنتم تعملون في الدنيا من الشرك؛ أي: تقول لهم خزنة جهنم ما تجزون الآن إلا جزاء أعمالكم من الشرك والمعاصي في الدنيا.
وفي الحديث (٣): "إذا كان يوم القيامة جاء الإيمان والشرك يجثوان بين
(٢) الشوكاني.
(٣) روح البيان.
ويقال: لا إله إلا الله مفتاح الجنة، ولا بد للمفتاح من أسنان حتى يفتح الباب، ومن أسنانه لسان ذاكر طاهر من الكذب والغيبة، وقلب خاشع طاهر من الحسد والخيانة، وبطن طاهر من الحرام والشبهة، وجوارح مشغولة بالخدمة طاهرة من المعاصي.
٩١ - ولما فرغ سبحانه من بيان أحوال المبدأ والمعاد أمر رسوله - ﷺ - أن يقول لهم: ﴿إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ﴾؛ أي: قل يا محمد لهؤلاء المشركين: إنما أمرت أن أخص الله سبحانه بالعبادة وحده لا شريك له، تنبيهًا لهم إلى أنه قد تم أمر الدعوة بما لا مزيد عليه، ولم يبق له بعد ذلك شأن سوى الاشتغال بعبادة الله، والاستغراق في مراقبته، غير مبال بهم ضلوا أو رشدوا، وأشار إليها إشارة تعظيم لأنها موطن نبيِّه ومهبط وحيه.
والمراد بالبلدة مكة المشرفة، وإنما خصها من بين سائر البلاد لكون بيت الله الحرام فيها، ولكونها أحب البلاد إلى رسوله - ﷺ - قال في "التكملة": خص البلدة بالذكر، وهي مكة، وإن كان رب البلاد كلها ليعرف المشركون نعمته عليهم، وأن الذي ينبغي لهم أن يعبدوه، هو الذي حرَّم بلدتهم. انتهى.
وعبارة "الخازن": وإنما ذكر أنه هو الذي حرمها؛ لأن العرب كانوا معترفين بفضيلة مكة، وأن تحريمها من الله، لا من الأصنام. انتهى.
والموصول في قوله: ﴿الَّذِي حَرَّمَهَا﴾؛ أي: حرم هذه البلدة وشرفها وعظمها بتحريمه على خلقه أن يسفكوا فيها دمًا، ويظلموا فيها أحدًا، صفة للرب، هكذا قرأ الجمهور، وقرأ ابن عباس، وابن مسعود التي حرمها على أن الموصول صفة للبلدة، والتعرض لتحريمه تعالى إياها إجلال لها بعد إجلال، ومعنى تحريمها جعلها حرمًا آمنًا لا يسفك فيها دم، ولا يظلم فيها أحد، ولا يصطاد صيدها، ولا يختلى خلاها.
ومعنى الآية (١): قل لقومك يا محمد: أمرت من قبل الله أن أخصه وحده بالعبادة، ولا أتخذ له شريكًا، فاعبدوه أنتم، ففيه عزكم وشرفكم، ولا تتخذوا له شريكًا، وقد ثبتت عليكم نعمتة بتحريم بلدتكم، قال بعضهم: العبادة لباس الأنبياء والأولياء.
ولما أخبر سبحانه وتعالى أنه مالك هذه البلدة. أخبر أنه يملك كل شيء فقال: ﴿وَلَهُ﴾؛ أي: ولرب هذه البلدة خاصة ﴿كُلُّ شَيْءٍ﴾ خلقًا وملكًا وتصرفًا، دون أن يشركه في ذلك أحد؛ أي: جميع الأشياء داخلة في ربوبيته، فشرفت البلدة بذكر اندراجها تحت ربوبيته على جهة الخصوص، وعلى جهة العموم، وفيه تنبيه على أن إفراد مكة بالإضافة للتفخيم مع عموم الربوبية لجميع الموجودات.
﴿وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾؛ أي (٢): وأمرني ربي أن أسلم وجهي له، فأكون من الموحدين المخلصين له، المنقادين لأمره، المستسلمين بطاعته بامتثال أمره، واجتناب نهيه، والمراد بقوله: ﴿أَنْ أَكُونَ﴾ أن أثبُتَ على ما أنا عليه.
٩٢ - ﴿وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ﴾؛ أي: وأمرت أن أداوم على تلاوته آناء الليل وأطراف النهار، وأواظب على ذلك، لتنكشف لي أسراره المخزونة في تضاعيفه، واسطلع أدلة الكون المتفرقة في آيه، فأعرف حقائق الحياة، وسر الوجود، ويفاض عليَّ من فيوضاته الإلهية، وأسراره القدسية، ما شاء الله أن يُفيض.
وقد روي أنه - ﷺ - قام ليلة يصلي فقرأ قوله تعالى: ﴿إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ﴾ فما زال يكررها، ويظهر له من أسرارها ما يظهر، ويتجلى له من مقاصدها ما
(٢) المراغي.
قال أبو حيان (١): قوله: ﴿وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ﴾ إما من التلاوة؛ أي: وأن أتلو عليكم القرآن، وهذا هو الظاهر، إذ بعده التقسيم المناسب للتلاوة، وإما من التلو، وهو الاتباع؛ أي: وأن أتبع القرآن، كقوله: ﴿وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ﴾.
وقرأ الجمهور: ﴿وَأَنْ أَتْلُوَ﴾ بإثبات الواو بعد اللام، على أنه من التلاوة وهي القراءة، أو من التلو، وهو الاتباع، وقرأ عبد الله: ﴿وأن أتل﴾ بغير واو، أمرًا له - ﷺ - من تلا، فجاز أن تكون ﴿أن﴾ مصدرية وُصلت بالأمر، وجاز أن تكون مفسرة على إضمار وأمرت أن أتل؛ أي: تل، كذا وجهه الفراء، وقال النحاس: ولا نعرف أحدًا قرأ هذه القراءة، وهي مخالفة لجميع المصاحف، وقرأ أبي: ﴿وأتل هذا القرآن﴾ جعله أمرًا دون ﴿أن﴾.
فعليك (٢): أيها المؤمن بتلاوة القرآن كل يوم، ولا تهجره كما يفعل ذلك طلبة العلم، وبعض المشيخة، زاعمين بأنهم قد اشتغلوا بما هو أهم من ذلك، وهو كذب، فإن القرآن مادة كل علم في الدنيا والدين، ويُستحب لقارىء القرآن في المصحف أن يجهر بقراءته، ويضع يده على الآية يتبعها، فيأخذ اللسان حظه من الرفع، ويأخذ البصر حظه من النظر، واليد حظها من المس.
واعلم: أن خُلَقَ النبي - ﷺ - كان القرآن، فانظر في تلاوتك إلى كل صفة مدح الله بها عباده، فافعلها أو اعزم على فعلها، وكل صفة ذم الله بها عباده على فعلها فاتركها، أو اعزم على تركها، فإن الله تعالى ما ذكر لك ذلك، وأنزله في كتابه إلا لتعمل به، فإذا حفظت القرآن عن تضييع العمل به، كما حفظته تلاوة فأنت الرجل الكامل.
وقيل لهم يا محمد أيضًا: ﴿فَمَنِ اهْتَدَى﴾ باتباعه إياي في العبادة والإِسلام وتلاوة القرآن ﴿فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ﴾؛ أي: فإنما منافع اهتدائه عائدة إليه لا إلى
(٢) روح البيان.
٩٣ - ﴿وَقُلِ﴾ يا محمد ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾ على ما أعطاني من نعمة العلم والنبوة، وعلى ما وفقني من القيام بأداء الرسالة، وقيل لهم يا محمد أيضًا: ﴿سَيُرِيكُمْ﴾ الله سبحانه أيها المشركون عند الموت، أو يوم القيامة ﴿آيَاتِهِ﴾؛ أي: دلائل قدرته ووحدانيته في أنفسكم، وفي غيركم، وهو من جملة ما أمر به النبي - ﷺ - أن يقوله، ﴿فَتَعْرِفُونَهَا﴾؛ أي: فتعرفون أنها آياته ودلائل قدرته ووحدانيته، وهذه المعرفة لا تنفع الكفار؛ لأنهم عرفوها حين لا يقبل منهم الإيمان، وذلك عند حضور الموت. أو المعنى (٢): ﴿سَيُرِيكُمْ﴾ الله تعالى في الدنيا ﴿آيَاتِهِ﴾ الباهرة كخروج الدابة، وسائر أشراط الساعة ﴿فَتَعْرِفُونَهَا﴾؛ أي: فتعرفون أنها آيات الله تعالى حين لا تنفعكم المعرفة، وقيل (٣): هو في يوم بدر، وهي ما أراهم من القتل والسبي، وضرب الملائكة وجوههم وأدبارهم، وقيل آياته في السموات والأرض وفي أنفسكم.
ثم ختم السورة بقول ﴿وَمَا رَبُّكَ﴾ يا محمد ﴿بِغَافِلٍ﴾؛ أي: بساه ﴿عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾؛ أي: عما تعمل أنت من الحسنات، وما تعملون أنتم أيها الكفرة من السيئات، فيجازي كلًّا منكم بعمله، وقُرىء: ﴿عما يعملون﴾ بالياء؛ أي: وما ربك بغافل عن أعمالهم، فسيعذبهم، فلا يحسبوا أن تأخير عذابهم لغفلته تعالى
(٢) روح البيان.
(٣) الخازن.
وقرأ الجمهور (٢): ﴿عما يعملون﴾ بياء الغيبة التفاتًا من ضمير الخطاب إلى ضمير الغيبة، وقرأ نافع وابن عامر، وحفص عن عاصم: ﴿عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ بتاء الخطاب، لقوله: ﴿سَيُرِيكُمْ﴾، ولما قسمهم أولًا إلى مهتد وضال أخبر تعالى أنه محيط بأعمالهم غير غافل عنها.
وعبارة البروسوي هنا قوله: ﴿وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ كلام (٣) مسوق من جهته تعالى، مقرِّر لما قبله من الوعد والوعيد، كما ينبىء عنه إضافة الرب إلى ضمير النبي عليه السلام، وتخصيص الخطاب أولًا به وتعميه ثانيًا للكفرة تغليبًا؛ أي: وما ربك يا محمد بغافل عما تعمل أنت من الحسنات وما تعملون أنتم أيها الكفرة من السيئات، فيجازي كلًّا منكم بعمله، وكيف يغفل عن أعمالكم، وقد خلقكم وما تعملون، كما خلق الشجرة وخلق فيها ثمرتها، فلا يخفى عليه حال أهل السعادة والشقاوة، وإنما يُمهل لحكمة لا لغفلة، وإنما الغفلة لمن لا ينتبه لهذا فيعصي الله بالشرك وسيئات الأعمال، وأعظم الأمراض القلبية نسيان الله سبحانه، ولا ريب أن علاج أمر إنما هو بضده، وهو ذكر الله تعالى، نسأل الله تعالى أن يجعلنا من المجدِّين في الدين إلى أن يأتينا اليقين.
عبارة المراغي هنا: ثم أمره سبحانه بترغيب قومه وترهيبهم، فقال (٤): ﴿وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّه﴾؛ أي: وقيل الحمد لله على ما أفاض على من نعمائه، التي من أجلِّها نعمة النبوة، المستتبعة لضروب من النعم الدينية والدنيوية، ووفقني لتحمل أعبائها، وتبليغ أحكامها بالآيات البينة والبراهين الساطعة، ووفقني لاتباع الحق الذي أنتم عنه عمون.
﴿سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا﴾؛ أي: سيريكم ربكم آيات عذابه وسخطه فتعرفون
(٢) البحر المحيط.
(٣) روح البيان.
(٤) المراغي.
ثم ذيَّل هذا بتقرير ما قبله من الوعد والوعيد بقوله: ﴿وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ أي: وما ربك بغافل عما يعمله هؤلاء المشركون، ولكنه مؤخِّر عذابهم إلى أجل هم بالغوه، لا يستأخرون عنه ساعة ولا يستقدمون، فلا يحزنك تكذيبهم، فإني لهم بالمرصاد، وأيقن باني ناصرك وخاذل عدوك، ومذيقهم الذل والهوان.
روي: أن عمر بن عبد العزيز قال: فلو كان الله مغْفَلًا شيئًا لأغفل ما تُعفي الرياح من أثر قدمي ابن آدم، وكان الإِمام أحمد كثيرًا ما ينشد هذين البيتين:
إِذَا مَا خَلَوْتَ الدَّهْرَ يَوْمًا فَلَا تَقُلُ | خَلَوْتُ وَلَكِنْ قُلْ عَلَيَّ رَقِيْبُ |
وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللهَ يَغْفَلُ سَاعَةً | وَلَا أَنَّ مَا تُخْفِيْهِ عَنْهُ يَغِيْثُ |
﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٧٦) وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (٧٧) إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (٧٨)﴾.
﴿إِنَّ هَذَا﴾: ناصب واسمه، ﴿الْقُرْآنَ﴾: بدل من اسم الإشارة، ﴿يَقُصُّ﴾: فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على ﴿الْقُرْآنَ﴾، ﴿عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿يَقُصُّ﴾ في محل الرفع خبر ﴿إِنَّ﴾، وجملة ﴿إنَّ﴾ مستأنفة، ﴿أَكْثَرَ﴾: مفعول به لـ ﴿يَقُصُّ﴾، ﴿الَّذِي﴾: مضاف إليه، ﴿هُمْ﴾: مبتدأ، ﴿فِيهِ﴾: متعلق بـ ﴿يَخْتَلِفُونَ﴾، وجملة ﴿يَخْتَلِفُونَ﴾: خبر المبتدأ، والجملة الاسمية صلة الموصول. ﴿وَإِنَّهُ﴾: ناصب واسمه، ﴿لَهُدًى﴾ ﴿اللام﴾: حرف ابتداء، ﴿هُدًى﴾: خبر ﴿إنَّ﴾، ﴿وَرَحْمَةٌ﴾: معطوف على ﴿هدى﴾، ﴿لِلْمُؤْمِنِينَ﴾: جار ومجرور، تنازع فيه هدى ورحمة على كونه صفة لهما، وجملة ﴿إنّ﴾ معطوفة على جملة ﴿إنَّ﴾ الأولى. ﴿إِنَّ رَبَّكَ﴾: ناصب واسمه، ﴿يَقْضِي﴾: فعل
﴿فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (٧٩) إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (٨٠)﴾.
﴿فَتَوَكَّلْ﴾ ﴿الفاء﴾: فاء الفصيحة لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت أن الله هو العزيز العلم، وأردت بيان ما هو اللازم لك فأقول لك توكل على الله، ﴿توكل﴾: فعل أمر وفاعل مستتر يعود على محمد، ﴿عَلَى اللَّهِ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿تَوَكَّلْ﴾، والجملة الفعلية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة، ﴿إِنَّكَ﴾: ناصب واسمه، ﴿عَلَى الْحَقِّ﴾: جار ومجرور خبر ﴿إن﴾، ﴿الْمُبِينِ﴾: صفة للحق، وجملة ﴿إن﴾ في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، مسوقة لتعليل الأمر بالتوكل. ﴿إِنَّكَ﴾: ناصب واسمه، ﴿لَا﴾: نافية، ﴿تُسْمِعُ﴾: فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على محمد، ﴿الْمَوْتَى﴾: مفعول به، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر ﴿إن﴾، وجملة ﴿إن﴾ معطوفة بعاطف مقدر على جملة ﴿إن﴾ الأولى، على كونها تعليلًا ثانيًا للأمر بالتوكل، ﴿وَلَا﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة، ﴿لَا﴾: نافية، ﴿تُسْمِعُ﴾: فعل مضارع وفاعل مستتر معطوف على ﴿تُسْمِعُ﴾ الأول، ﴿الصُّمَّ﴾: مفعول به أول، ﴿الدُّعَاءَ﴾: مفعول ثان، ﴿إِذَا﴾: ظرف لما يستقبل من الزمان مجرد عن معنى الشرط، ﴿وَلَّوْا﴾: فعل وفاعل، ﴿مُدْبِرِينَ﴾: حال من الفاعل، والجملة الفعلية في محل الخفض بإضافة ﴿إِذَا﴾ إليها، والظرف متعلق بـ ﴿تُسْمِعُ﴾.
{وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (٨١) وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا
﴿وَمَا﴾ ﴿الواو﴾ عاطفة، ﴿ما﴾: حجازية، ﴿أَنْتَ﴾ في محل الرفع اسم ﴿ما﴾، ﴿بِهَادِي﴾ ﴿الباء﴾: زائدة، ﴿هَادِي الْعُمْيِ﴾: خبر ﴿ما﴾ الحجازية منصوب محلًا مجرور لفظًا، ﴿الْعُمْيِ﴾: مضاف إليه، ﴿عَنْ ضَلَالَتِهِمْ﴾: متعلق بـ ﴿هادي﴾، عداه بـ ﴿عن﴾ لتضمنه معنى تصرفهم، والجملة معطوفة على جملة قوله: ﴿إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى﴾، ﴿إن﴾ نافية، ﴿تُسْمِعُ﴾: فعل مضارع وفاعل مستتر، ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ، ﴿مَنْ﴾: اسم موصول في محل النصب مفعول به، والجملة مستأنفة، ﴿يُؤْمِنُ﴾: فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على ﴿مَنْ﴾، ﴿بِآيَاتِنَا﴾: جار ومجرور مضاف إليه متعلق بـ ﴿يُؤْمِنُ﴾، وجملة ﴿يُؤْمِنُ﴾ صلة ﴿مَنْ﴾ الموصولة، ﴿فَهُمْ﴾ ﴿الفاء﴾ عاطفة، ﴿هُمْ مُسْلِمُونَ﴾: مبتدأ وخبر، والجملة معطوفة على جملة الصلة، عطف اسمية على فعلية. ﴿وَإِذَا﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية، ﴿إِذَا﴾: ظرف لما يستقبل من الزمان، ﴿وَقَعَ الْقَوْلُ﴾: فعل وفاعل، والجملة في محل الخفض بإضافة ﴿إِذَا﴾ إليها، على كونها فعل شرط لها، ﴿عَلَيْهِمْ﴾: متعلق بـ ﴿وَقَعَ﴾، ﴿أَخْرَجْنَا﴾: فعل وفاعل جواب ﴿إِذَا﴾ لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿إِذَا﴾ مستأنفة مسوقة لبيان بعض أشراط الساعة، ﴿لَهُمْ﴾ متعلق بـ ﴿أَخْرَجْنَا﴾، ﴿دَابَّةً﴾: مفعول ﴿أَخْرَجْنَا﴾، ﴿مِنَ الْأَرْضِ﴾: متعلق بـ ﴿أَخْرَجْنَا﴾، ﴿تُكَلِّمُهُمْ﴾: فعل مضارع ومفعول به، وفاعل مستتر يعود على الدابة، والجملة الفعلية في محل النصب صفة لـ ﴿دَابَّةً﴾، ﴿أَنَّ النَّاسَ﴾: ناصب واسمه، ﴿كَانُوا﴾: فعل ناقص واسمه، ﴿بِآيَاتِنَا﴾: متعلق بـ ﴿يُوقِنُونَ﴾، وجملة ﴿لَا يُوقِنُونَ﴾ في محل النصب خبر ﴿كَانُ﴾، وجملة ﴿كَانُ﴾ في محل الرفع خبر ﴿أَنَّ﴾ وجملة ﴿أَنَّ﴾ بفتح الهمزة في تأويل مصدر مجرور بالباء المقدرة؛ أي؛ تخبرهم بعدم إيقان الناس بآيات ربنا، وأما بكسر الهمزة فمقول لقول محذوف، تقديره: تكلمهم وتقول لهم إن الناس كانوا بآياتنا.
﴿وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ (٨٣)﴾.
﴿وَيَوْمَ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية، ﴿يَوْمَ﴾: منصوب على الظرفية متعلق
﴿حَتَّى إِذَا جَاءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمَّاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٨٤) وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لَا يَنْطِقُونَ (٨٥)﴾.
﴿حَتَّى﴾: حرف جر وغاية، ﴿إِذَا﴾: ظرف لما يستقبل من الزمان، مضمن معنى الشرط، ﴿جَاءُوا﴾: فعل وفاعل، ومتعلق ﴿جَاءُوا﴾: محذوف، تقديره: حتى إذا جاءوا إلى موضع الحساب، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿إِذَا﴾ على كونها فعل شرط لها، ﴿قَالَ﴾: فعل ماض وفاعل مستتر يعود على الله، والجملة جواب ﴿إِذَا﴾ الشرطية لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿إِذَا﴾ من فعل شرطها وجوابها في محل الجر بـ ﴿حَتَّى﴾، والجار والمجرور أعني ﴿حَتَّى﴾ متعلق بـ ﴿يُوزَعُونَ﴾، أو بـ ﴿نَحْشُرُ﴾، والتقدير: فهم يوزعون إلى قوله سبحانه وقت مجيئهم موضع الحساب: ﴿أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي﴾ ﴿أَكَذَّبْتُمْ﴾ ﴿الهمزة﴾: للاستفهام التوبيخي التقريعي، ﴿كَذَّبْتُمْ﴾: فعل وفاعل، ﴿بِآيَاتِي﴾: متعلق بـ ﴿كَذَّبْتُمْ﴾، والجملة الفعلية في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾، ﴿وَلَمْ تُحِيطُوا﴾ ﴿الواو﴾: حالية، ﴿لَمْ تُحِيطُوا﴾: جازم وفعل وفاعل مجزوم بـ ﴿لَمْ﴾، ﴿بِهَا﴾: متعلق بـ ﴿تُحِيطُوا﴾، ﴿عِلْمًا﴾ تمييز محول عن الفاعل، والجملة الفعلية في محل النصب حال من فاعل ﴿كَذَّبْتُمْ﴾ مؤكدة للإنكار والتوبيخ، ﴿أَمَّاذَا﴾ ﴿أم﴾: منقطعة بمعنى بل الإضرابية، ﴿ما﴾: اسم استفهام في محل الرفع مبتدأ، ﴿ذا﴾: اسم موصول بمعنى الذي في محل الرفع خبر المبتدأ، ﴿كُنْتُمْ﴾: فعل ناقص واسمه، وجملة ﴿تَعْمَلُونَ﴾: خبر
﴿أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٨٦)﴾.
﴿أَلَمْ﴾ ﴿الهمزة﴾ فيه للاستفهام التقريري، أو الإنكاري، ﴿لم﴾: حرف جزم، ﴿يَرَوْا﴾: فعل مضارع وفاعل، مجزوم بـ ﴿لَمْ﴾، والرؤية هنا قلبية، لا بصرية كما مر، والجملة الفعلية مستأنفة إنشائية لا محل لها من الإعراب، ﴿أَنَّا﴾: ناصب واسمه، ﴿جَعَلْنَا اللَّيْلَ﴾: فعل وفاعل ومفعول به، إن كان جعل بمعنى خلقنا، أو مفعول أول، والثاني محذوف، تقديره: مظلمًا، إن كان بمعنى صيَّرنا، وجملة ﴿جَعَلْنَا﴾ في محل الرفع خبر ﴿أَنَّا﴾ قال، وجملة ﴿أَنَّا﴾ في تأويل مصدر ساد مسد مفعولي ﴿يَرَوْا﴾؛ أي: ألم يروا جعلنا الليل مظلمًا، ﴿لِيَسْكُنُوا﴾ ﴿اللام﴾: حرف جر وتعليل، ﴿يَسْكُنُوا﴾: فعل وفاعل منصوب بـ ﴿أن﴾ مضمرة بعد لام كي، ﴿فِيهِ﴾: متعلق بـ ﴿يَسْكُنُوا﴾، والجملة الفعلية مع أن المضمرة في تأويل مصدر مجرور باللام، تقديره: لسكونهم فيه، الجار والمجرور متعلق بـ ﴿جَعَلْنَا﴾، ﴿وَالنَّهَارَ﴾: معطوف على ﴿اللَّيْلَ﴾، ﴿مُبْصِرًا﴾: حال، أو مفعول ثان، ﴿إِنَّ﴾: حرف نصب، ﴿فِي ذَلِكَ﴾: جار ومجرور خبر مقدم لـ ﴿إنَّ﴾، ﴿لَآيَاتٍ﴾ ﴿اللام﴾ حرف ابتداء، ﴿آيَاتٍ﴾: اسمها مؤخر، وجملة ﴿إنَّ﴾ مستأنفة، ﴿لِقَوْمٍ﴾: صفة
﴿وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ (٨٧) وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ (٨٨)﴾.
﴿وَيَوْمَ﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة، ﴿يَوْمَ﴾: منصوب باذكر محذوفًا، تقديره: واذكر يا محمد لقومك قصة يوم ينفخ في الصور، والجملة المحذوفة معطوفة على جملة قوله: ﴿وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ﴾، ﴿يُنْفَخُ﴾: فعل مضارع مغير الصيغة، ﴿فِي الصُّورِ﴾: جار ومجرور نائب فاعل لـ ﴿يُنْفَخُ﴾، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿وَيَوْمَ﴾، ﴿فَفَزِعَ﴾ ﴿الفاء﴾: عاطفة، ﴿فَزِعَ﴾: فعل ماض بمعنى يفزع، ﴿مَنْ﴾ اسم موصول في محل الرفع فاعل، والجملة معطوفة على جملة ينفخ، ﴿فِي السَّمَاوَاتِ﴾: جار ومجرور صلة ﴿مَنْ﴾ الموصولة، ﴿وَمَنْ فِي الْأَرْضِ﴾: معطوف على ﴿مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ﴾، ﴿إِلَّا﴾ أداة استثناء، ﴿مَنْ﴾ اسم موصول في محل النصب على الاستثناء، ﴿شَاءَ اللَّهُ﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة ﴿مَنْ﴾ الموصولة، والعائد محذوف، تقديره: إلا من شاء الله عدم فزعه، ﴿وَكُلٌّ﴾ ﴿الواو﴾: حالية، ﴿كُلٌّ﴾: مبتدأ سوغ الابتداء بالنكرة قصد العموم، أو نية المضاف إليه؛ أي: وكلهم، ﴿أَتَوْهُ﴾: فعل وفاعل ومفعول به، ﴿دَاخِرِينَ﴾: حال من فاعل ﴿أَتَوْهُ﴾، وجملة ﴿أَتَوْهُ﴾ في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل النصب حال من فاعل ﴿فَزِعَ﴾، ﴿وَتَرَى﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة، ﴿تَرَى﴾: فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على محمد، أو على أي مخاطب، ورأى هنا بصرية، ﴿الْجِبَالَ﴾: مفعول به، والجملة في محل الجر معطوفة على جملة ﴿يُنْفَخُ﴾، ﴿تَحْسَبُهَا﴾: فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول أول، ﴿جَامِدَةً﴾: مفعول ثان لـ ﴿تَحْسَبُ﴾، والجملة الفعلية في محل النصب حال من فاعل ﴿تَرَى﴾، ﴿وَهِيَ﴾ ﴿الواو﴾: حالية، ﴿هِيَ﴾: مبتدأ، وجملة ﴿تَمُرُّ﴾ في محل الرفع خبر المبتدأ، ﴿مَرَّ﴾ منصوب على المفعولية المطلقة، والجملة الاسمية في محل النصب حال من الضمير المستكن في ﴿جَامِدَةً﴾، ﴿السَّحَابِ﴾ مضاف إليه {صُنْعَ
﴿مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (٨٩) وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٩٠)﴾.
﴿مَنْ﴾: اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط، أو الجواب، أو هما، ﴿جَاءَ﴾: فعل ماض في محل الجزم بـ ﴿مَنْ﴾: على كونه فعل شرط لها، وفاعله ضمير يعود على ﴿مَنْ﴾، ﴿بِالْحَسَنَةِ﴾ متعلق بـ ﴿جَاءَ﴾، ﴿فَلَهُ﴾ ﴿الفاء﴾: رابطة لجواب ﴿مَن﴾: الشرطية، ﴿لَهُ﴾: جار ومجرور خبر مقدم، ﴿خَيْرٌ﴾: مبتدأ مؤخر، ﴿مِنْهَا﴾: متعلق بـ ﴿خَيْرٌ﴾، والجملة الاسمية في محل الجزم بـ ﴿مَنْ﴾ الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة ﴿مَنْ﴾: الشرطية مستأنفة، ﴿وَهُمْ﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة، ﴿هُمْ﴾: مبتدأ، ﴿مِنْ فَزَعٍ﴾: متعلق بـ ﴿آمِنُونَ﴾، ﴿آمِنُونَ﴾: خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل الجزم معطوفة على جملة الجواب. ﴿يَوْمَئِذٍ﴾ ﴿يوم﴾: منصوب على الظرفية الزمانية، ﴿يوم﴾: مضاف، ﴿إذٍ﴾ ظرف لما مضى من الزمان في محل الجر مضاف إليه مبني بسكون مقدر منع من ظهوره اشتغال المحل بحركة التخلص من التقاء الساكنين، والظرف متعلق بمحذوف صفة لـ ﴿فَزَعٍ﴾، تقديره: من فزع كائن في ذلك اليوم، وقرىء بإضافة ﴿فَزَعٍ﴾ إلى ﴿يَوْمَئِذٍ﴾، ﴿وَمَنْ﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة، ﴿مَن﴾: اسم شرط في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط، أو الجواب، أو هما، ﴿جَاءَ﴾ فعل ماض وفاعل مستتر، في محل الجزم بـ ﴿مَن﴾ على كونه فعل شرط لها، ﴿بِالسَّيِّئَةِ﴾ متعلق بـ ﴿جَاءَ﴾، ﴿فَكُبَّتْ﴾ ﴿الفاء﴾ رابطة الجواب داخلة على قد محذوفة؛ أي: قد كبت، ليصح اقتران الجواب بها، ﴿كُبَّتْ﴾: فعل ماض مغير الصيغة، في
﴿إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٩١)﴾.
﴿إِنَّمَا﴾: أداة حصر، ﴿أُمِرْتُ﴾: فعل ونائب فاعل، والجملة في محل النصب مقول لقول محذوف، تقديره: قل لهم: إنما أمرت، ﴿أَنْ﴾: حرف نصب ومصدر، ﴿أَعْبُدَ﴾: فعل مضارع وفاعل مستتر منصوب بـ ﴿أن﴾ المصدرية، ﴿رَبَّ﴾: مفعول به، ﴿هَذِهِ﴾: مضاف إليه، ﴿الْبَلْدَةِ﴾: بدل من اسم الإشارة، والجملة الفعلية في تأويل مصدر مجرور بحرف جر محذوف، تقديره: إنما أمرت بعبادة رب هذه البلدة، ﴿الَّذِي﴾: صفة لـ ﴿رَبَّ﴾، ﴿حَرَّمَهَا﴾: فعل وفاعل مستتر ومفعول به، والجملة صلة الموصول، ﴿وَلَهُ﴾ ﴿الواو﴾: حالية، ﴿له﴾: خبر مقدم، ﴿كُلُّ شَيْءٍ﴾: مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية في محل النصب حال من فاعل ﴿حَرَّمَهَا﴾، ﴿وَأُمِرْتُ﴾: فعل ونائب فاعل، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة ﴿أُمِرْتُ﴾ الأولى، ﴿أَنْ﴾ حرف مصدر، ﴿أَكُونَ﴾: فعل مضارع ناقص منصوب بـ ﴿أن﴾ واسمها ضمير يعود على النبي - عليه السلام -، ﴿مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾: خبر ﴿أَكُونَ﴾، وجملة ﴿أَكُونَ﴾ في تأويل مصدر مجرور بحرف جر محذوف، تقديره: وأمرت بكوني من المسلمين.
﴿وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (٩٢) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٩٣)﴾.
التصريف ومفردات اللغة
﴿وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ﴾ والصم جمع الأصم، كالغُرِّ جمع الأغرّ، والصمم فُقدان حاسة السمع، كما مر، وشُبِّه به مَنْ لا يُصْغي إلى الحق ولا يقبله كما شُبّه هاهنا، والدعاء: الدعوة إلى أمر من الأمور.
﴿إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ﴾ يقال: ولَّى عن الشيء إذا أعرض عنه، وترك قربه، ويقال: أدبر إذا أعرض، وولى دبره، ﴿وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ﴾ والعمي جمع الأعمى، والعمى: افتقاد حاسة البصر، فشبه سبحانه من افتقد البصيرة بمن افتقد البصر، في عدم الاهتداء إلى المقصود، والمعنى: ما أنت بمرشد من أعماه الله سبحانه عن الهدى، وأعمى قلبه عن الإيمان اهـ. "سمين".
﴿وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ﴾ وقع حدث وحصل، والمراد من القول ما دل من الآيات على مجيء الساعة، ﴿تُكَلِّمُهُمْ﴾؛ أي: تنبئهم وتخبرهم، ﴿وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا﴾ والحشر: الجمع، والمراد به هنا هو الحشر للعذاب، بعد الحشر الكلي الشامل لكافة الخلق، والأمة: جماعة أرسل إليهم رسول كما في "القاموس"، والفوج: الجماعة من الناس كالزمرة كما في "الوسيط"، والجماعة المارة المسرعة كما في "المفردات"، وكان هذا هو الأصل، ثم أطلق وإن لم يكن مرور ولا إسراع، والجمع أفواج وفؤوج، وجمع الجمع أفاوج وأفايج وأفاويج، والفائجة الجماعة، ومتَّسع ما بين كل مرتفعين من رمل.
﴿فَهُمْ يُوزَعُونَ﴾؛ أي: يُحبس أولهم على آخرهم حتى يتلاحقوا ويجتمعوا في موقف التوبيخ والمناقشة، ﴿وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا﴾؛ أي: ولم تدركوا حقيقة
﴿فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ﴾ والفزع: انقباض ونفار يعتري الإنسان من الشيء المخوف، ولا يقال: فزعت من الله، كما يقال: خفت منه، والمراد بالفزع هنا ما يعتري الكل مؤمنًا وكافرًا عند البعث والنشور، بمشاهدة الأمور الهائلة الخارقة للعادات في الأنفس والآفاق، من الرعب والتهيب الضروريِّين الجِبْليِّين، ﴿دَاخِرِينَ﴾؛ أي: أذلاء صاغرين، وفي "القاموس": دخر الشخص كمنع وفرح دخرًا ودخورًا صغر وذل، وأدخرته بالألف للتعدية، ويقال: أدخرته فدخر؛ أي: أذللته فذل.
﴿تَحْسَبُهَا جَامِدَةً﴾؛ أي: ثابتة في أماكنها، من جمد الماء وكل سائل قام وثبت ضد ذاب. ﴿صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ﴾ والصنع: إجادة الفعل فكل صنع فعل، وليس كل فعل صنعًا، ولا يُنسب إلى الحيوانات كما يُنسب إليها الفعل كما في "المفردات"، والإتقان: الإتيان بالشيء على أكمل حالاته، وهو مأخوذ من قولهم: تقن أرضه إذا ساق إليها الماء الخاثر بالطين لتصلح للزراعة، وأرض تقنة، والتقن فعل ذلك بها، والتقن أيضًا ما رُمي به في الغدير من ذلك أو الأرض، ويقال: أتقن الشيء إذا أحكمه، يقال: رجل تقن، بكسر التاء وسكون القاف؛ أي: حاذق بالأشياء.
﴿فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ﴾ أي: ألقيت منكوسة، والكب إسقاط الشيء على وجهه، ﴿أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ﴾ والعبادة هي غاية التذلل والخضوع، والبلد: المكان المحدود المتأثر باجتماع قطانه، وإقامتهم فيه، ولاعتبار الأثر قيل: بلدة؛ أي: أثر.
﴿الَّذِي حَرَّمَهَا﴾؛ أي: جعلها حرامًا؛ أي: ممنوعًا منه، ﴿وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ﴾ والتلاوة قراءة القرآن متتابعة كالدراسة والأوراد الموظفة، والقراءة أعم، يقال: تلاه تبعه متابعة ليس بينهما ما ليس منهما.
وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: الإسناد المجازي في قوله: ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ﴾ حيث أسند القص إلى القرآن؛ لأن القص لا يوصف به إلا الناطق المميز، ولكن القرآن لما تضمن نبأ الأولين كان كالشخص الذي يقص على الناس الأخبار.
ومنها: المجاز في قوله: ﴿يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ﴾ حيث أطلق الحكم على المحكوم به على سبيل التجوز.
ومنها: المبالغة في قوله: ﴿وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ﴾ لأن فعيلًا من صيغ المبالغة.
ومنها: الاستعارة التمثيلية في قوله: ﴿إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ﴾ إلخ. حيث مثل أحوال الكفار في عدم انتفاعهم بما يتلى عليهم من الآيات بالموتى، وفي عدم إصغائهم إلى الحق وقبولهم له بالصم الذين لا يسمعون النداء، وفي عدم اهتدائم إلى الحق والصواب بالعمي الذين لا يهتدون إلى المقصود.
ومنها: تقييد نفي عدم الاسماع بقوله: ﴿إِذَا وَلَّوْا﴾ لتكميل التشبيه وتأكيد النفي، فإن إسماعهم في هذه الحالة أبعد؛ أي: إن الأصم لا يسمع الدعاء، مع كون الداعي بمقابلة صماخه قريبًا منه، فكيف إذا كان خلفه بعيدًا منه.
ومنها: الالتفات من التكلم إلى الغيبة في قوله: ﴿حَتَّى إِذَا جَاءُوا قَالَ﴾ لتربية المهابة، وكان مقتضى السياق أن يقال: قلنا؛ لأن قبله ﴿وَيَوْمَ نَحْشُرُ﴾ بالتكلم.
ومنها: الاستفهام التوبيخي في قوله: ﴿أَمَّاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ للتأنيب.
ومنها: المجاز العقلي في قوله: ﴿وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا﴾ فقد أسند الإبصار إلى الزمان، وهو لا يعقل؛ لأن المعنى: ليبصروا بما فيه من الإضاءة طرق التقلب في
ومنها: الاحتباك في قوله: ﴿أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا﴾ والاحتباك عند البديعيين هو: الحذف من أحد المتقابلين نظير ما أثبته في الآخر؛ لأن أصل التركيب: ألم يروا أنا جعلنا الليل مظلما ليسكنوا فيه والنهار مبصرا ليتحركوا فيه، فحذف مظلمًا لدلالة مبصرًا عليه، وحذف ليتحركوا فيه لدلالة ليسكنوا عليه.
ومنها: الإخبار بالماضي عن المستقبل في قوله: ﴿فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ﴾ وكان السياق يقتضي بأن يأتي بالمستقبل أيضًا، ولكنه عدل إلى الماضي للإشعار بتحقق الفزع، وأنه كائن لا محالة؛ لأن الفعل الماضي يدل على وجود الفعل وكونه مقطوعًا به.
ومنها: الطباق في قوله: ﴿تَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ﴾ ففيه طباق عجيب بين الجمود والحركة السريعة، حيث جعل ما يبدو لعين الناظر من الأجرام العظام كالجبل في جموده ورسوخه، ولكنه سريع يمر مرورًا حثيثًا كما يمر السحاب.
ومنها: التشبيه البليغ في قوله: ﴿وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ﴾؛ أي: تمر عمر السحاب في السرعة، حذفت الأداة ووجه الشبه فأصبح تشبيهًا بليغًا مثل: محمد قمر.
ومنها: الطباق في قوله: ﴿مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ﴾ ﴿وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ﴾ وفي قوله: ﴿فَمَنِ اهْتَدَى﴾ ﴿وَمَنْ ضَلَّ﴾.
ومنها: الإضافة لتشريف المضاف إليه في قوله: ﴿رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ﴾ لأن الإضافة تكون لتشريف المضاف إليه، كما أنها تكون لتشريف المضاف في نحو ناقة الله، وبيت الله، وروح الله.
ومنها: الاحتراس في قوله: ﴿وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ﴾ ففيه احتراس بديع، فقد
ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
اشتملت هذه السورة على الأمور التالية:
١ - وصف القرآن الكريم بأنه هدى ورحمة للمؤمنين.
٢ - قصص موسى عليه السلام.
٣ - قصص سليمان عليه السلام.
٤ - قصص ثمود، وقصص قوم لوط.
٥ - النعي على المشركين في عبادة الأصنام والأوثان، وإقامة الأدلة على وحدانية الله تعالى.
٦ - إنكار المشركين للبعث والنشور، وقولهم: ﴿إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ﴾.
٧ - علم الله بما في الصدور.
٨ - حكم القرآن على ما اختلف فيه بنو إسرائيل.
٩ - قطع الأطماع في إيمان المشركين، وتشبيههم بالعُمْيِ الصُّمِّ.
١٠ - أشراط الساعة كخروج الدابة من الأرض، وحشر فوج من كل أمة وتسيير الجبال.
١١ - الجزاء على العمل خيرًا كان أو شرًا.
١٢ - أمر الرسول - ﷺ - أن يقول للمشركين: إنه إنما أمر بعبادة رب مكة، لا بعبادة الأصنام والأوثان.
١٣ - أمره بحمد الله والثناء عليه، وطلبه تلاوة القرآن.
والله أعلم
* * *
سورة القصص (١) نزلت بعد النمل، وهي مكية كلها على ما روى الحسن وعطاء وطاوس وعكرمة، وقال مقاتل: مكية إلا من قوله: ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ﴾ (٥٢) إلى قوله: ﴿لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ﴾ (٥٥) فمدنية، وإلا آية ﴿إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ﴾ (٨٥) فإنها نزلت بالجحفة، أثناء الهجرة إلى المدنية، فليست مكية ولا مدنية.
وهي ثمان وثمانون آية (٢)، وألف وأربع مئة وإحدى وأربعون كلمة. وخمسة آلاف وثمان مئة حرف.
التسمية: سميت سورة القصص؛ لأن الله تعالى ذكر فيها قصة موسى - عليه السلام - مفصلة موضحة، من حين ولادته إلى حين رسالته، ولاشتمالها على الحكاية والأخبار العجيبة، والقصص مصدر بمعنى الإخبار، وتسمى أيضًا سورة موسى، واعلم أن أسماء السور توقيفية، وكذا ترتيبها وترتيب الآيات، فلا بد فيها من ملاحظة المناسبة.
المناسبة: ووجه مناسبة هذه السورة لما قبلها أمور (٣):
١ - أنه سبحانه بسط في هذه السورة ما أوجز في السورتين قبلها من قصص موسى عليه السلام، وفصَّل هنا ما أجمله هناك، فشرح تربية فرعون لموسى، وذبح أبناء بني إسرائيل، الذي أوجب إلقاء موسى حين ولادته في اليم، خوفًا عليه من الذبح، ثم ذكر قتله القبطي، ثم فراره إلى مدين، وما وقع له مع شعيب من زواجه ببنته، ثم مناجاته لربه.
(٢) الخازن.
(٣) المراغي.
٣ - أنه فصل هناك أحوال بعض المهلكين من قوم صالح، وقوم لوط، وأجمله هنا في قوله: ﴿وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ...﴾ الآيات.
٤ - بسط هناك حال من جاء بالحسنة، وحال من جاء بالسيئة، وأوجز ذلك هنا، وهكذا من المناسبات التي تظهر بالتأمل حين قراءة السورتين.
وقال أبو حيان (١): مناسبة أول هذه السورة لآخر السورة التي قبلها: أن الله سبحانه أمر نبيه - ﷺ - بحمده، ثم قال: ﴿سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ﴾ وكان مما فُسِّر به آياته تعالى معجزات الرسول، وأنه أضافها تعالى إليه، إذ كان هو المخبر بها على قدمه فقال: ﴿تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ﴾ إذ كان الكتاب هو أعظم المعجزات، وأكبر الآيات البينات اهـ.
الناسخ والمنسوخ: قال أبو عبد الله (٢) محمد بن حزم الأندلسي: سورة القصص كلها محكم إلا آية واحدة، وهي قوله تعالى: ﴿لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ...﴾ الآية (٥٥) نسخت بآية السيف اهـ.
والله أعلم
* * *
(٢) الناسخ والمنسوخ.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
﴿طسم (١) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (٢) نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٣) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (٤) وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (٥) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ (٦) وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (٧) فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ (٨) وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (٩) وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١٠) وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (١١) وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ (١٢) فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (١٣) وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٤) وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (١٥) قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (١٦) قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ (١٧) فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (١٨) فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (١٩)﴾.