تفسير سورة الجن

الصراط المستقيم في تبيان القرآن الكريم

تفسير سورة سورة الجن من كتاب الصراط المستقيم في تبيان القرآن الكريم
لمؤلفه الكَازَرُوني . المتوفي سنة 923 هـ

لَمَّا ذكر أحوال أول أمة من الإأنس بعث فيهم رسولا، أَتْبعها بذكر أو أمة من الجن بعثَ إليهم لاسولاً فقال: ﴿ بِسمِ ٱللهِ ٱلرَّحْمٰنِ ٱلرَّحِيـمِ * قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ ٱسْتَمَعَ ﴾: قراءتي ﴿ نَفَرٌ ﴾: هو من ثلاثة إلى عشرة ﴿ مِّنَ ﴾: يهود ﴿ ٱلْجِنِّ ﴾: من رهط زوبعة أو من " نصيبين " سمعوه في صلاة الصبح ب، " نخلة " كما مرفي آية:﴿ وَإِذْ صَرَفْنَآ ﴾[الأحقاف: ٢٩] وقد بين حقيقة الجن في الاستعاذة، قال ابن عباس رضي الله عنهما: أنَّهُ صلى الله عليه وسلم ما رآهم كما هو ظاهر الآية، وروى ابن مسعود أنه رآهم، ورجحه العلماء، ولاحق صحتها، وأن الأول وقع أولا، ثم نزلت السورة، ثم أمر بالخروج إليهم كما قاله البيهيقي والإمام وغيرهما ﴿ فَقَالُوۤاْ ﴾: لقومهم ﴿ إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً ﴾: بديعا لفظا ومعنى ﴿ يَهْدِيۤ إِلَى ٱلرُّشْدِ ﴾: الصواب ﴿ فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشرِكَ بِرَبِّنَآ أَحَداً * وَأَنَّهُ ﴾: الشأن ﴿ تَعَالَىٰ ﴾ تنزه ﴿ جَدُّ ﴾: عظمة ﴿ رَبِّنَا ﴾: عن النقص ﴿ مَا ٱتَّخَذَ صَاحِبَةً ﴾: زوجة ﴿ وَلاَ وَلَداً * وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا ﴾ جاهلنا ﴿ عَلَى ٱللَّهِ ﴾: قولا ﴿ شَطَطاً ﴾: ذا شطط، وهو مجاوزة الحد في الظلم ﴿ وَأَنَّا ظَنَنَّآ ﴾: حسبنا ﴿ أَن لَّن تَقُولَ ٱلإِنسُ وَٱلْجِنُّ عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً ﴾: فصدقناهم حتى تبين كذبهم بالقرآن ﴿ وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ ٱلإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ ٱلْجِنِّ ﴾: بقولهم في منازلهم: أعود بسيد هذا المنزل من شر سفهائه ﴿ فَزَادُوهُمْ ﴾: في ذلك ﴿ رَهَقاً ﴾: كبرا وعتوا، إذ عرفوا خوف الإنس منهم ﴿ وَأَنَّهُمْ ﴾: أي: الإنس ﴿ ظَنُّواْ كَمَا ظَنَنتُمْ ﴾: أيها الجن والخطاب من بعضهم لبعض ﴿ أَن لَّن يَبْعَثَ ٱللَّهُ أَحَداً ﴾: بعد موته أو بالرسالة ﴿ وَأَنَّا لَمَسْنَا ٱلسَّمَآءَ ﴾: أي: طلبنا بلوغها بالاستراق ﴿ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَساً ﴾: لها أي: حراسا ﴿ شَدِيداً وَشُهُباً ﴾: نجوماً محرقةً، كما مر ﴿ وَأَنَّا كُنَّا ﴾: قبل ﴿ نَقْعُدُ مِنْهَا ﴾: من السماء ﴿ مَقَاعِدَ ﴾: خالية عنهم ﴿ لِلسَّمْعِ ﴾: لكلام الملائكة ﴿ فَمَن يَسْتَمِعِ ٱلآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَّصَداً ﴾: رَاصداً له يمنعه، لا يقال السامع الجن والمرجوم الشياطين لأنهم شياطين الجن، وكل متمرد شيطان كما مر، فأن قلت: الرجم كان قبل كما مر في الملك، قلنا نعم، ولكن قال أبي بن كعب وغيره: لم يرم بنجم منذ رفع عيسى فالمراد تلك الفترة ﴿ وَأَنَّا لاَ نَدْرِيۤ أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي ٱلأَرْضِ ﴾: بمنعنا الاستراق ﴿ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً ﴾: خيْراً ﴿ وَأَنَّا مِنَّا ٱلصَّالِحُونَ وَمِنَّا ﴾ قَومٌ ﴿ دُونَ ذَلِكَ كُنَّا ﴾: ذوي ﴿ طَرَآئِقَ ﴾: مذاهب ﴿ قِدَداً ﴾: متفرقة ﴿ وَأَنَّا ظَنَنَّآ أَن ﴾: أنه ﴿ لَّن نُّعْجِزَ ٱللَّهَ ﴾: نفوت كما مر ﴿ فِي ٱلأَرْضِ وَلَن نُّعْجِزَهُ هَرَباً ﴾: هاربين منها ﴿ وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا ٱلْهُدَىٰ ﴾: القرآن ﴿ آمَنَّا بِهِ فَمَن يُؤْمِن بِرَبِّهِ فَلاَ ﴾: أي: فهو ﴿ يَخَافُ بَخْساً ﴾: نقصا في ثوابه ﴿ وَلاَ رَهَقاً ﴾: ظلما ﴿ وَأَنَّا مِنَّا ٱلْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا ٱلْقَاسِطُونَ ﴾: الجائرون بالشر ﴿ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَـٰئِكَ تَحَرَّوْاْ ﴾: قصدوا ﴿ رَشَداً ﴾: هداية ﴿ وَأَمَّا ٱلْقَاسِطُونَ فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً ﴾: وقودا ﴿ وَ ﴾: أوحي إلي أن أي: أن الإنس والجن ﴿ أَلَّوِ ٱسْتَقَامُواْ عَلَى ٱلطَّرِيقَةِ ﴾: الإسلام ﴿ لأَسْقَيْنَاهُم مَّآءً ﴾: مطرا ﴿ غَدَقاً ﴾: كثرا توسعة في رزقهم ﴿ لِّنَفْتِنَهُمْ ﴾: نختبرهم ﴿ فِيهِ ﴾: أي: لنري كيفية شكرهم ﴿ وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِ ﴾: أي: موعظته أو القرآن ﴿ يَسْلُكْهُ ﴾: يدخله ﴿ عَذَاباً صَعَداً ﴾: شاقا ﴿ وَأَنَّ ٱلْمَسَاجِدَ ﴾: أي: مواضع بنيت للصلاة، أو الأرض، أو أعضاء السجود ﴿ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُواْ ﴾: وتعبدوا فيها أو بها ﴿ مَعَ ٱللَّهِ أَحَداً ﴾: فلا تتحدثوا فيها لغير الله، ولا تسجدوا لغيره ﴿ وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ ٱللَّهِ ﴾: أي: محمد صلى الله عليه وسلم ما قال رسول الله للتواضع، فإنه كلام ﴿ يَدْعُوهُ ﴾: يعبده بالصلاة ﴿ كَادُواْ ﴾: أي: الجن ﴿ يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً ﴾: متراكمين حرصا على استماعه ﴿ قُلْ ﴾ لكفار مكة أو للمزدحمين: ﴿ إِنَّمَآ أَدْعُواْ رَبِّي وَلاَ أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً ﴾: فليس يبدع ﴿ قُلْ إِنِّي لاَ أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً ﴾: غَيّاً ﴿ وَلاَ رَشَداً ﴾: بل الكل بيد الله تعالى ﴿ قُلْ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي ﴾: يمنعني ﴿ مِنَ ٱللَّهِ أَحَدٌ ﴾: إن أراد بي سُؤءاً ﴿ وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً ﴾: ملجأ ﴿ إِلاَّ ﴾: لكن ﴿ بَلاَغاً مِّنَ ٱللَّهِ وَرِسَالاَتِهِ ﴾ فإني أملكه لكم ﴿ وَمَن يَعْصِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ ﴾: جمع لمعنى مَنْ ﴿ فِيهَآ أَبَداً * حَتَّىٰ إِذَا ﴾: أي: لا يزالون يكذبونك إلى أن ﴿ رَأَوْاْ مَا يُوعَدُونَ ﴾: من العذاب ﴿ فَسَيَعْلَمُونَ ﴾ حيئنذ ﴿ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً ﴾: فلما قالوا: متى هذا الوعد؟ نزلت: ﴿ قُلْ إِنْ ﴾: أي: ما ﴿ أَدْرِيۤ أَقَرِيبٌ مَّا تُوعَدُونَ ﴾: من العذاب يعني: أَعَاجلٌ ﴿ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّيۤ أَمَداً ﴾: غاية بعيدة، هو ﴿ عَٰلِمُ ٱلْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ ﴾ أي: لا يطلع ﴿ عَلَىٰ غَيْبِهِ أَحَداً * إِلاَّ مَنِ ٱرْتَضَىٰ مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ ﴾: يجعل ﴿ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ ﴾: أي: كل جوانبه ﴿ رَصَد ﴾: حرسا من الملائك ةيحفظونه من تخاليط الشياطين * تنبيه: استدل بالآية مبطل الكرامات، ورود بأن ظواهرها أنه علامل كل غيب، ولا يطلع على غيبه المختص به، وهو ما يتعلق بذاته وصفاته، ومفهوم إمكان اطلاع غير الروسل على الباقي، فيغيبُهُ إمَّا مستغرق، أي: على كُلٍّ غَيْبهِ، فلا ينافي اطلاع غير الرسول على بعضه، وإما مطلق فينزل على الكامل، وهو الظاهر، وإنكار ذلك إنكار الحِسّ، وكمخ شاهدناه من مشايخنا رضي الله عنهم ومن المنجمين ومنحوهم فمنكرها كالطاعن في القرآن ﴿ لِّيَعْلَمَ ﴾: الرسول ﴿ أَن قَدْ أَبْلَغُواْ ﴾: أي: النازلون بالوحي، أو ليعلم الله علم ظهور إبلاغ رسله ﴿ رِسَالاَتِ رَبِّهِمْ ﴾: بلا تغيير ﴿ وَأَحَاطَ ﴾: الله تعالى ﴿ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَىٰ كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً ﴾: أي: أحَصَى عدده، دَلّ على علمه بالجُزئيات، وأن المعلوم ليس بشئ، والإلزمام اجتماع النقيضين بهِ - واللهُ أعلمُ.
سورة الجن
معلومات السورة
الكتب
الفتاوى
الأقوال
التفسيرات

سورة (الجِنِّ) من السُّوَر المكية، نزلت بعد سورة (الأعراف)، وقد جاءت على ذِكْرِ شرفِ النبي صلى الله عليه وسلم، وتحقُّقِ الكرامة له بعد أن رفَضه أهلُ الأرض وآذَوْهُ، فليَّنَ اللهُ له قلوبَ عالَم الجِنِّ؛ فاستمَعوا لهذا القرآن، وآمنوا به، وبرسالة مُحمَّد صلى الله عليه وسلم؛ لِما لهذا القرآن من عظمة وهداية وبيان واضح، والإنس أدعى أن يؤمنوا بهذا الكتابِ العظيم.

ترتيبها المصحفي
72
نوعها
مكية
ألفاظها
285
ترتيب نزولها
40
العد المدني الأول
28
العد المدني الأخير
28
العد البصري
28
العد الكوفي
28
العد الشامي
28

قوله تعالى: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اْسْتَمَعَ نَفَرٞ مِّنَ اْلْجِنِّ} [الجن: 1]:

عن عبدِ اللهِ بن عباسٍ رضي الله عنهما، قال: «انطلَقَ النبيُّ ﷺ في طائفةٍ مِن أصحابِه عامِدِينَ إلى سُوقِ عُكَاظَ، وقد حِيلَ بَيْنَ الشياطينِ وبَيْنَ خَبَرِ السماءِ، وأُرسِلتْ عليهم الشُّهُبُ، فرجَعتِ الشياطينُ إلى قومِهم، فقالوا: ما لكم؟ فقالوا: حِيلَ بَيْننا وبَيْنَ خَبَرِ السماءِ، وأُرسِلتْ علينا الشُّهُبُ، قالوا: ما حالَ بَيْنَكم وبَيْنَ خَبَرِ السماءِ إلا شيءٌ حدَثَ، فاضرِبوا مشارقَ الأرضِ ومغاربَها، فانظُروا ما هذا الذي حالَ بَيْنَكم وبَيْنَ خَبَرِ السماءِ، فانصرَفَ أولئك الذين توجَّهوا نحوَ تِهامةَ إلى النبيِّ ﷺ، وهو بنَخْلةَ، عامِدِينَ إلى سُوقِ عُكَاظَ، وهو يُصلِّي بأصحابِه صلاةَ الفجرِ، فلمَّا سَمِعوا القرآنَ استمَعوا له، فقالوا: هذا واللهِ الذي حالَ بَيْنَكم وبَيْنَ خَبَرِ السماءِ، فهنالك حينَ رجَعوا إلى قومِهم، وقالوا: يا قومَنا: {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْءَانًا عَجَبٗا ١ يَهْدِيٓ إِلَى اْلرُّشْدِ فَـَٔامَنَّا بِهِۦۖ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَآ أَحَدٗا} [الجن: 1-2]؛ فأنزَلَ اللهُ على نبيِّه ﷺ: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اْسْتَمَعَ نَفَرٞ مِّنَ اْلْجِنِّ} [الجن: 1]، وإنَّما أُوحِيَ إليه قولُ الجِنِّ». أخرجه البخاري (٧٧٣).

* سورة (الجِنِّ):

سُمِّيت سورة (الجِنِّ) بهذا الاسم؛ لاشتمالها على أحوالهم وأقوالهم، وعلاقتهم بالإنس.

* سورة {قُلْ أُوحِيَ}:

سُمِّيت بذلك؛ لافتتاحها بهذا اللفظِ.

1. الافتتاحية (١-٢).

2. الجِنُّ ورحلة الإيمان (٣-١٥).

3. من صفاتِ الرَّكْبِ، والداعي إليه (١٦-٢٥).

4. الخاتمة (٢٦-٢٨).

ينظر: "التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (8 /397).

يقول البِقاعيُّ: «مقصودها: إظهارُ شرفِ هذا النبي صلى الله عليه وسلم؛ حيث لُيِّنَ له قلوبُ الجِنِّ والإنس وغيرِهم، فصار مالكًا لقلوب المُجانِس وغيره؛ وذلك لعظمة هذا القرآنِ، ولُطْفِ ما له من عظيم الشأن.
هذا، والزمانُ في آخره، وزمان لُبْثِه في قومه دون العُشْرِ من زمن قوم نوح عليهما السلام، أولِ نبيٍّ بعثه اللهُ إلى المخالفين، وما آمن معه من قومه إلا قليلٌ.
وعلى ذلك دلَّت تسميتُها بـ(الجِنِّ)، وبـ {قُلْ أُوحِيَ}». "مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور" للبقاعي (3 /127).