تفسير سورة الزمر

أوضح التفاسير

تفسير سورة سورة الزمر من كتاب أوضح التفاسير المعروف بـأوضح التفاسير.
لمؤلفه محمد عبد اللطيف الخطيب . المتوفي سنة 1402 هـ

﴿فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَّهُ الدِّينِ﴾ أي مخلصاً في عبادته، صادقاً في محبته (انظر آية ١٧ من سورة البقرة)
﴿أَلاَ لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ﴾ الذي لا تشوبه شائبة، ولا يقصد به غير وجهه تعالى وقد ورد في الحديث الشريف أن رجلاً قال: يا رسول الله إني أتصدق بالشيء، وأصنع الشيء أريد به وجه الله وثناء الناس. فقال: (والذي نفس محمد بيده لا يقبل الله شيئاً شورك فيه) ثم تلا: «ألا لله الدين الخالص» ﴿زُلْفَى﴾ قربى ﴿لاَّصْطَفَى﴾ لاختار
﴿سُبْحَانَهُ﴾ تنزه وتقدس عن صفات المخلوقين
﴿يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ﴾ التكوير: اللف، واللي. والمعنى: أنه تعالى يدخل أحدهما في الآخر؛ بنقصان الليل وزيادة النهار، ونقصان النهار وزيادة الليل. ونظيره: قوله تعالى «يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل» أو هو تشبيه لجريانهما، وأن كلاهما يكر على الآخر: فيحجبه ﴿كُلِّ﴾ من الشمس والقمر
-[٥٦١]- ﴿يَجْرِي﴾ في فلكه، ويقوم بما سخره فيه ربه ﴿لأَجَلٍ مُّسَمًّى﴾ هو انتهاء الدنيا؛ حين تنفطر السماء، وتنتثر الكواكب، وتبدل الأرض غير الأرض
﴿خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ﴾ خلقها تعالى بيده. وهي آدم عليه السلام ﴿ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا﴾ أي من جنسها ﴿زَوْجَهَا﴾ حواء ﴿وَأَنزَلَ لَكُمْ﴾ أي خلق لكم ﴿مِّنَ الأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ﴾ ذكراً وأنثى: من الإبل، والبقر، والغنم، والمعز ﴿يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقاً مِّن بَعْدِ خَلْقٍ﴾ أي نطفة، ثم علقة، ثم مضغة، ثم إلى تمام التكوين ﴿فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاَثٍ﴾ ظلمة الصلب، وظلمة الرحم، وظلمة البطن ﴿فَأَنَّى تُصْرَفُونَ﴾ فكيف تصرفون عن عبادته تعالى؛ إلى عبادة غيره؛ بعد ظهور هذه الدلائل، وثبوت هذه الحقائق؟
﴿وَلاَ يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ﴾ وكيف يرضى تعالى بالكفر، وقد نهى عنه، وأوعد عليه. وأمر بالإيمان، وحث عليه، ورغب فيه، ووعد بجزائه؟ ﴿﴾ تؤمنوا ﴿يَرْضَهُ لَكُمْ﴾ ويثبكم عليه ﴿وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾ أي لا تحمل نفس آثمة إثم نفس أخرى. والمعنى: أنه لا يؤاخذ أحد بذنب الآخر ﴿فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ فيحاسبكم عليه، ويجزيكم به ﴿إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ بما في القلوب
﴿وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ ضُرٌّ﴾ مرض وفقر ﴿دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ﴾ راجعاً إليه ﴿ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً﴾ أعطاه إياها؛ كرماً وتفضلاً. والمراد بالنعمة: الصحة والغنى ﴿وَجَعَلَ لِلَّهِ أَندَاداً﴾ أمثالاً ونظراء يعبدهم
﴿أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ﴾ مطيع عابد ﴿آنَآءَ اللَّيْلِ﴾ ساعاته ﴿يَحْذَرُ﴾ يخاف ﴿الآخِرَةِ﴾ وما فيها من أهوال وجحيم، وعذاب أليم
-[٥٦٢]- ﴿وَيَرْجُواْ رَحْمَةَ رَبِّهِ﴾ نعمته وجنته ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ﴾ فيؤمنون، ويرجون رحمة ربهم، ويخشون عذابه ﴿وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ فيكفرون، ويجعلونلله أنداداً ﴿إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُو الأَلْبَابِ﴾ ذوو العقول
﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا﴾ بالإيمان والطاعة ﴿حَسَنَةٌ﴾ الجنة؛ جزاء لإحسانهم ﴿وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ﴾ فهاجروا إليها، وسيروا فيها؛ إذا خشيتم على دينكم، أو أوذيتم في أوطانكم ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ﴾ على الطاعات، وعن المعاصي ﴿أَجْرَهُمْ﴾ جزاءهم ﴿بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ أي أجراً كبيراً، وجزاء عظيماً؛ لا يوزن بأعمالهم؛ بل هو عطاء ربك الملك الوهاب
﴿قُلْ﴾ لهم يا محمد ﴿إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَّهُ الدِّينَ﴾ أي صادقاً في العبادة، موفياً حقها؛ من الإخلاص والمواظبة. (انظر آية ١٧ من سورة البقرة)
﴿قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ﴾ هم ﴿الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ﴾ بتعريضها للعقاب، وحرمانها من الثواب خسروا ﴿أَهْلِيهِمْ﴾ المراد بأهليهم: أزواجهم المعدة لهم في الجنة؛ من الحور العين. أو خسروا صحبة أهليهم؛ لأنهم كفروا فذهبوا إلى النار، وآمن أهلوهم فذهبوا إلى الجنة. كفرعون في النار بكفره، وآسية زوجه في الجنة بإيمانها ﴿لَهُمُ﴾ أي للكفار «الذين خسروا أنفسهم وأهليهم»
لهم ﴿مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ﴾ طبقات ﴿مِّنَ النَّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ﴾ مثلها ﴿ذَلِكَ﴾ المذكور من شأن أهل النار من الكفار ﴿يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ﴾ ليؤمنوا به ويتقوه
﴿وَالَّذِينَ اجْتَنَبُواْ الطَّاغُوتَ﴾ الأوثان، أو الشيطان، أو هو كل رأس في الضلال ﴿وَأَنَابُواْ إِلَى اللَّهِ﴾ آمنوا به، ورجعوا إليه ﴿لَهُمُ الْبُشْرَى﴾ بالجنة ونعيمها
﴿وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُو الأَلْبَابِ﴾ ذووا العقول
﴿أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ﴾ وجبت عليه ﴿كَلِمَةُ الْعَذَابِ﴾ وهي قوله تعالى ﴿لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ﴾ ﴿أَفَأَنتَ تُنقِذُ مَن فِي النَّارِ﴾ بدعوتك؛ وقد أعرضوا عنها، ولم يؤمنوا بها، واستوجبوا كلمة العذاب
﴿لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَواْ رَبَّهُمْ﴾ فآمنوا به، واتبعوا رسوله ﴿لَهُمْ غُرَفٌ﴾ في الجنة ﴿ثُمَّ يَهِيجُ﴾ يجف ذلك الزرع ﴿فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً﴾ بعد نضارته وحسنه ﴿ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَاماً﴾ متكسراً
﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ﴾ الإنزال للماء، وسلوكه ينابيع في الأرض، وإخراج الزرع المختلف الألوان، ثم اصفراره وتكسره «إن في ذلك» جميعه ﴿لَذِكْرَى﴾ تذكيراً بقدرة الله تعالى، ووحدانيته؛ وأن القادر على فعل ذلك: قادر على أن يحيي الموتى ﴿لأُوْلِي الأَلْبَابِ﴾ لذوي العقول
﴿أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ﴾ بسطه ﴿لِلإِسْلاَمِ﴾ فاتبعه، وأقام حدوده ﴿فَهُوَ عَلَى نُورٍ﴾ هداية ﴿مِّن رَّبِّهِ﴾ أي أهذا المتبع للإسلام، المهتدي بهداية الله تعالى «كمن هو أعمى» ﴿فَوَيْلٌ﴾ شدة عذاب ﴿لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ﴾ الذين لا يفقهون، ولا يرون النور؛ فويل لهم ﴿مِّن ذِكْرِ اللَّهِ﴾ أي من ترك ذكر الله تعالى؛ فإذا ذكر أمامهم: ازداد كفرهم، وقست قلوبهم أو المراد بذكرالله: القرآن الكريم. أي فويل للقاسية قلوبهم مما قضاه عليهم القرآن الكريم؛ من عذاب أليم مقيم
﴿كِتَاباً مُّتَشَابِهاً﴾ يشبه بعضه بعضاً: في البيان، والحكمة، والإعجاز ﴿مَّثَانِيَ﴾ جمع مثنى؛ أي مردداً ومكرراً: لا يمل من ترديده وتكراره؛ بل كلما تكرر: ازداد حلاوة وبهاء وكل هذا واضح محسوس؛ لكل من تذوقه وعرفه أو تثنى فيه المواعظ والأحكام؛ لترسخ في ذهن القارىء والسامع ﴿تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ﴾ أي كلما سمعوا آيات الوعيد والعذاب: اقشعرت جلودهم. واقشعرار الجلد لا يكون إلا عند شدة الخوف، ومزيد الرعب ﴿ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ﴾ عند ذكر آيات رحمته ومنته، ومغفرته ونعمته
﴿أَفَمَن يَتَّقِي بِوَجْهِهِ﴾ أي يتلقى به ﴿سُوءِ الْعَذَابِ﴾ أشده وأقبحه وأشنعه ﴿وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ﴾ الكافرين ﴿ذُوقُواْ﴾ عقوبة ﴿مَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ﴾ تعملون في الدنيا
﴿فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ﴾ القتل، والأسر، والذل، والهوان من عذاب الدنيا وأشد
﴿وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ﴾ تقريباً لعقولهم، وتيسيراً لأفهامهم
﴿قُرْآناً عَرَبِيّاً﴾ بلغتهم التي يفهمونها ويتقنونها ﴿غَيْرَ ذِي عِوَجٍ﴾ أي مستقيماً، بريئاً من التناقض؛ لا لبس فيه ولا إبهام
﴿ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً﴾ للكافر، الذي يعبد آلهة متعددة كالأصنام، أو من يعبد المال؛ ويتقيد بجمعه وحفظه، أو من يعبد هواه ﴿رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَآءُ مُتَشَاكِسُونَ﴾ متنازعون ومختلفون وهو كناية عن تحيره في أهوائه، وتنازع قلبه بين مطالبه التي يزينها له شيطانه ﴿وَرَجُلاً سَلَماً﴾ أي سالماً، خالصاً من الشركة. وهو مثل للمؤمن الذي يعبد إلهاً واحداً؛ لا يطيع غيره، ولا ينقاد لسواه فلا المال يطغيه، ولا الهوى يقوده
﴿إِنَّكَ﴾ يا محمد ﴿مَيِّتٌ﴾ رغم رفعة قدرك، وعلو منزلتك ﴿وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ﴾ رغم انحطاطهم وتفاهتهم؛ فلا شماتة في الموت: فسيموت الأعلى والأدنى
﴿ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ﴾ بأن تحتج عليهم بتبليغك الرسالة، ويعتذرون عن عدم قبولها بما لا طائل وراءه
﴿فَمَنْ أَظْلَمُ﴾ أي لا أحد أظلم ﴿مِمَّن كَذَبَ علَى اللَّهِ﴾ بأن نسب إليه تعالى الشريك والولد ﴿وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ﴾ القرآن
-[٥٦٥]- ﴿أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ﴾ مأوى لهم
﴿وَالَّذِي جَآءَ بِالصِّدْقِ﴾ النبي: جاء بالقرآن الكريم الذي ﴿وَصَدَّقَ بِهِ﴾ وهم المؤمنون. صدقوا به، وبما أنزل عليه من الصدق
﴿لِيُكَفِّرَ اللَّهُ﴾ يمحو ﴿عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُواْ﴾ من كفرهم قبل إيمانهم، وعصيانهم قبل توبتهم
﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ﴾ حفظاً، ورزقاً، وعوناً، وكلاءة ﴿وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ﴾ بالأصنام؛ وقد كانت قريش تقول للرسول صلوات الله تعالى وسلامه عليه: إنا نخاف عليك أن تخبلك آلهتنا، وعلم الله تعالى أنهم هم وآلهتهم المخبولون
﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ﴾ قوي، غالب لا يغلب ﴿ذِي انتِقَامٍ﴾ ممن يكفر به، أو يعصيه
﴿قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ﴾ تعبدون ﴿مِن دُونِ اللَّهِ﴾ غيره ﴿إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ﴾ مرض، أو فقر، أو أذى ﴿هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ﴾ يعني: هل تستطيع هذه الأصنام أن تكشف الضر الذي أراده الله تعالى ﴿أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ﴾ نعمة، وعافية، وغنى ﴿قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ﴾ الذين هداهم سبحانه للتوكل عليه، والإنابة إليه (انظر آية ٨١ من سورة النساء)
﴿قُلْ يقَوْمِ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ﴾ على حالتكم التي أنتم عليها، والعداوة التي تمكنتم فيها
﴿فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ﴾ أي فثواب هدايته عائد على نفسه
﴿اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِينَ مِوْتِهَا﴾ أي يقبضها عند انتهاء آجالها ﴿وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا﴾ أي ويتوفى الأنفس التي لم تمت في منامها. ومنه قوله تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ﴾ عن سعيدبن جبير رضي الله تعالى عنه: إن الله تعالى يمسك أرواح الأموات إذا ماتوا، وأرواح الأحياء إذا ناموا ﴿فَيُمْسِكُ﴾ تعالى روح النفس ﴿الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ﴾ فلا تقوم من منامها ﴿وَيُرْسِلُ﴾ النفس ﴿الأُخْرَى﴾ التي لم يقض عليها بالموت في منامها ﴿إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى﴾ هو انتهاء عمرها؛ المكتوب لها في عالم الأزل. والنوم: هو الموت الأصغر؛ كما أن الموت: هو النوم الأكبر. قال: «كما تنامون فكذلك تموتون، وكما توقظون فكذلك تبعثون».
ومن عجب أن ترى الإنسان دائب البحث، حثيث السعي؛ وراء ما يجلب له النوم، ويدفع عنه الأرق؛ في حين أن فرائصه لترتعد جزعاً وفرقاً حين يذكر أمامه الموت والموت لا يعدو أن يكون نوماً هادئاً مريحاً؛ يمتاز بكثير عن النوم الذي يسعى إليه، وينفق الأموال في اجتلابه؛ وليس ثمة مدعاة للجزع والخوف؛ ما دام الإنسان ممتلئاً صدره إيماناً بالله، ويقيناً بوجوده، واطمئناناً لجزائه ولذا تحدى الله تعالى اليهود - حينما زعموا أنهم أولياؤه وأحباؤه - بقوله: ﴿فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ وأجاب عنهم بما في صدورهم: ﴿وَلاَ يَتَمَنَّونَهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْديهِمْ﴾ فاحرص - يا من هديت إلى الإيمان والعرفان - على طاعة الله تعالى، واجتلاب مرضاته؛ لتنام خير منام، وتبعث خير مبعث، وتلقى خير جزاء، وأوفر نعيم (انظر آية ٦٠ من سورة الأنعام)
﴿وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ﴾ أي نفرت وانقبضت ﴿وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ﴾ الأصنام التي يعبدونها؛ كاللات والعزى
﴿قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ﴾ خالق ومبدع ﴿السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ﴾ وما فيهما، ومن فيهما ﴿عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ﴾ ما غاب، وما شوهد ﴿أَنتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ﴾ يوم القيامة؛ في اليوم الموعود: الذي أنكروه وكفروا به، وآمن به المؤمنون، وعملوا له
﴿وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ﴾ كفروا ﴿مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً﴾ من مال، وعقار، وأنعام ﴿وَمِثْلَهُ مَعَهُ لاَفْتَدَوْاْ بِهِ﴾ أنفسهم ﴿مِن سُوءِ الْعَذَابِ﴾ بؤسه وشدته وقسوته ﴿وَبَدَا لَهُمْ مِّنَ اللَّهِ﴾ ظهر لهم من أمره، وحقيقة وجوده، وصدق وعده ووعيده ﴿مَا لَمْ يَكُونُواْ يَحْتَسِبُونَ﴾ يحسبون، ويظنون. أو أنهم عملوا أعمالاً في الدنيا؛ وتوهموا أنها حسنات؛ فإذا هي سيئات. روي عن سفيان الثوري رضي الله تعالى عنه - في هذه الآية - ويل لأهل الرياء، ويل لأهل الرياء؛ هذه آيتهم وقصتهم. اللهم باعد بيننا وبين الرياء في أعمالنا وعباداتنا، واجعلها خالصة لوجهك الكريم يا كريم
﴿وَبَدَا لَهُمْ﴾ ظهر ﴿سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُواْ﴾ عقاب ما عملوا من الكفر والمعاصي ﴿وَحَاقَ﴾ نزل ﴿بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾ أي عقاب استهزائهم بمحمد وبكتابه
﴿فَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ ضُرٌّ﴾ مرض، أو فقر ﴿ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً﴾ أعطيناه غنى وصحة؛ تفضلاً منا ﴿قَالَ﴾ لمزيد كفره، وانعدام شكره ﴿إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ﴾ مني بوجوه التجارات والمكاسب، أو على علم من الله باستحقاقي لذلك. قال تعالى: ﴿بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ﴾ أي بل تخويلنا إياه النعمة؛ إنما هو امتحان له واختبار؛ لنرى أيشكر أم يكفر؟
﴿قَدْ قَالَهَا﴾ أي قال مثل هذه القالة ﴿الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ﴾ كقارون؛ حين قال: ﴿إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي﴾
﴿فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُواْ﴾ أي عقوبة هذه السيئات التي ارتكبوها: فخسف بقارون الأرض ﴿وَالَّذِينَ ظَلَمُواْ﴾ أشركوا، وقالوا مثل هذا القول ﴿مِنْ هَؤُلاَءِ﴾ الموجودين ﴿سَيُصِيبُهُمْ﴾ أيضاً ﴿سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُواْ﴾ كما أصاب ﴿الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ﴾ ﴿وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ﴾ بفائتين عذابنا
﴿أَوَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ﴾ يوسع ﴿الرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ﴾ من عباده؛ بغير ما سبب: من علم، أو ذكاء، أو حنكة، أو دراية ﴿وَيَقْدِرُ﴾ يضيق على من يشاء؛ ولو كان من أعلم العلماء وأحكم الحكماء فقد يعطي الجاهل، ويمنع العالم، ويعطي الخامل، ويمنع العامل؛ فهو - جل شأنه، وتعالى سلطانه - الخالق الرازق؛ وهو وحده يعطي من يشاء ويمنع من يشاء، يتصرف في ملكه كما يريد؛ لا كما يريد العبيد ﴿لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ﴾
هو الحاكم ﴿لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ﴾ ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ﴾ الإعطاء والمنع، والبسط والتضييق ﴿لآيَاتٍ﴾ دالات على وجوده تعالى وقدرته، وأنه وحده المعطي المانع، الخافض الرافع، الضار النافع
﴿قُلْ يعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ﴾ بارتكاب المعاصي، واقتحام الذنوب ﴿لاَ تَقْنَطُواْ﴾ لا تيأسوا ﴿مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ﴾ ومغفرته؛ فالقنوط من رحمته تعالى كفر ﴿إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً﴾ للتائب المستغفر
﴿وَأَنِيبُواْ إِلَى رَبِّكُمْ﴾ ارجعوا إلى ساحته، واطلبوا مغفرته ﴿وَأَسْلِمُواْ لَهُ﴾ وأخلصوا له العمل والنية ﴿مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً﴾ فجأة؛ كما حل بآل فرعون
﴿أَن تَقُولَ نَفْسٌ﴾ أي لئلا تقول نفس مذنبة يوم القيامة: ﴿يحَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطَتُ﴾ على ما قصرت ﴿فِي جَنبِ اللَّهِ﴾ أي في حقه تعالى، وفي طاعته
﴿أَوْ تَقُولَ﴾ نفس ﴿لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ﴾ ينكرون على الله تعالى هدايته لهم؛ وقد هداهم. ألم يرسل لهم الرسل، وينزل عليهم الكتب؟ ألم يخلق لهم العقول التي تميز بين المليح والقبيح، والسقيم والصحيح؟
﴿أَوْ تَقُولَ﴾ نفس ﴿حِينَ تَرَى الْعَذَابَ﴾ المعد لها يوم القيامة: ﴿لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً﴾ رجعة إلى الدنيا ﴿بَلَى﴾ جواب النفي المستكن في المعنى؛ لأن القائل حين يقول: ﴿لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي﴾ فإنه ينفي هداية الله تعالى له وينكرها؛ فقيل له جواباً لنفيه للهداية:
«بلى» أي نعم قد بيَّن الله تعالى لك طريق الهدى؛ بحيث صار في مقدورك، وفي متناول فهمك؛ و ﴿قَدْ جَآءَتْكَ آيَاتِي﴾ المحكمات البينات ﴿فَكَذَّبْتَ﴾ ولم تؤمن ﴿بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ﴾ عن اتباع سبيل المؤمنين ﴿وَكُنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ﴾ الضالين عن الرشد والهداية
﴿وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى اللَّهِ﴾ بنسبة الشريك والولد إليه ﴿وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ﴾ من غضب الله تعالى ونقمته ﴿أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى﴾ مأوى ﴿لِّلْمُتَكَبِّرِينَ﴾ عن الإيمان
﴿وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ بِمَفَازَتِهِمْ﴾ أي وينجي الله الذين اتقوا بسبب أعمالهم الصالحة؛ التي أدت إلى فوزهم ونجاتهم. والمفازة: المنجاة ﴿لاَ يَمَسُّهُمُ السُّوءُ﴾ العذاب، أو الخزي ﴿وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ بالحرمان من النعيم الذي يريدونه، والخير الذي يطلبونه
﴿وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ﴾ حافظ، وقائم، ومتصرف
﴿لَّهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ أي ملكهما؛ وذلك كقولهم: فلان تولى مقاليد الملك. والمقاليد: المفاتيح. أو هي الخزائن، أو الأبواب
﴿قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي﴾ تأمرونني؛ وبها قرأ ابن عامر
﴿لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ﴾ أي ليبطلن
﴿وَمَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ﴾ أي ما عرفوه حق معرفته، وما عظموه حق تعظيمه ﴿وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ أي تحت قبضته وقهره، وسيطرته وسلطانه ﴿وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ﴾ أي بقدرته؛ وقيل: هو على سبيل المجاز؛ أي أن السموات على عظمها وكبرها؛ فإنها تكون بالنسبة إليه تعالى كالشيء الصغير الحقير، الذي يطوى باليمين. وهو كناية عن قدرة الله تعالى، وإحاطته بجميع مخلوقاته. كما تقول: فلان لا يخرج من يدي، ولا ينفك من قبضتي ﴿سُبْحَانَهُ﴾ تنزه وتقدس
﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ﴾ وهو قرن ينفخ فيه إسرافيل عليه السلام؛ بأمر ربه ﴿فَصَعِقَ﴾ مات ﴿مَن فِي السَّمَاوَاتِ﴾ من مخلوقات وأملاك ﴿وَمَن فِي الأَرْضِ﴾ من الإنس والجن، وغيرهما من المخلوقات ﴿إِلاَّ مَن شَآءَ اللَّهُ﴾ وهم الشهداء؛ لأنهم ﴿أَحْيَاءٌ﴾ بعد موتهم ﴿عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾ وقيل: هم خواص الملائكة؛ كجبريل، وإسرافيل، وميكائيل، وعزرائيل؛ عليهم السلام
﴿وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ﴾ أضاءت أرض المحشر ﴿بِنُورِ رَبِّهَا﴾ بعدله وقضائه بين عباده ﴿وَوُضِعَ الْكِتَابُ﴾ الصحف التي فيها أعمال بني آدم؛ فمنهم آخذ بيمينه، ومنهم آخذ بشماله ﴿وَجِيءَ بِالنَّبِيِّيْنَ﴾ ليسألهم تعالى: ﴿مَاذَآ أَجَبْتُمُ﴾ ﴿وَالشُّهَدَآءِ﴾ فيشهدون لمن ذب عن دين الله تعالى، ودافع في سبيله
﴿وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ﴾ جزاء ﴿مَّا عَمِلَتْ﴾ من خير أو شر
﴿وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ﴾ وعصوا الرسول
-[٥٧٠]- ﴿إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً﴾ أفواجاً وجماعات ﴿قَالُواْ بَلَى﴾ أي نعم جاءتنا رسل ربنا ﴿وَلَكِنْ حَقَّتْ﴾ وجبت ﴿كَلِمَةُ الْعَذَابِ﴾ أي كلمة الله تعالى، المقتضية له؛ أو هي قوله تعالى ﴿لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ﴾
﴿فَبِئْسَ مَثْوَى﴾ مقام ﴿الْمُتَكَبِّرِينَ﴾ الكافرين
﴿وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ رَبَّهُمْ﴾ خافوا عقابه، وسعوا إلى رضوانه ﴿إِلَى الّجَنَّةِ زُمَراً﴾ أفواجاً وجماعات ﴿وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَآ﴾ حراسها من الملائكة ﴿سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ﴾ من دنس الذنوب والمعاصي؛ فاستحققتم الجنة، أو «طبتم» نفساً؛ بما أوتيتم من خير عميم، ونعيم مقيم ﴿فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ﴾ فيها، غير خارجين منها ﴿مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ﴾
﴿وَقَالُواْ الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ﴾ بالجنة ﴿وَأَوْرَثَنَا الأَرْضَ﴾ أي أرض الجنة ﴿نَتَبَوَّأُ﴾ نسكن ﴿مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَآءُ﴾ أي حيث نريد؛ فلا تثريب ولا تضييق، ولا منع ولا حجر {
محيطين ومحدقين
﴿مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ﴾ يقدسونه، وينزهونه عما لا يليق به ﴿وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ﴾ أي بين الخلائق جميعاً. وقيل: بين الملائكة؛ فهم - وإن كانوا كلهم معصومين من الخطأ والزلل - فإن ثوابهم يكون على حسب تفاضل أعمالهم؛ فتتفاوت بذلك مراتبهم ﴿وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ افتتح تعالى الخلق بالحمد: قال عز من قائل: ﴿الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ﴾ واختتمه أيضاً جل شأنه بالحمد: «وقيل الحمدلله رب العالمين».
570
سورة غافر

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

571
سورة الزمر
معلومات السورة
الكتب
الفتاوى
الأقوال
التفسيرات

سورةُ (الزُّمَر) من السُّوَر المكية، وقد جاءت بدلائلَ كثيرةٍ على وَحْدانية الله، واستحقاقه للألوهية، وذكَرتْ آياتٍ لله عز وجل في هذا الكون، وبيَّنت مآلَ مَن آمن واتقى، ومآلَ من عصى وكفَر بالله؛ مِن تقسيمِ الله لهم إلى زُمَرٍ: زُمْرة إلى الجنة والسعادة، وزُمْرة إلى النار والشقاء، وقد أُثِر عن النبي صلى الله عليه وسلم قراءتُه لسورة (الزُّمَر) قبل النوم.

ترتيبها المصحفي
39
نوعها
مكية
ألفاظها
1177
ترتيب نزولها
59
العد المدني الأول
72
العد المدني الأخير
72
العد البصري
72
العد الكوفي
75
العد الشامي
73

* قوله تعالى: {يَٰعِبَادِيَ اْلَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ اْللَّهِۚ إِنَّ اْللَّهَ يَغْفِرُ اْلذُّنُوبَ جَمِيعًاۚ إِنَّهُۥ هُوَ اْلْغَفُورُ اْلرَّحِيمُ ٥٣ وَأَنِيبُوٓاْ إِلَىٰ رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُواْ لَهُۥ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ اْلْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ ٥٤ وَاْتَّبِعُوٓاْ أَحْسَنَ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ اْلْعَذَابُ بَغْتَةٗ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ} [الزمر: 53-55]:

عن عُمَرَ بن الخطَّابِ رضي الله عنه، قال: «لمَّا اجتمَعْنا للهجرةِ، اتَّعَدتُّ أنا وعيَّاشُ بنُ أبي ربيعةَ وهشامُ بنُ العاصِ المِيضأةَ، مِيضأةَ بني غِفَارَ فوقَ سَرِفَ، وقُلْنا: أيُّكم لم يُصبِحْ عندها فقد احتبَسَ؛ فَلْيَمضِ صاحِباه، فحُبِسَ عنَّا هشامُ بنُ العاصِ.

فلمَّا قَدِمْنا مَنزِلَنا في بني عمرِو بنِ عوفٍ، وخرَجَ أبو جهلِ بنُ هشامٍ والحارثُ بنُ هشامٍ إلى عيَّاشِ بنِ أبي ربيعةَ، وكان ابنَ عَمِّهما وأخاهما لأُمِّهما، حتى قَدِمَا علينا المدينةَ، فكلَّماه، فقالا له: إنَّ أُمَّك نذَرتْ ألَّا تَمَسَّ رأسَها بمُشْطٍ حتى تَراكَ، فرَقَّ لها، فقلتُ له: يا عيَّاشُ، واللهِ، إن يريدُك القومُ إلا عن دِينِك؛ فاحذَرْهم؛ فواللهِ، لو قد آذى أمَّك القَمْلُ لَامتشَطتْ، ولو قد اشتَدَّ عليها حرُّ مكَّةَ، أحسَبُه قال: لاستَظلَّتْ، قال: إنَّ لي هناك مالًا فآخُذُه، قال: قلتُ: واللهِ، إنَّك لَتَعلَمُ أنِّي مِن أكثَرِ قُرَيشٍ مالًا؛ فلك نصفُ مالي، ولا تَذهَبْ معهما، فأبى إلا أن يخرُجَ معهما، فقلتُ له لمَّا أبى عليَّ: أمَا إذ فعَلْتَ ما فعَلْتَ، فخُذْ ناقتي هذه؛ فإنَّها ناقةٌ ذَلُولٌ؛ فالزَمْ ظَهْرَها، فإن رابَك مِن القومِ رَيْبٌ، فانْجُ عليها.

فخرَجَ معهما عليها، حتى إذا كانوا ببعضِ الطريقِ، قال أبو جهلِ بنُ هشامٍ: واللهِ، لقد استبطأتُ بعيري هذا، أفلا تَحمِلُني على ناقتِك هذه؟ قال: بلى، فأناخَ وأناخَا؛ ليَتحوَّلَ عليها، فلمَّا استوَوْا بالأرضِ عَدَيَا عليه، فأوثَقاه، ثم أدخَلاه مكَّةَ، وفتَنَاه فافتتَنَ، قال: فكنَّا نقولُ: واللهِ، لا يَقبَلُ اللهُ ممَّن افتتَنَ صَرْفًا ولا عَدْلًا، ولا يَقبَلُ توبةَ قومٍ عرَفوا اللهَ ثم رجَعوا إلى الكفرِ لبلاءٍ أصابهم.

قال: وكانوا يقولون ذلك لأنفسِهم، فلمَّا قَدِمَ رسولُ اللهِ ﷺ المدينةَ، أنزَلَ اللهُ عز وجل فيهم وفي قولِنا لهم وقولِهم لأنفسِهم: {يَٰعِبَادِيَ اْلَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ اْللَّهِۚ إِنَّ اْللَّهَ يَغْفِرُ اْلذُّنُوبَ جَمِيعًاۚ إِنَّهُۥ هُوَ اْلْغَفُورُ اْلرَّحِيمُ} [الزمر: 53] إلى قولِه: {وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ} [الزمر: 55].

قال عُمَرُ: فكتَبْتُها في صحيفةٍ، وبعَثْتُ بها إلى هشامِ بنِ العاصِ، قال هشامٌ: فلَمْ أزَلْ أقرَؤُها بذِي طُوًى أصعَدُ بها فيه حتى فَهِمْتُها، قال: فأُلقِيَ في نفسي أنَّها إنَّما نزَلتْ فينا، وفيما كنَّا نقولُ في أنفسِنا، ويقالُ فينا، فرجَعْتُ فجلَسْتُ على بعيري، فلَحِقْتُ برسولِ اللهِ ﷺ بالمدينةِ». أخرجه البزار (١٥٥).

* قوله تعالى: {وَمَا قَدَرُواْ اْللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِۦ وَاْلْأَرْضُ جَمِيعٗا قَبْضَتُهُۥ يَوْمَ اْلْقِيَٰمَةِ وَاْلسَّمَٰوَٰتُ مَطْوِيَّٰتُۢ بِيَمِينِهِۦۚ سُبْحَٰنَهُۥ وَتَعَٰلَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر: 67]:

عن عبدِ اللهِ بن مسعودٍ رضي الله عنه، قال: «أتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم رجُلٌ مِن أهلِ الكتابِ، فقال: يا أبا القاسمِ، أبلَغَك أنَّ اللهَ عز وجل يَحمِلُ الخلائقَ على إصبَعٍ، والسَّمواتِ على إصبَعٍ، والأرَضِينَ على إصبَعٍ، والشَّجَرَ على إصبَعٍ، والثَّرى على إصبَعٍ، قال: فضَحِكَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم حتى بدَتْ نواجذُه، قال: فأنزَلَ اللهُ تعالى: {وَمَا قَدَرُواْ اْللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِۦ وَاْلْأَرْضُ جَمِيعٗا قَبْضَتُهُۥ يَوْمَ اْلْقِيَٰمَةِ} [الزمر: 67] إلى آخرِ الآيةِ». أخرجه البخاري (٧٤١٥).

* سورة (الزُّمَر):

سُمِّيت سورةُ (الزُّمَر) بهذا الاسم؛ لأنَّ اللهَ ذكَر فيها زُمْرة السُّعداء من أهل الجنة، وزُمْرة الأشقياء من أهل النار.

* كان صلى الله عليه وسلم لا ينامُ حتى يَقرأَ (الزُّمَر):

عن عائشةَ أمِّ المؤمنين رضي الله عنها، قالت: «كان النبيُّ ﷺ لا ينامُ حتى يَقرأَ الزُّمَرَ، وبني إسرائيلَ». أخرجه الترمذي (٣٤٠٥).

1. القرآن تنزيلٌ من الله تعالى، والعبادة له وَحْده (١-٤).

2. آيات الله تعالى في الآفاق والأنفس (٥-٧).

3. مقارنة بين المؤمن والكافر (٨-٩).

4. إرشادٌ للمؤمنين، ووعيد لعبَدةِ الأصنام (١٠-٢٠) .

5. دلائل وَحْدانية الله تعالى، وقُدْرته (٢١).

6. حال المؤمنين مع القرآن، عذاب الكافرين (٢٢-٢٦).

7. ضَرْبُ الأمثال للتذكير (٢٧-٣١).

8. وعيدٌ للمشركين، ووعد للمؤمنين (٣٢-٣٧).

9. ضَلال المشركين، وتهديد الله لهم (٣٨-٤٠).

10. مظاهر قدرة الله تعالى (٤١-٤٨).

11. الإنسان بين الضَّراء والسَّراء (٤٩-٥٢).

12. دعوة للرجوع إلى الله تعالى (٥٣-٥٩).

13. دلائلُ ألوهية الله تعالى، ووَحْدانيته (٦٠-٦٧).

14. أهوال الآخرة، ومآل الأشقياء والسُّعداء (٦٨-٧٥).

ينظر: "التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (6 /478).

مقصدُ سورة (الزُّمَر) هو الدَّلالة على صِدْقِ الله عزَّ وجلَّ في وعدِه؛ فحاشاه أن يفُوتَه شيء، أو أن يُخلِفَ وعدَه، وقد أعذَرَ إلى الكفار بإنذارِهم بالحشر، وهو واقعٌ حاصل بتقسيم الناس إلى زُمَرٍ على ما يستحِقُّون من أعمالهم: زُمْرة المتقين الأبرار، وزُمْرة الكفار الأشرار.

ينظر: "مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور" للبقاعي (2 /423).