ﰡ
والوصف الثاني أنه كتاب مبين أي بين في ذاته، ومبين لكل ما اشتمل عليه من دلائل التوحيد، ودلائل النبؤة وأحكام شرعية، وهداية للناس، كما قال تعِالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (٥٧).
وقد ذكر سبحانه وصفا ثالثا ورابعا، فقال تعالى:
أي أنه هو ذاته يهدي فهو بإعجازه وبلاغته وعباراته المحكمة، يهدي النفوس الطالبة للحق المهتدية التي تتجه إلى الحق، كما تتجه إبرة البوصلة إلى قطبها، فهو في ذاته هداية، وهو أيضا مشتمل على الهداية، ففيه دعائم التوحيد، وصور الكون الهادية، وآيات اللَّه البينات في الأحكام الشرعية، والمواعظ والعبر، وقصص الماضين من الأنبياء، وإن في قصصهم لعبرة لأولي الأبصار. والقرآن نور لَا يرى نوره إلا المبصر، وغذاء للأرواح، ولكن لَا يتغذى به إلا الأصحاء، وشفاء، ولكن لا يشفى به إلا من كان قابلا للشفاء، ولذا قال فيمن ينتفعون ببشراه، وهي الوصف الثاني الذي معناه أنه يبشر المؤمنين بالجنة والنعيم فقال: للمؤمنين.
وقد قال - عز من قائل - من بعد ذلك في التعريف بالمؤمنين.
ذكر للمؤمنين أمورا ثلاثة هي:
الصفة الأولى: أنهم يقيمون الصلاة، أي يؤدونها، مستوفية أركانها الحسية والروحية، والمصلي يستشعر عظمة اللَّه تعالى وجلاله، ويحس أنه في حضرة اللَّه تعالى، وذلك كله يتضمنه معنى الإقامة؛ لأن الإقامة إقامة الشيء مستويا مستقيما
والصفة الثانية: أنهم يؤتون الزكاة، وهي الفريضة المادية الروحية، والتي يقوم عليها التعاون الاجتماعي بين الغني والفقير، ولذا سميت الزكاة بالماعون، أي ما يكون به العون، كما قال تعالى في وصف الضالين: (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (٤) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (٥) الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (٦) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (٧).
والماعون هو الزكاة التي هي أساس للتعاون الإنساني.
والصفة الثالثة: وهي الأصل للأوليين، وهي الإيمان باليومِ الآخر، فهو لب الدين، وهو توجيه الإنسان إلى حقيقة معناه فقال سبحانه (وهُم بالآخرَة هُمْ يُوقِنُونَ).
بالآخرة - تتعلق بالفعل يوقنون، أي يؤمنون مذعنين غير مترددين؛ لأن العلم اليقيني يدفع الإنسان إلى عمل الخير، ولو كان تناله المشقة منه في الحياة، فإن ذلك يكون دافعا إلى الاستمرار مؤمنا بأن جزاءه يستقبله، وكلما زادت المشقة فيه، زاد الأجر، وما عند اللَّه خير وأبقى.
ولقوة هذه الخصلة الكريمة للمؤمنين وكونها لب الإيمان أكد اللَّه تعالى إيمان المؤمنين باليوم الآخر بعدة مؤكدات، أولها بتقديم الجار والمجرور، وثانيها بالجملة الاسمية، وذكر ضمير الفصل مرتين في صدر الجملة. وآخرها.
وقد ذكر سبحانه ببد ذلك حال الذين لَا يؤمنون بالآخرة، فقال سبحانه وتعالت كلماته:
أكد سبحانه أن الذين لَا يؤمنون بالآخرة لهم في الدنيا أمران أحدهما سبب للآخر، ولهم في الآخرة سوء العذاب، وهم في الآخرة هم الأخسرون.
والعمه: التردد والحيرة، أي ترتب على أن أعمالهم زينتها لهم نفوسهم، أن صاروا في حيرتهم لفطرتهم السليمة التي تريهم الحق حقا، والباطل باطلا، وتزين نفوسهم للباطل حقا، وللحق باطلا، فتكون الحيرة بين الفطرة الهادية والشر المتحكم، والضلال المظلم.
وقد أكد اللَّه سبحانه وتعالى هذه الحال بمؤكدات: أولها بـ إن المؤكدة، وبإضافة التزيين إليه سبحانه، وأن ما يريده الله لَا يتخلف، ولا يمكن أن يتخلف، ولكن التزيين ابتدأ من أنفسهم، وتمكن الشيطان منهم وإغوائهم، وقد ذكر سبحانه بعد وصف حالهم في الدنيا، وهو أن الدنيا تكون لهم مضطربا فسيحا، فإن من الحيرة والاضطراب حالهم في الآخرة، فذكر أمرين أولهما سوء العذاب، وثانيهما أنهم وحدهم الأخسرون، فقال:
الإشارة إلى المتصفين بعدم الإيمان باليوم الآخر، وتزيين العمل السيئ لهم، فحسبوه حسنا، وما هو بحسن، وهذه الأحوال هي سبب العذاب لأن ذكر الإشارة إلى الصفات يومئ إلى أن هذه الصفات هي سبب الحكم، وسوء العذاب هو العذاب الذي يسوء النفوس، ويشوي الوجوه، وهو النار الدائمة، والعذاب المقيم الدائم ما شاء الله تعالى أن تدوم، خالدين فيها أبدا. وقال اللَّه تعالى في بيان حالهم: (وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ) الأخسرون جمع أخسر، وهو أفعل تفضيل على غير بابه، أي هم الذين خسروا خسارة ليس فوقها خسارة أبدا، وفيه تأكيد للقول الكريم، وقد أكد ثانيا بـ (هم) التي تكررت، وأكد ثالثا بالقصر لتعريف الطرفين، أي هم وحدهم الأخسرون، ولا يخسر أحد سواهم.
بعد ذلك بين اللَّه تعالى معدن الهداية، وهو القرآن الكريم فقال:
وتلقى معناها يلقى إليك بقوة فتلقاه راضيا بقوة متحملا ما يوجبه تحمله وتلقيه من صبر دائم، وجهاد مستمر ومصابرة لأعدائه، وتلقيه هو من عند اللَّه تعالى الحكيم الذي يعطي كلاما هو صالح، وهو عليم بالنفوس يطب لأدرانها بما يزيل أسقامها.
وهو وصف للقرآن الكريم باحكم الصفات وأعمقها في معناها.
فهو أولا من عند اللَّه، ولا يجيء من عند اللَّه إلا ما هو خير، وقد شرفه اللَّه تعالى بذلك الذي لَا يقدر قدره، وهو الحكيم الذي يشرع للناس ما يصلحهم في معادهم ومعاشهم، وما يجمع ويصلح، ولا يفرق ويشتت، وهو العليم بكل شيء، قد أحاط بكل شيء علما.
وقد أكد اللَّه تعالى القول، بخطاب النبي، وحمله عبء القرآن الكريم.
* * *
قال تعالى:
(إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (٧) فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (٨) يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٩) وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (١٠) إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (١١) وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (١٢) فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (١٣) وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (١٤)
* * *
ونجد أن قصة موسى هنا في جملتها ليست مكررة مع غيرها، وقد فصلت جزءا لم يفصل في موضع آخر، فصل فيه بعض حياته مع أهله، وفصل فيه لقاءه
كان موسى وأهله في ليلة ليلاء قرور شديد بردها، يلتمسون ما يستدفئون من نار، فنظر في الجو، فحسب أنه رأى نارا فقال لأهله: إني آنست نارا أي رأيت نارا قال وهو يتمناها، ويرعاها، كقوله تعالى: (فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ)، (سَآتِيكُم مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُم بِشِهَاب قَبَسٍ) أي إني ذاهب إليها لعلِّي آتيكم منها بخبر نستفيد منه علم ما لم نكن نعلم، أو شهاب، والشهاب هو الشعلة المشتعلة من نجم أو نار أو نحوها - وقبس بدل أو عطف بيان، والقبس هو القطعة من جذوة النار، أي آتيكم بقطعة من النار شديدة الاشتعال فنلقيها حول أحطاب نستدفئ منها، وهذا معنى (لعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ) أي تستدفنون بها، فيقال من صلى قلبت التاء طاء؛ لأنها من حروف الإطباق أي رجاء أن تستدفئوا، ومؤدى ذلك أنهم كانوا في برد شديد، وهكذا عاش من تربى في بيت فرعون فهو يذوق الحر والبرد في صحراء، في هذا الوقت، وفي هذه
الشديدة، بعث موسى عليه السلام.
(مَن) هنا للعاقل، فالبركة ليست في شيء يتعلق بما يلهبها، إنما البركة والنماء والزيادة فيمن هو ذاهب إلى النار، ويوشك أن يكون فيها، وهو كليم اللَّه تعالى موسى عليه السلام؛ ولأنها بقعة مباركة فيها الملائكة، واختار اللَّه تعالى أن يخاطب نبيه الكليم الأمين فيها، عليه وعلى نبينا أزكى السلام.
والبركة نماء الخير وزيادته، وجعلت البركة في النار؛ لأن النار سبب مجيء موسى إليها، فهو جاء على أنها نار، وليست شجرة مباركة خضراء، ولذا فسر بعض المفسرين النار بأنها النور، وكذلك كانت تلك الشجرة الخضراء نورا إذ بعث فيها رسول من أولي العزم من الرسل، وهو موسى عليه السلام.
وختم اللَّه سبحانه وتعالى الآية الكريمة بتسبيح اللَّه الواجب على عباده، فقال (وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) أي التسبيح الخالص للَّه رب العالمين الخالق والمنعم عليهم بربوبيته الكاملة سبحان، ولا يدركها إلا العالمون العقلاء المدركون إن استقامت مداركهم، واتجهوا إلى الحق وحده غير مضطربين، ولا معوجين، وأن في قوله (أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا) هي تفسير للنداء من الحق جل جلاله، فالنداء هو ذكر اللَّه تعالى لهذه البركة النامية المتجددة في كل حين.
النداء المتكرر من اللَّه تعالى لكليمه موسى عليه السلام ليؤنسه بذاته العلية، وليشعر بنصرته له أمام من سيرسل إليه، وهو فرعون طاغية الأرض في عصره، ومن تأله، وملك أخصب أرض اللَّه تعالى، وكان يقول أليس لي ملك مصر، وهذه الأنهار تجري من حولي.
الضمير في (إِنَّه) ضمير الشأن (أَنَا اللَّه) تدل على قصر الألوهية على ذاته العلية، وذلك بتعريف الطرفين، فليس فرعون الذي تذهب إليه إلها أو شبه
ولكن موسى يود أن يطمئن إلى أن اللَّه تعالى هو الذي يخاطبه ويمنحه ذلك الشرف، ولذا أمره بأن يلقى عصاه حجة تدل على أن اللَّه تعالى هو الذي يخاطبه، فقال:
كان موسى في حال من يكون في حيرة من أمره، يخاطبه اللَّه، فاللَّه جل جلاله أزال عنه هذه الخشية، بدليل قاطع يدل على أن اللَّه تعالى يخاطبه، وأنه رسول من عنده، بالعصا - ألقاها، فتحولت العصا إلى شيء يهتز ويضطرِب كأنه حية تسعى، والجان هنا حية تهتز وتتحرك، فلما رآها كذلك (وَلَّى مُدْبِرًا)، أي سائرا إلى الخلف، وظهره كأنه وجهه ولم يعقب، أي لم يرجع، كالجندي الذي يقاتل يرتد إلى الوراء ليحسن الهجوم، فيعقب على خصمه يضربه، ولكن رجوع موسى عليه السلام كان رجوع الخائف الفزع الوجل، ليس من شأنه أن يقدم بعد إحجامه، بل يحجم لغير غاية، ولذا قال تعالى عالما بخوفه: (لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ) أمره سبحانه بألا يخاف تأنيا له وتقريبا، وبيانا له بأنه كالئه وحاميه، ولا يخاف من اللَّه ناصره، وقال تعالى ما هو بمنزلة السبب للنهي (إِنِّي لا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ) إني لَا يمكن أن يخاف عندي المرسلون؛ لأني مانع كل شر عنهم، ولا يمكن أن ينالهم عندي إلا الأمان الذي لَا يكون بعده أمان، فكيف تخاف، وأنت في حضرة المولى جل جلاله، ثم فوق ذلك أنت مرسل من قبلي
للدعوة إلى الهداية، وكيف يخاف مرسل أرسله مع المرسلين.
الاستثناء هنا استثناء منقطع، فما كان ثمة في الآية السابقة رمي بسوء حتى يكون الاستثناء، فيتعين أن يكون منقطعا بمعنى لكن من ظلم، بقتله نفسا بغير حق، ولكن كانت ظالمة عاتية، ثم تاب عما ارتكب، ولم يكتف بالتوبة المجردة، بل اتجه إلى الخير مستقيما مدركا، وبدل حسنا بعد سوء، أي وضع في تصرفاته مكان السوء حسنا فإن اللَّه يغفر له لأنه غفور من شأنه المغفرة الدائمة لمن تاب، رحيم دائم الرحمة بأناس ومن شأن الرحيم أن يتقدم عباده لعباده بفعل الخير رحمة بالناس لكي يسود الخير بينهم.
والفاء في قوله تعالى: (فَإِنِّي غَفورٌ) واقعة في جواب مَنْ؛ لأنها شرط أو في معنى الشرط، و (ثم) للتراخي، لأنه ثمة تراخ بين الظلم والغفران.
وذكر سبحانه معجزة أخرى لموسى
هذه آية أخرى ليأنس موسى ربه، وأنه الذي خاطبه، وأنه رسول من رب العالمين إلى الناس، وهي أن يدخل يده في جيب قميصه بلونها الطبيعي الظاهر، المتوافق مع سائر جسمه، ويخرجها من الجيب فيراها بيضاء ناصعة البياض من غير سوء من بهق أو نحوه، وتلك آية أخرى هي واحدة من تسع آيات إلى فرعون وقومه، ثم ذكر ما يدل على العناية بهم في الاستدلال بتسع، إنهم كانوا قوما فاسقين، و (كانوا) تدل على استمرارهم في التوغل في الفسق، وهو الخروج عن كل معقول، ورفض كل مقبول، وأنهم قوم لَا يفقهون حديثا.
(فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (١٣) وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (١٤)
وهم في هذا الادعاء كانوا ضالين يدركون الحقائق، وتذعن أفهام لها، ولكنهم يجحدونها، وهي بينة واضحة يذعن لها أهل الحق، ولذا قال تعالى في حالهم
والجحود نفي ما يثبت في العقل، وإثبات ما ينفي في العقل، فهؤلاء يجحدون الحق بعقولهم وأقوالهم، ولكن نفوسهم مستيقنة لأنها لَا سبيل لها لأن تنكر وتجحد، فهم بتوارد الأدلة المختلفة، وتكاثرها؛ ولأن نفوسهم فطرية يستيقنون ويذعنون ولكن يعارضهم جو عام وبيء، فنفوسهم مستيقنة بالحق، وتذعن له لولا مقاومة التيارات الفاسدة التي تدفعهم إلى الجحود دفعا.
وقد بين سبحانه وتعالى ذلك مشيرا إليه بأنه الظلم، فقال: (ظُلْمًا وَعُلُوًّا)، وهما مفعول لأجله، من فعل (وجحدوا)، أي جحدوا وأنكروا، وخالفوا نفوسهم، وفطرتهم، لأجل الظلم، أي استمرارهم في الظلم والطغيان، ومعاضدتهم لفرعون في ظلمه وعدوانه وإرادتهم العلو في الأرض، وقد أدى ذلك
* * *
من قصة سليمان
قال تعالى:
(وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (١٥) وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (١٦) وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (١٧) حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (١٨) فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ (١٩) وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ (٢٠) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ
* * *
أتينا بما ذكر القرآن الكريم من قصة سليمان في سورة النمل، وقد ذكرناها كلها جملة واحدة، وقد ذكر سبحانه قصة سليمان وأشار إلى قصة أبيه داوود عليهما السلام، وكانا ملكين قد أعطاهما اللَّه تعالى سلطانا وعلما، ليعلم ما يجب أن يكون عليه الحكام من أخلاق، قال تعالى:
الواو لاستئناف قصة نبيين من الأنبياء امتازا بتمكين اللَّه تعالى لهما في الأرض بما لم يكن مثله لأحد من الأنبياء قبلهما، فقد كان إبراهيم وأبناؤه من الأنبياء يقاومون الملوك الظالمين، وقد رأينا فيما قصه اللَّه تعالى علينا من قصة موسى كيف كان يقاوم فرعون، وأتاه بتسع آيات بينات فما ارتدع وآمن، حتى أغرقه الله، فقال عند الغرق الآن آمنت برب هارون وموسى وبني إسرائيل، وليست هذه توبة (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (١٧) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (١٨).
أما داوود وسليمان فقد كانا ملكين، وإذا كانت الملوك الذين بعثا فيهم الأنبياء صورة للعصاة المنحرفين عن الحق فقد كان داوود وسليمان صورة عالية للملك الذي يخاطبه الوحي ويهديه ويرشده، كما قال تعالى لداوود: (يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ).
وقوله تعالى: (وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا) أكد اللَّه سبحانه أنه أعطى داوود وابنه سليمان علما، باللام وبـ قد فإنها تدل على التحقيق، ونكَر سبحانه (عِلْمًا) للإشارة إلى أنه علم عظيم لَا يقدر قدره، فقد أعطى داوود علم القيادة، وعلم إدارة الدولة، وعلم صناعة أدوات كما قال تعالى: (وَعَلَّمْنَاهُ صنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكمْ لِتُحْصِنَكُم مِّنْ بَأسِكُمْ)، وأعطى سليمان علم منطق الطير، كما ستشير الآيات لذلك، وعلم الابن ثمرته تعود على الأب، فهو شخصه ممتد، وكسبه كَسْبٌ له كما هو مقرر بحكمِ الفطرة، ولذلك حمدا اللَّه على ما آتاهما من فضله: (وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ) وكان التفضيل أولا بالعلم، وثانيا بالسلطان والحكم، وهذا يستوجب الحمد والشكر لَا الظلم والطغيان، ونقول إن اللَّه أعطاهما الذي أعطاه، وهو نعمة، وتكليف، فالمؤمن يحسب النعمة تكليفا، والتكليف بالنسبة للحكام العدل، وقد قص سبحانه وتعالى
ذكر اللَّه تعالى وراثة سليمان لأبيه في ملكه، فقد ورث هذا السلطان، ولم يرث الرعية، فالرعية لَا تورث ولا يمكن أن تورث، وهذا خطأ بعض الذين تولوا الملك بالوراثة، فحسبوا أن الرعية شيء يورث، إنما الذي يورث هو الحكم ولا يكون إلا بوراثة يقرها الشرع، كوراثة سليمان لداوود، وقد أباحها الحكم الرباني ليجتمع شمل بني إسرائيل أمام من ظلموهم، وأرهقوهم من أمرهم عسرا.
أخذ سليمان يبين لقومه ما أعطاه اللَّه تعالى من مؤهلات الحكم، وما اختصه فقال: (يَا أَيُّهَا النّاس عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ)، أي علم لغة الطير، وعرف ما تدل عليه أصواتها من معان تقصدها وتريدها، وذلك يدل على مقدار تمكين اللَّه تعالى له في ملكه وفي سلطانه عليهم، وأن الطير والدواب أمم أمثالنا لها لغة ولها منطق وعبارات مفهومة، كما قال تعالى: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (٣٨).
وقد ذكر الضمير ضمير الجمع لبيان مكانته من السلطان، وما أعطاه اللَّه من قوة، وذكر أنه لم يؤته اللَّه تعالى منطق الطير فقط، بل آتاه من كل شيء ولذا قال اللَّه تعالى عنه: (وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ) أي من كل شيء علما، فعلمنا منطق النمل، ومنطق الأحياء كلها، وأوتينا علم القيادة، وعلم الحكم العادل، والضمير ضمير الجمع لبيان سيطرة السلطان العادل، وقيل الضمير له ولأبيه، ولكن لم يرد في القرآن ما يدل على معرفة داوود منطق الطير، والنمل، وغيرهما من الأحياء، واللَّه ذو الفضل العظيم، ولذا قال: (إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ) أي أن هذا العلم لهو الفضل الواضح المبين للحق والسلطان، وقد أكد سبحانه فضل اللَّه تعالى عليه، وعلى أبيه من قبله بـ أن، وباللام، وبضمير الفصل.
جمع سليمان جنده، وقال تعالى في هذا الجمع:
حشر: أي جمع لسليمان جنوده، ولم يكونوا من الإنس فقط، بل كانوا من الجن والإنس، والجن هم من العالم الذي لَا يرى في الظاهر، ولا غرابة في ذلك فإن الذي علمه منطق الطير، يمده بالجن والإنس، وقد يقال: إن المراد بالجن طوائف من الناس ليسوا في أرضه، ولكنهم جاءوا إليه مناصرين له، فهم يوزعون، الفاء: للإفصاح التي تفصح عن شرط مقدر، أي إذا اجتمعوا فهم لم يكونوا مفرقين غير محكومين ولا مضبوطين، بل كانوا مدفوعين، إلى التجمع المنظم طوائف، بل كانوا متحرفين للقتال: جاء في مفردات الراغب الأصفهاني في كلمة وزع: قال وزعته عن كذا كففته عنه قال تعالى: (وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ) إلى قوله تعالى: (فَهُمْ يُوزَعُونَ) فقوله (يُوزَعُونَ) إشارة إلى أنهم مع كثرتهم وتفاوتهم لم يكونوا مهملين، ومبعدين، كما يكون الجيش الكثير المتأذى بمعرفتهم، بل كانوا مسومين ومقموعين، وقيل في قوله يوزعون أي حبس أولهم على آخرهم.
والمعنى الجملي لهذا أن هذا الجيش الذي جمع القريب والبعيد والمؤتلف والمختلف قد كان مسوسا، ملسِّما بقيادة حكيم، وقد سار الجيش سيرا حثيثا، وأحس به النمل، فتكلم ليرتب أمره، فقال تعالى عنهما.
أتوا: بمعنى أقبلوا على وادي النمل، ولذا كان التعدي بـ على، وقالوا إنه واد بالشام، ونقول: إن كل أرضي فيها النمل، ويتخذ له مكانا يقيم فيه، ويكون كالوادي له، وحطم معناها كسر، ومعنى (لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وجُنُودُهُ)، أي ليسير من فوقكم، فيحطم عظامكم، وقد أكدت النملة القول بما يشبه القسم، ولذا كانت اللام وكانت نون التوكيد الثقيلة، وأسندت الحطم أولا لسليمان باعتباره قائد
سمع سليمان كلامها:
و (ضَاحِكًا) حال مؤكدة لمعنى القسم، وهو يتضمن معنى التعجب من حرصها واهتدائها إلى النتيجة لمرور الجيش عليها، وعلى صواحبها، وإن ذلك دفعه لأن يتجه إلى ربه الذي أعطاه وأباه ما أعطى فقال: (رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ).
لم يغتر، ولم يفخر، ولم يفاخر، بل عرف حق النعمة واتجه إلى شكرها، ودعا ربه ثلاثا.
أولا: ضرع إلى ربه أن يدفعه، فقال أوزعني أي ادفعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت بها على، وعلى والديَّ، فإن هذه نعمة تحتاج إلى الالتجاء إليك لأتمكن من شكرها، وهي عليَّ، وعلى والديَّ فقد كان نبيا آتيته ما آتيت ولده سليمان، فكان ما أنا فيه نعمة عليَّ وعليه.
ثانيا: دعا ربه أن يوفقه للخير فقال: (وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ)، أي أن أعمل عملا هو صالح في ذاته وأن ترضاه بأن يكون خاليا من كل غرض غير رضاك سبحانك، إنك أنت المعطي، والمانع.
ثالثا: أن يكون في ضمن عباد الله الصالحين، فقال: (وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ)، أي أن الدخول في الصالحين من عباده سبحانه هو برحمته سبحانه، لَا بعمل قدمه، فكل عمل هو من فضله، وكل جزاء هو من رحمته.
رأى من النملة ما رأى، وكان بعد ذلك الطير.
(وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ (٢٠) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (٢١)
يظهر أنه كان عند طائفة من الطير يتعهدها، ويسألها عن مآل أمرها،
والفاء في قوله تعالى: (فَقَالَ) هي فاء الإفصاح، أي إذ تعهد الطير لم يجد الهدهد وإذ لم يجده فقال:
ولكن الهدهد كان ماكثا في مكان غير بعيد.
(فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (٢٢) إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (٢٣)
وقد أكد كلامه باللام وقد، وقال إنها تملكهم للإشارة إلى أن خضوعهم لها كخضوع العبيد لمن يملكهم، وبني للمجهول إيتاؤها كل شيء، وهذا يفيد أن قومها آتوها أمرهم، ووضعوا رقابهم تحت سلطانها. وسبأ من خير أرض اللَّه تعالى وأمكنها بخيراته، وقد قال تعالى فيها وفيهم: (لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (١٥) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (١٦) ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ (١٧)، ويقول الحافظ ابن كثير: وسبأ هم حمير وفيهم ملوك اليمن والمرأة التي كانت تحكمهم. هي بلقيس بنت شرحبيل وكانت ملكة لسبأ.
وقال الهدهد الخبير الصادق الأمين:
(وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ (٢٤) أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (٢٥) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (٢٦)
وذلك لاستيلاء الشيطان على قلوبهم، ولذا قال عز من قائل: (وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ).
إنه من الحقائق النفسية الثابتة أن أول الشر استحسانه، فالشيطان يزين أعمال السوء للفاعل ويحسنها له، ويظن أنها الخير وحدها، وأن ما عداها باطل، وفرق بين المهتدي وغير المهتدي، أن من هداه اللَّه يميز الخبيث من الطيب، فلا يتردى في باطل، وإن تردى فيه سرعان ما يعود إلى الحق، ولا يقبل وسوسة الشيطان بالشر، وليس قلبه موضع لتزيينه، ثم قال (فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ)، أي أنهم بسبب تزيين الشيطان لهم قد مكنوه من أنفسهم، فصدهم عن السبيل، أي لعلهم يعرضون عن الطريق المستقيم في ابتدائه، ومن ضل في أول الطريق سار في ضلال إلى آخره، ولذا قال مرتبا على ذلك: فهم لَا يهتدون، أي فهم يسيرون في ضلال غير مهتدين إلى الحق إلى النهاية، حتى يكون الحساب والعقاب:
(أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (٢٥) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (٢٦)
يصح أن نقول إن قوله تعالى:
والمعنى كان ذلك التزيين والصد وعدم الاهتداء في ذاته لأن لَا يهتدوا إلى عبادة الخالق الذي يخرج الخبء في السماوات والأرض.
ويصح أن نقول: إنه متعلق بـ (زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ) أي أنه حسن ذلك في قلوبهم ليصرفهم عن السبيل، ويكون التركيب هكذا زين لهم ألا يهتدوا إلى عبادة اللَّه تعالى الذي يخرج الخبء.. إلى آخره.
وصف اللَّه تعالى المعبود بحق بثلاث صفات هي أعلى الصفات لواجب الوجود، وكل صفاته عليا.
الصفة الأولى: أنه هو الذي يخرج خبء السماوات بالمطر الذي ينبت الزرع والنخيل والأعناب، ويخرج به خبء الأرض، بفلق الحب والنوى، وإخراج المتراكب الذي يكون به غذاء الأحياء.
الصفة الثانية: أنه يعلم ما يسر وما يعلن الإنسان، فهو عليم بحاله في حركاته وسكناته، وما يفعل من خير وشر، ومجازيه على كل ما يفعل، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، وفيها تبشير بالجزاء، وإنذار بالعقاب.
الصفة الثالثة: أنه لَا إله إلا هو، فهو وحده المتصف بصفات الكمال التي توجب عبادته، وهو صاحب السلطان رب العرش العظيم.. صاحب السلطان الكامل في هذا الوجود.
سمع سليمان الملك العظيم الذي آتاه اللَّه تعالى علم منطق الطير والنمل، وسائر الأحياء كما يبدو من عظم حكمه، وتكميل اللَّه تعالى لسلطانه، فلم يحكم بمجرد السماع، بل قال كما حكى اللَّه تعالى عنه:
كان سليمان ملكا حكيما لا يجعل علمه قيما يقضى فيه من سمعه فقط، فإن ذلك أضل الملوك، وهو الذي يوصف بأنه أُذُنٌ فتكون الحاشية وليه الذي يسيطر عليه، ولذا قال للهدهد: سننظر أي أننا نؤكد أننا سننظر في حقيقة ما جئت به إلينا، أصدقت أم كنت من الكاذبين. الاستفهام فيه إيماء إلى تغليب
وانتقل نبي الله الملك، إلى مقام التيقن فقال له:
كما كان الهدهد هو المخبر بحالهم جعله حاملا رسالته إليهم قال له: (اذْهَب بِكتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ) والجار والمجرور متعلق بمحذوف تقدير القول فيه، فَأَلْقِهْ موصلا له إليهم.
ولم يتعرض القرآن لبيان طريق توصيل كتاب سليمان إليهم، وقد قيل إنه أوصله من الكوة التي تشرق عليها الشمس منها لتعبدها فيها، وقيل: إنه جاء إلى جمعهم، وألقى الكتاب المختوم بخادم الملك لسليمان، فألقاه عليهم وهم يجتمعون، واللَّه تعالى وحده العليم كيف أوصل إليهم الكتاب، ولا نتعرض لبيانه، لأنه لو لم يعلمنا به اللَّه فحق علينا التوقف، كما قال تعالى: (وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ به عِلْمٌ)، ثم قال تعالى: (ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ) العطف بـ (ثم) في موضعه، أي ألقه متأكدا، وصوله إليهم، وبعد تأكد ذلك تول عنهم وانصرف غير بعيد لتكون مترقبا ماذا يرجعون، أي ماذا يرجعون أو يردون ذلك الخطاب، والواقع أنهم لَا يرجعون الكتاب، إنما يرجعون ما تضمنه الكتاب من دعوة لعبادة اللَّه وحده، والاستسلام لسليمان والخضوع لحكمه كما يبين مضمون هذا الكتاب عند استفتاء قومها.
وصل إليها الكتاب، فعرضته على قومها:
جمعت قومها تستفتيهم في الأمر الذي جد وكانت حكيمة إذ جمعتهم وفوضت الأمر إليهم ليروا فيه ما يرون، عرضت عليهم صيغته ووصفته بأنه كتاب
وقد استرسلت الملكة العاقلة فقالت:
جمعت قومها، واتخذت خطابها مع أشرافهم وذوي الرأي فيهم الذين يولون ويعزلون، وقالت لهم: (أَفْتُونِي فِي أَمْرِي). وأضافت الأمر إليها، إذ هي المسئولة عنهم، والمخاطبة بأمر القوم عنهم، وأخبرتهم أنهم لَا تبتُّ في أمر وتقطع فيه برأيها منفردة دونهم ما كنت قاطعة أمرا حتى تشهدون، حتى تشهدوا الأمر وتعاينوه، ونكون معا، والنون نون الوقاية، وياء المتكلم محذوفة أي حتى تشهدوني، أي حتى تحضروا معي وأتبادل الأمر معكم لنعرف ما يكون فيه خيركم. أجابوها بما يقوي عزمها ويشد أزرها ويطمئن حكمها كشأن حاشية الملوك، ومدبري الأمر معهم قالوا:
أجابوا بثلاثة أمور مطمئنة ملقية في نفسها روح الاطمئنان على حكمها وسلطانها.
الأمر الثالث: أن القيادة كلها (الأمر إليها)، ولذا قالوا: (وَالأَمْرُ إِلَيْكِ)، أي نحن نتعاون طائعون فالأمر إليك، (فَانْظُرِي مَاذَا تَأمُرِينَ) الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها، أي إذا كان الأمر إليك فانظري ماذا تأمرين، أي انظري في نفسك الذي تأمرين به؛ لأن الاستعداد كامل تنفيذ الذي تأمرين به كاملا غير منقوص.
قالت لهم بعد أن دبرت أمرها، وتعرفت مآل أمرها، وحالها.
قدرت ودبرت ورأت المسالمة بدل المقاومة رهبا في الملك، ورغبا في موادته، قالت محذرة من غلوائهم ومقدرة أمرها وأمرهم: (إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا) والقرية هي المدينة العظيمة التي تكون مكونة من جموع كثيرة متكاثفة، ودخولهم القرية العظيمة يكون بحرب جائحة تأكل الأخضر واليابس، وهذا هو الفساد والخراب، فلو أمكن، وفي شر ذلك ما قد يكون خيرا، وذكرت أمرا آخر يفعله الملوك، وهو أن يجعلوا أعزة أهلها أذلة، إنما يقلبون الأوضاع فيها فيجعلون من هم في موطن العزة والسلطان، هم الذين يكونون في موطن الذلة والهوان وإنها في ذلك تشير إلى خوفها على نفسها من أنها في السنام منهم قد تكون غير ذلك، وأنهم لهاميم قومهم قد يكونون في غير مواضعهم، وسجلت أن ذلك حال الملوك دائما وهو شأنهم، ولذا قالت: (وَكذَلِكَ يَفْعلُونَ)، أي ذلك شأنهم دائما. وكان التعبير بالفعل المضارع لتصور حالهم المستمرة الدائمة كأنها شأن من شئونهم، وغاية لهم.
ذكرتهم بصيغة الجمع، لأن الملك يكون معه جيش وأقوام، وهي ترسل إليهم جميعا بهدية، ويظهر أنها لَا تتوقع الأمان المطلق، بل كانت تتوجس منهم خيفة، ولذا قالت: (فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ) والفاء عاطفة، ناظرة بمعنى منتظرة مترقبة الأمر الذي يرجع به المرسلون، أسلام وأمان، أم حرب ودمار.
هذا وقع الهدية في نفس نبي اللَّه وملك الأرض الذي علمه اللَّه تعالى منطق الطير، وجاء لسليمان أي جاء الوفد وقابل سليمان، ومعه الهدية التي أرسلتها الملكة، خاطب نبي اللَّه وملك الأرض الوفد مستحقرا الهدية، ومستهينا بتفكير مرسليها (أَتمِدُّونَنِ بِمَالٍ)، أي أتجعلون المدد الواصل بيني وبينكم مالا والمال هين على وهو عندي بل عندي ما هو خير منه، (فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ) آتاني الملك العظيم القوي، وآتاني العلم بكل شيء ومن شئون الدنيا آتاني علم منطق الطير والأحياء، وآتاني من كل شيء، (بَلْ أَنتم بِهَدِيَّتِكمْ تَفْرَحُونَ)، بل للإضراب الانتقال ورد للهدية، أنتم تفرحون بهديتكم، ولا تفرحون بغيرها، لأنكم ماديون، لَا تفرحون إلا بالمادة وما يتصل بها من أمثالها. وتقديم الجار والمجرور بهديتكم - للقصر والاختصاص، أي لَا تفرحون إلا بها، ثم هددهم نبي اللَّه بالجيوش الجرارة، فقال:
كان الخطاب بالمفرد؛ لأنه الوفد الذي يخبرهم بأمر سليمان، وما استعد به لهم، (فلنأتينهم) الفاء: عاطفة دالة على الترتيب والتعقيب أي فور رجوعهم لنأتينهم، وقد أكد غزو الشرك بالقسم، ولام القسم، ونون التوكيد الثقيلة، وقد أكد إرسال
بعد ذلك أخذ يفكر في تعرف حالهم، وإظهار القدرة التي منَّ اللَّه بها
عليه، فاراد أن يختبر ذكاءها قال:
العرش: كرسي السلطان، وقد سبق أن وصف الهدهد ذلك العرش بأنه عرش عظيم، قد أوتي من الأبهة والزخرفة الكثير، وإنه دليل على كمال السيطرة، وكمال الثروة، وما الذي يطلبه نبي اللَّه الملك من الملأ من قومه أهو أن يأتوه به ذاته، ذلك ظاهر القول، ولو يوجد ما ينفي الظاهر، ونحن نأخذ بظاهر القول ما لم يوجد من الاستحالة العقلية ما يخرجنا من الظاهر إلى غيره، فالأمر كله لا غرابة فيه، فالنمل يتكلم، ويسمع كلامه ويفهم، والطير يتكلم ويفهم، ويرسل في رسائل وكتب إذن فلا غرابة في أن يأتي بعض الملأ بذات العرش.
وقد قال بعض الذين يتكلمون في معاني الذكر الحكيم. إن الذي طلبه نبي اللَّه تعالى هو أن يأتوه بصورة العرش لَا ذاته، ونحن نرى أن هذا التأويل وإن كان محتملا لَا نرضاه؛ لأنه غير ظاهر اللفظ، وظاهر اللفظ يسير في مؤداه ما دام لا يستحيل، وقوله قبل أن يأتوني مسلمين يقول إن الإسلام هنا هو الخضوع، ويصح أن يكون المعنى الإسلام الحقيقي، وهو شهادة أن لَا إله إلا اللَّه، وإنا نميل إلى الأول؛ لأنَّ الإسلام بشهادة الحق جاء بعد ذلك عندما قالت بلقيس: (رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (٤٤). أخذ الملأ ممن حول سليمان يعملون على إجابة طلبه.
العفريت، قال ابن قتيبة إنه الموثق الخلق أي القوي في بنيانه، وقد كان الجن من جيش سليمان، ونسير بالكلام على ظاهره من غير محاولة تأويل، لأنه ليس عندنا مسوغاته، ولا نعمل الفكر فيما لَا يسوغ فيه، قال القوي من الجن أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك أي من مجلسك هذا، (وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ)، وقد أكد قوته وأمانته بعدة مؤكدات، أولها بـ أن والثاني باللام، والثالث بكلمة عليم، وفيها إشارة إلى أنه في قبضة يده.
ولم تبين الآية كيف يكون ذلك، ولنسلم بظاهر الآية، غير متكلفين، فاللَّه تعالى أمر بعدم التكلف فقال (قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْر وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ).
ولكن الملك نبي الله عليه السلام استطال هذه المدة، فتقدم عليه بعض الذين أوتوا علم الكتاب.
وصف الذي أتاه قبل أن يرتد إليه طرفه بأن عنده علم الكتاب، فما هو هذا الكتاب، أهو السجل المحفوظ، أم كتاب من كتب العلم والمعرفة، ومن أي جنس، أهو من الإنس أم من الملائكة، لم يبين القرآن قبيله ولا كتابه، فكان حقا علينا ألا نتعرف ما لم يعرفنا الله به، إذ لَا سبيل لذلك، ولم يرد عن السنة ما يوضح ذلك بخبر صحيح يمكن الاعتماد عليه.
وإن هذه سمعيات يجب التصديق بها والإذعان لها، وكثير من قصة سليمان أمور غيبية توجب الإذعان ويكتفى بالإيمان بظواهرها، غير متأولين، ولا قافين ما
وارتداد الطرف أن ينظر إلى أمر بتحديق عين، ثم يرد إليه بعد النظر المتحدق، وهو لَا يتسع لزمن قل أو كثر؛ ولذا قال بعد (فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِندَهُ) الفاء: للعطف والتعقيب، أي أنه عقب قول صاحب علم الكتاب رآه مستقرا عنده، أي موجودا قالرا ثابتا عنده، لَا يتصور بعده عنه بعد ذلك، كانت هذه نعمة على سليمان تستوجب الشكر، ولذا قال معلنا أن ذلك اختبار من اللَّه، قال: (هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِبَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكفُرُ) يقرر في هذه الجملة السابقة - ما يقرره النبي الملك، يقرر أولا أنه فضل من اللَّه ليس إلا نعمة أعطاها عطاء ومنًّا من غير سابق طلب، ويقردر ثانيا أنه يعامله معاملة من يختبره أيكون من الشاكرين للنعمة القائمين بحقها، أم الكافرين الذين يجحدون، ويغترون ويعاندون ويحسبون أن ذلك استحقاق وليس عطاء ثم يقول: (مَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ)، أي فإن شكره يكون عائدا على نفسه، لأنه يفعل الخير، ويثابر عليه وثمرة ذلك تعود عليه، ولأن من يشكر النعمة يزيده اللَّه منها، كما قال تعالى: (لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ)، أي ومن يكفر ليغتر ويجحد ويعاند، فإنه يضر نفسه، ولكن لَا يقطع بفضل اللَّه ولا منه وفضله وكرمه، فاللَّه غني لَا يحتاج شكر عباده، وكريم يعطي دائما والحساب في الآخرة.
يظهر أنهم قد حاولوا أن يكونوا قريبين من سليمان، أو أن يحضروا مستسلمين، أو أنها أعلنت المجيء إليه مستسلمة، ولذا قال اللَّه عن سليمان:
التنكير جعل العرش في وضع أو حال بحيث لَا يعرف، ولذا قيل: إنه وضع في وسط أمتعة متفرقة مختلفة بحيث يصعب تعرفه في وسطها، وروى ابن
وقد تبين من الاختبار أنها واعية مدركة، وأن النساء يدركن دائما ما يتعلق بالفراش وزينة الحياة الدنيا، ولذا علمت، وإذا كان قد اعتراها نوع تشكك، فلغرابة أن يجيء إلى نبي اللَّه سليمان قبل مجيئها.
لم تقل إنه هو من قبيل الحرص؛ لأنها رأته بعينها ولكن كانت الغرابة في أنه جاء قبلها فتساءلت في ذات نفسها، كيف جاء، وبأي طريق وصل، هذا هو الذي تحترس من أن تقول هو هو - بل قالت كأنه، وقال سليمان مؤكدا أنه هو: (وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِن قَبْلِهَا) أي أوتينا العلم به المستيقن المحسوس من قبل مجيئها، وقد يعلل بهذا من قال: " إنها صورة العرش لَا ذاته " وما كان لنا أن نترك الظاهر الذي يبين اليقين بعبارة موهمة غير قاطعة ثم قال: سليمان: (وَكُنَّا مُسْلِمِينَ) أي مذعنين للحق ببيناته. وإن هذه الأحوال كلها خوارق للعادات مثبتة نبوة سليمان، وفي الحق أن سلطان سليمان قد قام كله على خوارق للعادات، وكان الزمن زمن المادة والأسباب، والمسببات، فكان هذا الملك قرعا لأسماع الماديين المتعلقين بالأسباب والمسببات العادية، ويحسبون مخطئين أنها قانون الوجود.
وذكر سبحانه وتعالى حالها فقال:
وهنا نجد كتاب الله تعالى الذي ينصف في كل أحكامه، لَا تجد فيه عوجا ولا أمتا، فاللَّه سبحانه يبين على لسان نبيه الملك أنه صدها عن سبيل اللَّه ما كانت
بين اللَّه من بعد ذلك على لسان سليمان ما يرغب أمثالها من النساء، وهو أن الملك يملك من زخارف الحياة ما ليس عندها، وما يبتهر فقال:
الصرح، القصر العالي المزخرف، ودخلت الصرح، فدخلت صحنه، وهو ممرد أي مملس ملمسه ناعم وله بريق بسبب تمريده، وإزالة كل خشونة فيه حتى يحسبه الرائي لتنسيقه، وكأنَّه لجة من الماء، فحسبته ماء في صحن الصرح وخشيت على ثيابها المزخرفة فرفعتها، وكشفت عن ساقيها، فنبهها سليمان إلى أنه ليس بماء وإنما هو صرح ممرد من زجاج يبدو بادي الرأي كأنه لجة ماء وما هو بماء، فقال لها - إنه صرح ممرد من قوارير، أي من زجاج تكون منه القوارير، وهي جمع أدركت السيدة بلقيس، وهي تروعها الزخارف كما تروع كل النساء، فكرت في ماضيها إذ كانت تعبد الشمس، وسليمان يعبد الله تعالى، وقد آتاه الله من النعم ما لَا يمكن أن يكون لأحد غيره، فاهتزت، وعلمت أنها كانت على باطل، وأنها ظلمت نفسها بما كانت عليه، قالت: (رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)، أقرت بأنها ظلمت نفسها بعبادتها الشمس، فالشرك
* * *
من قصة صالح وثمود
قال اللَّه تعالى:
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ (٤٥) قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٤٦) قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (٤٧) وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (٤٨) قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (٤٩) وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (٥٠) فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (٥١)
* * *
بعد ذكر قصة سليمان ملك الأنبياء، وكيف كانت حياته وملكه ونبواته معجزات متوالية، وكل شيء كان يجري بأمر خالد، ذكر سبحانه قصص بعض الأنبياء، وابتدأ من بعده بصالح، وهو صورة لنبي لم يكن ملكا بل كان من الشعب، هئمَ قومه أن يقتلوه.
وليس في قصة صالح وثمود تكرارا، بل ذكر فيه ما لم يذكر في غير هذا الموضع، ولم يذكر فيه ما ذكر في غيره، لم تذكر المعجزة وهي الناقة، وما كان منهم من اعتداء عليها، وذكر هنا الائتمار على قتل صالح وامرأته، ولم ينجه منهم إلا إنزال العذاب بهم، وما ترك العذاب فيهم من عبر.
الواو استئنافية أكد اللَّه تعالى الإرسال حيث دعت دواعيه، وأكده باللام، وقد، وإضافة الإرسال إلى ذاته العلية، وذكر سبحانه أن الإرسال كان بإرسال أخيهم أي أنه واحد منهم يعرف أمرهم وحالهم، وهو رءوف عليهم شفيق بهم قد عرفوا صدقه وأمانته وحبه لهم، وإلفهم به، وكانت الرسالة هي عبادة اللَّه تعالى وحده؛ ولذا دال: (أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ) أن تبشير لمعنى الرسالة، وعبادة اللَّه لَا تتحقق إلا بأن تكون العبادة للَّه تعالى وحده، لَا يشرك به شيئا، فإذا عبد مع اللَّه غيره فقد أشرك ولم يعبد اللَّه تعالى، لقد كانوا يعبدون الأوثان فلم يكونوا يعبدون اللَّه فكان أمرهم بعبادة اللَّه وحده متضمنا لنهيهم عن عبادة غيره من الأوثان وغيرها،
وقد أنذر صالح الضالين بالعذاب الشديد، وأن اللَّه تعالى آخذ بالنواصي، فقالوا كما في آيات أخرى: ائتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين، ولكنه يرجو لهم الهداية بدل العذاب.
قال لهم صالح رأفة بهم، وإن كانوا يرأفون بأنفسهم، (يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ)، ابتدأ بالأمر الذي يربطه بهم، ويوجب محبتهم والحدب عليهم، وهو أنهم قومه الذين يرتبط نسبه بنسبهم، تنبيها لهم إلى ما فيه رحمتهم (لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ)، أي تطلبون في استعجال الأمر الذي يسوء وهو العذاب الأليم الذي تهددون به، وهو العذاب الذي يسوء، وتقدمون ما يسوء على الحسنة، وهو الإيمان الذي هو حسن في ذاته، وحسن لكم إذ من ورائه الثواب بدل العذاب، والاستفهام هنا للاستغراب، وللتوبيخ، ولبيان أنهم يطلبون ما فيه الأذى بدل ما فيه الإكرام والثواب، وينبههم إلى ما يجب أن يطلبوه، وهو مغفرة الله والإيمان به، فهو طريق الخير، فيقول: (لَوْلا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمونَ) و (لولا) هنا للحض على طلب المغفرة، أي هلا تطلبون مغفرة اللَّه رجاء منكم أن ترحموا بالإيمان باللَّه وحده، وترك الشرك، والإذعان للَّه تعالى، ففي هذا رحمتكم، وأن توقوا عذاب الجحيم، ولكنهم يلجون في الكفر، ويتهمون نبيهم بأن دعوته شؤم عليهم.
التطير تعرف مستقبل الأمر عن طريق بأن تثار الطير من وكناتها، وباتجاهها يتفاءلون أو يتشاءمون، وهو هنا التشاؤم، أي أنك يا صالح كنت أنت ومن معك من المؤمنين سببا لتشاؤمنا منكم بوجودكم، كأنهم يقولون لهم أنتم نحْس علينا، فلا يصح أن تدعونا إلى ما تدعوننا إليه، فرد عليهم صالح بأن تعرفهم الغيب بالطيرة أمر باطل إنما علم الغيب الذي تتعرفونه بالطير هو عند اللَّه تعالى وحده فلا يعلم الغيب إلا اللَّه وحده، ولا يعلم أحد إلا بإعلامه، فمعنى طائركم عند اللَّه، علمِ الطائر الذي تدعونه لأنفسكم عند اللَّه وحده علام الغيوب، (بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تُفْتنُونَ)، أي تمتحنون بتلك الأوهام عليكم فتحتسبون التطير يسعدكم أو يشقيكم، وأنتم تمتحنون وتعذبون بالسير في طريق العذاب الذي يستقبلكم، فالفتنة هنا معناها الاختبار وتسلط الأوهام عليكم، وسيؤدي هذا الامتحان حتما إلى العذاب الأليم، عذاب الدنيا والآخرة.
استمر صالح في دعوته تبليغا لرسالة ربه، ومعه الفريق المؤمن الذي يخاصمه الفريق الكافر إلى أن تململوا به، وبمن معه، وأرادوا قتله، وأن يتوزع دمه، وهذا قوله تعالى.
الرهط الجماعة من الناس، والإضافة بيانية، والمعنى وكان في المدينة التي كانت مبعث صالح تسعة رهط أي جماعة متحدة المشاعر والأحاسيس يجمعها العداوة للرسالة، والتآمر عليها، وهذه الجماعة من أوصافها أنها تفسد ولا تصلح، وقد كانت الرسالة الإلهية لإصلاح هؤلاء، ومنع لإفسادهم عن الجماعة، ولا يهمنا أكانوا من الكبراء أم كانوا من الأصغرين بيد أن عملهم يكشف عن فسادهم،
(قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ | (٤٩) قالوا تقاسموا، أي أن قولهم هو |