تفسير سورة لقمان

معاني القرآن

تفسير سورة سورة لقمان من كتاب معاني القرآن
لمؤلفه الفراء . المتوفي سنة 207 هـ

وقوله :﴿ هُدًى وَرَحْمَةً٣ ﴾ أكثر القراء على نصب الهُدَى والرحمة على القطع. وقد رفعها حمزة على الاسئتِناف ؛ لأنها مُسْتأنفة في آية منفصلةٍ من الآية قبلها. وهي في قراءة عبد الله ( هُدًى وبُشْرى ).
وقوله :﴿ وَمِنَ الناسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ٦ ﴾ نزلت في النَضْر بن الحارث الداريّ. وكان يشترى كتب الأعاجم فارسَ والروم وكتب أهل الحِيرة ( ويحدّث ) بها أهل مكة ؛ وإذا سمع القرآن أعرض عنه واستهزأ به. فذلكَ قوله ﴿ وَيَتَّخِذَها هُزُواً ﴾ وقد اختلف القراء في ﴿ وَيَتَّخِذَها ﴾ فرفع أكثرهم، ونصبها يحيى بن وَثَّاب والأعمش وأصحابُه. فمن رفع ردّها على ﴿ يَشْتَرِي ﴾ ومن نصبها ردّها على قوله ﴿ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ﴾ : وليتَّخذها.
وقوله ﴿ وَيَتَّخِذَها ﴾ يذهب إلى آيات القرآن. وإن شئت جعلتها للسبيل ؛ لأن السَّبيل قد تُؤنَّث قال ﴿ قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدعُو إِلَي اللهِ ﴾ وفي قراءة أُبَيّ ( وإنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُشْدِ لاَ يَتّخذُوها سَبِيلاً وَإنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيّ يَتّخِذُوها سَبِيلاً }.
حدَّثنا أبو العبَّاس قال حدَّثنا محمد قال حدَّثنا الفراء قال حَدَّثني حِبَّان عن ليث عن مجاهد في قوله ﴿ وَمِنَ الناسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ ﴾ قال : هو الغِناء قال الفراء : والأوّل تفسيره عن ابن عباس.
وقوله :﴿ وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ١٠ ﴾
لئلاّ تِميد بكم. و( أَنْ ) في هذا الموضع تكفي من ( لا ) كما قال الشاعر :
والمهرُ يأبى أن يزال مُلهِبا ***...
معناه : يأبى أن لا يزال.
وقوله :﴿ هَذَا خَلْقُ اللَّهِ١١ ﴾ من ذِكْره السمواتُ والأرضُ وإنزاله الماء من السماء وإنباتُه ﴿ فَأَرُونِي ماذَا خَلَقَ الَّذِينَ ﴾ تعبدونَ ﴿ مِن دُونِهِ ﴾ يعني : آلهتهم. ثمّ أكذبهم فقال ﴿ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ ﴾.
وقوله :﴿ وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ١٢ ﴾ حَدَّثنا أبو العباس قال حدَّثنا محمّد قال حدَّثنا الفراء قال : ١٤٥ حدَّثني حِبَّان عن بعض مْنَ حدَّثه قال : كان لقمان حبشِياً مجَدَّعاً ذا مِشْفَر.
وقوله :﴿ وَصَاحِبْهُما فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً١٥ ﴾ أي أحسِن صحبتَهما.
وقوله :﴿ يا بُنَيَّ إِنَّها إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ١٦ ﴾ يجوز نصب المثقال ورفعُه. فمن رفع رفعه بتكُنْ واحتملت النكرة ألاَّ يكون لها فعل في كانَ وليَس وأخواتها. ومن نصب جَعَل في ( تكن ) اسما مضمرا مجهولاً مثل الهاء التي في قوله ﴿ إِنَّها إِن تَكُ ﴾ ومثل قوله ﴿ فَإنَّها لاَ تَعْمَى الأبصارُ ﴾ وجَاز تأنيث ( تك ) والمثقال ذكر لأنه مضاف إلى الحبَّة والمعنى للحبَّة، فذهب التأنيث إليها كما قال :
وتشرق بالقول الذي قد أَذَعتَه كَما شَرِقت صَدرُ القناة من الدمِ
ولو كان :﴿ إِن يَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ ﴾ كان صواباً وجاز فيه الوجهان. وقوله فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ يقال : إنَّها الصَّخرة التي تحت الأرض : وهي سِجِّين : وتُكتب فيها أعمال الكفّار. وقوله ﴿ يَأْتِ بِها اللَّهُ ﴾ فيجازى بها.
وقوله :﴿ وَلاَ تُصَاعِرْ١٨ ﴾ قرأها أهل المدينة وعاصم بن أبى النَجُود والحسن :( تصعِّر ) بالتشديد : وقرأها يحيى وأصحابُه بالألف ﴿ ولا تُصاعِرْ ﴾ يقول : لاَ تمِّيل خَدَّك عن الناس من قولك : رجل أَصعر. ويجوز ولا تُصْعِر ولم أسمع به.
وقوله :﴿ إِنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ١٩ ﴾ يقول : إن أَقبح الأصوات لصوتُ الحمير. وأنت تقول : له وجه منكَر إذا كان قبيحا. وقال ﴿ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ ﴾ ولو قيل : أصْوات الحمير لكان صواباً. ولكن الصَّوت وإن كان أُسْند إلى جمع فإن الجمع في هذا الموضع كالواحد.
وقوله :﴿ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً٢٠ ﴾ حدَّثنا أبو العباس، قال : حَّدثنا محمد، قال حدثنا الفراء قال حدَّثني شَرِيك بن عبد الله عنْ خَصِيف الجَزَريّ عن عِكْرِمة عن ابن عبّاس أَنه قرأ ( نِعْمَةً ) واحدة. قال ابن عباسٍ : ولو كانت ﴿ نِعَمَهُ ﴾ لكانت نعمة دون نِعمةً أو قال نعمة فوق نعمةٍ، الشكّ من الفراء. وقد قرأ قوم
﴿ نِعَمُه ﴾ على الجمع. وهو وجه جيّد ؛ لأنه قال ﴿ شَاكِراً لأنعُمِه اجْتَباهُ ﴾ فهذا جمع النِعَم وهو دليل على أَنَّ
﴿ نِعَمَهُ ﴾ جَائز.
وقوله :﴿ وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ٢٢ ﴾ قرأها القرّاء بالتخفيف، إلا أبا عبد الرحمن فإنه قرأها ( وَمَنْ يُسَلِّم ) وهو كقولكَ للرجل أَسْلِم أمرك إلى الله وسِلِّم.
وقوله :﴿ وَلَوْ أَنَّ ما فِي الأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ٢٧ ﴾
ترفع ﴿ البحر ﴾ ولو نصبته كان صواباً ؛ كما قَرأت القراء ﴿ وَإذا قِيل إنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ والسَّاعَةُ لاَ رَيْبَ فِيها ﴾ و ﴿ الساعة ﴾ وفي قراءة عبد الله ﴿ وبَحْرُ يَمُدُّهُ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ﴾ يقول : يكون مِداداً كالمداد المكتوب به. وقول عبد الله يقوِّى الرفع. والشيء إذا مَدَّ الشيء فزاد فكان زيادةً فيه فهو يَمُدُّه ؛ تقول دجلة تَمُدّ بِئارنا وأنهارنا، والله يُمِدّنا بها. وتقول : قد أمددتك بألفٍ فَمَدُّوك، يقاس على هذا كلّ ما ورد.
وقوله :﴿ ما خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ٢٨ ﴾ إلا كبعث نفس واحدة. أضمر البعث لأنه فعل ؛ كما قال { تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كالذي يُغْشَى عَلَيْهِ ( مِنَ المَوْتِ ) المعنى - والله أعلم - : كدوران عين الذي يُغشى عليه / ١٤٥ ب من الموت، فأضمر الدوران والعين جميعاً.
وقوله :﴿ بِنِعْمَةِ اللَّهِ٣١ ﴾
وقد قرئِتْ ﴿ بنعِماتِ الله ﴾ وقلَّما تفعل العرب ذلكَ بِفعِلةٍ : أن تُجمع على التاء إنّما يجمعونها على فِعَلٍ ؛ مثل سِدْرة وسِدَر، وخِرقة وخِرَق. وإنّما كرهوا جمعه بالتاء لأنهم يُلزمون أنفسهم كسرَ ثانية إذا جُمع ؛ كما جمعُوا ظُلْمة ظُلُمات فرفعوا ثانَيها إتباعاً لرَفعة أوَّلها، وكما قالوا : حَسراتٌ فأَتبَعُوا ثانيها أولها. فلما لزمهم أَن يقولوا : بِنِعِمات استثقلوا أن تتوالى كسرتان في كلامهم ؛ لأنا لم نجد ذلكَ إلاَّ في الإبل وحدها. وقد احتمله بعض العرب فقال : نِعِماتٌ وسِدِراتٌ.
وقوله :﴿ كُلُّ خَتَّارٍ٣٢ ﴾ الختَّار : الغدَّار وقوله ﴿ مَوْجٌ كالظُلَلِ ﴾ فشبّهه بالظلل والموج واحد لأن الموج يركب بعضهُ بعضاً، ويأتي شيء بعد شيء فقال ﴿ كالظُلَل ﴾ يعنى السحاب.
وقوله :﴿ بِاللَّهِ الْغَرُورُ٣٣ ﴾ ما غَرّك فهو غَرُور، الشيطان غَرور، والدنيا غرور. وتقول غررته غُروراً ولو قرئِت ولا يغرنّكم بالله الغُرور يريد زينة الأشياء لكان صواباً.
وقوله :﴿ إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ ما فِي الأَرْحامِ٣٤ ﴾
فيه تأويل جحد المعنى : ما يعلمهُ غيره ﴿ وَما تَدْرِي نَفْسٌ ماذَا تَكْسِبُ غَداً ﴾ خرج هذا على الجحد. والمعنى الظاهرُ والأوَّل معروف بالضمير للجحد.
وقوله ﴿ بِأَيِّ أَرْضٍ ﴾ وبأيَّة أرض. فمن قال ﴿ بِأَيِّ أَرْضٍ ﴾ اجتزأ بتأنيث الأرض من أن يُظهِر في أي تأنيثا آخر، ومن أنَّث قال قد اجتزءوا بأي دون ما أضيف إليه، فلا بدّ من التَّأنيث ؛ كقولك : مررت بامرأة، فتقول : أَيَّةٍ، ومررت برجلين فتقول أَيَّيْنِ :
سورة لقمان
معلومات السورة
الكتب
الفتاوى
الأقوال
التفسيرات

سورةُ (لُقْمانَ) من السُّوَر المكية، وقد جاءت ببيانِ عظمة هذا الكتاب، واتصافه بالحِكْمة، ومن ثَمَّ إثبات صفة الحِكْمة لله عز وجل، كما ذكرت السورةُ الكريمة وصايا (لُقْمانَ) الحكيمِ لابنه، التي يجدُرُ بكلِّ مَن آمَن بهذا الكتاب أن يأخذ بها، وقد تعرَّضتِ السورةُ لدلائلِ وَحْدانية الله وعظمته في هذا الكون، وبيان أقسام الناس، وموقفهم من الكتاب؛ من مؤمنٍ به وكافر.

ترتيبها المصحفي
31
نوعها
مكية
ألفاظها
550
ترتيب نزولها
57
العد المدني الأول
33
العد المدني الأخير
33
العد البصري
34
العد الكوفي
34
العد الشامي
34

* قوله تعالى: {يَٰبُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاْللَّهِۖ إِنَّ اْلشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٞ} [لقمان: 13]:

عن عبدِ اللهِ بن مسعودٍ رضي الله عنه، قال: «لمَّا نزَلتِ: {اْلَّذِينَ ‌ءَامَنُواْ ‌وَلَمْ ‌يَلْبِسُوٓاْ إِيمَٰنَهُم بِظُلْمٍ} [الأنعام: 82]، شَقَّ ذلك على المسلمين، فقالوا: يا رسولَ اللهِ، أيُّنا لا يَظلِمُ نفسَه؟ قال: «ليس ذلك؛ إنما هو الشِّرْكُ؛ ألَمْ تَسمَعوا ما قال لُقْمانُ لابنِهِ وهو يَعِظُه: {يَٰبُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاْللَّهِۖ إِنَّ اْلشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٞ} [لقمان: 13]؟!»». أخرجه البخاري (٣٤٢٩).

* سورة (لُقْمانَ):

سُمِّيتْ سورةُ (لُقْمانَ) بهذا الاسم؛ لذكرِ (لُقْمانَ) فيها، ولم يُذكَرْ في سورة أخرى.

* قراءة النبيِّ صلى الله عليه وسلم لها في صلاة الظُّهْرِ:

عن البَراء بن عازبٍ رضي الله عنهما، قال: «كان رسولُ اللهِ ﷺ يُصلِّي بنا الظُّهْرَ، فنَسمَعُ منه الآيةَ بعد الآياتِ مِن سورةِ لُقْمانَ، والذَّاريَاتِ». أخرجه النسائي (٩٧١).

اشتمَلتْ سورةُ (لُقْمانَ) على الموضوعات الآتية:

1. المحسِنون: تعريفٌ وجزاء (١-٥).

2. فريق اللَّهْوِ من الناس (٦-٧).

3. آية الحِكْمة والقُدْرة (٨-١١).

4. نعمة الحِكْمة، والدعوةُ إلى شُكْرها (١٢-١٩).

5. إسباغ النِّعَم (٢٠-٢١).

6. الإنسان بين الكفرِ والإيمان (٢٢-٢٦).

7. كلمات الله التى لا تَنفَدُ (٢٧- ٢٨).

8. نعمة التسخير (٢٩- ٣٢).

9. المُغيَّبات وغُرور الحياة (٣٣-٣٤).

ينظر: "التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (6 /27).

جاءت سورةُ (لُقْمانَ) بمقاصِدَ عظيمةٍ؛ منها: إثباتُ الحِكْمة للكتاب، التي يلزم منها حِكْمةُ مُنزِلِه في أقواله وأفعاله؛ وهو اللهُ عزَّ وجلَّ.

ومنها: تذكيرُ المشركين بدلائلِ وَحْدانية الله تعالى، وبنِعَمِه عليهم؛ من خلال وصايا (لُقْمانَ) عليه السلام لابنه، وذكَرتْ مزيَّةَ دِين الإسلام، وتسليةَ الرسول صلى الله عليه وسلم بتمسُّك المسلمين بالعُرْوة الوثقى، وأنه لا يُحزِنه كفرُ مَن كفروا.

ينظر: "مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور" للبقاعي (2 /356)، "التحرير والتنوير" لابن عاشور (21 /139).