تفسير سورة آل عمران

تفسير الجلالين

تفسير سورة سورة آل عمران من كتاب تفسير الجلالين المعروف بـتفسير الجلالين.
لمؤلفه المَحَلِّي . المتوفي سنة 864 هـ

﴿ألم﴾ الله أعلم بمراده بذلك
{الله لا إله إلا هو الحي القيوم
﴿نَزَّلَ عَلَيْك﴾ يَا مُحَمَّد ﴿الْكِتَاب﴾ الْقُرْآن مُلْتَبِسًا ﴿بِالْحَقِّ﴾ بِالصِّدْقِ فِي أَخْبَاره ﴿مُصَدِّقًا لِمَا بَيْن يَدَيْهِ﴾ قَبْله مِنْ الْكُتُب ﴿وَأَنْزَلَ التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل مِنْ قَبْل﴾ أَيْ قَبْل تَنْزِيله ﴿هُدًى﴾ حَال بِمَعْنَى هَادِينَ مِنْ الضَّلَالَة ﴿لِلنَّاسِ﴾ مِمَّنْ تَبِعَهُمَا وَعَبَّرَ فِيهِمَا بِأَنْزَل وَفِي الْقُرْآن بِنَزَّلَ الْمُقْتَضِي لِلتَّكْرِيرِ لِأَنَّهُمَا أُنْزِلَا دُفْعَة وَاحِدَة بِخِلَافِهِ ﴿وَأَنْزَلَ الْفُرْقَان﴾ بِمَعْنَى الْكُتُب الْفَارِقَة بَيْن الْحَقّ وَالْبَاطِل وَذَكَرَهُ بَعْد ذِكْر الثَّلَاثَة لِيَعُمّ مَا عَدَاهَا
﴿إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّه﴾ الْقُرْآن وَغَيْره ﴿لَهُمْ عَذَاب شَدِيد وَاَللَّه عَزِيز﴾ غَالِب عَلَى أَمْره فَلَا يَمْنَعهُ شَيْء مِنْ إنْجَاز وَعْده وَوَعِيده ﴿ذُو انْتِقَام﴾ عُقُوبَة شَدِيدَة مِمَّنْ عَصَاهُ لَا يَقْدِر عَلَى مِثْلهَا أَحَد
﴿إنَّ اللَّه لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْء﴾ كَائِن ﴿فِي الْأَرْض وَلَا فِي السَّمَاء﴾ لِعِلْمِهِ بِمَا يَقَع فِي الْعَالَم مِنْ كُلِّيّ وَجُزْئِيّ وَخَصَّهُمَا بِالذِّكْرِ لِأَنَّ الْحِسّ لَا يَتَجَاوَزهُمَا
﴿هُوَ الَّذِي يُصَوِّركُمْ فِي الْأَرْحَام كَيْف يَشَاء﴾ مِنْ ذُكُورَة وَأُنُوثَة وَبَيَاض وَسَوَاد وَغَيْر ذَلِكَ ﴿لَا إلَه إلَّا هُوَ الْعَزِيز﴾ فِي مُلْكه ﴿الْحَكِيم﴾ فِي صُنْعه
﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْك الْكِتَاب مِنْهُ آيَات مُحْكَمَات﴾ وَاضِحَات الدَّلَالَة ﴿هُنَّ أُمّ الْكِتَاب﴾ أَصْله الْمُعْتَمَد عَلَيْهِ فِي الْأَحْكَام ﴿وَأُخَر مُتَشَابِهَات﴾ لَا تُفْهَم مَعَانِيهَا كَأَوَائِل السُّوَر وَجَعَلَهُ كُلّه مُحْكَمًا فِي قَوْله ﴿أُحْكِمَتْ آيَاته﴾ بِمَعْنَى أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ عَيْب وَمُتَشَابِهًا فِي قَوْله ﴿كِتَابًا مُتَشَابِهًا﴾ بِمَعْنَى أَنَّهُ يُشْبِه بَعْضه بَعْضًا فِي الْحُسْن وَالصِّدْق ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبهمْ زَيْغ﴾ مَيْل عَنْ الْحَقّ ﴿فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء﴾ طَلَب ﴿الْفِتْنَة﴾ لِجُهَّالِهِمْ بِوُقُوعِهِمْ فِي الشُّبُهَات وَاللَّبْس ﴿وَابْتِغَاء تَأْوِيله﴾ تَفْسِيره ﴿وَمَا يَعْلَم تَأْوِيله﴾ تَفْسِيره ﴿إلَّا اللَّه﴾ وَحْده ﴿وَالرَّاسِخُونَ﴾ الثَّابِتُونَ الْمُتَمَكِّنُونَ ﴿فِي الْعِلْم﴾ مُبْتَدَأ خَبَره ﴿يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ﴾ أَيْ بِالْمُتَشَابِهِ أَنَّهُ مِنْ عِنْد اللَّه وَلَا نَعْلَم مَعْنَاهُ ﴿كُلّ﴾ مِنْ الْمُحْكَم وَالْمُتَشَابِه ﴿مِنْ عِنْد رَبّنَا وَمَا يَذَّكَّر﴾ بِإِدْغَامِ التَّاء فِي الْأَصْل فِي الذَّال أَيْ يَتَّعِظ ﴿إلا أولوا الْأَلْبَاب﴾ أَصْحَاب الْعُقُول وَيَقُولُونَ أَيْضًا إذَا رَأَوْا من يتبعه
﴿رَبّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبنَا﴾ تَمِلْهَا عَنْ الْحَقّ بِابْتِغَاءِ تَأْوِيله الَّذِي لَا يَلِيق بِنَا كَمَا أَزَغْت قُلُوب أُولَئِكَ ﴿بَعْد إذْ هَدَيْتنَا﴾ أَرْشَدْتنَا إلَيْهِ ﴿وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْك﴾ مِنْ عِنْدك ﴿رَحْمَة﴾ تَثْبِيتًا ﴿إنك أنت الوهاب﴾
يَا ﴿رَبّنَا إنَّك جَامِع النَّاس﴾ تَجْمَعهُمْ ﴿لِيَوْمٍ﴾ أَيْ فِي يَوْم ﴿لَا رَيْب﴾ لَا شَكَّ ﴿فِيهِ﴾ هُوَ يَوْم الْقِيَامَة فَتُجَازِيهِمْ بِأَعْمَالِهِمْ كَمَا وَعَدْت بِذَلِكَ ﴿إنَّ اللَّه لَا يُخْلِف الْمِيعَاد﴾ مَوْعِده بِالْبَعْثِ فِيهِ الْتِفَات عَنْ الْخِطَاب وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون مِنْ كَلَامه تَعَالَى وَالْغَرَض مِنْ الدُّعَاء بِذَلِكَ بَيَان أَنَّ هَمَّهُمْ أَمْر الْآخِرَة وَلِذَلِك سَأَلُوا الثَّبَات عَلَى الْهِدَايَة لِيَنَالُوا ثَوَابهَا رَوَى الشَّيْخَانِ عَنْ عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا قَالَتْ تَلَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الْآيَة ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْك الْكِتَاب مِنْهُ آيَات مُحْكَمَات﴾ إلَى آخِرهَا وَقَالَ فإذا رأيتم الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ سَمَّى اللَّه فَاحْذَرُوهُمْ وَرَوَى الطَّبَرَانِيّ فِي الْكَبِير عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول مَا أَخَاف عَلَى أُمَّتِي إلَّا ثَلَاث خِلَال وَذَكَرَ مِنْهَا أنه يُفْتَح لَهُمْ الْكِتَاب فَيَأْخُذهُ الْمُؤْمِن يَبْتَغِي تَأْوِيله وَلَيْسَ يَعْلَم تَأْوِيله إلَّا اللَّه وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْم يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلّ مِنْ عِنْد ربنا وما يذكر إلا أولوا الألباب الحديث
١ -
﴿إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِي﴾ تَدْفَع ﴿عَنْهُمْ أَمْوَالهمْ وَلَا أَوْلَادهمْ مِنْ اللَّه﴾ أَيْ عَذَابه ﴿شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُود النَّار﴾ بِفَتْحِ الْوَاو مَا تُوقَد بِهِ
١ -
دَأبُهُم ﴿كَدَأْبِ﴾ كَعَادَةِ ﴿آل فِرْعَوْن وَاَلَّذِينَ مِنْ قَبْلهمْ﴾ مِنْ الْأُمَم كَعَادٍ وَثَمُود ﴿كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمْ اللَّه﴾ أَهْلَكَهُمْ ﴿بِذُنُوبِهِمْ﴾ وَالْجُمْلَة مُفَسِّرَة لِمَا قَبْلهَا ﴿وَاَللَّه شَدِيد الْعِقَاب﴾ وَنَزَلَ لَمَّا أَمَرَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْيَهُود بِالْإِسْلَامِ بَعْد مَرْجِعه مِنْ بَدْر فَقَالُوا لَا يَغُرَّنك أَنْ قَتَلْت نَفَرًا مِنْ قُرَيْش أَغْمَارًا لَا يعرفون القتال
١ -
﴿قُلْ﴾ يَا مُحَمَّد ﴿لِلَّذِينَ كَفَرُوا﴾ مِنْ الْيَهُود ﴿سَتُغْلَبُونَ﴾ بِالتَّاءِ وَالْيَاء فِي الدُّنْيَا بِالْقَتْلِ وَالْأَسْر وَضَرْب الْجِزْيَة وَقَدْ وَقَعَ ذَلِكَ ﴿وَتُحْشَرُونَ﴾ بِالْوَجْهَيْنِ فِي الْآخِرَة ﴿إلَى جَهَنَّم﴾ فَتَدْخُلُونَهَا ﴿وَبِئْسَ الْمِهَاد﴾ الفراش هي
66
١ -
67
﴿قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَة﴾ عِبْرَة وَذَكَرَ الْفِعْل لِلْفَصْلِ ﴿فِي فِئَتَيْنِ﴾ فِرْقَتَيْنِ ﴿الْتَقَتَا﴾ يَوْم بَدْر لِلْقِتَالِ ﴿فِئَة تُقَاتِل فِي سَبِيل اللَّه﴾ أَيْ طاعته وهم النبي وأصحابه وكانوا ثلاثمائة وَثَلَاثَة عَشَرَ رَجُلًا مَعَهُمْ فَرَسَانِ وَسِتّ أَدْرُع وَثَمَانِيَة سُيُوف وَأَكْثَرهمْ رَجَّالَة ﴿وَأُخْرَى كَافِرَة يَرَوْنَهُمْ﴾ أي الكفار ﴿مثليهم﴾ أي المسلمين أي أكثر مِنْهُمْ وَكَانُوا نَحْو أَلْف ﴿رَأْي الْعَيْن﴾ أَيْ رُؤْيَة ظَاهِرَة مُعَايَنَة وَقَدْ نَصَرَهُمْ اللَّه مَعَ قِلَّتهمْ ﴿وَاَللَّه يُؤَيِّد﴾ يُقَوِّي ﴿بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاء إنَّ فِي ذَلِكَ﴾ الْمَذْكُور ﴿لَعِبْرَة لِأُولِي الْأَبْصَار﴾ لِذَوِي الْبَصَائِر أَفَلَا تَعْتَبِرُونَ بِذَلِكَ فَتُؤْمِنُونَ
١ -
﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبّ الشَّهَوَات﴾ مَا تَشْتَهِيه النَّفْس وَتَدْعُو إلَيْهِ زَيَّنَهَا اللَّه ابْتِلَاء أَوْ الشَّيْطَان ﴿مِنْ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِير﴾ الْأَمْوَال الْكَثِيرَة ﴿الْمُقَنْطَرَة﴾ الْمُجْمَعَة ﴿مِنْ الذَّهَب وَالْفِضَّة وَالْخَيْل الْمُسَوَّمَة﴾ الْحِسَان ﴿وَالْأَنْعَام﴾ أَيْ الْإِبِل وَالْبَقَر وَالْغَنَم ﴿وَالْحَرْث﴾ الزَّرْع ﴿ذَلِكَ﴾ الْمَذْكُور ﴿مَتَاع الْحَيَاة الدُّنْيَا﴾ يَتَمَتَّع بِهِ فِيهَا ثُمَّ يَفْنَى ﴿وَاَللَّه عِنْده حُسْن الْمَآب﴾ الْمَرْجِع وَهُوَ الْجَنَّة فَيَنْبَغِي الرَّغْبَة فِيهِ دُون غيره
١ -
﴿قل﴾ يا محمد لقومك ﴿أؤنبئكم﴾ أُخْبِركُمْ ﴿بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ﴾ الْمَذْكُور مِنْ الشَّهَوَات اسْتِفْهَام تَقْرِير ﴿لِلَّذِينَ اتَّقَوْا﴾ الشِّرْك ﴿عِنْد رَبّهمْ﴾
خَبَر مُبْتَدَؤُهُ ﴿جَنَّات تَجْرِي مِنْ تَحْتهَا الْأَنْهَار خَالِدِينَ﴾ أَيْ مُقَدَّرِينَ الْخُلُود ﴿فِيهَا﴾ إذَا دَخَلُوهَا ﴿وَأَزْوَاج مُطَهَّرَة﴾ مِنْ الْحَيْض وَغَيْره مِمَّا يُسْتَقْذَر ﴿وَرِضْوَان﴾ بِكَسْرِ أَوَّله وَضَمّه لُغَتَانِ أَيْ رِضًا كَثِير ﴿مِنْ اللَّه وَاَللَّه بَصِير﴾ عَالِم ﴿بِالْعِبَادِ﴾ فَيُجَازِي كُلًّا مِنْهُمْ بِعَمَلِهِ
١ -
﴿الَّذِينَ﴾ نَعْت أَوْ بَدَل مِنْ الَّذِينَ قَبْله ﴿يَقُولُونَ﴾ يَا ﴿رَبّنَا إنَّنَا آمَنَّا﴾ صَدَّقْنَا بِك وَبِرَسُولِك ﴿فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار﴾
١ -
﴿الصَّابِرِينَ﴾ عَلَى الطَّاعَة وَعَنْ الْمَعْصِيَة نَعْت ﴿وَالصَّادِقِينَ﴾ فِي الْإِيمَان ﴿وَالْقَانِتِينَ﴾ الْمُطِيعِينَ لِلَّهِ ﴿وَالْمُنْفِقِينَ﴾ الْمُتَصَدِّقِينَ ﴿والمستغفرين﴾ اللَّه بِأَنْ يَقُولُوا اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَنَا ﴿بِالْأَسْحَارِ﴾ أَوَاخِر اللَّيْل خُصَّتْ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهَا وَقْت الغفلة ولذة النوم
١ -
﴿شهد الله﴾ بين الله لخلقه الدلائل وَالْآيَات ﴿أَنَّهُ لَا إلَه﴾ أَيْ لَا مَعْبُود في الوجود بحق ﴿إلا هو و﴾ شهد بذلك ﴿الملائكة﴾ بالإقرار ﴿وأولوا الْعِلْم﴾ مِنْ الْأَنْبِيَاء وَالْمُؤْمِنِينَ بِالِاعْتِقَادِ وَاللَّفْظ ﴿قَائِمًا﴾ بِتَدْبِيرِ مَصْنُوعَاته وَنَصْبه عَلَى الْحَال وَالْعَامِل فِيهَا مَعْنَى الْجُمْلَة أَيْ تَفَرَّدَ ﴿بِالْقِسْطِ﴾ بِالْعَدْلِ ﴿لَا إلَه إلَّا هُوَ﴾ كَرَّرَهُ تَأْكِيدًا ﴿الْعَزِيز﴾ فِي مُلْكه ﴿الْحَكِيم﴾ فِي صُنْعه
67
١ -
68
﴿إنَّ الدِّين﴾ الْمَرَضِيّ ﴿عِنْد اللَّه﴾ هُوَ ﴿الْإِسْلَام﴾ أَيْ الشَّرْع الْمَبْعُوث بِهِ الرُّسُل الْمَبْنِيّ عَلَى التَّوْحِيد وَفِي قِرَاءَة بِفَتْحِ أَنَّ بَدَل مِنْ أَنَّهُ إلَخْ بَدَل اشْتِمَال ﴿وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَاب﴾ الْيَهُود وَالنَّصَارَى فِي الدِّين بِأَنْ وَحَّدَ بَعْض وَكَفَرَ بَعْض ﴿إلَّا مِنْ بَعْد مَا جَاءَهُمْ الْعِلْم﴾ بِالتَّوْحِيدِ ﴿بَغْيًا﴾ مِنْ الْكَافِرِينَ ﴿بينهم ومن يكفر بآيات الله﴾ ﴿فَإِنَّ اللَّه سَرِيع الْحِسَاب﴾
أَيْ الْمُجَازَاة لَهُ
٢ -
﴿فَإِنْ حَاجُّوك﴾ خَاصَمَك الْكُفَّار يَا مُحَمَّد فِي الدين ﴿فقل﴾ لهم ﴿أسلمت وجهي لله﴾ انْقَدْت لَهُ أَنَا ﴿وَمَنْ اتَّبَعَنِ﴾ وَخَصَّ الْوَجْه بِالذِّكْرِ لِشَرَفِهِ فَغَيْره أَوْلَى ﴿وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَاب﴾ الْيَهُود وَالنَّصَارَى ﴿وَالْأُمِّيِّينَ﴾ مُشْرِكِي الْعَرَب ﴿أَأَسْلَمْتُمْ﴾ أَيْ أَسْلِمُوا ﴿فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدْ اهْتَدَوْا﴾ مِنْ الضَّلَال ﴿وَإِنْ تَوَلَّوْا﴾ عَنْ الْإِسْلَام ﴿فَإِنَّمَا عَلَيْك الْبَلَاغ﴾ أَيْ التَّبْلِيغ لِلرِّسَالَةِ ﴿وَاَللَّه بَصِير بِالْعِبَادِ﴾ فَيُجَازِيهِمْ بِأَعْمَالِهِمْ وَهَذَا قَبْل الْأَمْر بِالْقِتَالِ
٢ -
﴿إنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّه وَيَقْتُلُونَ﴾ وَفِي قِرَاءَة يُقَاتِلُونَ ﴿النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ﴾ بِالْعَدْلِ ﴿مِنْ النَّاس﴾ وَهُمْ الْيَهُود رُوِيَ أَنَّهُمْ قَتَلُوا ثَلَاثَة وَأَرْبَعِينَ نَبِيًّا فَنَهَاهُمْ مِائَة وَسَبْعُونَ مِنْ عِبَادهمْ فَقَتَلُوهُمْ مِنْ يَوْمهمْ ﴿فَبَشِّرْهُمْ﴾ أَعْلِمْهُمْ ﴿بِعَذَابٍ أَلِيم﴾ مُؤْلِم وَذِكْر الْبِشَارَة تَهَكُّم بِهِمْ وَدَخَلَتْ الْفَاء فِي خَبَر إنَّ لِشَبَهِ اسْمهَا الْمَوْصُول بِالشَّرْطِ
٢ -
﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ﴾ بَطَلَتْ ﴿أَعْمَالهمْ﴾ مَا عَمِلُوا مِنْ خَيْر كَصَدَقَةٍ وَصِلَة رَحِم ﴿فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة﴾ فَلَا اعْتِدَاد بِهَا لِعَدَمِ شَرْطهَا ﴿وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ﴾ مَانِعِينَ مِنْ الْعَذَاب
٢ -
﴿أَلَمْ تَرَ﴾ تَنْظُر ﴿إلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا﴾ حَظًّا ﴿مِنْ الْكِتَاب﴾ التَّوْرَاة ﴿يُدْعَوْنَ﴾ حَال ﴿إلَى كِتَاب اللَّه لِيَحْكُم بَيْنهمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيق مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ﴾ عَنْ قَبُول حُكْمه نَزَلَتْ فِي الْيَهُود زَنَى مِنْهُمْ اثْنَانِ فَتَحَاكَمُوا إلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَكَمَ عَلَيْهِمَا بِالرَّجْمِ فَأَبَوْا فَجِيءَ بِالتَّوْرَاةِ فَوَجَدَ فِيهَا فَرُجِمَا فغضبوا
68
٢ -
69
﴿ذَلِكَ﴾ التَّوَلِّي وَالْإِعْرَاض ﴿بِأَنَّهُمْ قَالُوا﴾ أَيْ بِسَبَبِ قَوْلهمْ ﴿لَنْ تَمَسّنَا النَّار إلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَات﴾ أَرْبَعِينَ يَوْمًا مُدَّة عِبَادَة آبَائِهِمْ الْعِجْل ثُمَّ تَزُول عَنْهُمْ ﴿وَغَرَّهُمْ فِي دِينهمْ﴾ مُتَعَلِّق بِقَوْلِهِ ﴿مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ﴾ مِنْ قَوْلهمْ ذَلِكَ
٢ -
﴿فَكَيْفَ﴾ حَالهمْ ﴿إذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ﴾ أَيْ فِي يَوْم ﴿لَا رَيْب﴾ لَا شَكَّ ﴿فِيهِ﴾ هُوَ يَوْم الْقِيَامَة ﴿وَوُفِّيَتْ كُلّ نَفْس﴾ مِنْ أَهْل الْكِتَاب وَغَيْرهمْ جَزَاء ﴿مَا كَسَبَتْ﴾ عَمِلَتْ مِنْ خَيْر وَشَرّ ﴿وَهُمْ﴾ أَيْ النَّاس ﴿لَا يُظْلَمُونَ﴾ بِنَقْصِ حَسَنَة أَوْ زِيَادَة سَيِّئَة
٢ -
وَنَزَلَتْ لَمَّا وَعَدَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمَّته مَلِك فَارِس وَالرُّوم فَقَالَ الْمُنَافِقُونَ هَيْهَاتَ ﴿قُلْ اللَّهُمَّ﴾ يَا اللَّه ﴿مَالِك الْمُلْك تُؤْتِي﴾ تُعْطِي ﴿الْمُلْك مَنْ تُشَاء﴾ مِنْ خَلْقك ﴿وَتَنْزِع الملك ممن تشاء﴾ بإتيانه ﴿وَتُذِلّ مَنْ تَشَاء﴾ بِنَزْعِهِ مِنْهُ ﴿بِيَدِك﴾ بِقُدْرَتِك ﴿الْخَيْر﴾ أَيْ وَالشَّرّ ﴿إنك على كل شيء قدير﴾
٢ -
﴿تُولِج﴾ تُدْخِل ﴿اللَّيْل فِي النَّهَار وَتُولِج النَّهَار﴾ تُدْخِلهُ ﴿فِي اللَّيْل﴾
فَيَزِيد كُلّ مِنْهُمَا بِمَا نَقَصَ مِنْ الْآخَر ﴿وَتُخْرِج الْحَيّ مِنْ الْمَيِّت﴾ كَالْإِنْسَانِ وَالطَّائِر مِنْ النُّطْفَة وَالْبَيْضَة ﴿وَتُخْرِج الْمَيِّت﴾ كَالنُّطْفَةِ وَالْبَيْضَة ﴿مِنْ الْحَيّ وَتَرْزُق مَنْ تَشَاء بِغَيْرِ حِسَاب﴾ أَيْ رِزْقًا وَاسِعًا
٢ -
﴿لَا يَتَّخِذ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء﴾ يُوَالُونَهُمْ ﴿مِنْ دُون﴾ أَيْ غَيْر ﴿الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَل ذَلِكَ﴾ أَيْ يُوَالِيهِمْ ﴿فَلَيْسَ مِنْ﴾ دِين ﴿اللَّه فِي شَيْء إلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاة﴾ مَصْدَر تَقَيْته أَيْ تَخَافُوا مَخَافَة فَلَكُمْ مُوَالَاتهمْ بِاللِّسَانِ دُون الْقَلْب وَهَذَا قَبْل عِزَّة الْإِسْلَام وَيَجْرِي فِيمَنْ هُوَ فِي بَلَد لَيْسَ قَوِيًّا فِيهَا ﴿وَيُحَذِّركُمْ﴾ يُخَوِّفكُمْ ﴿اللَّه نَفْسه﴾ أَنْ يَغْضَب عَلَيْكُمْ إنْ وَالَيْتُمُوهُمْ ﴿وَإِلَى اللَّه الْمَصِير﴾ الْمَرْجِع فَيُجَازِيكُمْ
٢ -
﴿قُلْ﴾ لَهُمْ ﴿إنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُوركُمْ﴾ قُلُوبكُمْ مِنْ مُوَالَاتهمْ ﴿أَوْ تُبْدُوهُ﴾ تُظْهِرُوهُ ﴿يَعْلَمهُ الله و﴾ هو ﴿يَعْلَم مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الْأَرْض وَاَللَّه عَلَى كُلّ شَيْء قَدِير﴾ وَمِنْهُ تَعْذِيب من والاهم
٣ -
اُذْكُرْ ﴿يَوْم تَجِد كُلّ نَفْس مَا عَمِلَتْ﴾ هُ ﴿مِنْ خَيْر مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ﴾ هُ ﴿مِنْ سُوء﴾ مُبْتَدَأ خَبَره ﴿تَوَدّ لَوْ أَنَّ بَيْنهَا وَبَيْنه أَمَدًا بَعِيدًا﴾ غَايَة فِي نِهَايَة الْبُعْد فَلَا يَصِل إلَيْهَا ﴿وَيُحَذِّركُمْ اللَّه نَفْسه﴾ كرر التأكيد {والله رؤوف بالعباد
69
٣ -
70
وَنَزَلَ لَمَّا قَالُوا مَا نَعْبُد الْأَصْنَام إلَّا حُبًّا لِلَّهِ لِيُقَرِّبُونَا إلَيْهِ ﴿قُلْ﴾ لَهُمْ يَا مُحَمَّد ﴿إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّه فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّه﴾ بِمَعْنَى يُثِيبكُمْ ﴿وَيَغْفِر لَكُمْ ذُنُوبكُمْ وَاَللَّه غَفُور﴾ لِمَنْ اتَّبَعَنِي مَا سَلَفَ مِنْهُ قَبْل ذَلِكَ ﴿رَحِيم﴾ بِهِ
٣ -
﴿قُلْ﴾ لَهُمْ ﴿أَطِيعُوا اللَّه وَالرَّسُول﴾ فِيمَا يَأْمُركُمْ بِهِ مِنْ التَّوْحِيد ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا﴾ أَعْرَضُوا عَنْ الطَّاعَة ﴿فَإِنَّ اللَّه لَا يُحِبّ الْكَافِرِينَ﴾ فِيهِ إقَامَة الظَّاهِر مَقَام الْمُضْمَر أَيْ لَا يُحِبّهُمْ بِمَعْنَى أَنَّهُ يُعَاقِبهُمْ
٣ -
﴿إنَّ اللَّه اصْطَفَى﴾ اخْتَارَ ﴿آدَم وَنُوحًا وَآل إبْرَاهِيم وَآل عِمْرَان﴾ بِمَعْنَى أَنْفُسهمَا ﴿عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ يجعل الْأَنْبِيَاء مِنْ نَسْلهمْ
٣ -
﴿ذرية بعضها من﴾ ولد ﴿بعض﴾ منهم ﴿والله سميع عليم﴾
٣ -
اُذْكُرْ ﴿إذْ قَالَتْ امْرَأَة عِمْرَان﴾ حَنَّة لَمَّا أَسَنَّتْ وَاشْتَاقَتْ لِلْوَلَدِ فَدَعَتْ اللَّه وَأَحَسَّتْ بِالْحَمْلِ يَا ﴿رَبّ إنِّي نَذَرْت﴾ أَنْ أَجْعَل ﴿لَك مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا﴾ عَتِيقًا خَالِصًا مِنْ شَوَاغِل الدُّنْيَا لِخِدْمَةِ بَيْتك الْمُقَدَّس ﴿فَتَقَبَّلْ مِنِّي إنَّك أَنْت السَّمِيع﴾ لِلدُّعَاءِ ﴿الْعَلِيم﴾ بِالنِّيَّاتِ وَهَلَكَ عِمْرَان وَهِيَ حَامِل
٣ -
﴿فَلَمَّا وَضَعَتْهَا﴾ وَلَدَتْهَا جَارِيَة وَكَانَتْ تَرْجُو أَنْ يَكُون غُلَامًا إذْ لَمْ يَكُنْ يُحَرَّر إلَّا الْغِلْمَان ﴿قَالَتْ﴾ مُعْتَذِرَة يَا ﴿رَبّ إنِّي وَضَعْتهَا أنثى وَاَللَّه أَعْلَم﴾ أَيْ عَالِم ﴿بِمَا وَضَعَتْ﴾ جُمْلَة اعْتِرَاض مِنْ كَلَامه تَعَالَى وَفِي قِرَاءَة بِضَمِّ التَّاء ﴿وَلَيْسَ الذَّكَر﴾ الَّذِي طَلَبْت ﴿كَالْأُنْثَى﴾ الَّتِي وَهَبْت لِأَنَّهُ يُقْصَد لِلْخِدْمَةِ وَهِيَ لَا تَصْلُح لِضَعْفِهَا وَعَوْرَتهَا وَمَا يَعْتَرِيهَا مِنْ الْحَيْض وَنَحْوه ﴿وَإِنِّي سَمَّيْتهَا مَرْيَم وَإِنِّي أُعِيذهَا بِك وَذُرِّيَّتهَا﴾ أَوْلَادهَا ﴿مِنْ الشَّيْطَان الرَّجِيم﴾ الْمَطْرُود فِي الْحَدِيث مَا مِنْ مَوْلُود يُولَد إلَّا مَسَّهُ الشَّيْطَان حَيْن يُولَد فَيَسْتَهِلّ صَارِخًا إلَّا مَرْيَم وَابْنهَا رواه الشيخان
70
٣ -
71
﴿فَتَقَبَّلَهَا رَبّهَا﴾ أَيْ قَبِلَ مَرْيَم مِنْ أُمّهَا ﴿بِقَبُولٍ حَسَن وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا﴾ أَنْشَأَهَا بِخُلُقٍ حَسَن فَكَانَتْ تَنْبُت فِي الْيَوْم كَمَا يَنْبُت الْمَوْلُود فِي الْعَام وَأَتَتْ بِهَا أُمّهَا الْأَحْبَار سَدَنَة بَيْت الْمَقْدِس فَقَالَتْ دُونكُمْ هَذِهِ النَّذِيرَة فَتَنَافَسُوا فِيهَا لِأَنَّهَا بِنْت إمَامهمْ فَقَالَ زَكَرِيَّا أَنَا أَحَقّ بِهَا لِأَنَّ خَالَتهَا عِنْدِي فَقَالُوا لَا حَتَّى نَقْتَرِع فَانْطَلَقُوا وَهُمْ تِسْعَة وَعِشْرُونَ إلَى نَهْر الْأُرْدُنّ وَأَلْقَوْا أَقْلَامهمْ عَلَى أَنَّ مَنْ ثَبَتَ قَلَمه فِي الْمَاء وَصَعِدَ أَوْلَى بِهَا فَثَبَتَ قَلَم زَكَرِيَّا فَأَخَذَهَا وَبَنَى لَهَا غُرْفَة فِي الْمَسْجِد بِسُلَّمٍ لَا يَصْعَد إلَيْهَا غَيْره وَكَانَ يَأْتِيهَا بِأَكْلِهَا وَشُرْبهَا وَدُهْنهَا فَيَجِد عِنْدهَا فَاكِهَة الصَّيْف فِي الشِّتَاء وَفَاكِهَة الشِّتَاء في الصيف كما قال تعالى ﴿وكفلها زكريا﴾ ضَمَّهَا إلَيْهِ وَفِي قِرَاءَة بِالتَّشْدِيدِ وَنَصْب زَكَرِيَّا مَمْدُودًا وَمَقْصُورًا وَالْفَاعِل اللَّه ﴿كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَاب﴾ الْغُرْفَة وَهِيَ أَشْرَف الْمَجَالِس ﴿وَجَدَ عِنْدهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَم أَنَّى﴾ مِنْ أَيْنَ ﴿لَك هَذَا قَالَتْ﴾ وَهِيَ صَغِيرَة ﴿هُوَ مِنْ عِنْد اللَّه﴾ يَأْتِينِي بِهِ مِنْ الْجَنَّة ﴿إنَّ اللَّه يَرْزُق مَنْ يَشَاء بِغَيْرِ حِسَاب﴾ رِزْقًا وَاسِعًا بِلَا تَبَعَة
٣ -
﴿هُنَالِكَ﴾ أَيْ لَمَّا رَأَى زَكَرِيَّا ذَلِكَ وَعَلِمَ أَنَّ الْقَادِر عَلَى الْإِتْيَان بِالشَّيْءِ فِي غَيْر حِينه قَادِر عَلَى الْإِتْيَان بِالْوَلَدِ عَلَى الْكِبَر وَكَانَ أَهْل بَيْته انْقَرَضُوا ﴿دَعَا زَكَرِيَّا رَبّه﴾ لَمَّا دَخَلَ الْمِحْرَاب لِلصَّلَاةِ جَوْف اللَّيْل ﴿قَالَ رَبّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْك﴾ مِنْ عِنْدك ﴿ذُرِّيَّة طَيِّبَة﴾ وَلَدًا صَالِحًا ﴿إنَّك سَمِيع﴾ مُجِيب ﴿الدعاء﴾
٣ -
﴿فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَة﴾ أَيْ جِبْرِيل ﴿وَهُوَ قَائِم يُصَلِّي فِي الْمِحْرَاب﴾ أَيْ الْمَسْجِد ﴿أَنَّ﴾ أَيْ بِأَنَّ وفي قراءة بالكسر بتقديره الْقَوْل ﴿اللَّه يُبَشِّرك﴾ مُثَقَّلًا وَمُخَفَّفًا ﴿بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ﴾ كَائِنَة ﴿مِنْ اللَّه﴾ أَيْ بِعِيسَى أَنَّهُ رُوح اللَّه وَسُمِّيَ كَلِمَة لِأَنَّهُ خُلِقَ بِكَلِمَةِ كُنْ ﴿وَسَيِّدًا﴾ مَتْبُوعًا ﴿وَحَصُورًا﴾ مَمْنُوعًا مِنْ النِّسَاء ﴿وَنَبِيًّا مِنْ الصَّالِحِينَ﴾ رُوِيَ أَنَّهُ لَمْ يَعْمَل خَطِيئَة وَلَمْ يَهِمّ بِهَا
٤ -
﴿قَالَ رَبّ أَنَّى﴾ كَيْفَ ﴿يَكُون لِي غُلَام﴾ وَلَد ﴿وَقَدْ بَلَغَنِي الْكِبَر﴾ أَيْ بَلَغْت نِهَايَة السِّنّ مِائَة وَعِشْرِينَ سَنَة ﴿وَامْرَأَتِي عَاقِر﴾ بَلَغَتْ ثَمَانِيَة وَتِسْعِينَ سَنَة ﴿قَالَ﴾ الْأَمْر ﴿كَذَلِكَ﴾ مِنْ خَلْق اللَّه غُلَامًا مِنْكُمَا ﴿اللَّه يَفْعَل مَا يَشَاء﴾ لَا يُعْجِزهُ عَنْهُ شَيْء وَلِإِظْهَارِ هَذِهِ الْقُدْرَة الْعَظِيمَة أَلْهَمَهُ السُّؤَال لِيُجَابَ بِهَا وَلَمَّا تَاقَتْ نَفْسه إلَى سُرْعَة الْمُبَشَّر بِهِ
٤ -
﴿قَالَ رَبّ اجْعَلْ لِي آيَة﴾ أَيْ عَلَامَة على حمل امرأتي ﴿قال آيتك﴾ عليه ﴿أ﴾ ن ﴿لا تُكَلِّم النَّاس﴾ أَيْ تَمْتَنِع مِنْ كَلَامهمْ بِخِلَافِ ذِكْر اللَّه تَعَالَى ﴿ثَلَاثَة أَيَّام﴾ أَيْ بِلَيَالِيِهَا ﴿إلَّا رَمْزًا﴾ إشَارَة ﴿وَاذْكُرْ رَبّك كَثِيرًا وَسَبِّحْ﴾ صَلِّ ﴿بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَار﴾ أَوَاخِر النَّهَار وَأَوَائِله
71
٤ -
72
﴿و﴾ اُذْكُرْ ﴿إذْ قَالَتْ الْمَلَائِكَة﴾ أَيْ جِبْرِيل ﴿يَا مَرْيَم إنَّ اللَّه اصْطَفَاك﴾ اخْتَارَك ﴿وَطَهَّرَك﴾ مِنْ مَسِيس الرِّجَال ﴿وَاصْطَفَاك عَلَى نِسَاء الْعَالَمِينَ﴾ أَيْ أَهْل زَمَانك
٤ -
﴿يَا مَرْيَم اُقْنُتِي لِرَبِّك﴾ أَطِيعِيهِ ﴿وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾ أَيْ صَلِّي مَعَ الْمُصَلِّينَ
٤ -
﴿ذَلِكَ﴾ الْمَذْكُور مِنْ أَمْر زَكَرِيَّا وَمَرْيَم ﴿مِنْ أَنْبَاء الْغَيْب﴾ أَخْبَار مَا غَابَ عَنْك ﴿نُوحِيهِ إلَيْك﴾ يَا مُحَمَّد ﴿وَمَا كُنْت لَدَيْهِمْ إذْ يُلْقُونَ أَقْلَامهمْ﴾ فِي الْمَاء يَقْتَرِعُونَ لِيَظْهَر لَهُمْ ﴿أَيّهمْ يَكْفُل﴾ يُرَبِّي ﴿مَرْيَم وَمَا كُنْت لَدَيْهِمْ إذْ يَخْتَصِمُونَ﴾ فِي كَفَالَتهَا فَتَعْرِف ذَلِكَ فَتُخْبِر به وإنما عرفته من جهة الوحي
٤ -
اُذْكُرْ ﴿إذْ قَالَتْ الْمَلَائِكَة﴾ أَيْ جِبْرِيل ﴿يَا مَرْيَم إنَّ اللَّه يُبَشِّرك بِكَلِمَةٍ مِنْهُ﴾ أَيْ ولد ﴿اسمه المسيح عيسى بن مَرْيَم﴾ خَاطَبَهَا بِنِسْبَتِهِ إلَيْهَا تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهَا تَلِدهُ بِلَا أَب إذْ عَادَة الرِّجَال نِسْبَتهمْ إلَى آبَائِهِمْ ﴿وَجِيهًا﴾ ذَا جَاه ﴿فِي الدُّنْيَا﴾ بِالنُّبُوَّةِ ﴿وَالْآخِرَة﴾ بِالشَّفَاعَةِ وَالدَّرَجَات الْعُلَا ﴿وَمِنْ الْمُقَرَّبِينَ﴾ عند الله
٤ -
﴿وَيُكَلِّم النَّاس فِي الْمَهْد﴾ أَيْ طِفْلًا قَبْل وَقْت الْكَلَام ﴿وكهلا ومن الصالحين﴾
٤ -
﴿قَالَتْ رَبّ أَنَّى﴾ كَيْفَ ﴿يَكُون لِي وَلَد وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَر﴾ بِتَزَوُّجٍ وَلَا غَيْره ﴿قَالَ﴾ الْأَمْر ﴿كَذَلِك﴾ مِنْ خَلْق وَلَد مِنْك بِلَا أَب ﴿اللَّه يَخْلُق مَا يَشَاء إذَا قَضَى أَمْرًا﴾ أَرَادَ خَلْقه ﴿فَإِنَّمَا يَقُول لَهُ كُنْ فَيَكُون﴾ أَيْ فَهُوَ يَكُون
٤ -
﴿وَيُعَلِّمهُ﴾ بِالنُّونِ وَالْيَاء ﴿الْكِتَاب﴾ الْخَطّ {والحكمة والتوراة والإنجيل
72
٤ -
73
﴿و﴾ يَجْعَلهُ ﴿رَسُولًا إلَى بَنِي إسْرَائِيل﴾ فِي الصِّبَا أَوْ بَعْد الْبُلُوغ فَنَفَخَ جِبْرِيل فِي جَيْب دِرْعهَا فَحَمَلَتْ وَكَانَ مِنْ أَمْرهَا مَا ذُكِرَ فِي سُورَة مَرْيَم فَلَمَّا بَعَثَهُ اللَّه إلَى بَنِي إسْرَائِيل قَالَ لَهُمْ إنِّي رَسُول اللَّه إلَيْكُمْ ﴿أَنِّي﴾ أَيْ بِأَنِّي ﴿قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ﴾ عَلَامَة عَلَى صِدْقِي ﴿مِنْ رَبّكُمْ﴾ هِيَ ﴿أَنِّي﴾ وَفِي قِرَاءَة بِالْكَسْرِ اسْتِئْنَافًا ﴿أَخْلُق﴾ أُصَوِّر ﴿لَكُمْ مِنْ الطِّين كَهَيْئَةِ الطَّيْر﴾ مِثْل صُورَته فَالْكَاف اسْم مَفْعُول ﴿فَأَنْفُخ فِيهِ﴾ الضَّمِير لِلْكَافِ ﴿فَيَكُون طَيْرًا﴾ وَفِي قِرَاءَة طَائِرًا ﴿بِإِذْنِ اللَّه﴾ بِإِرَادَتِهِ فَخَلَقَ لَهُمْ الْخُفَّاش لِأَنَّهُ أَكْمَل الطَّيْر خَلْقًا فَكَانَ يَطِير وَهُمْ يَنْظُرُونَهُ فَإِذَا غَابَ عَنْ أَعْيُنهمْ سَقَطَ مَيِّتًا ﴿وَأُبْرِئ﴾ أُشْفِي ﴿الْأَكْمَه﴾ الَّذِي وُلِدَ أَعْمَى ﴿وَالْأَبْرَص﴾ وَخُصَّا بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُمَا دَاءَا إعْيَاء وَكَانَ بَعْثه فِي زَمَن الطِّبّ فَأَبْرَأ فِي يَوْم خَمْسِينَ أَلْفًا بِالدُّعَاءِ بِشَرْطِ الإيمان ﴿وأحيي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّه﴾ كَرَّرَهُ لِنَفْيِ تَوَهُّم الْأُلُوهِيَّة فيه فأحيا عازر صديقا له وبن الْعَجُوز وَابْنَة الْعَاشِر فَعَاشُوا وَوُلِدَ لَهُمْ وَسَام بْن نُوح وَمَاتَ فِي الْحَال ﴿وَأُنَبِّئكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ﴾ تُخَبِّئُونَ ﴿فِي بُيُوتكُمْ﴾ مِمَّا لَمْ أُعَايِنهُ فَكَانَ يُخْبِر الشَّخْص بِمَا أَكَلَ وَبِمَا يَأْكُل بَعْد ﴿إنَّ فِي ذَلِكَ﴾ الْمَذْكُور ﴿لآية لكم إن كنتم مؤمنين﴾
٥ -
﴿و﴾ جِئْتُكُمْ ﴿مُصَدِّقًا لِمَا بَيْن يَدَيَّ﴾ قَبْلِي ﴿مِنْ التَّوْرَاة وَلِأُحِلّ لَكُمْ بَعْض الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ﴾ فِيهَا فَأَحَلَّ لَهُمْ مِنْ السَّمَك وَالطَّيْر مالا صِيصَة لَهُ وَقِيلَ أَحَلَّ الْجَمِيع فَبَعْض بِمَعْنَى كُلّ ﴿وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبّكُمْ﴾ كَرَّرَهُ تَأْكِيدًا وَلِيَبْنِيَ عَلَيْهِ ﴿فَاتَّقُوا اللَّه وَأَطِيعُونِ﴾ فِيمَا آمُركُمْ بِهِ مِنْ تَوْحِيد اللَّه وَطَاعَته
٥ -
﴿إنَّ اللَّه رَبِّي وَرَبّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا﴾ الَّذِي آمُركُمْ بِهِ ﴿صِرَاط﴾ طَرِيق ﴿مُسْتَقِيم﴾ فَكَذَّبُوهُ وَلَمْ يؤمنوا به
٥ -
﴿فَلَمَّا أَحَسَّ﴾ عَلِمَ ﴿عِيسَى مِنْهُمْ الْكُفْر﴾ وَأَرَادُوا قَتْله ﴿قَالَ مَنْ أَنْصَارِي﴾ أَعْوَانِي ذَاهِبًا ﴿إلَى اللَّه﴾ لِأَنْصُر دِينه ﴿قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَار اللَّه﴾ أَعْوَان دِينه وَهُمْ أَصْفِيَاء عِيسَى أَوَّل مَنْ آمَنَ بِهِ وَكَانُوا اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا مِنْ الْحُور وَهُوَ الْبَيَاض الْخَالِص وَقِيلَ كَانُوا قَصَّارِينَ يَحُورُونَ الثِّيَاب أَيْ يُبَيِّضُونَهَا ﴿آمَنَّا﴾ صَدَّقْنَا ﴿بِاَللَّهِ وَاشْهَدْ﴾ يَا عِيسَى ﴿بأنا مسلمون﴾
٥ -
﴿رَبّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْت﴾ مِنْ الْإِنْجِيل ﴿وَاتَّبَعْنَا الرَّسُول﴾ عِيسَى ﴿فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ﴾ لَك بالوحدانية ولرسولك بالصدق
٥ -
قال تعالى ﴿وَمَكَرُوا﴾ أَيْ كُفَّار بَنِي إسْرَائِيل بِعِيسَى إذْ وَكَلُوا بِهِ مَنْ يَقْتُلهُ غِيلَة ﴿وَمَكَرَ اللَّه﴾ بِهِمْ بِأَنْ أَلْقَى شَبَه عِيسَى عَلَى مَنْ قَصَدَ قَتْله فَقَتَلُوهُ وَرَفَعَ عِيسَى إلَى السَّمَاء ﴿وَاَللَّه خَيْر الْمَاكِرِينَ﴾ أَعْلَمهُمْ بِهِ
73
٥ -
74
﴿إذْ قَالَ اللَّه يَا عِيسَى إنِّي مُتَوَفِّيك﴾ قَابِضك ﴿وَرَافِعك إلَيَّ﴾ مِنْ الدُّنْيَا مِنْ غَيْر مَوْت ﴿وَمُطَهِّرك﴾ مُبْعِدك ﴿مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِل الَّذِينَ اتَّبَعُوك﴾ صَدَّقُوا بِنُبُوَّتِك مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَالنَّصَارَى ﴿فَوْق الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ بِك وَهُمْ الْيَهُود يَعْلُونَهُمْ بِالْحُجَّةِ وَالسَّيْف ﴿إلَى يَوْم الْقِيَامَة ثُمَّ إلَيَّ مَرْجِعكُمْ فَأَحْكُم بَيْنكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾ مِنْ أَمْر الدِّين
٥ -
فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا} بِالْقَتْلِ وَالسَّبْي وَالْجِزْيَة ﴿وَالْآخِرَة﴾ بِالنَّارِ ﴿وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ﴾ مَانِعِينَ مِنْهُ
٥ -
﴿وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَات فَيُوَفِّيهِمْ﴾ بِالْيَاءِ وَالنُّون ﴿أُجُورهمْ وَاَللَّه لَا يُحِبّ الظَّالِمِينَ﴾ أَيْ يعاقبهم روي أنه تَعَالَى أَرْسَلَ إلَيْهِ سَحَابَة فَرَفَعَتْهُ فَتَعَلَّقَتْ بِهِ أُمّه وَبَكَتْ فَقَالَ لَهَا إنَّ الْقِيَامَة تَجْمَعنَا وَكَانَ ذَلِكَ لَيْلَة الْقَدْر بِبَيْتِ الْمَقْدِس وَلَهُ ثَلَاث وَثَلَاثُونَ سَنَة وَعَاشَتْ أُمّه بَعْده سِتّ سِنِينَ وَرَوَى الشَّيْخَانِ حَدِيث أَنَّهُ يَنْزِل قُرْب السَّاعَة وَيَحْكُم بِشَرِيعَةِ نَبِيّنَا وَيَقْتُل الدَّجَّال وَالْخِنْزِير وَيَكْسِر الصَّلِيب وَيَضَع الْجِزْيَة وَفِي حَدِيث مُسْلِم أَنَّهُ يَمْكُث سَبْع سِنِينَ وَفِي حَدِيث عَنْ أبي داود الطيالسي أربعين سنة يتوفى وَيُصَلَّى عَلَيْهِ فَيَحْتَمِل أَنَّ الْمُرَاد مَجْمُوع لُبْثه فِي الْأَرْض قَبْل الرَّفْع وَبَعْده
٥ -
﴿ذَلِكَ﴾ الْمَذْكُور مِنْ أَمْر عِيسَى ﴿نَتْلُوهُ﴾ نَقُصّهُ ﴿عَلَيْك﴾ يَا مُحَمَّد ﴿مِنْ الْآيَات﴾ حَال مِنْ الْهَاء فِي نَتْلُوهُ وَعَامِله مَا فِي ذَلِكَ مِنْ مَعْنَى الْإِشَارَة ﴿وَالذِّكْر الْحَكِيم﴾ الْمُحْكَم أَيْ القرآن
٥ -
﴿إنَّ مَثَل عِيسَى﴾ شَأْنه الْغَرِيب ﴿عِنْد اللَّه كَمَثَلِ آدَم﴾ كَشَأْنِهِ فِي خَلْقه مِنْ غَيْر أَب وَهُوَ مِنْ تَشْبِيه الْغَرِيب بِالْأَغْرَبِ لِيَكُونَ أَقْطَع لِلْخَصْمِ وَأَوْقَع فِي النَّفْس ﴿خَلَقَهُ مِنْ تُرَاب ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ﴾ بَشَرًا ﴿فَيَكُون﴾ أَيْ فَكَانَ وَكَذَلِكَ عِيسَى قَالَ لَهُ كُنْ مِنْ غَيْر أَب فَكَانَ
٦ -
﴿الْحَقّ مِنْ رَبّك﴾ خَبَر مُبْتَدَأ مَحْذُوف أَيْ أَمْر عِيسَى ﴿فَلَا تَكُنْ مِنْ الْمُمْتَرِينَ﴾ الشَّاكِّينَ فيه
74
٦ -
75
﴿فَمَنْ حَاجَّك﴾ جَادَلَك مِنْ النَّصَارَى ﴿فِيهِ مِنْ بَعْد مَا جَاءَك مِنْ الْعِلْم﴾ بِأَمْرِهِ ﴿فَقُلْ﴾ لَهُمْ ﴿تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسنَا وَأَنْفُسكُمْ﴾ فَنَجْمَعهُمْ ﴿ثُمَّ نَبْتَهِل﴾ نَتَضَرَّع فِي الدُّعَاء ﴿فَنَجْعَل لَعْنَة اللَّه عَلَى الْكَاذِبِينَ﴾ بِأَنْ نَقُول اللَّهُمَّ الْعَنْ الْكَاذِب فِي شَأْن عِيسَى وَقَدْ دَعَا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفْد نَجْرَان لِذَلِكَ لَمَّا حَاجُّوهُ بِهِ فَقَالُوا حَتَّى نَنْظُر فِي أَمْرنَا ثُمَّ نَأْتِيك فَقَالَ ذَوُو رَأْيهمْ لَقَدْ عَرَفْتُمْ نُبُوَّته وَأَنَّهُ مَا بِأَهْلِ قَوْم نَبِيًّا إلَّا هَلَكُوا فَوَادَعُوا الرَّجُل وَانْصَرَفُوا فَأَتَوْا الرَّسُول صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ خَرَجَ وَمَعَهُ الْحَسَن وَالْحُسَيْن وَفَاطِمَة وَعَلِيّ وَقَالَ لَهُمْ إذَا دَعَوْت فَأَمِّنُوا فَأَبَوْا أَنْ يُلَاعِنُوا وَصَالَحُوهُ عَلَى الْجِزْيَة رَوَاهُ أَبُو نُعَيْم وَعَنْ بن عَبَّاس قَالَ لَوْ خَرَجَ الَّذِينَ يُبَاهِلُونَ لَرَجَعُوا لَا يَجِدُونَ مَالًا وَلَا أَهْلًا وَرُوِيَ لَوْ خرجوا لاحترقوا
٦ -
﴿إنَّ هَذَا﴾ الْمَذْكُور ﴿لَهُوَ الْقَصَص﴾ الْخَبَر ﴿الْحَقّ﴾ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ ﴿وَمَا مِنْ إلَه إلَّا اللَّه وَإِنَّ اللَّه لَهُوَ الْعَزِيز﴾ فِي مُلْكه ﴿الْحَكِيم﴾ فِي صُنْعه
٦ -
﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا﴾ أَعْرَضُوا عَنْ الْإِيمَان ﴿فَإِنَّ اللَّه عَلِيم بِالْمُفْسِدِينَ﴾ فَيُجَازِيهِمْ وَفِيهِ وَضْع الظَّاهِر مَوْضِع المضمر
٦ -
﴿قل يأهل الْكِتَاب﴾ الْيَهُود وَالنَّصَارَى ﴿تَعَالَوْا إلَى كَلِمَة سَوَاء﴾ مَصْدَر بِمَعْنَى مُسْتَوٍ أَمْرهَا ﴿بَيْننَا وَبَيْنكُمْ﴾ هِيَ ﴿أ﴾ ن ﴿لا نَعْبُد إلَّا اللَّه وَلَا نُشْرِك بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذ بَعْضنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُون اللَّه﴾ كَمَا اتَّخَذْتُمْ الْأَحْبَار وَالرُّهْبَان ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا﴾ أَعْرَضُوا عَنْ التَّوْحِيد ﴿فَقُولُوا﴾ أَنْتُمْ لَهُمْ ﴿اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾ مُوَحِّدُونَ
٦ -
وَنَزَلَ لَمَّا قَالَ الْيَهُود إبْرَاهِيم يَهُودِيّ وَنَحْنُ على دينه وقالت النصارى كذلك ﴿يأهل الْكِتَاب لِمَ تُحَاجُّونَ﴾ تُخَاصِمُونَ ﴿فِي إبْرَاهِيم﴾ بِزَعْمِكُمْ أَنَّهُ عَلَى دِينكُمْ ﴿وَمَا أُنْزِلَتْ التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل إلا من بعده﴾ بزمن طويل وبعد نزولها حَدَثَتْ الْيَهُودِيَّة وَالنَّصْرَانِيَّة ﴿أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ بُطْلَان قَوْلكُمْ}
٦ -
﴿هَا﴾ لِلتَّنْبِيهِ ﴿أَنْتُمْ﴾ مُبْتَدَأ يَا ﴿هَؤُلَاءِ﴾ وَالْخَبَر ﴿حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْم﴾ مِنْ أَمْر مُوسَى وَعِيسَى وَزَعْمكُمْ أَنَّكُمْ عَلَى دِينهمَا ﴿فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْم﴾ مِنْ شَأْن إبْرَاهِيم ﴿وَاَللَّه يَعْلَم﴾ شَأْنه ﴿وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ قَالَ تَعَالَى تَبْرِئَة لِإِبْرَاهِيم
٦ -
﴿مَا كَانَ إبْرَاهِيم يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا﴾ مَائِلًا عَنْ الْأَدْيَان كُلّهَا إلَى الدِّين الْقَيِّم ﴿مُسْلِمًا﴾ مُوَحِّدًا ﴿وما كان من المشركين﴾
٦ -
﴿إنَّ أَوْلَى النَّاس﴾ أَحَقّهمْ ﴿بِإِبْرَاهِيم لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ﴾ فِي زَمَانه ﴿وَهَذَا النَّبِيّ﴾ مُحَمَّد لِمُوَافَقَتِهِ لَهُ فِي أَكْثَر شَرْعه ﴿وَاَلَّذِينَ آمَنُوا﴾ مِنْ أُمَّته فَهُمْ الَّذِينَ يَنْبَغِي أَنْ يَقُولُوا نَحْنُ عَلَى دِينه لَا أَنْتُمْ ﴿وَاَللَّه وَلِيّ الْمُؤْمِنِينَ﴾ نَاصِرهمْ وحافظهم
٦ -
وَنَزَلَ لَمَّا دَعَا الْيَهُود مُعَاذًا وَحُذَيْفَة وَعَمَّارًا إلَى دِينهمْ ﴿وَدَّتْ طَائِفَة مِنْ أَهْل الْكِتَاب لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إلَّا أَنْفُسهمْ﴾ لِأَنَّ إثْم إضْلَالهمْ عَلَيْهِمْ وَالْمُؤْمِنُونَ لَا يُطِيعُونَهُمْ فِيهِ ﴿وما يشعرون﴾ بذلك
75
٧ -
76
﴿يأهل الْكِتَاب لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّه﴾ الْقُرْآن الْمُشْتَمِل عَلَى نَعْت مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ﴿وأنتم تشهدون﴾ تعلمون أنه الحق
٧ -
﴿يأهل الْكِتَاب لِمَ تُلْبِسُونَ﴾ تَخْلِطُونَ ﴿الْحَقّ بِالْبَاطِلِ﴾ بِالتَّحْرِيفِ وَالتَّزْوِير ﴿وَتَكْتُمُونَ الْحَقّ﴾ أَيْ نَعْت النَّبِيّ ﴿وَأَنْتُمْ تعلمون﴾ أنه حق
٧ -
﴿وقالت طائفة من أهل الكتاب﴾ اليهود بعضهم ﴿آمِنُوا بِاَلَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا﴾ أَيْ القرآن ﴿وجه النهار﴾ أوله ﴿واكفروا﴾ دِينهمْ إذْ يَقُولُونَ مَا رَجَعَ هَؤُلَاءِ عَنْهُ بَعْد دُخُولهمْ فِيهِ وَهُمْ أُولُو عِلْم إلَّا لعلمهم بطلانه
٧ -
وقالوا أيضا ﴿وَلَا تُؤْمِنُوا﴾ تُصَدِّقُوا ﴿إلَّا لِمَنْ تَبِعَ﴾ وَافَقَ ﴿دِينكُمْ﴾ قَالَ تَعَالَى ﴿قُلْ﴾ لَهُمْ يَا مُحَمَّد ﴿إنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّه﴾ الَّذِي هُوَ الْإِسْلَام وَمَا عَدَاهُ ضَلَال وَالْجُمْلَة اعْتِرَاض ﴿أَنْ﴾ أَيْ بِأَنْ ﴿يُؤْتَى أَحَد مِثْل مَا أُوتِيتُمْ﴾ مِنْ الْكِتَاب وَالْحِكْمَة وَالْفَضَائِل وَأَنْ مَفْعُول تُؤْمِنُوا وَالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ أَحَد قُدِّمَ عَلَيْهِ الْمُسْتَثْنَى الْمَعْنَى لَا تُقِرُّوا بِأَنْ أَحَدًا يُؤْتَى ذَلِكَ إلَّا لِمَنْ اتَّبَعَ دِينكُمْ ﴿أَوْ﴾ بِأَنْ ﴿يُحَاجُّوكُمْ﴾ أَيْ الْمُؤْمِنُونَ يَغْلِبُوكُمْ ﴿عِنْد رَبّكُمْ﴾ يَوْم الْقِيَامَة لِأَنَّكُمْ أَصَحّ دِينًا وَفِي قِرَاءَة أَأَنْ بِهَمْزَةِ التَّوْبِيخ أَيْ إيتَاء أَحَد مِثْله تُقِرُّونَ بِهِ قال تعالى ﴿قُلْ إنَّ الْفَضْل بِيَدِ اللَّه يُؤْتِيه مَنْ يَشَاء﴾ فَمِنْ أَيْنَ لَكُمْ أَنَّهُ لَا يُؤْتَى أَحَد مِثْل مَا أُوتِيتُمْ ﴿وَاَللَّه وَاسِع﴾ كَثِير الفضل ﴿عليم﴾ بمن هو أهله
٧ -
﴿يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم﴾
٧ -
﴿وَمِنْ أَهْل الْكِتَاب مَنْ إنْ تَأْمَنهُ بِقِنْطَارٍ﴾ أَيْ بِمَالٍ كَثِير ﴿يُؤَدِّهِ إلَيْك﴾ لِأَمَانَتِهِ كَعَبْدِ اللَّه بْن سَلَام أَوْدَعَهُ رَجُل أَلْفًا وَمِائَتَيْ أُوقِيَّة ذَهَبًا فَأَدَّاهَا إلَيْهِ ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ إنْ تَأْمَنهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إلَيْك﴾ لِخِيَانَتِهِ ﴿إلَّا مَا دُمْت عَلَيْهِ قَائِمًا﴾ لَا تُفَارِقهُ فَمَتَى فَارَقْته أَنْكَرَهُ كَكَعْبِ بْن الْأَشْرَف اسْتَوْدَعَهُ قُرَشِيّ دِينَارًا فَجَحَدَهُ ﴿ذَلِكَ﴾ أَيْ تَرْك الْأَدَاء ﴿بِأَنَّهُمْ قَالُوا﴾ بِسَبَبِ قَوْلهمْ ﴿لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ﴾ أَيْ الْعَرَب ﴿سَبِيل﴾ أَيْ إثْم لِاسْتِحْلَالِهِمْ ظُلْم من خالف دينهم ونسبوه إليه تعالى قال تَعَالَى ﴿وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّه الْكَذِب﴾ فِي نِسْبَة ذَلِكَ إلَيْهِ ﴿وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ أَنَّهُمْ كَاذِبُونَ
76
٧ -
77
﴿بلى﴾ عليهم فيه سَبِيل ﴿مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ﴾ الَّذِي عَاهَدَ عَلَيْهِ أَوْ بِعَهْدِ اللَّه إلَيْهِ مِنْ أَدَاء الْأَمَانَة وَغَيْره ﴿وَاتَّقَى﴾ اللَّه بِتَرْكِ الْمَعَاصِي وَعَمِلَ الطَّاعَات ﴿فَإِنَّ اللَّه يُحِبّ الْمُتَّقِينَ﴾ فِيهِ وَضْع الظَّاهِر مَوْضِع الْمُضْمَر أَيْ يُحِبّهُمْ بِمَعْنَى يُثِيبهُمْ
٧ -
وَنَزَلَ فِي الْيَهُود لَمَّا بَدَّلُوا نَعْت النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَهْد اللَّه إلَيْهِمْ فِي التَّوْرَاة وَفِيمَنْ حَلَفَ كَاذِبًا فِي دَعْوَى أَوْ فِي بَيْع سِلْعَة ﴿إنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ﴾ يَسْتَبْدِلُونَ ﴿بِعَهْدِ اللَّه﴾ إلَيْهِمْ فِي الْإِيمَان بِالنَّبِيِّ وَأَدَاء الْأَمَانَة ﴿وَأَيْمَانهمْ﴾ حَلِفهمْ بِهِ تَعَالَى كَاذِبِينَ ﴿ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ مِنْ الدُّنْيَا ﴿أُولَئِكَ لَا خَلَاق﴾ نَصِيب ﴿لَهُمْ فِي الْآخِرَة وَلَا يُكَلِّمهُمْ اللَّه﴾ غَضَبًا ﴿وَلَا يَنْظُر إلَيْهِمْ﴾ يَرْحَمهُمْ ﴿يَوْم الْقِيَامَة وَلَا يُزَكِّيهِمْ﴾ يُطَهِّرهُمْ ﴿وَلَهُمْ عَذَاب أَلِيم﴾ مُؤْلِم
٧ -
﴿وَإِنَّ مِنْهُمْ﴾ أَيْ أَهْل الْكِتَاب ﴿لَفَرِيقًا﴾ طَائِفَة كَكَعْبِ بْن الْأَشْرَف ﴿يَلْوُونَ أَلْسِنَتهمْ بِالْكِتَابِ﴾ أَيْ يَعْطِفُونَهَا بِقِرَاءَتِهِ عَنْ الْمُنَزَّل إلَى مَا حَرَّفُوهُ مِنْ نَعْت النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْوه ﴿لِتَحْسَبُوهُ﴾ أَيْ الْمُحَرَّف ﴿مِنْ الْكِتَاب﴾ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللَّه ﴿وَمَا هُوَ مِنْ الْكِتَاب وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْد اللَّه وَمَا هُوَ مِنْ عِنْد اللَّه وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّه الْكَذِب وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ أَنَّهُمْ كَاذِبُونَ
٧ -
وَنَزَلَ لَمَّا قَالَ نَصَارَى نَجْرَان إنَّ عِيسَى أَمَرَهُمْ أَنْ يَتَّخِذُوهُ رَبًّا وَلَمَّا طَلَبَ بَعْض الْمُسْلِمِينَ السُّجُود لَهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ﴿مَا كَانَ﴾ يَنْبَغِي ﴿لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيه اللَّه الْكِتَاب وَالْحُكْم﴾ أَيْ الْفَهْم لِلشَّرِيعَةِ ﴿وَالنُّبُوَّة ثُمَّ يَقُول لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُون اللَّه وَلَكِنْ﴾ يَقُول ﴿كُونُوا رَبَّانِيِّينَ﴾ عُلَمَاء عَامِلِينَ مَنْسُوبِينَ إلَى الرَّبّ بِزِيَادَةِ أَلِف وَنُون تَفْخِيمًا ﴿بِمَا كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ بِالتَّخْفِيفِ وَالتَّشْدِيد ﴿الْكِتَاب وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ﴾ أَيْ بِسَبَبِ ذَلِكَ فَإِنَّ فَائِدَته أن تعملوا
٨ -
﴿وَلَا يَأْمُركُمْ﴾ بِالرَّفْعِ اسْتِئْنَافًا أَيْ اللَّه وَالنَّصْب مطلقا عَطْفًا عَلَى يَقُول أَيْ الْبَشَر ﴿أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَة وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا﴾ كَمَا اتَّخَذَتْ الصَّابِئَة الْمَلَائِكَة وَالْيَهُود عُزَيْرًا وَالنَّصَارَى عِيسَى ﴿أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْد إذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ لَا يَنْبَغِي لَهُ هَذَا
77
٨ -
78
﴿وَ﴾ اذْكُرْ ﴿إذ﴾ حِين ﴿أَخَذَ اللَّه مِيثَاق النَّبِيِّينَ﴾ عَهْدهمْ ﴿لَمَا﴾ بِفَتْحِ اللَّام لِلِابْتِدَاءِ وَتَوْكِيد بمعنى الْقَسَم الَّذِي فِي أَخْذ الْمِيثَاق وَكَسْرهَا مُتَعَلِّقَة بِأَخَذَ وَمَا مَوْصُولَة عَلَى الْوَجْهَيْنِ أَيْ لِلَّذِي ﴿آتَيْتُكُمْ﴾ إيَّاهُ وَفِي قِرَاءَة آتَيْنَاكُمْ ﴿مِنْ كِتَاب وَحِكْمَة ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُول مُصَدِّق لِمَا مَعَكُمْ﴾ مِنْ الْكِتَاب وَالْحِكْمَة وَهُوَ مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ﴿لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ﴾ جَوَاب الْقَسَم إنْ أَدْرَكْتُمُوهُ وَأُمَمهمْ تَبَع لَهُمْ فِي ذَلِكَ ﴿قَالَ﴾ تَعَالَى لَهُمْ ﴿أَأَقْرَرْتُمْ﴾ بِذَلِكَ ﴿وَأَخَذْتُمْ﴾ قَبِلْتُمْ ﴿على ذلك إصْرِي﴾ عَهْدِي ﴿قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا﴾ عَلَى أنفسكم وأتباعكم ذلك ﴿وَأَنَا مَعَكُمْ مِنْ الشَّاهِدِينَ﴾ عَلَيْكُمْ وَعَلَيْهِمْ
٨ -
﴿فَمَنْ تَوَلَّى﴾ أَعْرَض ﴿بَعْد ذَلِكَ﴾ الْمِيثَاق ﴿فأولئك هم الفاسقون﴾
٨ -
﴿أَفَغَيْر دِين اللَّه يَبْغُونَ﴾ بِالْيَاءِ وَالتَّاء أَيْ المتولون ﴿وله أسلم﴾ إنقاد ﴿من في السماوات وَالْأَرْض طَوْعًا﴾ بِلَا إبَاء ﴿وَكَرْهًا﴾ بِمُعَايَنَةِ مَا يلجئ إليه ﴿وإليه يرجعون﴾ بِالتَّاءِ وَالْيَاء وَالْهَمْزَة فِي أَوَّل الْآيَة لِلْإِنْكَارِ
٨ -
﴿قُلْ﴾ لَهُمْ يَا مُحَمَّد ﴿آمَنَّا بِاَللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إبْرَاهِيم وَإِسْمَاعِيل وَإِسْحَاق وَيَعْقُوب وَالْأَسْبَاط﴾ أَوْلَاده ﴿وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبّهمْ لَا نُفَرِّق بَيْن أَحَد مِنْهُمْ﴾ بِالتَّصْدِيقِ وَالتَّكْذِيب ﴿وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ مُخْلِصُونَ فِي الْعِبَادَة وَنَزَلَ فِيمَنْ ارْتَدَّ وَلَحِقَ بالكفار
٨ -
﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْر الْإِسْلَام دِينًا فَلَنْ يُقْبَل مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَة مِنْ الْخَاسِرِينَ﴾ لِمَصِيرِهِ إلَى النَّار الْمُؤَبَّدَة عَلَيْهِ
٨ -
﴿كَيْفَ﴾ أَيْ لَا ﴿يَهْدِي اللَّه قَوْمًا كَفَرُوا بَعْد إيمَانهمْ وَشَهِدُوا﴾ أَيْ شَهَادَتهمْ ﴿أَنَّ الرَّسُول حق و﴾ قد ﴿جَاءَهُمْ الْبَيِّنَات﴾ الْحُجَج الظَّاهِرَات عَلَى صِدْق النَّبِيّ ﴿وَاَللَّه لَا يَهْدِي الْقَوْم الظَّالِمِينَ﴾ أَيْ الْكَافِرِينَ
٨ -
﴿أولئك جزاؤهم أن عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين﴾
٨ -
﴿خَالِدِينَ فِيهَا﴾ أَيْ اللَّعْنَة أَوْ النَّار الْمَدْلُول بِهَا عَلَيْهَا ﴿لَا يُخَفَّف عَنْهُمْ الْعَذَاب وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ﴾ يُمْهَلُونَ
٨ -
﴿إلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْد ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا﴾ عَمَلهمْ ﴿فَإِنَّ اللَّه غَفُور﴾ لَهُمْ ﴿رَحِيم﴾ بِهِمْ
٩ -
وَنَزَلَ فِي الْيَهُود ﴿إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ بِعِيسَى ﴿بَعْد إيمَانهمْ﴾ بِمُوسَى ﴿ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا﴾ بِمُحَمَّدٍ ﴿لَنْ تُقْبَل تَوْبَتهمْ﴾ إذَا غَرْغَرُوا أَوْ مَاتُوا كفارا {وأولئك هم الضالون
78
٩ -
79
﴿إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّار فَلَنْ يُقْبَل مِنْ أَحَدهمْ مِلْء الْأَرْض﴾ مِقْدَار مَا يَمْلَؤُهَا ﴿ذَهَبًا وَلَوْ افْتَدَى بِهِ﴾ أَدْخَلَ الْفَاء فِي خَبَر إنَّ لِشَبَهِ الَّذِينَ بِالشَّرْطِ وَإِيذَانًا بِتَسَبُّبِ عَدَم الْقَبُول عَنْ الْمَوْت عَلَى الْكُفْر ﴿أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَاب أَلِيم﴾ مُؤْلِم ﴿وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ﴾ مَانِعِينَ مِنْهُ
٩ -
﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرّ﴾ أَيْ ثَوَابه وَهُوَ الْجَنَّة ﴿حَتَّى تُنْفِقُوا﴾ تَصَدَّقُوا ﴿مِمَّا تُحِبُّونَ﴾ مِنْ أَمْوَالكُمْ ﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْء فَإِنَّ اللَّه بِهِ عَلِيم﴾ فَيُجَازِي عَلَيْهِ
٩ -
وَنَزَلَ لَمَّا قَالَ الْيَهُود إنَّك تَزْعُم أَنَّك عَلَى مِلَّة إبْرَاهِيم وَكَانَ لَا يَأْكُل لُحُوم الْإِبِل وَأَلْبَانهَا ﴿كُلّ الطَّعَام كَانَ حِلًّا﴾ حَلَالًا ﴿لِبَنِي إسْرَائِيل إلَّا مَا حَرَّمَ إسْرَائِيل﴾ يَعْقُوب ﴿عَلَى نَفْسه﴾ وَهُوَ الْإِبِل لَمَّا حَصَلَ لَهُ عِرْق النَّسَا بِالْفَتْحِ وَالْقَصْر فَنَذَرَ إنْ شُفِيَ لَا يَأْكُلهَا فَحُرِّمَ عَلَيْهِ ﴿مِنْ قَبْل أَنْ تُنَزَّل التَّوْرَاة﴾ وَذَلِك بَعْد إبْرَاهِيم وَلَمْ تَكُنْ عَلَى عَهْده حَرَامًا كَمَا زَعَمُوا ﴿قُلْ﴾ لَهُمْ ﴿فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا﴾ لِيَتَبَيَّن صِدْق قَوْلكُمْ ﴿إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ فِيهِ فَبُهِتُوا وَلَمْ يَأْتُوا بِهَا قال تعالى
٩ -
﴿فَمَنْ افْتَرَى عَلَى اللَّه الْكَذِب مِنْ بَعْد ذَلِكَ﴾ أَيْ ظُهُور الْحُجَّة بِأَنَّ التَّحْرِيم إنَّمَا كَانَ مِنْ جِهَة يَعْقُوب لَا عَلَى عَهْد إبْرَاهِيم ﴿فَأُولَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ﴾ الْمُتَجَاوِزُونَ الْحَقّ إلَى الباطل
٩ -
﴿قُلْ صَدَقَ اللَّه﴾ فِي هَذَا كَجَمِيعِ مَا أَخْبَرَ بِهِ ﴿فَاتَّبِعُوا مِلَّة إبْرَاهِيم﴾ الَّتِي أَنَا عَلَيْهَا ﴿حَنِيفًا﴾ مَائِلًا عَنْ كُلّ دِين إلَى الْإِسْلَام ﴿وما كان من المشركين﴾
٩ -
وَنَزَلَ لَمَّا قَالُوا قِبْلَتنَا قَبْل قِبْلَتكُمْ ﴿إنَّ أَوَّل بَيْت وُضِعَ﴾ مُتَعَبَّدًا ﴿لِلنَّاسِ﴾ فِي الْأَرْض ﴿لَلَّذِي بِبَكَّةَ﴾ بِالْبَاءِ لُغَة فِي مَكَّة سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا تَبُكّ أَعْنَاق الْجَبَابِرَة أَيْ تَدُقّهَا بَنَاهُ الْمَلَائِكَة قَبْل خَلْق آدَم وَوُضِعَ بَعْده الْأَقْصَى وَبَيْنهمَا أَرْبَعُونَ سَنَة كَمَا فِي حَدِيث الصَّحِيحَيْنِ وَفِي حَدِيث أَنَّهُ أَوَّل مَا ظَهَرَ عَلَى وَجْه الْمَاء عِنْد خَلْق السَّمَاوَات وَالْأَرْض زُبْدَة بَيْضَاء فَدُحِيَتْ الْأَرْض مِنْ تَحْته ﴿مُبَارَكًا﴾ حَال مِنْ الَّذِي أَيْ ذَا بَرَكَة ﴿وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ﴾ لِأَنَّهُ قِبْلَتهمْ
79
٩ -
80
﴿فِيهِ آيَات بَيِّنَات﴾ مِنْهَا ﴿مَقَام إبْرَاهِيم﴾ أَيْ الْحَجَر الَّذِي قَامَ عَلَيْهِ عِنْد بِنَاء الْبَيْت فَأَثَر قَدَمَاهُ فِيهِ وَبَقِيَ إلَى الْآن مَعَ تَطَاوُل الزَّمَان وَتَدَاوُل الْأَيْدِي عَلَيْهِ وَمِنْهَا تَضْعِيف الْحَسَنَات فِيهِ وَأَنَّ الطَّيْر لَا يَعْلُوهُ ﴿وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا﴾ لَا يُتَعَرَّض إلَيْهِ بِقَتْلٍ أَوْ ظُلْم أَوْ غَيْر ذَلِكَ ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاس حِجّ الْبَيْت﴾ وَاجِب بِكَسْرِ الْحَاء وَفَتْحهَا لُغَتَانِ فِي مَصْدَر حَجَّ قَصَدَ وَيُبْدَل مِنْ النَّاس ﴿مَنْ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلًا﴾ طَرِيقًا فَسَّرَهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالزَّادِ وَالرَّاحِلَة رَوَاهُ الْحَاكِم وَغَيْره ﴿وَمَنْ كَفَرَ﴾ بِاَللَّهِ أَوْ بِمَا فَرَضَهُ مِنْ الْحَجّ ﴿فَإِنَّ اللَّه غَنِيّ عَنْ الْعَالَمِينَ﴾ الْإِنْس وَالْجِنّ وَالْمَلَائِكَة وَعَنْ عِبَادَتهمْ
٩ -
﴿قل يأهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله﴾ تَصْرِفُونَ ﴿عَنْ سَبِيل اللَّه﴾ أَيْ دِينه
٩ -
﴿مَنْ آمَنَ﴾ بِتَكْذِيبِكُمْ النَّبِيّ وَكَتْم نِعْمَته ﴿تَبْغُونَهَا﴾ أَيْ تَطْلُبُونَ السَّبِيل ﴿عِوَجًا﴾ مَصْدَر بِمَعْنَى مُعْوَجَّة أَيْ مَائِلَة عَنْ الْحَقّ ﴿وَأَنْتُمْ شُهَدَاء﴾ عَالِمُونَ بِأَنَّ الدِّين الْمَرْضِيّ الْقَيِّم هُوَ دِين الْإِسْلَام كَمَا فِي كِتَابكُمْ ﴿وَمَا اللَّه بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ مِنْ الْكُفْر وَالتَّكْذِيب وَإِنَّمَا يُؤَخِّركُمْ إلَى وقتكم ليجازيكم
١٠ -
وَنَزَلَ لَمَّا مَرَّ بَعْض الْيَهُود عَلَى الْأَوْس وَالْخَزْرَج وَغَاظَهُمْ تَأَلُّفهمْ فَذَكَّرُوهُمْ بِمَا كَانَ بَيْنهمْ فِي الْجَاهِلِيَّة مِنْ الْفِتَن فَتَشَاجَرُوا وَكَادُوا يَقْتَتِلُونَ ﴿يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَاب يَرُدُّوكُمْ بَعْد إيمَانكُمْ كَافِرِينَ﴾
١٠ -
﴿وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ﴾ اسْتِفْهَام تَعْجِيب وَتَوْبِيخ ﴿وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَات اللَّه وَفِيكُمْ رَسُوله وَمَنْ يَعْتَصِم﴾ يَتَمَسَّك ﴿بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم﴾
١٠ -
﴿يأيها الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّه حَقّ تُقَاته﴾ بِأَنْ يُطَاع فَلَا يُعْصَى وَيُشْكَر فَلَا يُكْفَر وَيُذْكَر فَلَا يُنْسَى فَقَالُوا يَا رَسُول اللَّه وَمَنْ يَقْوَى عَلَى هَذَا فَنُسِخَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿فَاتَّقُوا اللَّه مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ ﴿وَلَا تَمُوتُنَّ إلَّا وَأَنْتُمْ مسلمون﴾ موحدون
80
١٠ -
81
﴿وَاعْتَصِمُوا﴾ تَمَسَّكُوا ﴿بِحَبْلِ اللَّه﴾ أَيْ دِينه ﴿جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا﴾ بَعْد الْإِسْلَام ﴿وَاذْكُرُوا نِعْمَة اللَّه﴾ إنْعَامه ﴿عَلَيْكُمْ﴾ يَا مَعْشَر الْأَوْس وَالْخَزْرَج ﴿إذْ كُنْتُمْ﴾ قَبْل الْإِسْلَام ﴿أَعْدَاء فَأَلَّفَ﴾ جَمَعَ ﴿بَيْن قُلُوبكُمْ﴾ بِالْإِسْلَامِ ﴿فَأَصْبَحْتُمْ﴾ فَصِرْتُمْ ﴿بِنِعْمَتِهِ إخْوَانًا﴾ فِي الدِّين وَالْوِلَايَة ﴿وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا﴾ طَرَف ﴿حُفْرَة مِنْ النَّار﴾ لَيْسَ بَيْنكُمْ وَبَيْن الْوُقُوع فِيهَا إلَّا أَنْ تَمُوتُوا كُفَّارًا ﴿فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا﴾ بِالْإِيمَانِ ﴿كذلك﴾ كما بين لكم ما ذكر ﴿يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون﴾
١٠ -
﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّة يَدْعُونَ إلَى الْخَيْر﴾ الْإِسْلَام ﴿وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَر وَأُولَئِكَ﴾ الدَّاعُونَ الْآمِرُونَ النَّاهُونَ ﴿هُمْ الْمُفْلِحُونَ﴾ الْفَائِزُونَ وَمِنْ لِلتَّبْعِيضِ لِأَنَّ مَا ذُكِرَ فَرْض كِفَايَة لَا يَلْزَم كُلّ الْأُمَّة وَلَا يَلِيق بِكُلِّ أَحَد كَالْجَاهِلِ
١٠ -
﴿وَلَا تَكُونُوا كَاَلَّذِينَ تَفَرَّقُوا﴾ عَنْ دِينهمْ ﴿وَاخْتَلَفُوا﴾ فِيهِ ﴿مِنْ بَعْد مَا جَاءَهُمْ الْبَيِّنَات﴾ وَهُمْ الْيَهُود وَالنَّصَارَى ﴿وأولئك لهم عذاب عظيم﴾
١٠ -
﴿يَوْم تَبْيَضّ وُجُوه وَتَسْوَدّ وُجُوه﴾ أَيْ يَوْم الْقِيَامَة ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوههمْ﴾ وَهُمْ الْكَافِرُونَ فَيُلْقَوْنَ فِي النَّار وَيُقَال لَهُمْ تَوْبِيخًا ﴿أَكَفَرْتُمْ بعد إيمانكم﴾ يوم أخذ الميثاق ﴿فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون﴾
١٠ -
﴿وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوههمْ﴾ وَهُمْ الْمُؤْمِنُونَ ﴿فَفِي رحمة الله﴾ أي جنته ﴿هم فيها خالدون﴾
١٠ -
﴿تِلْكَ﴾ أَيْ هَذِهِ الْآيَات ﴿آيَات اللَّه نَتْلُوهَا عَلَيْك﴾ يَا مُحَمَّد ﴿بِالْحَقِّ وَمَا اللَّه يُرِيد ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ﴾ بِأَنْ يَأْخُذهُمْ بِغَيْرِ جُرْم
١٠ -
﴿وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الْأَرْض﴾ مُلْكًا وَخَلْقًا وَعَبِيدًا ﴿وَإِلَى اللَّه تَرْجِع﴾ تَصِير ﴿الأمور﴾
١١ -
﴿كُنْتُمْ﴾ يَا أُمَّة مُحَمَّد فِي عِلْم اللَّه تَعَالَى ﴿خَيْر أُمَّة أُخْرِجَتْ﴾ أُظْهِرَتْ ﴿لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَر وَتُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْل الْكِتَاب لَكَانَ﴾ الْإِيمَان ﴿خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمْ الْمُؤْمِنُونَ﴾ كَعَبْدِ اللَّه بْن سَلَام رَضِيَ اللَّه عَنْهُ وَأَصْحَابه ﴿وَأَكْثَرهمْ الْفَاسِقُونَ﴾ الْكَافِرُونَ
١١ -
﴿لَنْ يَضُرُّوكُمْ﴾ أَيْ الْيَهُود يَا مَعْشَر الْمُسْلِمِينَ بِشَيْءٍ ﴿إلَّا أَذًى﴾ بِاللِّسَانِ مِنْ سَبّ وَوَعِيد ﴿وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمْ الْأَدْبَار﴾ مُنْهَزِمِينَ ﴿ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ﴾ عَلَيْكُمْ بَلْ لَكُمْ النَّصْر عَلَيْهِمْ
81
١١ -
82
﴿ضُرِبَتْ عَلَيْهِمْ الذِّلَّة أَيْنَ مَا ثُقِفُوا﴾ حَيْثُمَا وُجِدُوا فَلَا عِزّ لَهُمْ وَلَا اعْتِصَام ﴿إلَّا﴾ كَائِنِينَ ﴿بِحَبْلٍ مِنْ اللَّه وَحَبْل مِنْ النَّاس﴾ الْمُؤْمِنِينَ وَهُوَ عَهْدهمْ إلَيْهِمْ بِالْأَمَانِ عَلَى أَدَاء الْجِزْيَة أَيْ لَا عِصْمَة لَهُمْ غَيْر ذَلِكَ ﴿وَبَاءُوا﴾ رَجَعُوا ﴿بِغَضَبٍ مِنْ اللَّه وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمْ الْمَسْكَنَة ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ﴾ أَيْ بِسَبَبِ أَنَّهُمْ ﴿كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّه وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاء بِغَيْرِ حَقّ ذلك﴾ تأكيدا ﴿بِمَا عَصَوْا﴾ أَمْر اللَّه ﴿وَكَانُوا يَعْتَدُونَ﴾ يَتَجَاوَزُونَ الْحَلَال إلَى الْحَرَام
١١ -
﴿لَيْسُوا﴾ أَيْ أَهْل الْكِتَاب ﴿سَوَاء﴾ مُسْتَوِينَ ﴿مِنْ أَهْل الْكِتَاب أُمَّة قَائِمَة﴾ مُسْتَقِيمَة ثَابِتَة عَلَى الْحَقّ كَعَبْدِ اللَّه بْن سَلَام رَضِيَ اللَّه عنه وأصحابه ﴿يتلون آيات الله آناء الليل﴾ أي سَاعَاته ﴿وَهُمْ يَسْجُدُونَ﴾ يُصَلُّونَ حَال
١١ -
﴿يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَالْيَوْم الْآخِر وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَر وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَات وَأُولَئِكَ﴾ الْمَوْصُوفُونَ بِمَا ذَكَرَ اللَّه ﴿مِنْ الصَّالِحِينَ﴾ وَمِنْهُمْ مَنْ لَيْسُوا كَذَلِكَ وَلَيْسُوا مِنْ الصَّالِحِينَ
١١ -
﴿وَمَا تَفْعَلُوا﴾ بِالتَّاءِ أَيَّتهَا الْأُمَّة وَالْيَاء أَيْ الأمة القائمة ﴿من خير فلن تكفروه﴾ بِالْوَجْهَيْنِ أَيْ تَعْدَمُوا ثَوَابه بَلْ تُجَازَوْنَ عَلَيْهِ ﴿والله عليم بالمتقين﴾
١١ -
﴿إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِي﴾ تَدْفَع ﴿عَنْهُمْ أموالهم ولا أولادهم من الله﴾ أي من عذابه ﴿شيئا﴾ وخصها بِالذِّكْرِ لِأَنَّ الْإِنْسَان يَدْفَع عَنْ نَفْسه تَارَة بفداء المال وتارة بالإستعانة بالأولاد ﴿وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون﴾
١١ -
﴿مَثَل﴾ صِفَة ﴿مَا يُنْفِقُونَ﴾ أَيْ الْكُفَّار ﴿فِي هَذِهِ الْحَيَاة الدُّنْيَا﴾ فِي عَدَاوَة النَّبِيّ مِنْ صَدَقَة وَنَحْوهَا ﴿كَمَثَلِ رِيح فِيهَا صِرّ﴾ حَرّ أَوْ بَرْد شَدِيد ﴿أَصَابَتْ حَرْث﴾ زَرْع ﴿قَوْم ظَلَمُوا أَنْفُسهمْ﴾ بِالْكُفْرِ وَالْمَعْصِيَة ﴿فَأَهْلَكَتْهُ﴾ فَلَمْ يَنْتَفِعُوا بِهِ فَكَذَلِكَ نَفَقَاتهمْ ذَاهِبَة لَا يَنْتَفِعُونَ بِهَا ﴿وَمَا ظَلَمَهُمْ اللَّه﴾ بِضَيَاعِ نَفَقَاتهمْ ﴿وَلَكِنْ أَنْفُسهمْ يظلمون﴾ بالكفر الموجب لضياعها
١١ -
﴿يأيها الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَة﴾ أَصْفِيَاء تُطْلِعُونَهُمْ عَلَى سِرّكُمْ ﴿مِنْ دُونكُمْ﴾ أَيْ غَيْركُمْ مِنْ الْيَهُود وَالنَّصَارَى وَالْمُنَافِقِينَ ﴿لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا﴾ نُصِبَ بِنَزْعِ الْخَافِض أَيْ لَا يُقَصِّرُونَ لَكُمْ فِي الْفَسَاد ﴿وَدُّوا﴾ تَمَنَّوْا ﴿مَا عَنِتُّمْ﴾ أَيْ عَنَّتَكُمْ وَهُوَ شِدَّة الضَّرَر ﴿قَدْ بَدَتْ﴾ ظَهَرَتْ ﴿الْبَغْضَاء﴾ الْعَدَاوَة لَكُمْ ﴿مِنْ أَفْوَاههمْ﴾ بِالْوَقِيعَةِ فِيكُمْ وَإِطْلَاع الْمُشْرِكِينَ عَلَى سِرّكُمْ ﴿وَمَا تُخْفِي صُدُورهمْ﴾ مِنْ الْعَدَاوَة ﴿أَكْبَر قَدْ بَيَّنَّا لَكُمْ الْآيَات﴾ عَلَى عَدَاوَتهمْ ﴿إنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ﴾ ذَلِكَ فَلَا تُوَالُوهُمْ
82
١١ -
83
﴿هَا﴾ لِلتَّنْبِيهِ ﴿أَنْتُمْ﴾ يَا ﴿أُولَاءِ﴾ الْمُؤْمِنِينَ ﴿تُحِبُّونَهُمْ﴾ لِقَرَابَتِهِمْ مِنْكُمْ وَصَدَاقَتهمْ ﴿وَلَا يُحِبُّونَكُمْ﴾ لِمُخَالَفَتِهِمْ لَكُمْ في الدين ﴿وتؤمنوا بِالْكِتَابِ كُلّه﴾ أَيْ بِالْكُتُبِ كُلّهَا وَلَا يُؤْمِنُونَ بِكِتَابِكُمْ ﴿وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمْ الْأَنَامِل﴾ أَطْرَاف الْأَصَابِع ﴿مِنْ الْغَيْظ﴾ شِدَّة الْغَضَب لِمَا يَرَوْنَ مِنْ ائْتِلَافكُمْ وَيُعَبَّر عَنْ شِدَّة الْغَضَب بِعَضِّ الْأَنَامِل مَجَازًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ثَمَّ عَضّ ﴿قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ﴾ أَيْ ابْقَوْا عَلَيْهِ إلَى الْمَوْت فَلَنْ تَرَوْا مَا يَسُرّكُمْ ﴿إنَّ اللَّه عَلِيم بِذَاتِ الصُّدُور﴾ بما في قلوبكم وَمِنْهُ مَا يُضْمِرهُ هَؤُلَاءِ
١٢ -
﴿إنْ تَمْسَسْكُمْ﴾ تُصِبْكُمْ ﴿حَسَنَة﴾ نِعْمَة كَنَصْرٍ وَغَنِيمَة ﴿تَسُؤْهُمْ﴾ تُحْزِنهُمْ ﴿وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَة﴾ كَهَزِيمَةٍ وَجَدْب ﴿يَفْرَحُوا بِهَا﴾ وَجُمْلَة الشَّرْط مُتَّصِلَة بِالشَّرْطِ قَبْل وَمَا بَيْنهمَا اعْتِرَاض وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ مُتَنَاهُونَ فِي عَدَاوَتكُمْ فَلِمَ تُوَالُوهُمْ فَاجْتَنِبُوهُمْ ﴿وَإِنْ تَصْبِرُوا﴾ عَلَى أَذَاهُمْ ﴿وَتَتَّقُوا﴾ اللَّه فِي مُوَالَاتهمْ وَغَيْرهَا ﴿لَا يَضُرّكُمْ﴾ بِكَسْرِ الضَّاد وَسُكُون الرَّاء وَضَمّهَا وَتَشْدِيدهَا ﴿كَيْدهمْ شَيْئًا إنَّ اللَّه بِمَا يَعْمَلُونَ﴾ بِالْيَاءِ وَالتَّاء ﴿مُحِيط﴾ عَالِم فَيُجَازِيهِمْ بِهِ
١٢ -
﴿وَ﴾ اُذْكُرْ يَا مُحَمَّد ﴿إِذْ غَدَوْت مِنْ أهلك﴾ من المدينة ﴿تبوء﴾ تُنْزِل ﴿الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِد﴾ مَرَاكِز يَقِفُونَ فِيهَا ﴿لِلْقِتَالِ وَاَللَّه سَمِيع﴾ لِأَقْوَالِكُمْ ﴿عَلِيم﴾ بِأَحْوَالِكُمْ وَهُوَ يَوْم أُحُد خَرَجَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَلْفٍ أَوْ إلَّا خَمْسِينَ رَجُلًا وَالْمُشْرِكُونَ ثَلَاثَة آلَاف وَنَزَلَ بِالشِّعْبِ يَوْم السَّبْت سَابِع شَوَّال سَنَة ثَلَاث مِنْ الْهِجْرَة وَجَعَلَ ظَهْره وَعَسْكَره إلَى أُحُد وَسَوَّى صُفُوفهمْ وَأَجْلَسَ جَيْشًا مِنْ الرُّمَاة وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ عَبْد اللَّه بْن جُبَيْر بِسَفْحِ الْجَبَل وَقَالَ انْضَحُوا عَنَّا بِالنَّبْلِ لَا يأتونا مِنْ وَرَائِنَا وَلَا تَبْرَحُوا غُلِبْنَا أَوْ نُصِرْنَا
١٢ -
﴿إذْ﴾ بَدَل مِنْ إذْ قَبْله ﴿هَمَّتْ﴾ بَنُو سَلَمَة وَبَنُو حَارِثَة جَنَاحَا الْعَسْكَر ﴿طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا﴾ تَجْبُنَا عَنْ الْقِتَال وَتَرْجِعَا لَمَّا رَجَعَ عَبْد اللَّه بْن أُبَيٍّ الْمُنَافِق وَأَصْحَابه وَقَالَ عَلَام نَقْتُل أَنْفُسنَا وَأَوْلَادنَا وَقَالَ لِأَبِي جَابِر السُّلَمِيّ الْقَائِل لَهُ أَنْشُدكُمْ اللَّه فِي نَبِيّكُمْ وَأَنْفُسكُمْ لَوْ نَعْلَم قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ فَثَبَّتَهُمَا اللَّه وَلَمْ يَنْصَرِفَا ﴿وَاَللَّه وَلِيّهمَا﴾ نَاصِرهمَا ﴿وَعَلَى اللَّه فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ﴾ لِيَثِقُوا بِهِ دُون غَيْره
83
١٢ -
84
وَنَزَلَ لَمَّا هُزِمُوا تَذْكِيرًا لَهُمْ بِنِعْمَةِ اللَّه ﴿وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّه بِبَدْرٍ﴾ مَوْضِع بَيْن مَكَّة وَالْمَدِينَة ﴿وَأَنْتُمْ أَذِلَّة﴾ بِقِلَّةِ الْعَدَد وَالسِّلَاح ﴿فَاتَّقُوا اللَّه لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ نِعَمه
١٢ -
﴿إذْ﴾ ظَرْف لِنَصْرِكُمْ ﴿تَقُول لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ تُوعِدهُمْ تَطْمِينًا ﴿أَلَنْ يَكْفِيكُمْ أَنْ يُمِدّكُمْ﴾ يُعِينكُمْ ﴿رَبّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَاف مِنْ الْمَلَائِكَة مُنْزَلِينَ﴾ بِالتَّخْفِيفِ وَالتَّشْدِيد
١٢ -
﴿بَلَى﴾ يَكْفِيكُمْ ذَلِكَ وَفِي الْأَنْفَال بِأَلْفٍ لِأَنَّهُ أَمَدَّهُمْ أَوَّلًا بِهَا ثُمَّ صَارَتْ ثَلَاثَة ثُمَّ صَارَتْ خَمْسَة كَمَا قَالَ تَعَالَى ﴿إنْ تَصْبِرُوا﴾ عَلَى لِقَاء الْعَدُوّ ﴿وَتَتَّقُوا﴾ اللَّه فِي الْمُخَالَفَة ﴿وَيَأْتُوكُمْ﴾ أَيْ الْمُشْرِكُونَ ﴿مِنْ فَوْرهمْ﴾ وَقْتهمْ ﴿هَذَا يَمْدُدْكُمْ رَبّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَاف مِنْ الْمَلَائِكَة مُسَوِّمِينَ﴾ بِكَسْرِ الْوَاو وَفَتْحهَا أَيْ مُعَلَّمِينَ وَقَدْ صَبَرُوا وَأَنْجَزَ اللَّه وَعْده بِأَنْ قَاتَلَتْ مَعَهُمْ الْمَلَائِكَة عَلَى خَيْل بُلْق عَلَيْهِمْ عَمَائِم صُفْر أَوْ بِيض أَرْسَلُوهَا بَيْن أَكْتَافهمْ
١٢ -
﴿وَمَا جَعَلَهُ اللَّه﴾ أَيْ الْإِمْدَاد ﴿إلَّا بُشْرَى لَكُمْ﴾ بِالنَّصْرِ ﴿وَلِتَطْمَئِنّ﴾ تَسْكُن ﴿قُلُوبكُمْ بِهِ﴾ فَلَا تجزع من كسرة الْعَدُوّ وَقِلَّتكُمْ ﴿وَمَا النَّصْر إلَّا مِنْ عِنْد اللَّه الْعَزِيز الْحَكِيم﴾ يُؤْتِيه مَنْ يَشَاء وَلَيْسَ بكثرة الجند
١٢ -
﴿لِيَقْطَع﴾ مُتَعَلِّق بنَصَرَكُمْ أَيْ لِيُهْلِك ﴿طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ بِالْقَتْلِ وَالْأَسْر ﴿أَوْ يَكْبِتهُمْ﴾ يُذِلّهُمْ بِالْهَزِيمَةِ ﴿فَيَنْقَلِبُوا﴾ يَرْجِعُوا ﴿خَائِبِينَ﴾ لَمْ يَنَالُوا مَا راموه
١٢ -
وَنَزَلَتْ لَمَّا كُسِرَتْ رُبَاعِيَّته صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَشُجَّ وَجْهه يَوْم أُحُد وَقَالَ كَيْفَ يَفْلَح قَوْم خَضَّبُوا وَجْه نَبِيّهمْ بِالدَّمِ ﴿لَيْسَ لَك مِنْ الْأَمْر شَيْء﴾ بَلْ الْأَمْر لِلَّهِ فَاصْبِرْ ﴿أَوْ﴾ بِمَعْنَى إلَى أَنْ ﴿يَتُوب عَلَيْهِمْ﴾ بِالْإِسْلَامِ ﴿أَوْ يُعَذِّبهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ﴾ بِالْكُفْرِ
١٢ -
﴿وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الْأَرْض﴾ مُلْكًا وَخَلْقًا وَعَبِيدًا ﴿يَغْفِر لِمَنْ يَشَاء﴾ الْمَغْفِرَة لَهُ ﴿وَيُعَذِّب مَنْ يَشَاء﴾ تَعْذِيبه ﴿وَاَللَّه غَفُور﴾ لأوليائه ﴿رحيم﴾ بأهل طاعته
١٣ -
﴿يأيها الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَة﴾ بِأَلْفٍ وَدُونهَا بِأَنْ تَزِيدُوا فِي الْمَال عِنْد حُلُول الْأَجَل وَتُؤَخِّرُوا الطَّلَب ﴿وَاتَّقُوا اللَّه﴾ بِتَرْكِهِ ﴿لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ تَفُوزُونَ
١٣ -
﴿وَاتَّقُوا النَّار الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ﴾ أَنْ تُعَذَّبُوا بها
١٣ -
{وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون
84
١٣ -
85
﴿وَسَارِعُوا﴾ بِوَاوٍ وَدُونهَا ﴿إلَى مَغْفِرَة مِنْ رَبّكُمْ وجنة عرضها السماوات وَالْأَرْض﴾ أَيْ كَعَرْضِهِمَا لَوْ وُصِلَتْ إحْدَاهُمَا بِالْأُخْرَى وَالْعَرْض السِّعَة ﴿أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ﴾ اللَّه بِعَمَلِ الطَّاعَات وترك المعاصي
١٣ -
﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ﴾ فِي طَاعَة اللَّه ﴿فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء﴾ الْيُسْر وَالْعُسْر ﴿وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظ﴾ الْكَافِينَ عَنْ إمْضَائِهِ مَعَ الْقُدْرَة ﴿وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاس﴾ مِمَّنْ ظَلَمَهُمْ أَيْ التَّارِكِينَ عُقُوبَتهمْ ﴿وَاَللَّه يُحِبّ الْمُحْسِنِينَ﴾ بِهَذِهِ الْأَفْعَال أَيْ يُثِيبهُمْ
١٣ -
﴿وَاَلَّذِينَ إذَا فَعَلُوا فَاحِشَة﴾ ذَنْبًا قَبِيحًا كَالزِّنَا ﴿أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسهمْ﴾ بِمَا دُونه كَالْقُبْلَةِ ﴿ذَكَرُوا اللَّه﴾ أَيْ وَعِيده ﴿فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ﴾ أَيْ لَا ﴿يَغْفِر الذُّنُوب إلَّا اللَّه وَلَمْ يُصِرُّوا﴾ يُدَاوِمُوا ﴿عَلَى مَا فَعَلُوا﴾ بَلْ أَقْلَعُوا عَنْهُ ﴿وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ أَنَّ الَّذِي أَتَوْهُ مَعْصِيَة
١٣ -
﴿أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَة مِنْ رَبّهمْ وَجَنَّات تَجْرِي مِنْ تَحْتهَا الْأَنْهَار خَالِدِينَ فِيهَا﴾ حَال مُقَدَّرَة أَيْ مُقَدَّرِينَ الْخُلُود فِيهَا إذَا دَخَلُوهَا ﴿وَنِعْمَ أَجْر الْعَامِلِينَ﴾ بِالطَّاعَةِ هَذَا الْأَجْر
١٣ -
وَنَزَلَ فِي هَزِيمَة أُحُد ﴿قَدْ خَلَتْ﴾ مَضَتْ ﴿مِنْ قَبْلكُمْ سُنَن﴾ طَرَائِق فِي الْكُفَّار بِإِمْهَالِهِمْ ثُمَّ أَخَذَهُمْ ﴿فَسِيرُوا﴾ أَيّهَا الْمُؤْمِنُونَ ﴿فِي الْأَرْض فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَة الْمُكَذِّبِينَ﴾ الرُّسُل أَيْ آخِر أَمْرهمْ مِنْ الْهَلَاك فَلَا تَحْزَنُوا لِغَلَبَتِهِمْ فَأَنَا أُمْهِلهُمْ لِوَقْتِهِمْ
١٣ -
﴿هَذَا﴾ الْقُرْآن ﴿بَيَان لِلنَّاسِ﴾ كُلّهمْ ﴿وَهُدًى﴾ مِنْ الضَّلَالَة ﴿وَمَوْعِظَة لِلْمُتَّقِينَ﴾ مِنْهُمْ
١٣ -
﴿وَلَا تَهِنُوا﴾ تَضْعُفُوا عَنْ قِتَال الْكُفَّار ﴿وَلَا تَحْزَنُوا﴾ عَلَى مَا أَصَابَكُمْ بِأُحُدٍ ﴿وَأَنْتُمْ الْأَعْلَوْنَ﴾ بِالْغَلَبَةِ عَلَيْهِمْ ﴿إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ حَقًّا وَجَوَابه دَلَّ عَلَيْهِ مَجْمُوع مَا قَبْله
١٤ -
﴿إنْ يَمْسَسْكُمْ﴾ يُصِبْكُمْ بِأُحُدٍ ﴿قَرْح﴾ بِفَتْحِ الْقَاف وَضَمّهَا جَهْد مِنْ جُرْح وَنَحْوه ﴿فَقَدْ مَسَّ الْقَوْم﴾ الْكُفَّار ﴿قَرْح مِثْله﴾ بِبَدْرٍ ﴿وَتِلْكَ الْأَيَّام نُدَاوِلهَا﴾ نُصَرِّفهَا ﴿بَيْن النَّاس﴾ يَوْمًا لِفِرْقَةٍ وَيَوْمًا لِأُخْرَى لِيَتَّعِظُوا ﴿وَلِيَعْلَم اللَّه﴾ عِلْم ظُهُور ﴿الَّذِينَ آمَنُوا﴾ أَخْلَصُوا فِي إيمَانهمْ مِنْ غَيْرهمْ ﴿وَيَتَّخِذ مِنْكُمْ شُهَدَاء﴾ يُكْرِمهُمْ بِالشَّهَادَةِ ﴿وَاَللَّه لَا يُحِبّ الظَّالِمِينَ﴾ الْكَافِرِينَ أَيْ يُعَاقِبهُمْ وَمَا يُنْعِم بِهِ عليهم استدراج
85
١٤ -
86
﴿وَلِيُمَحِّص اللَّه الَّذِينَ آمَنُوا﴾ يُطَهِّرهُمْ مِنْ الذُّنُوب بما يصيبهم ﴿ويمحق﴾ يهلك ﴿الكافرين﴾
١٤ -
﴿أَمْ﴾ بَلْ أَ ﴿حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّة ولما﴾ لم ﴿يَعْلَم اللَّه الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ﴾ عِلْم ظُهُور ﴿وَيَعْلَم الصَّابِرِينَ﴾ فِي الشَّدَائِد
١٤ -
﴿وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ﴾ فِيهِ حَذْف إحْدَى التَّاءَيْنِ فِي الْأَصْل ﴿الْمَوْت مِنْ قَبْل أَنْ تَلْقَوْهُ حَيْثُ قُلْتُمْ لَيْتَ لَنَا يَوْمًا كَيَوْمِ بَدْر لِنَنَالَ مَا نَالَ شُهَدَاؤُهُ {فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ﴾ أَيْ سَبَبه الْحَرْب ﴿وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ﴾ أَيْ بُصَرَاء تَتَأَمَّلُونَ الْحَال كَيْفَ هِيَ فَلِمَ انْهَزَمْتُمْ وَنَزَلَ فِي هَزِيمَتهمْ لَمَّا أُشِيعَ أَنَّ النَّبِيّ قُتِلَ وَقَالَ لَهُمْ الْمُنَافِقُونَ إنْ كَانَ قُتِلَ فَارْجِعُوا إلَى دينكم
١٤ -
﴿وَمَا مُحَمَّد إلَّا رَسُول قَدْ خَلَتْ مِنْ قبله الرسل أفإين مَاتَ أَوْ قُتِلَ﴾ كَغَيْرِهِ ﴿انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابكُمْ﴾ رَجَعْتُمْ إلَى الْكُفْر وَالْجُمْلَة الْأَخِيرَة مَحَلّ الِاسْتِفْهَام الْإِنْكَارِيّ أَيْ مَا كَانَ مَعْبُودًا فَتَرْجِعُوا ﴿وَمَنْ يَنْقَلِب عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرّ اللَّه شَيْئًا﴾ وَإِنَّمَا يَضُرّ نَفْسه ﴿وَسَيَجْزِي اللَّه الشَّاكِرِينَ﴾ نِعَمه بالثبات
١٤ -
﴿وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوت إلَّا بِإِذْنِ اللَّه﴾ بِقَضَائِهِ ﴿كِتَابًا﴾ مَصْدَر أَيْ كَتَبَ اللَّه ذَلِكَ ﴿مُؤَجَّلًا﴾ مُؤَقَّتًا لَا يَتَقَدَّم وَلَا يَتَأَخَّر فَلِمَ انْهَزَمْتُمْ وَالْهَزِيمَة لَا تَدْفَع الْمَوْت وَالثَّبَات لَا يَقْطَع الْحَيَاة ﴿وَمَنْ يُرِدْ﴾ بِعَمَلِهِ ﴿ثَوَاب الدُّنْيَا﴾ أَيْ جَزَاءَهُ مِنْهَا ﴿نُؤْتِهِ مِنْهَا﴾ مَا قُسِمَ لَهُ وَلَا حَظّ لَهُ فِي الْآخِرَة ﴿وَمَنْ يُرِدْ ثَوَاب الْآخِرَة نُؤْتِهِ مِنْهَا﴾ أَيْ من ثوابها ﴿وسنجزي الشاكرين﴾
١٤ -
﴿وكأين﴾ كم ﴿من نبي قاتل﴾ وَفِي قِرَاءَة قَاتَلَ وَالْفَاعِل ضَمِيره ﴿مَعَهُ﴾
خَبَر مُبْتَدَؤُهُ ﴿رِبِّيُّونَ كَثِير﴾ جُمُوع كَثِيرَة ﴿فَمَا وَهَنُوا﴾ جَبُنُوا ﴿لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيل اللَّه﴾ مِنْ الْجِرَاح وَقَتْل أَنْبِيَائِهِمْ وَأَصْحَابهمْ ﴿وَمَا ضَعُفُوا﴾ عَنْ الْجِهَاد ﴿وَمَا اسْتَكَانُوا﴾ خَضَعُوا لِعَدُوِّهِمْ كَمَا فَعَلْتُمْ حِين قِيلَ قُتِلَ النَّبِيّ ﴿وَاَللَّه يُحِبّ الصَّابِرِينَ﴾ عَلَى الْبَلَاء أَيْ يُثِيبهُمْ
86
١٤ -
87
﴿وَمَا كَانَ قَوْلهمْ﴾ عِنْد قَتْل نَبِيّهمْ مَعَ ثَبَاتهمْ وَصَبْرهمْ ﴿إلَّا أَنْ قَالُوا رَبّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبنَا وَإِسْرَافنَا﴾ تَجَاوُزنَا الْحَدّ ﴿فِي أَمْرنَا﴾ إيذَانًا بِأَنَّ مَا أَصَابَهُمْ لِسُوءِ فِعْلهمْ وَهَضْمًا لأنفسهم ﴿وثبت أقدامنا﴾ بالقوة على الجهاد ﴿وانصرنا على القوم الكافرين﴾
١٤ -
﴿فَآتَاهُمْ اللَّه ثَوَاب الدُّنْيَا﴾ النَّصْر وَالْغَنِيمَة ﴿وَحُسْن ثَوَاب الْآخِرَة﴾ أَيْ الْجَنَّة وَحُسْنه التَّفَضُّل فَوْق الاستحقاق ﴿والله يحب المحسنين﴾
١٤ -
﴿يأيها الَّذِينَ آمَنُوا إنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ فِيمَا يأمرونكم به ﴿يردكم﴾ إلى الكفر ﴿على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين﴾
١٥ -
﴿بَلْ اللَّه مَوْلَاكُمْ﴾ نَاصِركُمْ ﴿وَهُوَ خَيْر النَّاصِرِينَ﴾ فأطيعوه دونهم
١٥ -
﴿سَنُلْقِي فِي قُلُوب الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْب﴾ بِسُكُونِ الْعِين وَضَمّهَا الْخَوْف وَقَدْ عَزَمُوا بَعْد ارْتِحَالهمْ مِنْ أُحُد عَلَى الْعَوْد وَاسْتِئْصَال الْمُسْلِمِينَ فَرَعَبُوا وَلَمْ يَرْجِعُوا ﴿بِمَا أَشْرَكُوا﴾ بِسَبَبِ إشْرَاكهمْ ﴿بِاَللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّل بِهِ سُلْطَانًا﴾ حُجَّة عَلَى عِبَادَته وَهُوَ الْأَصْنَام ﴿وَمَأْوَاهُمْ النَّار وَبِئْسَ مَثْوَى﴾ مَأْوَى ﴿الظَّالِمِينَ﴾ الْكَافِرِينَ هِيَ
١٥ -
﴿وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّه وَعْده﴾ إيَّاكُمْ بِالنَّصْرِ ﴿إذْ تَحُسُّونَهُمْ﴾ تَقْتُلُونَهُمْ ﴿بِإِذْنِهِ﴾ بِإِرَادَتِهِ ﴿حَتَّى إذَا فَشِلْتُمْ﴾ جبنتم عن القتال ﴿وَتَنَازَعْتُمْ﴾ اخْتَلَفْتُمْ ﴿فِي الْأَمْر﴾ أَيْ أَمْر النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمُقَامِ فِي سَفْح الْجَبَل لِلرَّمْيِ فَقَالَ بَعْضكُمْ نَذْهَب فَقَدْ نُصِرَ أَصْحَابنَا وَبَعْضكُمْ لَا نُخَالِف أَمْر النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ﴿وَعَصَيْتُمْ﴾ أَمْره فَتَرَكْتُمْ الْمَرْكَز لِطَلَبِ الْغَنِيمَة ﴿مِنْ بَعْد مَا أَرَاكُمْ﴾ اللَّه ﴿ما تحبون﴾ من النصر وَجَوَاب إذَا دَلَّ عَلَيْهِ مَا قَبْله أَيْ منعكم نصره ﴿مِنْكُمْ مَنْ يُرِيد الدُّنْيَا﴾ فَتَرَكَ الْمَرْكَز لِلْغَنِيمَةِ ﴿وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيد الْآخِرَة﴾ فَثَبَتَ بِهِ حَتَّى قُتِلَ كَعَبْدِ اللَّه بْن جُبَيْر وَأَصْحَابه ﴿ثُمَّ صَرَفَكُمْ﴾ عَطْف عَلَى جَوَاب إذَا الْمُقَدَّر رَدَّكُمْ لِلْهَزِيمَةِ ﴿عَنْهُمْ﴾ أَيْ الْكُفَّار ﴿لِيَبْتَلِيَكُمْ﴾ لِيَمْتَحِنكُمْ فَيَظْهَر الْمُخْلِص مِنْ غَيْره ﴿وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ﴾ مَا ارْتَكَبْتُمُوهُ ﴿وَاَللَّه ذُو فَضْل عَلَى الْمُؤْمِنِينَ﴾ بِالْعَفْوِ
87
١٥ -
88
اذكروا ﴿إذ تصعدون﴾ تَبْعُدُونَ فِي الْأَرْض هَارِبِينَ ﴿وَلَا تَلْوُونَ﴾ تَعْرُجُونَ ﴿عَلَى أَحَد وَالرَّسُول يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ﴾ أَيْ مِنْ وَرَائِكُمْ يَقُول إلَيَّ عِبَاد اللَّه ﴿فَأَثَابَكُمْ﴾ فَجَازَاكُمْ ﴿غَمًّا﴾ بِالْهَزِيمَةِ ﴿بِغَمٍّ﴾ بِسَبَبِ غَمّكُمْ لِلرَّسُولِ بِالْمُخَالَفَةِ وَقِيلَ الْبَاء بِمَعْنَى عَلَى أَيْ مُضَاعَفًا على غم فوت الغنيمة ﴿لكيلا﴾ متعلق بعفا أَوْ بأَثَابَكُمْ فَلَا زَائِدَة ﴿تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ﴾ مِنْ الْغَنِيمَة ﴿وَلَا مَا أَصَابَكُمْ﴾ مِنْ القتل والهزيمة ﴿والله خبير بما تعملون﴾
١٥ -
﴿ثم أنزل عليكم مِنْ بَعْد الْغَمّ أَمَنَة﴾ أَمْنًا ﴿نُعَاسًا﴾ بَدَل ﴿يَغْشَى﴾ بِالْيَاءِ وَالتَّاء ﴿طَائِفَة مِنْكُمْ﴾ وَهُمْ الْمُؤْمِنُونَ فَكَانُوا يَمِيدُونَ تَحْت الحجف وَتَسْقُط السُّيُوف مِنْهُمْ ﴿وَطَائِفَة قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسهمْ﴾ أَيْ حَمَلَتْهُمْ عَلَى الْهَمّ فَلَا رَغْبَة لَهُمْ إلَّا نَجَاتهَا دُون النَّبِيّ وَأَصْحَابه فَلَمْ يَنَامُوا وَهُمْ الْمُنَافِقُونَ ﴿يَظُنُّونَ بِاَللَّهِ﴾ ظَنًّا ﴿غَيْر﴾ الظَّنّ ﴿الْحَقّ ظَنَّ﴾ أَيْ كَظَنِّ ﴿الْجَاهِلِيَّة﴾ حَيْثُ اعْتَقَدُوا أَنَّ النَّبِيّ قُتِلَ أَوْ لَا يُنْصَر ﴿يَقُولُونَ هَلْ﴾ مَا ﴿لَنَا مِنْ الْأَمْر﴾ أَيْ النَّصْر الَّذِي وُعِدْنَاهُ ﴿مِنْ شَيْء قُلْ﴾ لَهُمْ ﴿إنَّ الْأَمْر كُلّه﴾ بِالنَّصْبِ تَوْكِيدًا وَالرَّفْع مُبْتَدَأ وَخَبَره ﴿لِلَّهِ﴾ أَيْ الْقَضَاء لَهُ يَفْعَل مَا يَشَاء ﴿يُخْفُونَ فِي أَنْفُسهمْ مَا لَا يُبْدُونَ﴾ يُظْهِرُونَ ﴿لَك يَقُولُونَ﴾ بَيَان لِمَا قَبْله ﴿لَوْ كَانَ لَنَا مِنْ الْأَمْر شيء ما قتلنا ها هنا﴾ أَيْ لَوْ كَانَ الِاخْتِيَار إلَيْنَا لَمْ نَخْرُج فَلَمْ نُقْتَل لَكِنْ أُخْرِجنَا كَرْهًا ﴿قُلْ﴾ لَهُمْ ﴿لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتكُمْ﴾ وَفِيكُمْ مَنْ كَتَبَ اللَّه عَلَيْهِ الْقَتْل ﴿لَبَرَزَ﴾ خَرَجَ ﴿الَّذِينَ كُتِبَ﴾ قُضِيَ ﴿عَلَيْهِمْ الْقَتْل﴾ مِنْكُمْ ﴿إلَى مَضَاجِعهمْ﴾ مَصَارِعهمْ فَيُقْتَلُوا وَلَمْ يُنْجِهِمْ قُعُودهمْ لِأَنَّ قَضَاءَهُ تَعَالَى كَائِن لَا مَحَالَة ﴿و﴾ فَعَلَ مَا فَعَلَ بِأُحُدٍ ﴿لِيَبْتَلِيَ﴾ يَخْتَبِر ﴿اللَّه مَا فِي صُدُوركُمْ﴾ قُلُوبكُمْ مِنْ الْإِخْلَاص وَالنِّفَاق ﴿وَلِيُمَحِّص﴾ يُمَيِّز ﴿مَا فِي قُلُوبكُمْ وَاَللَّه عَلِيم بِذَاتِ الصُّدُور﴾ بِمَا فِي الْقُلُوب لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْء وَإِنَّمَا يَبْتَلِي لِيُظْهِر لِلنَّاسِ
١٥ -
﴿إنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ﴾ عَنْ الْقِتَال ﴿يَوْم الْتَقَى الْجَمْعَانِ﴾ جَمْع الْمُسْلِمِينَ وَجَمْع الْكُفَّار بِأُحُدٍ وَهُمْ الْمُسْلِمُونَ إلَّا اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا ﴿إنَّمَا اسْتَزَلَّهُمْ﴾ أَزَلّهمْ ﴿الشَّيْطَان﴾ بِوَسْوَسَتِهِ ﴿بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا﴾ مِنْ الذُّنُوب وَهُوَ مُخَالَفَة أَمْر النَّبِيّ ﴿وَلَقَدْ عَفَا اللَّه عَنْهُمْ إنَّ اللَّه غَفُور﴾ لِلْمُؤْمِنِينَ ﴿حليم﴾ لا يعجل على العصاة
88
١٥ -
89
﴿يأيها الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَاَلَّذِينَ كَفَرُوا﴾ أَيْ الْمُنَافِقِينَ ﴿وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ﴾ أَيْ فِي شَأْنهمْ ﴿إذَا ضَرَبُوا﴾ سَافَرُوا ﴿فِي الْأَرْض﴾ فَمَاتُوا ﴿أَوْ كَانُوا غُزًّى﴾ جَمْع غَازٍ فَقُتِلُوا ﴿لَوْ كَانُوا عِنْدنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا﴾ أَيْ لَا تَقُولُوا كَقَوْلِهِمْ ﴿لِيَجْعَل اللَّه ذَلِكَ﴾ الْقَوْل فِي عَاقِبَة أَمْرهمْ ﴿حَسْرَة فِي قُلُوبهمْ وَاَللَّه يُحْيِي وَيُمِيت﴾ فَلَا يَمْنَع عَنْ الْمَوْت قُعُود ﴿وَاَللَّه بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ بِالتَّاءِ وَالْيَاء ﴿بَصِير﴾ فَيُجَازِيكُمْ بِهِ
١٥ -
﴿وَلَئِنْ﴾ لَام قَسَم ﴿قُتِلْتُمْ فِي سَبِيل اللَّه﴾ أَيْ الْجِهَاد ﴿أَوْ مُتُّمْ﴾ بِضَمِّ الْمِيم وَكَسْرهَا مِنْ مَاتَ يَمُوت أَيْ أَتَاكُمْ الْمَوْت فِيهِ ﴿لَمَغْفِرَة﴾ كَائِنَة ﴿مِنْ اللَّه﴾ لِذُنُوبِكُمْ ﴿وَرَحْمَة﴾ مِنْهُ لَكُمْ عَلَى ذَلِكَ وَاللَّام وَمَدْخُولهَا جَوَاب الْقَسَم وَهُوَ فِي مَوْضِع الْفِعْل مُبْتَدَأ خَبَره ﴿خَيْر مما تجمعون﴾ مِنْ الدُّنْيَا بِالتَّاءِ وَالْيَاء
١٥ -
﴿وَلَئِنْ﴾ لَام قَسَم ﴿مُتُّمْ﴾ بِالْوَجْهَيْنِ ﴿أَوْ قُتِلْتُمْ﴾ فِي الْجِهَاد وَغَيْره ﴿لَإِلَى اللَّه﴾ لَا إلَى غَيْره ﴿تُحْشَرُونَ﴾ فِي الْآخِرَة فَيُجَازِيكُمْ
١٥ -
﴿فَبِمَا رَحْمَة مِنْ اللَّه لِنْت﴾ يَا مُحَمَّد ﴿لَهُمْ﴾ أَيْ سَهَّلْت أَخْلَاقك إذْ خَالَفُوك ﴿وَلَوْ كنت فظا﴾ سيء الْخُلُق ﴿غَلِيظ الْقَلْب﴾ جَافِيًا فَأَغْلَظْت لَهُمْ ﴿لَانْفَضُّوا﴾ تَفَرَّقُوا ﴿مِنْ حَوْلك فَاعْفُ﴾ تَجَاوَزْ ﴿عَنْهُمْ﴾ مَا أَتَوْهُ ﴿وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ﴾ ذُنُوبهمْ حَتَّى أَغْفِر لَهُمْ ﴿وَشَاوِرْهُمْ﴾ اسْتَخْرِجْ آرَاءَهُمْ ﴿فِي الْأَمْر﴾ أَيْ شَأْنك مِنْ الْحَرْب وَغَيْره تَطْيِيبًا لِقُلُوبِهِمْ وَلِيُسْتَنّ بِك وَكَانَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَثِير الْمُشَاوَرَة لَهُمْ فَإِذَا عَزَمْت عَلَى إمْضَاء مَا تُرِيد بَعْد الْمُشَاوَرَة ﴿فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّه﴾ ثِقْ بِهِ لَا بِالْمُشَاوَرَةِ ﴿إنَّ اللَّه يُحِبّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾ عَلَيْهِ
١٦ -
﴿إنْ يَنْصُركُمْ اللَّه﴾ يُعِنْكُمْ عَلَى عَدُوّكُمْ كَيَوْمِ بَدْر ﴿فَلَا غَالِب لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلكُمْ﴾ يَتْرُك نَصْركُمْ كَيَوْمِ أُحُد ﴿فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُركُمْ مِنْ بَعْده﴾ أَيْ بَعْد خِذْلَانه أَيْ لَا نَاصِر لَكُمْ ﴿وَعَلَى اللَّه لَا غَيْره {فَلْيَتَوَكَّلْ﴾ ليثق ﴿المؤمنون﴾
١٦ -
وَنَزَلَتْ لَمَّا فُقِدَتْ قَطِيفَة حَمْرَاء يَوْم أُحُد فَقَالَ بَعْض النَّاس لَعَلَّ النَّبِيّ أَخَذَهَا ﴿وَمَا كان﴾ ما يَنْبَغِي ﴿لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلّ﴾ يَخُون فِي الْغَنِيمَة فَلَا تَظُنُّوا بِهِ ذَلِكَ وَفِي قِرَاءَة بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ أَنْ يُنْسَب إلَى الْغُلُول ﴿وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْم الْقِيَامَة﴾ حَامِلًا لَهُ عَلَى عُنُقه ﴿ثُمَّ تُوَفَّى كُلّ نَفْس﴾ الْغَالّ وَغَيْره جَزَاء ﴿مَا كَسَبَتْ﴾ عَمِلَتْ ﴿وَهُمْ لَا يظلمون﴾ شيئا
١٦ -
﴿أَفَمَنْ اتَّبَعَ رِضْوَان اللَّه﴾ فَأَطَاعَ وَلَمْ يَغُلّ ﴿كَمَنْ بَاءَ﴾ رَجَعَ ﴿بِسَخَطٍ مِنْ اللَّه﴾ لِمَعْصِيَتِهِ وَغُلُوله ﴿وَمَأْوَاهُ جَهَنَّم وَبِئْسَ الْمَصِير﴾ الْمَرْجِع هِيَ
١٦ -
﴿هُمْ دَرَجَات﴾ أَيْ أَصْحَاب دَرَجَات ﴿عِنْد اللَّه﴾ أي مختلفوا الْمَنَازِل فَلِمَنْ اتَّبَعَ رِضْوَانه الثَّوَاب وَلِمَنْ بَاءَ بِسَخَطِهِ الْعِقَاب ﴿وَاَللَّه بَصِير بِمَا يَعْمَلُونَ﴾ فَيُجَازِيهِمْ به
89
١٦ -
90
﴿لَقَدْ مَنَّ اللَّه عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسهمْ﴾ أَيْ عَرَبِيًّا مِثْلهمْ لِيَفْهَمُوا عَنْهُ وَيَشْرُفُوا بِهِ لَا مَلَكًا وَلَا عجميا ﴿يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاته﴾ الْقُرْآن ﴿وَيُزَكِّيهِمْ﴾ يُطَهِّرهُمْ مِنْ الذُّنُوب ﴿وَيُعَلِّمهُمْ الْكِتَاب﴾ الْقُرْآن ﴿وَالْحِكْمَة﴾ السُّنَّة ﴿وَإِنْ﴾ مُخَفَّفَة أَيْ إنَّهُمْ ﴿كَانُوا مِنْ قَبْل﴾ أَيْ قَبْل بَعْثه ﴿لَفِي ضَلَال مُبِين﴾ بَيِّن
١٦ -
﴿أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَة﴾ بِأُحُدٍ بِقَتْلِ سَبْعِينَ مِنْكُمْ ﴿قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا﴾ بِبَدْرٍ بِقَتْلِ سَبْعِينَ وَأَسْر سَبْعِينَ مِنْهُمْ ﴿قُلْتُمْ﴾ مُتَعَجِّبِينَ ﴿أَنَّى﴾ مِنْ أَيْنَ لَنَا ﴿هَذَا﴾ الْخِذْلَان وَنَحْنُ مُسْلِمُونَ وَرَسُول اللَّه فِينَا وَالْجُمْلَة الْأَخِيرَة مَحَلّ الِاسْتِفْهَام الْإِنْكَارِيّ ﴿قُلْ﴾ لَهُمْ ﴿هُوَ مِنْ عِنْد أَنْفُسكُمْ﴾ لِأَنَّكُمْ تَرَكْتُمْ الْمَرْكَز فَخُذِلْتُمْ ﴿إنَّ اللَّه عَلَى كُلّ شَيْء قَدِير﴾ وَمِنْهُ النَّصْر وَمَنْعه وَقَدْ جَازَاكُمْ بِخِلَافِكُمْ
١٦ -
﴿وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْم الْتَقَى الْجَمْعَانِ﴾ بِأُحُدٍ ﴿فَبِإِذْنِ اللَّه﴾ بِإِرَادَتِهِ ﴿وَلِيَعْلَم﴾ عِلْم ظُهُور ﴿الْمُؤْمِنِينَ﴾ حَقًّا
١٦ -
﴿وليعلم الذين نافقوا و﴾ الذين ﴿قِيلَ لَهُمْ﴾ لَمَّا انْصَرَفُوا عَنْ الْقِتَال وَهُمْ عَبْد اللَّه بْن أُبَيٍّ وَأَصْحَابه ﴿تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيل اللَّه﴾ أَعْدَاءَهُ ﴿أَوْ ادْفَعُوا﴾ عَنَّا الْقَوْم بِتَكْثِيرِ سَوَادكُمْ إنْ لَمْ تُقَاتِلُوا ﴿قَالُوا لَوْ نَعْلَم﴾ نُحْسِن ﴿قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ﴾ قَالَ تَعَالَى تَكْذِيبًا لَهُمْ ﴿هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمئِذٍ أَقْرَب مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ﴾ بِمَا أَظْهَرُوا مِنْ خِذْلَانهمْ لِلْمُؤْمِنِينَ وَكَانُوا قَبْل أَقْرَب إلَى الْإِيمَان مِنْ حَيْثُ الظَّاهِر ﴿يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبهمْ﴾ وَلَوْ عَلِمُوا قِتَالًا لَمْ يَتَّبِعُوكُمْ ﴿وَاَللَّه أَعْلَم بِمَا يَكْتُمُونَ﴾ مِنْ النِّفَاق
١٦ -
﴿الَّذِينَ﴾ بَدَل مِنْ الَّذِينَ قَبْله أَوْ نَعْت ﴿قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ﴾ فِي الدِّين ﴿و﴾ قَدْ ﴿قَعَدُوا﴾ عَنْ الْجِهَاد ﴿لَوْ أَطَاعُونَا﴾ أَيْ شُهَدَاء أُحُد أو إخواننا في القعود ﴿ما قتلوا قُلْ﴾ لَهُمْ ﴿فَادْرَءُوا﴾ ادْفَعُوا ﴿عَنْ أَنْفُسكُمْ الْمَوْت إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ فِي أَنَّ الْقُعُود يُنْجِي مِنْهُ وَنَزَلَ فِي الشُّهَدَاء
١٦ -
﴿وَلَا تَحْسَبَن الَّذِينَ قُتِلُوا﴾ بِالتَّخْفِيفِ وَالتَّشْدِيد} فِي سَبِيل اللَّه} أَيْ لِأَجْلِ دِينه ﴿أَمْوَاتًا بَلْ﴾ هُمْ ﴿أَحْيَاء عِنْد رَبّهمْ﴾ أَرْوَاحهمْ فِي حَوَاصِل طُيُور خُضْر تَسْرَح فِي الْجَنَّة حَيْثُ شَاءَتْ كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيث ﴿يُرْزَقُونَ﴾ يَأْكُلُونَ مِنْ ثمار الجنة
90
١٧ -
91
﴿فَرِحِينَ﴾ حَال مِنْ ضَمِير يُرْزَقُونَ ﴿بِمَا آتَاهُمْ اللَّه مِنْ فَضْله وَ﴾ هُمْ ﴿يَسْتَبْشِرُونَ﴾ يَفْرَحُونَ ﴿بِاَلَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفهمْ﴾ مِنْ إخوانهم المؤمنين ويبدل من الذين ﴿أ﴾ ن أي بأن ﴿لا خوف عليهم﴾ أي الَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ ﴿وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ فِي الْآخِرَة الْمَعْنَى يَفْرَحُونَ بِأَمْنِهِمْ وَفَرَحهمْ
١٧ -
﴿يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ﴾ ثَوَاب ﴿مِنْ اللَّه وَفَضْل﴾ زِيَادَة عَلَيْهِ ﴿وَأَنَّ﴾ بِالْفَتْحِ عَطْفًا عَلَى نِعْمَة وَبِالْكَسْرِ اسْتِئْنَافًا ﴿اللَّه لَا يُضِيع أَجْر الْمُؤْمِنِينَ﴾ بَلْ يأجرهم
١٧ -
﴿الَّذِينَ﴾ مُبْتَدَأ ﴿اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُول﴾ دُعَاءَهُ بِالْخُرُوجِ للقتال لما أراد أبو سفيان وأصحابه العودة تَوَاعَدُوا مَعَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُوق بَدْر الْعَام الْمُقْبِل مِنْ يَوْم أُحُد ﴿مِنْ بَعْد مَا أَصَابَهُمْ الْقَرْح﴾ بِأُحُدٍ وَخَبَر الْمُبْتَدَأ ﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ﴾ بِطَاعَتِهِ ﴿وَاتَّقَوْا﴾ مُخَالَفَته ﴿أَجْر عَظِيم﴾ هُوَ الْجَنَّة
١٧ -
﴿الَّذِينَ﴾ بَدَل مِنْ الَّذِينَ قَبْله أَوْ نَعْت ﴿قَالَ لَهُمْ النَّاس﴾ أَيْ نَعِيم بْن مَسْعُود الْأَشْجَعِيّ ﴿إنَّ النَّاس﴾ أَبَا سُفْيَان وَأَصْحَابه ﴿قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ﴾ الْجُمُوع ليستأصلوكم ﴿فَاخْشَوْهُمْ﴾ وَلَا تَأْتُوهُمْ ﴿فَزَادَهُمْ﴾ ذَلِكَ الْقَوْل ﴿إيمَانًا﴾ تَصْدِيقًا بِاَللَّهِ وَيَقِينًا ﴿وَقَالُوا حَسْبنَا اللَّه﴾ كَافِينَا أَمْرهمْ ﴿وَنِعْمَ الْوَكِيل﴾ الْمُفَوَّض إلَيْهِ الْأَمْر هُوَ وَخَرَجُوا مَعَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَافَوْا سُوق بَدْر وَأَلْقَى اللَّه الرُّعْب فِي قَلْب أَبِي سُفْيَان وَأَصْحَابه فَلَمْ يَأْتُوا وَكَانَ مَعَهُمْ تِجَارَات فَبَاعُوا وربحوا قال الله تعالى
١٧ -
﴿فَانْقَلَبُوا﴾ رَجَعُوا مِنْ بَدْر ﴿بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّه وَفَضْل﴾ بِسِلَامَةٍ وَرِبْح ﴿لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوء﴾ مِنْ قَتْل أَوْ جُرْح ﴿وَاتَّبَعُوا رِضْوَان اللَّه﴾ بِطَاعَتِهِ وَطَاعَة رَسُوله فِي الْخُرُوج ﴿وَاَللَّه ذُو فَضْل عَظِيم﴾ عَلَى أَهْل طَاعَته
١٧ -
﴿إنَّمَا ذَلِكُمْ﴾ أَيْ الْقَائِل لَكُمْ إنَّ النَّاس إلخ ﴿الشيطان يخوف﴾ كم ﴿أولياءه﴾ الكفار ﴿فلا تخافوهم وخافون﴾ فِي تَرْك أَمْرِي ﴿إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ حَقًّا
91
١٧ -
92
﴿وَلَا يَحْزُنك﴾ بِضَمِّ الْيَاء وَكَسْر الزَّاي وَبِفَتْحِهَا وضم الزاي من أحزانه ﴿الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْر﴾ يَقَعُونَ فِيهِ سَرِيعًا بِنُصْرَتِهِ وَهُمْ أَهْل مَكَّة أَوْ الْمُنَافِقُونَ أَيْ لَا تَهْتَمّ لِكُفْرِهِمْ ﴿إنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّه شَيْئًا﴾ بِفِعْلِهِمْ وَإِنَّمَا يَضُرُّونَ أَنْفُسهمْ ﴿يُرِيد اللَّه أَلَّا يَجْعَل لَهُمْ حَظًّا﴾ نَصِيبًا ﴿فِي الْآخِرَة﴾ أَيْ الْجَنَّة فَلِذَلِكَ خَذَلَهُمْ اللَّه ﴿وَلَهُمْ عَذَاب عَظِيم﴾ فِي النَّار
١٧ -
﴿إنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوْا الْكُفْر بِالْإِيمَانِ﴾ أَيْ أَخَذُوهُ بَدَله ﴿لَنْ يَضُرُّوا اللَّه﴾ بِكُفْرِهِمْ ﴿شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَاب أَلِيم﴾ مُؤْلِم
١٧ -
﴿وَلَا يَحْسَبَن﴾ بِالْيَاءِ وَالتَّاء ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي﴾ أَيْ إمْلَاءَنَا ﴿لَهُمْ﴾ بِتَطْوِيلِ الْأَعْمَار وَتَأْخِيرهمْ ﴿خَيْر لِأَنْفُسِهِمْ﴾ وَأَنَّ وَمَعْمُولَاهَا سَدَّتْ مَسَدّ الْمَفْعُولَيْنِ فِي قِرَاءَة التَّحْتَانِيَّة وَمَسَدّ الثَّانِي فِي الْأُخْرَى ﴿إنَّمَا نُمْلِي﴾ نُمْهِل ﴿لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إثْمًا﴾ بِكَثْرَةِ الْمَعَاصِي ﴿وَلَهُمْ عَذَاب مُهِين﴾ ذُو إهَانَة فِي الآخرة
١٧ -
﴿مَا كَانَ اللَّه لِيَذَر﴾ لِيَتْرُك ﴿الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ﴾ أَيّهَا النَّاس ﴿عَلَيْهِ﴾ مِنْ اخْتِلَاط الْمُخْلِص بِغَيْرِهِ ﴿حَتَّى يَمِيز﴾ بِالتَّخْفِيفِ وَالتَّشْدِيد يَفْصِل ﴿الْخَبِيث﴾ الْمُنَافِق ﴿مِنْ الطَّيِّب﴾ الْمُؤْمِن بِالتَّكَالِيفِ الشَّاقَّة الْمُبَيِّنَة لِذَلِكَ فَفَعَلَ ذَلِكَ يَوْم أُحُد ﴿وَمَا كَانَ اللَّه لِيُطْلِعكُمْ عَلَى الْغَيْب﴾ فَتَعْرِفُوا الْمُنَافِق مِنْ غَيْره قَبْل التَّمْيِيز ﴿وَلَكِنَّ اللَّه يَجْتَبِي﴾ يَخْتَار ﴿مِنْ رُسُله مَنْ يَشَاء﴾ فَيُطْلِعهُ عَلَى غَيْبه كَمَا أَطْلَعَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى حَال الْمُنَافِقِينَ ﴿فَآمِنُوا بِاَللَّهِ وَرُسُله وإن تؤمنوا وتتقوا﴾ النفاق ﴿فلكم أجر عظيم﴾
١٨ -
﴿وَلَا يَحْسَبَن﴾ بِالْيَاءِ وَالتَّاء ﴿الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمْ اللَّه مِنْ فَضْله﴾
أَيْ بِزَكَاتِهِ ﴿هُوَ﴾ أَيْ بُخْلهمْ ﴿خَيْرًا لَهُمْ﴾ مَفْعُول ثَانٍ وَالضَّمِير لِلْفَصْلِ وَالْأَوَّل بُخْلهمْ مُقَدَّرًا قَبْل الْمَوْصُول عَلَى الْفَوْقَانِيَّة وَقَبْل الضَّمِير عَلَى التَّحْتَانِيَّة ﴿بَلْ هُوَ شَرّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ﴾ أَيْ بِزَكَاتِهِ مِنْ الْمَال ﴿يَوْم الْقِيَامَة﴾ بِأَنْ يُجْعَل حَيَّة فِي عُنُقه تَنْهَشهُ كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيث ﴿وَلِلَّهِ مِيرَاث السَّمَاوَات وَالْأَرْض﴾ يَرِثهُمَا بَعْد فَنَاء أَهْلهمَا ﴿وَاَللَّه بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ بِالتَّاءِ وَالْيَاء ﴿خَبِير﴾ فَيُجَازِيكُمْ بِهِ
92
١٨ -
93
﴿لَقَدْ سَمِعَ اللَّه قَوْل الَّذِينَ قَالُوا إنَّ اللَّه فَقِير وَنَحْنُ أَغْنِيَاء﴾ وَهُمْ الْيَهُود قَالُوهُ لَمَّا نَزَلَ ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِض اللَّه قَرْضًا حَسَنًا﴾ وَقَالُوا كَانَ غَنِيًّا مَا اسْتَقْرَضْنَاهُ ﴿سَنَكْتُبُ﴾ نَأْمُر بِكَتْبِ ﴿مَا قَالُوا﴾ فِي صَحَائِف أَعْمَالهمْ لِيُجَازَوْا عَلَيْهِ وَفِي قِرَاءَة بِالْيَاءِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ ﴿و﴾ نَكْتُب ﴿قَتْلهمْ﴾ بِالنَّصْبِ وَالرَّفْع ﴿الْأَنْبِيَاء بِغَيْرِ حَقّ وَنَقُول﴾ بِالنُّونِ وَالْيَاء أَيْ اللَّه لَهُمْ فِي الْآخِرَة عَلَى لِسَان الْمَلَائِكَة ﴿ذُوقُوا عَذَاب الْحَرِيق﴾ النَّار وَيُقَال لَهُمْ إذَا أُلْقُوا فيها
١٨ -
﴿ذَلِكَ﴾ الْعَذَاب ﴿بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ﴾ عَبَّرَ بِهَا عَنْ الْإِنْسَان لِأَنَّ أَكْثَر الْأَفْعَال تُزَاوَل بِهَا ﴿وَأَنَّ اللَّه لَيْسَ بِظَلَّامٍ﴾ أَيْ بِذِي ظُلْم ﴿لِلْعَبِيدِ﴾ فَيُعَذِّبهُمْ بِغَيْرِ ذَنْب
١٨ -
﴿الَّذِينَ﴾ نَعْت لِلَّذِينَ قَبْله ﴿قَالُوا﴾ لِمُحَمَّدٍ ﴿إنَّ اللَّه﴾ قَدْ ﴿عَهِدَ إلَيْنَا﴾ فِي التَّوْرَاة ﴿أَلَّا نُؤْمِن لِرَسُولٍ﴾ نُصَدِّقهُ ﴿حَتَّى يَأْتِينَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلهُ النَّار﴾ فَلَا نُؤْمِن لَك حَتَّى تَأْتِينَا بِهِ وَهُوَ مَا يُتَقَرَّب بِهِ إلَى اللَّه مِنْ نِعَم وَغَيْرهَا فَإِنَّ قَبْل جَاءَتْ نَار بَيْضَاء مِنْ السَّمَاء فَأَحْرَقَتْهُ وَإِلَّا بَقِيَ مَكَانه وَعَهِدَ إلَى بَنِي إسْرَائِيل ذَلِكَ إلَّا فِي الْمَسِيح ومحمد قال تعالى ﴿قل﴾ تَوْبِيخًا ﴿قَدْ جَاءَكُمْ رُسُل مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ﴾ بِالْمُعْجِزَاتِ ﴿وَبِاَلَّذِي قُلْتُمْ﴾ كَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى فَقَتَلْتُمُوهُمْ وَالْخِطَاب لِمَنْ فِي زَمَن نَبِيّنَا مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنْ كَانَ الْفِعْل لِأَجْدَادِهِمْ لِرِضَاهُمْ بِهِ ﴿فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ فِي أَنَّكُمْ تُؤْمِنُونَ عِنْد الْإِتْيَان بِهِ
١٨ -
﴿فَإِنْ كَذَّبُوك فَقَدْ كُذِّبَ رُسُل مِنْ قَبْلك جاؤوا بالبينات﴾ المعجزات ﴿والزبر﴾ كصحف إبراهيم ﴿والكتاب﴾ وَفِي قِرَاءَة بِإِثْبَاتِ الْبَاء فِيهِمَا ﴿الْمُنِير﴾ الْوَاضِح هُوَ التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرُوا
١٨ -
﴿كُلّ نَفْس ذَائِقَة الْمَوْت وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُوركُمْ﴾ جَزَاء أَعْمَالكُمْ ﴿يَوْم الْقِيَامَة فَمَنْ زُحْزِحَ﴾ بُعِدَ ﴿عَنْ النَّار وَأُدْخِل الْجَنَّة فَقَدْ فَازَ﴾ نَالَ غَايَة مَطْلُوبه ﴿وَمَا الْحَيَاة الدُّنْيَا﴾ أَيْ الْعَيْش فيها ﴿إلا متاع الغرور﴾ الباطل يتمتع بها قَلِيلًا ثُمَّ يَفْنَى
93
١٨ -
94
﴿لَتُبْلَوُنَّ﴾ حُذِفَ مِنْهُ نُون الرَّفْع لِتَوَالِي النُّونَات وَالْوَاو ضَمِير الْجَمْع لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ لَتُخْتَبَرُنَّ ﴿فِي أَمْوَالكُمْ﴾ بِالْفَرَائِضِ فِيهَا وَالْحَوَائِج ﴿وَأَنْفُسكُمْ﴾ بِالْعِبَادَاتِ وَالْبَلَاء ﴿وَلَتَسْمَعُنَّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَاب مِنْ قَبْلكُمْ﴾ الْيَهُود وَالنَّصَارَى ﴿وَمِنْ الَّذِينَ أَشْرَكُوا﴾ مِنْ الْعَرَب ﴿أَذًى كَثِيرًا﴾ مِنْ السَّبّ وَالطَّعْن وَالتَّشْبِيب بِنِسَائِكُمْ ﴿وَإِنْ تَصْبِرُوا﴾ عَلَى ذَلِكَ ﴿وَتَتَّقُوا﴾ بِالْفَرَائِضِ ﴿فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْم الْأُمُور﴾ أَيْ مِنْ مَعْزُومَاتهَا الَّتِي يَعْزِم عَلَيْهَا لِوُجُوبِهَا
١٨ -
﴿و﴾ اُذْكُرْ ﴿إذْ أَخَذَ اللَّه مِيثَاق الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَاب﴾ أَيْ الْعَهْد عَلَيْهِمْ فِي التَّوْرَاة ﴿لَيُبَيِّنُنَّه﴾ أَيْ الْكِتَاب ﴿لِلنَّاسِ وَلَا يَكْتُمُونَهُ﴾ أَيْ الْكِتَاب بِالْيَاءِ وَالتَّاء بِالْفِعْلَيْنِ ﴿فَنَبَذُوهُ﴾ طَرَحُوا الْمِيثَاق ﴿وَرَاء ظُهُورهمْ﴾ فَلَمْ يَعْمَلُوا بِهِ ﴿وَاشْتَرَوْا بِهِ﴾ أَخَذُوا بَدَله ﴿ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ مِنْ الدُّنْيَا مِنْ سَفَلَتهمْ بِرِيَاسَتِهِمْ فِي الْعِلْم فَكَتَمُوهُ خَوْف فَوْته عليهم ﴿فبئس ما يشترون﴾ شراؤهم هذا
١٨ -
﴿ولا تَحْسَبَن﴾ بِالتَّاءِ وَالْيَاء ﴿الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُتُوا﴾ فَعَلُوا فِي إضْلَال النَّاس ﴿وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا﴾ مِنْ التَّمَسُّك بِالْحَقِّ وَهُمْ عَلَى ضَلَال ﴿فَلَا تَحْسَبَنهُمْ﴾ فِي الْوَجْهَيْنِ تَأْكِيد ﴿بِمَفَازَةٍ﴾ بِمَكَانٍ يَنْجُونَ فِيهِ ﴿مِنْ الْعَذَاب﴾ مِنْ الْآخِرَة بَلْ هُمْ فِي مَكَان يُعَذَّبُونَ فِيهِ وَهُوَ جَهَنَّم ﴿وَلَهُمْ عَذَاب أَلِيم﴾ مُؤْلِم فِيهَا ومفعولا يحسب الأولى دل عليهما مفعولا مَفْعُولَا الثَّانِيَة عَلَى قِرَاءَة التَّحْتَانِيَّة وَعَلَى الْفَوْقَانِيَّة حُذِفَ الثَّانِي فَقَطْ
١٨ -
﴿وَلِلَّهِ مُلْك السَّمَاوَات وَالْأَرْض﴾ خَزَائِن الْمَطَر وَالرِّزْق وَالنَّبَات وَغَيْرهَا ﴿وَاَللَّه عَلَى كُلّ شَيْء قَدِير﴾ وَمِنْهُ تَعْذِيب الْكَافِرِينَ وَإِنْجَاء الْمُؤْمِنِينَ
١٩ -
﴿إن في خلق السماوات والأرض﴾ وما فيهما مِنْ الْعَجَائِب ﴿وَاخْتِلَاف اللَّيْل وَالنَّهَار﴾ بِالْمَجِيءِ وَالذَّهَاب وَالزِّيَادَة وَالنُّقْصَان ﴿لَآيَات﴾ دَلَالَات عَلَى قُدْرَته تَعَالَى ﴿لِأُولِي الْأَلْبَاب﴾ لِذَوِي الْعُقُول
١٩ -
﴿الَّذِينَ﴾ نَعَتَ لِمَا قَبْله أَوْ بَدَل ﴿يَذْكُرُونَ اللَّه قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبهمْ﴾ مُضْطَجِعِينَ أَيْ في كل حال وعن بن عَبَّاس يُصَلُّونَ كَذَلِكَ حَسْب الطَّاقَة ﴿وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْق السَّمَاوَات وَالْأَرْض﴾ لِيَسْتَدِلُّوا بِهِ عَلَى قُدْرَة صَانِعهمَا يَقُولُونَ ﴿رَبّنَا مَا خَلَقْت هَذَا﴾ الْخَلْق الَّذِي نَرَاهُ ﴿بَاطِلًا﴾ حَال عَبَثًا بَلْ دَلِيلًا عَلَى كَمَالِ قُدْرَتك ﴿سُبْحَانك﴾ تَنْزِيهًا لَك عَنْ العبث {فقنا عذاب النار
94
١٩ -
95
﴿رَبّنَا إنَّك مَنْ تُدْخِل النَّار﴾ لِلْخُلُودِ فِيهَا ﴿فَقَدْ أَخْزَيْته﴾ أَهَنْته ﴿وَمَا لِلظَّالِمِينَ﴾ الْكَافِرِينَ فِيهِ وُضِعَ الظَّاهِر مَوْضِع الْمُضْمَر إشْعَارًا بِتَخْصِيصِ الْخِزْي بِهِمْ ﴿مِنْ أَنْصَار﴾ يَمْنَعُونَهُمْ مِنْ عَذَاب اللَّه تعالى
١٩ -
﴿رَبّنَا إنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي﴾ يَدْعُو النَّاس ﴿لِلْإِيمَانِ﴾ أَيْ إلَيْهِ وَهُوَ مُحَمَّد أَوْ الْقُرْآن ﴿أَنْ﴾ أَيْ بِأَنْ ﴿آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا﴾ بِهِ ﴿رَبّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبنَا وَكَفِّرْ﴾ حُطَّ ﴿عَنَّا سَيِّئَاتنَا﴾ فَلَا تُظْهِرهَا بِالْعِقَابِ عَلَيْهَا ﴿وَتَوَفَّنَا﴾ اقْبِضْ أَرْوَاحنَا ﴿مَعَ﴾ فِي جُمْلَة ﴿الْأَبْرَار﴾ الْأَنْبِيَاء الصَّالِحِينَ
١٩ -
﴿ربنا آتنا﴾ أَعْطِنَا ﴿مَا وَعَدْتنَا﴾ بِهِ ﴿عَلَى﴾ أَلْسِنَة ﴿رُسُلك﴾ مِنْ الرَّحْمَة وَالْفَضْل وَسُؤَالهمْ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ وَعْده تَعَالَى لَا يُخْلِف سُؤَال أَنْ يَجْعَلهُمْ مِنْ مُسْتَحِقِّيهِ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَتَيَقَّنُوا اسْتِحْقَاقهمْ لَهُ وَتَكْرِير رَبّنَا مُبَالَغَة فِي التَّضَرُّع ﴿وَلَا تُخْزِنَا يَوْم الْقِيَامَة إنَّك لَا تُخْلِف الْمِيعَاد﴾ الْوَعْد بالبعث والجزاء
١٩ -
﴿فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبّهمْ﴾ دُعَاءَهُمْ ﴿أَنِّي﴾ أَيْ بِأَنِّي ﴿لَا أُضِيع عَمَل عَامِل مِنْكُمْ مِنْ ذَكَر أَوْ أُنْثَى بَعْضكُمْ﴾ كَائِن ﴿مِنْ بَعْض﴾ أَيْ الذُّكُور مِنْ الْإِنَاث وَبِالْعَكْسِ وَالْجُمْلَة مُؤَكِّدَة لِمَا قَبْلهَا أَيْ هُمْ سَوَاء فِي الْمُجَازَاة بِالْأَعْمَالِ وَتَرْك تَضْيِيعهَا نَزَلَتْ لَمَّا قَالَتْ أُمّ سَلَمَة يَا رَسُول اللَّه إنِّي لَا أَسْمَع ذِكْر النِّسَاء فِي الْهِجْرَة بِشَيْءٍ ﴿فَاَلَّذِينَ هَاجَرُوا﴾ مِنْ مَكَّة إلَى الْمَدِينَة ﴿وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارهمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي﴾ دِينِي ﴿وَقَاتَلُوا﴾ الْكُفَّار ﴿وَقُتِلُوا﴾ بِالتَّخْفِيفِ وَالتَّشْدِيد وَفِي قِرَاءَة بِتَقْدِيمِهِ ﴿لَأُكَفِّرَن عَنْهُمْ سَيِّئَاتهمْ﴾ أَسْتُرهَا بِالْمَغْفِرَةِ ﴿وَلَأُدْخِلَنهُمْ جَنَّات تَجْرِي مِنْ تَحْتهَا الْأَنْهَار ثَوَابًا﴾ مَصْدَر مِنْ مَعْنَى لَأُكَفِّرَن مُؤَكِّد لَهُ ﴿مِنْ عِنْد اللَّه﴾ فِيهِ الْتِفَات عَنْ التَّكَلُّم ﴿وَاَللَّه عِنْده حُسْن الثَّوَاب﴾ الْجَزَاء
١٩ -
وَنَزَلَ لَمَّا قَالَ الْمُسْلِمُونَ أَعْدَاء اللَّه فِيمَا نَرَى مِنْ الْخَيْر وَنَحْنُ فِي الْجَهْد ﴿لَا يَغُرَّنك تَقَلُّب الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ تَصَرُّفهمْ ﴿فِي الْبِلَاد﴾ بالتجارة والكسب
95
١٩ -
96
هُوَ ﴿مَتَاع قَلِيل﴾ يَتَمَتَّعُونَ بِهِ يَسِيرًا فِي الدُّنْيَا وَيَفْنَى ﴿ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّم وَبِئْسَ الْمِهَاد﴾ الفراش هي
١٩ -
﴿لَكِنْ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبّهمْ لَهُمْ جَنَّات تَجْرِي مِنْ تَحْتهَا الْأَنْهَار خَالِدِينَ﴾ أَيْ مُقَدَّرِينَ بِالْخُلُودِ ﴿فِيهَا نُزُلًا﴾ وَهُوَ مَا يُعَدّ لِلضَّيْفِ وَنَصْبه عَلَى الْحَال مِنْ جَنَّات وَالْعَامِل فِيهَا مَعْنَى الظَّرْف ﴿مِنْ عِنْد اللَّه وَمَا عِنْد اللَّه﴾ مِنْ الثَّوَاب ﴿خَيْر لِلْأَبْرَارِ﴾ مِنْ مَتَاع الدُّنْيَا
١٩ -
﴿وَإِنَّ مِنْ أَهْل الْكِتَاب لَمَنْ يُؤْمِن بِاَللَّهِ﴾ كَعَبْدِ اللَّه بْن سَلَام وَأَصْحَابه وَالنَّجَاشِيّ ﴿وَمَا أُنْزِلَ إلَيْكُمْ﴾ أَيْ الْقُرْآن ﴿وَمَا أُنْزِلَ إلَيْهِمْ﴾ أَيْ التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل ﴿خَاشِعِينَ﴾ حَال مِنْ ضَمِير يُؤْمِن مُرَاعَى فِيهِ مَعْنَى مِنْ أَيْ مُتَوَاضِعِينَ ﴿لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّه﴾ الَّتِي عِنْدهمْ فِي التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل مِنْ بَعْث النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ﴿ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ مِنْ الدُّنْيَا بِأَنْ يَكْتُمُوهَا خَوْفًا عَلَى الرِّيَاسَة كَفِعْلِ غَيْرهمْ مِنْ الْيَهُود ﴿أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرهمْ﴾ ثَوَاب أَعْمَالهمْ ﴿عِنْد رَبّهمْ﴾ يُؤْتَوْنَهُ مَرَّتَيْنِ كَمَا فِي الْقَصَص ﴿إنَّ اللَّه سَرِيع الْحِسَاب﴾ يُحَاسِب الْخَلْق فِي قَدْر نِصْف نَهَار مِنْ أَيَّام الدنيا
96
٢٠ -
97
﴿يأيها الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا﴾ عَلَى الطَّاعَات وَالْمَصَائِب وَعَنْ الْمَعَاصِي ﴿وَصَابِرُوا﴾ الْكُفَّار فَلَا يَكُونُوا أَشَدّ صَبْرًا مِنْكُمْ ﴿وَرَابِطُوا﴾ أَقِيمُوا عَلَى الْجِهَاد ﴿وَاتَّقُوا اللَّه﴾ فِي جَمِيع أَحْوَالكُمْ ﴿لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ تَفُوزُونَ بِالْجَنَّةِ وتنجون من النار = ٤ سورة النساء
سورة آل عمران
معلومات السورة
الكتب
الفتاوى
الأقوال
التفسيرات

اتصَلتْ سورةُ (آلِ عِمْرانَ) من حيث الفضلُ بسورةِ (البقرة)؛ فقد وصَفهما الرسولُ ﷺ بـ (الزَّهْراوَينِ)؛ لِما احتوتا عليه من نورٍ وهداية.

وجاءت هذه السُّورةُ ببيانِ هداية هذا الكتابِ للناس، متضمِّنةً الحوارَ مع أهل الكتاب، مُحاجِجَةً إياهم في صِدْقِ هذا الدِّين وعلوِّه على غيره، مبرهنةً لصِدْقِ النبي ﷺ بهذه الرسالة، وهَيْمنةِ هذا الدِّينِ على غيره، ونَسْخِه للأديان الأخرى؛ فمَن ابتغى غيرَ الإسلام فأمرُه ردٌّ غيرُ مقبولٍ، كما أشارت إلى غزوةِ (أُحُدٍ)، وأمرِ المسلمين بالثَّبات على هذا الدِّين.

ترتيبها المصحفي
3
نوعها
مدنية
ألفاظها
3501
ترتيب نزولها
89
العد المدني الأول
200
العد المدني الأخير
200
العد البصري
200
العد الكوفي
200
العد الشامي
200

* قوله تعالى: {إِنَّ اْلَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اْللَّهِ وَأَيْمَٰنِهِمْ ثَمَنٗا قَلِيلًا أُوْلَٰٓئِكَ لَا خَلَٰقَ لَهُمْ فِي اْلْأٓخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اْللَّهُ وَلَا يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ اْلْقِيَٰمَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٞ} [آل عمران: 77]:

ورَد عن عبدِ اللهِ بن مسعودٍ - رضي الله عنه -، عن النبيِّ ﷺ، قال: «مَن حلَفَ على يمينٍ يقتطِعُ بها مالَ امرئٍ مسلمٍ، وهو فيها فاجرٌ: لَقِيَ اللهَ وهو عليه غضبانُ»، ثم أنزَلَ اللهُ تصديقَ ذلك: {إِنَّ اْلَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اْللَّهِ وَأَيْمَٰنِهِمْ ثَمَنٗا قَلِيلًا أُوْلَٰٓئِكَ لَا خَلَٰقَ لَهُمْ فِي اْلْأٓخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اْللَّهُ وَلَا يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ اْلْقِيَٰمَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٞ} [آل عمران: 77]، ثم إنَّ الأشعَثَ بنَ قيسٍ خرَجَ إلينا، فقال: ما يُحدِّثُكم أبو عبدِ الرَّحمنِ؟ قال: فحدَّثْناه، قال: فقال: صدَقَ؛ لَفِيَّ نزَلتْ، كانت بيني وبين رجُلٍ خصومةٌ في بئرٍ، فاختصَمْنا إلى رسولِ اللهِ ﷺ، فقال رسولُ اللهِ ﷺ: «شاهِدَاكَ أو يمينُهُ»، قلتُ: إنَّه إذًا يَحلِفُ ولا يُبالي، فقال رسولُ اللهِ ﷺ: «مَن حلَفَ على يمينٍ يستحِقُّ بها مالًا، وهو فيها فاجرٌ: لَقِيَ اللهَ وهو عليه غضبانُ»، ثم أنزَلَ اللهُ تصديقَ ذلك، ثم اقترَأَ هذه الآيةَ: {إِنَّ اْلَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اْللَّهِ وَأَيْمَٰنِهِمْ ثَمَنٗا قَلِيلًا} إلى قوله: {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٞ} [آل عمران: 77]. أخرجه البخاري (٢٣٥٦).

* قوله تعالى: {كَيْفَ يَهْدِي اْللَّهُ قَوْمٗا كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَٰنِهِمْ وَشَهِدُوٓاْ أَنَّ اْلرَّسُولَ حَقّٞ وَجَآءَهُمُ اْلْبَيِّنَٰتُۚ وَاْللَّهُ لَا يَهْدِي اْلْقَوْمَ اْلظَّٰلِمِينَ ٨٦ أُوْلَٰٓئِكَ جَزَآؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اْللَّهِ وَاْلْمَلَٰٓئِكَةِ وَاْلنَّاسِ أَجْمَعِينَ ٨٧ خَٰلِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ اْلْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنظَرُونَ ٨٨ إِلَّا اْلَّذِينَ تَابُواْ مِنۢ بَعْدِ ذَٰلِكَ وَأَصْلَحُواْ فَإِنَّ اْللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٌ} [آل عمران: 86-89]:

صحَّ عن عبدِ اللهِ بن عباسٍ - رضي الله عنهما -، قال: «كان رجُلٌ مِن الأنصارِ أسلَمَ، ثم ارتَدَّ ولَحِقَ بالشِّرْكِ، ثم نَدِمَ، فأرسَلَ إلى قومِه: سَلُوا رسولَ اللهِ ﷺ: هل لي مِن توبةٍ؟ فجاء قومُهُ إلى رسولِ اللهِ ﷺ، فقالوا: إنَّ فلانًا قد نَدِمَ، وإنَّه قد أمَرَنا أن نسألَك: هل له مِن توبةٍ؟ فنزَلتْ: {كَيْفَ يَهْدِي اْللَّهُ قَوْمٗا كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَٰنِهِمْ} [آل عمران: 86] إلى {غَفُورٞ رَّحِيمٌ} [آل عمران: 89]، فأرسَلَ إليه قومُهُ، فأسلَمَ». أخرجه النسائي (٤٠٧٩).

* قوله تعالى: {وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنتُمْ تُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ ءَايَٰتُ اْللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُۥۗ وَمَن يَعْتَصِم بِاْللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسْتَقِيمٖ ١٠١ يَٰٓأَيُّهَا اْلَّذِينَ ءَامَنُواْ اْتَّقُواْ اْللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِۦ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ١٠٢ وَاْعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اْللَّهِ جَمِيعٗا وَلَا تَفَرَّقُواْۚ وَاْذْكُرُواْ نِعْمَتَ اْللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَآءٗ فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِۦٓ إِخْوَٰنٗا وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٖ مِّنَ اْلنَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَاۗ} [آل عمران: 101-103]:

عن عبدِ اللهِ بن عباسٍ - رضي الله عنهما -، قال: «كان الأَوْسُ والخَزْرجُ يَتحدَّثون، فغَضِبوا، حتى كان بينهم حربٌ، فأخَذوا السِّلاحَ بعضُهم إلى بعضٍ؛ فنزَلتْ: {وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنتُمْ تُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ ءَايَٰتُ اْللَّهِ} [آل عمران: 101] إلى قوله تعالى: {فَأَنقَذَكُم مِّنْهَاۗ} [آل عمران: 103]. "المعجم الكبير" للطبراني (١٢٦٦٦).

* قوله تعالى: {لَيْسَ لَكَ مِنَ اْلْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَٰلِمُونَ} [آل عمران: 128]:

صحَّ عن أبي هُرَيرةَ - رضي الله عنه - أنَّه قال: «كان رسولُ اللهِ ﷺ يقولُ حين يفرُغُ مِن صلاةِ الفجرِ مِن القراءةِ ويُكبِّرُ ويَرفَعُ رأسَه: «سَمِعَ اللهُ لِمَن حَمِدَه، ربَّنا ولك الحمدُ»، ثم يقولُ وهو قائمٌ: «اللهمَّ أنْجِ الوليدَ بنَ الوليدِ، وسلَمةَ بنَ هشامٍ، وعيَّاشَ بنَ أبي ربيعةَ، والمستضعَفِينَ مِن المؤمنين، اللهمَّ اشدُدْ وَطْأتَك على مُضَرَ، واجعَلْها عليهم كَسِنِي يوسُفَ، اللهمَّ العَنْ لِحْيانَ، ورِعْلًا، وذَكْوانَ، وعُصَيَّةَ؛ عصَتِ اللهَ ورسولَه»، ثم بلَغَنا أنَّه ترَكَ ذلك لمَّا أُنزِلَ: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ أوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإنَّهُمْ ظالِمُونَ}». أخرجه مسلم (675).

وعن عبدِ اللهِ بن عُمَرَ - رضي الله عنهما -: أنَّه سَمِعَ رسولَ اللهِ ﷺ إذا رفَعَ رأسَه مِن الرُّكوعِ مِن الركعةِ الآخِرةِ مِن الفجرِ يقولُ: «اللهمَّ العَنْ فلانًا وفلانًا وفلانًا» بعدما يقولُ: «سَمِعَ اللهُ لِمَن حَمِدَه، ربَّنا ولك الحمدُ»؛ فأنزَلَ اللهُ: {لَيْسَ لَكَ مِنَ اْلْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَٰلِمُونَ} [آل عمران: 128]. أخرجه البخاري (٤٠٦٩).

* قوله تعالى: {ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّنۢ بَعْدِ اْلْغَمِّ أَمَنَةٗ نُّعَاسٗا يَغْشَىٰ طَآئِفَةٗ مِّنكُمْۖ وَطَآئِفَةٞ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ} [آل عمران: 154]:

عن أنسِ بن مالكٍ - رضي الله عنه -، أنَّ أبا طَلْحةَ قال: «غَشِيَنا النُّعَاسُ ونحن في مَصافِّنا يومَ أُحُدٍ، قال: فجعَلَ سيفي يسقُطُ مِن يدي وآخُذُه، ويسقُطُ وآخُذُه؛ وذلك قولُه عز وجل: {ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّنۢ بَعْدِ اْلْغَمِّ أَمَنَةٗ نُّعَاسٗا يَغْشَىٰ طَآئِفَةٗ مِّنكُمْۖ وَطَآئِفَةٞ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ} [آل عمران: 154]، والطائفةُ الأخرى: المنافقون، ليس لهم إلا أنفسُهم؛ أجبَنُ قومٍ وأرعَبُهُ، وأخذَلُهُ للحقِّ». أخرجه البخاري (٤٠٦٨).

* قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَغُلَّۚ وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ اْلْقِيَٰمَةِۚ ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٖ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [آل عمران: 161]:

صحَّ عن عبدِ اللهِ بن عباسٍ - رضي الله عنهما - أنَّه قال: «نزَلتْ هذه الآيةُ: {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَغُلَّۚ} في قَطيفةٍ حَمْراءَ فُقِدتْ يومَ بدرٍ، فقال بعضُ الناسِ: لعلَّ رسولَ اللهِ - ﷺ - أخَذَها؛ فأنزَلَ اللهُ: {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَغُلَّۚ وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ اْلْقِيَٰمَةِۚ ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٖ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [آل عمران: 161]». أخرجه أبو داود (٣٩٧١).

* قوله تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ اْلَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اْللَّهِ أَمْوَٰتَۢاۚ بَلْ أَحْيَآءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169]:

عن مسروقٍ، قال: سأَلْنا عبدَ اللهِ - هو ابنُ مسعودٍ رضي الله عنه - عن هذه الآيةِ: {وَلَا تَحْسَبَنَّ اْلَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اْللَّهِ أَمْوَٰتَۢاۚ بَلْ أَحْيَآءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ}، قال: «أمَا إنَّا قد سأَلْنا عن ذلك، فقال: أرواحُهم في جوفِ طيرٍ خُضْرٍ، لها قناديلُ معلَّقةٌ بالعرشِ، تَسرَحُ مِن الجَنَّةِ حيث شاءت، ثم تَأوي إلى تلك القناديلِ، فاطَّلَعَ إليهم ربُّهم اطِّلاعةً، فقال: هل تشتهون شيئًا؟ قالوا: أيَّ شيءٍ نشتهي ونحن نَسرَحُ في الجَنَّةِ حيث شِئْنا؟! ففعَلَ ذلك بهم ثلاثَ مرَّاتٍ، فلمَّا رأَوْا أنَّهم لن يُترَكوا مِن أن يَسألوا، قالوا: يا ربُّ، نريدُ أن ترُدَّ أرواحَنا في أجسادِنا؛ حتى نُقتَلَ في سبيلِك مرَّةً أخرى، فلمَّا رأى أنْ ليس لهم حاجةٌ، تُرِكوا». أخرجه مسلم (١٨٨٧).

سُمِّيتْ (آلُ عِمْرانَ) بهذا الاسم لذِكْرِ (آلِ عِمْرانَ) فيها، وثبَت لها اسمٌ آخَرُ؛ وهو (الزَّهْراءُ):

لِما جاء في حديث أبي أُمامةَ الباهليِّ رضي الله عنه، قال: سَمِعْتُ رسولَ الله ﷺ يقولُ: «اقرَؤُوا الزَّهْراوَينِ: البقرةَ، وسورةَ آلِ عِمْرانَ». أخرجه مسلم (804).

يقول ابنُ منظورٍ: «والزَّهْراوانِ: أي: المُنِيرتانِ المُضِيئتانِ، واحدتها: زَهْراءُ». لسان العرب (4 /332).

وقد عدَّ بعضُ العلماء أنَّ ذِكْرَ (الزَّهْراوانِ) في هذا الحديثِ هو من بابِ الوصف، لا التسمية. انظر: "التحرير والتنوير" لابن عاشور (3 /143)، "التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (1 /20).

* تُحاجُّ عن صاحبِها:

صحَّ عن أبي أُمامةَ الباهليِّ رضي الله عنه، قال: سَمِعْتُ رسولَ اللهِ ﷺ يقولُ: «اقرَؤُوا القرآنَ؛ فإنَّه يأتي يومَ القيامةِ شفيعًا لأصحابِه؛ اقرَؤُوا الزَّهْراوَينِ: البقرةَ، وسورةَ آلِ عِمْرانَ؛ فإنَّهما تأتيانِ يومَ القيامةِ كأنَّهما غَمَامتانِ، أو كأنَّهما غَيَايتانِ، أو كأنَّهما فِرْقانِ مِن طيرٍ صوافَّ، تُحاجَّانِ عن أصحابِهما، اقرَؤُوا سورةَ البقرةِ؛ فإنَّ أَخْذَها برَكةٌ، وتَرْكَها حَسْرةٌ، ولا تستطيعُها البَطَلةُ». أخرجه مسلم (804).

* كان يعظُمُ بين الصحابةِ قارئُ سورةِ (آلِ عِمْرانَ):

فعن أنسٍ رضي الله عنه، قال: «كان الرَّجُلُ إذا قرَأ البقرةَ وآلَ عِمْرانَ، جَدَّ فينا - يعني: عظُمَ -»، وفي روايةٍ: «يُعَدُّ فينا عظيمًا»، وفي أخرى: «عُدَّ فينا ذا شأنٍ». أخرجه أحمد (12236).

* ورَدتْ قراءتُه ﷺ لسورة (آل عِمْران) في قيام الليل:

فعن حُذَيفةَ بن اليمانِ رضي الله عنهما، قال: «صلَّيْتُ مع رسولِ اللهِ ﷺ ذاتَ ليلةٍ، فاستفتَحَ بسورةِ البقرةِ، فقرَأَ بمائةِ آيةٍ لم يَركَعْ، فمضى، قلتُ: يَختِمُها في الرَّكعتَينِ، فمضى، قلتُ: يَختِمُها ثم يَركَعُ، فمضى حتى قرَأَ سورةَ النِّساءِ، ثم قرَأَ سورةَ آلِ عِمْرانَ، ثم ركَعَ نحوًا مِن قيامِهِ، يقولُ في ركوعِهِ: سبحانَ ربِّيَ العظيمِ، سبحانَ ربِّيَ العظيمِ، سبحانَ ربِّيَ العظيمِ، ثم رفَعَ رأسَهُ، فقال: سَمِعَ اللهُ لِمَن حَمِدَه، ربَّنا لك الحمدُ، وأطال القيامَ، ثم سجَدَ، فأطال السُّجودَ، يقولُ في سجودِهِ: سبحانَ ربِّيَ الأعلى، سبحانَ ربِّيَ الأعلى، سبحانَ ربِّيَ الأعلى، لا يمُرُّ بآيةِ تخويفٍ أو تعظيمٍ للهِ عز وجل إلا ذكَرَهُ». أخرجه النسائي (١١٣٢).

* كان النبيُّ ﷺ يَقرأُ خواتمَها منتصَفَ الليلِ عندما يستيقظُ مِن نومِه:

فممَّا صحَّ عن عبدِ اللهِ بن عباسٍ رضي الله عنهما: أنَّه باتَ عند مَيْمونةَ زَوْجِ النبيِّ ﷺ - وهي خالتُهُ -، قال: «فاضطجَعْتُ في عَرْضِ الوِسادَةِ، واضطجَعَ رسولُ اللهِ ﷺ وأهلُهُ في طُولِها، فنامَ رسولُ اللهِ ﷺ حتى انتصَفَ الليلُ - أو قَبْله بقليلٍ، أو بعده بقليلٍ -، ثم استيقَظَ رسولُ اللهِ ﷺ، فجعَلَ يَمسَحُ النَّوْمَ عن وجهِهِ بيدَيهِ، ثم قرَأَ العَشْرَ الآياتِ الخواتِمَ مِن سُورةِ آلِ عِمْرانَ، ثم قامَ إلى شَنٍّ معلَّقةٍ، فتوضَّأَ منها، فأحسَنَ وُضُوءَهُ، ثم قامَ يُصلِّي، فصنَعْتُ مِثْلَ ما صنَعَ، ثُمَّ ذهَبْتُ فقُمْتُ إلى جَنْبِهِ، فوضَعَ رسولُ اللهِ ﷺ يَدَهُ اليُمْنى على رَأْسي، وأخَذَ بأُذُني بيدِهِ اليُمْنى يَفتِلُها، فصلَّى ركعتَينِ، ثم ركعتَينِ، ثم ركعتَينِ، ثم ركعتَينِ، ثم ركعتَينِ، ثم ركعتَينِ، ثم أوتَرَ، ثم اضطجَعَ حتى جاءه المؤذِّنُ، فقامَ فصلَّى ركعتَينِ خفيفتَينِ، ثم خرَجَ فصلَّى الصُّبْحَ». أخرجه البخاري (٤٥٧١).

جاءت مواضيعُ سورةِ (آل عِمْرانَ) مُرتَّبةً على النحوِ الآتي:

مقدِّمات للحوار مع النَّصارى (١-٣٢).

إنزال الكتاب هدايةً للناس (١-٩).

تحذير الكافرين وحقيقةُ الدنيا (١٠-١٨).

انتقال الرسالة لأمَّة الإسلام (٢٩-٣٢).

اصطفاء الله تعالى لرُسلِه (٣٣-٤٤).

حقيقة عيسى عليه السلام (٤٥-٦٣).

الإسلام هو دِين الحقِّ، وهو دِينُ جميع الأنبياء (٦٤-٩٩).

إبراهيم عليه السلام كان حنيفًا مسلمًا (٦٤-٦٨).

مخاطبة فِرَق أهل الكتاب، وبيان حقائقهم (٦٩-٨٠).

وَحْدة الرسالات، والدِّين الحق هو الإسلام (٨١- ٩٢).

صلة المسلمين بإبراهيم، وافتراء أهل الكتاب (٩٣-٩٩).

بيان خَيْرية هذه الأمَّة، وتحذيرها من أعدائها (١٠٠-١٢٠).

التحذير من الوقوع في أخطاء السابقين (١٠٠-١٠٩).

خيرية هذه الأمَّة وفضلها (١١٠-١١٥).

تحذير الأمَّة من المنافقين (١١٦-١٢٠).

معركة (أُحُد) (١٢١-١٤٨).

مقدِّمات معركة (أُحُد) (١٢١-١٢٩).

أهمية الطاعة ومواعظُ (١٣٠-١٣٨).

تعزية المسلمين، والنهيُ عن الهوان (١٣٩-١٤٨).

دروس مستفادة من الهزيمة (١٤٩-١٨٩).

التحذير من طاعة الأعداء والتنازل (١٤٩-١٥٨).

أهمية الشورى وطاعة الرسول (١٥٩-١٦٤).

أسباب الهزيمة وفوائدها (١٦٥-١٧٩).

تحذير المنافقين والبخلاء (١٨٠-١٨٩).

أولو الألباب يستفيدون من الآيات الكونية (١٩٠-١٩٥).

الأمورُ بخواتيمها (١٩٦-٢٠٠).

ينظر: "التفسير الموضوعي للقرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (1 /426).

افتُتِحت السُّورةُ بمقصدٍ عظيمٍ؛ وهو التنويهُ بالقرآن، وبمحمَّدٍ ﷺ، وتقسيمُ آيات القرآن، ومراتبُ الأفهام في تَلقِّيها، والتنويهُ بفضيلة الإسلام، وأنه لا يَعدِله دِينٌ، وأنه لا يُقبَل دِينٌ عند الله بعد ظهور الإسلام غيرُ الإسلام.

ومِن مقاصدِها: مُحاجَّةُ أهلِ الكتابينِ في حقيقة الحنيفيَّة، وأنهم بُعَداءُ عنها، وما أخَذ اللهُ من العهد على الرُّسلِ كلِّهم: أن يؤمنوا بالرسول الخاتم.

واشتملت على أمرِ المسلمين بفضائلِ الأعمال: مِن بذلِ المال في مواساة الأمَّة، والإحسان، وفضائل الأعمال، وتركِ البخل، ومَذمَّةِ الربا.

وخُتِمت السُّورةُ بآياتِ التفكير في ملكوت الله.

ينظر: "التحرير والتنوير" لابن عاشور (3 /145).