تفسير سورة الجن

تفسير السمعاني

تفسير سورة سورة الجن من كتاب تفسير السمعاني المعروف بـتفسير السمعاني.
لمؤلفه أبو المظفر السمعاني . المتوفي سنة 489 هـ

بسم الله الرحمن الرحيم

تفسير سورة الجن وهي مكية

قَوْله تَعَالَى: ﴿قل أُوحِي إِلَيّ أَنه اسْتمع نفر من الْجِنّ﴾ سَبَب نزُول هَذِه الْآيَة مَا روى سعيد بن جُبَير عَن ابْن عَبَّاس " أَن النَّبِي انْطلق فِي نفر من أَصْحَابه عَامِدين إِلَى سوق عكاظ، فَمر بالنخلة، وَقد كَانَ الشَّيَاطِين منعُوا من السَّمَاء، وَأرْسلت الشهب عَلَيْهِم، فَقَالُوا لقومهم: قد حيل بَيْننَا وَبَين خبر السَّمَاء، فَقَالُوا: إِنَّمَا ذَلِك لأمر حدث فِي الأَرْض.
وروى أَنهم قَالُوا ذَلِك لإبليس، وَأَن إِبْلِيس قَالَ لَهُم: اضربوا فِي مَشَارِق الأَرْض وَمَغَارِبهَا لتعرفوا مَا الْأَمر الَّذِي حدث؟ فَمر نفر مِنْهُم نَحْو تهَامَة فَرَأَوْا النَّبِي يُصَلِّي بِأَصْحَابِهِ صَلَاة الْفجْر بِبَطن نَخْلَة، وَهُوَ يقْرَأ الْقُرْآن، فَقَالُوا: هَذَا هُوَ الْأَمر الَّذِي حدث، وَرَجَعُوا إِلَى قَومهمْ وأخبروهم بذلك، وَأنزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة ".
وَقد روى البُخَارِيّ فِي الصَّحِيح نَحوا (من رِوَايَة) ابْن عَبَّاس.
وَذكر ابْن جريح فِي تَفْسِيره عَن أبي عُبَيْدَة بن عبد الله بن مَسْعُود عَن ابْن مَسْعُود " أَن النَّبِي انْطلق إِلَى الْجِنّ ليقْرَأ عَلَيْهِم الْقُرْآن ويدعوهم إِلَى الله، فَقَالَ لأَصْحَابه: من يصحبني مِنْكُم؟ وَفِي رِوَايَة: ليقمْ مِنْكُم رجل معي لَيْسَ فِي قلبه حَبَّة خَرْدَل من كبر.
فَسكت الْقَوْم.
فَقَالَ ذَلِك ثَانِيًا وثالثا، فَقَامَ عبد الله بن مَسْعُود، قَالَ ابْن مَسْعُود: فَانْطَلَقت مَعَ رَسُول الله قبل الْحجُون حَتَّى دَخَلنَا شعب أبي دب، فَقَالَ: فَخط لي خطا فَقَالَ: لَا تَبْرَح هَذَا الْخط، وَنزل عَلَيْهِ الْجِنّ مثل الحجل.
قَالَ فَقَرَأَ عَلَيْهِم
62
الْقُرْآن وَعلا صَوته، فلصقوا بِالْأَرْضِ حَتَّى لَا أَرَاهُم " وَفِي رِوَايَة: انهم قَالُوا لَهُ: " مَا أَنْت؟ مَا أَنْت؟ قَالَ: نَبِي.
قَالُوا: وَمن يشْهد لَك؟ فَقَالَ: هَذِه الشَّجَرَة، قَالَ: فَدَعَا الشَّجَرَة فَجَاءَت تجر عروقها، لَهَا قعاقع، وَشهِدت الشَّجَرَة لَهُ بِالنُّبُوَّةِ، ثمَّ عَادَتْ إِلَى مَكَانهَا " وَفِي هَذَا الْخَبَر: " أَنهم سَأَلُوهُ الزَّاد فَأَعْطَاهُمْ الْعظم والبعر، فَكَانُوا يَجدونَ الْعظم أوقر مَا يكون لَحْمًا، والبعر علفا لدوابهم، وَنهى الرَّسُول حِينَئِذٍ الِاسْتِنْجَاء بالعظم والروث ".
قَالَ جمَاعَة من أهل التَّفْسِير: أَن أَمر الْجِنّ كَانَ مرَّتَيْنِ، مرّة بِمَكَّة وَمرَّة بِبَطن نَخْلَة، فَالَّذِي رَوَاهُ ابْن عَبَّاس هُوَ الَّذِي كَانَ بِبَطن نَخْلَة، وَالَّذِي رَوَاهُ ابْن مَسْعُود هُوَ الَّذِي كَانَ بِمَكَّة، فَأَما الَّذِي كَانَ بِبَطن نَخْلَة فَإِنَّهُم مروا بِالنَّبِيِّ وَاسْتَمعُوا الْقُرْآن، وَأما الَّذِي كَانَ بِمَكَّة فَإِن الرَّسُول انْطلق إِلَيْهِم، وَقَرَأَ عَلَيْهِم الْقُرْآن ودعاهم إِلَى الْإِيمَان، فَهَذَا هُوَ الْجمع بَين الرِّوَايَتَيْنِ.
وَقد روى أَن عبد الله بن مَسْعُود رأى بالعراق قوما من الزط، فَقَالَ: أشبههم بالجن لَيْلَة الْجِنّ.
وَفِي رِوَايَة عَلْقَمَة: أَنه قَالَ لعبد الله بن مَسْعُود: هَل كَانَ مِنْكُم أحد مَعَ رَسُول الله لَيْلَة الْجِنّ؟ قَالَ: لَا، مَا شهده منا أحد، وسَاق خَبرا ذكره مُسلم فِي كِتَابه.
وَفِي الْبَاب اخْتِلَاف كثير فِي الرِّوَايَات، وَأما مَا ذَكرْنَاهُ هُوَ الْمُخْتَصر مِنْهَا، وَيحْتَمل أَن ابْن مَسْعُود كَانَ مَعَ رَسُول الله لَيْلَة الْجِنّ إِلَّا أَنه لم يكن مَعَه عِنْد خطاب الْجِنّ وَقِرَاءَة الْقُرْآن، عَلَيْهِم، فَإِنَّهُ روى أَنه قَالَ: " خطّ رَسُول الله لي خطا وَقَالَ: لَا تَبْرَح هَذَا الْخط وَانْطَلق فِي الْجَبَل، قَالَ فَسمِعت لَغطا وصوتا عَظِيما، فَأَرَدْت أَن أذهب فِي أَثَره، فَذكرت قَول رَسُول الله: لَا تَبْرَح الْخط فَلم أذهب، فَلَمَّا رَجَعَ ذكرت لَهُ ذَلِك، فَقَالَ لي: لَو خرجت من الْخط لم ترني أبدا ".
قَوْله تَعَالَى: ﴿قل أُوحِي إِلَيّ أَنه اسْتمع نفر من الْجِنّ﴾ قَالَ الْفراء: النَّفر اسْم لما بَين الثَّلَاثَة إِلَى عشرَة.
وَحَكَاهُ ابْن السّكيت أَيْضا عَن ابْن زيد.
يَقُولُونَ: عشرَة نفر، وَلَا يَقُولُونَ: عشرُون نَفرا، وَلَا ثَلَاثُونَ نَفرا.
وَقد روى أَنهم كَانُوا تِسْعَة نفر، وَذكروا أَسْمَاءَهُم، وَقد بَينا.
وروى عَاصِم عَن زر أَنه كَانَ فيهم زَوْبَعَة.
63
﴿فَقَالُوا إِنَّا سمعنَا قُرْآنًا عجبا (١) يهدي إِلَى الرشد فَآمَنا بِهِ وَلنْ نشْرك بربنا أحدا (٢) وَأَنه تَعَالَى جد رَبنَا﴾
وَقَوله تَعَالَى: ﴿فَقَالُوا إِنَّا سمعنَا قُرْآنًا عجبا﴾ أَي: عجبا فِي نظمه وتأليفه وَصِحَّة مَعْنَاهُ، وَلَا يَصح قَوْله: ﴿إِنَّا سمعنَا﴾ إِلَّا بِالْكَسْرِ.
64
قَوْله: ﴿يهدي إِلَى الرشد﴾ أَي: إِلَى الصَّوَاب وَطَرِيق الْحق.
وَقَوله تَعَالَى: ﴿فَآمَنا بِهِ وَلنْ نشْرك بربنا أحدا﴾ أَي: لَا نجْعَل أحدا من خلقه شَرِيكا لَهُ.
قَوْله تَعَالَى ﴿وَأَنه تَعَالَى جد رَبنَا﴾ قرئَ بِالْكَسْرِ وَالْفَتْح، فَمن قَرَأَ بِالْكَسْرِ فَهُوَ أَن الْجِنّ قَالُوا، وَمن قَرَأَ بِالْفَتْح فنصبه على معنى: آمنا وَأَنه تَعَالَى جد رَبنَا، فانتصب بِوُقُوع الْإِيمَان عَلَيْهِ، وَالْقِرَاءَة بِالْكَسْرِ أحسن الْقِرَاءَتَيْن.
وَقَوله تَعَالَى: ﴿جد رَبنَا﴾ أَي: عَظمَة رَبنَا، هَذَا قَول قَتَادَة وَغَيره.
وَالْجد: العظمة، وَهُوَ البخت أَيْضا، وَهُوَ أَب الْأَب.
وَفِي حَدِيث أنس: كَانَ الرجل منا إِذا قَرَأَ الْبَقَرَة وَآل عمرَان جد فِينَا، أَي: عظم [فِينَا].
وَقَوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: " وَلَا ينفع ذَا الْجد مِنْك الْجد " أَي: لَا ينفع ذَا البخت مِنْك بخته إِذا أردْت بِهِ سوءا أَو مَكْرُوها.
وَعَن الْحسن قَالَ: تَعَالَى جد رَبنَا أَي: غَنِي رَبنَا.
وَعَن إِبْرَاهِيم وَالسُّديّ قَالَا: جد رَبنَا أَي: أَمر رَبنَا.
64
﴿مَا اتخذ صَاحِبَة وَلَا ولدا (٣) وَأَنه كَانَ يَقُول سفيهنا على الله شططا (٤) وَأَنا ظننا أَن لن تَقول الْإِنْس وَالْجِنّ على الله كذبا (٥) وَأَنه كَانَ رجال من﴾
وَقَوله تَعَالَى: ﴿مَا اتخذ صَاحِبَة وَلَا ولدا﴾ أَي: زَوْجَة وَولدا.
65
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَأَنه كَانَ يَقُول سفيهنا على الله شططا﴾ فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَن السَّفِيه هُوَ إِبْلِيس عَلَيْهِ اللَّعْنَة، وَهُوَ قَول مُجَاهِد، وَالْآخر: أَنه كل عَاص متمرد من الْجِنّ.
وَقَوله: ﴿شططا﴾ أَي: كذبا.
وَقيل: جورا.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَأَنا ظننا أَن لن تَقول الْإِنْس وَالْجِنّ على الله كذبا﴾ وَقَرَأَ يَعْقُوب: " أَن لن تَقول الْإِنْس وَالْجِنّ " أَي: لن تَقول، مَعْنَاهُ ظَاهر، كَأَنَّهُمْ ظنُّوا أَن كل من قَالَ على الله شَيْئا فَهُوَ كَمَا قَالَ، وَأَنه لَا (يجزى) الْكَذِب على الله.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَأَنه كَانَ رجال من الْإِنْس﴾ فَإِن قَالَ قَائِل: قد قرئَ هَذَا كُله بِالنّصب، فَمَا وَجه النصب فِيهِ؟ وَالْجَوَاب عَنهُ: قد بَينا وَجه النصب فِيمَا سبق، وَبَاقِي الْآيَات نصبت بِحكم الْمُجَاورَة والعطف، أَو بِتَقْدِير آمنا أَو ظننا أَو شَهِدنَا، وَالْعرب قد تتبع الْكَلِمَة الْكَلِمَة فِي الْإِعْرَاب بِنَفس الْمُجَاورَة والعطف مثل قَوْلهم: جُحر ضَب خرب.
وَقَوله ﴿يعوذون بِرِجَال من الْجِنّ﴾ فِي التَّفْسِير: أَن الرجل كَانَ يُسَافر وَالْقَوْم كَانُوا يسافرون، فَإِذا بلغُوا مَكَانا قفرا من الْبَريَّة وأمسوا قَالُوا: نَعُوذ بِسَيِّد هَذَا الْوَادي من سُفَهَاء قومه.
وَحكى عَن بَعضهم - وَهُوَ السَّائِب بن أبي كردم - أَنه قَالَ: انْطَلَقت مَعَ أبي فِي سفر ومعنا قِطْعَة من الْغنم، فنزلنا وَاديا قَالَ: فجَاء ذِئْب وَأخذ حملا من الْغنم، فَقَامَ أبي وَقَالَ: يَا عَامر الْوَادي، نَحن فِي جوارك، فحين قَالَ ذَلِك أرسل الذِّئْب الْحمل، فَرجع الْحمل إِلَى الْغنم فَلم تصبه كدمة.
فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ بِرِجَال من
65
﴿الْإِنْس يعوذون بِرِجَال من الْجِنّ فزادوهم رهقا (٦) وَأَنَّهُمْ ظنُّوا كَمَا ظننتم أَن لن يبْعَث الله أحدا (٧) وَأَنا لمسنا السَّمَاء فَوَجَدْنَاهَا ملئت حرسا شَدِيدا وشهبا الْجِنّ، وَالْجِنّ لَا يسمون رجَالًا؟ وَالْجَوَاب: قُلْنَا يجوز على طَرِيق الْمجَاز، وَقد ورد فِي بعض أَخْبَار الْعَرَب فِي حِكَايَة أَن قوما من الْجِنّ قَالُوا: نَحن أنَاس من الْجِنّ، فَإِذا جَازَ أَن يسموا أُنَاسًا جَازَ أَن يسموا رجَالًا.
وَأما قَوْله: {فزادوهم رهقا﴾
فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: إِلَّا أَن الْإِنْس زادوا الْجِنّ رهقا أَي: عَظمَة فِي أنفسهم، كَأَن الْإِنْس لما استعاذوا بالجن ازدادوا الْجِنّ فِي أنفسهم عَظمَة.
وَالْقَوْل الثَّانِي: هُوَ أَن الْإِنْس ازدادوا رقها بالاستعاذة من الْجِنّ.
وَمَعْنَاهُ: طغيانا وإثما، كَأَن الْإِنْس لما استعاذوا بالجن وأمنوا على أنفسهم ازدادوا كفرا، وظنوا أَن أَمنهم كَانَ من الْجِنّ.
وَقيل: رهقا أَي: غشيانا للمحارم.
وَقيل: مُفَارقَة اللائم.
قَالَ الْأَعْشَى:
66
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَأَنَّهُمْ ظنُّوا كَمَا ظننتم أَن لن يبْعَث الله أحدا﴾ فِي الْآيَة دَلِيل على أَنه كَانَ فِي الْجِنّ قوم لَا يُؤمنُونَ بِالْبَعْثِ كَمَا فِي الْإِنْس.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَأَنا لمسنا السَّمَاء فَوَجَدْنَاهَا ملئت حرسا شَدِيدا وشهبا﴾ أَي: ملئت حرسا بِالْمَلَائِكَةِ.
وَقَوله: ﴿شهبا﴾ جمع شهَاب، وَهُوَ قِطْعَة من النَّار، وَقد ذكرنَا من قبل صُورَة كَيْفيَّة استراق الشَّيَاطِين السّمع من السَّمَاء، وَأَنَّهُمْ كَانُوا يسمعُونَ الْكَلِمَة فيضمون إِلَيْهَا عشرَة ويلقونها إِلَى الكهنة، فَلَمَّا كَانَ فِي زمَان النَّبِي حرست السَّمَاء، وَرمى الشَّيَاطِين بِالشُّهُبِ.
فَإِن قَالَ قَائِل: لم يزل هَذَا الْأَمر معهودا قبل الرَّسُول، وَهُوَ انقضاض الْكَوَاكِب، وَذكره شعراء الْجَاهِلِيَّة فِي أشعارهم، وَقَالَ بَعضهم.
66
( ﴿٨) وَأَنا كُنَّا نقعد مِنْهَا مقاعد للسمع فَمن يستمع الْآن يجد لَهُ شهابا رصدا (٩) وَأَنا لَا نَدْرِي أشر أُرِيد بِمن فِي الأَرْض أم أَرَادَ بهم رَبهم رشدا (١٠) ﴾.
لَا شَيْء يَنْفَعنِي من دون رؤيتها هَل يشتفي عاشق مَا لم يصب رهقا)
(فانقض كالدري يتبعهُ نقع (يثور) تخاله طنبا)
(قَالَه لاقوه إِلَّا وروى).
وَإِذا كَانَ هَذَا أمرا معهودا فِي الْجَاهِلِيَّة فَمَا معنى تَعْلِيقه بنبوة مُحَمَّد، وعندكم أَنه كَانَ معْجزَة لَهُ وأساسا لنبوته؟ وَالْجَوَاب عَنهُ من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَنه لم يكن هَذَا من قبل، وَإِنَّمَا حدث فِي زمَان نبوة الرَّسُول، والأشعار كلهَا منحولة على الْجَاهِلِيَّة، أَو قالوها بعد مولده حِين قرب مبعثه.
وَذكر السّديّ: أَن أول من تنبه للرمي بِالشُّهُبِ هُوَ هَذَا الْحَيّ من ثَقِيف، فخافوا خوفًا شَدِيدا وظنوا أَن الْقِيَامَة قد قربت، فَجعلُوا يعتقون العبيد ويسيبون الْمَوَاشِي، فَقَالَ لَهُم ابْن عبد يَا ليل: لَا تعجلوا، وانظروا إِلَى النُّجُوم الْمَعْرُوفَة هَل هِيَ فِي أماكنها؟ فَقَالُوا: هِيَ فِي أماكنها.
قَالَ: فَإِن هَذَا لأمر هَذَا الرجل الَّذِي خرج بِمَكَّة.
وَالْجَوَاب الثَّانِي - وَهُوَ الْأَصَح - أَن الرَّمْي بِالشُّهُبِ قد كَانَ من قبل، وَلكنه لما كَانَ فِي زمَان الرَّسُول كثر وَقَوي.
قَالَ معمر: قلت لِلزهْرِيِّ: أَكَانَ الرَّمْي بِالشُّهُبِ قبل الرَّسُول فِي الْجَاهِلِيَّة؟ قَالَ: نعم، وَلكنه لما كَانَ زمَان الرَّسُول كثر وَاشْتَدَّ.
67
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَأَنا كُنَّا نقعد مِنْهَا مقاعد للسمع﴾ أَي: مقاعد للاستماع.
وَقَوله: ﴿فَمن يستمع الْآن يجد لَهُ شهابا رصدا﴾ أَي: يجد شهابا أرصد لَهُ [وهيء] ليرمى بِهِ.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَأَنا لَا نَدْرِي أشر أُرِيد بِمن فِي الأَرْض أم أَرَادَ بهم رَبهم رشدا﴾ أَي: أُرِيد بهم الصّلاح فِي ذَلِك أَو الْفساد أَو الْخَيْر أَو الشَّرّ.
67
{وَأَنا منا الصالحون وَمنا دون ذَلِك كُنَّا طرائق قددا (١١) وَأَنا ظننا أَن لن نعجز الله فِي الأَرْض وَلنْ نعجزه هربا (١٢) وَأَنا لما سمعنَا الْهدى آمنا بِهِ فَمن يُؤمن بربه فَلَا يخَاف بخسا وَلَا رهقا (١٣) وَأَنا منا الْمُسلمُونَ وَمنا القاسطون فَمن أسلم فَأُولَئِك تحروا رشدا (١٤).
68
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَأَنا منا الصالحون وَمنا دون ذَلِك﴾ أَي: سوى ذَلِك.
قَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ: فِي الْجِنّ قدرية ومرئجة وروافض وخوراج، وَغير ذَلِك من الْفرق، وَفِيهِمْ العَاصِي والمطيع والمصلح، وَغير ذَلِك من الْمُؤمن وَالْكَافِر.
وَقَوله: ﴿كُنَّا طرائق قددا﴾ أَي: ذَا أهواء مُخْتَلفَة.
وقددا مَعْنَاهُ: مُتَفَرِّقَة.
قَالَ الشَّاعِر:
(الْقَابِض الباسط الْهَادِي بِطَاعَتِهِ فِي فتْنَة النَّاس إِذْ أهواؤهم قدد)
أَي: مُتَفَرِّقَة.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَأَنا ظننا أَن لن نعجز الله فِي الأَرْض﴾ معنى الظَّن هَاهُنَا: الْيَقِين أَي: أيقنا أَن لن نعجزه فِي الأَرْض أَي: لن نفوته، وَلَا يعجز عَنَّا بِأَخْذِهِ إيانا.
وَقَوله: ﴿وَلنْ نعجزه هربا﴾ قد بَينا.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَأَنا لما سمعنَا الْهدى آمنا بِهِ﴾ أَي: بِالْهدى، وَالْهدى هُوَ الْقُرْآن لِأَنَّهُ يهدي النَّاس.
وَقَوله: ﴿فَمن يُؤمن بربه فَلَا يخَاف بخسا وَلَا رهقا﴾ أَي: نُقْصَانا من حَسَنَاته وَلَا زِيَادَة فِي سيئاته.
وَقيل: أَي: ظلما.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَأَنا منا الْمُسلمُونَ وَمنا القاسطون﴾ أَي: الجائرون هم الْكفَّار.
يُقَال: أقسط إِذا عدل، وقسط إِذا جَار.
فَمن أقسط مقسط، وَمن قسط قاسط.
قَالَ الفرزدق:
68
﴿وَأما القاسطون فَكَانُوا لِجَهَنَّم حطبا (١٥) وَأَن لَو استقاموا على الطَّرِيقَة لأسقيناهم مَاء غدقا (١٦) لنفتنهم فِيهِ وَمن يعرض عَن ذكر ربه يسلكه عذَابا﴾.
أَي: جاروا.
وَقَوله: ﴿فَمن أسلم فَأُولَئِك تحروا رشدا﴾ أَي: طلبُوا الرشد (وتوخوا) لَهُ.
والمتحري والمتوخي بِمَعْنى وَاحِد.
69
وَقَوله: ﴿وَأما القاسطون فَكَانُوا لِجَهَنَّم حطبا﴾ أَي: الْكَافِرُونَ، وَهُوَ فِي معنى قَوْله تَعَالَى: ﴿وقودها النَّاس وَالْحِجَارَة﴾.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَأَن لَو استقاموا على الطَّرِيقَة﴾ فِي الطَّرِيقَة قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنَّهَا الْإِيمَان، وَهَذَا قَول مُجَاهِد وَقَتَادَة وَعِكْرِمَة وَجَمَاعَة، وَهُوَ فِي معنى قَوْله تَعَالَى: ﴿وَلَو أَن أهل الْقرى آمنُوا وَاتَّقوا لفتحتنا عَلَيْهِم بَرَكَات من السَّمَاء وَالْأَرْض وَلَكِن كذبُوا﴾.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن الطَّرِيقَة هَاهُنَا طَريقَة الْكفْر والضلالة، وَهَذَا قَول أبي مجلز لَاحق بن حميد من التَّابِعين، وَهُوَ قَول الْفراء وَجَمَاعَة، وَهُوَ فِي معنى قَوْله تَعَالَى ﴿وَلَوْلَا أَن يكون النَّاس أمة وَاحِدَة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضَّة﴾ الْآيَة.
فَجعل تماديهم فِي الْكفْر سَببا لتوسيع النعم عَلَيْهِم، وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: ﴿فَلَمَّا نسوا مَا ذكرُوا بِهِ فتحنا عَلَيْهِم أَبْوَاب كل شَيْء﴾ الْآيَة، وَمَعْنَاهُ: أَبْوَاب كل شَيْء من الْخيرَات وَالنعَم.
قَالُوا: وَالْقَوْل الأول أولى؛ لِأَنَّهُ عرف الطَّرِيقَة بِالْألف وَاللَّام، فَيَنْصَرِف إِلَى الطَّرِيقَة الْمَعْرُوفَة الْمَعْهُودَة شرعا وَهِي الْإِيمَان.
وَقَوله: ﴿لأسقيناهم مَاء غدقا﴾ أَي: كثيرا.
تَقول الْعَرَب: فرس غيداق إِذا كَانَ كثير الجري وَاسِعَة.
وَمَعْنَاهُ: أكثرنا لَهُم المَال وَالنعْمَة؛ لِأَن كَثْرَة المَاء سَبَب لِكَثْرَة المَال.
وَقَوله: ﴿لنفتنهم فِيهِ﴾ أَي: لنبتليهم فِيهِ، ونختبرهم فِيهِ.
69
﴿صعدا (١٧) وَأَن الْمَسَاجِد لله فَلَا تدعوا مَعَ الله أحدا (١٨) ﴾.
وَاسْتدلَّ بِهَذَا من قَالَ: إِن معنى الطَّرِيقَة هُوَ الْكفْر والضلالة؛ لِأَنَّهُ قَالَ: ﴿ولنفتنهم فِيهِ﴾ وَهَذَا لَا يلْزم من قَالَ بالْقَوْل الأول؛ لِأَن كَثْرَة النعم فتْنَة للْمُؤْمِنين والكفرة جَمِيعًا.
وَقَوله: ﴿وَمن يعرض عَن ذكر ربه﴾ أَي: عَن الْإِيمَان بربه ﴿يسلكه عذَابا صعدا﴾ أَي: شاقا.
وَالْعَذَاب الشاق هُوَ النَّار، وَمَعْنَاهُ: يدْخلهُ النَّار.
وَمِنْه قَول عمر رَضِي الله عَنهُ: مَا تَصعَّدَنِي شَيْء مَا تَصَعَّدَتْنِي خطْبَة النِّكَاح.
أَي شقَّتْ.
وَعَن ابْن عَبَّاس: أَن قَوْله: ﴿صعدا﴾ هُوَ جبل فِي جَهَنَّم.
وَقيل: هُوَ صَخْرَة من نَار يُكَلف الصعُود عَلَيْهَا، فَإِذا صعد عَلَيْهَا وَقع فِي الدَّرك الْأَسْفَل.
70
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَأَن الْمَسَاجِد لله فَلَا تدعوا مَعَ الله أحدا﴾ اتّفق الْقُرَّاء على فتح الْألف فِي هَذِه الْآيَة، وَعلة النصب أَن مَعْنَاهُ: وَلِأَن الْمَسَاجِد لله، ثمَّ حذفت اللَّام فانتصب الْألف.
وَقيل: انتصبت لِأَن مَعْنَاهُ: أوحى إِلَيّ أَن الْمَسَاجِد لله. وَسبب نزُول هَذِه الْآيَة أَن الْجِنّ قَالُوا للنَّبِي: نَحن نود أَن نصلي مَعَك، فَكيف نَفْعل وَنحن ناءون عَنْك؟ فَأنْزل الله تَعَالَى قَوْله: ﴿وَأَن الْمَسَاجِد لله﴾ وَمَعْنَاهُ: أَنكُمْ إِن صليتم فمقصودكم حَاصِل من عبَادَة الله تَعَالَى، فَلَا تُشْرِكُوا بِهِ أحدا، وَهُوَ معنى قَوْله: ﴿فَلَا تدعوا مَعَ الله أحدا﴾ وَيُقَال: هُوَ ابْتِدَاء كَلَام.
وَالْمعْنَى: أَن الْيَهُود وَالنَّصَارَى يشركُونَ فِي البيع والصوامع، وَكَذَلِكَ الْمُشْركُونَ فِي عبَادَة الْأَصْنَام، فَأنْتم أَيهَا الْمُؤْمِنُونَ اعلموا أَن الصَّلَوَات وَالسُّجُود والمساجد كلهَا لله، فَلَا تُشْرِكُوا مَعَه أحدا.
وَفِي الْمَسَاجِد أَقْوَال: أَحدهَا: أَنَّهَا بِمَعْنى السُّجُود، وَهِي جمع مَسْجِد.
يُقَال: سجدت سجودا ومسجدا وَالْمعْنَى: أَن السُّجُود لله يَعْنِي: هُوَ الْمُسْتَحق للسُّجُود.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن الْمَسَاجِد هِيَ الْمَوَاضِع المبنية للصَّلَاة المهيأة لَهَا، وَهِي جمع مَسْجِد، وَمعنى قَوْله: ﴿لله﴾ نفي الْملك عَنْهَا، أَو مَعْنَاهُ: الْأَمر بإخلاص الْعِبَادَة فِيهَا لله.
وَالْقَوْل الثَّالِث: أَن الْمَسَاجِد هِيَ الْأَعْضَاء الَّتِي يسْجد عَلَيْهَا الْإِنْسَان من جَبهته وَيَديه وركبتيه وقدميه، وَالْمعْنَى: أَنه لَا يَنْبَغِي أَن يسْجد على هَذِه الْأَعْضَاء إِلَّا لله.
70
﴿وَأَنه لما قَامَ عبد الله يَدعُوهُ كَادُوا يكونُونَ عَلَيْهِ لبدا (١٩) قل إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أشرك بِهِ أحدا (٢٠) ﴾.
وَقد روى ابْن عَبَّاس عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " أمرت أَن أَسجد على سَبْعَة أعظم، وَألا أكف ثوبا وَلَا شعرًا ".
71
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَأَنه لما قَامَ عبد الله﴾ فَمن قَرَأَ بِالْكَسْرِ ينْصَرف إِلَى قَول الْجِنّ، وَمَعْنَاهُ: قَالَ الْجِنّ: ﴿وَإنَّهُ﴾ وَقيل: ينْصَرف إِلَى قَول الله أَي: قَالَ الله تَعَالَى: وَإنَّهُ لما قَامَ عبد الله وَمن قَرَأَ بِالْفَتْح مَعْنَاهُ: أوحى إِلَيّ أَنه لما قَامَ عبد الله.
فعلى القَوْل الأول قَوْله: ﴿كَادُوا يكونُونَ عَلَيْهِ لبدا﴾ ينْصَرف إِلَى أَصْحَاب النَّبِي وَعبد الله هُوَ الرَّسُول، وَالْمعْنَى: أَن الْجِنّ لما رأو النَّبِي وَأَصْحَابه خَلفه وشاهدوا طواعيتهم لَهُ قَالُوا: كَادُوا يكونُونَ عَلَيْهِ لبدا أَي: يركب بَعضهم بَعْضًا من الطواعية.
وعَلى القَوْل الثَّانِي الْمَعْنى: هُوَ أَن الله تَعَالَى حكى عَن الْجِنّ أَن الرَّسُول لما قَرَأَ الْقُرْآن عَلَيْهِم - يَعْنِي: على الْجِنّ - كَادُوا يكونُونَ عَلَيْهِ لبدا أَي: على الرَّسُول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام - أَي: يركب بَعضهم بَعْضًا لحب الإصغاء إِلَى قِرَاءَته وَالِاسْتِمَاع إِلَيْهَا.
وَيُقَال: إِن الرَّسُول كَانَ صلى بهم وازدحموا عَلَيْهِ، وَكَاد يركب بَعضهم بَعْضًا.
وَفِي بعض التفاسير: كَادُوا يسقطون عَلَيْهِ.
وَأما على قِرَاءَة الْفَتْح قَوْله: ﴿كَادُوا يكونُونَ عَلَيْهِ لبدا﴾ ينْصَرف إِلَى الْجِنّ أَيْضا، و (هُوَ) أظهر الْقَوْلَيْنِ أَن الِانْصِرَاف إِلَى الْجِنّ.
وَمن اللبد قَالُوا: تلبد الْقَوْم إِذا اجْتَمعُوا، وَمِنْه اللبد، لِأَن بعضه على بعض.
وَقيل: كَادُوا يكونُونَ عَلَيْهِ لبدا أَي: تلبدت الْجِنّ وَالْإِنْس واجتمعوا على أَن يطفئوا نور الله لما قَامَ الرَّسُول يَدعُوهُ أَي: يَدْعُو الله، وَقُرِئَ: " لبدا " أَي: كثيرا.
واللبد أَيْضا اسْم آخر نسر من نسور (نعْمَان) بن عَاد، وَكَانَ عَاشَ سَبْعمِائة سنة.
وَقيل فِي الْمثل: طَال لبد على أمد.
قَوْله تَعَالَى: ﴿قل إِنَّمَا أدعوا رَبِّي﴾ وَقُرِئَ: " قَالَ إِنَّمَا أدعوا رَبِّي " فِي التَّفْسِير: أَن
71
﴿قل إِنِّي لَا أملك لكم ضرا وَلَا رشدا (٢١) قل إِنِّي لن يجيرني من الله أحد وَلنْ أجد من دونه ملتحدا (٢٢) إِلَّا بلاغا من الله ورسالاته وَمن يعْص الله وَرَسُوله﴾ النَّضر بن الْحَارِث قَالَ للنَّبِي: إِنَّك جِئْت بِأَمْر عَظِيم، وخالفت دين آبَائِك، وَأَن الْعَرَب لَا يوافقونك على هَذَا، فَارْجِع إِلَى دين آبَائِك فَأنْزل الله تَعَالَى قَوْله: ﴿قل إِنَّمَا أدعوا رَبِّي﴾ أَي: أوحد رَبِّي ﴿وَلَا أشرك بِهِ أحدا﴾ أَي: مَعَه أحدا.
وَيُقَال: إِن هَذَا قَالَه مَعَ الْجِنّ، وَهُوَ نسق على مَا تقدم.
72
قَوْله تَعَالَى: ﴿قل إِنِّي لَا أملك لكم ضرا وَلَا رشدا﴾ يَعْنِي: لَا أملك ذَلِك بنفسي، وَإِنَّمَا هُوَ من الله تَعَالَى وبعونه وتوفيقه).
قَوْله تَعَالَى: ﴿قل إِنِّي لن يجيرني من الله أحد﴾ روى أَن النَّضر بن الْحَارِث قَالَ لَهُ: ارْجع إِلَى دين آبَائِك وَلَا تخف من أحد، فَإنَّا نجيرك ونمنعك، فَأنْزل الله تَعَالَى: ﴿قل إِنِّي لن يجيرني من الله أحد﴾ أَي: لن ينصرني ويمنعني من عَذَاب الله أحد.
وَيُقَال: إِنَّه خطاب الْجِنّ نسقا على مَا تقدم.
وروى أَبُو الجوزاء عَن ابْن عَبَّاس: أَن ابْن مَسْعُود خرج مَعَ النَّبِي لَيْلَة الْجِنّ، فازدحم الْجِنّ على النَّبِي وتعاووا عَلَيْهِ، فَقَالَ وَاحِد مِنْهُم يُقَال لَهُ وردان: يَا مُحَمَّد، لَا تخف فَأَنا أجيرك مِنْهُم، فَأنْزل الله تَعَالَى: ﴿قل إِنِّي لن يجيرني من الله أحد﴾.
وَقَوله: ﴿وَلنْ أجد من دونه ملتحدا﴾ أَي: ملْجأ.
وَقيل: مهربا.
وَيُقَال: متعرجا.
وَقَوله: ﴿إِلَّا بلاغا من الله﴾ أَي: لَا أملك شَيْئا من الضّر والرشد إِلَّا أَن أبلغ رِسَالَة رَبِّي أَي: لَيْسَ بيَدي إِلَّا هَذَا وَهَذَا التَّبْلِيغ.
وَقد قيل: ضرا وَلَا رشدا أَي: لَا أدفَع عَنْكُم ضرا، وَلَا أسوق إِلَيْكُم خيرا، وَلَيْسَ بيَدي إِلَّا أَن أبلغ رِسَالَة رَبِّي.
وَقَوله: ﴿وَمن يعْص الله وَرَسُوله فَإِن لَهُ نَار جَهَنَّم خَالِدين فِيهَا أبدا﴾ أَي: دَائِما.
قَوْله تَعَالَى: ﴿حَتَّى إِذا رَأَوْا مَا يوعدون﴾ أَي: الْقِيَامَة، قَالَه سعيد بن جُبَير وَغَيره.
وَقيل: الْعَذَاب فِي الدُّنْيَا، قَالَه قَتَادَة وَغَيره.
72
﴿فَإِن لَهُ نَار جَهَنَّم خَالِدين فِيهَا أبدا (٢٣) حَتَّى إِذا رَأَوْا مَا يوعدون فسيعلمون من أَضْعَف ناصرا وَأَقل عددا (٢٤) قل إِن أَدْرِي أَقَرِيب مَا توعدون أم يَجْعَل لَهُ رَبِّي أمدا (٢٥) عَالم الْغَيْب فَلَا يظْهر على غيبه أحدا (٢٦) إِلَّا من ارتضى من رَسُول فَإِنَّهُ يسْلك من بَين يَدَيْهِ﴾
وَقَوله: ﴿فسيعلمون من أَضْعَف ناصرا وَأَقل عددا﴾ أَي: وَأَقل جندا وأعوانا.
وَيُقَال: معنى قَوْله: ﴿وَأَقل عددا﴾ أَي: فِي الْقِيَامَة.
وَفِي التَّفْسِير: أَن الله تَعَالَى يُعْطي الْمُؤمنِينَ من الْأزْوَاج والولدان والحور والقهارمة (و) وَمَا يكثر عَددهمْ ويزيدوا على أهل بَلْدَة كَثِيرَة من بِلَاد الدُّنْيَا، فَهُوَ معنى قَوْله: ﴿فسيعلمون من أَضْعَف ناصرا وَأَقل عددا﴾ فَإِن الْمُشْركين كَانُوا يعيرون النَّبِي وَالْمُؤمنِينَ بقلة النَّاصِر وَقلة الْعدَد، فَقَالَ: ﴿فسيعلمون من أَضْعَف ناصرا وَأَقل عددا﴾ أَي: فِي الْقِيَامَة، وَإِذا وصل كل أحد إِلَى مستقره.
73
قَوْله تَعَالَى ﴿قل إِن أَدْرِي أَقَرِيب مَا توعدون أم يَجْعَل لَهُ رَبِّي أمدا﴾ أَي: مُدَّة وَغَايَة، وَالْمعْنَى: لَا أَدْرِي أَنه يعجل لكم الْعَذَاب أَو يُؤَخِّرهُ، ويعجل لكم مُدَّة ومهلة.
وَقد روى أَن الْمُشْركين كَانُوا يستعجلونه الْعَذَاب، وَيَقُولُونَ: إِلَى مَتى توعدنا الْعَذَاب؟ فَأَيْنَ الْعَذَاب؟ فَأمره الله تَعَالَى أَن يكل ذَلِك إِلَى الله تَعَالَى، وَأَن يَقُول: إِنَّه بيد الله لَا بيَدي.
قَوْله تَعَالَى: ﴿عَالم الْغَيْب فَلَا يظْهر على غيبه أحدا﴾ أَي: هُوَ عَالم الْغَيْب فَلَا يظْهر على غيبه أحدا
﴿إِلَّا من ارتضى من رَسُول﴾ فَإِنَّهُ يطلعه على غيبه بِمَا ينزله عَلَيْهِ من الْآيَات والبينات.
وَقَوله: ﴿فَإِنَّهُ يسْلك من بَين يَدَيْهِ﴾ أَي: يَجْعَل من بَين يَدَيْهِ ﴿وَمن خَلفه رصدا﴾ أَي: حفظَة.
وروى سُفْيَان عَن مَنْصُور عَن إِبْرَاهِيم قَالَ: مَلَائِكَة يحرسونه.
وَفِي التَّفْسِير: أَن الله تَعَالَى مَا بعث وَحيا من السَّمَاء إِلَّا وَمَعَهُ مَلَائِكَة يحرسونه.
فَإِن قَالَ قَائِل: وَمن مَاذَا يَحْفَظُونَهُ ويحرسونه؟ وَالْجَوَاب: أَن الْحِفْظ والحراسة لخطر شَأْن
73
﴿من خَلفه رصدا (٢٧) ليعلم أَن قد أبلغوا رسالات رَبهم وأحاط بِمَا لديهم وأحصى كل شَيْء عددا (٢٨) ﴾. الْوَحْي ولتعظيمه فِي النُّفُوس، لَا بِحكم الْحَاجة إِلَى الحراسة والحفظة.
يُقَال: إِن الْحِفْظ والحراسة من المسترقين للسمع، لِئَلَّا يسرقوا شَيْئا من ذَلِك ويلقوه إِلَى الكهنة.
وَقد ورد فِي الْأَخْبَار: " أَن الله تَعَالَى لما أنزل سُورَة الْأَنْعَام بعث مَعهَا سبعين ألف ملك يحرسونها ".
وَفِي الْآيَة دَلِيل على أَن من قَالَ بالنجوم شَيْئا وَادّعى علما من الْغَيْب بجهتها فَهُوَ كَافِر بِالْقُرْآنِ.
وَقد قَالَ بَعضهم: الطّرق والجبت والكهان كلهم مضللون وَدون الْغَيْب أشاروا.
وَقد ورد فِي الْأَخْبَار: " أَن النَّبِي نهى عَن النّظر فِي النُّجُوم ".
وَالْمعْنَى هُوَ النّظر فِيهَا لِلْقَوْلِ بِالْغَيْبِ عَنْهَا، فَأَما النّظر فِيهَا للاهتداء أَو للاعتبار أَو لمعْرِفَة الْقبْلَة وَمَا أشبه ذَلِك مُطلق جَائِز.
74
وَقَوله تَعَالَى: ﴿ليعلم أَن قد أبلغوا رسالات رَبهم﴾ وَقُرِئَ: " رِسَالَة رَبهم " وَهِي وَاحِد الرسالات.
وَاخْتلف القَوْل فِي قَوْله تَعَالَى: ﴿ليعلم﴾ فأحد الْأَقْوَال هُوَ أَن مَعْنَاهُ: ليعلم مُحَمَّد أَن الرُّسُل الَّذين كَانُوا قبله قد أبلغوا رسالات رَبهم على مَا أنزل إِلَيْهِم.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَنه منصرف إِلَى الْجِنّ.
وَقُرِئَ: " ليعلم الْجِنّ أَن قد أبلغ الرُّسُل رسالات رَبهم على مَا أنزل إِلَيْهِم ".
وَالْقَوْل الثَّالِث: ليعلم الْمُؤْمِنُونَ.
وَالْقَوْل الرَّابِع: ليعلم الله، أوردهُ الزّجاج وَغَيره.
فَإِن قَالَ قَائِل: مَا معنى قَوْله: ليعلم الله، وَهُوَ عَالم
74
بالأشياء قبل كَونهَا ووجودها؟ وَالْجَوَاب: أَنا قد بَينا الْجَواب فِيمَا سبق فِي مَوَاضِع كَثِيرَة.
وَقد قيل: ليعلم الله تَعَالَى أَن قد أبلغ الرُّسُل رسالات رَبهم شَهَادَة ووجودا، وَقد كَانَ يعلم ذَلِك غيبا.
وَقَوله: ﴿وأحاط بِمَا لديهم﴾ أَي: أحَاط علمه بِمَا عِنْدهم.
وَقَوله: ﴿وأحصى كل شَيْء عددا﴾ أَي: وأحصى كل شَيْء معدودا.
وَيُقَال: عد كل شَيْء عددا، وَهَذَا على معنى أَنه لَا يخفى على الله شَيْء كثير أَو قَلِيل، جليل أَو دَقِيق.
وَالله أعلم.
75

بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم

﴿يَا أَيهَا المزمل (١) قُم اللَّيْل إِلَّا قَلِيلا (٢) ﴾.
تَفْسِير سُورَة المزمل
وَهِي مَكِّيَّة.
وَعند بَعضهم هِيَ مَكِّيَّة إِلَّا قَوْله تَعَالَى: ﴿إِن رَبك يعلم أَنَّك تقوم أدنى من ثُلثي اللَّيْل﴾ إِلَى آخر السُّورَة.
76
سورة الجن
معلومات السورة
الكتب
الفتاوى
الأقوال
التفسيرات

سورة (الجِنِّ) من السُّوَر المكية، نزلت بعد سورة (الأعراف)، وقد جاءت على ذِكْرِ شرفِ النبي صلى الله عليه وسلم، وتحقُّقِ الكرامة له بعد أن رفَضه أهلُ الأرض وآذَوْهُ، فليَّنَ اللهُ له قلوبَ عالَم الجِنِّ؛ فاستمَعوا لهذا القرآن، وآمنوا به، وبرسالة مُحمَّد صلى الله عليه وسلم؛ لِما لهذا القرآن من عظمة وهداية وبيان واضح، والإنس أدعى أن يؤمنوا بهذا الكتابِ العظيم.

ترتيبها المصحفي
72
نوعها
مكية
ألفاظها
285
ترتيب نزولها
40
العد المدني الأول
28
العد المدني الأخير
28
العد البصري
28
العد الكوفي
28
العد الشامي
28

قوله تعالى: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اْسْتَمَعَ نَفَرٞ مِّنَ اْلْجِنِّ} [الجن: 1]:

عن عبدِ اللهِ بن عباسٍ رضي الله عنهما، قال: «انطلَقَ النبيُّ ﷺ في طائفةٍ مِن أصحابِه عامِدِينَ إلى سُوقِ عُكَاظَ، وقد حِيلَ بَيْنَ الشياطينِ وبَيْنَ خَبَرِ السماءِ، وأُرسِلتْ عليهم الشُّهُبُ، فرجَعتِ الشياطينُ إلى قومِهم، فقالوا: ما لكم؟ فقالوا: حِيلَ بَيْننا وبَيْنَ خَبَرِ السماءِ، وأُرسِلتْ علينا الشُّهُبُ، قالوا: ما حالَ بَيْنَكم وبَيْنَ خَبَرِ السماءِ إلا شيءٌ حدَثَ، فاضرِبوا مشارقَ الأرضِ ومغاربَها، فانظُروا ما هذا الذي حالَ بَيْنَكم وبَيْنَ خَبَرِ السماءِ، فانصرَفَ أولئك الذين توجَّهوا نحوَ تِهامةَ إلى النبيِّ ﷺ، وهو بنَخْلةَ، عامِدِينَ إلى سُوقِ عُكَاظَ، وهو يُصلِّي بأصحابِه صلاةَ الفجرِ، فلمَّا سَمِعوا القرآنَ استمَعوا له، فقالوا: هذا واللهِ الذي حالَ بَيْنَكم وبَيْنَ خَبَرِ السماءِ، فهنالك حينَ رجَعوا إلى قومِهم، وقالوا: يا قومَنا: {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْءَانًا عَجَبٗا ١ يَهْدِيٓ إِلَى اْلرُّشْدِ فَـَٔامَنَّا بِهِۦۖ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَآ أَحَدٗا} [الجن: 1-2]؛ فأنزَلَ اللهُ على نبيِّه ﷺ: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اْسْتَمَعَ نَفَرٞ مِّنَ اْلْجِنِّ} [الجن: 1]، وإنَّما أُوحِيَ إليه قولُ الجِنِّ». أخرجه البخاري (٧٧٣).

* سورة (الجِنِّ):

سُمِّيت سورة (الجِنِّ) بهذا الاسم؛ لاشتمالها على أحوالهم وأقوالهم، وعلاقتهم بالإنس.

* سورة {قُلْ أُوحِيَ}:

سُمِّيت بذلك؛ لافتتاحها بهذا اللفظِ.

1. الافتتاحية (١-٢).

2. الجِنُّ ورحلة الإيمان (٣-١٥).

3. من صفاتِ الرَّكْبِ، والداعي إليه (١٦-٢٥).

4. الخاتمة (٢٦-٢٨).

ينظر: "التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (8 /397).

يقول البِقاعيُّ: «مقصودها: إظهارُ شرفِ هذا النبي صلى الله عليه وسلم؛ حيث لُيِّنَ له قلوبُ الجِنِّ والإنس وغيرِهم، فصار مالكًا لقلوب المُجانِس وغيره؛ وذلك لعظمة هذا القرآنِ، ولُطْفِ ما له من عظيم الشأن.
هذا، والزمانُ في آخره، وزمان لُبْثِه في قومه دون العُشْرِ من زمن قوم نوح عليهما السلام، أولِ نبيٍّ بعثه اللهُ إلى المخالفين، وما آمن معه من قومه إلا قليلٌ.
وعلى ذلك دلَّت تسميتُها بـ(الجِنِّ)، وبـ {قُلْ أُوحِيَ}». "مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور" للبقاعي (3 /127).

(قومِي هم قتلوا ابْن هِنْد عنْوَة عمرا وهم قسطوا على النُّعْمَان)