وهي مدنية حروفها ٤٤٢٤ كلماتها ٤٨٥ آياتها مائتان
ﰡ
(حروفها ٤٤٢٤ كلماتها ٤٨٥ آياتها مائتان)
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١ الى ١١]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الم (١) اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (٢) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (٣) مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ (٤)إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (٥) هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٦) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ (٧) رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (٨) رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (٩)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (١٠) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (١١)
القراآت:
الم اللَّهُ مقطوعة الألف والميم ساكنة: يزيد والمفضل والأعشى والبرجمي الباقون موصولا بفتح الميم. التَّوْراةَ ممالة حيث كان: أبو عمرو وحمزة وعلي وخلف والنجاري عن ورش، والخزاز عن هبيرة، وابن ذكوان غير ابن مجاهد كَدَأْبِ حيث كان بغير همزة: أبو عمرو وغيره شجاع ويزيد والأعشى والأصفهاني عن ورش والخزاز عن هبيرة وحمزة عن الوقف.
الوقوف:
الم ج كوفي مختلف فإن غير الأعشى والبرجمي ويزيد والمفضل يصلون.
إِلَّا هُوَ ج الْقَيُّومُ ط وَالْإِنْجِيلَ ط الْفُرْقانَ ط شَدِيدٌ ط انْتِقامٍ هـ، فِي السَّماءِ ط كَيْفَ يَشاءُ ط الْحَكِيمُ هـ، مُتَشابِهاتٌ ط لاستئناف تفصيل وَابْتِغاءَ
ج لأن الواو تصلح استئنافا والحال أليق إِلَّا اللَّهُ م عند أهل السنة لأنه لو وصل فهم أن الراسخين يعلمون تأويل المتشابه كما يعلم الله، ومن لم يحترز عن هذا وجعل المتشابه غير صفة الله ذاتا وفعلا من الأحكام التي يدخلها القياس والتأويل وجعل المحكمات الأصول النصوص الجمع عليها فعطف قوله وَالرَّاسِخُونَ على اسم الله وجعل يَقُولُونَ حالا لهم ساغ له أن لا يقف على إِلَّا اللَّهُ. آمَنَّا بِهِ (لا) لأن قوله كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا من مقولهم فإن التسليم من تمام الإيمان. مِنْ عِنْدِ رَبِّنا ج لاحتمال أن ما بعده مقولهم الْأَلْبابِ هـ، رَحْمَةً ج للابتداء بأن ولاحتمال لام التعليل أو فاء التعقيب للتسبيب الْوَهَّابُ هـ، فِيهِ ط الْمِيعادَ هـ، شَيْئاً ط النَّارِ (لا) لتعلق كاف التشبيه فِرْعَوْنَ (لا) للعطف، مِنْ قَبْلِهِمْ ط، بِآياتِنا ج للعدول مع فاء التعقيب بِذُنُوبِهِمْ ط الْعِقابِ هـ.
التفسير:
أما قراءة عاصم فلها وجهان: الأول نية الوقف ثم إظهار الهمزة لأجل الابتداء. الثاني أن يكون ذلك على لغة من يقطع ألف الوصل. وأما من فتح الميم ففيه قولان: أحدهما قول الفراء واختيار كثير من البصريين وصاحب الكشاف أن أسماء الحروف موقوفة الأواخر تقول: ألف، لام، ميم كما تقول: واحد، اثنان، ثلاثة، وعلى هذا وجب الابتداء بقوله اللَّهُ فإذا ابتدأنا به تثبت الهمزة متحركة إلا أنهم أسقطوا الهمزة للتخفيف وألقيت حركتها على الميم لتدل حركتها على أنها في حكم المبقاة بسبب كون هذه اللفظة مبتدأ بها، فكأن الهمزة ساقطة بصورتها باقية بمعناها. وثانيهما قول سيبويه وهو أنه لما وصل اللَّهُ ب الم التقى ساكنان بل سواكن ضرورة سقوط الهمزة في الدرج، فوجب تحريك الأول أعني الوسطاني منها وهو الميم وكان الأصل هو الكسر إلا أنهم فتحوا الميم محافظة على التفخيم. فافتحة على هذا القول ليست هي المنقولة من همزة الوصل فلا يرد عليه ما يرد على القول الأول من أن الهمزة حيث لا وجود لها في الوصل أصلا فكيف تنقل حركتها.
قال الواحدي: نقل المفسرون أنه قدم على رسول الله ﷺ وفد نجران ستون راكبا فبهم أربعة عشر رجلا من أشرافهم وثلاثة منهم كانوا أكابر القوم، أحدهم أميرهم واسمه عبد المسيح والثاني مشيرهم ووزيرهم، وكانوا يقولون له السيد واسمه الأيهم، والثالث حبرهم وأسقفهم وصاحب مدارسهم يقال له أبو حارثة بن علقمة أحد بني بكر بن وائل. وكان ملوك الروم شرفوه وموّلوه فأكرموه لما بلغهم عنه من علمه واجتهاده في دينهم، فلما قدموا من نجران ركب أبو حارثة بغلته وكان إلى جنبه أخوه كرز بن علقمة فبينما بغلة أبي حارثة تسير إذ عثرت فقال كرز أخوه: تعس الأبعد يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال أبو حارثة: بل تعست
أسلموا. فقالوا: قد أسلمنا قبلك. فقال صلى الله عليه وسلم: كذبتم. كيف يصح إسلامكم وأنتم تثبتون لله ولدا، وتعبدون الصليب وتأكلون الخنزير؟ قالوا: فمن أبوه؟ فسكت رسول الله ﷺ فأنزل الله تعالى في ذلك أول سورة آل عمران إلى بضع وثمانين آية منها آية المباهلة. ثم أخذ رسول الله ﷺ يناظر معهم فقال: ألستم تعلمون أنه لا يكون ولد إلا ويشبه أباه؟ قالوا: بلى.
قال: ألستم تعلمون أنه حي لا يموت وأن عيسى يأتي عليه الفناء؟ قالوا: بلى. قال: ألستم تعلمون أن ربنا قيم على كل شيء يكلؤه ويحفظه ويرزقه؟ فهل يملك عيسى شيئا من ذلك؟
قالوا: لا. قال: ألستم تعلمون أن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، فهل يعلم عيسى شيئا من ذلك إلا ما علم؟ قالوا: لا. قال: فإن ربنا صوّر عيسى في الرحم كيف شاء، فهل تعلمون ذلك؟ قالوا: بلى قال: ألستم تعلمون أن ربنا لا يأكل الطعام ولا يشرب الشراب ولا يحدث الحدث، وتعلمون أن عيسى حملته أمه كما تحمل المرأة ووضعته كما تضع المرأة وغذي كما يغذى الصبي، ثم كان يطعم الطعام ويشرب الشراب ويحدث الحدث؟ قالوا: بلى. فقال صلى الله عليه وسلم: فكيف يكون هو كما زعمتم؟ فعرفوا ثم أبوا إلا حجودا ثم قالوا: يا محمد، ألست تزعم أنه كلمة الله وروح منه؟ قال: بلى، قالوا: فحسبنا. ففي ذلك نزل فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ الآية.
وتمام القصة سيجيء في آية المباهلة إن شاء الله تعالى.
واعلم أن مطلع هذه السورة له نظم عجيب ونسق أنيق. وذلك أن أولئك النصارى كأنه قيل لهم: إما أن تنازعوه في شأن الإله أو في أمر النبوة. أما الأول فالحق فيه معه لأنه تعالى حيّ قيوم كما مر في تفسير آية الكرسي، وأن عيسى ليس كذلك لأنه ولد وكان يأكل ويشرب
ثم إن المعجز قائم في كون القرآن نازلا من عند الله كما قام في الكتابين. وإذا كان الطريق مشتركا فالواجب تصديق الكل كالمسلمين. أما قبول البعض ورد البعض فجهل وتقليد، وإذا لم يبق بعد ذلك عذر لمن ينازعه في دينه فلا جرم ختم بالتهديد والوعيد فقال إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وإنما خص القرآن بالتنزيل والكتابين بالإنزال لأنه نزل منجما، فكان معنى التكثير حاصلا فيه، وأنهما نزلا جملة. وأما قوله الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ [الكهف: ١] فالمراد هناك نزوله مطلقا من غير اعتبار التنجيم.
قال أبو مسلم: قوله بِالْحَقِّ أنه صدق فيما تضمنه من الأخبار عن الأمم، أو أن ما فيه من الوعد والوعيد يحمل المكلف على ملازمة الطريق الحق في العقائد والأعمال ويمنعه عن سلوك الطريق الباطل، وأنه قول فصل وليس بالهزل. وقال الأصم: أي بالحق الذي يجب له على خلقه من العبودية، ولبعضهم على بعض من سلوك سبيل العدالة والإنصاف في المعاملات. وقيل: مصونا من المعاني الفاسدة المتناقضة كقوله وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً قَيِّماً [الكهف: ١، ٢] لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً [النساء: ٨٢] وفي قوله مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ إنه لو كان من عند غير الله لم يكن موافقا لسائر الكتب المتقدمة، لأن من هو على مثل حاله من كونه أميا لم يخالط أهل الدرس والقراءة إن كان مفتريا استحال أن يسلم من التحريف والجزاف. وفيه أنه تعالى لم يبعث نبيا قط إلا بالدعاء إلى توحيده وتنزيهه عما لا يليق به، والأمر بالعدل والإحسان وبالشرائع التي هي صلاح كل زمان. فإن قيل: كيف سمي ما مضى بأنه بين يديه؟ فالجواب أن هذا اللفظ صار مطلقا في معنى التقدم، أو لغاية ظهور تلك الأخبار جعلها كالحاضر عنده. فإن قلت: كيف يكون مصدقا لما تقدمه من الكتب مع أنه ناسخ لأحكامها أكثرها؟ قلنا: إذا كانت الكتب مبشرة بالقرآن وبالرسول ودالة على أن أحكامها تثبت إلى حين بعثته ثم تصير منسوخة عند نزول القرآن، كانت موافقة للقرآن، وكان القرآن مصدقا لها. فأما فيما عدا الأحكام فلا شبهة في أن القرآن مصدق لها لأن المباحث الإلهية والقصص والمواعظ لا تختلف. والتوراة والإنجيل اسمان أعجميان أحدهما بالعبرية والآخر بالسريانية. فالاشتغال باشتقاقهما لا يفيد إلا أن بعض الأدباء قد تكلف ذلك فقال الفراء: التوراة معناها الضياء والنور من ورى الزند يرى إذا قدح وظهرت
الى الملك القرم وابن الهمام | وليث الكتيبة في المزدحم |
قوله سبحانه إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ لما ذكر أنه حيّ قيوم والقيوم هو القائم بإصلاح مصالح الخلق، وكونه كذلك يتوقف على مجموع أمرين: أن يكون عالما بكميات
والثاني لا يتأتى إلا إذا كان قادرا على جميع الممكنات فأشار إليه بقوله هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ ثم فيه لطيفة أخرى وهي أنه لما ادعى كمال عمله بقوله إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ والطريق إلى إثبات كونه تعالى عالما لا يجوز أن يكون هو السمع، لأن معرفة صحة السمع موقوفة على العلم بكونه تعالى عالما بجميع المعلومات، بل الطريق إلى ذلك ليس إلا الدليل العقلي فلا جرم قال هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي ظلمات الْأَرْحامِ بهذه البنية العجيبة والتركيب الغريب من أعضاء مختلفة في الشكل والطبع والصفة، بعضها عظام، وبعضها أوردة، وبعضها شرايين، وبعضها عضلات. ثم إنه ضم بعضها إلى بعض على التركيب الأحسن والتأليف الأكمل، وذلك يدل على كمال علمه لأن التركيب المحكم المتقن لا يصدر إلا عن العالم بتفاصيله.
ثم إنه تعالى لما كان قيوما بمصالح الخلق ومصالحهم قسمان: جسمانية وأشرفها تعديل المزاج وأشار إليها بقوله هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ وروحانية وأشرفها العلم فلا جرم أشار إلى ذلك بقوله هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ. ويحتمل أن تنزل هذه الآيات على سبب نزولها. وذلك أن النصارى ادعوا إلهية عيسى وعولوا في ذلك على نوعين من الشبهة:
أحدهما يتعلق بالعلم وهو أن عيسى عليه السلام كان يخبر عن الغيوب وذلك قوله تعالى:
وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ [آل عمران: ٤٩] والثاني يتعلق بالقدرة كإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص وليس للنصارى شبهة غير هاتين. فأزال شبهتهم الأولى بقوله إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فمن المعلوم بالضرورة من أحوال عيسى أنه ما كان عالما بجميع المعلومات. فعدم إحاطته بجميع الأشياء فيه دلالة قاطعة على أنه ليس بإله، ولكن إحاطته ببعض المغيبات لا تدل على كونه إلها لاحتمال أنه علم ذلك بالوحي أو الإلهام. وأزال شبهتهم الثانية بقوله هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ وذلك أن الإله هو الذي يقدر على أن يصور في الأرحام من قطرة صغيرة من النطفة هذا التركيب العجيب والتأليف الغريب، ومعلوم أن عيسى لم يكن قادرا على الإحياء والإماتة بهذا الوجه. كيف ولو قدر على ذلك لأمات أولئك الذين أخذوه على زعم النصارى وقتلوه. فإماتة بعض الأشخاص أو إحياؤه لا يدل على الإلهية لجواز كونه بإظهار الله تعالى المعجزة على يده، والعجز عن إماتة البعض أو إحيائه يدل على عدم الإلهية قطعا، وأما الإحياء والإماتة لجميع الحيوانات فيدل على الإلهية قطعا. ثم إنّهم عدلوا عن المقدمات المشاهدية إلى مقدمات إلزامية وهو أنكم أيها المسلمون توافقوننا على أنه ما كان له أب من البشر فيكون ابنا لله. والجواب عنه بقوله
ولنذكر هاهنا مسائل: الأولى: القرآن دل على أنه بكليته محكم وذلك قوله:
الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ [هود: ١] الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ [يوسف: ١] والمراد كون كله كلاما ملحقا فصيح الألفاظ صحيح المعاني، وأنه بحيث لا يتمكن أحد من الإتيان بمثله لوثاقة مبانيه وبلاغة معانيه. ودل على أنه بتمامه متشابه كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ [الزمر:
٢٣] والمراد أنه يشبه بعضه بعضا في الحسن والإعجاز والبراءة من التناقص والتناقض. ثم إن هذه الآية هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ دلت على أن بعض القرآن محكم وبعضه متشابه. فيعني هاهنا بالمحكم ما هو المشترك بين النص والظاهر، وبالمتشابه القدر المشترك بين المجمل والمؤول كما تقرر في المقدمة التاسعة من مقدّمات هذا الكتاب. والإحكام في اللغة المنع وكذا سائر تراكيبه.
وفي حديث النخعي «حكم اليتيم كما تحكم ولدك»
أي امنعه من الفساد. وسميت الحكمة حكمة لأنها تمنع عما لا ينبغي وأما التشابه فهو كون الشيئين بحيث يعجز الذهن عن التمييز بينهما. ثم يقال لكل ما لا يهتدي الإنسان إليه متشابه إطلاقا لاسم السبب على المسبب، ونظيره المشكل لأنه أشكل أي دخل في شكل غيره، ثم إن كل أحد من أصحاب المذاهب يدعي أن الآيات الموافقة لمذهبه محكمة، ولقول خصمه متشابهة. فالمعتزلي يقول: فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ [الكهف: ٢٩] محكم وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ [التكوير: ٢٩] متشابه.
والسني يقلب الأمر في ذلك. وكذا المعتزلي يقول: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ [الأنعام: ١٠٣] محكم وقوله وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ [القيامة: ٢٢، ٢٣] متشابه. والسني بالعكس. فلا بد من قانون يرجع إليه فنقول: صرف اللفظ عن الراجح إلى المرجوح لا بد فيه من دليل منفصل. وهو إما لفظي أو عقلي. والدليل اللفظي لا يكون قاطعا البتة لتوقفه على نقل اللغات، وعلى وجوه التصريف والإعراب، وعلى عدم الاشتراك وعدم المجاز وعدم التخصيص وعدم الإضمار وعدم المعارض النقلي والعقلي، وكل ذلك مظنون، والموقوف على المظنون أولى أن يكون مظنونا فلا يجوز التعويل عليه في المسائل الأصولية، فإذن لا سبيل إلى صرف اللفظ عن معناه الراجح إلى معناه المرجوح إلا بالدلالة القطعية العقلية، على أن معناه الراجح محال عقلا فإذا قامت هذه الدلالة وعرف المكلف أنه ليس مراد الله تعالى من هذه اللفظ ما أشعر به الظاهر، فعند هذا لا يحتاج إلى أن يعرف أن ذلك المرجوح الذي هو المراد ماذا، لأن السبيل إلى ذلك إنما يكون بترجيح مجاز على مجاز، وترجيح تأويل على تأويل، وذلك الترجيح لا يمكن إلا بالدلائل اللفظية وهي ظنية كما بينا ولا سيما المستعملة في ترجيح مرجوح على مرجوح آخر، فإذن الخوض في تعيين التأويل غير جائز والله أعلم.
المسألة الثانية في حكاية أقوال الناس في المحكم والمتشابه. عن ابن عباس أن المحكمات هي الآيات الثلاث في سورة الأنعام قُلْ تَعالَوْا [آية: ١٥١] إلى آخرها، وعلى هذا فالمحكم عنده ما لا يتغير باختلاف الشرائع، لأن هذه الآيه كذلك. والمتشابهات هي التي اشتبهت على اليهود كأوائل السور، أوّلوها على حساب الجمل ليستخرجوا بقاء هذه الأمة فاختلط الأمر عليهم واشتبه. وعنه أن المحكم هو الناسخ والمتشابه هو المنسوخ.
وقال الأصم: المحكم هو الذي يكون دلائله واضحة لائحة كإنشاء الخلق في قوله: ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً [المؤمنون: ١٤] والمتشابه ما يحتاج في معرفته إلى التدبر والتأمل كآيات
المسألة الثالثة في أنه لم جعل بعض القرآن محكما وبعضه متشابها. من الملحدة من طعن فيه وقال: كيف يليق بالحكيم أن يجعل كتابه المرجوع إليه في دينه، الموضوع إلى يوم القيامة بحيث يتمسك به كل صاحب مذهب، فمثبت الرؤية يتمسك بقوله وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ [القيامة: ٢٢، ٢٣] ونافيها يتشبث بقوله لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ [الأنعام: ١٠٣] ومثبت الجهة يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ [النحل: ٥٠] الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى [طه: ٥] والنافي لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى: ١١] فكل منهم يسمي الآيات الموافقة لمذهبه محكمة والمخالفة متشابهة، وربما آل الأمر في ترجيح بعضها على بعض إلى وجوه ضعيفة وتراجيح خفية، وهذا لا يليق بالحكمة مع أنه لو جعل كله ظاهرا جليا خالصا عن المتشابه نفيا كان أقرب إلى حصول الغرض. والجواب أنه متى كانت المتشابهات موجودة كان الوصول إلى الحق أصعب وأشق، وزيادة المشقة توجب مزيد الثواب. وأيضا لو كان كله محكما كان مطابقا لمذهب واحد فقط فكان ينفر أرباب سائر المذاهب عن قبوله وعن النظر فيه والانتفاع به، وإذا كان مشتملا على القسمين فحينئذ يطمع صاحب كل مذهب أن يجد فيه ما يؤيد مقالته فيجتهد في فهم معانيه، وبعد الفحص والاستكشاف، صارت المحكمات مفسرة للمتشابهات، ويتخلص المبطل عن باطلة ويصل إلى الحق. وأيضا إذا كان فيه محكم ومتشابه افتقر الناظر فيه إلى الاستعانة بالدلائل العقلية، فيتخلص من ظلمة التقليد إلى ضياء البينة والاستدلال والطمأنينة، وافتقر أيضا إلى تحصيل علوم أخر كالصرف والنحو والمعاني والبيان وأصول الفقه وأصول الكلام إلى غير ذلك، ولما في المشابهة من الابتلاء والتمييز بين الثابت على الحق والمتزلزل فيه. وهاهنا سبب أقوى وهو أن القرآن كتاب مشتمل على دعوة الخواص والعوام، وطباع العامة تنبو في
قوله هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ الأم في اللغة الأصل الذي يتكون منه الشيء. فلما كانت المحكمات مفهومة بذواتها، والمتشابهات إنما تصير مفهومة بإعانة المحكمات، فلا جرم صارت المحكمات أصولا للمتشابهات. وإنما لم يقل أمهات الكتاب ليطابق المبتدأ لأن مجموع المحكمات في تقدير شيء واحد هو الأصل لمجموع المتشابهات، وهذا كقوله وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً [المؤمنون: ٥٠] على معنى أن مجموعهما آية واحدة.
وَأُخَرُ أي ومنه آيات أخر مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ أي ميل عن الحق فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ لا يتمسكون إلا بالمتشابه.
قال الربيع: هم وفد نجران حاجوا رسول الله ﷺ في المسيح فقالوا: أليس هو كلمة الله وروحا منه؟ قال صلى الله عليه وسلم: بلى. قالوا:
حسبنا.
وقال الكلبي: هم اليهود طلبوا علم مدة بقاء هذه الأمة من الحروف المقطعة في أوائل السور. وقال قتادة والزجاج: هم منكرو البعث لأنه قال في آخره وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ
وما ذاك إلا وقت القيامة فإنه تعالى أخفاها عن الخلائق حتى الملائكة والأنبياء.
والتحقيق أنه عام لكل مبطل متشبث بأهداب المتشابهات، لأن اللفظ عام وخصوص السبب لا يمنع عن عموم اللفظ. ويدخل فيه كل ما فيه لبس واشتباه. ومن جملته ما وعد الله به الرسول من النصرة والكفار من النقمة فكانوا يقولون ائتنا بعذاب الله، ومتى الساعة، ولو ما تأتينا بالملائكة، فموهوا الأمر على الضعفة. قال أهل السنة: ويدخل في هذا الباب استدلال المشبهة بقوله الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى [طه: ٥] فإنه لما ثبت بصريح العقل امتناع كون الإله في مكان وإلا لزم انقسامه، وكل منقسم مركب، وكل مركب ممكن. فمن تمسك به كان متمسكا بالمتشابهات. ومن جملة ذلك استدلال المعتزلة بالظواهر الدالة على تفويض الفعل بالكلية إلى العبد فإنه لما ثبت بالبرهان العقلي أن صدور الفعل يتوقف على حصول الداعي وأنه من الله تعالى وإلا تسلسل، فيكون حصول الفعل مع تلك الداعية وعدمه عند عدمها واجبا فيبطل التفويض ويثبت أن الكل بقضاء الله وقدره. وإذا لاحت الدلائل العقلية فكيف يجوز للعاقل أن يسمي الآيات الدالة على القضاء والقدر بالمتشابه؟ بناء على ما اشتهر بين الجمهور من أن كل آية توافق مذهبهم فهي المحكمة، وكل آية تخالفهم فهي المتشابهة.
وترجيح البعض على البعض لا يكون إلا بالتراجيح اللغوية الظنية، ومثل ذلك لا يصح
الاستواء معلوم والكيفية مجهولة والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة. ومنها ما قيل إن هذه الآية ذم لطالب تأويل المتشابه حيث قال فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ وتخصيص بعض المتشابهات بذلك كطلب وقت الساعة ونحوه ترجيح من غير مرجح، فالذم يتوجه على الكل وهو المطلوب. ومنها أنه تعالى مدح الراسخين في العلم بأنهم يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ وقال تعالى في أول البقرة: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ [البقرة: ٢٦] فهؤلاء الراسخون لو كانوا عالمين بتأويل ذلك المتشابه على التفصيل لما كان لهم في الإيمان به مدح، ولا في قولهم كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا لأن كل من عرف شيئا على التفصيل فإنه لا بد أن يؤمن به إنما الراسخون في العلم هم الذين علموا بالدلائل القطعية أن الله تعالى عالم بالمعلومات التي لا نهاية لها، وعلموا أن القرآن كلام الله تعالى، وأنه لا يتكلم بالباطل والعبث، فإذا سمعوا آية ودلت الدلائل القاطعة على أنه لا يجوز أن يكون ظاهرها مرادا لله تعالى عرفوا أن مراد الله تعالى منه شيء غير ذلك الظاهر، ثم فوضوا تعيين ذلك المراد إلى علمه وقطعوا بأن ذلك المعنى أي شيء كان فهو الحق والصواب.
فهؤلاء هم الراسخون في العلم بالله بحيث لم يزعزعهم قطعهم بترك الظاهر ولا عدم علمهم بالمراد عن الإيمان بالله والجزم بصحة القرآن، ولم يصر كون ظاهره مردودا شبهة لهم في الطعن في كلام الله تعالى. ثم إن جعل قوله وَالرَّاسِخُونَ عطفا على اسم اللَّهُ فقوله يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كلام مستأنف موضح لحال الراسخين بمعنى هم يقولون آمنا بالمتشابه كل من عند ربنا أي كل واحد من المحكم والمتشابه من عنده. وفي زيادة عِنْدِ مزيد توضيح وتأكيد وتفخيم لشأن القرآن، ويحتمل أن يعود الضمير في آمَنَّا بِهِ إلى الكتاب أي يقولون، آمنا بالكتاب كل من محكمه ومتشابهه من عند الله الحكيم الذي لا يتناقض كلامه ولا يختلف كتابه، ويحتمل أن يكون قوله يَقُولُونَ حالا إلا أن فيه إشكالا وهو أن ذا الحال هو الذي تقدم ذكره وهاهنا قد تقدم ذكر الله وذكر الراسخين، والحال لا يمكن إلا من الراسخين فيلزم ترك الظاهر. وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ ما يتعظ إلا ذوو العقول الكاملة الذين يستعملون أذهانهم في فهم القرآن فيعلمون ما الذي يطابق ظاهره دلائل العقل فيكون محكما، وما الذي هو بالعكس فيكون متشابها، ثم يعتقدون أن الكل كلام من لا يجوز في
وكان رسول الله ﷺ يقول: «قلب المؤمن بين أصبعين من أصابع الرحمن» «١»
يعني الداعيتين. ومما يؤكد ذلك أن الله تعالى مدح هؤلاء الراسخين بأنهم لا يتبعون المتشابهات بل يؤمنون بها على سبيل الإجمال ويتركون الخوض فيها فيبعد منهم في مثل هذا الوقت أن يتكلموا بالمتشابه، فتكون هذه الآية من أقوى المحكمات وهو ظاهر في أن الإزاغة والهداية كلتيهما من الله تعالى. أما المعتزلة فقد قالوا: لما دلت الدلائل على أن الإزاغة لا يجوز أن تصدر من الله تعالى لأن ذلك ظلم وقبيح، وجب صرف الآية إلى التأويل فقال الجبائي واختاره القاضي: المراد أن لا يمنع قلوبهم الألطاف التي معها يستمر قلبهم على صفة الإيمان، وزيف بأن اللطف إن
واعلم أنه لا يلزم من أنه تعالى لا يخلف الوعد القطع بوعيد الفساق كما زعم المعتزلة، لأن كل ما ورد في وعيد الفساق فهو عندنا مشروط بشرط عدم العفو، كما أنه بالاتفاق مشروط بشرط عدم التوبة بدليل منفصل. قال الواحدي: ولم لا يجوز أن يحمل هذا على ميعاد الأولياء دون وعيد الأعداء، لأن خلف الوعيد كرم عند العرب. قال بعضهم:
إذا وعد السراء أنجز وعده | وإن أوعد الضراء فالعفو مانعه |
وإني وإن أوعدته أو وعدته | لمكذب إيعادي ومنجز موعدي |
واعلم أن كمال العذاب هو أن يزول عنه كل ما كان منتفعا به ويجتمع عليه جميع الأسباب المؤلمة. أما الأول فإليه أشار بقوله: لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ لأنهما أقرب الأمور التي يفزع إليها المرء عند الخطوب، وإذا لم يفد أقرب الطرق إلى دفع المضار في ذلك اليوم فما عداه بالتعذر أولى ومثله يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الصافات: ١٤٩] الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ [الكهف: ٤٦]. وأما الثاني فإليه أشار بقوله: وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ فإنه لا عذاب أزيد من أن تشتعل النار فيهم كاشتعالها في الحطب اليابس و «من» في قوله مِنَ اللَّهِ للبدل مثله في قوله إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً [النجم: ٢٨] أي بدله والمضاف محذوف تقديره لن تغني عنهم بدل رحمة الله أو طاعته شيئا. أو
في الحديث «ولا ينفع ذا الجد منك الجد» «١»
أي لا ينفعه جده وحظه في الدنيا بدل طاعتك وعبادتك وما عندك وأنشد أبو علي:
فليت لنا من ماء زمزم شربة | مبردة باتت على طهيان |
الدارمي في كتاب الصلاة باب ٧١.
قوله تعالى: كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ يقال: دأب فلان في عمله أي جدّ وتعب دأبا دؤبا فهو دئيب. وأدأبته أنا، والدائبان الليل والنهار، والدأب العادة والشان، وكل ما عليه الإنسان من صنيع وحالة، وقد يحرّك وأصله من دأبت إطلاقا لاسم الخاص على العام أي جد هؤلاء الكفار واجتهادهم أو شأنهم أو صنيعهم في تكذيب محمد وكفرهم بدينه كدأب آل فرعون مع موسى عليه السلام. ثم إنا أهلكنا أولئك بذنوبهم فكذلك نهلك هؤلاء.
فقوله: كَذَّبُوا بِآياتِنا تفسير لدأبهم على أنه جواب سؤال مقدر كأنه قيل: ما فعلوا وما فعل بهم؟ فقيل: كذبوا بآياتنا بالمعجزات الدالة على صدق رسلنا. فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ أي صاروا عند نزول العذاب كالمأخوذ المأسور الذي لا يقدر على وجه الخلاص البتة.
وقيل: المعنى كدأب الله في آل فرعون أي يجعلهم الله وقود النار كعادته وصنيعه في آل فرعون والمصدر يضاف تارة إلى الفاعل وتارة إلى المفعول. وقال القفال: يحتمل أن تكون الآية جامعة للعادة المضافة إلى الله تعالى وللعادة المضافة إلى الكفار كأنه قيل: إن عادة هؤلاء الكفار ومذهبهم في إيذاء محمد كعادة من قبلهم في إيذاء الرسل، وعادتنا أيضا في إهلاك هؤلاء كعادتنا في إهلاك أولئك الكفرة. وقيل: الدؤب والدأب اللبث والدوام والتقدير: دؤبهم في النار كدؤب آل فرعون. وقيل: مشقتهم وتعبهم في النار كمشقة آل فرعون بالعذاب النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ [غافر: ٤٦]. وقيل: المشبه هو أن أموالهم وأولادهم لا تنفعهم في إزالة العذاب والمعنى: إنكم قد عرفتم ما حل بآل فرعون ومن قبلهم من المكذبين بالرسل من العذاب المعجل الذي عنده لم ينفعهم مال ولا ولد، فكذلك حالكم أيها الكفار المكذبون بمحمد فينزل بكم مثل ما نزل بهم ولا تغني عنكم الأموال والأولاد. ويحتمل أن يكون وجه التشبيه أنه كما نزل بمن تقدم العذاب المعجل بالاستئصال وهو قوله فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ ثم صاروا إلى دوام العذاب وهو قوله وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ فسينزل بمن كذب بمحمد أمران:
أحدهما المحن المعجلة من القتل والسبي والإذلال وسلب الأموال وإليه الإشارة بقوله فيما بعد قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ والثاني المصير إلى العذاب الدائم وذلك قوله وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ.
الم الألف إظهار الوحدة مطلقا ذاتا وصفة. فإن الألف واحد في ذاته وصفاته في وضع الحساب، ومتفرد بالأولية والانقطاع عن غيره في وضع الحروف، ويشير باستقامته وعدم تغيره في جميع الأحوال إلى عدم تغيره عن الوجود الوحداني أزلا وأبدا.
فإن الألف مصدر جميع الحروف، فإن من استقامته يخرج كل حرف معوج. ثم في اللام والميم المتصل كل حرف منهما بالآخر إثبات أن كل موجود سوى الوحدة موصوف بالإثنينية وذلك قسمان: قسم لم يكن فكان ثم يزول، وقسم ما كان فكان ولا يزول. وهذان قسمان محدثان وموجدهما الواحد القديم الذي لا زال كان ولا يزال يكون وإليه الإشارة بالألف.
وأما اللام فإشارة إلى القسم الذي لم يكن فكان ولا يكون باقيا وهو عالم الصورة والملك والأجساد. فوقوعه في المرتبة الثانية، من الألف إشارة إلى أنه مسبوق بالوجود والألف سابق عليه، والانكسار فيه يشير إلى تغيره وزواله. والميم إشارة إلى القسم الذي لم يكن فكان ولا يزال يبقى وهو عالم المعنى والملكوت والأرواح. وذلك أن الميم أول حرف من اسمه المبدئ وآخر حرف من اسمه القيوم، فيشير إلى أنه كما أبدأه المبدئ حين لم يكن يقيمه القيوم حين كان لا يزال. وبوجه آخر الألف إشارة إلى وجود حقيقي قائم بذاته، واللام يشير إلى إثبات ونفي. فالإثبات في لام التمليك لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ والنفي في «لا» النافية أي لا وجود لشيء بالحقيقة سواه، والميم يشير أيضا إلى إثبات ونفي. فالإثبات ميم اسمه القيوم والنفي «ما» النافية أي ما في الوجود حقيقة إلا هو. ودليل الوجهين في الم اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ف اللَّهُ إثبات ذات القديم، لا إِلهَ إِلَّا هُوَ نفى الشرك عن وجوده وإثبات وحدته في وجوده والْحَيُّ الْقَيُّومُ إثبات جميع صفات كماله ونفي جميع سمات النقص عن ذاته. وقد أودع مجموع معاني هذه الآية في قوله الم فمعنى قوله اللَّهُ أودع في أول حرف من حروفه وهو الألف، ومعنى قوله لا إِلهَ إِلَّا هُوَ أودع في أول حرف من حروفه وهو اللام. ومعنى قوله الْحَيُّ الْقَيُّومُ أودع في آخر حرف من حروفه وهو الميم. وإنما أودع في آخر حروفه هاهنا ليكون السر مودعا في الآية من أول حرفها إلى آخر حرفها مكتوما فيما بينهما. والحروف الثلاثة من قوله الم يكون الألف من أولها دالا على المعنى الذي هو في الكلمة الأولى وهي اللَّهُ واللام من أوسطها دالا على المعنى الذي في الثانية وهي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ والميم من آخرها دالا على المعنى الذي هو مودع في الثالثة وهو الْحَيُّ الْقَيُّومُ فيكون الاسم الأعظم مودعا في الم كما روي عن سعيد بن جبير وغيره،
وهو سر القرآن وصفوته كما روي عن أبي بكر وعلي عليه السلام.
ثم إنه تعالى بعد أن أظهر أسرار ألوهيته المودعة في الم بقوله اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ أظهر ألطاف ربوبيته المكنونة في أستار العزة مع حبيبه محمد صلى الله عليه وسلم
وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ فلا تظنن يا محمد أن إنزال الكتب على الأنبياء كان كتنزيل القرآن بالحقيقة على قلبك كما قال: وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً [الشورى:
٥٢] حتى صرت مكاشفا عند تجلي أنواره بأسراره، وحقائق بيني وبينك لا يطلع عليه ملك مقرب ولا نبي مرسل، وإنما إنزال الكتب على الأنبياء كان بالصورة مكتوبة في صحائف وألواح يقرؤها كل قارئ، ويستوي في هداها الأنبياء والأمم قاطبة هُدىً لِلنَّاسِ وكنت مخصوصا بالهداية عند تجلي أنوار القرآن بالتنزيل على قلبك كما قال: وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا [الشورى: ٥٢] وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ الذي يفرق بين تنزيله على قلبك وبين إنزال الكتب على صورة الأنبياء، ويفرق بين تعليمك القرآن وبين تعليمهم الكتب. فإن كانوا يتدارسون الكتب فأنت تتخلق بالقرآن، فشتان بين نبي يجيء وهو بذاته نور ومعه كتاب قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ [المائدة: ١٥] وبين نبى يجىء ومعه نور من الكتاب قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ [الأنعام:
٩١] وشتان بين نبي تشرف بكتابة الموعظة له في الألواح وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً [الأعراف: ١٤٥] وبين نبي تشرف أمته بكتابة الإيمان لهم في قلوبهم أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ [المجادلة: ٢٢] إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ يسترون بحجب الغفلات وتتبع الشهوات قلوبهم فتعمى عن مشاهدة هذه الآيات البينات لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ من هذا العمى والحرمان وهم في خسران من الركون إلى هذا النقصان وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ يعز أهل الغرام بنيل المرام وينتقم من أهل السلوة بحجاب العزة. ثم أخبر تعالى عن كمال علمه بقوله إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وكيف يخفى وإنه هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ عن نقص الأحكام الْحَكِيمُ فيما يجري من الأزل إلى الأبد وجفت به الأقلام. وفي الآية إشارة إلى أنه إذا سقطت من صلب ولاية رجل من رجال الحق نطفة إرادة في رحم قلب مريد صادق يستسلم لتصرفات ولاية الشيخ وهو بمثابة ملك الأرحام، ويضبط المريد أحواله الظاهرة والباطنة على وفق أمر الشيخ ويختار الخلوة والعزلة لئلا يصدر منه حركة عنيفة أو يجد رائحة غريبة يلزم منه سقوط النطفة وفسادها، ويقعد بأمر الشيخ وتدبيره فالله تعالى بتصرف ولاية الشيخ
٢] كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ [المجادلة: ٢٢] فإذا نفخ فيه الروح يكون آدم وقته فيسجد له بالخلافة الملائكة كلهم أجمعون. الآيات المحكمات تنزيلها شرب الخواص والعوام لبسط الشرع والاهتداء، والمتشابهات تأويلها شرب الخواص وخواص الخواص لإخفاء الأسرار عن الأغيار والابتلاء فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ ألبست قلوبهم غطاء الريب وحرموا أنوار الغيب وهم أهل الأهواء والبدع فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ ليضلوا بأهوائهم وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ ليضلوا الناس بآرائهم وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ بما شاهدوا من أنوار الحق في تحقيق التأويل كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا بتوفيقه وإعلامه وتعريفه وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ الذين خرجوا في متابعة النبي ﷺ من ظلمات قشور وجودهم النفساني إلى نور لباب وجودهم الروحاني، وهم الراسخون في قشور العلوم الكسبية الواصلون إلى حقائق لباب العلوم اللدنية من لدن حكيم خبير. وفي الآية إشارة إلى أن علوم الراسخين كلها بتعليم الله تعالى إياهم في الميثاق إذ تجلى بصفة الربوبية للذرّات، وأشهدهم على أنفسهم بشواهد الربوبية ألست بربكم؟ فبشهود تلك الشواهد ركز في جبلة الذرّات علم التوحيد فقالوا: بلى. ويندرج في علم التوحيد كل العلوم كما قال: وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها [البقرة: ٣١] فلما ردّت الذرّات الى الأصلاب واحتجبت بصفات البشرية، ثم نقلت إلى الأرحام وتنقلت بقدم الأربعينات من حال إلى حال ومن مقام إلى مقام من مقامات البعد عن الحضرة إلى أن وضع الحمل، وردت النفس العالمة بعلم التوحيد الناطقة به إلى أسفل سافلين القالب محتجبة بحجب البشرية ناسية تلك العلوم والتنطق بها. ثم أبواه يذكرانه تلك العلوم بالرموز والقرائن حتى يتذكر بعض تلك العلوم من وراء حجب البشرية وأستار الأطوار، وينطق بلسان الأبوين لا بلسانه الذي أجاب به الرب وقال بلى، فإن ذلك اللسان كان لب هذا اللسان وهذا قشر ذلك. وكذلك جميع وجود ظاهر الإنسان وباطنه قشور لباب ذلك الوجود المستمع المجيب في الميثاق. فسمعه قشر ذلك السمع الذي استمع خطاب الحق، وبصره قشر ذلك البصر الذي أبصر جمال الحق، وقلبه قشر ذلك القلب الذي فقه خطاب الحق، وعلومه قشر تلك العلوم التي تعلمت من الحق. فالنبي ﷺ إنما بعث ليذكره حقيقة تلك العلوم التي كان أبواه يذكرانه قشرها كما قال فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ [الغاشية: ٢١] فالتذكير عام ولكن التذكر خاص فلهذا قال وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا
إنما يتذكر أولوا الألباب رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا عن صراطك بغلبات ظلمات طبائعنا وطباعنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا إلى حضرة جلالك ونور جمالك حتى سمعنا بلب سمعنا لب التنزيل، وشاهدنا بلب أبصارنا لب التأويل، وتذكرنا بلب عقولنا علومنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً تجذبنا من لدنا إلى لدنك وتغنينا عنا بك إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ. وفيه إشارة إلى أن وظيفة الطالب أن لا يسكن في مقام ولا يقف مع حال بل يكون إلى الأبد طلابا كما كان الله من الأزل إلى الأبد وهابا. وكما أنه لا نهاية لمواهبه فلا غاية لمطالب طالبه، وأن بعد هذه الدار دارا هي دار القرار يوفى فيها جزاء الأبرار والفجار. فحصول الأرب بقدر رعاية الأدب في الطلب. ومقاساة التعب والنصب، وإن التقوى خير زاد للمعاد إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا استروا أنوار روحانيتهم بظلمات صفات نفسانيتهم لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ طاغوت أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ أنوار الله التي حجبوا عنها وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ نار الفرقة والقطيعة نارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ [الهمزة: ٦، ٧] لا نار الجحيم التي لا تحرق إلا قشور الجلود ولا تخلص إلى لب القلوب. وإن عذاب حرقة لجلود بالنسبة إلى عذاب فرقة القلوب وحرقة القطيعة عن الله كنسيم الحياة إلى سموم لممات.
في فؤاد المحب نار هوى | أحر نار الجحيم أبردها |
بالنار خوّفني قومي فقلت لهم | النار ترحم من في قلبه نار |
قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ (١٢) قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (١٣) زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (١٤) قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (١٥) الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَقِنا عَذابَ النَّارِ (١٦)
الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ (١٧) شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١٨) إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (١٩) فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (٢٠) إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٢١)
أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٢٢) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (٢٣) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٢٤) فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٢٥)
سيغلبون ويحشرون بياء الغيبة: حمزة وعليّ وخلف وعباس مخير.
الباقون بتاء الخطاب تَرَوْنَهُمْ بتاء الخطاب: أبو جعفر ونافع وسهل ويعقوب. الباقون بالياء مِثْلَيْهِمْ بضم الهاء: سهل ويعقوب وكذلك ما انفتح قبل الياء مثل بِجَنَّتَيْهِمْ [سبأ: ١٦] رَأْيَ الْعَيْنِ بغير همز: أبو عمرو غير شجاع ويزيد والأعشى والأصفهاني عن ورش وحمزة في الوقف. الباقون بهمزة ساكنة أَأُنَبِّئُكُمْ بهمزة غير ممدودة بعدها واو مضمومة: ابن كثير وأبو عمرو وسهل ويعقوب غير عباس وأوقية وأبي شعيب ونافع غير قالون. آونبئكم بالمد والواو المضمومة: يزيد وقالون وعباس وأوقية وأبو شعيب. الباقون بهمزتين هشام يدخل بينهما مدة. وَرِضْوانٌ بضم الراء حيث كان: الأعشى والبرجمي وافقا يحيى وحمادا إلا في مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ [المائدة: ١٦] في المائدة إِنَّ الدِّينَ بفتح «إن» علي. الباقون بالكسر. وَجْهِيَ بفتح الياء: أبو جعفر ونافع وابن عامر غير النجاري عن هشام وحفص والمفضل والأعشى والبرجمي. وَمَنِ اتَّبَعَنِي بإثبات الياء في الحالين:
سهل ويعقوب وابن شنبوذ عن قنبل وافق أبو عمر وأبا جعفر ونافع غير قالون في الوصل.
ويقاتلون الذين: حمزة ونصير في رواية علي بن نصير. الباقون وَيَقْتُلُونَ. لِيَحْكُمَ بضم الياء وفتح الكاف: أبو جعفر. الباقون بالعكس.
جَهَنَّمَ ط، الْمِهادُ هـ، الْتَقَتا ط لأن التقدير منهما فئة أو إحداهما. الْعَيْنِ ط مَنْ يَشاءُ ط الْأَبْصارِ هـ، وَالْحَرْثِ ط الدُّنْيا ج للفصل بين النقيضين مع اتفاق الجملتين. الْمَآبِ ج مِنْ ذلِكُمْ ط لتناهي الاستفهام. مِنَ اللَّهِ ط بِالْعِبادِ ج للاية على جعل «الذين» خبر مبتدأ محذوف أي هم الذين، أو مدحا على «أعني الذين» ولجواز أنه نعت للعباد أو للمتقين. النَّارِ ج لأن «الصابرين» يصلح بدلا من «الذين» والوقف أجود نصبا على المدح. بِالْأَسْحارِ ط إِلَّا هُوَ ط للعطف، ولو وقف احترازا عن وهم دخول الملائكة وأولو العلم في الاستثناء والمشاركة في الألوهية كان جيدا. بِالْقِسْطِ ط، الْحَكِيمُ ط إلا لمن قرأ «إن» بالفتح على البدل من «أنه» الْإِسْلامُ هـ، بَيْنَهُمْ ط لإطلاق حكم غير مخصوص بما قبله. الْحِسابِ هـ وَمَنِ اتَّبَعَنِ ط لابتداء أمر يشمل أهل الكتاب والعرب، والأول مختص بأهل الكتاب فلم يكن الثاني من جملة جزاء الشرط، أَأَسْلَمْتُمْ ط لتناهي الاستفهام إلى الشرط اهْتَدَوْا ج لابتداء شرط آخر مع العطف. الْبَلاغُ ط، بِالْعِبادِ هـ، بِغَيْرِ حَقٍّ ز لمن قرأ ويقاتلون لعدول المعنى من قوله يَقْتُلُونَ أَلِيمٍ هـ، وَالْآخِرَةِ ز للابتداء بالنفي مع اتحاد المقصود. مِنْ ناصِرِينَ هـ، مُعْرِضُونَ هـ، مَعْدُوداتٍ ص لأن الواو للعطف أو الحال. يَفْتَرُونَ هـ، يُظْلَمُونَ هـ.
التفسير:
عن ابن عباس في رواية أبي صالح عنه قال: لما هزم الله المشركين يوم بدر قالت يهود المدينة: هذا والله النبي الأمي الذي بشرنا به موسى ونجده في كتابنا بنعته وصفته وأنه لا ترد له راية وأرادوا تصديقه واتباعه. ثم قال بعضهم لبعض: لا تعجلوا حتى ننظر إلى وقعة أخرى. فلما كان يوم أحد ونكب أصحاب رسول الله ﷺ شكوا فقالوا: لا والله ما هو به. وغلب عليهم الشقاء فلم يسلموا. وكان بينهم وبين رسول الله عهد إلى مدة فنقضوا ذلك العهد. وانطلق كعب بن الأشرف في ستين راكبا إلى أهل مكة أبي سفيان وأصحابه فوافقوهم وأجمعوا أمرهم وقالوا: لتكونن كلمتنا واحدة. ثم رجعوا إلى المدينة فأنزل الله فيهم هذه الآية.
وقال محمد بن إسحق بن يسار في رواية عكرمة وسعيد بن جبير عن ابن عباس: لما أصاب رسول الله ﷺ قريشا ببدر وقدم المدينة جمع اليهود في سوق بني قينقاع فقال: يا معشر اليهود احذروا من الله مثل ما نزل بقريش يوم بدر، وأسلموا قبل أن ينزل بكم ما نزل بهم، فقد عرفتم أني نبي مرسل تجدون ذلك في كتابكم وعهد الله إليكم. فقالوا: يا محمد، لا يغرّنك أنك لقيت قوما أغمارا لا علم لهم بالحرب فأصبت فيهم فرصة. أما والله لو قاتلناك لعرفت أنا نحن الناس فأنزل الله قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا
يعني اليهود سَتُغْلَبُونَ
فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهادُ [البقرة: ٢٠٦] وقيل: هم مشركو مكة سَتُغْلَبُونَ يعني يوم بدر من قرأ بتاء الخطاب فمعناه الأمر بأن يخبرهم بما سيجري عليهم من الغلبة والحشر بأي لفظ أراد صلى الله عليه وسلم، ومن قرأ بالياء فالأمر متوجه إلى حكاية هذا اللفظ أي قل لهم قولي لك:
سَيَغْلِبُونَ. وفي الآية حجاج للقائل بتكليف ما لا يطاق، فإنه تعالى أخبر عنهم بأنهم يحشرون إلى جهنم، فلو آمنوا وأطاعوا لانقلب الخبر كذبا. وفيها دليل على صحة البعث والحشر بإخبار الصادق وفي قوله سَتُغْلَبُونَ وقد وقع كما أخبر إخبار عن الغيب فيكون معجزا دالا على صدق النبي صلى الله عليه وسلم. نظيره في حق عيسى عليه السلام وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ [آل عمران: ٤٩] ثم إنه تعالى ذكر ما يجري مجرى الدلالة على صحة ذلك الحكم فقال قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا يوم بدر فِئَةٌ إحداهما جماعة تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وهم المسلمون لأنهم يقاتلون لنصرة دين الله وإعلاء كلمته وَفِيهِ أخرى كافِرَةٌ هم كفار قريش. وبيان كون تلك الواقعة آية من وجوه: أحدها أن المسلمين كان قد اجتمع فيهم من أسباب الضعف أمور منها: قلة العدد والعدد، كانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا مع كل أربعة منهم بعير، ومعهم من الدروع ستة ومن الخيل فرسان. ومنها أنهم خرجوا غير قاصدين للحرب فلم يتأهبوا. ومنها أن ذلك ابتداء غارة في الحرب لأنها من أول غزوات رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان قد حصل في المشركين أضداد هذه المعاني. كانوا تسعمائة وخمسين رجلا وفيهم أبو سفيان وأبو جهل، ومعهم مائة فرس وسبعمائة بعير، وأهل الخيل كلهم دارعون، وكان معهم دروع سوى ذلك، وكانوا قد مرنوا على الحرب والغارات. وإذا كان كذلك كانت غلبة المسلمين خارقة للعادة فكانت معجزة. وثانيها أنه ﷺ كان قد أخبر عن ذلك بإخبار الله في قوله تعالى وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ [الأنفال: ٧] يعني جمع قريش أو عير أبي سفيان. وكان أخبر قبل الحرب بأن هذا مصرع فلان وهذا مصرع فلان والإخبار عن الغيب معجز. وثالثها إمداد الملائكة كما سيجيء في هذه السورة. ورابعها قوله يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ وفيه أربعة احتمالات لأن الضمير في «يرون» إما أن يعود إلى الفئة الكافرة أو إلى الفئة المسلمة، وعلى كلا التقديرين يجوز عود الضمير في مِثْلَيْهِمْ إلى كل منهما فهذه أربعة: الأول أن الفئة الكافرة رأت المسلمين مثلي عدد المشركين قريبا من ألفين. الثاني أنها رأت المسلمين مثلي عدد المسلمين ستمائة ونيفا وعشرين، ودليل هذا الاحتمال قراءة من قرأ تَرَوْنَهُمْ بتاء الخطاب أي ترون يا مشركي قريش المسلمين مثلي أنفسهم. ودليل الاحتمالين جميعا أن عود الضمير في «يرون» إلى
الاحتمال الرابع أن يكون الراؤون هم المسلمين، ثم إنهم رأوا المشركين على الضعف من عدد المشركين وهذا قول لا يمكن أن يقول به أحد لأن هذا يوجب نصرة الكفار وإيقاع الخوف في قلوب المؤمنين، والآية تنافي ذلك. وفي الآية احتمال خامس وهو أن أول الآية قد بينا أنه خطاب مع اليهود فيكون المراد: ترون أيها اليهود المشركين مثلي المؤمنين في القوة. وهاهنا بحث وهو أن الاحتمال الأول والثاني يقتضي أن المعدوم صار مرئيا، والاحتمال الثالث يوجب أن يكون الموجود والحاضر غير مرئي. أما الأول فهو محال عقلا والقول به سفسطة فلهذا قيل: لعل الله تعالى أنزل الملائكة حتى صار عسكر المسلمين كثيرا. وعلى هذا تكون الرؤية رؤية البصر، ويكون مِثْلَيْهِمْ نصبا على الحال، أو تحمل الرؤية على الظن والحسبان فإن من اشتد خوفه قد يظن في الجمع القليل أنه في غاية الكثرة، لكن قوله: رَأْيَ الْعَيْنِ لا يجاوب ذلك إذ معناه رؤية ظاهرة مكشوفة لا لبس فيها معاينة كسائر المعاينات. وأما الثاني فهو جائز عند الأشاعرة إذ عند حصول الشرائط وصحة الحاسة لا يكون الإدراك واجب الحصول بل يكون عندهم جائزا لا واجبا والزمان زمان خوارق العادات. وأما المعتزلة فعندهم الإدراك واجب الحصول عند استجماع الشروط وسلامة الحس، فاعتذروا عن ذلك بأن الإنسان عند الخوف لا يتفرغ للتأمل البالغ، فقد يرى البعض دون البعض. أو لعل الغبار صار مانعا عن إدراك البعض، أو خلق الله تعالى في الهواء ما صار مانعا عن رؤية ثلث العسكر، أو يحدث في عيونهم ما يستقل به الكثير كما أحدث في أعين الحول ما يرون به الواحد اثنين وكل ذلك محتمل. وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إما بالغلبة كيوم بدر، وإما بالحجة والعاقبة كيوم أحد. إِنَّ فِي ذلِكَ الذي ذكره من
وروينا أيضا أنه ﷺ لما دعا اليهود إلى الإسلام بعد غزوة بدر أظهروا من أنفسهم القوة والشدة والاستظهار بالعدة والعدد،
فبيّن الله تعالى في هذه الآية أن تلك الأشياء متاع الدنيا وزينتها، والآخرة خير. والمزين هو الله تعالى. أما عند الأشاعرة فلأنه خالق أفعال العباد كلها، ولو كان المزين هو الشيطان فمن الذي زين الكفر والبدعة للشيطان؟ وأما عند جمهور المعتزلة فلحكمة الابتلاء إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [الكهف: ٧] ولأنها وسائل إلى منافع الآخرة وهو أن يتصدق بها أو يتقوى بها على طاعة الله أو يشتغل بشكرها. كان الصاحب بن عباد يقول: شرب الماء البارد في الصيف يستخرج الحمد لله من أقصى القلب. ولأن القادر على وجوه اللذات إذا تركها وأقبل على أداء وظائف الخدمة كان أشق له وأكثر ثوابا. وعن الجبائي واختاره القاضي، أن كل ما كان واجبا أو مندوبا أو مباحا فالتزيين فيه من الله تعالى، وكل ما كان حراما قالتزيين فيه من الشيطان. وحكي عن الحسن أنه قال: الشيطان زينها لهم وكان يحلف بالله على ذلك. واحتجاجه في الآية بأنه أطلق الشهوات فيدخل فيها المحرمات، وإن تزيينها وظيفة الشيطان. وذكر القناطير المقنطرة وحب المال الكثير إلى هذه الغاية لا يليق إلا بمن جعل الدنيا قبلة طلبه ومنتهى مقصوده. وقال في معرض الذم ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا والذام للشيء لا يكون مزينا له. وقال قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ
والغرض تقبيح الدنيا فكيف يكون مزينا لها؟. ثم إنه تعالى جعل الأعيان المشتهاة شهوات مبالغة في كونها مشتهاة محروصا على الاستمتاع بها وذلك للتعلق والاتصال كما يقال للمقدور «قدرة» وللمرجو «رجاء». وفيه فائدة أخرى هي أن الشهوة صفة مسترذلة عند الحكماء، مذموم من اتبعها، شاهد على نفسه بالبهيمية. فكان المقصود من ذكر هذا اللفظ تخسيسها والتنفير عنها. قال المتكلمون: في الآية دليل على أن الحب غير الشهوة لأن المضاف يجب أن يكون مغايرا للمضاف إليه. فالشهوة من فعل الله تعالى، والمحبة من أفعال العباد، وهي أن يجعل الإنسان كل همته مصروفة إلى اللذات والطيبات. واعلم أن الإنسان قد يحب شيئا ولكنه يحب أن لا يحبه، وقد يحبه ويحب أن يحبه ويعتقد مع ذلك أن تلك المحبة حسنة وفضيلة وهذا هو كمال المحبة، ومنه قوله تعالى حكاية عن سليمان
وقال صلى الله عليه وسلم: «إن أخوف ما أخاف على متي النساء»
الثانية الأولاد ولا سيما البنين ولهذا خصوا بالذكر، ومحبة النساء والأولاد كأنها حالة غريزية ولولاها لم يتصور بقاء النسل للحيوانات.
الثالثة والرابعة القناطير المقنطرة من الذهب والفضة. قال الزجاج: القنطار مأخوذ من عقد الشيء وإحكامه ومنه القنطرة. والمال الكثير قنطار لأن الإنسان يتوثق بها في دفع النوائب.
أبو عبيد: إنه وزن لا يحد.
روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: «القنطار اثنا عشر ألف أوقية» «١»
وروى أنس عنه هو ألف دينار. وروى أبي بن كعب عنه هو ألف ومائتا أوقية. وقال ابن عباس: ألف دينار أو اثنا عشر ألف درهم وهو مقدار الدية. وبه قال الحسن. وزعم الكلبي أن القنطار بلسان الروم ملء مسك ثور من ذهب أو فضة. وعن سعيد بن جبير أنه مائة ألف دينار. والمقنطرة مبنية من لفظ القنطار للتوكيد كقولهم «ألف مؤلفة وبدرة مبدّرة وإبل مؤبلة». قال الكلبي: القناطير ثلاثة والمقنطرة المضاعفة فكان المجموع ستة. وإنما كان الذهب والفضة محبوبين لأنهما جعلا ثمن جميع الأشياء فمالكهما كالمالك لجميع الأشياء.
وكل الصيد يوجد في الفرا | ولولا التقى لقلت جلت قدرته |
والثاني إما أن تكون من المعدنيات وأكثرها فائدة وأعمها عائدة الجوهران الثمينان فخصا بالذكر، وإما أن تكون من الحيوانات للركوب والكر والفر وهو الخيل، أو للحمل واللحم وهو الأنعام، وإما أن تكون من النباتات وهو الحاصل من الزراعة وإنما لم يتعرض للدور والقصور لأنها لم تكن معتادة عند العرب، والقرآن يخاطب أولا معهم. وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ أي المرجع. وإنما لم يذكر المآب القبيح وهو النار لأنها غير مقصودة بالذات لأنه سبحانه خلق الخلق للرحمة لا للعذاب ولهذا
قال: «سبقت رحمتي غضبي» «١»
ثم بيّن أن ذلك المرجع كما أنه حسن في نفسه فهو أحسن وأفضل من هذه الدنيا. والمقصود أن يعلم العبد أنه كما أن الدنيا أطيب وأفسح من بطن الأم فكذلك الآخرة أفسح وأوسع من الدنيا، أو لأنه لما عدد نعم الدنيا بين أن منافع الآخرة خير منها فقال مستفهما على سبيل التقرير قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ أي بشيء هو خير مِنْ ذلِكُمْ الذي عددنا. ثم استأنف بيانه وتقريره فقال: لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ كما تقول: هل أدلكم على حبر خير من فلان؟ عندي رجل من صفته كيت وكيت. وبيان الخيرية ظاهر من وصف الجنات والأزواج مع قيد الخلود، فإن النعمة وإن عظمت، فتوهم الانقطاع والزوال ينغص صفوها وينقص لذتها، وبعد زوال هذا الوهم لن يتكامل طيبها إلا بالنساء فبهن يحصل الأنس. ثم وصف الأزواج بصفة واحدة جامعة فقال: مُطَهَّرَةٌ أي من الأقذار والمنفرات. وبعد ذكر تمام النعمة ذكر ما هو فوق التمام فقال: وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ
ويندرج فيه جميع المطالب والمقاصد لأن العبد إذا رضي عنه المولى لم يتصور منصب أجل منه وأعلى، وكأن المولى وما يملكه للعبد، كما أن العبد وما يملكه للمولى وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة:
٧٢] ويحتمل أن يكون اللام في قوله: لِلَّذِينَ اتَّقَوْا متعلقا بخير. واختص المتقين لأنهم
وقوله: عِنْدَ رَبِّهِمْ يحتمل أن يتعلق بما يتعلق بما تعلق به قوله: لِلَّذِينَ أي ثبت لهم عند ربهم. ويحتمل أن يكون صفة لخير، ويحتمل أن يكون من تمام قوله: اتَّقَوْا فيكون إشارة إلى أن هذا الثواب لا يحصل إلا لمن كان متقيا عند الله تعالى فلا يدخل فيه إلا من كان مؤمنا في علم الله وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ عالم بمصالحهم فيجب أن يرضوا لأنفسهم ما اختار لهم من نعيم الآخرة، وأن يزهدوا فيما زهدهم فيه من أمور الدنيا، أو بصير بهم يثيب ويعاقب بحسب الاستحقاق، أو بصير بالذين اتقوا ربهم وبأحوالهم فلذلك أعدّ لهم الجنات الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا توسلوا بمجرد الإيمان إلى طلب المغفرة. وقد حكى الله تعالى ذلك عنهم في معرض المدح لهم والثناء عليهم فقيل: دل ذلك على أن الإيمان هو التصديق فقط، فإن العمل الصالح لو كان داخلا فيه كما زعموا كان إدخاله في النار قبيحا عندهم فيكون ممتنع الوقوع من الله تعالى، وضده واجب الوقوع، وسؤال الواجب وقوعه عبث فلا يصلح للمدح. ويمكن أن يجاب عنه بأن العبد قد يدعو بما يعلم أنه حاصل له إظهار الذل العبودية وإبداء للاستكانة والخشوع. وأيضا صورة العمل الصالح لا تفيد ما لم تقع في حيز القبول. فعلى المتقي أن لا يتكل عليها ويبتهل إلى الله في مواجب الغفران. ثم عدد من أوصاف عباده خمسة ووسط العاطف بينها دلالة على كمالهم في كل واحد منها، أو إشارة إلى أن كل واحد منها يكفي في استحقاق المدح والثواب فقال:
الصَّابِرِينَ أي في أداء الطاعات وعلى ترك المحظورات وعند المحن والشدائد. وقف رجل على الشبلي فقال: أيّ صبر أشد على الصابرين؟ فقال: الصبر في الله تعالى. فقال:
لا. فقال: الصبر لله. فقال: لا. فقال: الصبر مع الله. قال: لا. قال: فأي شيء؟ قال:
الصبر عن الله. فصرخ الشبلي صرخة كاد يتلف روحه. وَالصَّادِقِينَ أي في الأقوال وفي الأفعال بأن لا ينصرف عنها قبل تمامها، وفي النيات بأن يمضي العزم على الخيرات.
وَالْقانِتِينَ والمقيمين على الطاعات والمواظبين عليها وَالْمُنْفِقِينَ ما تيسر على من تيسر بشروطه ومصارفه وجوبا وندبا وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ أي فيها. والسحر قبل طلوع الفجر. وخص هذا الوقت لأنهم كانوا يقدمون قيام الليل حتى إذا كان السحر أخذوا في الدعاء والاستغفار هذا ليلهم وذلك نهارهم. وللاستغفار بالأسحار مزيد آثار وأنوار لأن السحر وقت النوم والغفلة، فإذا أعرض العبد عن تلك اللذة عرض الذلة على حضرة العزة لا يبعد أن يفيض عليه سجال المغفرة وأن يطلع صبح العالم الصغير عند طلوع صبح العالم الكبير فيستنير قلب المؤمن بأنوار المعارف وآثار اللطائف. أما بيان ترتيب الأوصاف،
قال الكلبي: لما ظهر رسول الله ﷺ بالمدينة قدم عليه حبران من أحبار أهل الشام، فلما أبصرا المدينة قال أحدهما لصاحبه: ما أشبه هذه المدينة بصفة مدينة النبي ﷺ الذي يخرج في آخر الزمان! فلما دخلا على النبي ﷺ عرفاه بالصفة والنعت فقالا: أنت محمد؟ قال: نعم. قالا: وأنت أحمد؟
قال: نعم. قالا: إنا نسألك عن شهادة فإن أنت أخبرتنا بها آمنا بك وصدقناك. فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: سلاني. قالا: أخبرنا من أعظم شهادة في كتاب الله فأنزل الله على نبيه شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فأسلم الرجلان وصدقا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ووجه النظم أنه مدح المؤمنين وأثنى عليهم بقوله: رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا ثم بين أن دلائل الإيمان ظاهرة جلية.
واعلم أن الشهادة من الله تعالى ومن الملائكة ومن أولي العلم يحتمل أن تكون بمعنى واحد، ويحتمل أن لا تكون كذلك. أما الأول فتقريره من وجهين: أحدهما أن الشهادة عبارة عن الإخبار المقرون بالعلم، فهذا المعنى مفهوم واحد وهو حاصل في حق الله تعالى وفي حق الملائكة وفي حق أولي العلم. أما من الله فذلك أنه أخبر في القرآن أنه إله واحد لا إله إلا هو وذلك في مواضع كثيرة كالإخلاص وآية الكرسي وغيرهما، والتمسك بالدلائل السمعية في هذه المسألة جائز لأن العلم بنبوّة محمد ﷺ لا يتوقف على العلم بها. وأما من الملائكة وأولي العلم وهم الذين عرفوا وحدانية الله تعالى بالدلائل القاطعة، فكلهم أخبروا أيضا أن الله واحد لا شريك له. وثاني الوجهين أن تجعل الشهادة عبارة عن الإظهار والبيان. فالله تعالى أظهر ذلك وبيّن بأن خلق ما يدل على ذلك، والملائكة وأولو العلم أظهروا ذلك وبينوه. أيضا الملائكة للرسل والرسل للعلماء والعلماء لعامة الخلق. فالتفاوت إنما وقع في الشيء الذي به حصل الإظهار والبيان. فأما مفهوم الإظهار والبيان فشيء واحد في حق الكل، فكأنه قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: إن وحدانية الله تعالى أمر قد ثبت بشهادة الله وشهادة جميع المعتبرين من خلقه، ومثل هذا الدين المبين والمنهج القويم لا يضعف بمخالفة بعض الجهال من النصارى وعبدة الأوثان، فأثبت أنت وقومك يا محمد على ذلك، فإنه هو الإسلام والدين عند الله هو الإسلام. وأما الثاني فهو قول من يقول شهادة الله تعالى على
٥٦] فالصلاة من الله غير الصلاة من الملائكة. فإن قيل: المدعي للوحدانية هو الله. فكيف يكون المدعي شاهدا؟ فالجواب أنه ليس الشاهد بالحقيقة إلا الله لأنه خلق الأشياء وجعلها دلائل على توحيده، ثم وفق العلماء لمعرفة تلك الدلائل والتوصل بها إلى معرفة الوحدانية، ثم وفقهم حتى أرشدوا غيرهم إلى ذلك ولهذا قال: قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللَّهُ [الأنعام: ١٩] وفي انتصاب قائِماً بِالْقِسْطِ وجوه: الأول أنه حال مؤكدة والتقدير: شهد الله قائما بالقسط، أو لا إله إلا هو قائما بالقسط. وهذا أوجه لكون الإلهية والتفرد بها مقتضيا للعدالة مثل: هذا أبوك عطوفا. أو لا رجل إلا عبد الله شجاعا. ويحتمل أن يكون حالا من «أولي العلم» أي حال كون كل واحد منهم قائما بالقسط في أداء هذه الشهادة.
الثاني أن يكون صفة للمنفي كأنه قيل: لا إله قائما بالقسط إلا هو. وقد رأيناهم يتسعون في الفصل بين الصفة والموصوف. الثالث أن يكون نصبا على المدح وإن كان نكرة كقوله:
ويأوي إلى نسوة عطل... وشعثا مراضيع مثل السعالى
ومعنى كونه قائما بالقسط قائما بالعدل كما يقال: فلان قائم بالتدبير أي يجريه على سنن الاستقامة، أو مقيما للعدل فيما يقسم من الأرزاق والآجال، ويثيب ويعاقب وفيما يأمر به عباده من إنصاف بعضهم لبعض والعمل على السوية فيما بينهم. واعلم أن وجوب الوجود يلزمه الغنى المطلق والعلم التام والفيض العام والحكمة الكاملة والرحمة الشاملة وعدم الانقسام بجهة من الجهات وعدم الافتقار بوجه من الوجوه الى شيء من الأشياء وعدم النقص والنقض في شيء من الأفعال والأحكام إلى غير ذلك من الأسماء الحسنى والصفات العليا. ومركوز في العقل السليم أن من هذا شأنه لا يصدر منه شيء إلا على وفق العدالة وقضية التسوية ورعاية الأصلح عموما أو خصوصا. فكل ما يخيل إلى المكلف أنه خارج عن قانون العدالة أو يشبه الجور أو القبح، وجب أن ينسب ذلك إلى قصور فهمه وعدم إحاطته التامة بسلسلة الأسباب والمسببات والمبادئ والغايات، فانظر في كيفية خلقه أعضاء الإنسان حتى تعرف عدل الله وحكمته فيها، ثم انظر إلى اختلاف أحوال الخلق في الحسن والقبح والغنى والفقر والصحة والسقم وطول العمر وقصره واللذة والألم، واقطع بأن كل ذلك عدل وصواب. ثم انظر في كيفية خلقه العناصر وأجرام الأفلاك والكواكب وتقدير كل منها بقدر معين وخاصية معينة، فكلها حكمة وعدالة. وانظر إلى تفاوت الخلائق
هو المسك ما كررته يتضوّع ثم أكد كونه منفردا بالألوهية وقائما بالعدل بقوله: الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ فالعزيز إشارة إلى كمال القدرة، والحكيم إشارة إلى كمال العلم. ولا تتم القدرة إلا بالتفرد والاستقلال، ولا العدالة إلا بالاطلاع على المصالح والأحوال إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ جملة مستأنفة مؤكدة للأولى. والدين في اللغة الجزاء ثم الطاعة. سميت دينا لأنها سبب الجزاء.
والإسلام في اللغة الانقياد والدخول في السلم أو في السلامة أو في إخلاص العبادة من قولهم: «سلم له الشيء» أي خلص له. والإسلام في عرف الشرع يطلق تارة على الإقرار باللسان في الظاهر ومنه قوله تعالى: قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا [الحجرات: ١٧] ويطلق أخرى على الانقياد الكلي وهو المراد هاهنا. وفيه إيذان بأن الدين هو العدل والتوحيد. أما التوحيد فأن يعلم أن الله تعالى لا شريك له ولا نظير في الذات ولا في صفة من الصفات كما شهد هو به، وأما العدل فهو أن يعلم أن كل ما خلق وأمر المكلف به ونهاه
لا أرى الموت يسبق الموت شيء وقيل: تقديره شهد الله أنه لا إله إلا هو وأن الدين عند الله الإسلام. وقيل: شهد الله أنه لا إله إلا هو أن الدين عند الله الإسلام. لأن كونه تعالى واحدا يوجب أن يكون الدين الحق هو الإسلام، لأن دين الإسلام مشتمل على هذه الوحدانية. وقرىء الأول بالكسر والثاني بالفتح على أن الفعل واقع على الثاني وما بينهما اعتراض. ثم ذكر أنه أوضح الدلائل وأزال الشبهات، والقوم ما كفروا إلا لقصورهم وتقصيرهم فقال: وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ قيل: هم اليهود واختلافهم أن موسى عليه السلام لما قرب وفاته سلم التوراة إلى سبعين رجلا من الأحبار وجعلهم أمناء عليها واستخلف يوشع، فلما مضى قرن بعد قرن اختلف أبناء السبعين بعد ما جاءهم التوراة بغيا بينهم وتحاسدا على طلب الدنيا.
وقيل: المراد النصارى واختلافهم في أمر عيسى عليه السلام بعد ما جاءهم العلم أنه عبد الله ورسوله. وقيل: المراد اليهود والنصارى واختلافهم هو أنه قالت اليهود عزير ابن الله، وقالت النصارى المسيح ابن الله. وأنكروا نبوة محمد ﷺ وقالوا: نحن أحق بالنبوة من قريش لأنهم أميون ونحن أهل كتاب. إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ أي الدلائل التي لو نظروا فيها لحصل لهم العلم. لأنا لو حملناه على العلم لزم نسبة العناد إلى جمع عظيم وهو بعيد قاله في التفسير الكبير. وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ لا يصعب عليه عد أفعاله ومعاصيه وإن كانت كثيرة، أو المراد أنه سيصل إلى الله سريعا فيحاسبه أي يجازيه على كفره. ثم بين للرسول ﷺ ما يقوله في محاجتهم فقال: فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ قال الفراء: أي أخلصت عملي لله. فعلى هذا «الوجه» في معنى العمل. وقيل:
أي أسلمت وجه عملي لله. فحذف المضاف والمعنى كل ما يصدر مني من الأعمال. فالوجه في الإتيان بها هو عبودية الله والانقياد لإلهيته وحكمه. وقيل: الوجه مقحم، والتقدير:
أسلمت نفسي لله، وليس في العبادة مقام أعلى من إسلام النفس كأنه موقوف على عبادته معرض عن كل ما سواه، وقوله: وَمَنِ اتَّبَعَنِ معطوف على الضمير المرفوع في أَسْلَمْتُ وحسن للفصل. أو مفعول معه والواو بمعنى «مع». ثم في كيفية إيراد هذا الكلام طريقان: أحدهما أن هذا إعراض عن المحاجة لأنه ﷺ كان قد أظهر المعجزات
وهذا طريق قد يذكره المحتج المحق مع المبطل المصر في آخر كلامه. وثانيهما أن قوله:
أَسْلَمْتُ محاجة وبيانه أن القوم كانوا مقرين بوجود الصانع وكونه مستحقا للعبادة، فكأنه ﷺ قال هذا القول متفق عليه بين الكل فأنا متمسك بهذا القدر المتفق عليه وداعي الخلق إليه، وإنما الخلاف في أمور وراء ذلك. فاليهود يدعون التشبيه والجسمية، والنصارى يدعون إلهية عيسى، والمشركون يدعون وجوب عبادة الأوثان. فهؤلاء هم المدعون لهذه الأشياء فعليهم إثباتها ونظير هذه الآية قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً [آل عمران: ٦٤] وعن أبي مسلم أن الآية في هذا الموضع كقول إبراهيم عليه السلام إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ [الأنعام: ٧٩] كأنه قيل: فإن نازعوك يا محمد في هذه التفاصيل فقل: أنا متمسك بطريقة إبراهيم وأنتم معترفون بأنه كان محقا في قوله صادقا في دينه، فيكون من باب التمسك بالإلزامات وداخلا تحت قوله: وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل: ١٢٥] وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ من اليهود والنصارى وَالْأُمِّيِّينَ وهم مشركو العرب الذين لا كتاب لهم أَسْلَمْتُمْ ومعناه الأمر وفائدته التعيير بالعناد وقلة الإنصاف كقولك لمن لخصت له المسألة ولم تأل جهدا في سلوك طريقة الكشف والبيان له: هل فهمتها؟ فإنه يكون توبيخا له بالبلادة وكلال الذهن ومثله في آية تحريم الخمر فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ [المائدة: ٩١] إشارة إلى التقاعد عن الانتهاء. فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا إلى ما يهدي الله إليه أو إلى الفوز والنجاة في الآخرة وَإِنْ تَوَلَّوْا أعرضوا عن الإسلام لي والاتباع لك فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ ما عليك إلا أن تبلغ الرسالة وتنبه على طريق الرشاد وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ يوفق للصلاح من شاء ويترك على الضلالة من أراد. ثم وصف المتولي بصفات ثلاث وأردفه بوعيده فقال:
إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ أي ببعضها المعهود لأن اليهود كانوا مقرين ببعض الآيات الدالة على وجود الصانع وقدرته وعلمه وشيء من المعاد أو بكلها كما هو ظاهر الجمع المضاف، وتوجيهه أن المكذب ببعض آيات الله كالكافر بجميعها وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ أي المعهودين لأنهم ما قتلوا كلهم ولا أكثرهم بِغَيْرِ حَقٍّ من غير ما شبهة عندهم وَيَقْتُلُونَ أو يقاتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس. عن الحسن أن في الآية دلالة على أن الآمر
وروي أن رجلا قام إلى رسول الله ﷺ فقال: أيّ الجهاد أفضل؟ فقال صلى الله عليه وسلم: أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر.
فإن قيل: إذا كان قوله: إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ في حكم المستقبل لا أقل من الحال لأنه وعيد لمن هو في زمن رسول الله، ولم يقع منهم قتل الأنبياء ولا القائمين بالقسط، فكيف يصح الكلام؟ قلنا: إن القوم كانوا يريدون قتل رسول الله ﷺ والمؤمنين جميعا، إلا أنه تعالى عصمهم منهم فصح إطلاق القاتل عليهم كما يقال: اسم قاتل أي ذلك من شأنه إن وجد القابل. أو نقول: وصفوا بسيرة أسلافهم لأنهم راضون بذلك. عن أبي عبيدة بن الجراح قلت: يا رسول الله أيّ الناس أشد عذابا يوم القيامة؟ قال: رجل قتل نبيا أو رجلا أمر بمعروف ونهى عن منكر ثم قرأ هذه الآية. ثم قال: يا أبا عبيدة قتلت بنو إسرائيل ثلاثة وأربعين نبيا من أول النهار في ساعة واحدة. فقام مائة واثنا عشر رجلا من عباد بني إسرائيل فأمروا قتلتهم بالمعروف ونهوهم عن المنكر فقتلوا جميعا من آخر النهار فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ إنما دخلت الفاء لتضمن اسم «إن» معنى الشرط، فإن لا يغير معنى الابتداء بخلاف «ليت» و «لعل».
واعلم أنه تعالى قسم وعيدهم إلى ثلاثة أقسام: الأول اجتماع أسباب الآلام والمكاره عليهم وهو العذاب الأليم، واستعارة البشارة هاهنا للتهكم. الثاني زوال أسباب المنافع عنهم بالكلية وهو قوله: أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ أما في الدنيا فإبدال المدح بالذم والثناء باللعن وأسباب الاحترام والاحتشام بأصناف الذل والهوان من السبي والقتل والجزية، وأما في الآخرة فكما قال عز من قائل وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً [الفرقان: ٢٣] الثالث لزوم ذلك في حقهم وهو قوله: وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ ثم ذكر غاية عناد أهل الكتاب فقال: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ
عن ابن عباس قال: دخل رسول الله ﷺ بيت المدراس على جماعة من اليهود فدعاهم إلى الله فقال له نعيم بن عمرو والحرث بن زيد: على أي دين أنت يا محمد؟ فقال: على ملة إبراهيم. فقالا: إن إبراهيم كان يهوديا. فقال رسول الله: فهلموا إلى التوراة فهي بيننا وبينكم فأبيا فنزلت.
وقال الكلبي: نزلت في اللذين زنيا من خيبر وحكم رسول الله ﷺ فيهما بالرجم وأنكر اليهود عليه صلى الله عليه وسلم
وسوف تجىء القصة في سورة المائدة مفصلة. وقيل: دعاهم النبي ﷺ أو إياهم والنصارى إلى الآيات الدالة على صحة نبوته من التوراة أو منها ومن الإنجيل فأبوا فنزلت.
ومعنى قوله: أُوتُوا نَصِيباً أي حظا وافرا من علم الكتاب يريد أحبار اليهود. و «من» إما للتبعيض وإما للبيان. والكتاب يراد به غير القرآن من الكتب التي كانوا مقرين بحقيتها.
٨] هي أيام عبادة العجل فاستوجبوا الذم من وجوه: أحدها استقصار مدة العذاب ومن أين لهم العلم بذلك؟ وثانيها أن عبادة العجل كفر والكفر يستحق به الكافر عذابا دائما. وثالثها أن استثناء الأيام المعدودات فقط فيه دليل على أنهم استحقروا تكذيب محمد ﷺ والقرآن وذلك كفر صريح. وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ من قولهم: نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ [المائدة: ١٨] أو من قولهم: لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً [البقرة: ٨] أو من قولهم «نحن أولى بالنبوة من قريش» أو من زعمهم أن آباءهم الأنبياء يشفعون لهم.
فَكَيْفَ يصنعون؟ أو فكيف حالهم؟ وفي هذا الحذف فخامة لما فيه من تحريك النفس على استحضار كل نوع من العذاب إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ قال الفراء: إذا قلت جمعوا اليوم الخميس معناه جمعوا لفعل يوجد في يوم الخميس. أما إذا قلت: جمعوا في يوم الخميس فلا تضمر فعلا. وأيضا من المعلوم أن ذلك اليوم لا فائدة فيه إلا المجازاة والفرق بين المثاب والمعاقب. وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ من ثواب أو عقاب أو جزاء
روي أن أول راية ترفع لأهل الموقف من رايات الكفار راية اليهود فيفضحهم الله على رؤوس الإشهاد ثم يأمر بهم إلى النار.
التأويل:
سَتُغْلَبُونَ إشارة إلى أن المبتلى بالكفر مغلوب الحكم الأزلي بالشقاوة رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا [المؤمنون: ١٠٦] ثم مغلوب الهوى والنفس والشيطان ولذات الدنيا. فبغلبات النفس والهوى يرد إلى أسفل سافلي الطبيعة فيعيش فيها ثم يموت على ما عاش فيه ويحشر على ما مات عليه في قعر جهنم وبئس المهاد، مهاد مهده في معاشه. قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا إن لله تعالى فئتين في الظاهر من المؤمن والكافر، وفئتين في الباطن من القلب وصفاته والنفس وصفاتها الذميمة، ولهما الحرب والالتقاء على الدوام وهو الجهاد الأكبر وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ من القلب وجنوده وهم الروح والسر والأوصاف الحميدة والملائكة، ومن النفس وأعوانها وهم الهوى والدنيا والأوصاف الذميمة والشياطين ثم أخبر عن جنود الفئتين وأعوان الفرقتين بقوله: زُيِّنَ لِلنَّاسِ. واعلم أن الله خلق الخلق على طبقات ثلاث: العوام ويعبر عنهم بلفظ الناس والغالب عليهم الهوى وهم أصحاب النفوس، والخواص ويعبر عنهم بلفظ المؤمن وهم أرباب الأرواح والغالب عليهم التقوى، وخواص الخواص ويذكرهم بلفظ الولي أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس: ٦٢] والغالب فيهم المحبة والشوق. ثم إن لجهنم سبع دركات محفوفة بالشهوات. فأشار بالنساء إلى شهوة الفرج، وبالبنين إلى شهوة الطبيعة الحيوانية المائلة إلى الولد، وبالقناطير المقنطرة من الذهب والفضة إلى شهوة الحرص على المال، وبالخيل المسوّمة إلى شهوة الجاه والخيلاء بالركوب عليها، وبالأنعام إلى شهوة الجمال والاقتناء وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ [النحل: ٦] وبالحرث إلى شهوة الحكم والرياسة على الرعايا وأهل القرى. ثم ذكر درجات الجنات الثمانية للخواص منها التقوى للذين اتقوا والرضا بالقضاء وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ والإيمان رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا والصبر والصدق والقنوت والإنفاق والاستغفار بالأسحار هذه جنات عاجلة تجري من تحتها الأنهار الألطاف والواردات. والأزواج المطهرة الأخلاق الفاضلة التي تتولد منها، فإذا عاش في الجنات مات وحشر كذلك. ثم أشار إلى أحوال خواص الخواص مستورة من نظر الخواص محفوظة عن فهم العوام بقوله: وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ ما احلولى لهم الدنيا يا دنيا مري على أوليائي ولا وقفوا عند جنة المأوى ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى [النجم: ١٧] وإنما طلبوا قرب المولى لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى [يونس: ٢٦] شَهِدَ اللَّهُ بكلامه
شهد بجلال قدره على كمال عزه حين لا حين ولا أين ولا عقل ولا جهل ولا غير ولا شرك ولا عرش ولا فرش ولا الجنة ولا النار ولا الليل ولا النهار ولا الجن ولا الإنس ولا الملائكة ولا أولو العلم ولا الإنكار ولا الإقرار، فأخبر الذي كان عما كان كما كان وهو أنه لا إله إلا هو، ثم أبدع الموجودات كما شاء على ما شاء لما شاء. فكل جزء من أجزائها، وكل ذرة من ذراتها، بوجوده مفصح، ولربوبيته موضح، وعلى قدمه شاهد، ولكن ينبوع ماء التوحيد هو القدم فجرى في مجاري أنهار المحدثات إلى أن ظهر من عيون الملائكة وأولي العلم. ثم الملائكة وإن كانوا مظهر ماء التوحيد كما كان أولو العلم، ولكن اختص أولو العلم منهم بمشربية وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها [الفتح: ٢٦].
لي سكرتان وللندمان واحدة | شيء خصصت به من بينهم وحدي |
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٢٦ الى ٣٤]
قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٦) تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (٢٧) لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (٢٨) قُلْ إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٩) يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ (٣٠)
قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣١) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ (٣٢) إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ (٣٣) ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٣٤)
القراآت:
الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ بالتشديد على «فيعل» حيث كان: أبو جعفر ونافع وحمزة وعلي وخلف وسهل ويعقوب وعاصم غير أبي بكر وحماد. الباقون بالتخفيف على «فيل». مِنْهُمْ تُقاةً بكسر القاف وفتح الياء وتشديدها: أبو زيد عن المفضل وسهل ويعقوب. الباقون تُقاةً بضم التاء. وقرأ حمزة وعلي وخلف بالإمالة.
الوقوف:
مِمَّنْ تَشاءُ ط لتناهي الجملتين المتضايفتين معنى إلى جملتين مثلهما وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ ط الْخَيْرُ ط قَدِيرٌ هـ، فِي اللَّيْلِ ز للفصل بين الجملتين المتضادتين مِنَ الْحَيِّ ز لعطف المتفقتين حِسابٍ هـ، الْمُؤْمِنِينَ ج تُقاةً ط نَفْسَهُ ط الْمَصِيرُ هـ، يَعْلَمْهُ اللَّهُ ط وَما فِي الْأَرْضِ ط قَدِيرٌ هـ، مُحْضَراً ج والأجوز أن يوقف على سُوءٍ تقديره وما عملت من سوء كذلك. بَعِيداً ط نَفْسَهُ ط بِالْعِبادِ هـ ذُنُوبَكُمْ ط رَحِيمٌ هـ وَالرَّسُولَ ج لابتداء الشرط مع فاء التعقيب. الْكافِرِينَ هـ، الْعالَمِينَ (لا) لأن ذُرِّيَّةً بدل. مِنْ بَعْضٍ ج عَلِيمٌ (لا) لاحتمال أن «إذ» متعلق بالوصفين أي سمع دعاءها وعلم رجاءها حين قالت، أو اصطفى آل عمران وقت قولها ولاحتمال نصب «إذ» بإضمار «اذكر».
إنه سبحانه لما ذكر من طريقة المعاندين ما ذكر، علم نبيه ﷺ طريقة مباينة لطريقتهم من كيفية التمجيد والتعظيم فقال: قُلِ اللَّهُمَّ ومعناه عند سيبويه يا الله والميم المشددة عوض عن الياء. وإنما أخرت تبركا باسم الله تعالى وهذا من خصائص اسم الله.
كما اختص بدخول تاء القسم، وبدخول حرف النداء عليه مع لام التعريف، وبقطع همزته في يا الله. وعند الكوفيين أصله يا الله أمنا بخير أي اقصدنا، فلما كثر في الكلام حذفوا حرف النداء. وخففت الهمزة من أمّ. وزيف بأن التقدير لو كان كذلك لزم أن يذكر الدعاء بعده بالعطف مثل: اللهم واغفر لنا. ولجاز أن يتكلم به على أصله من غير تخفيف الهمزة وبإثبات حرف النداء وأجيب بأنه إنما لم يوسط العاطف لئلا يصير السؤال سؤالين ضرورة مغايرة المعطوف للمعطوف عليه بخلاف ما لو جعل الثاني تفسيرا للأول فيكون آكد. وبأن الأصل كثيرا ما يصير متروكا مثل: ما أكرمه فإنه لا يقال: شيء ما أكرمه في التعجب.
ومالِكَ الْمُلْكِ نداء مستأنف عند سيبويه. فإن النداء بأللهم لا يوصف كما لا توصف أخواته من الأسماء المختصة بالنداء نحو: يا هناه ويا نومان ويا ملكعان وفل. وأجاز المبرد نصبه على النعت كما جاز في «يا الله».
عن ابن عباس وأنس بن مالك أن رسول الله ﷺ حين افتتح مكة وعد أمته ملك فارس والروم فقال المنافقون واليهود: هيهات هيهات من أين لمحمد ملك فارس والروم؟ هم أعز وأمنع من ذلك فنزلت الآية.
وعن عمرو بن عون أن رسول الله ﷺ لما خط الخندق عام الأحزاب وقطع لكل عشرة أربعين ذراعا وأخذوا يحفرون، خرج من بطن الخندق صخرة كالتل العظيم لم تعمل فيها المعاول، فوجهوا سلمان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، يخبره صلى الله عليه وسلم، فأخذ المعول من سلمان فضربها ﷺ ضربة صدعتها وبرق منها برق أضاء ما بين لابتيها كالمصباح في جوف بيت مظلم، وكبر ﷺ وكبر المسلمون وقال صلى الله عليه وسلم: أضاءت لي منها قصور الحيرة كأنها أنياب الكلاب، ثم ضرب الثانية فقال صلى الله عليه وسلم: أضاءت لي منها القصور الحمر من أرض الروم، ثم ضرب ﷺ الثالثة فقال:
أضاءت لي قصور صنعاء، وأخبرني جبرائيل أن أمتي ظاهرة على كلها فأبشروا. فقال المنافقون: ألا تعجبون يمنيكم ويعدكم الباطل ويخبركم أنه يبصر من يثرب قصور الحيرة ومدائن كسرى وأنها تفتح لكم وأنتم إنما تحفرون الخندق من الفرق لا تستطيعون أن تبرزوا فنزلت.
وقال الحسن: إن الله تعالى أمر نبيه أن يسأله أن يعطيه ملك فارس والروم ويرد ذل العرب عليهما. وأمره بذلك دليل على أنه يستجيب له ﷺ هذا الدعاء وهكذا منازل الأنبياء إذا أمروا بدعاء استجيب دعاؤهم. مالِكَ الْمُلْكِ أي تملك جنس الملاك فيتصرف فيه تصرف الملاك فيما يملكون، وفيه أن قدرة الخلق في كل ما يقدرون عليه ليست إلا بأقدار
وقد روينا في تفسير قوله: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ [آل عمران: ١٢] أن اليهود تكبروا على النبي ﷺ بكثرة عددهم وعددهم فرد الله تعالى على جميع هؤلاء الطوائف بأنه سبحانه مالك الملك يؤتي الملك- وهو النبوة- من يشاء، وينزع الملك- النبوة- ممن يشاء لا بمعنى أنه يعزله عن النبوة فإن ذلك غير جائز بالإجماع بل بمعنى أنه ينقلها من نسل إلى نسل كما نزع عن بني إسرائيل ووضع في العرب، أو بمعنى أنه لا يعطيه النبوة ابتداء كقوله: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ [البقرة: ٢٥٧] فإنه يتناول من لم يكن في ظلمة الكفر قط. ومثله أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا [الأعراف: ٨٨] مع أن الأنبياء لم يكونوا في ملتهم قط حتى يتصور العود إليها. وقيل: المراد من الملك التسلط الظاهر وهو الاقتدار على المال بأنواعه وعلى الجاه، وهو أن يكون مهيبا عند الناس وجيها غالبا مظفرا مطاعا. ومن المعلوم أن كل ذلك بإيتاء الله تعالى. فكم من عاقل قليل المال، ورب جاهل غافل رخي البال، وقد رأينا كثيرا من الملوك بذلوا الأموال لتحصيل الحشمة والجاه وما ازدادوا إلا حقارة وخمولا، فعلمنا أن الكل بإيتاء الله تعالى سواء في ذلك ملوك العدل وملوك الجور، لأن حصول الملك للجائر إن لم يقع بفاعل ففيه سد باب إثبات الصانع، وإن حصل بفعل المتغلب فكل أحد يتمنى حصول الملك والدولة لنفسه ولا يتيسر له. فلم يبق إلا أن يكون من مسبب الأسباب وفاعل الكل ومدبر الأمور وناظم مصالح الجمهور.
لو كان بالحيل الغنى لوجدتني | بتخوم أقطار السماء تعلقي |
لكن من رزق الحجى حرم الغنى | ضدان مفترقان أيّ تفرق |
ومن الدليل على القضاء وكونه | بؤس اللبيب وطيب عيش الأحمق |
تود عدوّي ثم تزعم أنني | صديقك ليس النوك عنك بعازب |
وإن أتاه خليل يوم مسغبة | يقول لا غائب ما لي ولا حرم |
قال الحسن وابن جريج: زعم أقوام على عهد رسول الله ﷺ أنهم يحبون الله فقالوا: يا محمد إنا نحب ربنا فأنزل الله هذه الآية.
وروى الضحاك عن ابن عباس قال: وقف النبي ﷺ على قريش وهم في المسجد الحرام وقد نصبوا أصنامهم وعلقوا عليها بيض النعام وجعلوا في آذانها الشنوف وهم يسجدون لها فقال: يا معشر قريش، لقد خالفتم ملة أبيكم إبراهيم وإسماعيل ولقد كانا على الإسلام. فقالت قريش: يا محمد إنا نعبد هذه حبا لله ليقربونا إلى الله زلفى. فأنزل الله قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ وتعبدون الأصنام لتقربكم إليه فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ فأنا رسوله إليكم وحجته عليكم وأنا أولى بالتعظيم من أصنامكم.
وروى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أنها نزلت حين زعمت اليهود أنهم أبناء الله وأحباؤه.
وقيل: نزلت في نصارى نجران زعموا أنهم يعظمون المسيح ويعبدونه حبا لله وتعظيما له.
والحاصل أن كل من يدعي محبة الله تعالى من فرق العقلاء فلا بد أن يكون في غاية الحذر مما يوجب سخطه، فإذا قامت الدلائل العقلية والمعجزات الحسية على نبوة محمد ﷺ وجبت متابعته. فليس في متابعته إلا أنه يدعوهم إلى طاعة الله وتعظيمه وترك تعظيم غيره.
فمن أحب الله كان راغبا فيه لأن المحبة توجب الإقبال بالكلية على المحبوب والإعراض بالكلية عن غيره، وقد مر في تفسير قوله: وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ [البقرة: ١٦٥] تحقيق المحبة وأنها من الله تعالى عبارة عن إعطاء الثواب. وقال: وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ليدل مع إيفاء الثواب على إزالة العقاب وهذه غاية ما يطلبه كل عاقل. وَاللَّهُ غَفُورٌ في الدنيا يستر على عبده أنواع المعاصي رَحِيمٌ في الآخرة يثيبه على مثقال الذرة من الطاعة والحسنة.
يروى أنه لما نزل قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي قال عبد الله بن أبيّ إن محمدا يجعل طاعته كطاعة الله ويأمرنا أن نحبه كما أحب النصارى عيسى فنزلت قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ
وذلك أن الآية الأولى لما اقتضت وجوب متابعته ثم إن المنافق ألقى شبهة في البين أمره الله تعالى أن يقول: إنما أوجب الله عليكم متابعتي لا لما يقوله النصارى في عيسى بل لكوني رسولا من عند الله ومبلغ تكاليفه فَإِنْ تَوَلَّوْا أعرضوا أو تعرضوا على أن يكون التاء الأولى محذوفة ويدخل في جملة ما يقوله الرسول لهم، فإنه لا يحصل للكافرين محبة الله لأنها عبارة عن الثناء لهم وإيصال الثواب إليهم، والكافر يستحق الذم واللعن وهذا ضد المحبة. ثم إنه تعالى لما بين أن محبته لا تتم إلا بمتابعة الرسل بيّن علو
فقوله ﷺ «زويت لي الأرض فأريت مشارقها ومغاربها» «١»
وقوله: «أقيموا صفوفكم وتراصوا فإني أراكم من وراء ظهري» «٢»
وهذا يدل على كمال القوة الباصرة ونظيرها ما حصل لإبراهيم عليه السلام وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الأنعام: ٧٥] ذكروا في تفسيره أن الله تعالى قوّى بصره حتى شاهد جميع الملكوت وليس بمستبعد، فإنه يروى أن زرقاء اليمامة كانت تبصر من مسيرة ثلاثة أيام. ويقال: إن النسر وغيره من عظام الجوارح يرتفع فيرى صيده من مائة فرسخ.
وقال صلى الله عليه وسلم: «أطت السماء وحق لها أن تئط» «٣»
فسمع أطيط السماء.
ومثله ما زعمت الفلاسفة أن فيثاغورس راض نفسه حتى سمع حفيف الفلك. وقد سمع سليمان كلام النمل وفهمه.
ومثله ما يروى أن النبي ﷺ تكلم مع الذئب ومع البعير، وقد وجد يعقوب ﷺ ريح يوسف من مسيرة أيام. وقال ﷺ «إن هذا الذراع يخبرني أنه مسموم» «٤»
وهو دليل كمال قوة الذوق. وجعل النار بردا وسلاما على إبراهيم، قيل: وهو دليل قوة اللمس كما في النعامة والسمندل وفيه نظر، إذ لا إدراك هاهنا فكيف يستدل به على قوة الإدراك؟ بل يجب أن يحمل هذا على معنى آخر وهو أنه تعالى لا يبعد أن يجعل المنافي ملائما للإعجاز أو لخاصية أودعها في المنافي حتى يصير ملائما. وأما الحواس الباطنة فمنها قوة الحفظ قال تعالى: سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى [الأعلى: ٦] ومنها قوة الذكاء
قال علي رضي
(٢) رواه البخاري في كتاب الأذان باب ٧٦. النسائي في كتاب الإمامة باب ٢٨، ٤٧. أحمد في مسنده (٢/ ٩٨).
(٣) رواه الترمذي في كتاب الزهد باب ٩. ابن ماجه في كتاب الزهد باب ١٩. أحمد في مسنده (٥/ ١٧٣).
(٤) رواه البخاري في كتاب الهبة باب ٢٨. الدارمي في كتاب المقدمة باب ١١. أحمد في مسنده (٢/ ٤٥١).
وإذا كان حال الولي هكذا فكيف حال النبي؟ وأما القوة المحركة فكعروج النبي ﷺ وعروج عيسى عليه السلام إلى السماء، وكرفع إدريس وإلياس على ما ورد في الأخبار. وأما القوة الروحانية العقلية فنقول: إن النفس القدسية النبوية مخالفة بماهيتها لسائر النفوس، أو كالمخالفة صفاء ونورية وانجذابا إلى عالم الأرواح، فلا جرم تجري عليها الأنوار الفائضة من المبادئ العالية أتم من سائر النفوس وأكمل، ولهذا بعثت مكملة للناقصين ومعلمة للجاهلين ومرشدة للطالبين مصطفاة على العالمين من جميع سكان الأرضين عند من يقول الملك أفضل من البشر، أو من سكان السموات أيضا عند من يرى البشر أفضل المخلوقات.
ثم إن القرآن دل على أن أول الأنبياء اصطفاء آدم صفي الله وخليفته. ثم إنه وضع كمال القوة الروحانية في شعبة معينة من أولاد آدم وهم: شيث وأولاده إلى إدريس، ثم إلى نوح ثم إلى إبراهيم ثم انشعب من إبراهيم ﷺ شعبتان: إسماعيل وإسحق. فجعل إسماعيل مبدأ لظهور الروح القدسية لمحمد صلى الله عليه وسلم، وجعل إسحق مبدأ لشعبتين يعقوب وعيص. فوضع النبوة في نسل يعقوب، ووضع الملك في نسل عيص، واستمر ذلك إلى زمان محمد صلى الله عليه وسلم. فلما ظهر محمد ﷺ نقل نور النبوة ونور الملك إليه ﷺ وبقي الدين والملك في أمته ﷺ إلى يوم القيامة، فالمراد بآل إبراهيم أولاده عليهم الصلاة والسلام وهو المطلوب بقوله: وَمِنْ ذُرِّيَّتِي [البقرة: ١٢٤] بعد قوله: إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً [البقرة: ١٢٤] وأما آل عمران فقيل: أولاد عمران بن يصهر والدموسي وهارون. وقيل: المراد بعمران والد مريم وهو عمران بن ماثان بدليل قوله عقيبه إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ [آل عمران: ٣٥] ولا شك أنه عمران بن ماثان جد عيسى من قبل الأم، ولأن الكلام سيق للنصارى الذين يحتجون على إلهية عيسى عليه السلام بالخوارق التي ظهرت على يده. فالله تعالى يقول: إن ذلك باصطفاء الله إياه لا لكونه شريكا للإله ولأن هذا اللفظ شديد المطابقة لقوله تعالى:
وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ [الأنبياء: ٩١]. ذُرِّيَّةً بدل ممن سوى آدم بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ قيل: أي في التوحيد والإخلاص والطاعة كقوله: الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ [التوبة: ٦٧] وذلك لاشتراكهم في النفاق. وقيل: معناه أن غير آدم كانوا متوالدين من آدم. وقيل: يعني أن الآلين ذرية واحدة متسلسلة بعضها متشعب من بعض، موسى وهارون من عمران، وعمران من يصهر، ويصهر من قاهث، وقاهث من لاوي، ولاوي من يعقوب، ويعقوب من إسحق. وكذلك عيسى من مريم، ومريم بنت عمران بن ماثان. ثم قال في الكشاف: ماثان بن سليمان بن داود بن ايشا بن يهوذا بن يعقوب بن إسحق وفيه نظر، لأن بين ماثان وسليمان قوما آخرين، وكذلك بين ايشا ويهوذا. وَاللَّهُ
لأقوال العباد عَلِيمٌ بضمائرهم وأفعالهم فيصطفي من خلقه من يعلم استقامته قولا وفعلا. ويحتمل أن يكون الكلام مع اليهود والنصارى الذين كانوا يقولون نحن أبناء الله وأحباؤه تغريرا للعوام مع علمهم ببطلان هذا الكلام، فيكون أول الكلام تشريفا للمرسلين وآخره تهديدا للمبطلين كأنه قيل: والله سميع لأقوالهم الباطلة، عليم بأغراضهم الفاسدة فيجازيهم بحسب ذلك. ويحتمل أن يتعلق بما بعده كما في الوقوف.
التأويل:
مالك الملك هو ملك الوجود فلا وجود بالحقيقة إلا له، تؤتي الوجود من تشاء وتنزع الوجود ممن تشاء، فتخلق بعض الموجودات مستعدا للبقاء كالملائكة والإنسان، توجد بعضها قابلا للفناء كالنبات والحيوان غير الإنسان. وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ بعزة الوجود النوري، وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بذل القبض القهري، بيدك الخير. إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ تضمين للدعاء بذكر السبب كما يقال للجواد إنك الذي يقدر على إعطاء كل خير فأتنا وأعزنا يا مفيض كل خير، ويا كاشف كل ضير. تولج ليل ظلمات الصفات البشرية النفسانية في نهار أنوار الصفات الروحانية وبالعكس، تخرج القلب الحي بالحياة الحقيقية من النفس الميتة، وتخرج القلب الميت عن الحياة الحقيقية من النفس الحية بالحياة المجازية الحيوانية. لا يتخذ القلب المؤمن والروح والسر وصفاتها الكافرين من النفس الأمّارة والشيطان والهوى والدنيا أولياء من دون المؤمنين من القلب والروح والسر، ومن يفعل ذلك من القلوب فليس من أنوار الله وألطافه في شيء إلا أن تخافوا من هلاك النفوس.
فالنفس مركب الروح فتواسوها كيلا تعجز عن السير في الرجوع وتهلك في الطريق من شدة الرياضات وكثرة المجاهدات. وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ أي من صفات قهره قُلْ إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ من معاداة الحق في ضمن موالاة النفس وَيَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ قلوبكم وَما فِي الْأَرْضِ نفوسكم يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ أثر الخير والشر ظاهر في ذات المرء وصفاته، وبحسب ذلك يبيض وجه قلبه أو يسود ولكنه في غفلة من هذا محجوب عنه بحجاب النفس والجسم كمثل نائم لدغته حية كحية الكفر والخصال الذميمة فلا يحس بها ما دام نائما نوم الغفلة، فإذا مات انتبه وأحس، ثم أخبر عن طريق الوصول أنه في متابعة الرسول. واعلم أن للاتباع ثلاث درجات، ولمحبة المحب ثلاث درجات، ولمحبة الله للمحب التابع على حسب الاتباع ثلاث درجات. أما درجات الاتباع فالأولى درجة عوام المؤمنين وهي متابعة أعماله صلى الله عليه وسلم، والثانية درجة الخواص وهي متابعة أخلاقه، والثالثة درجة أخص الخواص وهي متابعة أحواله. وأما درجات محبة المحب فالأولى محبة العوام وهي مطالعة المنة من رؤية إحسان المحسن
«جبلت القلوب على حب من أحسن إليها»
وهذا حب
وما أنا بالباغي على الحب رشوة... ضعيف هوى يرجى عليه ثواب
والثانية محبة الخواص المتبعين للأخلاق الذين يحبونه إعظاما وإجلالا له، ولأنه أهل لذلك كما قالت رابعة:
أحبك حبين حب الهوى... وحب لأنك أهل لذاكا
ويضطر هذا المحب في هذه الدرجة إلى إيثار الحق على غيره، وهذا الحب يبقى على الأبد بقاء الكمال والجلال على السرمد وفيه قال:
سأعبد الله لا أرجو مثوبته... لكن تعبد إعظام وإجلال
والثالثة محبة أخص الخواص المتبعين للأحوال وهي الناشئة من الجذبة الإلهية في مكان من
«كنت كنزا مخفيا فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق لأعرف»
وأهل هذه المحبة هم المستعدون لكمال المعرفة بسبق العناية،
غذينا بالمحبة يوم قالت... له الدنيا أتينا طائعينا
وحقيقة هذه المحبة أن يفنى المحب بسطوتها وتبقى المحبة فيه بلا هو كما أن النار تفني الحطب بسطوتها وتبقى النار منه بلا هو. وحقيقة هذه المحبة نار لا تبقي ولا تذر.
وأما درجات محبة الله للعبد فاعلم أن كل صفة من صفات الله تعالى من العلم والقدرة والإرادة وغيرها فإنها لا تشبه في الحقيقة صفات المخلوقين، حتى الوجود فإنه وإن عم الخالق والمخلوق إلا أن وجوده واجب بنفسه ووجود غيره ممكن في ذاته واجب به، فليس في الكون إلا الله وأفعاله. قرأ القارئ بين يدي الشيخ أبي سعيد بن أبي الخير رحمه الله قوله: يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ [المائدة: ٥٤] فقال: بحق يحبهم لأنه لا يحب إلا نفسه فليس في الوجود إلا هو، وما سواه فهو من صنعه. والصانع إذا مدح صنعه فقد مدح نفسه. والغرض أن محبة الله للخلق عائدة إليه حقيقة إلا أنه لما كان مرورها على الخلق فبحسب ذلك اختلفت مراتبها، مع أنها صدرت عن محل واحد هو محل
«كنت كنزا مخفيا فأحببت أن أعرف»
فما تعلقت إلا بأهل المعرفة وذلك
قوله: «فخلقت الخلق لأعرف»
لكنها تعلقت بالعوام من أهل المعرفة بالرحمة ومشربهم الأعمال فقيل لهم فَاتَّبِعُونِي بالأعمال الصالحة يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ يخصكم بالرحمة وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذنوبكم التي صدرت منكم على خلاف
فَاتَّبِعُونِي بمكارم الأخلاق يحببكم بالفضل يخصكم بتجلي صفات الجمال وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ يستر ظلمة صفاتكم بأنوار صفاته. وتعلقت بالأخص من أهل المعرفة بالجذبات ومشربهم الأحوال فقيل لهم فَاتَّبِعُونِي ببذل الوجود يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ يخصكم بجذبكم إلى نفسه وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذنوب وجودكم فيمحوكم عنكم ويثبتكم به كما
قال: «فإذا أحببته كنت له سمعا وبصرا ولسانا ويدا» «١»
فهم بين روضة المحو وغدير الإثبات أحياء غير أموات، ويكون في هذا المقام المحب والمحبوب والمحبة واحدا كما أن الرائي في المرآة يشاهد ذاته بذاته وصفاته بصفاته فيكون الرائي والمرئي والرؤية واحدا. قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فإن متابعته صورة جذبة الحق وصدف درّة محبته لكم. إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وذلك أن الله تعالى خلق العالمين سبعة أنواع: الجماد والمعدن والنبات والحيوان والنفوس والعقول والأرواح، وجمع في آدم جميع الأنواع وخصه بتشريف ثامن هو تشريف وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي [ص: ٧٢] فهو المظهر لجميع آياته وصفاته وذاته وهو معنى جعله خليفة ومعنى
قوله ﷺ «وإن الله خلق آدم على صورته» «٢»
ثم ذكر خواص أولاد آدم نوحا وآل إبراهيم وآل عمران والمراد بالآل كل مؤمن تقي بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ بالوراثة الدينية
«العلماء ورثة الأنبياء» «٣»
فالعالم كشجرة وثمرتها أهل المعرفة وَاللَّهُ سَمِيعٌ لدعائهم عَلِيمٌ بأحوالهم وخصالهم.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٣٥ الى ٤١]
إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٣٥) فَلَمَّا وَضَعَتْها قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (٣٦) فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (٣٧) هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ (٣٨) فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (٣٩)
قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عاقِرٌ قالَ كَذلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ (٤٠) قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ (٤١)
(٢) رواه أحمد في مسنده (٢/ ٢٤٤، ٢٥١). البخاري في كتاب الاستئذان باب ١. مسلم في كتاب البر حديث ١١٥.
(٣) رواه البخاري في كتاب العلم باب ١٠. أبو داود في كتاب العلم باب ١. ابن ماجه في المقدمة باب ١٧. الدارمي في كتاب المقدمة باب ٣٢. أحمد في مسنده (٥/ ١٩٦).
مِنِّي إِنَّكَ بفتح الياء: أبو جعفر ونافع وأبو عمرو. بِما وَضَعَتْ على الحكاية: ابن عامر ويعقوب وأبو بكر وحماد. الباقون وَضَعَتْ على الغيبة. وَإِنِّي أُعِيذُها بفتح الياء: أبو جعفر ونافع. وَكَفَّلَها مشددة: عاصم وحمزة وعلي وخلف.
الباقون خفيفا زَكَرِيَّا مقصورا كل القرآن: حمزة وعلي وخلف وعاصم غير أبي بكر وحماد. وقرأ أبو بكر وحماد بالمد والنصب هاهنا. الباقون بالمد والرفع. فناديه بالياء والإمالة: علي وحمزة وخلف. الباقون فَنادَتْهُ بتاء التأنيث فِي الْمِحْرابِ بالإمالة حيث كان مخفوضا. قتيبة وابن ذكوان أَنَّ اللَّهَ بكسر «إن» : ابن عامر وحمزة. الباقون بالفتح.
يُبَشِّرُكَ وما بعده من البشارة خفيفا: حمزة وعلي. الباقون بالتشديد لِي آيَةً بفتح الياء: أبو جعفر ونافع وأبو عمرو وابن شنبوذ عن ابن كثير.
الوقوف:
مِنِّي ج للابتداء ولاحتمال لأنك الْعَلِيمُ هـ أُنْثى ط لمن قرأ بِما وَضَعَتْ بتاء التأنيث الساكنة، ومن قرأ على الحكاية لم يقف لأنه يجعلها من كلامها.
بِما وَضَعَتْ ط كَالْأُنْثى ج للابتداء بأن، ولاحتمال أن المجموع كلام واحد من قولها على قراءة من قرأ وَضَعَتْ بالضم الرَّجِيمِ هـ حَسَناً ص لمن قرأ وَكَفَّلَها مخففا لتبدل فاعله، فإن فاعل المخفف زَكَرِيَّا وفاعل المشدد الرب. وقد يعدى إلى مفعولين كقوله: أَكْفِلْنِيها [ص: ٢٣] الْمِحْرابَ (لا) لأن وَجَدَ جواب كُلَّما رِزْقاً ج لاتحاد فاعل الفعلين مع عدم العاطف هذا ط مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ط حِسابٍ هـ رَبَّهُ ج لما قلنا في رِزْقاً طَيِّبَةً ج للابتداء ولجواز لأنك الدُّعاءِ هـ فِي الْمِحْرابِ (لا) وان كسر «إن» لأن من كسر جعل النداء في معنى القول الصَّالِحِينَ هـ عاقِرٌ ط ما يَشاءُ هـ آيَةً ط وَالْإِبْكارِ هـ.
التفسير:
إنه سبحانه ذكر في هذا المقام قصصا. القصة الأولى قصة حنة أم مريم البتول زوجة ابن عمران بن ماثان بنت فاقوذ أخت إيشاع التي كانت تحت زكريا بن أذن.
روي أن حنة كانت عاقرا لم تلد إلى أن كبرت وعجزت. فبينما هي في ظل شجرة بصرت بطائر يطعم فرخا له، فتحركت نفسها للولد وتمنته فقالت: اللهم إن لك عليّ نذرا شكرا إن رزقتني ولدا أن أتصدق به على بيت المقدس فيكون من سدنته وخدمته. فحملت بمريم
قال الحسن: إنما فعلت ذلك بإلهام الله تعالى كما ألهم أم موسى فقذفته في أليم. عن الشعبي: محررا مخلصا للعبادة. وتحرير العبد تخليصه من الرق، وحررت الكتاب إذا أصلحته وخلص من الغلط، ورجل حر إذا كان خالصا لنفسه ليس لأحد عليه يد وتصرف. قال الأصم: لم يكن لبني إسرائيل غنيمة ولا سبي، وكان في دينهم أن الولد إذا صار بحيث يمكن استخدامه كان يجب عليه خدمة الأبوين. فكانوا بالنذر يتركون ذلك النوع عن الانتفاع ويجعلون الأولاد محررين لخدمة المسجد وطاعة الله تعالى، حتى إذا بلغ الحلم كان مخيرا. فإن أبى المقام وأراد أن يذهب ذهب، وإن اختار المقام فلا خيار له بعد ذلك. ولم يكن نبي إلا ومن نسله محرر في بيت المقدس، وما كان هذا التحرير إلا في الغلمان. لأن الجارية يصيبها الحيض والقذر، ثم إنها نذرت مطلقا إما لبناء الأمر على الفرض والتقدير، وإما لأنها جعلت النذر وسيلة إلى طلب الولد الذكر. مُحَرَّراً حال من «ما». وعن ابن قتيبة: المعنى نذرت لك أن أجعل ما في بطني محررا. فلما وضعتها يعني ما في بطنها لأنها كانت أنثى في علم الله، أو على تأويل النفس أو النسمة أو الحبلة.
والحبل بفتح الباء مصدر بمعنى المحبول، كما سمي بالحمل، ثم أدخلت عليه التاء للإشعار بمعنى الأنوثة فيه، ومنه
الحديث «نهى عن حبل الحبلة»
ومعناه أن يبيع ما سوف يحمله الجنين الذي في بطن الناقة على تقدير أنه يكون أنثى. قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها حال كونها أُنْثى ثم من قرأ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ على الحكاية فمجموع الكلام إلى آخر الآية من قولها، ويكون فائدة قولها إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى الاعتذار عن إطلاق النذر الذي تقدم منها، والخوف من أنها لا تقع الموقع الذي يعتد به والتحزن إلى ربها والتحسر على ما رأت من خيبة رجائها وعكس تقديرها. ثم خافت أن يظن بها أنها قالت ذلك لإعلام الله تعالى فقالت: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى ليس جنس الذكور كجنس الإناث لا سيما في باب السدانة، فإن تحرير غير الذكور لم يكن جائزا في شرعهم، والذكر يمكن له الاستمرار على الخدمة دون الأنثى لعوارض النسوان، ولأن الأنثى لا تقوى على الخدمة لأنها محل التهمة عند الاختلاط. ويحتمل أن تكون عارفة بالله واثقة بأن كل ما صدر عنه فإنه يكون خيرا وصوابا فقالت: رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى ولكنك أعرف وأعلم بحال ما وضعت فلعل لك فيه سرا وَلَيْسَ الذَّكَرُ الذي طلبت كَالْأُنْثى التي وهبت لي لأنك لا تفعل إلا ما فيه حكمة ومصلحة، فعلى هذا اللام في الذكر وفي الأنثى لمعهود حاضر ذهني لكنها في الذكر لحاضر ذهني تقديرا لدلالة ما في بطني عليه ضمنا، وفي الأنثى لحاضر ذهني حقيقة لتقدم لفظة أنثى. ومن قرأ بِما وَضَعَتْ بسكون التاء للتأنيث فالجملتان أعني
ثم زاده بيانا وإيضاحا فقال: وَلَيْسَ الذَّكَرُ الذي طلبت كَالْأُنْثى التي وهبت لها.
وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ وذلك أن أباها قد مات عند وضعها فلهذا تولت الأم تسميتها. ومريم في لغتهم العابدة. فأرادت بقولها ذلك التقرب والطلب إلى الله أن يعصمها حتى يكون فعلها مطابقا لاسمها، ولهذا أردف ذلك بطلب الإعاذة لها ولولدها من الشيطان فَتَقَبَّلَها رَبُّها الضمير يعود إلى امرأة عمران ظاهرا بدليل أنها التي خاطبت ونادت بقولها رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها ويحتمل أن يعود إلى مريم فيكون فيه إشارة إلى أنه كما رباها في بطن أمها فسيربيها بعد ذلك بِقَبُولٍ حَسَنٍ تقبلت الشيء وقبلته إذا رضيته لنفسك. قبولا بفتح القاف وهو مصدر شاذ حتى حكي أنه لم يسمع غيره. وأجاز الفراء والزجاج قبولا بالضم. والباء في قوله بِقَبُولٍ بمنزلة الباء في قولك «كتب بالقلم وضربته بالسوط». وفي التقبل نوع تكلف فكأنه إنما حكم بالتقبل بواسطة القبول الحسن. قال في الكشاف: معناه فتقبلها بذي قبول حسن أي بأمر ذي قبول وهو اختصاصها بإقامتها مقام الذكر في النذر ولم يقبل قبلها أنثى في النذر، أو بأن تسلمها من أمها عقيب الولادة قبل أن تنشأ وتصلح للسدانة. قال:
ويجوز أن يكون القبول اسم ما يقبل به الشيء كالسعوط واللدود لما يسعط به ويلدّ وهو الاختصاص، ويجوز أن يكون معناه فاستقبلها مثل تعجل بمعنى استعجل وذلك من قولهم «استقبل الأمر» إذا أخذه بأوله أي فأخذها من أول أمرها حين ولدت بقبول حسن. وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً قيل: كانت تنبت في اليوم مثل ما ينبت المولود في عام. وقيل: المراد نماؤها في الطاعة والعفة والصلاح والسداد وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا
روي أن حنة حين ولدت مريم لفتها في خرقة وحملتها إلى المسجد ووضعتها عند الأحبار أبناء هارون وهم في بيت المقدس كالحجبة في الكعبة. فقالت لهم: دونكم هذه النذيرة فتنافسوا فيها لأنها كانت بنت إمامهم وصاحب قربانهم، وكانت بنو ماثان رؤوس بني إسرائيل وأحبارهم وملوكهم. فقال لهم زكريا: أنا أحق بها، عندي خالتها. فقالوا: لا حتى نقترع عليها. فانطلقوا وكانوا سبعة وعشرين إلى نهر فألقوا فيه أقلامهم التي كانوا يكتبون بها التوراة والوحي، على أن كل من ارتفع قلمه فهو الراجح. فألقوا ثلاث مرات وفي كل مرة كان يرتفع قلم زكريا وترسب أقلامهم، فأخذها زكريا.
فعلى هذه الرواية تكون كفالة زكريا إياها من أول أمرها وهو قول الأكثرين. وزعم بعضهم أنه كفلها بعد أن فطمت ونبتت النبات الحسن على ترتيب الذكور.
والأرجح أنها لم ترضع ثديا قط، وكانت تتكلم في الصغر، وكان رزقها من الجنة، وأن
واعلم أن الأمور الخارقة للعادة في حق مريم كثيرة فمنها: أنه
روى أبو هريرة عن النبي ﷺ «ما من مولود إلا والشيطان يمسه حين يولد فيستهل صارخا من مس الشيطان إياه إلا مريم وابنها» »
قلت: وذلك لدعاء حنة وَإِنِّي أُعِيذُها ومنها تكلمها في الصغر. ومنها حصول الرزق لها من عند الله كما
روي عن النبي ﷺ أنه ﷺ جاع في زمن قحط فأهدّت له ﷺ فاطمة رضي الله عنها رغيفين وبضعة لحم آثرته بها فرجع ﷺ بها إليها وقال: هلمي يا بنية.
فكشفت عن الطبق فإذا هو مملوء خبزا ولحما فبهتت وعلمت أنها نزلت من عند الله. فقال النبي ﷺ لها: أنى لك هذا؟ قالت: هو من عند الله. إن الله يرزق من يشاء بغير حساب.
فقال صلى الله عليه وسلم: الحمد لله الذي جعلك شبيهة سيدة نساء بني إسرائيل. ثم جمع رسول الله ﷺ علي بن أبي طالب والحسن والحسين وجميع أهل بيته ﷺ حتى شبعوا وبقي الطعام كما هو، فأوسعت فاطمة رضي الله عنها على جيرانها.
وفي أمثال هذه الخوارق من غير الأنبياء دليل على صحة الكرامات من الأولياء. والفرق بين المعجزة والكرامة أن صاحب الفعل الخارق في الأول يدعي النبوة، وفي الثاني يدعي الولاية، والنبي ﷺ يدعي المعجز ويقطع به، والولي لا يمكنه أن يقطع به، والمعجزة يجب انفكاكها عن المعارضة، والكرامة بخلافها.
وقال بعضهم: الأنبياء مأمورون بإظهار المعجزة، والأولياء مأمورون بإخفاء الكرامات أما المعتزلة فقد احتجوا على امتناع الكرامات. بأنها دلالات صدق الأنبياء، ودليل النبوة لا يوجد مع غير النبي كما أن الفعل المحكم لما كان دليلا على أن فاعله عالم فلا جرم لا يوجد في غير العالم. وأجابوا عن حديث أبي هريرة بعد تسليم صحته أن استهلال المولود صارخا من مس الشيطان تخييل وتصوير لطمعه فيه، كأنه يمسه ويضرب بيده عليه ويقول:
القصة الثانية: واقعة زكريا عليه السلام وذلك قوله سبحانه هُنالِكَ أي في ذلك المكان الذي كانا فيه في المحراب، أو في ذلك الوقت الذي شاهد تلك الكرامات فقد يستعار «هنا» و «ثمة» و «حيث» للزمان دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ وهذا يقتضي أن يكون قد عرف في ذلك الزمان أو المكان أمرا له تعلق بهذا الدعاء، فالجمهور من العلماء المحققين على أن زكريا رأى عند مريم من فاكهة الصيف في الشتاء وبالعكس وأن ذلك خارق للعادة، فطمع
وقول إن دعا النبي ﷺ لا يكون بمجرد التشهي فلا حاجة له في كل دعاء إلى إذن مخصوص، بل يكفي له الإذن في الدعاء على الإطلاق والغالب في دعوته الإجابة. ثم إن وقع الأمر بالندرة على خلاف دعوته فذلك بالحقيقة مطلوبه لأنه يريد الأصلح، ويضمر في دعائه أنه لو لم يكن أصلح لم يبعثه الله عليه ويصرفه عنه. ومعنى قوله: مِنْ لَدُنْكَ أن حصول الولد في العرف والعادة له أسباب مخصوصة وكانت مفقودة في حقه. فكأنه قال:
أريد منك يا رب أن تعزل الأسباب في هذه الواقعة وتخلق هذا الولد بمحض قدرتك من غير توسيط الأسباب. والذرية النسل يقع على الواحد والجمع والذكر والأنثى والمراد هاهنا ولد واحد كما قال: فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا [مريم: ٥] قال الفراء: وأنث الطيبة لتأنيث لفظ الذرية في الظاهر. فالتذكير والتأنيث تارة يجيء على اللفظ وأخرى على المعنى، وهذا في أسماء الأجناس بخلاف الأسماء الأعلام فإنه لا يجوز أن يقال: جاءت طلحة، لأن اسم العلم لا يفيد إلا ذلك الشخص، فإذا كان مذكرا لم يجز فيه إلا التذكير. إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ يعني سماع إجابة. وذلك لما عهد من الإجابة في غير هذه الواقعة كما قال في سورة مريم وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا [مريم: ٤]. فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ ظاهر اللفظ للجمع وهذا في باب التشريف أعظم. ثم ما
روي أن المنادي كان جبريل
فالوجه فيه أنه كقولهم «فلان يركب الخيل ويأكل الأطعمة النفيسة» أي يركب من هذا الجنس ويأكل منه.
أو لأن جبريل كان رئيس الملائكة وقلما يبعث إلا ومعه آخرون. يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى يحتمل أن يكون زكريا قد عرف أنه سيكون في الأنبياء رجل اسمه يحيى وله درجة عالية. فإذا قيل له: إن ذلك النبي المسمى بيحيى هو ولدك كان بشارة له، ويحتمل أن يكون المعنى يبشرك بولد اسمه يحيى كما يجيء في سورة مريم إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى [مريم: ٧] وإنه اسم أعجمي كموسى وعيسى، ومن جوز أن يكون عربيا فمنع صرفه للعلمية ووزن الفعل كيعمر. ثم إنه تعالى وصف يحيى بصفات منها: قوله مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وهو نصب على الحال لأنه نكرة و «يحيى» معرفة. قال أبو عبيدة: أي مؤمنا بكتاب الله. وسمي الكتاب
وَسَيِّداً والسيد الذي يفوق قومه في الشرف. وكان يحيى فائقا لقومه بل للناس كلهم في الخصال الحميدة. وقال ابن عباس: السيد الحليم. وقال ابن المسيب: الفقيه العالم. وقال عكرمة: الذي لا يغلبه الغضب. ومنها قوله: وَحَصُوراً قيل: أي محصورا عن النساء لضعف في الآلة، وزيف بأنه من صفات النقص فلا يليق في معرض المدح. والمحققون على أنه فعول بمعنى فاعل وهو الذي لا يأتي النسوان لا للعجز بل للعفة والزهد وحبس النفس عنهن، وفيه دليل على أن ترك النكاح كان أفضل من تلك الشريعة، فلولا أن الأمر بالنكاح والحث عليه وارد في شرعنا كان الأصل بقاء الأمر على ما كان. ومنها قوله:
وَنَبِيًّا واعلم أن السيادة لا تتم إلا بالقدرة على ضبط مصالح الخلق فيما يرجع إلى الدين والدنيا. والحصور إشارة إلى الزهد التام وهو منع النفس عما لا يعنيه.
روي أنه مر وهو طفل بصبيان يلعبون فدعوه إلى اللعب فقال: ما للعب خلقت.
فقوله: وَنَبِيًّا أشار به إلى ما عدا مجموع الأمرين فإنه ليس بعدهما إلا النبوة. ثم قال: وَمِنَ الصَّالِحِينَ أي من أولادهم لأنه كان من أصلاب الأنبياء أو كائنا من جملة الصالحين كقوله: وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ [البقرة: ١٣٠] أو لأن صلاحه كان أتم بدليل
قوله صلى الله عليه وسلم: «ما من نبي إلا وقد عصى أو هم بمعصية غير يحيى بن زكريا فإنه لم يعص ولم يهم»
وفيه أن الختم على الصلاح هو الغرض الأعظم والغاية القصوى وإن كان نبيا، ولهذا قال سليمان بعد حصول النبوة وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ [النمل: ١٩] وقال يوسف: تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ [يوسف: ١٠١]. ثم إن الملائكة لما نادوه بما نادوه قال زكريا
ولا يجوز بلغني البلد في موضع بلغت البلد لأن البلد ليس كالطالب للإنسان الذاهب.
وَامْرَأَتِي عاقِرٌ هي من الصفات الخاصة بالنساء. ويقال: رمل عاقر لا ينبت شيئا. فإن قيل: لما كان زكريا هو الذي سأل الولد ثم أجابه الله تعالى إلى ذلك فما وجه تعجبه واستبعاده بقوله: أَنَّى يَكُونُ من أين يحصل لي غلام؟ فالجواب على ما في الكشاف أن الاستبعاد إنما جاء من حيث العادة. وقيل: إنه دهش من شدة الفرح فسبق لسانه. ونقل عن سفيان بن عيينة أن دعاءه كان قبل البشارة بستين سنة، فكان قد نسي ذلك السؤال وقت البشارة، فلما سمع البشارة في زمان الشيخوخة استغرب وكان له يؤمئذ مائة وعشرون سنة أو تسع وتسعون ولامرأته ثمان وتسعون، وعن السدي أن الشيطان جاءه عند سماع البشارة قال: إن هذا النداء من الشيطان وقد سخر منك فاشتبه عليه الأمر ولا سيما أنه كان من مصالح الدنيا ولم يتأكد بالمعجزة فرجع إلى إزالة ذلك الخاطر فسأل ما سأل. والجواب المعتمد أن زكريا لم يسأل عما سأل استبعادا وتشككا في قدرة الله تعالى، وإنما أراد تعيين الجهة التي بها يحصل الولد، فإن الجهة المعتادة كانت متعذرة عادة لكبره وعقارتها فأجيب بقوله: كَذلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ وهو إما جملة واحدة أي الله يفعل ما يشاء من الأفعال العجيبة مثل ذلك الفعل وهو خلق الولد بين الشيخ الفاني والعجوز العاقر، أو جملتان فيكون كَذلِكَ اللَّهُ مبتدأ وخبرا أي على نحو هذه الصفة الله ويَفْعَلُ ما يَشاءُ بيانا له أي يفعل ما يريد من الأفاعيل الخارقة للعادات. ثم إنه ﷺ لفرط سروره وثقته بكرم ربه وإنعامه سأل عن تعيين الوقت فقال: رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً علامة أعرف بها العلوق فإن ذلك لا يظهر من أوّل الأمر فقال تعالى: آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ أي بلياليها ولهذا ذكر في سورة مريم ثَلاثَ لَيالٍ [مريم: ١٠] ومعنى قوله: أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ قال المفسرون:
أي لا تقدر على التكلم. حبس لسانه عن أمور الدنيا وأقدره على الذكر والتسبيح ليكون في تلك المدة مشتغلا بذكر الله وبالطاعة وبالشكر على تلك النعمة الجسمية، فيصير الشيء الواحد علامة على المقصود وأداء لشكر النعمة فيكون جامعا للمقاصد. وفي هذه الآية إعجاز من وجوه منها: القدرة على التكلم بالتسبيح والذكر مع العجز عن التكلم بكلام البشر. ومنها العجز مع سلامة البنية واعتدال المزاج. ومنها الإخبار بأنه متى حصلت هذه
وعن قتادة أنه ﷺ عوتب بذلك حيث سأل بعد بشارة الملائكة فأخذ لسانه وصبر بحيث لا يقدر على الكلام.
قلت:
وأحسن العتاب ما كان منتزعا من نفس الواقعة ومناسبا لها. وفيه لطيفة أخرى وهي أنه طلب الآية على الإطلاق فاحتمل أن يكون قد طلب علامة للعلوق، واحتمل أن يكون قد طلب دلالة على إحداث الخوارق ليصير علم اليقين عين اليقين، فصار حبس لسانه آية العلوق ودلالة على الفعل الخارق جميعا مع مناسبته للواقعة حيث سأل ما كان من حقه أن لا يسأل. وزعم أبو مسلم أن المعنى: آيتك أن تصير مأمورا بعدم التكلم ولكن بالاشتغال بالذكر والتسبيح إِلَّا رَمْزاً إشارة بيد أو رأس أو بالشفتين ونحوها. وأصل التركيب للتحرك يقال: ارتمز إذا تحرك ومنه الراموز للبحر، وهو استثناء من قوله: أَلَّا تُكَلِّمَ وجاز وإن لم يكن الرمز من جنس الكلام لأن مؤدّاه مؤدى الكلام، ويجوز أن يكون استثناء منقطعا.
وقيل: الرمز الكلام الخفي. وعلى هذا فالاستثناء متصل من غير تكلف. وقرأ يحيى بن وثاب إِلَّا رَمْزاً بضمتين جميع رموز كرسول ورسل وقرىء رَمْزاً بفتحتين جمع رامز كخادم وخدم وهو حال منه ومن الناس دفعة بمعنى إلا مترامزين كما يكلم الناس الأخرس بالإشارة ويكلمهم وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً قيل: إنه لم يكن عاجزا إلا عن تكليم البشر.
وقيل: المراد الذكر بالقلب وإنه كان عاجزا عن التكلم مطلقا وَسَبِّحْ حمله بعضهم على صلّ كيلا يكون تكرارا للذكر. وقد تسمى الصلاة تسبيحا فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ [الروم: ١٧] لاشتمالها عليه. والعشيّ مصدر على «فعيل» وهو من وقت زوال الشمس إلى غروبها. والإبكار من طلوع الفجر إلى الضحى وهو مصدر أبكر يبكر إذا خرج للأمر من أول النهار، ومنه الباكورة لأول الثمار. وقرىء بفتح الهمزة جمع بكر كسحر وأسحار.
التأويل:
إن لله تعالى في كل ذرة من ذرات الموجودات وحركة من حركاتها أسرارا لا يعلمها إلا الله. فانظر ماذا أخرج الله من الأسرار عن إطعام طائر فرخه، وماذا أظهر من الآيات والمعجزات من تلك الساعة إلى يوم القيامة بواسطة مريم وعيسى فَتَقَبَّلْ مِنِّي راجع إلى المحرر لا إلى التحرير أي تقبلها مني أن تتكفلها وتربيها تربية المحررين فَتَقَبَّلَها رَبُّها أي تقبلها ربها أن يربيها بِقَبُولٍ حَسَنٍ كقبول ذكر أو قبولا أخرج منها مثل عيسى وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا من كمال رأفته أنه جعل كفالتها إلى زكريا حيث أراد أن يخرج عيسى منها بلا أب لئلا يدخل عليها غيره فتكون أبعد من التهمة. وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً أي من فتوحات الغيب الذي يطعم الله به خواص عباده الذين يبيتون عنده لا عند أنفسهم ولا عند الخلق
إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ ما لم يكن في حسابها من الولد بلا أب، ومن الفاكهة بلا شجرة، ومن المعجزات بلا نبوة، ومن العلوم اللدنية بلا واسطة هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ كما أنه تعالى جعل إطعام الطائر فرخه سبب تحريك قلب حنة لطلب الولد، فكذلك جعل حالة مريم وما كان يأتيها من الرزق خارقا للعادة سبب تحريك قلب زكريا قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً أي ولدا يكون روحه من الصف الأول من صفوف الأرواح المجندة، وهو المطهر من لوث الحجاب والوسط الصالح للنبوة والولاية بخلاف الصف الثاني الذي هو لأرواح الأولياء وبينه وبين الله تعالى حجاب الصف الأول، وبخلاف الصف الثالث الذي هو لأرواح المؤمنين، وبخلاف الصف الرابع الذي هو لأرواح المنافقين والمشركين فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ بالله يُصَلِّي بسائر سره في الملكوت يحارب نفسه وهواه في المحراب إن الله يبشرك بغلام اسمه يحيى لأنه منذ خلق ما ابتلى بالموت لا بموت القلب بالمعاصي ولا بموت الصورة لأنه استشهد والشهداء لا يموتون بل أحياء عند ربهم يرزقون. مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ
وهي قوله: يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ [مريم: ١٢] وَسَيِّداً أي حرا من رق الكونين بل سيدا لرقيقي الكونين وَحَصُوراً نفسه عن التعلق بالكونين وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ من أهل الصف الأول رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ لم يكن استبعاده من قبل القدرة الإلهية ولكن من جهة استحقاقه لهذه الكرامة آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ لغلبات الصفات الروحانية عليك واستيلاء سلطان الحقيقة على قلبك، فإن النفس الناطقة تكون مغلوبة في تلك الحالة بشواهد الحق في الغيب، فلا تفرغ لإجراء عادتها في الشهادة بالكلام إِلَّا رَمْزاً ولهذا يقوى الروح الحيواني وتستمد منه القوة البشرية فيحيي الله تعالى به الشهوة الميتة فسمى ما تولد من الشهوة الميتة التي أحياها الله يحيى. ولاستمرار هذه الحالة في الأيام الثلاثة أمر بالمراقبة ليلا ونهارا وعشيا وإبكارا حسبي الله.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٤٢ الى ٦٠]
وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ (٤٢) يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (٤٣) ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (٤٤) إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٤٥) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ (٤٦)
قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قالَ كَذلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٤٧) وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (٤٨) وَرَسُولاً إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٤٩) وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (٥٠) إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٥١)
فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (٥٢) رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (٥٣) وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (٥٤) إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٥٥) فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٥٦)
وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (٥٧) ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (٥٨) إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٥٩) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (٦٠)
وَيُعَلِّمُهُ بياء الغيبة: أبو جعفر ونافع وعاصم وسهل ويعقوب. الباقون بالنون. أَنِّي أَخْلُقُ بكسر الهمزة بفتح الياء: نافع أَنِّي أَخْلُقُ بالفتح فيهما: ابن كثير وأبو عمرو ويزيد كَهَيْئَةِ بتشديد الياء: يزيد وحمزة في الوقف. وكان ابن مقسم يقول:
بلغني أن خلفا يقول: إن حمزة كان يترك الهمزة ويحرك الياء بحركتها. الباقون بالياء والهمزة. الطائر يزيد. الباقون الطَّيْرِ فتكون بتاء التأنيث. المفضل. الباقون: بياء الغيبة طائر أبو جعفر ونافع ويعقوب وكذلك في المائدة. الباقون طَيْراً أَنْصارِي إِلَى بفتح الياء: أبو جعفر ونافع. وقرأ قتيبة وأبو عمرو وطريق أبي الزعراء بالإمالة فَيُوَفِّيهِمْ بياء الغيبة: حفص ورويس، وزاد رويس ضم الهاء. الباقون بالنون.
الوقوف:
الْعالَمِينَ هـ الرَّاكِعِينَ هـ إِلَيْكَ ط يَكْفُلُ مَرْيَمَ ص لعطف
ناصِرِينَ هـ أُجُورَهُمْ ط الظَّالِمِينَ هـ الْحَكِيمِ هـ آدَمَ ط لأن الجملة لا يتصف بها المعرّف. فَيَكُونُ ط الْمُمْتَرِينَ هـ.
التفسير:
القصة الثالثة قصة مريم. والعامل في «إذ» هاهنا هو ما ذكر في قوله: إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ [آل عمران: ٣٥] لمكان العطف. والمراد بالملائكة هاهنا جبريل كما يجيء، في سورة مريم فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا
[مريم: ١٧]. واعلم أن مريم ما كانت من الأنبياء لقوله تعالى: وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ [الأنبياء: ٧] فإرسال جبريل إليها إما أن يكون كرامة لها عند من يجوّز كرامات الأولياء، وإما أن يكون إرهاصا لعيسى وهو جائز عندنا وعند الكعبي من المعتزلة، أو معجزة لزكريا وهو قول جمهور المعتزلة. ومن الناس من قال: إن ذلك كان على سبيل النفث في الروع والإلهام كما في حق أم موسى وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى [القصص: ٧]. ثم إنه تعالى مدحها بالاصطفاء ثم بالتطهير ثم بالاصطفاء ولا يجوز أن يكون الاصطفاآن بمعنى واحد للتكرار والصرف، فحمل المفسرون الاصطفاء الأول على ما اتفق لها من الأمور في أول عمرها منها قبول تحريرها مع كونها أنثى، ومنها قال الحسن: ما غذتها أمها طرفة عين بل ألقتها إلى زكريا وكان رزقها من عند الله، ومنها تفريغها للعبادة، ومنها إسماعها كلام الملائكة شفاها ولم يتفق ذلك لأنثى غيرها إلى غير ذلك من أنواع اللطف والهداية والعصمة في حقها. وأما التطهير فتطهيرها عن الكفر والمعصية كما قال في حق أزواج النبي ﷺ وأهل بيته وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً [الأحزاب:
٣٣]. وعن مسيس الرجال وعن الحيض والنفاس قالوا: كانت لا تحيض وعن الأفعال
روي أنه ﷺ قال: «كمل من نساء العالمين أربع: مريم وآسية امرأة فرعون وخديجة وفاطمة» «١»
ثم لما بيّن اختصاصها بمزيد المواهب والعطايا أوجب عليها مزيد الطاعة شكرا لتلك النعم. فقوله: اقْنُتِي أمر بالعبادة على العموم وَاسْجُدِي أمر بالصلاة تسمية للشيء بمعظم أركانه كما في قوله وَأَدْبارَ السُّجُودِ [ق: ٤]
وفي الخبر «إذا دخل أحدكم المسجد فليسجد سجدتين»
ولا ريب أن السجود أشرف الأركان
لقوله ﷺ «أقرب ما يكون العبد من الله تعالى وهو ساجد» «٢»
ثم قال: وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ فالأول أمر بالصلاة مطلقا، والثاني أمر بالصلاة في الجماعة. وإنما عبر عن الصلاة هاهنا بالركوع إما لتغيير العبارة وقد يسمى الشيء بأحد أركانه، وإما تسمية للشيء بمعظم أركانه بناء على ما قيل إن الركوع أفضل من السجود، لأن الراكع حامل نفسه في الركوع فالمشقة فيه أكثر، وللتمييز عن صلاة اليهود. وقيل: اركعي مع الراكعين أمر بالخضوع والخشوع بالقلب، ويحتمل أن يراد بقوله: اقْنُتِي الأمر بالصلاة لأن القنوت أحد أجزائها، وأن يراد بقوله:
وَاسْجُدِي وَارْكَعِي استعمال كل منهما في وقته اللائق به، والواو تفيد التشريك لا الترتيب، أو المراد انظمي نفسك في جملة المصلين وكوني في عدادهم لا في عداد غيرهم.
وإنما لم يقل مع الراكعات إما للتغليب وإما لأن الاقتداء بالرجل حال الاختفاء من الرجال أفضل من الاقتداء بالنساء. روي أن مريم بعد ذلك قامت في الصلاة حتى ورمت قدماها وسال الدم والقيح منهما. اللهم لا تؤاخذنا باسم الرجولية ونحن أقل في خدمتك من إحدى النساء ذلِكَ الذي سبق من أنباء حنة وزكريا ويحيى ومريم من أخبار الغيب نُوحِيهِ إِلَيْكَ قد ورد الكتاب بالإيحاء على معان مختلفة يجمعها تعريف الموحى إليه بأمر خفي من إشارة أو كتابة أو غيرها. وبهذا التفسير يعد الإلهام وحيا كقوله: وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ [النحل: ٦٨] وقال: وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ [الأنعام: ١٢١] وقال: فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا [مريم: ١١] فلما كان الله سبحانه ألقى هذه
الترمذي في كتاب الأطعمة باب ٣١. ابن ماجه في كتاب الأطعمة باب ١٤. أحمد في مسنده (٤/ ٣٩٤).
(٢) رواه مسلم في كتاب الصلاة حديث ٢١٥. النسائي في كتاب المواقيت باب ٣٥. الترمذي في كتاب الدعوات باب ١١٨. أحمد في مسنده (٢/ ٤٢١).
روي في الخبر أنهم كانوا يلقونها في الماء بشرط أن من جرى قلمه على خلاف جري الماء فاليد له.
ثم إنه حصل هذا المعنى لزكريا فصار أولى بكفالتها. وقيل: عرف برسوب الأقلام وارتفاعها كما مر. وعن الربيع أنهم ألقوا عصيهم في الماء الجاري فجرت عصا زكريا على ضد جرية الماء فغلبهم. وقال أبو مسلم: المراد بإلقاء الأقلام ما كانت تفعله الأمم من المساهمة عند التنازع، فيطرحون سهاما يكتبون عليها أسماءهم. فمن خرج له السهم سلم له الأمر. قال تعالى: فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ
[الصافات: ١٤١] وهو شبيه بالقداح التي يتقاسم بها العرب لحم الجزور. وإنما سميت تلك السهام أقلاما لأنها تقلم وتبرى. قال القاضي: وقوع لفظ القلم على هذه الأشياء وإن كان صحيحا نظرا إلى أصل الاشتقاق إلا أن العرف الظاهر يوجب اختصاص القلم بهذا الذي يكتب به فوجب حمل اللفظ عليه. وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ يتنازعون على التكفل.
قيل: هم خزنة البيت. وقيل: بل العلماء والأحبار وكتاب الوحي. ولا شبهة في أنهم كانوا من الخواص وأهل الفضل في الدين والرغبة في طريق الخير. ثم المراد بهذا الاختصام يحتمل أن يكون ما كان قبل الاقتراع وأن يكون اختصاما آخر حصل بعد الاقتراع. وبالجملة فالمقصود شدة رغبتهم في التكفل بشأنها والقيام بإصلاح مهامها، إما لأن عمران كان رئيسا لهم فأرادوا قضاء حقوقه، وإما لأجل الدين حيث كانت محررة لخدمة بيت العبادة وإما لأنهم وجدوا في الكتب الإلهية أن لها ولابنها شأنا.
القصة الرابعة حكاية ولادة عيسى وذكر طرف من معجزاته إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يعني جبريل كما مر. ومتعلق «إذ» هو متعلق وإِذْ قالَتِ لأن هذا بدل من ذاك، ويجوز أن يكون بدلا من قوله: إِذْ يَخْتَصِمُونَ. قال في الكشاف: هذا على أن الاختصام والبشارة وقعا في زمان واسع كما تقول: لقيته سنة كذا يعني وإنما لقيته في ساعة منها. فيكون الزمان الواسع
والمسيح لقب من الألقاب المشرفة كالصديق والفاروق. وأصله «مشيحا» بالعبرانية ومعناه المبارك وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ [مريم: ٣١] وكذلك عيسى معرب «إيشوع». أما احتمال اشتقاق عيسى من العيس البياض الذي تعلوه حمرة فبعيد، وأما احتمال المسيح من المسح فقريب وعليه الأكثرون. عن ابن عباس: سمي بذلك لأنه ما كان يمسح ذا عاهة إلا يبرأ. وقال أحمد بن يحيى: لأنه كان يمسح الأرض أي يقطعها. وعلى هذا فيجوز أن يقال له مسيح بالتشديد كشريب. وقيل: لأنه مسح من الأوزار والآثام. وقيل: لأنه لم يكن في قدمه خمص وكان ممسوح القدمين. وقيل: لأنه ممسوح بدهن طاهر مبارك يمسح به الأنبياء ولا يمسح به غيرهم. قالوا: ويجوز أن يكون هذا الدهن جعله الله علامة للملائكة يعرفون بها الأنبياء حين يولدون. وقيل: لأن جبريل مسحه بجناحيه وقت ولادته صيانة له عن مس الشيطان. وقيل: لأنه خرج من بطن أمه ممسوحا بالدهن. وأما المسيح الدجال فسمي بذلك لأنه مسح إحدى عينيه، أو لأنه يمسح الأرض أي يقطعها في المدة القليلة. قالوا:
ومثله الدجال دجل في الأرض أي قطعها. وقيل: الدجال من دجل الرجل إذا موّه ولبس.
«اكتهل النبات» أي قوي.
روي أن عمره بلغ ثلاثا وثلاثين ثم رفع إلى السماء.
ولا ريب أن أكمل أحوال الإنسان ما بين الثلاثين والأربعين، فيكون عيسى قد بلغ سن الكهولة. وعن الحسين بن الفضل: المراد أن يكون كهلا بعد نزوله من السماء وأنه حينئذ يكلم الناس ويقتل الدجال. فإن قيل: إن تكلمه في المهد من المعجزات، ولكن تكلمه في حالة الكهولة ليس من المعجزات، فما الفائدة في ذكره؟ فالجواب من وجوه. قال أبو مسلم: معناه أنه يتكلم حال كونه في المهد وحال كونه كهلا على حد واحد وصفة واحدة، ولا شك أنه غاية في الإعجاز. وقيل: المراد الرد على نصارى نجران وبيان كونه متقلبا في الأحوال من الصبا إلى الكهولة فإن التغير على الإله محال. وقيل: المراد أنه يكلم الناس مرة واحدة في المهد لإظهار طهارة أمه، ثم عند الكهولة يتكلم بالوحي والنبوة. وقال الأصم: المراد أنه يبلغ حال الكهولة. ويخرج من قول الحسين بن الفضل جواب آخر. وهاهنا بحث للنصارى قالوا: إن كلامه في المهد من أعجب الأمور وأغربها ولا شك أن مثل هذه الواقعة يكون بمحضر جمع عظيم وتتوفر الدواعي على نقلها فيبلغ حد التواتر. فلو كانت هذه الواقعة موجودة لكان أولى الناس بمعرفتها النصارى لأنهم أفرطوا في محبته حتى ادّعوا إلهيته، لكنهم أطبقوا على إنكاره فعلمنا أنها لم توجد أصلا. والجواب أن إطباق النصارى على إنكاره ممنوع. ولو سلم فإن كلام عيسى في المهد إنما كان للدلالة على براءة مريم مما
ويعلمه الكتاب والحكمة ويقول أرسلت رسولا بأني قد جئتكم ومصدقا لما بين يدي. أو الرسول والمصدق فيهما معنى النطق فكأنه قيل: وناطقا بأني قد جئتكم، وناطقا بأني أصدق ما بين يديّ. وعن الزجاج: إن التقدير ويكلم الناس رسولا بأني قد جئتكم بآية من ربكم.
والمراد بالآية الجنس لا الفرد لأنه عدد أنواعا من الآيات، ثم أبدل على الآية قوله: أَنِّي أَخْلُقُ فيمن قرأ بفتح أَنِّي ويحتمل أن يكون «أن» مع ما بعده مرفوعا أي هي أني أخلق.
ومن قرأ أَنِّي أَخْلُقُ فللاستئناف أو للبيان كقوله: إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ [آل
يروى: ربما اجتمع عليه خمسون ألفا من المرضى من أطاق منهم أتاه ومن لم يطق أتا عيسى وما كانت مداواته إلا بالدعاء وحده وَأُحْيِ الْمَوْتى أحيا عاذرا وكان صديقا له، ودعا
روى السدي أنه كان يلعب مع الصبيان ثم كان عليه السلام يخبرهم بأفعال آبائهم وأمهاتهم.
كان عليه السلام يخبرهم بأن أمك خبأت لك كذا فيرجع الصبي إلى أهله ويبكي إلى أن يأخذ ذلك الشيء. فقالوا لصبيانهم: لا تلعبوا مع الساحر وجمعوهم في بيت. فجاء عيسى عليه السلام يطلبهم فقالوا: ليسوا في البيت. فقال عليه السلام: فمن في هذا البيت؟
فقالوا: خنازير. فقال عيسى عليه السلام: كذلك يكونون فإذا هم خنازير. وقيل: إن الإخبار عن الغيوب إنما ظهر من وقت نزول المائدة. وذلك أن القوم نهوا عن الادّخار فكانوا يخونون ويدخرون وكان عيسى يخبرهم بذلك. والادخار افتعال من اذتخر قلت كل من التاء والذال «دالا» ثم أدغم. واعلم أن الإخبار عما غاب معجز دال على أن ذلك الخبر صار معلوما بالوحي ما لم يستعن فيه بآلة ولا تقديم مسألة بخلاف ما يقوله المنجمون والكهان فإن ذلك استعانة من أحوال الكواكب أو الجن، ولهذا يتفق لهم الغلط كثيرا. ثم إنه لما قرر المعجزات الباهرة وبين بها كونه رسولا من عند الله ذكر أنه لماذا أرسل فقال:
وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وذلك أنه يجب على كل نبي أن يكون مصدقا لمن تقدمه من الأنبياء لأن الطريق إلى ثبوت نبوتهم هو المعجز، فكل من حصل على يده المعجز وجب الاعتراف بنبوته. ولعل من جملة الأغراض في بعثة عيسى عليه السلام تقرير أحكام التوراة وإزالة شبهات المنكرين وتحريفات المعاندين الجاهلين. ثم ذكر غرضا آخر في بعثته فقال: وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وهذا لا يناقض تصديقه لما في التوراة إذ المعنى بالتصديق هو اعتقاد أن كل ما فيه حكمة وصواب، وإذا لم يكن التأبيد مذكورا فالناسخ والمنسوخ كلاهما حق في وقته، وإذا كانت البشارة بعيسى موجودة في التوراة فمجيء عيسى يكون تصديقا لما في التوراة. وعن وهب بن منبه أن عيسى ما غير شيئا من أحكام التوراة وأنه ما وضع الأحد بل كان يقرر السبت ويستقبل بيت المقدس. ثم فسر الإحلال بأمرين: أحدهما أن الأحبار كانوا قد وضعوا من عند أنفسهم شرائع باطلة ونسبوها إلى موسى فجاء عيسى ورفعها وأعاد الأمر إلى ما كان. والثاني أن الله تعالى كان قد حرم بعض الأشياء على اليهود عقوبة لهم كما قال: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ [النساء: ١٦٠] واستمر ذلك التحريم فجاء عيسى ورفع تلك
القصة الخامسة ذكر عاقبة أمر عيسى ثم شرع في بيان أن عيسى لما شرح لهم تلك المعجزات فهم بماذا عاملوه فقال: فَلَمَّا أَحَسَّ أي علم عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ علما لا شبهة فيه كعلم ما يدرك بالحواس، أو أنهم تكلموا بكلمة الكفر فأحس ذلك بأذنه. قال السدي: لما بعثه الله تعالى رسولا إلى بني إسرائيل جاءهم ودعاهم فتمردوا وعصوا فخافهم واختفى عنهم، وكان أمر عيسى في قومه كأمر محمد ﷺ بمكة، وكان مستضعفا فخرج هو وأمه يسيحان في الأرض، فاتفق أنه نزل على رجل في قرية فأحسن ذلك الرجل ضيافته.
وكان في تلك المدينة رجل جبار فجاء ذلك الرجل يوما نطعمه ونسقيه مع جنوده وهذا اليوم نوبتي والأمر متعذر عليّ. فلما سمعت مريم ذلك قالت: يا ولدي ادع الله ليكفي ذلك. فقال عليه السلام: يا أمي إني إن فعلت ذلك كان فيه شر. فقالت: قد أحسن وأكرم ولا بد من إكرامه. فقال عيسى عليه السلام: إذا قرب مجيء الملك فاملأ قدورك وخوابيك ثم أعلمني. فلما فعل دعا الله تعالى فتحول ما في القدور طبيخا، وما في الخوابي خمرا.
فلما جاءه الملك أكل وشرب وسأله من أين هذه الخمر؟ فتوقف الرجل في الجواب وتعلل، فلم يزل يطالبه حتى أخبره بالواقعة فقال: إن من دعا الله حتى جعل الماء خمرا إذا دعاه حتى يحيي ولدي أجابه- وكان ابنه قد مات في تلك الأيام- فدعا عيسى عليه السلام وطلب منه ذلك فقال له عيسى: لا تفعل فإنه إن عاش كان شرا عليه- فقال: ما أبالي ما كان فدعا الله فعاش الغلام لكلام عيسى عليه السلام، فلما رآه أهل مملكته قد عاش تنادوا بالسلاح واقتتلوا وصار أمر عيسى عليه السلام مشهورا وقصد اليهود قتله ﷺ وأظهروا الطعن فيه.
إنه دعاهم إلى القتال مع القوم كما قال في موضع آخر فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ [الصف: ١٤] ومعنى إِلَى اللَّهِ قيل: من يضيف نصرته إياي إلى نصر الله عز وجل إياي؟ وقيل: من أنصاري إلى أن أظهر دين الله. فالجار على القولين من صلة أَنْصارِي مضمنا معنى الإضافة. وقيل:
من أنصاري حال ذهابي إلى الله؟ أو حال التجائي إليه؟ وقيل: من أنصاري فيما يكون قربة إلى الله ووسيلة إلى رحمته؟
وفي الحديث أنه ﷺ كان يقول إذا ضحى: اللهم منك وإليك أي تقربا إليك.
فالجار على هذين القولين يتعلق بالمحذوف. وقيل: «إلى» بمعنى اللام.
وقيل: بمعنى «في» أي في سبيل الله. وهذا قول الحسن. قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ أعوان دينه ورسوله. وحواري الرجل صفيه وخالصته ومنه يقال للحضريات الحواريات لخلوص ألوانهن ونقاء بشرتهن. والحور نقاء بياض العين، وحوّرت الثياب بيضتها، والحواريّ واحد ونظيره الحوالي وهو الكثير الحيلة.
عن سعيد بن جبير: سموا بذلك لبياض ثيابهم. وعن مقاتل بن سليمان لأنهم كانوا قصارين يبيضون الثياب. وقيل: لنقاء قلوبهم وطهارة أخلاقهم ومنه قولهم «فلان نقيّ الجيب طاهر الذيل» للكريم و «دنس الثياب» للئيم. وعن الضحاك: الذي يغسل الثياب
أفضل منكم من يعمل بيده ويأكل من كسبه. قال: فصاروا يغسلون الثياب فسموا حواريين.
وقيل: إن واحدا من الملوك صنع طعاما وجمع الناس عليه، وكان عيسى عليه السلام على قصعة. فكانت القصعة لا تنقص. فذكروا هذه الواقعة لذلك الملك فقال: تعرفونه؟ قالوا:
نعم. فذهبوا إليه بعيسى فقال: من أنت؟ قال: عيسى ابن مريم. قال: فإني أترك ملكي فأتبعك. فتبعه ذلك الملك مع أقاربه فأولئك هو الحواريون. قال القفال: يجوز أن يكون بعضهم من الملوك وبعضهم من الصيادين وبعضهم من القصارين، وسموا جميعا بالحواريين لأنهم كانوا أنصار عيسى والمخلصين في محبته وطاعته. آمَنَّا بِاللَّهِ يجري مجرى السبب لقولهم: نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ فإن الإيمان بالله يوجب نصرة دين الله والذب عن أوليائه والمحاربة مع أعدائه وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ منقادون لما تريده منا في نصرتك والذب عنك، مستسلمون لأمر الله تعالى فيه. أو هو إقرار منهم بأن دينهم الإسلام وأنه دين كل الأنبياء عليهم السلام، وإنما طلبوا شهادته لأن الرسل يشهدون للأمم يوم القيامة. ثم تضرعوا إلى الله تعالى بقولهم: رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ وهذا يقتضي أن يكون للشاهدين فضل يزيد على فضل الحواريين. فقال ابن عباس: أي مع محمد ﷺ وأمته لأنهم مخصوصون بأداء الشهادة وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ [البقرة: ١٤٣] وعنه أيضا اكتبنا في زمرة الأنبياء لأن كل نبي شاهد لقومه وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً [البقرة: ١٤٣] وقيل: اكتبنا في جملة من شهد لك بالتوحيد ولأنبيائك بالتصديق فقرنت ذكرهم بذكرك في قولك: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ [آل عمران: ١٨] وقيل: اجعلنا ممن هو مستغرق في شهود جلالك بحيث لا نبالي بما يصل إلينا من المشاق والآلام فيسهل علينا الوفاء بما التزمنا من
كَلَّا إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ [المطففين: ١٨] وَمَكَرُوا يعني كفار بني إسرائيل الذين أحس عيسى منهم الكفر وَمَكَرَ اللَّهُ المكر في اللغة السعي في خفية ومداجاة. قال الزجاج: يقال مكر الليل وأمكر إذا أظلم. وقيل: أصله من إجماع الأمر وإحكامه، ومنه امرأة ممكورة مجتمعة الخلق. فلما كان المكرر رأيا محكما قويا مصونا عن جهات النقض والفتور لا جرم سمي مكرا. أما مكرهم بعيسى عليه السلام فهو أنهم هموا بقتله، وأما مكر الله بهم فهو أن رفعه إلى السماء وما مكنهم من إيصال السوء إليه.
روي أن ملك اليهود أراد قتل عيسى عليه السلام وكان جبريل لا يفارقه ساعة، فأمره جبريل أن يدخل بيتا فيه روزنة.
فلما دخلوا البيت أخرجه جبريل من تلك الروزنة وكان قد ألقى شبهه على غيره ممن وكل به ليقتله غيلة فأخذ وصلب فتفرق الحاضرون ثلاث فرق: فرقة قالت: كان الله فينا فذهب.
وأخرى قالت: كان ابن الله. وأخرى قالت: كان عبد الله ورسوله.
وقيل: إن الحواريين كانوا اثني عشر، وكانوا مجتمعين في بيت، فنافق واحد منهم ودل اليهود عليه فألقى الله شبهه عليه ورفع عيسى عليه السلام. وذكر محمد بن إسحق أن اليهود عذبوا الحواريين بعد أن رفع عيسى فشمسوهم ولقوا منهم الجهد. فسمع بذلك ملك الروم. وكان ملك اليهود من رعيته فقيل: إنه قتل رجلا من بني إسرائيل ممن يحب أمرك، وكان يخبرهم أنه رسول الله وأراهم إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص وفعل ما فعل فقال: لو علمت ذلك ما خليت بينه وبينهم. ثم بعث إلى الحواريين فانتزعهم من أيديهم وسألهم عن عيسى عليه السلام فأخبروه، فتابعهم على دينهم وأنزل المصلوب فغيبه وأخذ الخشبة فأكرمها وصانها، ثم غزا بني إسرائيل وقتل منهم خلقا عظيما ومنه ظهر أصل النصرانية في الروم. وكان اسم هذا الملك «طباريس»، وهو صار نصرانيا إلا أنه ما أظهر ذلك. ثم إنه جاء بعده ملك آخر يقال له «ملطيس» وغزا بيت المقدس حجرا على حجر، فخرج عند ذلك قريظة والنضير إلى الحجاز، فهذا كله مما جازاهم الله تعالى على تكذيب المسيح والهم بقتله. وقيل: إنهم مكروا في إخفاء أمره وإبطال دينه، ومكر الله بهم حيث أعلى دينه وأظهر شريعته وقهر بالذل أعداءه وهم اليهود وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ أقواهم مكرا وأقدرهم على العقاب من حيث لا يشعر المعاقب.
واعلم أن المكر إن كان عبارة عن الاحتيال في إيصال الشر فهو في حق الله تعالى محال، فاللفظ إذن من المتشابهات فيجب أن يؤول بأن جزاء المكر يسمى مكرا كقوله:
٤٢]. وقيل: التوفي أخذ الشيء وافيا أي آخذك بروحك وبجسدك جميعا فرافعك إلي دفعا لوهم من يتوهم أنه أخذ بروحه دون جسده. وقيل: متوفيك قابضك من الأرض من توفيت مالي على فلان أي استوفيته. وقيل: أجعلك كالمتوفى لأنه إذا رفع إلى السماء انقطع خبره وأثره عن الأرض فيكون من باب إطلاق الشيء على ما يشابه في أكثر خواصه وصفاته.
وقيل: المضاف محذوف أي متوفى عملك ورافع طاعتك فكأنه بشره بقبول طاعته وأن ما وصل إليه من المتاعب في تمشية دينه وإظهار شريعته فهو لا يضيع أجره، فهذا كقوله:
إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ [فاطر: ١٠] وقيل: في نسق الكلام تقديم وتأخير. فإن الواو لا تقتضي الترتيب. والمعنى إني رافعك إلي ومتوفيك بعد إنزالك إلى الدنيا. ويؤيده ما ورد في الخبر أنه سينزل ويقتل الدجال، ثم إنه تعالى يتوفاه بعد ذلك. أما قوله وَرافِعُكَ إِلَيَّ فالمشبهة تمسكوا بمثله في إثبات المكان لله تعالى وأنه في السماء، لكن الدلائل القاطعة دلت على أنه متعال عن الحيز والجهة فوجب حمل هذا الظاهر على التأويل بأن المراد إلى محل كرامتي ومقر ملائكتي ومثله قول إبراهيم: إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي [الصافات: ٩٩] وإنما ذهب من العراق إلى الشام، وقد سمي الحجاج زوّار الله، والمجاورون جيران الله. والمراد التفخيم والتعظيم، أو المراد إلى مكان لا يملك الحكم عليه هناك غير الله فإن في الأرض ملوكا مجازية. ولئن سلم أنه تعالى يمكن أن يكون في مكان فليس رفع عيسى عليه السلام إلى ذلك المكان سببا لبشارته ما لم يتيقن الثواب والكرامة والروح والراحة، فلا بد من صرف اللفظ عن ظاهره وهو أن يقال: المراد رفعه إلى محل كرامته، وإذا لم يكن بد من الإضمار فلم يبق في الآية دلالة على إثبات المكان له تعالى. ثم إنه كما عظم شأنه بلفظ الرفع إليه، عبر لذلك عن معنى التخليص بلفظ التطهير
واعلم أن نص القرآن دل على أنه تعالى حين رفعه ألقى شبهه على غيره قال: وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ [النساء: ١٥٧] فأورد بعض الملحدة عليه إشكالات:
الأول أنه يوجب ارتفاع الأمان عن المحسوسات فإني إذا رأيت ولدي ثم رأيته ثانيا فحينئذ أجوز أن هذا الذي رأيته ثانيا ليس ولدي بل هو إنسان آخر ألقى شبهه عليه، وكذا الصحابة الذين رأوا محمدا يأمرهم وينهاهم احتمل أن يكون محمد إنسانا آخر ألقى شبهه عليه وأنه يفضي إلى سقوط الشرائع وكذا إلى إبطال التواتر، لأن مدار الأمر في الأخبار المتواترة على أن يكون المخبر الأول إنما أخبر عن المحسوس وأنتم جوزتم وقوع الغلط في المبصرات، ففتح هذا الباب أوله سفسطة وآخره إبطال النبوات. الثاني أن جبريل كان معه حيث سار.
ثم إن طرف جناح واحد منه يكفي لأهل الأرض. فكيف لم يكف في منع أولئك اليهود؟
وأنه ﷺ كان يحيي الموتى ويبرىء الأكمه والأبرص، فكيف لم يقدر على إماتة أولئك اليهود الذين قصدوه بالسوء وإلقاء الفلج والزمانة عليهم حتى لا يتعرضوا له؟ الثالث أنه تعالى كان قادرا على تخليصه من الأعداء بأن يرفعه إلى السماء، فما الفائدة في إلقاء شبهه على الغير؟
وهل فيه إلا إيقاع مسكين في القتل من غير فائدة مع أن ذلك يوجب تلبيس الأمر عليهم حتى اعتقدوا أن المصلوب هو عيسى وأنه لم يكن عيسى، والتمويه والتخليط لا يليق بحكمة الله تعالى؟ الرابع أن النصارى على كثرتهم في المشارق والمغارب وإفراطهم في محبة عيسى أخبروا أنهم شاهدوه مصلوبا، فإنكار ذلك إنكار المتواتر، والطعن في المتواتر يوجب الطعن في نبوة جميع الأنبياء. الخامس ثبت بالتواتر أن المصلوب بقي حيا زمانا طويلا. فلو كان هو غير عيسى لأظهر الجزع وعرف نفسه، ولو فعل ذلك اشتهر وتواتر. والجواب عن الأول أن كل من أثبت القادر المختار سلم أنه تعالى قادر على خلق مثل زيد. وهذا التجويز لا يوجب الشك في وجود زيد فكذا فيما ذكرتم. وعن الثاني والثالث أن ذلك يفضي إلى
روي أن الذي ألقي عليه الشبه كان من خواص أصحابه، فلهذا صبر.
على أنا نقول: قد ثبت بالمعجز القاطع صدق محمد ﷺ في كل ما أخبر عنه، فهذه الاحتمالات تمتنع أن تصير معارضة للنص القاطع والله ولي الهداية. قال: ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ وفيه بشارة لعيسى بأنه سيحكم بين المؤمنين وبين الجاحدين. وتفسيره قوله:
فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا بالقتل والسبي والذلة وأنواع المصائب والرزايا التي لا ثواب عليها وَالْآخِرَةِ بدخول النار خالدين فيها وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ الواضعين الشيء في غير موضعه، التكذيب في مقام التصديق، والعمل السيء مكان العمل الصالح، وذلك أن المحبة عبارة عن إيصال الخير إليه. وهو وإن أراد كفر الكافر إلا أنه لم يوصل الثواب إليه. وقالت المعتزلة: المحبة والإرادة واحدة. فالمعنى أنه لا يريد ظلم الظالمين.
ذلِكَ الذي سبق من نبأ عيسى عليه السلام وغيره وهو مبتدأ خبره نَتْلُوهُ عَلَيْكَ والتلاوة والقصص كلاهما يؤل إلى معنى واحد وهو ذكر الشيء بعضه على إثر بعض. جعل تلاوة الملك لما كانت بأمره كتلاوته. مِنَ الْآياتِ خبر بعد خبر أو خبر بعد مبتدأ محذوف والمراد بها آيات القرآن، ويحتمل أن يراد أنه من العلامات الدالة على ثبوث رسالتك لأنها أخبار لا يعلمها إلا قارئ من كتاب أو من يوحى إليه، وظاهر أنك لا تكتب ولا تقرأ فبقي أن يكون من الوحي. ويجوز أن يكون ذلك بمعنى «الذي» ونَتْلُوهُ صلته ومِنَ الْآياتِ الخبر. ويجوز أن ينتصب ذلك بمضمر يفسره نَتْلُوهُ. والذكر الحكيم القرآن. وصف بصفة من هو سببه، أو كأنه ينطق بالحكمة لكثرة حكمه، أو هو بمعنى الحاكم كالعليم بمعنى أن الأحكام تستفاد منه، أو بمعنى المحكم أحكمت آياته أي عن تطرق وجوه الخلل إليه. وقيل: الذكر الحكيم اللوح المحفوظ الذي منه نقلت جميع كتب الله المنزلة على الأنبياء، أخبر أنه تعالى أنزل هذه القصص مما كتب هناك.
قال المفسرون: إن وفد نجران قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: مالك تشتم صاحبنا؟ قال صلى الله عليه وسلم: وما أقول؟ قالوا: تقول إنه عبد. قال:
أجل هو عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول. فغضبوا وقالوا: هل رأيت إنسانا قط من غير أب؟ فإن كنت صادقا فأرنا مثله فأنزل الله عز وجل إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ
أي حاله الغريبة كحاله. ووجه الشبه أن كلا منهما وجد وجودا خارجا عن العادة المستمرة، بل الوجود من غير أب وأم أغرب، فشبه الغريب بالأغرب. لأن المشبه به ينبغي
والضمير عائد إلى آدم الموجود كقولك: «هذا الكون أصله من الطين» ثُمَّ قالَ لَهُ أي لذلك المقدّر كُنْ فَيَكُونُ وهذا كقوله: ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ [المؤمنون: ١٤] وإنما لم يقل «فكان» إما لأنه حكاية حال ماضية، وإما تصوير لتلك الحالة العجيبة كقوله:
فأصر بها بلا دهش فخرت أو المراد اعلم يا محمد أن ما قال له ربك «كن» فإنه يكون لا محالة. وقيل: معنى «ثم» تراخي الخبر عن الخبر لا تراخي المخبر عن المخبر كقول القائل «أعطيت زيدا ألفا اليوم ثم أنا أعطيته أمس ألفين» أي ثم أنا أخبركم أني أعطيته أمس ألفين فكذا قوله: خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ أي صيره بشرا سويا. ثم إنه يخبركم أنه إنما خلقه بأن قال له «كن». وقيل: إن معنى الخلق يرجع إلى علمه تعالى بكيفية وقوعه وإرادته لإيقاعه على الوجه المخصوص.
والمراد ب «كن» إدخاله في الوجود. قالت الحكماء: إنما خلق آدم من التراب لوجوه: ليكون متواضعا وليكون ستارا وليكون أشد التصاقا بالأرض فيصلح للخلافة فيها، ولما فيه من إظهار القدرة فخلق الشياطين من النار التي هي أضوأ الأجرام السفلية وابتلاهم بظلمات الضلالة، وخلق الملائكة من الهواء الذي هو أرق الأجرام وأعطاهم كمال القوة والقدرة، وخلق السموات من أمواج مياه البحار وأبقاها معلقة في الفضاء، وخلق آدم من التراب الذي هو أكثف الأجرام فآتاه النور والهداية، وكل ذلك برهان باهر ودليل ظاهر على أنه تعالى هو المدبر بغير احتياج والخالق بلا مزاج. وعلاج خلق البشر من التراب لإطفاء نيران الشهوة والحرص والغضب، وخلقه من الماء خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً [الفرقان:
٥٤] ليكون صافيا تتجلى فيه صور الأشياء. ثم مزج بين التراب والماء لامتزاج اللطيف بالكثيف فصار طينا إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ [ص: ٧١] ثم إنه سل من ألطف أجزاء الطين وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ [المؤمنون: ١٣] ثم جعله طينا لازبا إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ [الصافات: ١١] ثم سنه وغير رائحته وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ [الحجر: ٢٦].
عن بعض العلماء أنه أسر بالروم فقال لهم: لم تعبدون عيسى عليه السلام؟ قالوا:
التأويل:
الاصطفاء ثلاثة أنواع: اصطفاء على غير الجنس إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ [آل عمران: ٣٣] ولم يكن له جنس حين خلقه وأسجد له ملائكته، واصطفاء على الجنس وعلى غير الجنس كاصطفاء محمد ﷺ على الكائنات
كقوله: لولاك لما خلقت الأفلاك.
وقال صلى الله عليه وسلم: «آدم فمن دونه تحت لوائي»
، واصطفاء على الجنس كقوله: يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ [الأعراف: ١٤٤] ولمريم إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ لاصطفائك إياه وَطَهَّرَكِ عن الالتفات لغيره وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ لنيل درجة الكمال وإن لم يكن ذلك من شأن النساء. إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ كل صنف من أصناف الخلق حرف من حروف كلمة معرفة الله تعالى. والعالم بما فيه كلمة المعرفة
كقوله: «كنت كنزا مخفيا فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق لأعرف»
والإنسان وإن كان صنفا من أصناف العالم وهو حرف من حروف كلمة المعرفة لكنه خلق نسخة العالم بما فيه فهو أيضا كلمة المعرفة كالعالم، لكنه خص من العالم بما فيه بكرامة معرفة نفسه ومعرفة ربه ومعرفة العالم بما فيه، وهذا مقام مخصوص بالإنسان الكامل المزكى بتزكية الشريعة المربى بتربية أرباب الطريقة.
وإنما خص عيسى علية السلام بهذا الاسم- أعني الكلمة- من بين سائر الأنبياء والأولياء لأنه خلق مستعدا لهذا الكمال في بدء أمره. قد فهم من كلمة نفسه معرفة ربه كما
قال ﷺ «من عرف نفسه فقد عرف ربه»
وكان من اختصاصه بالكلمة أنه قال في المهد: إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ [مريم: ٣٠] روى مجاهد قال: قالت مريم بنت عمران: كنت إذا خلوت أنا وجنيني حدثته وحدثني، فإذا شغلني عنه إنسان سبح في بطني وأنا أسمع. وسمي المسيح لأنه حين مسح الله تعالى ظهر آدم فاستخرج منه ذرّات ذرّياته لم يردّه إلى مقامه كما
جاء في الخبر «إن الله تعالى أذن للذرّات بالرجوع إلى ظهر آدم وحفظ ذرة عيسى وروحه عنده حتى ألقاها إلى مريم»
فكان قد بقي عليه اسم المسيح أي الممسوح. وَكَهْلًا أي حالة النبوة
الوارد من نفحات ألطافك فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ المشاهدين لأنوار جلالك وَمَكَرُوا أي النفس وصفاتها والشياطين وأتباعها في هلاك عيسى الروح وَمَكَرَ اللَّهُ بتجلي صفات قهره في فناء النفس وصفاتها وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ في قهر النفس الأمارة بالسوء وقمع صفاتها وقلع شهواتها إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ عن الصفات النفسانية والسمات الحيوانية وَرافِعُكَ إِلَيَّ بجذبات العناية كما أسرى بعبده إلى قاب قوسين أو أدنى. ومن خواص الجذبة الربوبية خمود الصفات البشرية ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ باللطف أو القهر بالاختيار على قدم السلوك، أو بالاضطرار عند نزع الروح. فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا بحجاب الغفلة والاشتغال بغير الله، وَالْآخِرَةِ بالقطيعة والبعد عن الله وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ الذين يظلمون أنفسهم بانقضاء العمر في طلب غير الله تعالى. ثم قال له كن فيكون. هذه السنة في تكوين الأرواح والملكوت لا الأجساد والملك، ولكنه أجراها في تكوين آدم من تراب بلا أب وأم، وخلق حوّاء منه بلا أم، وخلق عيسى ابن مريم بلا أب خرقا للعادة ودلالة على اختياره ورغما بأنف من قال بالإيجاب في الإيجاد فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ نهي الكينونة قاله في الأزل فما كان من الممترين ولا يكون إلى الأبد.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٦١ الى ٧١]
فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ (٦١) إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٦٢) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (٦٣) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (٦٤) يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلاَّ مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٦٥)ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٦٦) ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٦٧) إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (٦٨) وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَما يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (٦٩) يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (٧٠)
يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٧١)
القراآت:
ها أَنْتُمْ بالمد وغير الهمزة حيث كان: أبو جعفر ونافع وأبو عمرو.
وروى ابن مجاهد وأبو عون عن قنبل ها أَنْتُمْ على وزن «هعنتم» الباقون بالمد والهمز.
الوقوف:
الْكاذِبِينَ هـ الْقَصَصُ الْحَقُّ ج ط إِلَّا اللَّهُ ط الْحَكِيمُ هـ بِالْمُفْسِدِينَ هـ مِنْ دُونِ اللَّهِ ط لتناهي جملة وافية إلى ابتداء شرط مُسْلِمُونَ هـ مِنْ بَعْدِهِ ط تَعْقِلُونَ هـ لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ ط لا تَعْلَمُونَ هـ مُسْلِماً ط الْمُشْرِكِينَ هـ وَالَّذِينَ آمَنُوا ط الْمُؤْمِنِينَ هـ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ ط يَشْعُرُونَ هـ تَشْهَدُونَ هـ تَعْلَمُونَ هـ.
التفسير:
روي أنه ﷺ لما أورد الدلائل على نصارى نجران، ثم إنهم أصروا على جهلهم قال صلى الله عليه وسلم: إن الله أمرني إن لم تقبلوا الحجة أن أباهلكم. فقالوا: يا أبا القاسم بل نرجع فننظر في أمرنا ثم نأتيك. فلما رجعوا قالوا للعاقب- وكان ذا رأيهم- يا عبد المسيح ما ترى؟ قال: والله لقد عرفتم يا معشر النصارى أن محمدا نبي مرسل، ولقد جاءكم بالكلام الفصل من أمر صاحبكم. والله ما باهل قوم نبيا قط فعاش كبيرهم ولا نبت صغيرهم، ولئن فعلتم لكان الاستئصال، فإن أبيتم إلا الإصرار على دينكم والإقامة على ما أنتم عليه فوادعوا
وكان ﷺ قد احتضن الحسين وأخذ بيد الحسن وفاطمة تمشي خلفه ﷺ وعلي عليه السلام خلفها وهو يقول: إذا دعوت فأمنوا. فقال أسقف نجران: يا معشر النصارى، إنى لأرى وجوها لودعت الله أن يزيل جبلا من مكانه لأزاله بها، فلا تباهلوا فتهلكوا ولا يبقى على وجه الأرض نصراني إلى يوم القيامة. ثم قالوا: يا أبا القاسم، رأينا أن لا نباهلك وأن نقرك على دينك. فقال صلى الله عليه وسلم: فإذا أبيتم المباهلة فأسلموا يكن لكم ما للمسلمين وعليكم ما على المسلمين فأبوا. فقال صلى الله عليه وسلم: فإني أناجزكم أي أحاربكم. فقالوا: ما لنا بحرب العرب المسلمين طاقة، ولكن نصالحك على أن لا تغزونا ولا تردنا عن ديننا على أن نؤدي إليك كل عام ألفي حلة، ألفا في صفر وألفا في رجب وثلاثين درعا عادية من حديد فصالحهم على ذلك. قال صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده إن الهلاك قد تدلى على أهل نجران، ولو لاعنوا لمسخوا قردة وخنازير ولاضطرم عليهم الوادي نارا، ولاستأصل الله نجران وأهله حتى الطير على رؤوس الشجر، ولما حاول الحول على النصارى كلهم حتى يهلكوا.
وروي عن عائشة أنه ﷺ لما خرج في المرط الأسود جاء الحسن فأدخله، ثم جاء الحسين فأدخله، ثم فاطمة ثم علي عليه السلام ثم قال ﷺ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً [الأحزاب: ٣٣]
وهذه الرواية كالمتفق على صحتها بين أهل التفسير والحديث.
فَمَنْ حَاجَّكَ من النصارى فِيهِ في عيسى وقيل في الحق مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ من البينات الموجبة للعلم بأن عيسى عبد الله ورسوله وذلك بطريق الوحي والتنزيل فَقُلْ تَعالَوْا هلموا والمراد المجيء بالرأي والعزم كما تقول: تعال نفكر في هذه المسألة.
وهو في الأصل «تفاعلوا» من العلو. وذلك أن بيوتهم كانت على أعالي الجبل، فكانوا ينادون تعال يا فلان أي ارتفع، إلا أنه كثر حتى استعمل في كل مجيء فصار بمنزلة «هلم».
نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ أي يدع كل منا ومنكم أبناءه ونساءه ويأت هو بنفسه وبمن هو كنفسه إلى المباهلة. وإنما يعلم إتيانه بنفسه من قرينة ذكر النفس ومن إحضار من هم أعز من النفس، ويعلم إتيان من هو بمنزلة النفس من قرينة أن الإنسان لا يدعو نفسه. ثُمَّ نَبْتَهِلْ ثم نتباهل وقد يجيء «افتعل» بمعنى «تفاعل» نحو: اختصم بمعنى تخاصم. والتباهل أن يقول كل واحد منهما: بهلة الله على الكاذب منا أي لعنته. ويقال: بهله الله أي لعنه وأبعده من رحمته ومنه قولهم: «أبهله» إذا أهمله. وناقة بأهل لاصرار عليها بل هي مرسلة مخلاة.
فكل من شاء حلبها وأخذ لبنها لا قوة بها على الدفع عن نفسها. فكأن المباهل يقول: إن كان كذا فوكلني الله إلى نفسي وفوّضني إلى حولي وقوتي وخلاني من كلائه وحفظه. هذا
وفي الآية دلالة على أن الحسن والحسين وهما ابنا البنت يصح أن يقال إنهما ابنا رسول الله ﷺ لأنه ﷺ وعد أن يدعو أبناءه ثم جاء بهما. وقد تمسك الشيعة قديما وحديثا بها في أن عليا أفضل من سائر الصحابة لأنها دلت على أن نفس علي مثل نفس محمد إلا فيما خصه الدليل. وكان في الري رجل يقال له محمود بن الحسن الحمصي، وكان متكلم الاثني عشرية يزعم أن عليا أفضل من سائر الأنبياء سوى محمد. قال: وذلك أنه ليس المراد بقوله: وَأَنْفُسَنا نفس محمد لأن الإنسان لا يدعو نفسه فالمراد غيره. وأجمعوا على أن ذلك الغير كان علي بن أبي طالب فإذا نفس علي هي نفس محمد. لكن الإجماع دل على أن محمدا أفضل من سائر الأنبياء، فكذا علي عليه السلام قال: ويؤكده ما يرويه المخالف والموافق
أنه ﷺ قال: «من أراد أن يرى آدم في علمه. ونوحا في طاعته، وإبراهيم في خلته، وموسى في قربته، وعيسى في صفوته فلينظر إلى علي بن أبي طالب عليه السلام»
فدل الحديث على أنه اجتمع فيه عليه السلام ما كان متفرقا فيهم، وأجيب بأنه كما انعقد الإجماع بين المسلمين على أن محمدا أفضل من سائر الأنبياء فكذا انعقد الإجماع بينهم قبل ظهور هذا الإنسان على أن النبي أفضل ممن ليس بنبي، وأجمعوا على أن عليا عليه السلام ما كان نبيا، فعلم أن ظاهر الآية كما أنه مخصوص في حق محمد ﷺ فكذا في حق سائر الأنبياء، وأما فضل أصحاب الكساء فلا شك في دلالة الآية على ذلك، ولهذا ضمهم إلى نفسه بل قدمهم في الذكر. وفيها أيضا دلالة على صحة نبوة محمد ﷺ فإنه لو لم يكن واثقا بصدقه لم يتجرأ على تعريض أعزته وخويصته وأفلاذ كبده في معرض الابتهال ومظنة الاستئصال، ولولا أن القوم عرفوا من التوراة والإنجيل ما يدل على نبوته ﷺ لما أحجموا عن مباهلته، وأما قول المشركين اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ [الأنفال: ٣٢] فليس من قبيل المباهلة، فإن النبي ﷺ لم يعرض نفسه لذلك ولم يكن ذلك القول في معرض الاحتجاج والادعاء ولا بإذن من الله تعالى لرسوله. إِنَّ هذا الذي تلي عليك من نبأ عيسى لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللَّهُ وهو في إفادة معنى الاستغراق لزيادة «من» بمنزلة لا إله إلا الله مبنيا على الفتح، وفيه رد على النصارى في تثليثهم وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ فيه جواب عن شبهة النصارى أن عيسى يقدر على الإحياء ويخبر عن الغيوب، فإن هذا القدر من القدرة والعلم لا يكفي في الإلهية، بل يجب أن يكون الإله غالبا لا يدفع ولا يمنع وهم يقولون إنه قد قتل ولم يقدر على الدفع. ويلزم أن يكون عالما
روي أن اليهود قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: ما تريد إلا أن نتخذك ربا كما اتخذت النصارى عيسى، وقالت النصارى: يا محمد ما نريد إلا أن نقول فيك ما قالت اليهود في عزير. فأنزل الله تعالى هذه الآية.
والمراد من قوله: تَعالَوْا تعيين ما دعوا إليه والتوجه إلى النظر فيه وإن لم يكن انتقالا من مكان إلى مكان. والمعنى هلموا إلى كلمة سواء فيها إنصاف من بعضنا لبعض، لا ميل فيه لأحد على صاحبه. والسواء هو العدل والإنصاف لأن حقيقة الإنصاف إعطاء النصف وفيه التسوية بين نفسه وبين صاحبه. أو المراد إلى كلمة سواء مستوية بيننا وبينكم لا يختلف فيها القرآن والتوراة والإنجيل. وتفسير الكلمة بقوله: أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فمحل أَلَّا نَعْبُدَ خفض على البدل من كَلِمَةٍ أو رفع على الخبر أي هي أن لا نعبد. وهو خبر في معنى الأمر أي اعبدوا. وإنما ذكر أمورا ثلاثة لأن النصارى جمعوا بين الثلاثة. فعبدوا غير الله وهو المسيح، وأشركوا به غيره لأنهم أثبتوا أقانيم ثلاثة أبا وابنا وروح القدس. ثم قالوا: إن أقنوم الكلمة تدرعت بناسوت المسيح وأقنوم روح القدس تدرعت بناسوت مريم، ولولا كون هذين الأقنومين ذاتين مستقلتين لما جاز عليهما مفارقة ذات الأب والتدرع بناسوت عيسى ومريم. وحيث أثبتوا ثلاثة ذوات مستقلة فقد أشركوا. ثم اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا لأنهم أطاعوهم في التحليل والتحريم من تلقاء أنفسهم من غير شريعة وبيان، ولأنهم يسجدون لهم ويطيعونهم في المعاصي وهوى النفس ورؤية الأمور من الوسائط أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ [الجاثية:
٢٣] ولأن من مذهبهم أن الكامل في الرياضة يظهر فيه أثر اللاهوت ويحل فيه فيقدر على إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص. فهم وإن لم يطلقوا عليهم اسم الرب إلا أنهم أثبتوا
عن عدي بن حاتم: ما كنا نعبدهم يا رسول الله. قال صلى الله عليه وسلم: أليس كانوا يحلون لكم ويحرمون فتأخذون بقولهم؟ قال: نعم.
قال صلى الله عليه وسلم: هو ذاك.
وعن الفضيل: لا أبالي أطعت مخلوقا في معصية الخالق أو صليت لغير القبلة. فَإِنْ تَوَلَّوْا عن التوحيد فَقُولُوا أيها المسلمون لأهل الكتاب اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ دونكم كما يقول الغالب لمغلوبه في جدال أو صراع: لزمتك الحجة فاعترف بأني أنا الغالب. أو يكون من باب التعريض ومعناه فاعترفوا بأنكم كافرون حيث أعرضتم عن الحق بعد ما تبين. ثم إن اليهود كانوا يقولون: إن إبراهيم على ديننا وكذا النصارى، فأبطل الله تعالى ذلك بأن التوراة والإنجيل ما أنزلا إلا من بعده. فبين إبراهيم وموسى ألف سنة، وبينه وبين عيسى ألفان، فكيف يعقل أن يكون يهوديا أو نصرانيا؟ لا يقال هذا أيضا لازم عليكم لأنكم تدعون أن إبراهيم كان على دين الإسلام، والإسلام إنما أنزل بعده بزمان أطول مما بينه وبين إنزال التوراة والإنجيل. لأنا نقول: القرآن أخبر بأن إبراهيم لم يكن يهوديا ولا نصرانيا وإنما كان حنيفا مسلما، وليس في الكتابين أنه كان يهوديا أو نصرانيا فظهر الفرق.
وأيضا المسيح ما كان موجودا في زمان إبراهيم حتى يعبد، وعبادة المسيح هي النصرانية عندكم. وأيضا لا نسخ في دين اليهود والنسخ جائز في ملة إبراهيم ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ «ها» حرف التنبيه وأَنْتُمْ مبتدأ وهؤُلاءِ خبره وحاجَجْتُمْ جملة مستأنفة مبينة للأولى يعني أنتم هؤلاء الحمقى، وبيان حماقتكم أنكم حاججتم فيما لكم به علم مما نطق به التوراة والإنجيل من نعت محمد صلى الله عليه وسلم. أو ليس المراد وصفهم بالعلم حقيقة وإنما أراد: هب أنكم تحاجون فيما تدعون علمه، فكيف تحاجون فيما لا علم لكم به البتة ولا ذكر له في كتابكم؟
وعن الأخفش: ها أَنْتُمْ أصله أأنتم على الاستفهام. فقلبت الهمزة هاء، ومعنى الاستفهام التعجب من جهالتهم. ثم حقق ذلك بقوله: وَاللَّهُ يَعْلَمُ كيف كان حال هذه الشرائع في الموافقة والمخالفة وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ثم بين ذلك مفصلا فقال: ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ كما لم يكن يهوديا ولا نصرانيا، أو عرض بالمشركين عن اليهود والنصارى لإشراكهم بالله عزيرا والمسيح. فإن قيل: قولكم «إبراهيم على دين الإسلام» إن أردتم به الموافقة في الأصول فليس هذا مختصا بدين الإسلام، وإن أردتم به الموافقة في الفروع لزم أن لا يكون محمد صاحب شريعة بل كان
روى الواحدي عن أصحاب رسول الله ﷺ قالوا: لما هاجر جعفر بن أبي طالب وأصحابه إلى الحبشة واستقرت بهم الدار وهاجر رسول الله ﷺ إلى المدينة وكان من أمر بدر ما كان، اجتمعت قريش في دار الندوة وقالوا: إن لنا في الذين عند النجاشي من أصحاب محمد ﷺ ثأرا بمن قتل منكم ببدر. فأجمعوا مالا وأهدوه إلى النجاشي لعله يدفع إليكم من عنده من قومكم، ولينتدب لذلك رجلان من ذوي آرائكم. فبعثوا عمرو بن العاص وعمارة بن أبي معيط مع هدايا الأدم وغيره، فركبا البحر وأتيا الحبشة. فلما دخلا على النجاشي سجدا له وسلما عليه وقالا له:
إن قومنا لك ناصحون شاكرون وإصلاحك محبون، وإنهم بعثونا إليك لنحذرك هؤلاء القوم الذين قدروا عليك لأنهم قوم رجل كذاب خرج فينا يزعم أنه رسول الله ولم يتابعه أحد منا إلا السفهاء. وإنا كنا ضيقنا عليهم الأمر وألجأناهم إلى شعب بأرضنا لا يدخل أحد منا عليهم ولا يخرج منهم أحد، قد قتلهم الجوع والعطش. فلما اشتد عليهم الأمر بعث إليك ابن عمه ليفسد عليك دينك وملكك ورعيتك، وقد جئتك فاحذرهم وادفعهم إلينا لنكفيكهم. قالوا: وآية ذلك أنهم إذا دخلوا عليك لا يسجدون لك ولا يحيونك بالتحية التي يحييك بها الناس رغبة عن دينك وسنتك. قال: فدعاهم النجاشي. فلما حضروا صاح جعفر بالباب يستأذن عليك حزب الله. فقال النجاشي: مروا هذا الصائح فليعد كلامه ففعل جعفر. فقال النجاشي: نعم فليدخلوا بأمان الله وذمته. فنظر عمرو بن العاص إلى صاحبه فقال: ألا تسمع كيف يرطنون بحزب الله وما أجابهم به النجاشي فساءهما ذلك. ثم دخلوا عليه ولم يسجدوا له فقال عمرو بن العاص: ألا ترى أنهم يستكبرون أن يسجدوا لك؟ فقال لهم النجاشي: ما يمنعكم أن تسجدوا لي وتحيوني بالتحية التي يحيي بها من أتاني من الآفاق؟ قالوا: نسجد لله الذي خلقك وملكك، وإنما كانت تلك التحية لنا ونحن نعبد الأوثان، فبعث الله فينا نبيا صادقا وأمرنا بالتحية التي رضيها الله لنا وهي «السلام» تحية أهل الجنة. فعرف النجاشي أن ذلك حق وأنه في التوراة والإنجيل. قال: أيكم الهاتف يستأذن عليك حزب الله؟ قال جعفر: أنا. قال: فتكلم. قال: إنك ملك من ملوك أهل الأرض ومن أهل الكتاب، ولا يصلح عندك كثرة الكلام ولا الظلم، وأنا أحب أن أجيب عن أصحابي.
تكلم. فقال جعفر للنجاشي: سل هذا الرجل أعبيد نحن أم أحرار؟ فإن كنا عبيدا أبقنا من أربابنا فأرددنا إليهم. فقال النجاشي: أعبيد هم أم أحرار؟ فقال: بل أحرار كرام. فقال النجاشي: نجوا من العبودية. قال جعفر للنجاشي: سلهما هل أهرقنا دما بغير حق فيقتص منا؟ فقال عمرو: لا ولا قطرة. قال جعفر: سلهما هل أخذنا أموال الناس بغير حق فعلينا قضاؤها؟ قال النجاشي: يا عمرو إن كان قنطارا فعليّ قضاؤه. فقال عمرو: لا ولا قيراط.
قال النجاشي: فما تطلبون منهم؟ قال عمرو: كنا وهم على دين واحد وأمر واحد على دين آبائنا، فتركوا ذلك الدين واتبعوا غيره ولزمناه نحن، فبعثنا إليك قومهم لتدفعهم إلينا. فقال النجاشي: ما هذا الدين الذي كنتم عليه والدين الذي اتبعوه أصدقني. قال جعفر: أما الدين الذي كنا عليه فتركناه فهو دين الشيطان وأمره. كنا نكفر بالله عزّ وجلّ ونعبد الحجارة. وأما الدين الذي تحولنا إليه فدين الإسلام، جاءنا به من الله رسول وكتاب مثل كتاب ابن مريم موافقا له. فقال النجاشي: يا جعفر تكلمت بأمر عظيم فعلى رسلك. ثم أمر النجاشي فضرب بالناقوش فاجتمع إليه كل قسيس وراهب. فلما اجمعوا عنده قال النجاشي: أنشدكم بالله الذي أنزل الإنجيل على عيسى، هل تجدون بين عيسى وبين يوم القيامة نبيا مرسلا؟
فقالوا: اللهم نعم، قد بشرنا به عيسى وقال: من آمن به فقد آمن بي ومن كفر به فقد كفر بي. فقال النجاشي لجعفر: ماذا يقول لكم هذا الرجل وما يأمركم به وما ينهاكم عنه؟ قال:
يقرأ علينا كتاب الله ويأمر بالمعروف وينهي عن المنكر ويأمر بحسن الجوار وصلة الرحم وبر اليتيم، ويأمرنا أن نعبد الله وحده لا شريك له. فقال: اقرأ علي شيئا مما يقرأ عليكم.
فقرأ عليهم سورة العنكبوت والروم ففاضت أعين النجاشي وأصحابه من الدموع وقالوا: يا جعفر زدنا من هذا الحديث الطيب. فقرأ عليهم سورة الكهف. فأراد عمرو أن يغضب النجاشي فقال: إنهم يشتمون عيسى وأمه. فقال النجاشي: ما تقولون في عيسى وأمه؟ فقرأ عليهم جعفر سورة مريم. فلما أتى ذكر مريم وعيسى رفع النجاشي نفثة من سواكه قدر ما يقذى العين وقال: والله ما زاد المسيح على ما يقولون هذا. ثم أقبل على جعفر وأصحابه فقال: اذهبوا فأنتم شيوم بأرضي يقول آمنون من سبكم أو أذاكم. قال:
أبشروا ولا تخافوا فلا دهورة أي لا خوف اليوم على حزب إبراهيم. قال عمرو: يا نجاشي ومن حزب إبراهيم؟ قال: هؤلاء الرهط وصاحبهم الذي جاؤا من عنده ومن اتبعهم. فأنكر ذلك المشركون وادعوا أنهم في دين إبراهيم. ثم رد النجاشي على عمرو وأصحابه المال الذي حملوه وقال: إنما هديتكم إليّ رشوة فاقبضوها فإن الله ملكني ولم يأخذ مني رشوة.
على ملته وسنته في زمانه وَهذَا النَّبِيُّ يعني محمدا ﷺ وَالَّذِينَ آمَنُوا في آخر الزمان وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ بالنصرة والتأييد والتوفيق والتسديد. ومعنى أَوْلَى النَّاسِ أخصهم به وأقربهم منه من الولي القرب. وقرىء وَهذَا النَّبِيُّ بالنصب عطفا على الهاء في اتَّبَعُوهُ وبالجر عطفا على بِإِبْراهِيمَ. عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن لكل نبي ولاة من النبيين وإن وليي منهم أبي وخليل ربي إبراهيم ثم قرأ إن أولى الناس الآية» ثم بين أنهم لا يقتصرون على هذا القدر بل يجتهدون في إضلال المؤمنين بإلقاء الشبهات وإبداء المكايد كما أرادوا بحذيفة وعمار ومعاذ بن جبل وقد ذكرناه في سورة البقرة. وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ لأن وبال الإضلال يعود عليهم فيضاعف لهم العذاب بالضلال والإضلال، أو وما يقدرون على إضلال المؤمنين وإنما يضلون أمثالهم من أشياعهم وَما يَشْعُرُونَ أن هذا يضرهم ولا يضر المؤمنين. ثم وبخهم على قبائح أفعالهم بطريق الاستفهام فقال: لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ قيل: أي بالتوراة والإنجيل لما فيهما من البشارة بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، أو أن إبراهيم كان حنيفا مسلما، أو أن الدين عند الله الإسلام، ومعنى الكفر بالتوراة والإنجيل إما الكفر بما يدلان عليه فيكون قد أطلق اسم الدليل على المدلول، أو الكفر بنفس التوراة والإنجيل لأنهم كانوا يحرّفونهما وينكرون وجود تلك الآيات الدالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم.
ومعنى وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ أنهم عند حضور المسلمين وعند حضور عوامهم كانوا ينكرون اشتمال التوراة والإنجيل على نعت محمد صلى الله عليه وسلم، وإذا خلا بعضهم إلى بعض شهدوا بصحتها، وعلى هذا فيكون في الآية إخبار عن الغيب فيكون معجزا. وقيل: آيات الله في القرآن وشهادتهم أنهم يعرفون في قلوبهم أنه حق. وقيل: آيات الله جملة المعجزات التي ظهرت على يد النبي صلى الله عليه وسلم. فمعنى تشهدون أنكم تعترفون بدلالة المعجزة على صدق المدعي. ثم لما وبخهم على الغواية أردفه التوبيخ بالإغواء. وهو إما بإلقاء الشبهات في الدين وهو معنى لبسهم الحق بالباطل، وإما بإخفاء الدلائل وهو كتمانهم الحق. عن الحسن وابن زيد:
حرفوا التوراة فخلطوا المنزل بالمحرف. وعن ابن عباس: أظهروا الإسلام في أول النهار ثم رجعوا عنه في آخره تشكيكا للناس. قيل: إن في الكتابين ما يدل على نبوة محمد ﷺ والبشارة به وفيهما ما يوهم خلاف ذلك فيكون كالمحكم والمتشابه في القرآن. فلبسوا على الضعفاء أحد الأمرين بالآخر كما يفعل كثير من المشبهة. وهذا قول القاضي. وقيل: كانوا يقولون: إن محمدا ﷺ معترف بأن شرع موسى حق، ثم إن التوراة دلت على أنه لا ينسخ،
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٧٢ الى ٨٠]
وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٧٢) وَلا تُؤْمِنُوا إِلاَّ لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٧٣) يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٧٤) وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٥) بَلى مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٧٦)
إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٧٧) وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٨) ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (٧٩) وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (٨٠)
القراآت:
آن يؤتى بهمزتين وتليين الثانية: ابن كثير. الباقون بهمزة واحدة يؤدهى ولا يؤدهى ابن كثير ونافع غير قالون وابن عامر وعلي وخلف وحفص والمفضل وعباس وسهل وزيد عن يعقوب، وقرأه أبو جعفر وقالون ويعقوب غير زيد وأبو عمرو في رواية الزيدي طريق أبي أيوب الهاشمي بالاختلاس. الباقون ساكنة الهاء. تعلمون بالتشديد: عاصم وعلي وحمزة وخلف وابن عامر. فحذف المفعول الأول للعلم به وهو الناس. الباقون تعلمون بالتخفيف من العلم. وَلا يَأْمُرَكُمْ بالرفع: ابن كثير وأبو جعفر ونافع وأبو عمرو وعلي والأعشى والبرجمي وأبو زيد غير المفضل، وقرأ أبو عمرو بالاختلاس. الباقون بالنصب.
يَرْجِعُونَ ج للعطف دِينَكُمْ ط هُدَى اللَّهِ (لا) لأن التقدير ولا تصدقوا بأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم إلا لمن تبع دينكم. وقوله: «قل» مع مقوله معترض.
ومن قرأ آن يؤتى مستفهما وقف عليها. عِنْدَ رَبِّكُمْ ط بِيَدِ اللَّهِ ج ط لأن يُؤْتِيهِ لا يتعلق بما قبله مع أن ضمير فاعله عائد إلى الله. مَنْ يَشاءُ ط عَلِيمٌ هـ ط ج لاحتمال الاستئناف والصفة. مَنْ يَشاءُ ط الْعَظِيمِ هـ إِلَيْكَ الأولى ج لتضاد الجملتين معنى مع اتفاقهما لفظا. قائِماً ط سَبِيلٌ ج لأن الواو للاستئناف مع اتساق معنى الكلام يَعْلَمُونَ هـ الْمُتَّقِينَ هـ يُزَكِّيهِمْ ص أَلِيمٌ هـ وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ ج لعطف المتفقتين مع وقوع العارض وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ج يَعْلَمُونَ هـ تَدْرُسُونَ هـ لا لمن قرأ وَلا يَأْمُرَكُمْ بالنصب عطفا على أَنْ يُؤْتِيَهُ أَرْباباً ط مُسْلِمُونَ هـ.
التفسير:
هذا نوع آخر من تلبيساتهم. وقوله بِالَّذِي أُنْزِلَ يحتمل أن يراد كل ما أنزل الله عليهم، ويحتمل أن يراد بعض ما أنزل. أما الاحتمال الأول فقول الحسن والسدي تواطأ اثنا عشر حبرا من يهود خيبر وقرى عرينة وقال بعضهم لبعض: ادخلوا في دين محمد باللسان دون الاعتقاد وَجْهَ النَّهارِ أي أوله. والوجه في اللغة مستقبل كل شيء ومنه وجه الثوب لأول ما يبدو منه. روى ثعلب عن ابن الأعرابي: أتيته بوجه نهار وصدر نهار وشباب نهار. وأنشد الربيع بن زياد:
من كان مسرورا بمقتل مالك | فليأت نسوتنا بوجه نهار |
يجد النساء حواسرا يندبنه | قد قمن قبل تبلج الأسحار |
فمعنى البيت من كان مسرورا فلير أثر تشفي الغيظ ودرك الثأر قبل أن يمضي على المقتول تمام يوم وليلة. واكفروا به آخر النهار وقولوا: إنا نظرنا في كتابنا وشاورنا علماءنا فوجدنا محمدا ليس بذلك، فإن أصحابه متى شاهدوا هذا غلب على ظنونهم أن هذا التكذيب ليس لأجل الحسد والعناد وإلا لما آمنوا به في أول الأمر، وإنما ذلك لأمر لأجل أنهم أهل كتاب وقد تفكروا في أمره وفي دلائل نبوته، فلاح لهم بعد التأمل التام والبحث الشافي أنه كذاب فيكون في هذا الطريق تشكيك لضعفة المسلمين فربما يرجعون عن دينهم. وقال أبو مسلم: معنى وجه النهار وآخره أن رؤساء اليهود والنصارى قال بعضهم لبعض: نافقوا وأظهروا الوفاق للمؤمنين ولكن بشرط أن تثبتوا على دينكم إذا خلوتم بإخوانكم من أهل الكتاب، فإن أمر هؤلاء في اضطراب فزجوا الأيام معهم بالنفاق فربما ضعف أمرهم واضمحل دينهم
: ١٤٢] ثم وبخهم بالاستفهام المذكور. ويحتمل أن يكون المعنى: ولا تؤمنوا هذا الإيمان الظاهر وهو إيمانهم وجه النهار إلا لمن كانوا تابعين لدينكم ممن أسلموا منكم، لأن رجوعهم كان أرجى عندهم من رجوع من سواهم، ولأن إسلامهم كان أغيظ لهم. فقيل للنبي ﷺ قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ وقد جئتكم به فلن ينفعكم هذا الكيد الضعيف. ثم استفهم فقال: ألأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم قلتم ذلك ودبرتم لا لشيء آخر؟ يعني أن ما بكم من الحسد والبغي أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم من فضل العلم والكتاب دعاكم إلى أن قلتم ما قلتم؟ ثم قال: أَوْ يُحاجُّوكُمْ يعني دبرتم ما دبرتم لأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم، أو لما يتصل بالإيتاء عند كفركم به من محاجتهم لكم عند ربكم لأن ما أوتوا مثل ما أوتيتم، فحين لم تؤمنوا به ثبت لهم حجة عليكم. وأما إن لم تقدر همزة الاستفهام فالتقدير إما كما سبق. أو يقال: الْهُدى اسم «إن» وهُدَى اللَّهِ بدل منه. والتقدير: قل إن هدى الله أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم. ويكون «أو» بمعنى «حتى» ويتم الكلام بمحذوف أي حتى يحاجوكم عند ربكم فيقضي لهم عليكم ويدحض حجتكم، أو يقال: أَنْ يُؤْتى مفعول فعل محذوف هو لا تنكروا لأنه لما كان الهدى هدى الله كان له أن يؤتيه من يشاء من عباده ومتى كان كذلك لزم ترك الإنكار فصح أن يقال: لا تنكروا أن يؤتى أحد سواكم من الهدى ما أوتيتموه أو يحاجوكم- يعني هؤلاء المسلمين- بذلك عند ربكم إن لم تقبلوا ذلك منهم. أو يقال الْهُدى اسم للبيان وهُدَى اللَّهِ بدل ويضمر لا بعد «إن» مثل أَنْ تَضِلُّوا [النساء: ١٧٦] أي لا تضلوا. والتقدير: قل يا محمد لأمتك إن بيان الله هو أن لا يؤتى أحد مثل ما أوتيتم وهو دين الإسلام الذي هو أفضل الأديان، وأن لا يحاجوكم- يعني هؤلاء اليهود- عند ربكم في الآخرة لأنه يظهر لهم في الآخرة أنكم مهتدون وأنهم ضالون. وأما الاحتمال الثاني وهو أن يكون قوله: أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ من تتمة كلام اليهود، وقوله: قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ جملة معترضة. فمعناه لا تظهروا إيمانكم بأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم إلا لأهل دينكم دون غيرهم، أو لا تقروا بأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم إلا لمن تبع دينكم. فحذف حرف الجر من «أن» على القياس. قال في الكشاف: أراد أسروا تصديقكم بأن المسلمين قد أوتوا من كتب الله مثل ما أوتيتم ولا
قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ مؤكد للاعتراض الأول، أو هو اعتراض آخر يجيء بعد تمام الكلام كقوله: وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ [النمل: ٣٤] بعد قوله: إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها [النمل: ٣٤] فإن قيل: إن جد القوم في حفظ أتباعهم عن قبول دين محمد ﷺ كان أعظم من جدهم في حفظ غير أتباعهم عنه، فكيف يليق أن يوصي بعضهم بعضا بالإقرار؟ ربما يدل على صحة دين محمد ﷺ عند أتباعهم وأن يمتنعوا من ذلك عند الأجانب. فالجواب:
ليس المراد من هذا النهي الأمر بإفشاء هذا التصديق فيما بين أتباعهم، بل المراد أنه ان اتفق منكم تكلم بهذا فلا يكن إلا عند خويصتكم وأصحاب أسراركم. على أنه يحتمل أن يكون شائعا ولكن البغي والحسد كان يحملهم على الكتمان من غيرهم. فإن قيل: كيف وقع قوله: قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ فيما بين جزأي كلام واحد؟ وهذا لا يليق بكلام الفصحاء؟
قلت: قال القفال: يحتمل أن يكون هذا كلاما أمر الله نبيه أن يقوله عند ما وصل الكلام إلى هذا الحد. كأنه لما حكى عنهم في هذا الموضع قولا باطلا لا جرم أدب رسوله ﷺ بأن يقابله بقول حق، ثم يعود إلى حكاية تمام كلامهم كما إذا حكى المسلم عن بعض الكفار قولا فيه كفر فيقول عند بلوغه إلى تلك الكلمة: آمنت بالله أو لا إله إلا الله، أو تعالى الله، ثم يعود إلى تلك الحكاية. وقيل: في الكلام تقديم وتأخير والتقدير: ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم أو يحاجوكم عند ربكم قل إن الهدى هدى الله وأن الفضل بيد. واعلم أنه تعالى حكى عن اليهود أمرين: أحدهما أن يؤمنوا وجه النهار ويكفروا آخره ليصير ذلك شبهة للمسلمين في صحة الإسلام فأجاب بقوله: قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ. وذلك أن مع كمال هداية الله وقوة بيانه لا يكون لهذه الشبهة الركيكة عين ولا أثر.
وثانيها أنهم استنكروا أن يؤتى أحد مثل ما أوتوا من الكتاب والحكمة والنبوة فأجاب عنه بقوله: قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ والمراد بالفضل الرسالة وهو في اللغة الزيادة، وأكثر ما يستعمل في زيادة الإحسان. والفاضل الزائد على غيره في خصال الخير.
ومعنى قوله بِيَدِ اللَّهِ أنه مالك له غالب عليه يوضحه قوله يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ. وفيه دليل
إن أصحاب الأمانة هم النصارى لغلبة الأمانة عليهم، وأهل الخيانة اليهود لكثرة ذلك فيهم.
وقال ابن عباس: مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ هو عبد الله بن سلام استودعه رجل من قريش ألفا ومائتي أوقية ذهبا فأداه إليه ومَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ هو فنحاص بن عازورا استودعه رجل من قريش دينارا فجحده وخانه. وقال أهل الحقيقة: هي فيمن يؤتى كثيرا من الدنيا فيخرج عن عهدته بعدم الالتفات إليه وقطع النظر عنه ثقة بالله وتوكلا عليه واكتفاء به، وفيمن يمتحن بالدنيا فيكون همه مقصورا عليها معرضا عما سواها غير مؤد حقوقها.
ويقال: أمنته بكذا وعلى كذا، فمعنى الباء إلصاق الأمانة بحفظها وحياطتها، ومعنى «على» استعلاؤها والاستيلاء عليها. والمراد بالقنطار والدينار هاهنا العدد الكثير والعدد القليل فلا حاجة إلى تعيينه. وأما الأقوال فيه فقد مرت في أوائل السورة. وقد يستدل بما روينا عن ابن عباس أن القنطار ألف ومائتا أوقية. ويدخل تحت القنطار والدينار العين والدين، لأن الإنسان قد يأتمن غيره على الوديعة وعلى المبايعة وعلى المقارضة، وليس في الآية ما يدل على التعيين لكنه نقل عن ابن عباس أنه محمول على المبايعة فقال: منهم من تبايعه بثمن القنطار فيؤده إليك، ومنهم من تبايعه بثمن الدينار فلا يؤده إليك. ونقلنا عنه أيضا أنها نزلت في الوديعة. وأما قوله إِلَّا ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً فمنهم من حمله على حقيقته. قال السدي:
يعني إلا مدة دوامك عليه يا صاحب الحق قائما على رأسه مجتمعا معه ملازما إياه، فإن
روي أن اليهود عاملوا رجالا في الجاهلية من قريش.
فلما أسلموا تقاضوهم فقالوا: ليس لكم علينا حق حيث تركتم دينكم، وادعوا أنهم وجدوا ذلك في كتابهم
فلا جرم قال تعالى: وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ بادعائهم أن ذلك في كتابهم وَهُمْ يَعْلَمُونَ أنهم كاذبون، وهذه غاية الجرأة والجهالة. أو يعلمون حرمة الخيانة، أو يعلمون ما على الخائن من الإثم.
عن النبي ﷺ أنه قال عند نزولها: كذب أعداء الله ما من شيء في الجاهلية إلا وهو تحت قدميّ إلا الأمانة فإنها مؤداة إلى البر والفاجر.
وعن ابن عباس أنه سأله رجل فقال: إنا نصيب في الغزو من أموال أهل الذمة الدجاجة والشاة. قال: فتقولون ماذا؟ قال: نقول ليس علينا في ذلك بأس. قال: هذا كما قال أهل الكتاب ليس علينا في الأميين سبيل. إنهم إذا أدوا الجزية لم يحل أكل أموالهم إلا بطيب أنفسهم، بَلى قال الزجاج: عندي وقف التمام هاهنا لأنه لمجرد نفي ما قبله أي بلى عليهم سبيل في ذلك وما بعده استئناف، وقال غيره: إنه يذكر في ابتداء كلام يقع جوابا عن المنفي قبله. فقولهم: ليس علينا جناح قائم مقام قوله: نحن أحباء الله تعالى فقيل لهم: إن أهل الوفاء بالعهد وأهل التقى هم الذين يحبهم الله. وعلى هذا فلا وقف على «بلى». وفيه أن اليهود ليسوا من الوفاء والتقى في شيء، ولو أنهم أوفوا بالعهود أوفوا أول كل شيء بالعهد الذي أخذه الله تعالى في كتابهم من الإيمان بنبي آخر الزمان وهو محمد صلى الله عليه وسلم. ولو أنهم اتقوا الله لم يكذبوا عليه ولم يحرفوا كتابه. وعموم لفظ المتقين قائم مقام الضمير العائد إلى المبتدأ والضمير في بِعَهْدِهِ يجوز أن يرجع إلى مَنْ ويجوز أن يرجع إلى اسم الله كقوله في الآية التالية بِعَهْدِ اللَّهِ. واعلم أن الوفاء والتقى أصلان لجميع مكارم الأخلاق. فالوفاء بالعهد يشمل عهد الميثاق وعهد الله تعالى بالتزام التكاليف الخاصة
فكل متق موف بالعهد ولا يلزم العكس، فلهذا اقتصر على قوله: يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ دون أن يقول يحب الموفين أو الموفين والمتقين فافهم. ثم إنه سبحانه لما وصف اليهود بالخيانة في أموال الناس- والخيانة فيها لا تتمشى إلا بالأيمان الكاذبة غالبا- لا جرم أردفها بالوعيد عليها. وأيضا الخيانة في العهود وفي تعظيم أسماء الله تناسب الخيانة في الأموال، فلا جرم قال: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ الآية. واختلفت الروايات في سبب النزول فمنهم من خصها باليهود لأن الآيات السابقة فيهم وكذا اللاحقة، ومنهم من خصها بغيرهم والروايات هذه.
قال عكرمة: نزلت في أبي رافع ولبابة بن أبي الحقيق وحيي بن أخطب وغيرهم من رؤوس اليهود. كتموا ما عهد الله إليهم في التوراة في شأن محمد ﷺ وبدلوه وكتبوا بأيديهم غيره، وحلفوا أنه من عند الله كيلا يفوتهم الرشا والمآكل التي كانت لهم على أتباعهم. وقال الكلبي: إن ناسا من علماء اليهود أولي فاقة أصابتهم سنة فاقتحموا إلى كعب بن الأشرف بالمدينة. فسألهم كعب: هل تعلمون أن هذا الرجل رسول الله في كتابكم؟ قالوا: نعم، وما تعلمه أنت؟ قال: لا. قالوا: فإنا نشهد أنه عبد الله ورسوله. قال كعب: لقد حرمكم الله خيرا كثيرا. لقد قدمتم عليّ وأنا أريد أن أميركم وأكسو عيالكم فحرمكم الله وحرم عيالكم.
فقالوا: فإنه شبه لنا فرويدا حتى نلقاه. فانطلقوا وكتبوا صفة سوى صفته ثم انتهوا إلى رسول الله فكلموه وسألوه ثم رجعوا فقالوا: لقد كنا نرى أنه رسول الله فلما أتيناه إذا هو ليس بالنعت الذي نعت لنا، ووجدنا نعته مخالفا للذي عندنا. وأخرجوا الذي كتبوا فنظر إليه كعب ففرح وأمارهم وأنفق عليهم فنزلت.
وعن الأشعث بن قيس: خاصمت رجلا في بئر فاختصمنا إلى رسول الله ﷺ فقال: شاهداك أو يمينه. فقلت: إذا يحلف ولا يبالي.
فقال صلى الله عليه وسلم: «من حلف عليّ يمين يستحق بها مالا هو فيها فاجر لقي الله وهو عليه غضبان» ونزلت الآية على وفقه.
وقيل: نزلت في رجل أقام سلعة في السوق فحلف لقد أعطى بها ما لم يعطه. ومعنى يشترون يستبدلون، وعهود الله مواثيقه، واليمين هي التي يؤكد الإنسان بها خبره من وعد أو وعيد أو إنكار أو إقرار بذكر اسم الله تعالى أو صفة من صفاته أو ما يجري مجراه. والثمن القليل متاع الدنيا من المال والجاه ونحوهما. ثم إنه تعالى رتب على الشراء بعهد الله وبأيمانهم ثمنا قليلا خمسة أنواع من الجزاء فقوله: أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إشارة إلى أنه لا نصيب لهم في منافعها ونعيمها. وقوله: وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ إشارة إلى حرمانهم عما عند الله من الكرامات والقرب.
وقوله: وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ إشارة إلى ما يحصل لهم هنالك من صنوف الآلام وضروب
لا ينظر إليهم مجاز عن الاستهانة بهم والسخط عليهم. تقول: فلان لا ينظر إلى فلان تريد نفي اعتداده به. وأصله فيمن يجوز عليه النظر الكناية لأن من اعتد بالإنسان التفت إليه وأعاره نظر عينيه، ثم كثر حتى صار عبارة عن الاعتداد والإحسان وإن لم يكن ثمة نظر. ثم جاء فيمن لا يجوز عليه النظر مجردا لمعنى الإحسان مجازا عما وقع كناية عنه فيمن يجوز عليه النظر. قلت: لعله أراد بهذا المجاز الاستعارة كأنه شبه هذا النظر بذاك النظر، ثم حذف المشبه وأداة التشبيه فبقي استعارة. وفي التفسير الكبير: لا يجوز أن يكون المراد من هذا النظر الرؤية لأنه تعالى يراهم كما يرى غيرهم، ولا يجوز أن يكون المراد من النظر تقليب الحدقة إلى جانب المرئي التماسا لرؤيته لأن هذا من صفات الأجسام وهو تعالى منزه عن ذلك، وقد احتج المخالف بهذه الآية على أن النظر المقرون بحرف «إلى» ليس بمعنى الرؤية وإلا لزم من هذه الآية أن لا يكون الله رائيا وذلك باطل. قلت: يجوز أن يراد بهذا النظر النظر المعهود وهو الذي سيخص الله تعالى به أولياءه من أنه ينظر إليهم وينظرون إليه وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ [القيامة: ٢٢، ٢٣] وعلى هذا جاز أن يكون النظر بمعنى الرؤية لأنه لا يلزم من نفي رؤية يراه العباد أيضا وقتئذ نفي رؤية لا يرونه حينئذ وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً عن ابن عباس هم اليهود الذين قدموا على كعب بن الأشرف غيروا التوراة وكتبوا كتابا بدلوا فيه صفة رسول الله ﷺ فأخذت قريظة ما كتبوه فخلطوه بالكتاب الذي عندهم يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ قال القفال: معناه أن يعمدوا إلى اللفظة فيحرفونها في حركات الإعراب تحريفا يتغير به المعنى. فإن الليّ عبارة عن عطف الشيء ورده عن الاستقامة إلى الاعوجاج وهذا كثير في لسان العرب فلا يبعد مثله في العبرانية. وإنما كانوا يفعلون مثل ذلك في الآيات الدالة على نبوة محمد ﷺ وفي غيرها بحسب أغراضهم الفاسدة. وفي الكشاف: أي يقتلونها بقراءته عن الصحيح إلى المحرف. أقول: وذلك أن لي اللسان أشبه بالتشدق والتنطع والتكلف مذموم، فعبر الله عن قراءتهم لذلك الكتاب الباطل بليّ اللسان ذما لهم وتقريعا، ولم يعبر عنها بالقراءة، والعرب تفرق بين ألفاظ المدح والذم في الشيء الواحد لِتَحْسَبُوهُ أي المحرف الذي دل عليه يَلْوُونَ ويجوز أن يقدر مضاف محذوف أي يعطفون ألسنتهم بشبه الكتاب لتحسبوا ذلك الشبه من الكتاب وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ نفى أوّلا كونه من الكتاب، ثم عطف عليه النفي العام
وقيل: إن أبا رافع القرظي من اليهود والسيد من نصارى نجران قالا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أتريد أن نعبدك ونتخذك ربا؟ فقال: معاذ الله أن نعبد غير الله أو أن نأمر بغير عبادة الله فما بذلك بعثني ولا بذلك أمرني فنزلت.
وقيل: إن رجلا قال: يا رسول الله نسلم عليك كما يسلم بعضنا على بعض أفلا نسجد لك؟ قال: لا ينبغي أن يسجد لأحد من دون الله، ولكن أكرموا نبيكم واعرفوا الحق لأهله.
وقيل: زعمت اليهود أن أحدا لا ينال من درجات الفضل ما نالوه فقال لهم الله: إن كان الأمر كما قلتم وجب أن لا تشتغلوا باستعباد الناس واستخدامهم وهذا الوجه يحتمله لفظ الآية فإن قوله: ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ كقوله: اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ [التوبة: ٣١] ومعنى قوله: ما كانَ لِبَشَرٍ قال الأصم: لو أرادوا أن يقولوا ذلك لمنعهم الله منه نظيره وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ [الحاقة: ٤٤، ٤٥] لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ [الإسراء: ٧٤، ٧٥] وقيل: معناه أنه تعالى لا يشرف عبدا بالنبوة إلا إذا علم منه أنه لا يقول مثل ذلك الكلام. وقيل: إن الرسول يدعي تبليغ الأحكام عن الله تعالى ويحتج
والتحقيق أن الأنبياء موصوفون بصفات لا يحصل معها هذا الادعاء، لأن النفس ما لم تكن كاملة بحسب قوتها النظرية والعملية لم تكن مستعدة لقبول نزول الكتاب السماوي عليه وللحكم وهو فهم ذلك الكتاب وبيانه. وقد يعبر عنه بالسنة والنبوة وهو كونه مأمورا بتبليغ ما فهم الى الخلق، وما أحسن هذا الترتيب، وإذا كانت كاملة بحسب القوتين وما يتبعهما امتنع من مثله مثل هذا القول والاعتقاد، لأن غاية جهد النبي وقصارى أمره صرف القلوب والأرواح من الخلق إلى الحق، فكيف يعقل منه ضده؟ فتبين أنه ليس المراد من قوله: ما كانَ لِبَشَرٍ إلى قوله: كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ أنه يحرم عليه هذا الكلام لأن ذلك محرم على كل الخلق. ولو كان المراد منه التحريم لم يكن فيه تكذيب للنصارى في ادعائهم ذلك على المسيح، لأن من ادعى على رجل فعلا فقيل له إن فلانا لا يحل له أن يفعل ذلك لم يكن مكذبا له فيما ادعاه عليه. ومثله ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ [مريم: ٣٥] على سبيل النفي لذلك عن نفسه لا على وجه التحريم والحظر. وكذا قوله: ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ [آل عمران: ١٦١] ومعناه النفي لا النهي. ومعنى «ثم» في قوله: ثُمَّ يَقُولَ تبعيد هذا القول عن مثل ذلك البشر وَلكِنْ كُونُوا ولكن يقول كونوا رَبَّانِيِّينَ قال سيبويه:
الرباني منسوب الى الرب بمعنى كونه عالما به ومواظبا على طاعته كما يقال: رجل إلهي إذا كان مقبلا على معرفة الإله وطاعته. وزيادة الألف والنون في النسبة فقط للدلالة على كمال هذه الصفة كما قالوا: شعراني ولحياني ورقباني للموصوف بكثرة الشعر وطول اللحية وغلظ الرقبة. وقال المبرد: والربانيون أرباب العلم واحدها ربان وهو الذي يرب العلم ويرب الناس بتعليمهم وإصلاحهم والقيام بأمرهم. والألف والنون كما في ريان وعطشان لا يختص بحال النسبة. والربانيون بهذا التفسير يشمل الولاة أيضا. قال القفال: يحتمل أن يكون الوالي يسمى ربانيا لأن يطاع كالرب تعالى فينسب إليه. فمعنى الآية: ولكن يدعوكم إلى أن تكونوا ملوكا وعلماء باستعمالكم أمر الله تعالى ومواظبتكم على طاعته. وقال أبو عبيدة:
أحسب أن هذه الكلمة ليست بعربية إنما هي عبرانية أو سريانية. وسواء كانت عربية أو عبرية تدل على الإنسان الذي علم وعمل بما علم ثم اشتغل بتعليم طرق الخير. عن محمد ابن الحنفية أنه قال حين مات ابن عباس: اليوم مات رباني هذه الأمة. والباء في قوله: بِما كُنْتُمْ للسببية و «ما» مصدرية وتُعَلِّمُونَ من التعليم أو العلم على القراءتين فيعلم منه أن التعليم أو العلم أو الدراسة وهي القراءة توجب على صاحبها كونه ربانيا، والسبب لا محالة مغاير للمسبب فهذا يقتضي أن يكون كونه ربانيا أمرا مغايرا لكونه عالما ومعلما ومواظبا على
قال صلى الله عليه وسلم: «نعوذ بالله من قلب لا يخشع ومن علم لا ينفع» «١»
وفي الآية دليل على صحة
قوله صلى الله عليه وسلم: «العلماء ورثة الأنبياء» «٢»
تأمل تفهم بإذن الله. وَلا يَأْمُرَكُمْ من قرأ بالنصب فوجهان: أحدهما أن تجعل «لا» مزيدة لتأكيد النفي أي ما ينبغي لبشر أن ينصبه الله منصب الدعاء إلى اختصاص الله بالعبادة ثم يخالفه إلى أن يأمر الناس بعبادة نفسه ويأمركم أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً كما نقول: ما كان لزيد أن أكرمه ثم يهينني ويستخف بي. والثاني أن يكون حرف النفي غير زائد فيرجع المعنى إلى أن رسول الله ﷺ كان ينهي قريشا عن عبادة الملائكة، واليهود والنصارى عن عبادة عزير والمسيح بحيث قالوا له: أنتخذك ربا؟ قيل لهم: ما كان لبشر أن يستنبئه الله ثم يأمر الناس بعبادة نفسه وينهاكم عن عبادة الملائكة والأنبياء، فيكون عدم الأمر في معنى النهي. ويراد بالنبيين غيره ﷺ كأنه أخرج نفسه بتلك الدعوى عن زمرة الأنبياء. ومن قرأ بالرفع على الاستئناف فظاهر وتنصره قراءة عبد الله بن مسعود ولن يأمركم والضمير فيه على قراءة الرفع- قال الزجاج- لله. وقال ابن جريج لمحمد صلى الله عليه وسلم، وقيل: لعيسى. وإنما خص الملائكة والنبيين بالذكر لأن الذين وصفوا بعبادة غير الله لم يحك عنهم إلا عبادة الملائكة وعبادة المسيح. أَيَأْمُرُكُمْ أي البشر وقيل: الله بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ومعنى الاستفهام الإنكار أي إنه لا يفعل ذلك. قيل: وفيه دليل على أن المخاطبين كانوا مسلمين وهم الذين استأذنوا رسول الله ﷺ أن يسجدوا له. قلت: وضع الشيء ابتداء أسهل من رفع نقيضه ثم وضعه، فيحتمل أن يكون المراد ما صح ولا يعقل أن يأمر النبي ﷺ أمته بعبادة نفسه أول ما استنبىء، فكيف يعقل أن يأمرهم بذلك بعد الفهم بالإسلام واستنارة باطنهم بنور الهدى والإيمان بالله؟
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٨١ الى ٩١]
وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (٨١) فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٨٢) أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (٨٣) قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَما أُنْزِلَ عَلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (٨٤) وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (٨٥)
كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٨٦) أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (٨٧) خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (٨٨) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٨٩) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (٩٠)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٩١)
أحمد في مسنده (٢/ ١٦٧).
(٢) رواه البخاري في كتاب العلم باب ١٠. أبو داود في كتاب العلم باب ١. ابن ماجه في كتاب المقدمة باب ١٧. الدارمي في كتاب المقدمة باب ٣٢. أحمد في مسنده (٥/ ١٩٦).
لَما بكسر اللام حمزة والخزاعي. الباقون بفتحها. آتيناكم على صيغة جمع المتكلم: أبو جعفر ونافع. الباقون آتَيْتُكُمْ على الوحدة يَبْغُونَ بياء الغيبة وترجعون بتاء الخطاب مبنيا للمفعول: أبو عمرو غير عباس. وقرأ عباس وسهل وحفص بالياء التحتانية فيهما. وقرأ يعقوب يَبْغُونَ بالياء التحتانية يُرْجَعُونَ بالتحتانية مبنيا للفاعل. الباقون بتاء الخطاب فيهما. مِلْءُ بالهمزة الْأَرْضِ بغير الهمز. روى النجاري عن ورش وروى الأصفهاني عنه بغير همز فيهما. الباقون بالهمز فيهما.
الوقوف:
وَلَتَنْصُرُنَّهُ ط إِصْرِي ط أَقْرَرْنا ط الشَّاهِدِينَ هـ الْفاسِقُونَ هـ يُرْجَعُونَ هـ مِنْ رَبِّهِمْ ص مِنْهُمْ ج مُسْلِمُونَ هـ مِنْهُ ج لعطف المختلفتين الْخاسِرِينَ هـ الْبَيِّناتُ ط الظَّالِمِينَ هـ أَجْمَعِينَ هـ فِيها ج (لا) يُنْظَرُونَ هـ (لا) للاستثناء رَحِيمٌ هـ تَوْبَتُهُمْ ج الضَّالُّونَ هـ، افْتَدى بِهِ ط ناصِرِينَ هـ.
التفسير:
الغرض من هذه الآيات تعديد الأشياء المعروفة عند أهل الكتاب مما يدل على نبوة محمد ﷺ قطعا لأعذارهم وإظهارا لعنادهم من جملتها أخذ ميثاق النبيين. قال الزجاج: تقديره واذكر يا محمد في القرآن إذ أخذ الله. وقيل: واذكروا يا أهل الكتاب.
وإضافة الميثاق إلى النبيين إما أن تكون من إضافة العهد الى المعاهد منه، أو من إضافة
نقل عن علي أنه ما بعث آدم ومن بعده من الأنبياء إلا أخذ عليهم العهد لئن بعث محمد ﷺ وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه.
والذي يدل على صحته ما
روي أنه ﷺ قال: «لقد جئتكم بها بيضاء نقية أما والله لو كان موسى بن عمران حيا لما وسعه إلا اتباعي» «١»
فهذا على سبيل الفرض والتقدير، وهو أنهم لو كانوا أحياء لوجب عليهم الإيمان بمحمد وإلا فالميت لا يكون مكلفا. وقيل: المراد أولاد النبيين وهم بنو إسرائيل على حذف المضاف، أو أمة النبيين فقد ورد كثيرا في القرآن لفظ النبي ﷺ ويراد به الأمة كقوله يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ [الطلاق: ١] وقيل: النبيون أهل الكتاب وقد ورد على زعمهم تهكما بهم لأنهم كانوا يقولون نحن أولى بالنبوة من محمد ﷺ لأنا أهل الكتاب ومنا كان النبيون. ويؤكده قراءة أبي وابن مسعود وإذا أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب وأما الاحتمال الثاني فالمعنى أن الأنبياء عليهم السلام كانوا يأخذون الميثاق من أممهم بأنه إذا بعث محمد ﷺ فإنه يجب عليهم أن يؤمنوا به، ويؤكده أنه تعالى حكم بأنهم إن تولوا كانوا فاسقين وهذا الوصف لا يليق بالأنبياء وإنما يليق بالأمم. وروي عن ابن عباس أنه قيل له: إن أصحاب عبد الله يقرأون وإذا أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب ونحن نقرأ وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ فقال: إنما أخذ الله ميثاق النبيين على قومهم لَما آتَيْتُكُمْ من قرأ بفتح اللام ففيه وجهان: أحدهما: أن «ما» تكون موصولة واللام للابتداء وخبره لَتُؤْمِنُنَّ واللام فيه جواب القسم المقدور. والعائد الى الموصول في آتَيْتُكُمْ محذوف وفي جاءَكُمْ ما يدل عليه لِما مَعَكُمْ لأنه في معنى «ما آتيتكم» والتقدير للذي آتيتكموه من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق له والله لتؤمنن به- وثانيهما- واختاره سيبويه وغيره- كيلا يفتقر إلى تكلف الرابط أن يقال: أخذ الميثاق في معنى الاستحلاف. و «ما» هي المتضمنة لمعنى الشرط وحينئذ يحتاج القسم إلى الجواب والشرط إلى الجزاء، وليس هاهنا ما يصلح لكل منهما إلا الإيمان والنصرة. فالأصح في هذا المقام أن يجعل المذكور جوابا للقسم ظاهرا، ولهذا أدخل اللام والنون المؤكدة في «لتؤمنن» و «لتنصرن» وأدخل اللام في الشرط وتسمى موطئة لأنها تعين من أول الأمر وتمهد أن المذكور هو جواب القسم لا الشرط. ثم إن جواب الشرط يكون مستغنى عنه لأن جواب القسم يسد مسدّه. ومن قرأ بكسر اللام للتعليل ففيه أيضا وجهان: أحدهما أن تكون «ما»
معناه ليجعل كل أحد نفسه شاهدا على نفسه كقوله: وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ [الأعراف:
١٧٢] وقيل: بينوا هذا الميثاق للخاص والعام حتى لا يبقى لأحد عذر في الجهل به.
وأصله أن الشاهد هو الذي يبين تصديق الدعوى. وقيل: استيقنوا وكونوا كالمشاهد للشيء المعاين له، أو يكون خطابا للأنبياء بأن يكونوا شاهدين على الأمم. ثم ضم الى التوكيد الوعيد بقوله: فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ الميثاق وصنوف التوكيد فلم يؤمن ولم ينصر فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ الخارجون عن دين الله وطاعته، ووعيد الفساق المردة معلوم. ثم وبخ من خرج من دين الله إلى غيره بإدخال همزة الاستفهام على الفاء العاطفة فقال: أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ ويحتمل أن يراد أيتولون فغير دين الله يبغون وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها وإليه ترجعون من قرأ بتاء الخطاب فيهما فلأن ما قبله خطاب في «أقررتم» و «أخذتم» أو للالتفات بعد قوله فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ ومن قرأ بياء الغيبة فلرجوع الضمير في الأول إلى الفاسقين، وفي الثاني إلى جميع المكلفين. والأصل أفتبتغون غير دين الله؟ لأن الاستفهام إنما يكون عن الحوادث إلا أنه قدم المفعول لأنه أهم من حيث إن الإنكار الذي هو فائدة الهمزة هاهنا متوجه إلى الدين الباطل.
وعن ابن عباس أن أهل الكتابين اختصموا إلى رسول الله ﷺ فيما اختلفوا فيه من دين إبراهيم، فكل واحد من الفريقين ادعى أنه أولى به فقال صلى الله عليه وسلم: كل الفريقين بريء من دين إبراهيم. فقالوا: ما نرضى بقضائك ولا نأخذ بدينك فنزلت.
وعلى هذا تكون الآية كالمنقطعة عما قبلها، ولكن
وعن الحسن: الطوع لأهل السموات، والكره لأهل الأرض. أقول: وذلك لأن السفلي ينجذب بالطبع إلى السفل فحمله نفسه على ما يخالف طبعه هو الكره. وبلسان الصوفية من شاهد الجمال أسلم طوعا، ومن شاهد الجلال أسلم كرها. فليس الاعتبار بذلك الإسلام الفطري بل الاعتبار بهذا الإسلام الكسبي وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ أي إلى حيث لا مالك سواه ظاهرا وباطنا، وفيه وعيد شديد لمن خالف الدين الحق إلى غيره. ثم إنه سبحانه لما بين أخذ الميثاق على الأنبياء في تصديق كل رسول كان قبله، أمر النبي ﷺ بذلك ليعرف منه غاية إذعانه ونهاية استسلامه. أما وجه التوحيد في قُلْ فظاهر، بناء على ما قلنا. وأما وجه الجمع في آمَنَّا فلتشريف أمته بانضمامهم معه في سلك الإخبار عن الإيمان، أو ليعلم أن هذا التكليف ليس من خواصه وإنما هو لازم لجميع المؤمنين كقوله: وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ [البقرة: ٢٨٥] أو لإجلال قدر نبيه حيث أمر أن يتكلم عن نفسه كما يتكلم العظماء والملوك. وقدم الإيمان بالله لأنه أصل جميع العقائد، ثم ذكر الإيمان بما أنزل الله إليه لأن كتب سائر الأنبياء محرفة لا سبيل إلى معرفة أحوالها إلا بالفرقان المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، ثم ذكر الإيمان بما أنزل على مشاهير الأنبياء إذ لا سبيل إلى حصر الكل، وفي ذلك تنبيه على سوء عقيدة أهل الكتاب حيث فرقوا بين الأنبياء فصدقوا بعضا وكذبوا بعضا، ورمز إلى أنهم ليسوا من الدين في شيء حيث خالفوا مقتضى الميثاق. ثم إن قلنا إنه تعالى أخذ الميثاق على كل نبي أن يؤمن بكل رسول جاء بعده كما ذهب إليه الجمهور في
واعلم أن الوحي ينزل من فوق وينتهي إلى الرسل فيجوز أن يعدّى أنزل ب «على» تارة كما في هذه الآية، وبحرف الانتهاء أخرى كما في البقرة. فنطق القرآن بالاعتبارين جميعا.
وقيل: عدي هناك ب «إلى» لمكان قولوا فإن الوحي يأتي الأمة بطريق الانتهاء، وعدي هاهنا ب «على» لمكان قُلْ. فإن الرسول يأتيه الوحي بطريق الاستقلال وزيفه في الكشاف بقوله تعالى: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ [المائدة: ٤٨] وبقوله: آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا [آل عمران: ٧٢]. والإنصاف أن هذا القائل لم يدع أن هذه المناسبة يجب اعتبارها في كل موضع وإنما ادعى اعتبارها في الموضعين فيصلح حجة للتخصيص والله أعلم.
وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ فائدة تقديم الجار أن يعلم أن هذا الإذعان والإيمان والاستسلام لا غرض فيه إلا وجه الله دون شيء آخر من طلب المال والجاه، بخلاف أحبار اليهود الذين يشترون بآيات الله ثمنا قليلا فليسوا من الإسلام في شيء وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ فماذا بعد الحق إلا الضلال؟ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ حيث فاته الثواب وحصل مكانه العقاب. والخاسرون هاهنا هم الكافرون فقط عند أهل السنة، ومع أصحاب الكبائر عند المعتزلة. وقد يستدل بالآية على أن الإيمان والإسلام واحد إذ لو كان الإيمان غير الإسلام كان غير مقبول، لأن كل ما هو غير الإسلام ليس بمقبول عند الله للآية. وقد ذكرنا مرارا أن النزاع لفظي لأن الإسلام إن أريد به الانقياد الكلي فلا فرق بينه وبين الإيمان كما في هذه الآية، وإن أريد به الإقرار باللسان فالفرق بناء على أن الاعتقاد القلبي داخل في مفهوم الإيمان، وعلى الفرق ورد قوله تعالى: قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا [الحجرات: ١٧] ثم بيّن وعيد من ترك الإسلام فقال: كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ واختلف في سبب النزول، ففي رواية عن ابن عباس نزلت في يهود قريظة والنضير ومن دان بدينهم، كفروا بالنبي بعد أن كانوا مؤمنين قبل مبعثه وكانوا يشهدون له بالنبوة فلما بعث وجاءهم بالبينات والمعجزات كفروا به بغيا وحسدا وعنادا ولددا. وفي رواية أخرى عنه: نزلت في رهط كانوا أسلموا ثم ارتدوا ولحقوا بمكة، ثم أخذوا يتربصون به ريب المنون وكان فيهم من تاب فاستثنى التائب بقوله: إِلَّا الَّذِينَ تابُوا. وعن مجاهد قال: كان الحرث بن سويد قد أسلم وكان مع رسول الله ﷺ ثم لحق بقومه وكفر فأنزل الله هذه الآية إلى قوله: فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ فحملهن إليه رجل من قومه فقرأهن عليه فقال الحرث: والله إنك لصدوق وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم
إن أصولنا تشهد بأنه تعالى هدى جميع الخلق إلى الدين بمعنى التعريف ووضع الدلائل وإلا كان الكافر معذورا ولا يحسن ذمه على الكفر. ثم إنه حكم بأنه لم يهد هؤلاء الكفار فلا بد من تفسير الآية بشيء أخر سوى نصب الدلائل. قالوا: فالمراد بهذه الهداية منع الألطاف التي يؤتيها المؤمنين ثوابا لهم على إيمانهم كما قال: وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا [العنكبوت: ٦٩] وقال: وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً [محمد: ١٧] أو المعنى لا يهديهم إلى الجنة كقوله: وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ [النساء: ١٦٨] وقوله: يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ [يونس: ٩] وقال أهل السنة: المراد بالهداية خلق المعرفة. وقد جرت سنة الله في باب التكليف وفي دار العمل أن كل فعل يقصد العبد إلى تحصيله فإنه الله يخلقه عقيب قصد العبد فكأنه تعالى قال: كيف يخلق الله فيهم المعرفة والهداية وهم قصدوا تحصيل الكفر وأرادوه؟ وقال أهل التحقيق: كيف يهدي الله إليه قوما احتجبوا بالصفات الإنسانية والطبائع الحيوانية عن الأخلاق الربانية. وقوله: وَشَهِدُوا عطف على ما في إيمانهم من معنى الفعل إذ هو في تقدير أن آمنوا كقوله تعالى: فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ [المنافقون: ١٠] ويجوز أن يكون الواو للحال بإضمار «قد» أي كفروا وقد شهدوا أن الرسول حق. وكيفما كان فمعنى الآية يؤل إلى أنه تعالى لا يهدي قوما كفروا بعد الإيمان وبعد الشهادة بأن الرسول حق في نفسه غير باطل ولا مما يسوغ إنكاره بعد أن جاءتهم الشواهد الدالة على صدقه من القرآن وغيره، لكن الشهادة هي الإقرار باللسان، فيكون المراد من الإيمان هو التصديق بالقلب ليكون المعطوف مغايرا للمعطوف عليه. وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ الواضعين للشيء في غير موضعه وذلك أن الخصال الثلاث- أعني الإيمان والشهادة ومشاهدة المعجزات- توجب مزيد الإيمان بالنبي المبعوث في آخر الزمان لا الكفر والعناد. وفيه دليل على أن زلة العالم أقبح من زلة الجاهل ولهذا صرح في آخر الآية بأنه تعالى لا يهديهم بعد أن عرض بذلك في أول الآية، ثم أردفه بغاية الوعيد قائلا أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ إلى قوله: وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ وقد مر مثله في البقرة. وهذا تحقيق قول المتكلمين بأن العذاب الملحق بالكافر مضرة خالصة عن شوائب المنافع دائمة غير منقطعة.
إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ الكفر العظيم. ولا يكفي التوبة وحدها حتى يضاف إليها العمل الصالح فلهذا قال: وَأَصْلَحُوا أي باطنهم مع الحق بالمراجعات، وظاهرهم مع الخلق بالعبادات، وأظهروا إنا كنا على الباطل حتى لو اغتر بطريقتهم المنحرفة مغتر رجع عنها.
فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ في الدنيا بالستر رَحِيمٌ في الآخرة بالعفو. أو غفور بإزالة العقاب،
وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ [النساء: ١٨] وقيل: هي محمولة على ما إذا تابوا باللسان لا عن الإخلاص. وقال القاضي والقفال وابن الأنباري: هي من تتمة قوله: إِلَّا الَّذِينَ تابُوا يريد أنه لو كفر بعد التوبة الأولى فإن التوبة الأولى لا تكون مقبولة. وقيل: لعل المراد أن التوبة من تلك الزيادة لا تكون مقبولة ما لم يتب عن الأصل المزيد عليه. أقول: ويحتمل أن يكون لن تقبل توبتهم جعل كناية عن الموت على الكفر كأنه قيل: إن اليهود والمرتدين المصرين على الكفر ما يتوبون عن الكفر لما في فعلهم من قساوة القلوب والإفضاء إلى الرين وانجراره إلى الموت على حالة الكفر. وفائدة هذه الكناية تصوير كونهم آيسين من الرحمة. هذا إذا خصصنا اليهود والمرتدين بالمصرين، أما على تقدير التعميم فنقول: إنما يجعل الموت على الكفر لازما لازدياد كفرهم لأن القضية حينئذ لا تكون كلية. فكم من مرتد أو يهودي مزداد الكفر لا بمعنى الإصرار يرجع إلى الإسلام ولا يموت على الكفر. فاكتفى بذكر لازم الموت على الكفر وهو عدم قبول التوبة حتى برز الكلام في معرض الكناية. ومن المعلوم أنها ذكر اللازم وإرادة الملزوم، وأنه لا بد للعدول من فائدة، فصح أن نبين فائدة العدول على وجه يصير القضية كلية وهي التغليظ في شأن أولئك الفريق من الكفار وإبراز حالهم في صورة حال الآيسين من الرحمة التي هي أغلظ الأحوال وأشدها، ألا ترى أن الموت على الكفر إنما يخاف لأجل اليأس من الرحمة، وهذا هو الذي عول عليه في الكشاف. والحاصل أنه
واعلم أن الكافر على ثلاثة أقسام: أحدها الذي يتوب عن الكفر توبة صحيحة مقبولة وهو الذي سيق لأجله الآية التي ردفها الاستثناء، وثانيها الذي يتوب توبة فاسدة وهو المذكور في قوله: لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ على وجه. وثالثها الذي يموت على الكفر من غير توبة فذكره في الآية الأخيرة. وملء الشيء قدر ما يملؤه وذَهَباً نصب على التمييز.
وربما يقال على التفسير. ومعناه أن يكون الكلام تاما إلا أنه يكون مبهما كقولك «عندي عشرون» فالعدد معلوم والمعدود مبهم. فإذا قلت «درهما» فسرت العدد. ومعنى الفاء في فَلَنْ يُقْبَلَ أن يعلم أن الكلام مبني على الشرط والجزاء، وإذا ترك كما في الآية الأولى فلعدم قصد التسبيب والاكتفاء بمجرد الحمل والوضع. هذا ما قاله النحويون ومنهم صاحب الكشاف. وليت شعري أنهم لو سئلوا عن تخصيص كل موضع بما خصص به فبماذا يجيبون؟ ولعل عقيدتهم في أمثال هذه المواضع أنها من الأسئلة المتقلبة وهو وهم. والسر في التخصيص هو أنه لما قيد في الجملة الثانية أنهم قد ماتوا على الكفر زيدت فاء السببية الجزائية تأكيدا للزوم وتغليظا في الوعيد والله أعلم. أما الواو في قوله وَلَوِ افْتَدى بِهِ فإنها تشبه عطف الشيء على نفسه لأنه كالمكرر، فلهذا كثر أقاويل العلماء فيه فقال الزجاج وابن الأنباري: إنها للعطف والتقدير: لو تقرب إلى الله بملء الأرض ذهبا لم ينفعه ذلك مع كفره ولو افتدى به أيضا لم يقبل منه. وقيل: إنها لبيان التفصيل بعد الإجمال فإن إعطاء ملء الأرض ذهبا يحتمل الوجوه الكثيرة، فنص على نفي القبول بجهة الفدية. وقيل: إن الملوك قد لا يقبلون الهدية ويقبلون الفدية، فإذا لم يقبلوا الفدية كان ذلك غاية الغضب ونهاية السخط، فعبر بنفي قبول الفداء عن شدة الغضب. وقيل: إنه محمول على المعنى كأنه قيل: فلن يقبل من أحدهم فدية ولو افتدى بملء الأرض ذهبا. وقيل: يجوز أن يراد ولو افتدى بمثله كقوله: وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ [الزمر: ٤٧] والمثل يحذف كثيرا في كلامهم مثل: ضربت ضرب زيد. أي مثل ضربه.
و «أبو يوسف أبو حنيفة» تريد مثله. كما أنه يراد به في نحو قولهم «مثلك لا يفعل» كذا أي أنت. وذلك أن المثلين يقوم أحدهما مقام الآخر في أغلب الأمور فكانا في حكم شيء واحد. فإن قيل: من المعلوم أن الكافر لا يملك يوم القيامة شيئا، وبتقدير أن يملك فلا نفع في الذهب هناك، فما فائدة هذا الكلام؟ فالجواب أنه على سبيل الفرض والتقدير، والذهب
تم الجزء الثالث ويليه الجزء الرابع أوله: لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا...
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٩٢ الى ١٠١]
لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (٩٢) كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلاَّ ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٩٣) فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٩٤) قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٩٥) إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ (٩٦)
فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (٩٧) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ (٩٨) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَها عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَداءُ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٩٩) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ (١٠٠) وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٠١)
القراآت:
أَنْ تُنَزَّلَ خفيفا: ابن كثير وأبو عمرو وسهل ويعقوب. الباقون بالتشديد. حِجُّ الْبَيْتِ بكسر الحاء: يزيد وحمزة وعلي وخلف وعاصم غير أبي بكر وحماد. الباقون بفتحها.
الوقوف:
تُحِبُّونَ ط عَلِيمٌ هـ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ ط صادِقِينَ هـ الظَّالِمُونَ
هـ حَنِيفاً ط الْمُشْرِكِينَ هـ لِلْعالَمِينَ هـ ج لأن ما بعده يصلح حالا واستئنافا مَقامُ إِبْراهِيمَ ج للابتداء بالشرط مع الواو لأن الأمن من الآيات آمِناً ط سَبِيلًا ط لِلْعالَمِينَ هـ بِآياتِ اللَّهِ ط قد قيل: والوجه الوصل لأن الواو للحال تَعْمَلُونَ هـ شُهَداءُ ط تَعْمَلُونَ هـ كافِرِينَ هـ رَسُولُهُ ط لتناهي الاستفهام الى الشرط مُسْتَقِيمٍ هـ.
التفسير:
إنه سبحانه لما ذكر أن الإنفاق لا ينفع الكافر البتة، علّم المؤمنين كيفية الإنفاق الذي ينتفعون به في الآخرة وهو الإنفاق من أحب الأشياء إليهم. وهاهنا لطيفة وهي
يروى أنها لما نزلت جاء أبو طلحة فقال: يا رسول الله، حائط لي بالمدينة- يعني بيرحاء- وهو أحب أموالي إليّ صدقة. فقال صلى الله عليه وسلم: بخ بخ. ذاك مال رابح وإني أرى أن تجعلها في الأقربين. فقال أبو طلحة: افعل يا رسول الله. فقسمها ﷺ في أقاربه.
وروي أنه ﷺ جعلها بين حسان بن ثابت وأبيّ بن كعب.
وروي أن زيد بن حارثة جاء عند نزول الآية بفرس له كان يحبه وجعله في سبيل الله، فجعله رسول الله ﷺ لأسامة بن زيد. فوجد زيد في نفسه وقال: إنما أردت أن أتصدق به. فقال صلى الله عليه وسلم: أما إن الله قد قبلها منك.
وكتب عمر إلى أبي موسى الأشعري أن يبتاع له جارية من سبي جلولاء يوم فتحت مدائن كسرى، فلما رآها أعجبته فقال: إن الله تعالى يقول: لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ فأعتقها ولم يصب منها. ونزل بأبي ذرّ ضيف فقال للراعي: ائتني بخير إبلي. فجاء بناقة مهزولة فقال: خنتني. فقال: وجدت خير الإبل فحلها فذكرت يوم حاجتك إليه. فقال: إن يوم حاجتي إليه ليوم أوضع في حفرتي. وفي تفسير البر قولان: أحدهما ما به يصيرون أبرارا ليدخلوا في قوله: إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ [الانفطار: ١٣] فيكون المراد بالبر ما يصدر منهم من الأعمال المقبولة المذكورة في قوله: وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ [البقرة: ١٧٧] وجملتها التقوى لقوله: أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ [البقرة: ١٧٧] والثاني الجنة أي لن تنالوا ثواب البر. وقيل: المراد بر الله أولياءه وإكرامه إياهم من قول الناس «برني فلان بكذا وبر فلان لا ينقطع عني». وقال تعالى: أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا [البقرة: ٢٢٤] و «من» في قوله: مِمَّا تُحِبُّونَ للتبعيض نحو: أخذت من المال. ويؤيده قراءة عبد الله بن مسعود بعض ما تحبون وفيه أن إنفاق كل المال غير مندوب بل غير جائز لمن يحتاج إليه.
والمراد بما تحبون قال بعضهم: هو نفس المال لقوله تعالى: وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ [العاديات: ٨] وقيل: هو ما يكون محتاجا إليه كقوله: وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ [الدهر: ٨] وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ [الحشر: ٩] وقيل: هو أطيب المال وأرفعه كما مر. وعن ابن عباس: أراد به الزكاة أي حتى تخرجوا زكاة أموالكم. ويرد عليه أنه لا يجب على المزكي أن يخرج أشرف أمواله وأكرمها. وقال الحسن: هو كل ما أنفقه المسلم من ماله يطلب به وجه الله. ونقل الواحدي عن مجاهد والكلبي انها منسوخة
و «من» في مِنْ شَيْءٍ للتبيين يعني من أي شيء كان، طيب أو خبيث فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ فيجازيكم بحسبه أو يعلم الوجه الذي لأجله تنفقون من الإخلاص أو الرياء. ثم إنه سبحانه بعد تقرير الدلائل الدالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وبعد توجيه الإلزامات الواردة على أهل الكتاب في هذا الباب، أجاب عن شبهة للقوم وتقرير ذلك من وجوه: أحدها أنهم كانوا يعوّلون في إنكار شرع محمد ﷺ على إنكار النسخ، فأورد عليهم أن الطعام الذي حرمه إسرائيل على نفسه كان حلالا ثم صار حراما عليه وعلى أولاده وهو النسخ. ثم إن اليهود لما توجه عليهم هذا السؤال زعموا أن ذلك كان حراما من لدن آدم ولم يحدث نسخ، فأمر النبي ﷺ بأن يطالبهم بإحضار التوراة إلزاما لهم وتفضيحا ودلالة على صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، لأنه كان أميا فامتنع أن يعرف هذه المسألة الغامضة من علوم التوراة إلا بخبر من السماء.
وثانيها أن اليهود قالوا له: إنك تدعي أنك على ملة إبراهيم، فكيف تأكل لحوم الإبل وألبانها وتفتي بحلها مع أن ذلك كان حراما في دين إبراهيم؟ فأجيبوا بأن ذلك كان حلالا لإبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب. إلا أن يعقوب حرمه على نفسه بسبب من الأسباب، وبقيت تلك الحرمة في أولاده، فأنكروا ذلك فأمروا بالرجوع الى التوراة. وثالثها لما نزل قوله تعالى: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ [النساء: ١٦٠] وقوله: وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ [الأنعام: ١٤٦] إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أنه إنما حرم عليهم كثير من الأشياء جزاء لهم على بغيهم وظلمهم. غاظهم ذلك واشمأزوا وامتعضوا من قبل أن ذلك يقتضي وقوع النسخ. ومن قبل أنه تسجيل عليهم بالبغي والظلم وغير ذلك من مساويهم. فقالوا: لسنا بأول من حرمت هي عليه وما هو إلا تحريم قديم فنزلت كُلُّ الطَّعامِ أي المطعومات كلها لدلالة كل على العموم وإن كان لفظه مفردا سواء قلنا الاسم المفرد المحلى بالألف واللام يفيد العموم أولا. والطعام اسم لكل ما يطعم ويؤكل. وعن بعض أصحاب أبي حنيفة: إنه اسم البر خاصة. ويرد عليه أن المستثنى في الآية من الطعام كان شيئا سوى الحنطة وما يتخذ منها. قال القفال: لم يبلغنا أنه كانت الميتة مباحة لهم مع أنها طعام، وكذا القول في الخنزير، فيحتمل أن يكون المراد الأطعمة التي كان يدعي اليهود في وقت نبينا ﷺ أنها كانت محرمة على إبراهيم صلى الله عليه وسلم. وعلى هذا يكون اللام في الطعام للعهد لا للاستغراق. والحل مصدر كالعز والذل ولذا استوى فيه الواحد والجمع. قال تعالى: لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ [الممتحنة: ١٠] والوصف بالمصدر يفيد المبالغة. وأما الذي حرم إسرائيل على نفسه
فروى ابن عباس عن النبي ﷺ أن يعقوب مرض
وقيل: كان به عرق النسا فنذر إن شفاه الله أن لا يأكل شيئا من العروق.
وجاء في بعض الروايات أن الذي حرمه على نفسه زوائد الكبد والشحم إلا ما على الظهر.
وهاهنا سؤال وهو أن التحريم والتحليل خطاب الله تعالى، فكيف صار تحريم يعقوب سببا للحرمة؟ فأجاب المفسرون بأن الأطباء أشاروا إليه باجتنابه ففعل وذلك بإذن من الله فهو كتحريم الله ابتداء. وأيضا لا يبعد أن يكون تحريم الإنسان سببا لتحريم الله كالطلاق والعتاق في تحريم المرأة والجارية. وأيضا الاجتهاد جائز على الأنبياء لعموم فَاعْتَبِرُوا [الحشر:
٢] ولقوله في معرض المدح لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ [النساء: ٨٣] ولأن الاجتهاد طاعة شاقة فيلزم أن يكون للأنبياء منها نصيب أوفر لا سيما ومعارفهم أكثر، وعقولهم أنور، وأذهانهم أصفى، وتوفيق الله وتسديده معهم أوفى. ثم إذا حكموا بحكم بسبب الاجتهاد يحرم على الأمة مخالفتهم في ذلك الحكم كما أن الإجماع إذا انعقد عن الاجتهاد فإنه يحرم مخالفته. والأظهر أن ذلك التحريم ما كان بالنص وإلا لقيل: إلا ما حرمه الله على إسرائيل.
فلما نسب إلى إسرائيل دل على أنه باجتهاده كما يقال: الشافعي يحلل لحم الخيل، وأبو حنيفة يحرّمه. وقال الأصم: لعلّ نفسه كانت تتوق إلى هذه الأنواع فامتنع من أكلها قهرا للنفس كما يفعله الزهاد، فعبر عن ذلك الامتناع بالتحريم. وزعم قوم من المتكلمين أنه يجوز من الله تعالى أن يقول لعبده: احكم فإنك لا تحكم إلا بالصواب، فلعل هذه الواقعة كانت من هذا الباب. ومعنى قوله: مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ إن هذا الاستثناء إنما كان قبل نزول التوراة، أما بعده فلم يبق كذلك بل حرم الله عليهم أنواعا كثيرة بدليل قوله تعالى:
فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا [النساء: ١٦٠] إلى آخر الآية. ثم إن القوم نازعوا رسول الله ﷺ في إخباره عن الله تعالى فأمروا بالرجوع إلى كتابهم كما سبق تقريره،
فروي أنهم لم يجسروا على إخراج التوراة فبهتوا فلزمت الحجة عليهم وظهر إعجاز النبي ﷺ وصدقه،
فلهذا قال: فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ
الذي ظهر من الحجة الباهرة فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ
الواضعون الباطل في موضع الحق، والكذب في مقام الصدق والعناد في محل الإنصاف. وأيضا إن تكذيبهم وافتراءهم ظلم منهم لأنفسهم ولمن يقتدي بهم من أشياعهم قُلْ صَدَقَ اللَّهُ في جواب الشبه الثلاث وفيه تعريض بكذبهم فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وهي التي عليها محمد ﷺ ومن تبعه حتى تتخلصوا من اليهودية التي فيها فساد دينكم ودنياكم حيث ألجأتكم الى تحريف كتاب الله لأغراضكم الفاسدة
قوله سبحانه: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ قال مجاهد: هو جواب عن شبهة أخرى لليهود وذلك أنهم قالوا: بيت المقدس أفضل من الكعبة لأنه مهاجر الأنبياء وأرض المحشر وقبلة الأنبياء. فكان تحويل القبلة منه إلى الكعبة كالطعن في نبوة محمد صلى الله عليه وسلم. وقيل: إن الآية المتقدمة سيقت لجواز النسخ، وإن أعظم الأمور التي أظهر رسول الله ﷺ نسخها هو القبلة، فذكر عقيب ذلك ما لأجله حولت القبلة إلى الكعبة. وقيل: لما انجر الكلام في الآية المتقدمة إلى قوله: فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ وكان الحج من أعظم شعائر ملته، أردفها بفضيلة البيت ليفرع عليها إيجاب الحج. وقيل: زعم كل من اليهود والنصارى أنه على ملة إبراهيم، فبين الله تعالى ما يدل على كذبهم من حيث إن حج البيت كان من ملة إبراهيم وأهل الكتاب لا يحجون. قالت العلماء: الأول هو الفرد السابق، فلو قال: أول عبد أشتريه فهو حر. فلو اشترى عبدين في المرة الأولى لم يعتق واحد منهما لفقد قيد الفرد. ولو اشترى في المرة الثانية عبدا واحدا لم يعتق أيضا لفقدان قيد السابق. ومعنى كونه موضوعا للناس أنه جعل متعبدهم وموضع طاعتهم يتوجهون نحوه من جميع الأقطار، وليس كل أول يقتضي أن يكون له ثان فضلا أن يشاركه في جميع خواصه، فلا يلزم من كونه أول أن يكون بيت المقدس مثلا ثانيا له ولا مشاركا في وجوب الحج والاستقبال وغيرهما من الخواص.
ثم إن كونه أول بيت وضع للناس يحتمل أن يكون المراد أنه أول في البناء والوضع، ويحتمل أن يراد أنه أول في الوضع وإن كان متأخرا في البناء، فلا جرم حصل فيه للمفسرين قولان: الأول أنه أول في بنائه ووضعه جميعا.
روى الواحدي رحمه الله في البسيط بإسناده عن مجاهد أنه قال: خلق الله هذا البيت قبل أن يخلق شيئا من الأرضين.
وفي رواية أخرى: خلق الله موضع هذا البيت قبل أن يخلق شيئا من الأرض بألفي سنة، وإن قواعده لفي الأرض السابعة السفلى.
وروى أيضا عن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عن آبائه قال: إن الله تعالى بعث ملائكة فقال: ابنوا لي في الأرض بيتا على مثال البيت المعمور. وأمر الله تعالى من في الأرض أن يطوفوا به كما يطوف أهل السماء بالبيت المعمور.
وهذا كان قبل خلق آدم وقد ورد في سائر كتب التفسير عن عبد الله بن عمر
روي أنه ﷺ قال يوم فتح مكة: ألا إن الله قد حرم مكة يوم خلق السموات والأرض.
وتحريم مكة لا يمكن إلا بعد وجودها ولأنه تعالى سماها أم القرى، وهذا يقتضي سبقها على سائر البقاع، ولأن تكليف الصلاة كان ثابتا في أديان جميع الأنبياء. وأيضا قال تعالى في سورة مريم أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ إلى قوله: خَرُّوا سُجَّداً [مريم: ٥٨] والسجدة لا بد لها من قبلة.
فلو كانت قبلتهم غير الكعبة لم تكن هي أول بيت وضع للناس هذا محال خلف. القول الثاني:
روي أن النبي ﷺ سئل عن أول مسجد وضع للناس؟ فقال: «المسجد الحرام ثم بيت المقدس فسئل كم بينهما؟ قال: أربعون سنة» «١»
وعن علي أن رجلا قال له: هو أول بيت؟ قال: لا. قد كان قبله بيوت، ولكنه أول بيت وضع للناس مباركا، فيه الهدى والرحمة والبركة.
واعلم أن الغرض الأصلي من ذكر هذه الأوّلية بيان الفضيلة وترجيحه على بيت المقدس. ولا تأثير لأولية البناء في هذا المقصود، وإن كان الأرجح ثبوت تلك الأولية أيضا كما روينا آنفا، وفي سورة البقرة أيضا من الأخبار والآثار. فمن فضائل البيت أن الآمر ببنائه الرب الجليل، والمهندس جبرائيل، وبانيه إبراهيم الخليل وتلميذه ابنه إسماعيل. ومنها أنه محل إجابة الدعوات ومهبط الخيرات والبركات، ومصعد الصلوات والطاعات، ومنها مقام إبراهيم كما يجيء، ومنها قلة ما يجتمع من حصى الجمار فيه فإنه منذ ألف سنة يرمي في كل سنة خمسمائة ألف إنسان كل واحد منهم سبعين حصاة ثم لا يرى هناك إلا ما لو اجتمع في سنة واحدة لكان غير كثير. وليس الموضع الذي يرمى إليه الجمرات مسيل ماء أو مهب رياح شديدة. وقد جاء في الآثار أن كل من كانت حجته مقبولة رفعت جمراته إلى السماء. ومنها أن الطيور تترك المرور فوق الكعبة وتنحرف عنها البتة إذا
ومنها أن لا يسكنها أحد من الجبابرة لأنهم يميلون إلى طيبات الدنيا، فيبقى ذلك الموضع المنيف والمقام الشريف مطهرا عن لوث وجود أرباب الهمم الدنية. ومنها أن لا يقصدها الناس للتجارة بل يأتون لمحض العبادة والزيارة. ومنها أنه تعالى أظهر بذلك شرف الفقر حيث وضع أشرف البيت في أقل المواضع نصيبا من الدنيا فكأنه تعالى يقول: جعلت الفقراء في الدنيا أهل البلد الأمين لأجعلهم في الآخرة أهل المقام الأمين. ومنها كأنه قيل: كما لم أجعل الكعبة إلا في موضع خال عن جميع نعم الدنيا فكذا لا أجعل كعبة المعرفة إلا في قلب خال عن محبة الدنيا لَلَّذِي بِبَكَّةَ. للبيت الذي ببكة. قال في الكشاف: وهي علم للبلد الحرام. ومكة وبكة لغتان كراتب وراتم. وضربة لازم ولازب مما يعتقب فيه الميم والباء لتقارب مخرجهما. وقيل: مكة البلد وبكة موضع المسجد. وفي الصحاح بكة اسم لبطن مكة. وأما اشتقاق بكة فمن قولهم بكه إذا زحمه ودفعه، وعن سعيد بن جبير: سميت بكة لأنهم يتباكون فيها أي يزدحمون في الطواف وهو قول محمد بن علي الباقر ومجاهد وقتادة. قال بعضهم: رأيت محمد بن علي الباقر يصلي. فمرت امرأة بين يديه فذهبت أدفعها فقال: دعها فإنها سميت بكة لأنه يبك بعضهم بعضا، تمر المرأة بين يدي الرجل وهو يصلي والرجل بين يدي المرأة وهي تصلي ولا بأس بذلك في هذا المكان. ويؤكد هذا قول من قال: إن بكة موضع المسجد لأن المطاف هناك وفيه الازدحام. ولا شك أن بكة غير البيت لأن الآية تدل على أن البيت حاصل في بكة، والشيء لا يكون ظرفا لنفسه. وقيل:
سميت بكة لأنها تبك أعناق الجبابرة أي تدقها، لم يقصدها جبار بسوء إلا اندقت عنقه.
وأما مكة فاشتقاقها من قولك أمتك الفصيل ضرع أمه إذا امتص ما فيه واستقصى، فسميت بذلك لأنها تجذب الناس من كل جانب وقطر أو لقلة مائها كأن أرضها امتصت ماءها.
وقيل: إن مكة وسط الأرض، والعيون والمياه تنبع من تحتها، فكأن الأرض كلها تمك من ماء مكة. ثم إنه تعالى وصف البيت بكونه مباركا وهدى للعالمين. أما انتصابه فعلى الحال من الضمير المستكن في الظرف، لأن التقدير للذي ببكة هو والعامل فيه معنى الاستقرار.
قال ﷺ «صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام»
وقال صلى الله عليه وسلم: «الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة» «١»
ولو استحضر العاقل في نفسه أن الكعبة كالنقطة وصفوف المتوجهين إليها في الصلوات في أقطار الأرض وأكنافها ولعمري إنها غير محصورة كالدوائر المحيطة بالمركز، ولا شك أنه يحصل فيما بين هؤلاء المصلين أشخاص أرواحهم علوية، وقلوبهم قدسية، وأسرارهم نورانية، وضمائرهم ربانية، علم أنه إذا توجهت تلك الأرواح الصافية إلى كعبة المعرفة واستقبلت أجسادهم هذه الكعبة الحسية، اتصلت أنوار أولئك الأرواح بنوره وعظم لمعان الأضواء الروحانية في سره. قال القفال: يجوز أن تكون بركته ما ذكر في قوله:
يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ [القصص: ٥٧] فيكون كقوله: إِلَى الْأَرْضِ [الأنبياء: ٧١] المقدسة الَّتِي بارَكْنا فِيها [الأنبياء: ٧١] وإن فسرنا البركة بالدوام فلا شك أنه لا تنفك الكعبة من الطائفين والعاكفين والركع السجود. وإذا كانت الأرض كرة وكل آن يفرض فإنه صبح لقوم ظهر لآخرين وعصر لغيرهم أو مغرب أو عشاء، فلا تخلو الكعبة عن توجه قوم إليها البتة. وأيضا بقاء الكعبة على هذه الحالة ألوفا من السنين دوام. وأما كونه هدى للعالمين فلأنه قبلتهم ومتعبدهم أو لأنه يدل على وجود الصانع وصدق محمد ﷺ بما فيه من الآيات والأعاجيب، أو لأنه يهدي إلى الجنة. ومعنى هدى هاديا أو ذا هدى قاله الزجاج، وجوز أن يكون محله رفعا أي وهو هدى فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ يحتمل أن يراد بها ما عددنا من بعض فضائله، ويكون قوله: مَقامُ إِبْراهِيمَ غير متعلق بما قبله، فكأنه قيل فيه آيات بينات ومع ذلك فهو مقام إبراهيم وموضعه الذي اختاره وعبد الله فيه. وقال الأكثرون إن الآيات بيانه وتفسيره قوله: مَقامُ إِبْراهِيمَ إما بأن يجعل وحده بمنزلة آيات كثيرة لأنه معجز رسول وكل معجز ففيه دليل أيضا على علم الصانع وقدرته وإرادته وحياته وتعاليه عن مشابهة المحدثات، فلقوة هذا الدليل عبر عنه بلفظ الجمع كقوله: إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً [النحل: ١٢٠] وإما بأن يجعل المقام مشتملا على آيات لأن أثر القدم في الصخرة الصماء
قال صلى الله عليه وسلم: «الاثنان فما فوقهما جماعة»
وفي القرآن هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا [الحج: ١٩] وقيل: ذكر آيتان وطوى ذكر غيرهما. دلالة على تكاثر الآيات كأنه قيل: فيه آيات بينات مقام إبراهيم وأمن من دخله وكثير سواهما. ومنه
قوله صلى الله عليه وسلم: «حبب إليّ من دنياكم ثلاث الطيب والنساء وجعلت قرة عيني في الصلاة» «١»
ومنهم من تمم الثلاثة فقال: مقام إبراهيم وأمن من دخله وإن لله على الناس حجه. وقال المبرد: مقام مصدر فلم يجمع والمراد مقامات إبراهيم هي ما أقامه من المناسك، فالمراد بالآيات شعائر الحج.
وقرأ ابن عباس وأبي ومجاهد وأبو جعفر المدني في رواية قتيبة آية بينة على التوحيد قاله في الكشاف. وفيه توكيد لكون مقام إبراهيم وحده بيانا. وأما حديث «أمن من دخله» فقد مر اختلاف العلماء فيه في سورة البقرة في قوله: وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً [البقرة: ١٢٥] وقيل: كان آمنا من النار لما
روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: «من مات في أحد الحرمين بعث يوم القيامة آمنا»
وعنه صلى الله عليه وسلم: «الحجون والبقيع يؤخذ بأطرافهما وينثران في الجنة»
وهما مقبرتا مكة والمدينة.
وعن ابن مسعود: وقف رسول الله ﷺ على ثنية الحجون وليس بها يومئذ مقبرة فقال: «يبعث الله من هذه البقعة ومن هذا الحرم كله سبعين ألفا وجوههم كالقمر ليلة البدر يدخلون الجنة بغير حساب يشفع كل واحد منهم في سبعين ألفا وجوههم كالقمر ليلة البدر»
وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «من صبر على حر مكة ساعة من نهار تباعدت منه جهنم مسيرة مائتي عام».
وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ لما ذكر فضائل البيت أردفه بإيجاب الحج وفيه لغتان: الفتح لغة الحجاز، والكسر لغة نجد، وكلاهما مصدر كالمدح والذم والذكر والعلم.
وقيل: المكسور اسم للعمل، والمفتوح مصدر. ومحل مَنِ اسْتَطاعَ خفض على البدل عَلَى النَّاسِ والمعنى: ولله على من استطاع من الناس حج البيت. وقال الفراء: يجوز أن ينوي الاستئناف بمن والخبر، أو الجزاء محذوف لدلالة ما قبله عليه والتقدير: من استطاع إليه سبيلا فلله عليه حج البيت. وقال ابن الأنباري: يحتمل أن يكون محله رفعا على البيان
والحق أن وجوب الفعل بالقدرة والإرادة لا ينافي توجيه التكليف إليه.
واعلم أن الحج لا يجب بأصل الشرع في العمر إلا مرة واحدة لما
روي عن ابن عباس قال: خطبنا رسول الله ﷺ فقال: «يا أيها الناس إن الله كتب عليكم الحج. فقام الأقرع بن حابس فقال: أفي كل عام يا رسول الله؟ فقال: لو قلتها لو جبت ولو وجبت لم تعملوا بها.
الحج مرة فمن زاد فتطوع» «١»
وقد يجب أكثر من مرة واحدة لعارض كالنذور والقضاء.
ولصحة الحج على الإطلاق شرط واحد وهو الإسلام، فلا يصح حج الكافر كصومه وصلاته. ولا يشترط فيها التكليف بل يجوز للولي أن يحرم عن المجنون وعن الصبي الذي لا يميز وحينئذ يصح حجهما لما
روي عن ابن عباس أن النبي ﷺ مر بامرأة وهي في محفتها، فأخذت بعضد صبي كان معها فقالت: ألهذا حج؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم ولك أجر.
وعن جابر قال: حججنا مع النبي ﷺ ومعنا النساء والصبيان فلبينا عن الصبيان ورمينا عنهم. ولصحة المباشرة شرط زائد على الإسلام وهو التمييز. فلا تصح مباشرة الحج من المجنون والصبي الذي لا يميز كسائر العبادات، ويصح من الصبي المميز أن يحرم ويحج بإذن الولي، ولا يشترط فيها الحرية كسائر العبادات. ولوقوعه عن حجة الإسلام شرطان زائدان: البلوغ والحرية
لقوله صلى الله عليه وسلم: «أيما صبي حج ثم بلغ فعليه حجة الإسلام، وأيما عبد
والمعنى فيه أن الحج عبادة عمر لا تتكرر فاعتبر وقوعها في حالة الكمال، ولأن التكليف تابع للتمييز فشرط هذا الحكم إذن يعود إلى ثلاثة: الإسلام والتكليف والحرية. ولو تكلف الفقير الحج وقع حجه عن الفرض كما لو تحمل الغني خطر الطريق وحج، وكما لو تحمل المريض المشقة وحضر الجمعة. ولوجوب حجة الإسلام شرط زائد على الثلاثة المذكورة آنفا وهو الاستطاعة بالآية. والاستطاعة نوعان: استطاعة مباشرته بنفسه واستطاعة تحصيله بغيره. النوع الأول يتعلق به أمور أربعة: أحدها الراحلة، والناس قسمان: أحدهما من بينه وبين مكة مسافة القصر فلا يلزمه الحج إلا إذا وجد راحلة سواء كان قادرا على المشي أو لم يكن لما
روي أنه ﷺ فسر استطاعة السبيل إلى الحج بوجود الزاد والراحلة.
نعم لو كان قادرا على المشي يستحب له أن لا يترك الحج. وعند مالك القوي على المشي يلزمه الحج. ويعتبر مع وجدان الراحلة وجدان المحمل أيضا إن كان لا يستمسك على الراحلة ويلحقه مشقة شديدة. ثم العادة جارية بركوب اثنين في المحمل. فإن وجد مؤنة محمل أو شق محمل ووجد شريكا يجلس في الجانب الآخر لزمه الحج، وإن لم يجد الشريك فلا. القسم الثاني من ليس بينه وبين مكة مسافة القصر. فإن كان قويا على المشي لزمه الحج وإلا فلا يجب إلا مع الراحلة أو معها ومع المحمل كما في حق البعيد. والمراد بوجود الراحلة أن يقدر على تحصيلها ملكا أو استئجارا بثمن المثل أو بأجرة المثل وكذا في المحمل. المتعلق الثاني: الزاد وأوعيته وما يحتاج إليه في السفر مدة ذهابه وإيابه سواء كان له أهل أو عشيرة يرجع إليهم أو لا فحب الوطن من الإيمان. وكذا الراحلة للإياب وأجرة البذرقة. كل ذلك بعد قضاء جميع الديون ورد الودائع ونفقة من يلزمه نفقتهم حينئذ إلى العود، وبعد مؤن النكاح إن خاف العنت، وبعد مسكنه ودست ثوب يليق به وخادم يحتاج إليه لزمانته أو لمنصبه. ولو كان له رأس مال يتجر فيه وينفق من ربحه ولو نقص لبطلت تجارته، أو كان له مستغلات يرتفق منها نفقته، فالأصح عند الأئمة أنه يكلف بيعها لأن واجد للزاد والراحلة في الحال ولا عبرة لخوف الفقر في الاستقبال.
المتعلق الثالث: الطريق ويشترط فيه غلبة ظن الأمن على النفس من نحو سبع وعدو، والأمن على المال من عدو أو رصديّ وإن رضي بشيء يسير، والأمن على البضع للمرأة بخروج زوج أو محرم أو نسوة ثقات. وفي البحر يعتبر غلبة السلامة وفي البر وجود علف الدابة.
المتعلق الرابع: البدن ويشترط فيه أن يقوى على الاستمساك على الراحلة، فإن ضعف عن ذلك لمرض أو غيره فهو غير مستطيع للمباشرة. ولا بد للأعمى من قائد، وعند أبي حنيفة لا حج عليه. ويروى أنه يستنيب قال الأئمة: لا بد مع الشرائط من إمكان المسير وهو
وأما النوع الثاني فهو استطاعة الاستنابة فإنها جائزة في الحج وإن كانت العبادات بعيدة عن الاستنابة، لأن المحجوج عنه قد يكون عاجزا عن المباشرة بسبب الموت أو الكبر أو زمانة أو مرض لا يرجى زواله.
وعن ابن عباس أن رجلا جاء إلى النبي ﷺ فقال: «يا رسول الله، إن أختي نذرت أن تحج وماتت قبل أن تحج، أفأحج عنها؟ فقال: لو كان على أختك دين أكنت قاضيه؟ قال: نعم. قال: فاقضوا حق الله تعالى فهو أحق بالقضاء» «١»
وعنه أن امرأة من خثعم قالت: يا رسول الله إن فريضة الله تعالى على عباده في الحج أدركت أبي شيخا كبيرا لا يستطيع أن يستمسك على الراحلة أفأحج عنه؟ قال: نعم.
وقد تكون الاستنابة بطريق الاستئجار لأنه عمل يدخله النيابة فيجري فيه الاستئجار كتفريق الزكاة. وعند أبي حنيفة وأحمد لا يجوز ولكن يرزق عليه. ولو استأجر كان ثواب النفقة للآمر وسقط عنه الخطاب بالحج ويقع الحج عن الحاج. والحج بالرزق أن يقول: حج عني وأعطيك نفقتك.
وهذا أيضا جائز عند الشافعي كالإجارة، ولكن لا يجوز أن يقول استأجرتك بالنفقة لأنها مجهولة. والأجرة لا بد أن تكون معلومة. فهذا جملة الكلام في الاستطاعة عند الجمهور.
وعن الضحاك: إذا قدر أن يؤجر نفسه فهو مستطيع، وقيل له في ذلك فقال: إن كان لبعضهم ميراث بمكة أكان يتركه بل كان ينطلق إليه ولو حبوا، فكذلك يجب عليه الحج.
وفي الآية أنواع من التوكيد والتغليظ منها قوله: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ أي حق واجب له عليهم لكونه إلها فيجب عليهم الانقياد سواء عرفوا وجه الحكمة فيها أم لم يعرفوا فإن كثيرا من أعمال الحج تعبد محض. ومنها بناء الكلام على الأبدال ليكون تثنية للمراد
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من مات ولم يحج فليمت إن شاء يهوديا أو نصرانيا»
ونظيره
قوله صلى الله عليه وسلم: «من ترك الصلاة متعمدا فقد كفر» «١»
ومنها إظهار الغنى وتهويل الخطب بذكر اسم الله دون أن يقول: «فإنه» أو «فإني» فإنه يدل على غاية السخط والخذلان. ومنها وضع المظهر مقام المضمر حيث قال: عَنِ الْعالَمِينَ.
ولم يقل «عنه» لأنه تعالى إذا كان غنيا عن كل العالمين فلأن يكون غنيا عن طاعة ذلك الواحد أولى. ومن العلماء من زعم أن هذا الوعيد عام في حق كل من كفر ولا تعلق له بما قبله، ومنهم من حمله على اعتقاد عدم وجوب الحج ويؤكده ما روي عن سعيد بن المسيب إنها نزلت في اليهود قالوا: إن الحج إلى مكة غير واجب.
وعن الضحاك: لما نزلت آية الحج جمع رسول الله ﷺ أهل الأديان الستة. المسلمين واليهود والنصارى والصابئين والمجوس والمشركين- فخطبهم وقال: إن الله تعالى كتب عليكم الحج فحجوا. فآمن به المسلمون وكفرت به الملل الخمس وقالوا: لا نؤمن به ولا نصلي إليه ولا نحجه. فنزلت وَمَنْ كَفَرَ.
ومن الأحاديث الواردة في تأكيد أمر الحج
قوله صلى الله عليه وسلم: «حجوا قبل أن لا تحجوا فإنه قد هدم البيت مرتين ويرفع في الثالثة»
وروي «حجوا قبل أن لا تحجوا حجوا قبل أن يمنع البر جانبه»
أي يتعذر عليكم الذهاب إلى مكة من جانب البر لعدم الأمن أو غيره. وعن ابن مسعود: حجوا هذا البيت قبل أن تنبت في البادية شجرة لا تأكل منها دابة إلا نفقت أي هلكت. وعن عمر: لو ترك الناس الحج عاما واحدا ما نوظروا أي عجل عقوبتهم ويستأصلون.
ثم إنه سبحانه لاين أهل الكتاب في الخطاب فقال: قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ التي دلتكم على صدق محمد ﷺ بعد ظهور البينات ودحوض الشبهات، أو بعد معرفة فضيلة الكعبة ووجوب الحج؟ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ فيجازيكم عليه. وهذه الحال توجب أن لا تجسروا على الكفر بآياته ودلالتها على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم. ثم إنه تعالى لما أنكر عليهم في ضلالهم وبخهم على إضلالهم فقال: لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ قال المفسرون: وكان صدّهم عن سبيل الله إلقاء الشكوك والشبهات في قلوب ضعفة المسلمين، وإنكار أن نعت محمد ﷺ في كتابهم، ومنع من أراد الدخول في الإسلام بجهدهم وكدهم، أو بتذكير ما كان بينهم في الجاهلية من العداوات والحروب ليعودوا لمثله. ومحل تَبْغُونَها عِوَجاً أي اعوجاجا نصب على الحال أو بدل وهو بكسر العين
والمعنى انكم تلبسون على الناس حتى توهموهم أن فيها زيفا كقولكم: إن النسخ يدل على البداء وإن شريعة موسى باقية إلى الأبد وإن محمدا ﷺ ليس بذلك المنعوت في كتابنا أو المراد أنكم تتبعون أنفسكم في إخفاء الحق وابتغاء ما لا يتأتى لكم من وجود العوج فيما هو أقوم من كل مستقيم. ويحتمل أن يكون عِوَجاً حالا بمعنى ذا عوج. وذلك أنهم كانوا يدعون أنهم على دين الله وسبيله فقيل لهم: إنكم تبغون سبيل الله ضالين وَأَنْتُمْ شُهَداءُ أنها سبيل الله التي لا يصد عنها إلا ضال مضل قاله ابن عباس. أو أنتم تشهدون ظهور المعجزات على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، أو أنتم شهداء بين أهل دينكم عدول يصغون لأقوالكم ويستشهدونكم في عظائم الأمور يعني الأحبار. وفيه أن من كان كذلك لا يليق بحاله الإصرار على الباطل والكذب والضلال والإضلال. ثم أوعدهم بقوله: وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ كقول السيد لعبده وقد أنكر طريقته. لا يخفى عليّ سيرتك ولست بغافل عنك.
وإنما ختم الآية الأولى بقوله: وَاللَّهُ شَهِيدٌ وهذه بقوله: وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ لأن ذلك فيما أظهروه من الكفر بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا فيما أضمروه وهو الصد بالاحتيال وإلقاء الشبهة.
وفي تكرير الخطاب في الآيتين بقوله: يا أَهْلَ الْكِتابِ توبيخ لهم على توبيخ بألطف الوجوه وألين المقال لعلهم يتفكرون فينصرفون عن سلوك سبيل الضلال والإضلال. عن عكرمة
ويروى عن زيد بن أسلم وجابر أيضا أن شاس بن قيس اليهودي- وكان عظيم الكفر شديد الطعن على المسلمين- مر على نفر من الأنصار من الأوس والخزرج في مجلس لهم يتحدثون فغاظه ذلك حيث تألفوا واجتمعوا بعد الذي كان بينهم في الجاهلية من العداوة وقال: ما لنا معهم إذا اجتمعوا من قرار. فأمر شابا من اليهود أن يجلس إليهم ويذكرهم يوم بعاث، وهو يوم اقتتلت فيه الأوس والخزرج وكان الظفر فيه للأوس على الخزرج. ففعل وأنشدهم بعض ما كانوا تقاولوا فيه من الأشعار. فتكلم القوم عند ذلك فتنازعوا وتفاخروا حتى تواثب رجلان من الحيين، أوس بن قيظى أحد بني حارثة من الأوس، وجبار بن صخر أحد بني سلمة من الخزرج- فتقاولا ثم قال أحدهما لصاحبه: إن شئت والله رددتها الآن جذعة. وغضب الفريقان جميعا وقالا: قد فعلنا السلاح السلاح موعدكم الظاهرة وهي
وفي رواية زيد بن أسلم: خرج إليهم رسول الله فيمن معه من المهاجرين فقال: يا معشر المسلمين أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد إذ أكرمكم الله بالإسلام وقطع به عنكم أمر الجاهلية وألف بينكم ترجعون إلى ما كنتم عليه كفارا؟ الله الله. فعرف القوم أنها نزغة من الشيطان وكيد من عدوهم، فألقوا السلاح وبكوا وعانق بعضهم بعضا ثم انصرفوا مع رسول الله ﷺ سامعين مطيعين فأنزل الله عز وجل الآيات.
قال جابر بن عبد الله: ما كان من طالع أكره إلينا من رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأومى إلينا بيده وكففنا وأصلح الله ما بيننا، فما كان شخص أحب إلينا من رسول الله صلى الله عليه وسلم. فما رأيت يوما قط أقبح ولا أوحش أوّلا وأحسن آخرا من ذلك اليوم.
وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ استفهام بطريق الإنكار والعجب. والمعنى من أين يتطرق إليكم الكفر والحال أن آيات الله تتلى عليكم على لسان الرسول ﷺ في كل واقعة وبين أظهركم رسول الله يبين لكم كل شبهة ويزيح عنكم كل علة؟ ومع هذين النورين لا يبقى لظلمة الضلال عين ولا أثر، فعليكم أن لا تلتفتوا إلى قول المخالف وترجعوا فيما يعنّ لكم إلى الكتاب والنبي صلى الله عليه وسلم. قلت: أما الكتاب فإنه باق على وجه الدهر، وأما النبي ﷺ فإن كان قد مضى إلى رحمة الله في الظاهر، ولكن نور سره باق بين المؤمنين، فكأنه باق على أن عترته ﷺ وورثته يقومون مقامه بحسب الظاهر أيضا. ولهذا
قال صلى الله عليه وسلم: «إني تارك فيكم الثقلين ما أن تمسكتم بهما لن تضلوا كتاب الله وعترتي» «١»
وقال: «إن العلماء ورثة الأنبياء» «٢»
اللهم اجعلنا من زمرتهم بعصمتك وهدايتك. وفي هذا بشارة لهذه الأمة أنهم لا يضلون أبدا إلى يوم القيامة. ثم بين أن الكل بعصمة الله وتوفيقه فقال: وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ يتمسك بدينه أو يلتجىء إليه في دفع شرور الكفار فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ والاعتصام الاستمساك بالشيء في منع نفسه من الوقوع في آفة. أما المعتزلة فحيث لم يجعلوا الاعتصام بخلق الله وهدايته بل قالوا: إنه بفعل
أحمد في مسنده (٣/ ١٤، ١٧، ٣٦٧).
(٢) رواه البخاري في كتاب العلم باب ١٠. أبو داود في كتاب العلم باب ١. ابن ماجه في كتاب المقدمة باب ١٧. الدارمي في كتاب المقدمة باب ٣٢. أحمد في مسنده (٥/ ١٩٦).
ومعنى التوقع في «قد» ظاهر لأن المعتصم بالله. متوقع للهدى، كما أن قاصد الكريم متوقع للفلاح عنده.
التأويل:
لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ وهو صفة الله حَتَّى تُنْفِقُوا أحب الأشياء إليكم وهو أنفسكم. إن الفراش لم ينل من بر الشمع وهو شعلته حتى أنفق مما أحبه وهو نفسه كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا الخلق ثلاثة أصناف: الملك النوراني العلوي وغذاؤه الذكر وخلق للعبادة، والحيوان الظلماني السفلي وغذاؤه الطعام وخلق للخدمة، والإنسان المركب من القبيلين وغذاؤه لروحانيته الذكر ولجسمانيته الطعام وخلق للمعرفة والخلافة. وهذا الصنف على ثلاثة أقسام: منهم ظالم لنفسه وهو الذي بالغ في غذاء جسمانيته وقصر في غذاء روحانيته حتى مات روحه واستولت نفسه أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ [الأعراف: ١٧٩] ومنهم مقتصد وهو الذي تساوى طرفاه خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً [التوبة: ١٠٢] وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ [فاطر: ٣٢] وهو الذي بالغ في غذاء روحانيته وهو المذكور، وفرط في غذاء جسمانيته حتى ماتت نفسه وقوي روحه أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ [البينة: ٧] فكان كل الطعام حلالا للإنسان كما للحيوان إلا ما حرم الإنسان السابق بالخيرات على نفسه بموت النفس وحياة القلب واستيلاء الروح من قبل أن ينزل الوحي والإلهام كما قيل:
المجاهدات تورث المشاهدات وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا [العنكبوت: ٦٩] فمن افترى على الله الكذب بأن يريد أن يهتدي إلى الحق من غير جهاد النفس قُلْ صَدَقَ اللَّهُ في قوله: لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ وكان من ملته إنفاق المال على الضيفان، وبذل الروح عند الامتحان، وتسليم الولد للقربان وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ الذين يتخذون مع الله إلها آخر. إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لا لله لأنه غني عن العالمين.
وإن أنموذج بيت الله في الإنسان وهو العالم الصغير القلب الذي وضع ببكة صدر الإنسان مباركا عليه وهدى يهتدي به جميع أجزاء وجوده إلى الله بجوده. فإن النور الإلهي إذا وقع في القلب انفسح له واتسع، فبه يسمع وبه يبصر وبه يعقل وبه ينطق وبه يبطش وبه يمشي وبه يتحرك وبه يسكن فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ يصل بها الطالب إلى مطلوبه والقاصد إلى مقصوده، ومنها مقام إبراهيم وهو الخلة التي توصل الخليل إلى خليله وَمَنْ دَخَلَهُ يعني مقام إبراهيم ببذل المال والنفس والولد وإرضاء خليله كانَ آمِناً من نار القطيعة ومن
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٠٢ الى ١١١]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٠٢) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٠٣) وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٠٤) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٠٥) يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (١٠٦)
وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللَّهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (١٠٧) تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ (١٠٨) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (١٠٩) كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ (١١٠) لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذىً وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (١١١)
القراآت:
حَقَّ تُقاتِهِ بالإمالة: علي. وَلا تَفَرَّقُوا بتشديد الراء: البزي وابن فليح.
مُسْلِمُونَ هـ وَلا تَفَرَّقُوا ص لعطف المتفقتين إِخْواناً ج لاحتمال الواو وللحال والاستئناف مِنْها ط تَهْتَدُونَ هـ الْمُنْكَرِ ط للعدول الْمُفْلِحُونَ هـ الْبَيِّناتُ ط عَظِيمٌ هـ (لا) لتعلق الظرف بلهم على الأصح. وقيل: منصوب بإضمار «اذكر». وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ ج اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ (لا) لأن التقدير: فيقال لهم: أكفرتم؟
تَكْفُرُونَ هـ فَفِي رَحْمَتِ اللَّهِ ط خالِدُونَ هـ بِالْحَقِّ ط لِلْعالَمِينَ هـ ما فِي الْأَرْضِ ط الْأُمُورُ هـ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ط خَيْراً لَهُمْ ط الْفاسِقُونَ هـ قيل: لا وقف عليه وعليه وقف لأن المعرف لا يتصف بالجملة إِلَّا أَذىً ط والْأَدْبارَ وقفة لأن «ثم» لترتيب الإخبار أي ثم هم لا ينصرون، ولو كان عطفا لكان ثم لا ينصروا. لا يُنْصَرُونَ هـ.
التفسير:
إنه سبحانه لما حذر المؤمنين إضلال الكفار أمرهم في هذه الآيات بمجامع الطاعات ومعاقد الخيرات، فأولها لزوم سيرة التقوى. عن ابن عباس: لما نزلت يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وهو أن يطاع فلا يعصى طرفة عين، وأن يشكر فلا يكفر، وأن يذكر فلا ينسى. أو هو القيام بالمواجب كلها والاجتناب عن المحارم بأسرها، وأن لا يأخذه في الله لومة لائم، ويقول بالقسط ولو على نفسه أو الوالدين والأقربين، شق ذلك على المسلمين فنزلت فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن: ١٦] والجمهور على أنها منسوخة لأن معنى حَقَّ تُقاتِهِ واجب تقواه وكما يحق أن يتقي وهو أن يجتنب جميع معاصيه، ومثل هذا لا يجوز أن ينسخ وإلا كان إباحة لبعض المعاصي. ولا يجوز أن يراد بقوله:
حَقَّ تُقاتِهِ ما لا يستطاع من التكاليف كالصادر على سبيل الخطأ والسهو والنسيان لقوله:
لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها [البقرة: ٢٨٦] فعلى هذا لم يبق فرق بين الآيتين. ولناصر القول الأول أن يقول: إن كنه الإلهية غير معلوم للخلق، فلا يكون كمال قهره وقدرته وعزته معلوما فلا يحصل الخوف اللائق بذلك فلا يحصل حق الاتقاء، وإذا كان كذلك فيجوز أن يؤمر بالاتقاء الأغلظ والأخف، ثم ينسخ الأغلظ ويبقى الأخف، ونزول هذه الآية بعد قوله:
لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها [البقرة: ٢٨٦] ممنوع وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ليس نهيا عن الموت وإنما هو نهي عن أن يدركهم الموت على خلاف حال الإسلام وقد مر في البقرة مثله. ثم إنه تعالى أمرهم بما هو كالأصل لجميع الخيرات وإصلاح المعاش والمعاد وهو الاجتماع على التمسك بدين الله واتفاق الآراء على إعلاء كلمته فقال: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً حال كونهم مجموعين. وقولهم: اعتصمت بحبله يجوز أن يكون تمثيلا لاستظهاره به ووثوقه بعنايته باستمساك المتدلي من مكان مرتفع بحبل وثيق يأمن انقطاعه،
روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن النبي ﷺ أنه قال: «أما إنها ستكون فتنة. قيل: فما المخرج منها؟ قال صلى الله عليه وسلم: كتاب الله فيه نبأ ما قبلكم وخبر ما بعدكم وحكم ما بينكم وهو حبل الله المتين» «١»
وروى ابن مسعود عن النبي ﷺ «هذا القرآن حبل الله»
وعن أبي سعيد الخدري عن النبي ﷺ «إني تارك فيكم الثقلين: كتاب الله حبل متين ممدود من السماء إلى الأرض وعترتي أهل بيتي» «٢»
وقيل: إنه دين الله. وقيل: إنه طاعة الله. وقيل: إخلاص التوبة.
وقيل: الجماعة لقوله تعالى عقيب ذلك: وَلا تَفَرَّقُوا لأن الحق لا يكون إلا واحدا، وما بعد الحق إلا الضلال. ويد الله مع الجماعة.
قال صلى الله عليه وسلم: «ستفترق أمتي على نيف وسبعين فرقة الناجي منهم واحد فقيل: ومن هم يا رسول الله؟ قال: الجماعة»
وروي «السواد الأعظم»
وروي «ما أنا عليه وأصحابي» «٣»
قال صلى الله عليه وسلم: «لا تجتمع أمتي على الضلالة» «٤»
وقد يتمسك بالآية نفاة القياس قالوا: الأحكام الشرعية إن احتيج فيها إلى الدلائل اليقينية امتنع الاكتفاء فيها بالقياس، وإن اقتصر فيها على الدلائل الظنية فالقول بجواز القياس لكل أحد يوجب التفرق والاختلاف وهو منهي عنه. وأجيب بأن الدلائل الدالة على وجوب العمل بالقياس مخصصة لعموم قوله: وَلا تَفَرَّقُوا. ثم إنه تعالى ذكرهم نعمته عليهم وذلك أنهم كانوا في الجاهلية بينهم إلا حن والبغضاء والحروب المتطاولة، فألف الله بين قلوبهم ببركة الإسلام فصاروا إخوانا في الله متراحمين متناصحين، وذلك أن من كان وجهه إلى الدنيا فقلما يخلو من معاداة ومناقشة بسبب الأغراض الدنيوية، أما العارف الناظر من الحق إلى الخلق فإنه يرى الكل أسيرا في قبضة القضاء فلا يعادي أحدا البتة لأنه مستبصر بسر الله في القدر. فإذا أمر أمر برفق ناصح لا بعنف معير وكان حبه لحزب الله ونظرائه في الدين ورفقائه في طلب
(٢) رواه الترمذي في كتاب المناقب باب ٣١. أحمد في مسنده (٣/ ١٤، ١٧).
(٣) رواه الدارمي في كتاب السير باب ٧٥.
(٤) رواه ابن ماجه في كتاب الفتن باب ٨.
كما شرقت صدر القناة من الدم قال بعضهم: الشفة أصغر من الشفا وكذلك الضلالة والضلال ولذلك قال نوح عليه السلام: لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ [الأعراف: ٦١] حين قال له قومه إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الأعراف: ٦٠] أي ليس بي صغير من الضلال فكيف الكبير منه؟ ومعنى الآية إنكم كنتم مشرفين بكفركم على جهنم تشبيها لها بالحفر التي فيها النار وتمثيلا لحياتهم التي يتوقع بعدها الوقوع في النار بالقعود على حرفها. وفيه تنبيه على تحقير مدة الحياة وإن طالت كأنه ليس بين الحياة وبين الموت المستلزم للوقوع في الحفرة إلا ما بين طرف الشيء وبين ذلك الشيء. قالت المعتزلة: معنى الإنقاذ أنه تعالى لطف بهم بالرسول ﷺ وبسائر ألطافه حتى آمنوا. وقال أهل السنة: جميع الألطاف مشتركة بين المؤمن والكافر، فلو كان فاعل الإيمان هو العبد لكان العبد هو الذي أنقذ نفسه من النار، لكن الآية دلت على أن الله تعالى هو المنقذ فعلم أن خالق أفعال العباد هو الله تعالى. كَذلِكَ مثل ذلك البيان البليغ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ إرادة أن تزدادوا هدى أو لتكونوا على رجاء هداية. فالأول قول المعتزلة والثاني لأهل السنة، وقد مر في أوائل سورة البقرة. ثم رغب المؤمنين الكاملين في تكميل غيرهم فقال: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وهو جنس تحته نوعان: الترغيب في فعل ما
فإن الجاهل ربما نهى عن معروف وأمر بمنكر، وربما عرف الحكم في مذهبه وجهله في مذهب صاحبه فنهاه عن غير منكر، وقد يغلظ في موضع اللين ويلين في موضع الغلظة، وينكر على من لا يزيده إنكاره إلا تماديا. وأيضا قد أجمعنا على أن ذلك واجب على الكفاية، فكان هذا بالحقيقة إيجابا على البعض الذي يقوم به. ثم إن نصب لذلك رجل تعين عليه بحكم الولاية وهو المحتسب.
واعلم أن الأمر بالمعروف على ثلاثة أضرب: أحدها ما يتعلق بحقوق الله تعالى وهو نوعان: أحدهما ما يؤمر به الجمع دون الأفراد كإقامة الجمعة حيث تجتمع شرائطها، فإن كانوا عددا يرون انعقاد الجمعة بهم والمحتسب لا يراه فلا يأمرهم بما لا يجوّزه ولا ينهاهم عما يرونه فرضا عليهم ويأمرهم بصلاة العيد. والثاني ما يؤمر به الأفراد كما إذا أخر بعض الناس الصلاة عن الوقت. فإن قال: نسيتها. حثه على المراقبة. ولا يعترض على من أخرها والوقت باق. وثانيها ما يتعلق بحقوق الآدميين وينقسم إلى عام كالبلد إذا تعطل شربه أو انهدم سوره أو طرقه أبناء السبيل المحتاجون وتركوا معونتهم. فإن كان في بيت المال مال لم يؤمر الناس بذلك، وإن لم يكن أمر ذوو المكنة برعايتها والي خاص كمطل المديون الموسر بالدين. فالمحتسب يأمره بالخروج عنه إذا استعداه رب الدين وليس له الحبس.
وثالثها الحقوق المشتركة كأمر الأولياء بإنكاح الأكفاء، وإلزام النساء أحكام العدد، وأخذ السادة بحقوق الأرقاء، وأرباب البهائم بتعهدها وأن لا يستعملوها فيما لا تطيق، ومن يغير هيئات العبادات كالجهر في الصلاة السرية وبالعكس، أو يزيد في الأذان يمنعه وينكر عليه،
ولا ينكر في حقوق الآدميين كتعدي الجار في جدار الجار إلا باستعداء صاحب الحق، وينكر على من يطيل الصلاة من أئمة المساجد المطروقة، وعلى القضاة إذا حجبوا الخصوم وقصروا في النظر في الخصومات. والسوقي المختص بمعاملة النساء يختبر أمانته فإن ظهرت منه خيانة منع من معاملتهن. وبالجملة
«الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق» «١»
فلينظر الداعي الى الخير في حال كل مكلف وغير مكلف حتى الصبيان، ليتمرنوا والمجانين كيلا يضروا ويدعوه إلى ما يليق به متدرجا من الأسهل إلى الأصعب في الأمر والإنكار كل ذلك إيمانا واحتسابا لا سمعة ورياء، ولا لغرض من الأغراض النفسانية والجسمانية. وذلك أنّ هذه الدعوة منصب النبي وخلفائه الراشدين بعده، ومن هاهنا ذهب الضحاك إلى أن المراد من المذكورين في هذه الآية أصحاب رسول الله ﷺ الذين يتعلمون من الرسول ويعلمون الناس.
وروي عن النبي ﷺ «من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر فهو خليفة الله في أرضه وخليفة رسول الله وخليفة كتابه»
وعن علي: أفضل الجهاد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن شنأ الفاسقين وغضب لله غضب الله له وكفى بقوله تعالى: وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ أي الأخصاء بالفلاح مدحا لهم. وقد يتمسك بهذا في أن الفاسق ليس له أن يأمر بالمعروف وينهي عن المنكر لأنه ليس من أهل الفلاح. وأجيب بأن هذا ورد على سبيل الغالب، فإن الظاهر أن الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر لا يشرع فيه إلا بعد إصلاح أحوال نفسه، لأن العاقل يقدم مهم نفسه على مهم الغير وقلما يتفق ممن يزني بامرأة أن يأمرها بالمعروف في أنها لم كشفت عن وجهها. قال بعض العلماء: إن ترك ارتكاب المنهي عنه والنهي عن ارتكاب المنهي واجبان على الفاسق، فبتركه أحد الواجبين لا يسقط عنه الواجب الآخر. وعن بعض السلف: مروا بالخير وإن لم تفعلوا. وعن الحسن أنه سمع مطرف بن عبد الله يقول: لا أقول ما لا أفعل فقال: وأينا يفعل ما يقول؟ ود الشيطان لو ظفر بهذه منكم فلا يأمر أحد بمعروف ولا ينهي عن منكر. والحق في هذه القضية ما قيل:
وغير تقيّ يأمر الناس بالتقى | طبيب يداوي الناس وهو مريض |
قوله سبحانه: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا في النظم وجهان: أحدهما أنه تعالى ذكر في الآيات المتقدمة أنه بين في التوراة والإنجيل ما يدل على صحة دين الإسلام، ثم إن أهل الكتاب حسدوا محمدا فاحتالوا لإلقاء الشكوك في تلك النصوص، ثم انجر الكلام إلى أنه أمر المؤمنين بالدعاء إلى الخير، فختم الكلام بتحذير المؤمنين من مثل فعل أهل الكتاب من إلقاء الشبهات في النصوص واستخراج التأويلات الفاسدة، فعلى هذا تكون الآية من تتمة الآيات المتقدمة. وثانيهما أنه لما أمر الأمة بالأمر بالمعروف والنهي عن ضده وكان ذلك مما لا يتم إلا بالقدرة على تنفيذه، كيف وفي الناس ظلمة ومتغلبون، فلا جرم حذر أهل الحق أن يتفرقوا ويختلفوا كيلا يصير ذلك سببا لعجزهم عن القيام بهذا التكليف، وعلى هذا تكون الآية من تتمة الآية السابقة فقط. قال بعضهم: تفرقوا واختلفوا مؤداهما واحد والتكرير للتأكيد. وقيل: معناهما مختلف. تفرقوا بالعداوة واختلفوا في الدين. أو تفرقوا بسبب التأويلات الفاسدة للنصوص، واختلفوا بأن حاول كل منهم نصرة قوله. أو تفرقوا بأبدانهم بأن صار كل من الأحبار رئيسا في بلد، واختلفوا بأن صار كل منهم يدعي أنه على الحق وصاحبه على الباطل. ولعل الإنصاف أن أكثر علماء الزمان بهذه الصفة فنسأل الله العصمة والسداد. وَأُولئِكَ اليهود والنصارى الذين اختلفوا من بعد ما جاءهم الدلالات الواضحة والنصوص الظاهرة، أو أولئك الذين اقتفوا آثارهم من مبتدعة هذه الأمة لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ وفي تعليق الظرف بقوله لَهُمْ فائدتان:
إحداهما أن ذلك العذاب في هذا اليوم، والأخرى أن من حكم هذا اليوم أن يبيض بعض الوجوه ويسود بعضها ونظير ذلك في القرآن وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ تَرْهَقُها قَتَرَةٌ [عبس: ٣٨- ٤١] وفي أمثال هذه الألوان للمفسرين قولان:
أحدهما- وإليه ميل أبي مسلم-: أن البياض مجاز عن الفرح والسواد عن الغم وهذا مجاز مستعمل قال تعالى: وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا [النحل: ٥٨] ولما سلم الحسن بن علي الأمر إلى معاوية قال له رجل: يا مسوّد وجوه المؤمنين. وتمام الخبر سوف يجيء إن شاء الله في تفسير سورة القدر. ولبعض الشعراء في الشيب:
يا بياض القرون سودت وجهي | عند بيض الوجوه سود القرون |
قال: «سبقت رحمتي غضبي»
ولما في ذلك من رعاية حسن المطلع والمقطع وأنه فن بديع في الفصاحة. ومن المراد بهؤلاء الذين كفروا بعد إيمانهم؟
قال أبي بن كعب: هم جميع الكفار لأنهم آمنوا وقت الميثاق، ورواه الواحدي في البسيط بإسناده عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وقيل: المراد أكفرتم بعد ما ظهر لكم ما يوجب الإيمان وهو ما نصبه الله من دلائل التوحيد والنبوة؟ وقال عكرمة والأصم والزجاج: إنهم أهل الكتاب آمنوا قبل مبعث النبي ﷺ وكفروا به بعد بعثه. وقال قتادة: إنهم المرتدون. وقال الحسن: هم المنافقون.
وقيل: هم الخوارج الذين قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يمرقون من الدين كما يمرق السهم من
ولما رأى أبو أمامة رؤوسا منصوبة على درج مسجد دمشق دمعت عيناه ثم قال:
كلاب النار هؤلاء شر قتلى تحت أديم السماء، وخير قتلى تحت أديم السماء الذين قتلهم هؤلاء. فقال له أبو غالب: أشيء تقوله برأيك أم شيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: بل سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو لم أسمعه، إلا مرة أو مرتين أو ثلاثا حتى عد سبعا ما حدثتكموه. قال: فما شأنك دمعت عيناك؟ قال: رحمة لهم. كانوا من أهل الإسلام فكفروا ثم قرأ هذه الآية. ثم أخذ بيده فقال: إن بأرضك منهم كثيرا فأعاذك الله منهم. هذا مما أخرجه الإمام أبو عيسى الترمذي في جامعه. ولكن المشهور من مذهب أهل السنة أنّ الخروج على الإمام لا يوجب الكفر البتة، والاستفهام في قوله تعالى: أَكَفَرْتُمْ بمعنى الإنكار. قال القاضي: وفيه وكذا في قوله: بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ دليل على أن الكفر منهم لا من الله. وقالت المرجئة: فيه دلالة على أن العذاب لا يكون إلا للكافر. أما قوله: فَفِي رَحْمَتِ اللَّهِ فالمراد بها الجنة التي هي محل الرحمة. وموقع قوله: هُمْ فِيها خالِدُونَ موقع الاستئناف كأنه قيل: كيف يكونون فيها؟ فأجيب بذلك أي لا يظعنون عنها ولا يموتون. وفي إقامة الرحمة مقام الجنة دليل على أن العبد وإن كثرت طاعته فإنه لا يدخل الجنة إلا بفضل الله وبرحمته. وفي إضافة الرحمة إلى نفسه وتعليل العذاب بكفرهم والنص على خلود أهل الثواب دون أهل النار وإن كانوا مخلدين أيضا دلائل وإشارات إلى أن جانب العفو والمغفرة والرحمة مغلب. وكيف لا وقد أردفه بقوله: تِلْكَ الأحكام التي وردت في حيز الوعيد والوعد وانقضى ذكرها آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ متلبسة بِالْحَقِّ العدل من جزاء المحسن بإحسانه وجزاء المسيء بإساءته، أو متلبسة بالمعنى الحق لأن معنى المتلو حق وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ ولكن مصالح الخلق لا تنتظم إلا بتهديد المذنبين، وإذا حصل التهديد فلا بد من التحقيق دفعا للكذب عمن هو أصدق القائلين. قال الجبائي:
قوله: ظُلْماً نكرة في سياق النفي فوجب أن لا يريد شيئا مما يكون ظلما سواء فرض منه أو من العبد على نفسه أو على غيره، وإذا لم يرد لم يفعل إذ لو كان فاعلا لشيء من الأقسام الثلاثة كان مريدا له هذا خلف، فثبت بهذه الآية أنه تعالى غير فاعل للظلم وغير فاعل لأعمال العباد، إذ من جملتها القبائح، وقد بينا أنه لا يريدها. ثم إنه تعالى تمدح بأنه لا يريد ذلك، والتمدح إنما يصح لو صح منه فعل ذلك الشيء وصح منه كونه مريدا له، فدلت الآية على أنه قادر على الظلم وعلى أن يمنع الظلمة من الظلم على سبيل الإلجاء والقهر فلهذا قال: وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وأيضا لما ذكر أنه لا يريد الظلم والقبائح استدل عليه بأن فاعل القبيح إنما يفعل القبيح للجهل أو العجز أو الحاجة، وكل ذلك على
وربما يقال: معنى الآية إما أن يكون أنه لا يريد أن يظلمهم، أو أنه لا يريد أن يظلم بعضهم بعضا. والأول لا يستقيم على مذهبكم لأن من مذهبكم أنه تعالى لو عذب البريء من الذنب أشد العذاب لم يكن ظالما بل كان عادلا لأن الظلم تصرف في ملك الغير وهو تعالى إنما يتصرف في ملك نفسه، فتصور الظلم منه محال عندكم، فلا يلزم منه مدح. والثاني أيضا محال على قولكم لأن كلا بإرادة الله وبتكوينه عندكم، فثبت أنه لا يمكن حمل الآية على وجه صحيح في مذهبكم. أجاب أهل السنة من وجهين: الأول أنه يتوقف التمدح بنفي صفة على إمكان تصور ذلك الشيء منه بدليل قوله: لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ [البقرة: ٢٥٥] وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ [الأنعام: ١٤] ولا يتوقف التمدح بذلك على صحة النوم والأكل عليه. الثاني أنه تعالى إن عذب من ليس بمستحق للظلم لم يكن ظالما لكنه في صورة الظلم. وقد يطلق اسم أحد المتشابهين على الآخر كقوله: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [الشورى: ٤٠] والحق في هذا المقام أن الظلم وضع الشيء في غير موضعه. وإذا كان اللطف والقهر من ضرورات صفات الكمال، فوضع كل منهما في مظهره يكون وضع الشيء في موضعه فلا يكون ظلما. واحتجت الأشاعرة بقوله: وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ على أن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى لأنها من جملة ما في السموات وما في الأرض. أجابت المعتزلة بأن قوله: لِلَّهِ إضافة ملك لا إضافة فعل كما يقال: هذا البناء لفلان. يراد أنه مملوكه لا أنه مفعوله. وأيضا الآية مسوقة في معرض المدح ولا مدح في نسبة الفواحش والقبائح إلى نفسه. وأيضا قوله: ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ يتناول ما كان مظروفا لهما وذلك من صفات الأجسام لا من صفات الأفعال التي هي أعراض، وعورض بأن الإضافة إضافة فعل، لأن المؤثر في حصول فعل العبد هو مجموع القدرة والداعية المنتهية إلى تخليق الله دفعا للتسلسل أو الترجيح من غير مرجح. قالت الحكماء:
تقديم السموات في الذكر على الأرض دليل على أن جميع الأحوال الأرضية مستندة إلى الأسباب السماوية، ولا شك أن الأحوال السماوية مستندة إلى خلقه وتكوينه تعالى فيكون الجبر أيضا لازما من هذا الوجه. وَإِلَى اللَّهِ أي إلى حيث لا مالك سواه تُرْجَعُ الْأُمُورُ فالأول إشارة إلى أنه تعالى مبدأ المخلوقات كلها، وهذا إشارة إلى أن معاد الكل إليه.
قوله عز من قائل: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ في النظم وجهان: أحدهما أنه لما أمر المؤمنين بما أمر ونهاهم عما نهى، عدل الى طريق آخر يقتضي حملهم على الانقياد والطاعة لأن كونهم خير الأمم مما يقوّي داعيتهم في أن لا يبطلوا على أنفسهم هذه المزية، وذلك إنما
لما انجر الكلام في مخاطبة المؤمنين الى بيان أن كل ما في الوجود ملكه وملكه إبداعا واختراعا وأن منتهى الكل إليه، أتبع ذلك مزية هذه الأمة ليعلم أنها بسابقة العناية الأزلية إذ جعلهم مظهر الألطاف، وذكر بعدها رذيلة أهل الكتاب ليعرف أنها لوقوعهم في طريق القهر ولا اعتراض لأحد على ما يفعله المالك في ملكه. عن عكرمة ومقاتل أن مالك بن الصيف ووهب بن يهوديا اليهوديين قالا لابن مسعود وأبي بن كعب ومعاذ بن جبل وسالم مولى حذيفة: إن ديننا خير مما تدعوننا إليه، ونحن خير وأفضل منكم. فأنزل الله هذه الآية. قال بعض المفسرين: «كان» هاهنا تامة، وانتصاب خَيْرَ أُمَّةٍ على الحال أي حدثتم ووجدتم خير أمة. والأكثرون على أنها ناقصة، فجاء إيهام أنهم كانوا موصوفين بالخيرية في الزمان الماضي دون ما يستقبل. فأجيب بأن «كان» لا تدل على عدم سابق ولا انقطاع طارئ بدليل قوله: وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً [النساء: ٦٩] وقيل: المراد كنتم في علم الله أو في اللوح المحفوظ خير أمة، أو كنتم في الأمم قبلكم مذكورين بأنكم خير أمة كقوله: ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ [الفتح: ٢٩] وقال أبو مسلم: هذا تابع لقوله: وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ وما بينهما اعتراض والتقدير: أنه يقال لهم عند الخلود في الجنة: كنتم في دنياكم خير أمة فلهذا نلتم من الرحمة وبياض الوجه ما نلتم. وقال بعضهم: لو شاء الله لقال: أنتم. فكان هذا التشريف حاصلا لكلنا، ولكنه مخصوص بقوم معينين من أصحاب رسول الله ﷺ وهم السابقون الأولون ومن صنع مثل صنيعهم. وقيل: إنها زائدة والمعنى:
أنتم خير أمة. وزيفه ابن الأنباري بأن الزائدة لا تقع في أول الكلام ولا تعمل كقول العرب «عبد الله كان قائم وعبد الله قائم كان» ولا يقولون: «كان عبد الله قائم» على أن «كان» زائدة.
لأن البداءة بها دليل شدة العناية، والملغى لا يكون في محل العناية. وقيل: إنها بمعنى صار أي صرتم خير أمة. وأصل الأمة الطائفة المجتمعة على الشيء الواحد، وأمة محمد ﷺ هي الطائفة الموصوفة بالإيمان به والإقرار بنبوته. وإذا أطلقت الأمة في نحو قول العلماء «اجتمعت الأمة» وقعت عليهم. وقد يقال لكل من جمعتهم دعوته إنهم أمة الدعوة ولا يطلق عليهم لفظ الأمة إلا بهذا القيد. قال الزجاج: ظاهر الخطاب في كُنْتُمْ مع أصحاب النبي ﷺ ولكنه عام في حق كل الأمة. ونظيره كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ [البقرة: ١٧٨] كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ [البقرة: ١٨٣] وقوله: لِلنَّاسِ إما أن يتعلق ب أُخْرِجَتْ
قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أنا نبي السيف أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله» «١»
فلا جرم صار ذلك موجبا لفضل هذه الأمة على سائر الأمم، وهذا معنى ما روي عن ابن عباس في تفسير قوله: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ تأمرونهم أن يشهدوا أن لا إله إلا الله، ويقروا بما أنزل الله، وتقاتلونهم عليه، ولا إله إلا الله أعظم المعروف والتكذيب أنكر المنكر. وفائدة القتل على الدين لا ينكره منصف فإن أكثر الناس يحبون ما ألفوه من الأديان الباطلة ولا يتأملون في الدلائل التي تورد عليهم، فإذا خوف بالقتل دخل في دين الحق مكرها إلى أن يألفه متدرجا. وأما الإيمان بالله فلا شك أنه في هذه الأمة أكمل لأنهم آمنوا بكل ما يجب الإيمان به من رسول أو كتاب أو بعث أو حساب أو ثواب أو عقاب إلى غير ذلك، ولا يقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض. وإنما اقتصر في وصف الأمة على الإيمان بالله لأنه يستلزم الإيمان بالنبوة وبسائر ما عددنا وإلا لم يكن في الحقيقة إيمانا، ولهذا نفى عن أهل الكتاب في قوله: وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ وإنما قدم الأمر بالمعروف على الإيمان بالله في الذكر مع أن الإيمان مقدم على كل الطاعات، لأن الآية سيقت لبيان فضل الأمر بالمعروف وتأكد القيام به ولهذا كرر بعد قوله:
ابن ماجه في كتاب الفتن باب ١- ٣. بدون لفظ «أنا نبي السيف».
[.....]
إن أصل الإيمان مشترك فيه بين الأديان فلا تتبين فيه الخيرية، لكن الآية سيقت لبيان الخيرية وليس ذلك إلا لأن هذه الأمة أقوى في باب الأمر بالمعروف فلهذا قدم، ثم أتبع ذكر الإيمان بالله ليعلم أن شرط تأثير الأمر بالمعروف في الخيرية حاصل. ولا يخفى أن هذا الجواب مبني على أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، وعلى أن إيمان أهل الكتاب معتد به وليس كذلك، ولهذا قال تعالى: وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ يعنى إيمانا معتبرا وهو الإيمان بالله وبسائر ما لا بد منه من الأمور المعدودة لَكانَ خَيْراً لَهُمْ لحصلت لهم صفة الخيرية أيضا لانضمامهم في زمرة هذه الأمة، أو لحصل لهم من الرياسة وحظوظ الدنيا ما هو خير مما تركوا هذا الدين لأجله، لأن الحاصل على هذا التقدير عزة الإسلام مع الفوز بما وعدوا من إيتاء الأجر في الآخرة مرتين، وعلى ما هم فيه ليس إلا استتباع بعض الجهلة من العوام وشيء نزر من الرشا، وبعد ذلك خلود في النار. ثم فصل أهل الكتاب على سبيل الاستئناف فقال: مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ كعبد الله بن سلام ورهطه وكالنجاشي وأصحابه، فاللام للمعهود السابق وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ الخارجون عن طاعة الله تعالى وعن دينه فيقارب الكفر أو يرادفه، أو المراد أنهم ليسوا بعدول في دينهم أيضا فهم مردودون باتفاق الطوائف كلهم، فلا ينبغي أن يقتدى بهم البتة. ثم أخبر عن حالهم وكان كما قال وهو آية الإعجاز بجملة مستأنفة هي لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً الإضرار ألا يجاوز أذى بقول كطعن في الدين أو تهديد أو تحريف نص أو إلقاء شبهة أو إظهار كلمة الكفر بإشراكهم عزيرا والمسيح. والأذى مصدر كالأسى يقال: يفعلون أذاه يؤذيه أذى وأذاة وأذية. والأذى نوع من الضر فصح انتصابه به والتقدير:
لن يضروكم شيئا من أنواع الضرر إلا ضررا يسيرا. ومن هذا تبين أن الاستثناء ليس بمنقطع على ما ظن وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ منهزمين ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ وإنما لم يجزم بالعطف على يُوَلُّوكُمُ لئلا يصير نفي النصر مقيدا بمقاتلتهم بل يرفع ليكون نفي النصر وعدا مطلقا، وتكون هذه الجملة معطوفة على جملة الشرط والجزاء كأنه قيل: أخبركم أنهم إن يقاتلوكم وينهزموا، ثم أخبركم وأبشركم أن النصر والقوة منتف عنهم رأسا فلن يستقيم لهم أمر البتة. ومعنى «ثم» إفادة التراخي في الرتبة لأن الإخبار بتسليط الخذلان عليهم أينما كانوا أعظم من الإخبار بانهزامهم عند القتال. فإن قيل: هب أن اليهود كذلك، لكن النصارى قد يوجحد لهم قوة وشوكة في ديارهم. قلنا: هذه الآيات مخصوصة باليهود وأسباب النزول تدل على
التأويل:
اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ لأهل العزائم وقوله: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن: ١٦] لأهل الرخص. والمعنى: اتقوا عن وجودكم بالله وبوجوده وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ لا ينتف وجودكم المجازي إلا وقد سلمتم لتصرفات الأحكام الإلهية والجذبات الربانية، واستفدتم الوجود الحقيقي وهو البقاء بالله. وَاعْتَصِمُوا أهل الاعتصام طائفتان: أهل الصورة وهم المتعلقون بالأسباب لأن مشربهم الأعمال فقيل لهم اعتصموا بحبل الله وهو كل سبب يتوصل به إلى الله من أعمال البر، وأهل المعنى وهم المنقطعون عن الأسباب إذ مشربهم الأحوال فقيل لهم: واعتصموا بالله هو مولاكم مقصودكم أو ناصركم، ولا تفرقوا في الظاهر وهو مفارقة الجماعة، وفي الباطن وهو الميل الى البدع والأهواء.
وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ وهي عداوة بعضكم لبعض وعداوتكم لله ولأنفسكم فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها بالهداية والإيمان وتأليف القلوب كَذلِكَ مثل ما بين آياته للأوس والخزرج حتى صاروا إخوانا يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أيها الطلاب آياتِهِ وهي الجذبة الإلهية وتجلي صفات الربوبية وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ بالأفعال دون الأقوال وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ من وعيد من يأمر بالمعروف ولا يأتيه يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ لأن الوجوه تحشر بلون القلوب كقوله: يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ [الطارق: ٩] أي يجعل ما في الضمائر على الظواهر أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ هم أرباب الطلب السائرون إلى الله انقطعوا في بادية النفس واتبعوا غول الهوى وارتدوا على أعقابهم القهقرى. فَذُوقُوا الْعَذابَ لأن الناس نيام لا يذوقون ألم جراحات الانقطاع والإعراض عن الله، فإذا ماتوا انتبهوا وذاقوا. فَفِي رَحْمَتِ اللَّهِ في الدنيا بالجمعية والوفاق مع أهل الله هُمْ فِيها خالِدُونَ في الآخرة، ولأنه يموت على ما عاش عليه ويحشر على ما مات عليه تِلْكَ الأحوال آياتُ اللَّهِ مع خواصه نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ نظهرها على قلبك بالتحقيق وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ بأن يضع السواد والبياض في غير موضعهما. كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ من العدم إلى الوجود مستعدة لقبول كمالية الإنسان. من جملة الخيرية تخفيف التكليف وضمان التضعيف، ومنها عاقب مطيعهم بشؤم عصيانهم، وغفر لعصاة هذه الأمة ببركة مطيعهم، ومنها زلاتهم لعنة وزلاتنا رحمة، ومنها شكا منهم إلينا وشكر منا إليهم قبل وجودنا وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ يعني علماء السوء لَنْ يَضُرُّوكُمْ أيها المحققون إِلَّا أَذىً من طريق الإنكار والحسد وَإِنْ
ينازعوكم ويخاصموكم يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ من صدق نياتكم. لا يُنْصَرُونَ لأنكم أهل الحق وحزب الله وإن حزب الله هم الغالبون.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١١٢ الى ١٢٠]
ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (١١٢) لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (١١٣) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (١١٤) وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (١١٥) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (١١٦)
مَثَلُ ما يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (١١٧) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً وَدُّوا ما عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (١١٨) ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (١١٩) إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (١٢٠)
القراآت:
وَيُسارِعُونَ وبابه ك سارِعُوا [آل عمران: ١٣٣] ونُسارِعُ [المؤمنون: ٥٦] ممالة: قتيبة وأبو عمرو طريق بن عبدوس. ما يَفْعَلُوا فَلَنْ يُكْفَرُوهُ بياء الغيبة: حمزة وعلي وخلف وحفص أبو عمرو مخير. الباقون: بتاء الخطاب.
تَسُؤْهُمْ وبابه من كل همزة مجزومة بغير همزة: الأعشى وأوقية. والأصفهاني عن ورش وحمزة في الوقف لا يَضُرُّكُمْ من الضير: أبو عمرو وسهل ويعقوب وابن كثير ونافع.
وقرأ المفضل لا يَضُرُّكُمْ بالفتح الباقون: لا يَضُرُّكُمْ بالضم كلاهما من الضر مجزوما ثم محركا للساكنين فالفتح للخفة والضم للإتباع. تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ بتاء الخطاب: سهل.
الباقون: بياء الغيبة.
الوقوف:
الْمَسْكَنَةُ ط بِغَيْرِ حَقٍّ ط يَعْتَدُونَ هـ قيل: لا وقف عليه لأن ضمير لَيْسُوا يعود إلى ما يعود إليه ضمير مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ لبيان الفضل بين الفريقين، والذين
طظْلِمُونَ
ج خَبالًا ط ما عَنِتُّمْ ج لاحتمال كون قد بدت حالا أَكْبَرُ ط تَعْقِلُونَ هـ كُلِّهِ ج للعطف مع الحذف أي وهم لا يؤمنون بكتابكم آمَنَّا ق قد قيل:
والوصل أولى لأن المقصود بيان تناقض حاليهم في النفاق مِنَ الْغَيْظِ ط يغيظكم ط الصُّدُورِ هـ تَسُؤْهُمْ ز للابتداء بشرط آخر والوصل أجوز إذ الغرض تقرير تضاد الحالين منهم. يَفْرَحُوا بِها ط لتناهي وصف الذم لهم وابتداء شرط على المؤمنين شَيْئاً ط مُحِيطٌ هـ.
التفسير:
هذا خبر آخر من مستقبلات أحوال اليهود المعلومة بالوحي. والمعنى ضربت عليهم الذلة والهوان في عامة الأحوال بالقتل والسبي والنهب أينما وجدوا إلا معتصمين أو متلبسين أي إلا في حال اعتصامهم بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ يعني ذمة الله وذمة المسلمين، فهما في حكم واحد أي لا عزلهم قط إلا هذه الواحدة وهي التجاؤهم الى الذمة بقبول الجزية، فحينئذ يكون دمهم محقونا ومالهم مصونا وهو نوع من العزة وقيل: حبل الله الإسلام، وحبل الناس الذمة. فعلى هذا يكون الواو بمعنى «أو». وقيل:
ذمة الله الجزية المنصوص عليها، وذمة الناس ما يزيد الإمام عليها أو ينقص بالاجتهاد.
وإنما صح الاستثناء المفرغ من الموجب نظرا إلى المعنى لأن ضرب الذلة عليهم معناه لا تنفك عنهم وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ قيل: إنه من قولك «تبوأ فلان منزل كذا» والمعنى مكثوا في غضب الله. وسواء قولك حل بهم الغضب وحلوا بالغضب. وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ عن الحسن أن المراد بها الجزية، وإنما أفردت بالذكر بعد الاستثناء ليعلم أنها باقية غير زائلة بعد اعتصامهم بالذمة. وقال آخرون: المراد أنك لا ترى منهم ملكا قاهرا ولا رئيسا مطاعا لكنهم مستخفون في جميع النواحي والأكناف، يظهرون من أنفسهم الفقر والمدقعة البتة.
وباقي الآية قد مر تفسيره في البقرة إلا أنه سبحانه قال في هذا الموضع من هذه السورة وفي النساء الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ لأن جمع التكسير يفيد التكثير فذكر في الموضعين أعني في البقرة وفي أول السورة ما ينبىء عن القلة مع أن ذلك موافق لما بعده من جموع السلامة كالذين والصابئين وغيرهما. ثم تدرج إلى ما هو نص في الكثرة في الموضعين الآخرين نعيا عليهم وتفظيعا لشأنهم، ولمثل هذا عرّف الحق في البقرة إشارة إلى الحق الذي أذن الله أن
تقديره من أهل الكتاب أمة قائمة ومنهم أمة مذمومة، إلا أنه أضمر ذكر هذا القسم على مذهب العرب من الاكتفاء بأحد الضدين لخطورهما بالبال معا غالبا. قال أبو ذؤيب:
دعاني إليها القلب إني لآمرها | مطيع فما أدري أرشد طلابها؟ |
ما آمن بمحمد إلا شرارنا، ولو كانوا من خيارنا لما تركوا دين آبائهم وقالوا لهم: لقد خسرتم حين استبدلتم بدينكم دنيا غيره فنزلت. وعن عطاء أنها نزلت في أربعين من أهل نجران، واثنين وثلاثين من الحبشة، وثمانية من الروم كانوا على دين عيسى وصدقوا بمحمد صلى الله عليه وسلم. الثاني أنهم كل من أوتي الكتاب من أهل الأديان فعلى هذا يكون المسلمون منهم.
عن ابن مسعود قال: أخر رسول ﷺ ليلة صلاة العشاء، ثم خرج إلى المسجد فإذا الناس ينتظرون الصلاة فقال: إنه ليس من أهل الأديان أحد يذكر الله في هذه الساعة غيركم.
وفي رواية: فبشر ﷺ أنه لا يصلي هذه الصلاة أحد من أهل الكتاب فأنزل الله هذه الآيات لَيْسُوا سَواءً إلى قوله: وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ
قال القفال رحمه الله: لا يبعد أن يقال:
أولئك الحاضرون كانوا نفرا من مؤمني أهل الكتاب. فقيل: ليس يستوي من أهل الكتاب هؤلاء الذين آمنوا بمحمد ﷺ فأقاموا صلاة العشاء في الساعة التي ينام فيها غيرهم مع أهل الكتاب الذين لم يؤمنوا. ولا يبعد أيضا أن يقال: المراد كل من آمن بمحمد ﷺ فسماهم الله أهل الكتاب كأنه قيل: أولئك الذين سموا أنفسهم بأهل الكتاب حالهم وصفتهم تلك الخصال الذميمة، والمسلمون الذين سماهم الله تعالى أهل الكتاب حالهم وصفتهم كذا فكيف يستويان؟ فيكون الغرض من هذه الآية تقرير فضيلة أهل الإسلام تأكيدا لما تقدم من قوله: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ [آل عمران: ١١٠] كقوله: أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ [السجدة: ١٨] ثم إنه تعالى مدح الأمة المذكورة بصفات ثمان: الأولى: أنها
وقيل: أي مستقيمة عادلة من قولك: «أقمت العود فقام» بمعنى استقام. وهاهنا نكتة وهي أن الآية دلت على أن المسلم قائم بحق العبودية. وقوله: قائِماً بِالْقِسْطِ [آل عمران: ١٨] دل على أن المولى قام بحق الربوبية وهذه حقيقة قوله: وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ [البقرة: ٤٠]. الصفة الثانية: يَتْلُونَ أي أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل. فالتلاوة القراءة. وأصل الكلمة الإتباع. فكأن التلاوة هي إتباع اللفظ، وآيات الله القرآن. وقد يراد بها أصناف مخلوقاته الدالة على صانعها. وآناء الليل ساعاته واحدها أنى مثل «معا» و «أني» و «أنو» مثل «نحى» و «تلو». الصفة الثالثة: وَهُمْ يَسْجُدُونَ يحتمل أن يكون حالا من يَتْلُونَ كأنهم يقرأون في القرآن السجدة تخشعا إلا أن ما
روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: «ألا إني نهيت أن أقرأ راكعا وساجدا»
يأباه وأن يكون كلاما مستقلا أي يقومون تارة ويسجدون أخرى ويتغون الفضل والرحمة بكل ما يمكن كقوله: يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً [الفرقان: ٦٤] قال الحسن: يريح رأسه بقدميه وقدميه برأسه وذلك لإحداث النشاط والراحة، وأن يكون المراد: وهم يصلون ويتهجدون. والصلاة تسمى سجدة وركعة وسبحة، وأن يراد وهم يخضعون لله كقوله: وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الرعد: ١٥] وعلى هذين الاحتمالين لا منع من كونه حالا. الصفة الرابعة: يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فالصفات المتقدمة إشارة إلى كمال حالهم في القوة العملية. وهذه إشارة إلى كمالهم بحسب القوة النظرية، فإن حاصل المعارف معرفة المبدأ والمعاد. ولا يخفى أن غير مؤمني أهل الكتاب ليسوا من القبيلين في شيء بسبب تحريفاتهم واعتقاداتهم الفاسدة. الخامسة والسادسة:
وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وهاتان الصفتان إشارة إلى أنهم فوق التمام وذلك لسعيهم في تكميل الناقصين بإرشادهم إلى ما ينبغي ومنعهم عما لا ينبغي. وفيه تعريض بالأمة المذمومة أنهم كانوا مداهنين. وعن سفيان الثوري: إذا كان الرجل محببا في جيرانه محمودا عند إخوانه فاعلم أنه مداهن. الصفة السابعة وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ أي المذكورات كلها وهي من صفات المدح لأن المسارعة في الخير دليل فرط الرغبة فيه حتى لا يفوت ففي التأخير آفات. وما
روي أنه ﷺ قال: «العجلة من الشيطان» «١»
مخصوص بهذه الآية. على أنها لا تفيد كلية الحكم لأن القضية أهملت إهمالا، كيف لا والأمور متفاوتة.
منها ما يحمد فيه التأخير لكونه مما يحصل على مهل وتدريج فلو طلب منه خلاف وضعه
قال صلى الله عليه وسلم: «اغتنم خمسا قبل خمس: شبابك قبل هرمك وصحتك قبل سقمك وغناك قبل فقرك وفراغك قبل شغلك وحياتك قبل موتك».
الصفة الثامنة: أُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ وذلك أن الأمور بخواتيمها والعاقبة غير معلومة إلا في علم الله تعالى فإذا أخبر عنهم بانخراطهم في سلك الصالحين فذلك المقصود وقصارى المجهود. ثم شرط للأمة الموصوفة بل لجميع المكلفين إيصال الجزاء إليهم البتة تأكيدا للإخبار عنهم بقوله:
وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ فقال: وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ أي لن يحرموا ثوابه ولن يمنعوه. فضمن الكفران معنى الحرمان ولهذا يعدى إلى مفعولين، مع أن الأصل فيه التعدية إلى واحد نحو: شكر النعمة وكفرها. وسمى منع الجزاء كفرا كما سمى إيصال الثواب شكرا في قوله: فَإِنَّ اللَّهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ [البقرة: ١٥٨] ثم ختم الكلام بقوله: وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ مع أنه عالم بكل الأشياء بشارة لهم بجزيل الثواب، ودلالة على أنه لا يفوز عنده بالكرامة إلا أهل التقوى، وتنبيها على أن الملتزم لوعدهم هو معبودهم الحق القادر الغني الحميد الخبير الذي لا غاية لكرمه ولا نهاية لعلمه، فما ظنك بمثيب هذا شأنه؟! ثم بين أحوال أهل الشقاء بقوله: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا الآية. وقد سبق تفسير مثله في أول السورة. ثم إنه لما بين أن أموال الكفار لا تغني عنهم شيئا أمكن أن يخطر ببال أحد أن الذي ينفقون منه في وجوه الخيرات لعلهم ينتفعون بذلك فأزال ذلك الوهم بقوله: ثَلُ ما يُنْفِقُونَ
الآية. قال أكثر المفسرين وأهل اللغة: الصر البرد الشديد. وهو منقول عن ابن عباس وقتادة والسدي وابن زيد. وفي الصحاح: الصر بالكسر برد يضر بالنبات والحرث. وعلى هذا فمعنى الآية:
كمثل ريح فيها برد وذلك ظاهر. وجوز في الكشاف أن يكون الصر صفة معناه البارد فيكون موصوفه محذوفا بمعنى فيها قرّة صر كما تقول: برد بارد على المبالغة، أو تكون «في» تجريدية كما يقال: رأيت فيك أسدا أي أنت أسد، وإن ضيعني فلان ففي الله كاف وكافل.
وقيل: الصر السموم الحارة. وروى ابن الأنباري بإسناده عن ابن عباس يها صِرٌّ
قال:
فيها نار. وعلى القولين، الغرض من التشبيه حاصل سواء كان بردا مهلكا أو حرّا محرقا فإنه يصير مبطلا للحرث فيصح التشبيه. وهذا في التشبيه المركب الذي مر ذكره في أول سورة البقرة. ويجوز أن يراد مثل إهلاك ما ينفقون كمثل إهلاك ريح، أو مثل ما ينفقون كمثل مهلك ريح وهو الحرث. والمراد ما كانوا ينفقون من أموالهم في المكارم والمفاخر وكسب الثناء وحسن الذكر بين الناس لا يبتغون بها وجه الله، ولهذا قيده بقوله: ي هذِهِ الْحَياةِ
فشبه ذلك بالزرع الذي حسه البرد فصار حطاما. وقيل: مثل ما ينفقون يعني أبا سفيان وأصحابه من سفلة اليهود المنفقين على أحبارهم في إيذاء رسول الله ﷺ وفي جمع العساكر عليه ﷺ في كونه مبطلا لما أتوا به قبل ذلك من أعمال البر، كمثل ريح فيها صر في كونه مبطلا للحرث. والظاهر أن الضمير في نْفِقُونَ
عائد إلى جميع الكفار. وذلك أن إنفاقهم إما أن يكون لمنافع الدنيا فلا يبقى له أثر في الآخرة في حق المسلم فضلا عن الكافر، وإما أن يكون لمنافع الآخرة فالكفر مانع عن الانتفاع، ولعلهم كانوا ينفقون في الخيرات نحو بناء الرباطات والقناطر والإحسان إلى الضعفاء والأرامل راجين خيرا كثيرا في المعاد، لكنهم إذا قدموا الآخرة رأوا كفرهم مبطلا لآثار تلك الخيرات، فكان كمن زرع زرعا وتوقع منه نفعا كبيرا فأصابه جائحة فلا يبقى معه إلا الحزن والأسف. ولعلهم كانوا ينفقون فيما ظنوه خيرا وهو معصية كإنفاق الأموال في إيذاء الرسول ﷺ وفي تخريب ديار المسلمين. ولا يبعد أيضا تفسير الآية بخيبتهم في الدنيا فإنهم أنفقوا أموالا كثيرة في تجهيز الجيوش والإغراء على المسلمين وتحملوا المتاعب ثم انقلب الأمر عليهم وأظهر الله الإسلام وأعز أهله، فلم يبق مع الكفار من ذلك الإنفاق إلا الحيرة والحسرة. وقيل: المراد بالإنفاق هاهنا هو جميع أعمالهم التي يرجون الانتفاع بها في الآخرة كقوله: لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ [البقرة: ١١٨] والمراد جميع الانتفاعات. أما فائدة قوله: لَمُوا أَنْفُسَهُمْ
وعدم الاقتصار على قوله: صابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ
فهي أن الغرض تشبيه ما ينفقون بشيء يذهب بالكلية حتى لا يبقى منه أثر ولا عثر، وحرث المسلم المطيع ليس كذلك لأنه إذا أصابته جائحة في الدنيا أبدله الله خيرا منه في الدنيا أو في الآخرة. فإن المسلم مثاب على كل ألم يصيبه حتى الشوكة يشاكها، أما الذين عصوا الله فاستحقوا إهلاك حرثهم عقوبة لهم فحرثهم هو الذي لا يتصور منه بعد الإهلاك فائدة أصلا. ويحتمل أن يراد بالظالم هاهنا وضع الزرع في غير موضعه. فإن من زرع لا في موضعه وفي غير أوانه ثم أصابته الآفة كان أولى بأن يصير ضائعا. والضمير في ما ظَلَمَهُمُ
للمنفقين أي ما ظلمهم بأن لم يقبل نفقاتهم، ولكنهم ظلموا أنفسهم حيث لم يأتوا بها مستحقة للقبول، أو لأصحاب الحرث أي ما ظلمهم الله بإهلاك حرثهم، ولكن ظلموا أنفسهم بارتكاب ما استحقوا به العقوبة. ثم إنه تعالى لما بالغ في شرح أحوال المؤمنين والكافرين شرع في تحذير المؤمنين من مخالطة الكافرين. قال ابن عباس ومجاهد: نزلت في قوم من المؤمنين كانوا يصافون المنافقين ويواطؤن رجالا من اليهود لما كان بينهم من القرابة والصداقة والحلف والجوار والرضاع، فنهاهم الله عن مباطنتهم خوف الفتنة منهم عليهم وبطانة الرجل خصيصه وصفيه الذي يفضي
العقل فاسده. وقيل: خبالا نصب على التمييز، وقيل: مصدر في موضع الحال. والمعنى لا يتركون جهدهم في مضرتكم وفساد حالكم. وَدُّوا ما عَنِتُّمْ أي عنتكم على أن «ما» مصدرية. والعنت الوقوع في أمر شاق ومنه يقال للعظم المجبور إذا أصابه شيء فهاضه قد أعنته. والمراد أحبوا وتمنوا أن يضروكم في دينكم ودنياكم أشد الضرر. والحاصل من الجملتين أنهم لا يقصرون في إفساد أموركم فإن لم يمكنهم ذلك لمانع من خارج فحب ذلك غير زائل عن قلوبهم قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ هي شدة البغض كالضراء شدة الضر.
والأفواه جمع الفم وأصله فوه بدليل تكسيره كسوط وأسواط. فحذفت الهاء تخفيفا وأقيمت الميم مقام الواو لأنهما حرفان شفويان. وظهور البغضاء من اليهود واضح لقشرهم العصا وكشرهم عن الأنياب وعدم التقية في تكذيب النبي ﷺ والكتاب. وأما من المنافقين فذلك أن المداجي لا بد أن ينفلت من لسانه ما يكشف عن نفاقه وخبث طويته. وعن قتادة قد بدت البغضاء لأوليائهم من المنافقين والكفار لاطلاع بعضهم بعضا على ذلك. وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ لأن فلتات اللسان متناهية وكوامن الصدور تكاد تكون غير متناهية. ثم بيّن أن إظهار هذه الأسرار للمؤمنين من غاية العناية وحثهم على إعمال العقل في مدلولات هذه النصائح فقال: قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ من أهل العقول. وقيل: إن كنتم تعقلون الفصل بين ما يستحقه العدوّ والولي. ثم إن سياق هذه الجمل يحتمل أن يكون على سبيل تنسيق الصفات للبطانة كأنه قيل: لا تتخذوا بطانة غير آليكم خبالا وادّين عنتكم بادية بغضاؤهم. وأما قَدْ بَيَّنَّا فكلام مبتدأ، أو أحسن من ذلك وأبلغ أن تكون الجمل مستأنفات كلها على جهة التعليل للنهي كما قلنا، فكأنه قيل: لم لا نتخذهم بطانة. فقيل:
لأنهم لا يقصرون فقيل: لم يفعلون ذلك؟ فقيل: لأنهم يودون عنتكم. ثم قيل: وما آية
ها أَنْتُمْ أُولاءِ الخاطئون في موالاة منافقي أهل الكتاب، ثم ذيله ببيان الخطأ وهو قوله:
تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ لأنكم تريدون لهم الإسلام وهو خير الأشياء ويريدون لكم الكفر وهو أقبح الأشياء، أو تحبونهم لما بينكم وبينهم من الرضاعة والقرابة ولا يحبونكم لاختلاف الدين، أو تحبونهم لأنهم أظهروا لكم الإيمان ولا يحبونكم لتمكن الكفر في باطنهم، أو تحبونهم لأنهم يظهرون لكم محبة الرسول ومحب المحبوب محبوب ولا يحبونكم لأنكم تحبون الرسول وهم يبغضونه ومحب المبغوض مبغوض، أو تحبونهم فتفشون إليهم أسراركم في أمور دينكم ولا يحبونكم لأنهم لا يفعلون مثل ذلك بكم، أو تحبونهم لأنكم لا تريدون وقوعهم في المحن ولا يحبونكم لأنهم يتربصون بكم الدوائر.
والحق أن هذه الاعتبارات وأمثالها مما لا تكاد تنحصر داخلة في الآية. ثم ذكر سببا آخر مما يأبى أن يكون بينهما جامع فقال: وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ وأضمر قرينه وهو «وهم لا يؤمنون به» لأن ذكر أحد الضدين يغني عن الآخر غالبا. والمراد بالكتاب الجنس كقولهم «كثر الدرهم في أيدي الناس». وفي الكشاف: إن الواو في وَتُؤْمِنُونَ للحال، واللام في بِالْكِتابِ للعهد أي لا يحبونكم والحال أنكم تؤمنون بكتابهم كله. وفيه توبيخ شديد لأنهم في باطنهم أصلب منكم في حقكم. ثم ذكر مضادة أخرى فقال: وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا أحدثنا الدخول في الإيمان وَإِذا خَلَوْا عَضُّوا ويوصف المغتاظ أو النادم بعض الأنامل والبنان والإبهام لأن هذا الفعل كثيرا ما يصدر منهما فجعل كناية عن الغضب والندم، وإن لم يكن هناك عض وإنما حصل لهم هذا الغيظ وهو شدة الغضب لما رأوا من ائتلاف المؤمنين وعلو دينهم وارتفاع شأنهم قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ دعاء عليهم بأن يزداد ما يوجب غيظهم من قوة الإسلام وعز أهله، فإن ذلك يتضمن ذلهم وخزيهم. والحاصل أنه أمر النبي ﷺ أن يخبرهم بأن الله تعالى أتاح أن يظهر دين الإسلام على الأديان كلها والمقدر كائن، فإن كان هذا سببا لغيظكم فلا محالة يكون موتكم على هذا الغيظ. ثم إن قوله: إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ أي بصواحباتها وهي الخواطر القائمة بالقلب والدواعي والصوارف الموجودة فيه. إن كان داخلا في جملة المقول، فمعناه أخبرهم بما يسرونه من الغيظ وقل لهم: إن غيظكم سيزداد إلى أن يذيبكم أو تموتوا عليه، وقل لهم: إن الله يعلم ما هو أخفى
عند الشدائد تذهب الأحقاد إلا أن يكون ثمة غاية الحقد. وإذا كان حال القوم مع المسلمين في القضيتين بالخلاف دل ذلك على شدة بغضهم ونهاية حقدهم، وعلى هذا فلا يبعد أن يقال التنوين في حَسَنَةٌ للتقليل وفي سَيِّئَةٌ للتعظيم. وَإِنْ تَصْبِرُوا على عداوتهم وَتَتَّقُوا ما نهيتم عنه من موالاتهم، أو إن تصبروا على أوامر الله تعالى وتتقوا محارمه لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ وهو احتيال الإنسان لإيقاع غيره في مكروه. وقال ابن عباس: هو العداوة. شَيْئاً من الضرر بل كنتم في كنف الله وحفظه. وفيه إرشاد من الله تعالى إلى أن يستعان على دفع مكايد الأعداء بالصبر والتقوى، فمن كان لله كان الله له. وفي كلام الحكماء إذا أردت أن تكبت من يحسدك فازدد فضلا في نفسك. وقال بعضهم:
إذا ما شئت إرغام الأعادي | بلا سيف يسل ولا سنان |
فزد في مكرماتك فهي أعدى | على الأعداء من نوب الزمان |
التأويل:
ضربت عليهم ذلة الطمع ومسكنة الحرص إلا أن يعتصموا بمحبة الله وطلبه وحبل من الناس يعني متابعة النبي ﷺ وسيرته. ويقتلون الأنبياء يميتون سنتهم وسيرهم.
ليسوا أي العلماء الربانيون والمداهنون. فلن تكفروه لأنه من تقرب إليه شبرا تقرب إليه ذراعا. ثم أخبر عن نفقات أهل الشهوات في استيفاء اللذات الجسمانية بقوله: ثَلُ ما
هي هواء الهوى يها صِرٌّ
الشهوةصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ
هو الحرث الروحاني لَمُوا أَنْفُسَهُمْ
بإبطال الاستعداد الإنساني. ثم نهى أهل المحبة عن مباطنة أهل السلو من هذا الحديث فقال: لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبالًا لا يقصرون في إنكاركم والاعتراض عليكم والطعن فيكم وَدُّوا من نعيم الدنيا ومشتهياتها ما عَنِتُّمْ ما مقتموه وتركتموه لدناءة همتهم وعلو همتكم، أو فرحوا بما قاسيتم من المجاهدات والتزام الفقر والصبر على المكاره. قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ اعتراضاتهم الفاسدة وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ الحاسدة من الغل والحقد أَكْبَرُ تُحِبُّونَهُمْ محبة الرحمة والشفقة وَلا يُحِبُّونَكُمْ لتناكر الأرواح واختلاف حال الأشباح وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ بجميع ما في القرآن من ترك الدنيا وجهاد النفس. عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ بالقلوب التي في الصدور أن موتها في الغيظ والحسد. إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ كرامة من الله وقبول من الخلق. سيئة إنكار من الجهال وطعن.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٢١ الى ١٢٩]
وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٢١) إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُما وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٢٢) وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٢٣) إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ (١٢٤) بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (١٢٥)
وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (١٢٦) لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ (١٢٧) لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ (١٢٨) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٢٩)
القراآت:
تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ بغير همز: أبو عمرو غير شجاع وورش والأعشى وحمزة في الوقف. مُنْزَلِينَ بالتشديد وفتح الزاي: ابن عامر. الباقون: بالتخفيف والفتح أيضا.
مُسَوِّمِينَ بكسر الواو: أبو عمرو وابن كثير وعاصم وسهل ورويس. الباقون. بالفتح.
الوقوف:
لِلْقِتالِ ط عَلِيمٌ هـ لأن «إذ» بدل من إِذْ غَدَوْتَ أو يتعلق بالوصفين أو بقوله تُبَوِّئُ أَنْ تَفْشَلا (لا) لأن الواو للحال وَلِيُّهُما ط الْمُؤْمِنُونَ هـ أَذِلَّةٌ ج للفاء تَشْكُرُونَ هـ مُنْزَلِينَ ط لتمام القول بَلى (لا) لاتحاد مع ما بعده مُسَوِّمِينَ هـ قُلُوبُكُمْ بِهِ ط الْحَكِيمِ (لا) لتعلق اللام بمعنى الفعل في النصر خائِبِينَ هـ ظالِمُونَ هـ وَما فِي الْأَرْضِ ط مَنْ يَشاءُ ط رَحِيمٌ هـ.
إنه سبحانه لما وعدهم النصر على الأعداء إن هم صبروا واتقوا وخلاف ذلك إن لم يصبروا، أتبعه قوله: وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ يعني أنهم يوم أحد كانوا كثيرين مستعدين للقتال، فلما خالفوا أمر الرسول ﷺ انهزموا، ويوم بدر كانوا قليلين غير مستعدين لكنهم أطاعوا أمر الرسول فغلبوا واستولوا على خصومهم. ووجه آخر في النظم وهو أن الانكسار يوم أحد إنما حصل بسبب تخلف عبد الله بن أبيّ بن سلول المنافق، وذلك يدل على أنه لا يجوز اتخاذ المنافقين بطانة. قال أبو مسلم: هذا كلام معطوف بالواو على قوله: قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا [آل عمران: ١٣] أي قد كان لكم مثل تلك الآية إذ غدا الرسول يبوىء المؤمنين. والجمهور على أنه منصوب بإضمار «اذكر». وعن الحسن أن هذا الغدو كان يوم بدر. وعن مجاهد أنه يوم الأحزاب. وأكثر العلماء بالمغازي على أن هذه الآية نزلت في واقعة أحد. وهو قول ابن عباس والسدي وابن إسحق والربيع والأصم وأبي مسلم.
روي أن المشركين نزلوا بأحد يوم الأربعاء، فاستشار رسول الله ﷺ أصحابه ودعا ﷺ عبد الله بن أبيّ ولم يدعه قط قبلها فاستشاره. فقال عبد الله وأكثر الأنصار: يا رسول الله أقم بالمدينة ولا تخرج إليهم، فو الله ما خرجنا منها إلى عدوّ قط إلا أصاب منا، ولا دخلها علينا إلا أصبنا منه، فكيف وأنت فينا؟ فدعهم فإن أقاموا أقاموا بشر محبس، وإن دخلوا قاتلهم الرجال في وجوههم ورماهم النساء والصبيان بالحجارة، وإن رجعوا رجعوا خائبين. وقال بعضهم: يا رسول الله اخرج بنا إلى هؤلاء إلا كلب لا يرون أنا قد جبنا عنهم. وقال صلى الله عليه وسلم: إني رأيت في منامي بقرا مذبحة حولي فأوّلتها خيرا، أو رأيت في ذباب سيفي ثلما فأولته هزيمة، ورأيت كأني أدخلت يدي في درع حصينة فأوّلتها المدينة. فإن رأيتم أن تقيموا بالمدينة وتدعوهم. فقال رجال من المسلمين- قد فاتتهم بدر وأكرمهم الله بالشهادة يوم أحد-: أخرج بنا إلى أعدائنا فلم يزالوا به ﷺ حتى دخل فلبس لأمته. فلما رأوه قد لبس لأمته ندموا وقالوا: بئسما صنعنا، نشير على رسول الله ﷺ والوحي يأتيه. فقالوا: اصنع يا رسول الله ما رأيت. فقال: لا ينبغي لنبي أن يلبس لأمته فيضعها حتى يقاتل. فخرج يوم الجمعة بعد صلاة الجمعة من المدينة.
قالوا من منزل عائشة وهو المراد بقوله: مِنْ أَهْلِكَ
عن مجاهد والواحدي أنه مشى على رجليه إلى أحد وأصبح بالشعب منها يوم السبت للنصف من شوّال.
وجعل يصف أصحابه للقتال كأنما يقوّم بهم القداح إن رأى صدرا خارجا قال: تأخر. وكان نزوله في جانب الوادي، وجعل ﷺ ظهره وعسكره إلى أحد. وأمر ﷺ عبد الله بن جبير على الرماة وقال لهم:
انضحوا عنا بالنبل حتى لا يأتونا من ورائنا.
وقال ﷺ لأصحابه: اثبتوا في هذا المقام فإذا
ثم إن رسول الله ﷺ لما خالف، رأى عبد الله بن أبيّ شق عليه ذلك وقال: أطاع الصبيان وعصاني ثم قال لأصحابه: إن محمدا ﷺ إنما يظفر بعدوّكم وقد وعد أصحابه أن أعداءهم إذا عاينوهم انهزموا، فإذا رأيتم أعداءهم فانهزموا فيتبعونكم فيصير الأمر على خلاف ما ذكر محمد صلى الله عليه وسلم. فلما التقى الفريقان انخزل عبد الله بن أبي بثلث الناس وقال: يا قوم علام نقتل أولادنا وأنفسنا. وكان جملة عسكر الإسلام ألفا- وقيل: تسعمائة وخمسين- فبقي نحو من سبعمائة. وكان المشركون ثلاثة آلاف فقوّاهم الله مع ذلك حتى هزموا المشركين. لكنهم لما رأوا انهزام القوم وكان الله تعالى بشرهم بذلك طمعوا أن تكون هذه الواقعة كواقعة بدر، فطلبوا المدبرين وتركوا ذلك الموضع وخالفوا أمر الرسول ﷺ ولم يعلموا أن ظفرهم يوم بدر ببركة طاعتهم لله ولرسوله، ومتى تركهم الله مع عدوّهم لم يقوموا لهم. فنزع الله الرعب من قلوب المشركين، فكرّوا على المسلمين وتفرق العسكر عن رسول الله ﷺ كما
قال: إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ
وشج وجه رسول الله ﷺ وكسرت رباعيته وشلت يد طلحة دونه ﷺ ولم يبق معه إلا أبو بكر وعلي والعباس وطلحة وسعد. ووقعت الصيحة في العسكر أن محمدا قتل. فأشرف أبو سفيان وقال: أفي القوم محمد؟
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تجيبوه.
فقال: أفي القوم ابن أبي قحافة؟ فقال: لا تجيبوه.
قال: أفي القوم ابن الخطاب؟ فقال: إن هؤلاء قتلوا فلو كانوا أحياء لأجابوا. فلم يملك عمر نفسه فقال: كذبت يا عدوّ الله. أبقى الله لك ما يخزيك. فقال أبو سفيان مرتجزا:
أعل هبل أعل هبل.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أجيبوه. فقالوا: ما نقول؟ قال: قولوا: الله أعلى وأجل.
قال أبو سفيان: لنا العزى ولا عزى لكم.
فقال صلى الله عليه وسلم: أجيبوه. قالوا: ما نقول؟ قال: قولوا: الله مولانا ولا مولى لكم.
قال أبو سفيان: يوم بيوم بدر والحرب سجال.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أجيبوه. قالوا: ما نقول؟ قال: قولوا لا سواء، قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار.
ولنرجع إلى التفسير بوّأته منزلا وبوّأت له منزلا أنزلته فيه. ومقاعد أي مواطن ومواقف، وقد اتسع في «قعد» و «قام» حتى استعمل المقعد والمقام في المكان ومنه قوله تعالى: فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ [القمر: ٥٥] وقوله: قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ [النمل: ٣٩] أي من موضع حكمك. ويحتمل أنه ﷺ لما أمرهم أن يثبتوا في تلك الأمكنة ولا ينتقلوا عنها شبهت بالمقاعد لذلك، ويحتمل أن المقاتلين قد يقعدون في الأمكنة المعينة إلى أن يلاقيهم العدوّ فيقوموا فلهذا سميت تلك المواضع مقاعد وَاللَّهُ سَمِيعٌ لأقوالكم عَلِيمٌ بضمائركم ونياتكم فإنا بينا أنه كان في القوم موافق ومنافق إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ هما
أقول لها إذا جشأت وجاشت | مكانك تحمدي أو تستريحي |
عن جابر: فينا نزلت إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ نحن الطائفتان: بنو حارثة وبنو سلمة. وما يسرني أنها لم تنزل لقول الله وَاللَّهُ وَلِيُّهُما أخرجاه في الصحيحين. ومع ذلك قال بعض العلماء:
إن الله أبهم ذكرهما وستر عليهما ولا يجوز لنا أن نهتك ذلك الستر. وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وإنه ماء بين مكة والمدينة. عن الواقدي أنه اسم لماء بعينه. وعن الشعبي أنه سمي باسم رجل كان ذلك الماء له وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ إنما جاء بجمع القلة دون الأذلاء الذي هو للكثرة ليدل على أنهم مع قلة العدد- وهو المراد بذلتهم- كانوا قليلي العدد أيضا كما مر في تفسير قوله: قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ [آل عمران: ١٣] ولم يعن بالذلة هاهنا نقيض العزة لقوله: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ [المنافقون: ٨] أو لعل المراد أنهم كانوا أذلة في زعم المشركين وفي اعتقادهم لقلة عددهم وسلاحهم كما حكى عنهم «ليخرجن الأعز منها الأذل» أو لعل الصحابة كانوا قد شاهدوا الكفار في مكة في غاية القوة والشوكة، وإلى هذا الوقت ما اتفق لهم استيلاء على أولئك الكفار فكانت هيبتهم باقية في نفوسهم فَاتَّقُوا اللَّهَ في الثبات مع رسوله لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ بسبب تقواكم ما أنعم به عليكم من نصره. أو لعل الله ينعم عليكم نعمة أخرى تشكرونها، فوضع الشكر موضع الإنعام لأنه سبب له إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ اختلف المفسرون في أن هذا الوعد حصل يوم بدر فيكون العامل في «إذ» قوله:
نَصَرَكُمُ أو حصل يوم أحد فيكون بدلا ثانيا من إِذْ غَدَوْتَ والأول قول أكثر المفسرين لأن الكلام متصل بقصة بدر، ولأن العدد والعدد يوم بدر أقل وكان الاحتياج إلى المدد أكثر. والثاني مروي عن ابن عباس والكلبي والواقدي ومقاتل ومحمد بن إسحق، لأن المدد
ثم قيل: ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف؟ فقالوا: بلى. ثم قيل لهم: إن تصبروا وتتقوا يمددكم ربكم بخمسة آلاف. وهو كما
روي أنه ﷺ قال لأصحابه: «أيسركم أن تكونوا ربع أهل الجنة؟ قالوا: نعم. قال: أيسركم أن تكونوا ثلث أهل الجنة؟ قالوا: نعم. قال:
فإني أرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنة» «١».
وأيضا لعل أهل بدر أمدوا بألف، ثم بلغهم أن بعض المشركين يريد إمداد قريش بعدد كثير فخافوا وشق ذلك عليهم لقلة عددهم فوعدهم الله بأن الكفار إن جاءهم مدد فأنا أمدكم بخمسة آلاف من الملائكة. ثم إنه لم يأت قريشا ذلك المدد بل انصرفوا حين بلغهم هزيمة قريش فاستغنى عن إمداد المسلمين بالزيادة على الألف. قالوا: إن الكفار كانوا يوم بدر ألفا والمسلمون على الثلث منهم فأنزل الله ألفا من الملائكة بعدد الكفار، وأما يوم أحد فكان عدد المسلمين ألفا وعدد الكفار ثلاثة آلاف، فلا جرم أنزل الله ثلاثة آلاف من الملائكة بعدد الكفار أيضا، ثم وعدهم أن يجعل الثلاثة الآلاف خمسة آلاف إن صبروا واتقوا. وأجيب بأن هذا تقريب حسن ولكنه لا يغلب على الظن أن يكون الأمر كذلك. قالوا: قال تعالى: وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ ويوم أحد هو الذي كان يأتيهم الأعداء، أما يوم بدر فهم ذهبوا إلى الأعداء. وأجيب بأن المشركين لما سمعوا يوم بدر أن الرسول ﷺ وأصحابه قد تعرضوا للعير، ثار الغضب في قلوبهم واجتمعوا وقصدوا النبي صلى الله عليه وسلم. ثم إن الصحابة لما سمعوا ذلك خافوا فأخبرهم الله تعالى أنهم إن أتوكم من فورهم يمددكم ربكم بخمسة آلاف. ثم قالوا في وجه النظم إنه تعالى ذكر قصة أحد ثم قال: وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ أي يجب أن يكون توكلكم على الله لا على كثرة عددكم وعددكم وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ ثم عاد إلى قصة أحد. ثم إنزال خمسة آلاف كان مشروطا بشرط أن يصبروا ويتقوا. ثم إنهم لم يصبروا عن الغنائم ولم يتقوا بل خالفوا أمر الرسول، فلما مات الشرط لا جرم فات المشروط. وأما إنزال ثلاثة آلاف فإنه ﷺ وعدهم ذلك بشرط أن يثبتوا في تلك المقاعد، فلما أهملوا الشرط لم يحصل المشروط.
روى الواقدي عن مجاهد أنه قال: حضرت الملائكة يوم أحد ولكنهم لم يقاتلوا.
وروي عن
وعن سعد بن أبي وقاص أنه قال: كنت أرمي السهم يومئذ فيرده عليّ رجل أبيض حسن الوجه وما كنت أعرفه، فظننت أنه ملك. هذا حاصل تقرير القولين. واختلفوا أيضا في عدد الملائكة فمنهم من ضم العدد الناقص إلى العدد الزائد لأن الوعد بإمداد الثلاثة الآلاف لا شرط فيه، والوعد بإمداد خمسة الآلاف مشروط بالصبر والتقوى ومجيء الكفار من فورهم فهما متغايران وعلى هذا إن حملنا الآية على قصة بدر وقد ورد فيها ذكر الألف في موضع آخر فيكون المجموع تسعة آلاف، وإن حملناها على قصة أحد كان الجميع ثمانية آلاف. ومنهم من أدخل الناقص في الزائد فقال: وعدوا بألف ثم زيد ألفان فصح أن يقال: وعدوا بثلاثة آلاف. ثم زيد ألفان آخران فوعدوا بخمسة آلاف. وأجمع أهل التفسير وأرباب السير أنه تعالى أنزل الملائكة يوم بدر وأنهم قاتلوا الكفار. وعن ابن عباس أنه لم تقاتل الملائكة سوى يوم بدر، وفيما سواه كانوا عددا ومددا لا يقاتلون ولا يضربون. ومنهم من قال: إن نصر الملائكة بإلقاء الرعب في قلوب الكفار وبإشعار المؤمنين بأن النصرة لهم. وأما أبوبكر الأصم فقد أنكر إمداد الملائكة وقال: إن الملك الواحد يكفي في إهلاك أهل الأرض كما فعل جبريل بمدائن قوم لوط، فإذا حضر هو يوم بدر فأي حاجة إلى مقاتلة الناس مع الكفار، وبتقدير حضوره فأي فائدة في إرسال سائر الملائكة؟ وأيضا فإن أكابر الكفار كانوا مشهورين وقاتل كل منهم من الصحابة معلوم. وأيضا لو قاتلوا فإما أن يكون بحيث يراهم الناس أولا، وعلى الأول كان المشاهد من عسكر الرسول ثلاثة آلاف وأكثر ولم يقل أحد بذلك، ولأنه خلاف قوله وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ [الأنفال: ٤٤] ولو كانوا في غير صورة الناس لزم وقوع الرعب الشديد في قلوب الخلق ولم ينقل ذلك البتة. وعلى الثاني كان يلزم جز الرؤوس وتمزيق البطون وإسقاط الكفار عن الأفراس من غير مشاهدة فاعل لهذه الأفعال ومثل هذا يكون من أعظم المعجزات فكان يجب أن يتواتر ويشتهر بين الكافر والمسلم والموافق والمخالف. وأيضا إنهم لو كانوا أجساما كثيفة وجب أن يراهم الكل، وإن كانوا أجساما لطيفة هوائية فكيف ثبتوا على الخبول؟
واعلم أن هذه الشبه لا يليق إيرادها بقوانين الشريعة وبمن يدعي التمسك بها ويعترف بأنه تعالى قادر على ما يشاء فاعل لما يريد، فما كان يليق بالأصم إيرادها مع أن نص القرآن ناطق بها وورودها في الإخبار قريب من التواتر. روى عبيد بن عمير قال: لما رجعت قريش من أحد جعلوا يتحدثون في أنديتهم بما ظفروا ويقولون: لم نر الخيل البلق ولا الرجال
وعن رسول الله ﷺ أنه قال لأصحابه يوم بدر: تسوموا فإن الملائكة قد تسوّمت.
وقيل:
مسومين مرسلين من أسمت الإبل وسوّمتها أرسلتها للرعي. فالمعنى أن الملائكة أرسلت خيولهم على الكفار لقتلهم وأسرهم، أو أن الله تعالى أرسلهم على المشركين ليهلكوهم كما تهلك الماشية النبات في المراعي. وَما جَعَلَهُ اللَّهُ الضمير عائد إلى المدد أو الإمداد الدال عليه الفعل. وقال الزجاج: وما جعل الله ذكر المدد إلا بشرى وهي اسم من البشارة أي إلا لتبشروا بأنكم تنصرون وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ كما كانت السكينة لبني إسرائيل بشارة بالنصر وطمأنينة لقلوبهم. وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لا من المقاتلة إذا تكاثروا، ولا من عند الملائكة والسكينة. ولكن ذلك مما يقوي به الله رجاء النصرة ويربط به على قلوب المجاهدين. وفيه تنبيه على أن إيمان العبد لا يكمل إلا عند الإعراض عن الأسباب والإقبال بالكلية على مسببها. وقوله: الْعَزِيزِ إشارة إلى كمال قدرته والْحَكِيمِ إشارة إلى كمال علمه فلا يخفى عليه حاجات العباد ولا يعجز عن إنجاحها لِيَقْطَعَ طَرَفاً أي طائفة وقطعة من الذين كفروا. وإنما حسن في هذا الموضع ذكر الطرف دون الوسط لأنه لا وصول إلى الوسط إلا بعد الأخذ من الطرف كما قال: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها [الرعد: ٤١] قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ [التوبة: ١٢٣] أَوْ يَكْبِتَهُمْ الكبت في اللغة صرع الشيء على وجهه. وفسره الأئمة هاهنا بالإخزاء والإهلاك واللعن والهزيمة والغيظ والإذلال والكل متقارب فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ غير ظافرين بمبتغاهم قيل: الخيبة لا تكون إلا بعد التوقع ونقيضه الظفر. وأما اليأس فقد يكون قبل التوقع وبعده. ونقيضه الرجاء، واللام في لِيَقْطَعَ يحتمل أن يتعلق بقوله: وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ أو بقوله وَمَا النَّصْرُ ويحتمل أن يكون من تمام قوله: وَلِتَطْمَئِنَّ ولكنه ذكر بغير العاطف لأنه إذا كان البعض قريبا من البعض جاز حذف العاطف كما يقول السيد لعبده: اشتريتك لتخدمني لتعينني لتقوم بخدمتي.
قوله عز من قائل: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ فيه قولان: أحدهما وهو الأشهر أنه
نزل في قصة أحد عن أنس بن مالك قال: كسرت رباعية رسول الله ﷺ ويوم أحد ودمي وجهه فجعل يسيل الدم على وجهه ويقول: كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم بالدم وهو يدعوهم إلى ربهم؟
وفي رواية: شج رأسه ﷺ عتبة بن أبي وقاص يوم أحد وكسر رباعيته
وفي رواية عن ابن عمر أن النبي ﷺ لعن أقواما فقال: اللهم العن أبا سفيان، اللهم العن الحرث بن هشام، اللهم العن صفوان بن أمية فنزلت هذه الآية.
وفيها أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ فتاب الله على هؤلاء فحسن إسلامهم. وقيل نزلت في حمزة بن عبد المطلب.
وذلك أنه ﷺ لما رآه ورأى ما فعلوا به من المثلة قال: لأمثلن منهم بثلاثين فنزلت،
وقيل: أراد يلعن المسلمين الذين خالفوا أمره والذين انهزموا فمنعه الله عن ذلك. مروى عن ابن عباس، وقيل: أراد أن يستغفر للمسلمين الذين عصوا أمره فنزلت. وقال القفال: كل هذه الأمور وقعت يوم أحد فلا يمتنع حمل نزول الآية في الكل.
القول الثاني:
وإليه ذهب مقاتل أنها نزلت في واقعة أخرى وهي أن النبي ﷺ بعث جمعا من خيار الصحابة زهاء سبعين إلى بني عامر ليعلموهم القرآن. فلما وصلوا إلى موضع يقال له بئر معونة، ذهب إليهم عامر بن الطفيل مع عسكره وأخذهم وقتلهم. فجزع من ذلك رسول الله ﷺ شديدا ودعا على الكفار في القنوت أربعين يوما يقول بعد ما يرفع رأسه من الركعة الثانية في الصبح: اللهم العن بني لحيان والعن رعلا وذكوان. اللهم انج الوليد بن الوليد وسلمة بن هشام وعياش بن أبي ربيعة والمستضعفين بمكة. اللهم أشدد وطأتك على مضر، اللهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف حتى أنزل الله عز وجل لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ
ولا يخفى أن ظاهر الآية يدل على أنه ﷺ كان يفعل فعلا فمنع منه، وحينئذ يتوجه الإشكال بأن فعل ذلك الفعل إن كان من الله تعالى فكيف منعه منه وإلا فهو قدح في عصمته ومناف لقوله: وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى [النجم: ٣] والجواب أن المنع من الفعل لا يدل على أن الممنوع مشتغل به كقوله: وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ [الأحزاب: ٤٨] مع أنه ما أطاعهم وقوله: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزمر: ٦٥] مع أنه ما أشرك قط. ولعله عليه السلام شاهد من قتل حمزة وغيره ما أورثه حزنا شديدا، وكان من الممكن أن يحمله على ما لا ينبغي من الفعل والقول، فنص الله تعالى على المنع تقوية لعصمته ﷺ وتأكيدا لطهارته. ولئن سلمنا أنه كان مشغولا بذلك الفعل والقول فإنه محمول على ترك الأولى، والنهي إرشاد إلى اختيار الأفضل وأيضا إن دعاء النبي ﷺ لا يكون بمجرد التشهي وإنما هو بطلب الأصلح فالذي يظن به أنه خلاف مسؤوله ﷺ وقد وقع فهو بالحقيقة سؤاله صلى الله عليه وسلم، ولهذا سأل الله تعالى أن يجعل لعنه على من لا يستحقه طهرا وزكاة ورحمة والله أعلم. وقوله:
لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ معناه ليس لك من قصة هذه الواقعة ومن شأن هذه الحادثة شيء، فإني أعلم بمصالح عبادي. أو المراد الأمر الذي هو خلاف النهي أي ليس لك من
و «أن يتوب» في حكم اسم معطوف بأو على الأمر أي ليس لك من أمرهم شيء، أو من التوبة عليهم، أو من تعذيبهم. ويجوز أن يكون معطوفا على شَيْءٌ والحاصل منع رسول الله ﷺ من كل فعل أو قول إلا ما كان بإذنه وأمره. وفيه إرشاد إلى كمال درجات العبودية وأن لا يخوض العبد في أسرار ملكه تعالى وملكوته. وعن الفراء والزجاج أن قوله:
أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ عطف على لِيَقْطَعَ وما بعده. وقوله: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ كالكلام الأجنبي الواقع بين المعطوف والمعطوف عليه كما تقول: ضربت زيدا فاعلم ذاك وعمرا. فيكون المعنى أن الله مالك أمرهم فإما أن يهلكهم أو يهزمهم أو يتوب عليهم إن أسلموا أو يعذبهم إن أصروا على الكفر. وقيل: «أو» بمعنى «إلا أن» كقولك: لألزمنك أو تعطيني حقي. والمعنى ليس لك من أمرهم شيء إلا أن يتوب الله عليهم فتفرح بحالهم أو يعذبهم فتتشفى منهم. ثم التوبة عليهم مفسرة عند أهل السنة بخلق الندم فيه على ما مضى، وخلق العزم فيهم على أن لا يفعلوا مثل ذلك في المستقبل. وأكدوا هذا الظاهر ببرهان عقلي وهو أن الندم كراهة تحصل في القلب عما سلف منه، والعزم إرادة تتعلق بترك ذلك الفعل فيما يستقبل. فلو كانت هذه الإرادة فعل العبد لافتقر في فعلها إلى إرادة أخرى وتسلسل، فهو إذن بخلق الله تعالى. وأما المعتزلة ففسروا التوبة عليهم إما بفعل الألطاف أو بقبول التوبة منهم. وقوله: فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ تعليل حسن التعذيب بسبب شركهم أو عصيانهم. ثم أكد ما ذكر من قوله: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ بقوله: وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أي هما والحقائق والماهيات التي فيهما لله، فليس الحكم فيهما إلا له. ثم ذكر لازم الملك والحكم فقال: يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ بعميم فضله وإن كان من الأبالسة والفراعنة وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ بحكم الإلهية والقدرة وإن كان من الملائكة المقربين والصديقين. وكل ذلك يحسن منه شرعا وعقلا وإلا لم يحصل كمال الملك والحكم إلا أن جانب الرحمة والمغفرة غالب، ولهذا ختم الكلام بقوله: وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ هذا قول الأشاعرة ويؤكده ما يروى عن ابن عباس في تفسير الآية: يهب الذنب الكبير لمن يشاء، ويعذب من يشاء على الذنب الصغير. وأيدوا هذا النقل بدليل عقلي يشبه ما مر آنفا، وهو أن الإرادات كلها تستند إلى الله تعالى دفعا للتسلسل. فإذا خلق الله إرادة الطاعة أطاع، وإذا خلق إرادة المعصية عصى. فطاعة العبد أو معصيته تنتهي إلى الله، وفعل الله لا يوجب على الله شيئا. أما المعتزلة فناقشوا في ذلك ورووا عن الحسن: يغفر لمن يشاء بالتوبة ولا يشاء أن يغفر إلا للتائبين، ويعذب من يشاء ولا يشاء أن يعذب إلا المستوجبين للعذاب. والحق
التأويل:
أخبر عن النصر بعد الصبر بقوله: وَإِذْ غَدَوْتَ وهو إشارة إلى جوهر السالك الصادق والسائر العاشق، وذلك أن يغدو في طلب الحق والرجوع إلى المبدأ من أصله أي صفات نفسه الحيوانية والبهيمية تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ أي صفاتك الروحانية مقاعد لقتال النفس والشيطان والدنيا وَاللَّهُ سَمِيعٌ لدعائكم بالإخلاص للخلاص عن ورطة تيه الهوى عَلِيمٌ بصدق نياتكم في طلب الحق. إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا يعني القلب وأوصافه والروح وأخلاقه وَاللَّهُ وَلِيُّهُما ليخرجهما من ظلمات البشرية إلى نور الربوبية وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ الدينا وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ من غلبات شهوات النفس إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ فيه إشارة إلى أن نور النبي ﷺ يلهم أرواح المؤمنين على الدوام عند مقاتلة الشياطين ومجاهدة النفس ومكابدة الهوى في الركون إلى زخارف الدنيا. وثلاثة آلاف من الملائكة إشارة إلى الجنود الروحانية الملكوتية التي لا تدركها الحواس كقوله: وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها [التوبة: ٢٦] بَلى إِنْ تَصْبِرُوا على مخالفة النفس وتثقوا بالله عما سواه يزدكم في الإمداد بالجنود لِيَقْطَعَ طَرَفاً ليقهر بعضا من الصفات النفسانية التي هي منشأ الكفر بنصر الروح وصفاته أَوْ يَكْبِتَهُمْ أو يغلبهم ويظفر بهم وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ يعز بحكمته من يشاء على ما يشاء والله المستعان على ما تصفون.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٣٠ الى ١٤١]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٣٠) وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (١٣١) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٣٢) وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (١٣٣) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٣٤)
وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٣٥) أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (١٣٦) قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (١٣٧) هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (١٣٨) وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٣٩)
إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (١٤٠) وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ (١٤١)
سارِعُوا بغير واو العطف: أبو جعفر ونافع وابن عامر. قَرْحٌ بالضم حيث كان: حمزة وعلي وخلف وعاصم غير حفص وجبلة. الباقون بالفتح.
الوقوف:
مُضاعَفَةً ص لعطف المتفقتين تُفْلِحُونَ هـ ج للعطف لِلْكافِرِينَ هـ تُرْحَمُونَ هـ ومن قرأ سارِعُوا بغير واو فوقفه مطلق وَالْأَرْضُ ص لأن ما بعده صفة لجنة أيضا أي جنة واسعة معدّة. لِلْمُتَّقِينَ لا لأن الذين صفتهم. عَنِ النَّاسِ ط الْمُحْسِنِينَ ج ٥ لأن والذين يصلح مبتدأ وخبره أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ فلا وقف على يَعْلَمُونَ ويصلح معطوفا لأن التائب من الذنب كمن لا ذنب له فيوقف على يَعْلَمُونَ لينصرف عموم أولئك إلى المتقين السابقين منهم بعصمة الله واللاحقين بهم برحمة الله.
والوقف لطول الكلام على لِذُنُوبِهِمْ للابتداء بالاستفهام وعلى إِلَّا اللَّهُ لاعتراض الاستفهام ولزوم الجواب بأن يقول الروح: لا أحد يغفر الذنوب إلا أنت خالِدِينَ فِيها ط الْعامِلِينَ هـ سُنَنٌ لا لتعقب الأمر بالاعتبار بعد الإخبار بالتبار. الْمُكَذِّبِينَ هـ لِلْمُتَّقِينَ هـ مُؤْمِنِينَ هـ مِثْلُهُ ط بَيْنَ النَّاسِ ج لأن الواو مقحمة أو عاطفة على محذوف أي ليعتبروا وَلِيَعْلَمَ شُهَداءَ ط الظَّالِمِينَ لا للعطف على لِيَعْلَمَ الْكافِرِينَ هـ.
التفسير:
قال القفال: يحتمل أن يكون هذا الكلام متصلا بما قبله من جهة أن أكثر أموال المشركين كانت قد اجتمعت من الربا، وكانوا ينفقون تلك الأموال على العساكر، وكان من الممكن أن يصير ذلك داعيا للمسلمين إلى الإقدام على الربا كي يجمعوا الأموال وينفقوها على العساكر ويتمكنوا من الانتقام منهم، فورد النهي عن ذلك نظرا لهم ورحمة عليهم. وقيل: إن هذه الآيات ابتداء أمر ونهي وترغيب وترهيب تتميما لما سلف من الإرشاد إلى الأصلح في أمر الدين وفي باب الجهاد. وليس المراد النهي عن الربا في حال كونه أضعافا لما علم أنه منهي عنه مطلقا، وإنما هو نهي عنه مع توبيخ بما كانوا عليه في الغالب والمعتاد من تضعيفه. كان الرجل منهم إذا بلغ الدين محله زاد في الأجل، وهكذا مرة بعد أخرى حتى استغرق بالشيء الطفيف مال المديون. وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ فيه أن اتقاء الله في هذا النهي واجب، وأن الفلاح يقف عليه. فلو أكل ولم يتق زال الفلاح.
ويعلم منه أن الربا من الكبائر لا من الصغائر ويؤكد قوله: وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ كان أبو حنيفة يقول: هي أخوف آية في القرآن حيث أوعد الله المؤمنين بالنار
وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ فيه أن رجاء الرحمة موقوف على طاعة الله وطاعة الرسول فلهذا يتمسك به أصحاب الوعيد في أن من عصى الله ورسوله في شيء من الأشياء فهو ليس أهلا للرحمة. وغيرهم يحمل الآية على الزجر والتخويف وَسارِعُوا معطوف على ما قبله. ومن قرأ بغير الواو فلأنه جعل قوله: سارِعُوا وقوله: أَطِيعُوا اللَّهَ كالشيء الواحد لأنهما متلازمان. وتمسك كثير من الأصوليين به في أن ظاهر الأمر يوجب الفور قالوا: في الكلام محذوف والتقدير: سارعوا إلى ما يوجب مغفرة من ربكم.
ونكر المغفرة ليفيد المغفرة العظيمة المتناهية في العظم وليس ذلك إلا المغفرة الحاصلة بسبب الإسلام والإتيان بجميع الطاعات والاجتناب عن كل المنهيات وهذا قول عكرمة.
وعن علي بن أبي طالب: هو أداء الفرائض.
وعن عثمان بن عفان أنه الإخلاص لأنه المقصود من جميع العبادات. وعن أبي العالية أنه الهجرة. وقال الضحاك ومحمد بن إسحق: إنه الجهاد لأنه من تمام قصة أحد. وقال الأصم: بادروا إلى التوبة من الربا لأنه ورد عقيب النهي عن الربا. ثم عطف عليه المسارعة إلى الجنة لأن الغفران ظاهره إزالة العقاب. والجنة معناها حصول الثواب، ولا بد للمكلف من تحصيل الأمرين. ثم وصف الجنة بأن عرضها السموات، ومن البيّن أن نفس السموات لا تكون عرضا للجنة، فالمراد كعرض السموات لقوله في موضع آخر عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ [الحديد: ٢١] والمراد المبالغة في وصف سعة الجنة فشبهت بأوسع ما علمه الناس من خلقه وأبسطه ونظيره خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ [هود: ١٠٧] لأنها أطول الأشياء بقاء عندنا.
وقيل: المراد أنه لو جعلت السموات والأرضون طبقا طبقا بحيث يكون كل واحد من تلك الطبقات سطحا مؤلفا من أجزاء لا تتجزأ، ثم وصل البعض بالبعض طبقا واحدا لكان ذلك مثل عرض الجنة، وهذه غاية من السعة لا يعلمها إلا الله تعالى. وقيل: إن الجنة التي عرضها عرض السموات والأرض إنما تكون للرجل الواحد لأن الإنسان إنما يرغب فيما يصير ملكا له، فلا بد أن تكون الجنة المملوكة لكل أحد مقدارها هكذا. وقال أبو مسلم:
معنى العرض القيمة، ومنه عارضت الثوب بكذا. معناه لو عرضت السموات والأرض على
قال ﷺ في صفة الفردوس «سقفها عرش الرحمن» «١»
وروي أن رسول هرقل سأل النبي ﷺ وقال: إنك تدعو إلى جنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين فأين النار؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: سبحان الله فأين الليل إذا جاء النهار؟
والمعنى- والله ورسوله أعلم- أنه إذا دار الفلك حصل النهار في جانب من العالم والليل في ضد ذلك الجانب، فكذا الجنة في جهة العلو والنار في جهة السفل.
وسئل أنس بن مالك عن الجنة أفي الأرض أم في السماء؟ فقال: وأي أرض وسماء تسع الجنة؟ قيل: فأين هي؟ قال: فوق السموات السبع تحت العرش.
ثم ذكر صفات المتقين حتى يتمكن الإنسان من الجنة بواسطة اكتساب تلك الصفات. منها قوله: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ في حال الغنى والفقر لا يخلون بأن ينفقوا ما قدروا عليه. عن بعض السلف أنه ربما تصدق ببصلة.
وعن عائشة أنها تصدقت بحبة عنب فكان الفقير أنكر عليها فقالت: احسب كم هي من مثقال ذرة. وقيل: في عرس أو حبس. والمراد في جميع الأحوال لأنها لا تخلو من حال مسرة ومضرة، فهم لا يدعون الإحسان إلى الناس في حالتي فرح وحزن. وقيل: إن ذلك الإحسان والإنفاق سواء سرهم بأن كان على وفق طبعهم، أو ساءهم بأن كان مخالفا له، فإنهم لا يتركونه. وفي افتتاحه بذكر الإنفاق دليل على عظم وقعه عند الله لأنه طاعة شاقة، أو لأنه كان أهم في ذلك الوقت لأجل الحاجة إليه في الجهاد ومواساة فقراء المسلمين.
ومنها قوله وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ كظم القربة إذا ملأها وشد فاها. ويقال: كظم غيظه إذا سكت عليه ولم يظهره لا بقول ولا بفعل كأنه كتمه على امتلائه، ورد غيظه في جوفه، وكف غضبه عن الإمضاء، وهو من أقسام الصبر والحلم.
قال ﷺ «من كظم غيظا وهو يقدر على
وقال أيضا: «ليس الشديد بالصرعة إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب» «٢»
ومنها قوله: وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ قيل: يحتمل أن يراد العفو عن المعسرين لأنه ورد عقيب قصة الربا كما قال في البقرة: وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ [البقرة: ٢٨٠] ويحتمل أنه ﷺ غضب على المشركين حين مثلوا بحمزة فقال: لأمثلن بهم. فندب إلى كظم هذا الغيظ والصبر عليه والعفو عنهم.
والظاهر أنه عام لجميع المكلفين في الأحوال إذا جنى عليهم أحد لم يؤاخذوه.
قال ﷺ «لا يكون العبد ذا فضل حتى يصل من قطعه ويعفو عمن ظلمه ويعطي من حرمه»
وعن عيسى ابن مريم عليه السلام: ليس الإحسان أن تحسن إلى من أحسن إليك ذاك مكافأة، إنما الإحسان أن تحسن إلى من أساء إليك. وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ يجوز أن يكون اللام للجنس فيتناول كل محسن ويدخل فيه هؤلاء المذكورون، وأن يكون للعهد فيكون إشارة إلى هؤلاء. وذلك أن من أنواع الإحسان إيصال النفع إلى الغير وهو المعنى بالإنفاق في السراء والضراء في وجوه الخيرات. ويدخل فيه الإنفاق بالعلم وبالنفس، والجود بالنفس أقصى غاية الجود.
ومنها دفع الضرر عن الغير إما في الدنيا بأن لا يشتغل بمقابلة الإساءة بإساءة أخرى وهو المعبر عنه بكظم الغيظ، وإما في الآخرة بأن يبرىء ذمته عن التبعات والمطالبات الأخروية وهو المقصود بالعفو. فإذن الآية دالة على جميع جهات الإحسان إلى الغير. فذكر ثواب المجموع بقوله: وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ فإن محبة الله للعبد أعظم درجات الثواب.
قال ابن عباس في رواية عطاء: إن منهالا التمار أتته امرأة حسناء تبتاع منه تمرا فضمها إلى نفسه وقبلها ثم ندم على ذلك، فأتى النبي ﷺ وذكر ذلك له فنزلت وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً الآية.
وقال في رواية الكلبي: إن رجلين أنصاريا وثقيفا آخى رسول الله ﷺ بينهما، فكانا لا يفترقان في أحوالهما. فخرج الثقفي مع رسول الله ﷺ بالقرعة في السفر وخلف الأنصاري في أهله وحاجته. فأقبل ذات يوم فأبصر امرأة صاحبه قد اغتسلت وهي ناشرة شعرها، فوقعت في نفسه فدخل ولم يستأذن حتى انتهى إليها. فذهب ليلثمها فوضعت كفها على وجهها فقبل ظاهر كفها ثم ندم واستحى فأدبر راجعا فقال: سبحان الله خنت أمانتك وعصيت ربك ولم تصب حاجتك. قال: وندم على صنيعه فخرج يسيح في الجبال ويتوب
(٢) رواه البخاري في كتاب الأدب باب ١٠٢. مسلم في كتاب البر حديث ١٠٦. الموطأ في كتاب حسن الخلق حديث ١٢. أحمد في مسنده (١/ ٣٨٢).
وعن ابن مسعود أن المسلمين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: أبنو إسرائيل كانوا أكرم على الله منا؟ كانوا إذا أذنب أحدهم أصبحت كفارة ذنبه مكتوبة في عتبة بابه اجدع أذنك اجدع أنفك افعل كذا. فسكت النبي ﷺ فنزلت. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ألا أخبركم بخير من ذلك فقرأها عليهم، وبيّن أنهم أكرم على الله منهم حيث جعل كفارة ذنبهم الاستغفار.
والفاحشة نعت محذوف أي فعلوا فعلة فاحشة متزايدة القبح أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ أذنبوا أي ذنب كان مما يؤاخذ الإنسان به.
وقيل: الفاحشة هي الزنا لقوله تعالى: وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً [الإسراء: ٣٢] وظلم النفس ما دونه من القبلة واللمسة. وهذا القول أنسب بسبب النزول الذي رويناه.
وقيل: الفاحشة هي الكبيرة وظلم النفس هي الصغيرة والصغيرة يجب الاستغفار منها لأنه ﷺ كان مأمورا بالاستغفار وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ [محمد: ١٩] وما كان استغفاره إلا عن الصغائر بل ترك الأولى ذَكَرُوا اللَّهَ أي وعيده أو عقابه وأنه سائلهم أو نهيه، أو جلاله الموجب للخشية والحياء منه، أو ذكروا العرض الأكبر على الله. وعلى جميع التقادير فلا بد من مضاف محذوف. ويكون الذكر بمعنى ضد النسيان وإليه ذهب الضحاك ومقاتل والواقدي. ونظيره إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ [الأعراف: ٢٠١] وقيل: المراد ذكروا الله بالثناء والتعظيم والإجلال، فإن من آداب المسألة والدعاء تقديم التعظيم والثناء. فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ يقال: استغفر الله لذنبه ومن ذنبه بمعنى. والمراد بالاستغفار الإتيان بالتوبة على الوجه الصحيح، وهو الندم على فعل ما مضى مع العزم على ترك مثله في المستقبل. فأما الاستغفار بمجرد اللسان فذاك لا أثر له في إزالة الذنب وإنما يجب إظهار هذا الاستغفار لإزالة التهمة ولإظهار كونه منقطعا إلى الله تعالى وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ لأن كمال قدرته وغناه كما أنه يقتضي إيقاع العبد في العقاب، فكمال رحمته وعفوه يقتضي إزالة ذلك العقاب عنه، لكن صدور الرحمة عنه بالذات
«سبقت رحمتي غضبي» «١»
فجانب العفو والمغفرة أرجح ولا سيما إذا اقترن الذنب
وفي كتاب مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ «والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون فيغفر لهم» «١»
وعن أنس قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «قال الله يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي. يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي. يا ابن آدم لو أتيتني بقراب الأرضين خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لأتيتك بقرابها مغفرة» «٢»
وعن علي رضي الله عنه قال: حدثني أبو بكر قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «ما من رجل يذنب ذنبا ثم يقوم فيتطهر فيصلي ثم يستغفر الله إلا غفر له» «٣» ثم قرأ وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً إلى قوله: وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ
وهذه الجملة معترضة والتقدير: فاستغفروا لذنوبهم وَلَمْ يُصِرُّوا لم يقيموا على قبيح فعلهم غير مستغفرين. والتركيب يدل على الشدة، ومنه صررت الصرة شددتها، وصر الفرس أذنيه ضمهما إلى رأسه. وأصر أيضا
عن النبي ﷺ «ما أصر من استغفر وإن عاد في اليوم سبعين مرة» «٤»
وروي «لا كبيرة مع الاستغفار ولا صغيرة مع الإصرار»
وَهُمْ يَعْلَمُونَ حال من فاعل يصروا، وحرف النفي منصب عليها معا كما لو قلت: ما جاءني زيد وهو راكب. وأردت نفي المجيء والركوب معا. وذلك أن المقام مقام مدح لهم بعدم الإصرار.
والمعنى ليسوا ممن يصرون على الذنوب وهم عالمون بقبحها وبالنهي عنها والوعيد عليها لأنه قد يعذر الجاهل ولا يعذر العالم، ويحتمل أن يراد بالعلم العقل والتمييز والتمكن من الاحتراز عن الفواحش فيجري مجرى
قوله ﷺ «رفع القلم عن ثلاث» «٥»
وعلى هذا يجوز أن يراد نفي الإصرار في حالة العلم لا نفيه مطلقا كما لو أردت في المثال المذكور نفي المجيء
(١) رواه مسلم في كتاب التوبة حديث ١١. الترمذي في كتاب الجنّة باب ٢. أحمد في مسنده (١/ ٢٨٩)، (٢/ ٣٠٥).
(٢) رواه الترمذي في كتاب الدعوات باب ٩٨.
(٣) رواه أبو داود في كتاب الوتر باب ٢٦. الترمذي في كتاب الصلاة باب ١٨١. ابن ماجه في كتاب الإقامة باب ١٩٣. أحمد في مسنده (١/ ٢، ٩).
(٤) رواه البخاري في كتاب الدعوات باب ٣. الترمذي في كتاب تفسير سورة ٤٧ باب ١. ابن ماجه في كتاب الأدب باب ٥٧. أحمد في مسنده (٢/ ٢٨٢، ٣٤١).
(٥) رواه البخاري في كتاب الطلاق باب ١١. أبو داود في كتاب الحدود باب ١٧. الترمذي في كتاب الحدود باب ١. النسائي في كتاب الطلاق باب ٢١. ابن ماجه في كتاب الطلاق باب ١٥. الدارمي في كتاب الحدود باب ١. أحمد في مسنده (١/ ١١٦، ١١٨).
إن الثواب تفضل من الله وليس جزاء على عملهم، وذلك أنه سمى الجزاء أجرا والأجر واجب مستحق فكذلك الجزاء. ولقائل أن يقول: إنه على وجه التشبيه لا التحقيق.
واستدلوا أيضا بالآية على أن أهل الجنة هم المتقون والتائبون دون المصرين لقوله: وَلَمْ يُصِرُّوا والجواب ما مر أن كون الجنة معدة للمتقين الموصوفين لا يوجب أن لا يدخلها غيرهم بفضل الله وبرحمته. ثم ذكر ما يحمل المكلفين على فعل الطاعة وعلى التوبة من المعصية وهو تأمل أحوال القرون الخالية فقال: قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ وأصل الخلو الانفراد، والمكان الخالي هو المنفرد عمن يسكن فيه، وكل ما انقرض ومضى فقد انفرد عن الوجود، والسنة الطريقة المستقيمة. والمثال المتبع وهي «فعلة» بمعنى «مفعولة» من سن الماء يسنه إذا والى صبه فكأنه أجراه على نهج واحد، أو من سننت؟؟؟ النصل أحددته، أو من سن الإبل إذا أحسن الرعي. والمراد قد مضت من قبلكم سنن الله تعالى في الأمم السالفة يعني سنن الهلاك والاستئصال بدليل قوله: فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ فإنهم خالفوا رسلهم للحرص على الدنيا وطلب لذاتها، ثم انقرضوا ولم؟؟؟؟ أثر وبقي عليهم اللعن في الدنيا والعقاب في الآخرة هذا قول أكثر المفسرين. قال مجاهد: المراد سنن الله في الكافرين والمؤمنين فإن الدنيا ما بقيت لا مع المؤمن ولا مع الكافر، ولكن المؤمن بقي له الثناء الجميل والثواب الجزيل والكافر له اللعن والعقاب. ثم قال فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ لأن التأمل في حال أحد القسمين يكفي في معرفة حال القسم الآخر، أو لأن الغرض زجر الكفار عن كفرهم وذلك إنما يحصل بتأمل أحوال أمثالهم.
وليس المراد من قوله فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ الأمر بالسير بل المقصود تعرّف أحوالهم. فإن حصلت هذه المعرفة بغير المسير في الأرض كان المقصود حاصلا. ولا يبعد أن يقال: ندب إلى السير لأن لمشاهدة آثار الأقدمين أثرا أقوى من أثر السماع كما قيل:
إن آثارنا تدل علينا | فانظروا بعدنا إلى الآثار |
قال ابن عباس: انهزم أصحاب رسول الله ﷺ يوم أحد. فبينما هم كذلك إذ أقبل خالد بن الوليد بخيل المشركين يريد أن يعلو عليهم الجبل. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اللهم لا يعلون علينا، اللهم لا قوة لنا إلا بك، اللهم ليس يعبدك بهذه البلدة غير هؤلاء النفر. فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وثاب نفر من المسلمين رماة فصعدوا الجبل ورموا خيل المشركين حتى هزموهم فذلك قوله وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ
وقال راشد بن سعد: لما انصرف رسول الله ﷺ يوم أحد كئيبا حزينا جعلت المرأة تجيء بزوجها وأبيها وابنها مقتولين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أهكذا تفعل برسولك؟ فنزلت إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ
بفتح القاف وبضمها وهما لغتان كالضعف والضعف، والجهد والجهد. وقيل بالفتح لغة تهامة والحجاز. وقيل بالفتح مصدر، وبالضم اسم. وقال الفراء: إنه بالفتح الجراحة بعينها، وبالضم ألم الجراحة. وقال ابن مقسم: هما لغتان إلا أن المفتوحة توهم أنها جمع
وفيه إيذان بأن المصلحة في هذه المداولة ليست بواحدة ولكن في ضمنها مصالح جمة لو عرفوها انقلبت مساءتهم مسرة منها أن يعلم الله. وقد احتج هشام بن الحكم بظاهر هذه الآية ونحوها كقوله: وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا [آل عمران: ١٤٢] على أنه تعالى لا يعلم الحوادث إلا عند وقوعها وقد سبق الأجوبة عنها في تفسير قوله تعالى: وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ [البقرة: ١٢٤] وتأويل الآية أن إطلاق لفظ العلم على المعلوم والقدرة على
ليعلم أولياء الله فأضاف إلى نفسه تفخيما لهم. وعلى الأقوال العلم بمعنى العرفان ولهذا تعدى إلى مفعول واحد. وقيل: إنه بمعنى فعل القلب الذي يتعدى الى مفعولين والتقدير:
وليعلمهم مميزين عن غيرهم. ويحتمل على جميع التقادير أن يضمر متعلق وليعلم بعده ومعناه: وليتميز الثابتون على الإيمان من المضطربين فعلنا ما فعلنا. ومن حكم المداولة قوله: وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ من يصلح للشهادة على الأمم يوم القيامة كقوله: لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ [البقرة: ١٤٣] فإن كونهم كذلك منصب شريف لا يناله إلا هذه الأمة، ولن يكونوا من الأمة إلا بالصبر على ما ابتلوا به من الشدائد. أو المراد ليكرم ناسا منكم بالشهادة. والشهداء جمع شهيد كالكرماء والظرفاء. والمقتول من المسلمين بسيف الكفار يسمى شهيدا. قال النضر بن شميل: لأنهم أحياء حضروا دار السلام كما ماتوا بخلاف غيرهم. وقال ابن الأنباري: لأن الله وملائكته شهدوا له بالجنة وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ أي المشركين إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان: ١٣] قال ابن عباس: وقيل: لا يحب من ليس من هؤلاء الثابتين على الإيمان الصابرين على البلوى، وهو اعتراض بين بعض المعللات وبعض. وفيه أن دولة الكافرين على المؤمنين للفوائد المذكورة لا لأنه يحبهم.
ومن الحكم قوله: وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ والمحص في اللغة التنقية والمحق النقصان. وقال المفضل: هو أن يذهب الشيء كله حتى لا يرى منه شيء. وقال الزجاج: معنى الآية أنه إن حصلت الغلبة للكافرين على المؤمنين كان المراد تمحيص ذنوب المؤمنين أي تطهيرهم وتصفيتهم، وإن كان بالعكس فالمراد محو آثار الكفار. وهذه مقابلة لطيفة لأن تمحيص هؤلاء بإهلاك ذنوبهم نظير محق أولئك بإهلاك أنفسهم لا بالكلية، فإن ذلك غير واقع بل بتدريج ومهل ليقطع طرفا ننقصها من أطرافها.
التأويل:
لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا ما يؤدي إلى الحرص على طلب الدنيا أَضْعافاً مُضاعَفَةً إلى ما لا يتناهى فلا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب. وَاتَّقُوا اللَّهَ خطاب للخواص أي اتقوا بالله عن غير الله في طلب الله لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ عن حجب ما سوى الله، وتظفرون بالوصول إلى الله. ثم خاطب العوام الذين هم أرباب الوسائط بقوله: وَاتَّقُوا أي بالقناعة النَّارَ
قال النبي ﷺ عن عيسى أنه قال: لن يلج ملكوت السموات والأرض من لم يولد مرتين.
فالولادة الثانية هي الخروج عن الصفات الحيوانية بتزكية النفس عنها. وولوج الملكوت هو التحلية بالصفات الروحانية يُنْفِقُونَ أموالهم فِي السَّرَّاءِ وأرواحهم في الضراء بل من سوى الله في طلب الله فَعَلُوا فاحِشَةً هي رؤية غير الله أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بالتعلق بما سوى الله وَذَكَرُوا اللَّهَ بالنظر إليه وبرؤيته وَمَنْ يَغْفِرُ ومن يستر بكنف عواطفه ذنوب وجود الأغيار إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا من رؤية الوسائط والتعلق بها وَهُمْ يَعْلَمُونَ أن كل شيء ما خلا الله باطل أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ أي هم مستحقون لمقامات القرب مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ من أصناف ألطافه تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ العناية وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ لأن نيل المقصود في بذل المجهود قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ أمم لهم سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ نفوسكم الحيوانية بالعبور على أوصافها الدنية لتبلغوا سماء قلوبكم الروحانية فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ بهذه المقامات الروحانية والمكاشفات الربانية وَلا تَهِنُوا أيها السائرون في السير إلى الله وَلا تَحْزَنُوا على ما فاتكم من اللذات الفانية وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ من أهل الدنيا والآخرة لأنكم من أهل الله إِنْ يَمْسَسْكُمْ في أثناء المجاهدات قَرْحٌ ابتلاء وامتحان فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ من الأنبياء والأولياء قَرْحٌ محن مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ السائرين يوما نعمة ويوما نقمة، ويوما منحة ويوما محنة. وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ أرباب المشاهدات والمكاشفات وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ فيه إشارة إلى أن كل ألم ونصب يصيب المؤمن فهو تطهير لقلبه وتكفير لسره، وما يصيب الكافر من نعمة ودولة وغنى ومنى فهو سبب لكفرانه ومزيد لطغيانه. وبوجه آخر البلاء لأهل الولاء تمحيص للقلوب عن ظلمات العيوب وتنويرها بأنوار الغيوب ومحق صفات نفوسهم الكافرة ومحو سمات أخلاقهم الفاجرة ليتخلصوا عن قفص الأشباح إلى حظائر الأرواح.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٤٢ الى ١٥٠]
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (١٤٢) وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (١٤٣) وَما مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (١٤٤) وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ كِتاباً مُؤَجَّلاً وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (١٤٥) وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (١٤٦)
وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (١٤٧) فَآتاهُمُ اللَّهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٤٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (١٤٩) بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (١٥٠)
رَأَيْتُمُوهُ بغير همزة يعني بالتليين ونحوه رَأَوْكَ [الفرقان: ٤١] ورَأَوْهُ [الملك: ٢٧] روى هبة الله بن جعفر عن الأصفهاني عن ورش وحمزة في الوقف. يُرِدْ ثَوابَ وبابه مدغما: أبو عمرو وشان بن عامر وسهل وحمزة وعلي وخلف نُؤْتِهِ مثل يُؤَدِّهِ [آل عمران: ٧٥] وَكَأَيِّنْ بالمد والهمز مثل «كاعن» حيث كان:
ابن كثير. وقرأ يزيد وَكَأَيِّنْ بالمد بغير همزة. وقرأ أبو عمرو وسهل ويعقوب وعلي بغير نون في الوقف وكأي الباقون: وَكَأَيِّنْ في الحالين قتل أبو عمرو وسهل ويعقوب وابن كثير ونافع وقتيبة والمفضل الباقون. قاتَلَ.
الوقوف:
الصَّابِرِينَ هـ تَلْقَوْهُ ص لطول الكلام رَسُولٌ ج لأن ما بعده يصلح صفة واستئنافا الرُّسُلُ ط أَعْقابِكُمْ ط لتناهي الاستفهام شَيْئاً ط الشَّاكِرِينَ هـ مُؤَجَّلًا ج لابتداء الشرط مِنْها ج للعطف مِنْها ط الشَّاكِرِينَ هـ قتل ط ليكون قتل النبي ﷺ إلزاما للحجة على من اعتذر في الانهزام بما سمع من نداء إبليس ألا إن محمدا قد قتل. والتقدير ومعه ربيون كثير. ولو وصل كان الربيون مقتولين. ومن قرأ قاتَلَ فله أن لا يقف كَثِيرٌ ج لابتداء النفي مع فاء التعقيب وَمَا اسْتَكانُوا ط الصَّابِرِينَ هـ الْكافِرِينَ هـ الْآخِرَةِ ط الْمُحْسِنِينَ هـ خاسِرِينَ هـ مَوْلاكُمْ ج النَّاصِرِينَ هـ.
التفسير:
إنه سبحانه لما ذكر فوائد مداولة الأيام وحكمها، أتبعها ما هو السبب الأصلي في ذلك فقال: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ بدون تحمل المشاق. و «أم» منقطعة ومعنى الهمزة فيها الإنكار و «لما» بمعنى «لم» مع زيادة التوقع. وليس المراد نفي العلم بالمجاهدين ولكن المراد نفي المعلوم. وإنما حسن إقامة ذلك مقام هذا لأن العلم متعلق بالمعلوم كما هو عليه، فلما حصلت بينهما هذه المطابقة حسن إقامة أحدهما مقام الآخر.
تقول: ما علم الله في فلان خيرا أي ما فيه خير حتى يعلمه. فحاصل الكلام لا تحسبوا أن
قال ابن عباس ومجاهد والضحاك: لما نزل النبي ﷺ بالشعب أمر الرماة أن يلزموا أصل الجبل ولا ينتقلوا سواء كان الأمر لهم أو عليهم. فلما وقفوا وحملوا على الكفار هزموهم وقتل علي عليه
أي مرسل. قال أبو علي: وقد يكون الرسول في غير هذا الموضع بمعنى الرسالة أي حاله مقصور على الرسالة لا يتخطاها إلى البقاء والدوام قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ فسيخلو كما خلوا. وكما أن أتباعهم بقوا متمسكين بدينهم بعد خلوهم فكونوا أنتم كذلك لأن الغرض من إرسال الرسل التبليغ وإلزام الحجة لا وجودهم بين أممهم أبدا أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ الفاء لتسبيب الجملة الشرطية عن الجملة التي قبلها، والهمزة لإنكار الجزاء لأنه في الحقيقة كأنه دخل عليه. والمعنى: أفتنقلبون على أعقابكم إن مات محمدا أو قتل؟
وسبب الإنكار ما تقدم من الدليلين: أحدهما أن الحاجة الى الرسول هي التبليغ وبعد ذلك لا حاجة إليه، فلا يلزم من قتله أو موته الإدبار عما كان هو عليه من الدين وما يلزم كالجهاد. وثانيهما القياس على موت سائر الأنبياء وقتلهم، فإن موسى عليه السلام مات ولم ترجع أمته عن ذلك الدين. والنصارى زعموا أن عيسى عليه السلام قتل وهم لم يرجعوا عن دينه وإنما ذكر القتل. وقد علم أنه لا يقتل لكونه مجوّزا عند المخاطبين. وقوله: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [المائدة: ٦٧] لو سلم أنه متقدم في النزول فإنه مما كان يختص بمعرفته العلماء منهم على أنه ليس نصا في العصمة عن القتل، بل يحتمل العصمة من فتنة الناس وإضلالهم. وقوله: إِنَّكَ مَيِّتٌ [الزمر: ٣٠] يراد به المفارقة إلى الآخرة بأي طريق كان بدليل وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ [الزمر: ٣٠] وكثير منهم قد قتلوا. ويمكن أن يقال: صدق القضية الشرطية لا يتوقف على صدق جزأيها لصدق قولنا إن كانت الخمسة زوجا فهي تنقسم بمتساويين مع كذب جزأيها. ومعنى «أو» هو الترديد والتشكيك أي سواء فرض
وما ارتد أحد من المسلمين ذلك اليوم إلا ما كان من قول المنافقين. ويجوز أن يكون على وجه التغليظ عليهم فيما كان منهم من الفرار والانكشاف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. روي أنه لما صرخ الصارخ قال بعض المسلمين: ليت عبد الله بن أبيّ يأخذ لنا أمانا من أبي سفيان. وقال ناس من المنافقين: لو كان نبيا لما قتل، ارجعوا إلى إخوانكم وإلى دينكم. فقال أنس بن النضر عم أنس بن مالك: يا قوم إن كان قتل محمد فإن رب محمد حي لا يموت. وما تصنعون بالحياة بعد رسول الله؟ فقاتلوا على ما قاتل عليه وموتوا على ما مات عليه. ثم قال: اللهم إني أعتذر إليك مما يقول هؤلاء، وأبرأ إليك مما جاء به هؤلاء، ثم شد بسيفه فقاتل حتى قتل. وعن بعض المهاجرين أنه مر بأنصاري يتشحط في دمه فقال: يا فلان، أشعرت أن محمدا قد قتل؟ فقال: إن كان قتل فقد بلغ قاتلوا على دينكم. ففي أمثالهم قال تعالى: وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ لأنهم شكروا نعمة الإسلام فيما فعلوا من الصبر والثبات. ثم قال: وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ ووجه النظم أن المنافقين أرجفوا أن محمدا قتل فارجعوا إلى ما كنتم عليه من الأديان، فأبطل قولهم بأن القتل مثل الموت في أنه لا يحصل إلا في الوقت المقدر. وكما أنه لو مات في بلده لم يدل ذلك على فساد دينه فكذا لو قتل. وفيه تحريض المؤمنين على الجهاد بإعلامهم أن الحذر لا يغنى عن القدر، وأن أحدا لا يموت قبل الأجل وإن خوّض المهالك واقتحم المعارك. أو الغرض بيان حفظة وكلاءته لنبيه فإنه ما بقي في تلك الواقعة سبب من أسباب الهلاك والشر إلا وقد حصل إلا أنه تعالى لما كان حافظا لنبيه ولم يقدّر في ذلك الوقت أجله لم يضره ذلك. وفيه تقريع لأصحابه أنهم قد قصروا في الذب عنه صلى الله عليه وسلم، وجواب عما قاله المنافقون للصحابة لما رجعوا لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا. قال الأخفش والزجاج: تقدير الكلام وما كانت نفس لتموت إلا بإذن الله. وقال ابن عباس: الإذن هو قضاء الله وقدره فإنه لا يحدث شيء إلا بمشيئة الله وإرادته، فأورد الكلام على سبيل التمثيل كأنه فعل لا ينبغي لأحد أن يقدم عليه إلا أن يأذن الله فيه، وذلك أن إسناد الموت إلى النفس نسبة الفعل إلى القابل لا إلى الفاعل، فأقيم القابل مقام الفاعل. وقال أبو مسلم: الإذن هو الأمر. والمعنى أن الله تعالى يأمر ملك الموت بقبض الأرواح فلا يموت أحد إلا بهذا الأمر. وقيل: المراد التكوين والتخليق لأنه لا يقدر على خلق الموت والحياة أحد إلا الله. وقيل: التخلية والإطلاق وترك المنع بالقهر والإجبار.
الإذن العلم أي لن تموت نفس إلا في الوقت الذي علم الله موتها فيه. وفي الآية دليل على أن المقتول ميت بأجله، وأن تغيير الآجال ممتنع ولذا أكد هذا المعنى بقوله: كِتاباً مُؤَجَّلًا وهو مصدر مؤكد لنفسه لدلالة ما قبله عليه أي كتب الموت كتابا مؤجلا مؤقتا له أجل معلوم لا يتقدم ولا يتأخر. وقيل: الكتاب المؤجل هو المشتمل على الآجال. وقيل:
هو اللوح المحفوظ الذي كتب فيه جميع الحوادث من الخلق والرزق والأجل والسعادة والشقاوة. قال القاضي: الأجل والرزق مضافان إلى الله تعالى، وأما الكفر والفسق والإيمان والطاعة فكل ذلك مضاف إلى العبد. فإذا كتب تعالى ذلك فإنما يكتب ما يعلمه من اختيار العبد وذلك لا يخرج فيه العبد من أن يكون مذموما أو ممدوحا. والحق أن هذا تعكيس للقضية فإن الله تعالى إذا علم من العبد الكفر استحال أن يأتي هو بالإيمان وإلا انقلب علم الله جهلا، وإذا كان هو غير قادر على الإيمان حينئذ فما معنى اختياره؟ ثم إنه كان في الذين حضروا يوم أحد من يريد الدنيا ومن يريد الآخرة كما أخبر الله تعالى في هذه السورة فقوله:
وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها أي من ثوابها تعريض بالفريق الدنيوي وهم الذين شغلتهم الغنائم، وباقي الآية مدح للفريق الآخر الأخروي، وإن فضله تعالى وعطيته شامل لكلا الفريقين، لكن ثواب الفريق الثاني هو المعتمد به في الحقيقة ولهذا ختم الكلام بقوله: وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ فأبهم الجزاء وأضافه إلى نفسه تنبيها على أن جزاء الذين شكروا نعمة الإسلام فلم يشغلهم عن الجهاد شيء لا يكتنه كنهه وتقصر عنه العبارة، وأنه كما يليق بعميم فضله وجسيم طوله. وهذه الآية وإن وردت في الجهاد لكنها عامة في جميع الأعمال كما
قال صلى الله عليه وسلم: «إنما الأعمال بالنيات» «١»
وذلك لأن المؤثر في جانب الثواب والعقاب القصود والدواعي. فمن وضع الجبهة على الأرض والوقت ظهر والشمس أمامه، فإن قصد بذلك السجود عبادة الله تعالى كان من الإيمان، وإن قصد تعظيم الشمس كان من الكفر.
وَكَأَيِّنْ الأكثرون على أنها في الأصل مركبة من كاف التشبيه و «أي» التي هي في غاية الإبهام إذا قطعت عن الإضافة. كما أن «كذا» مركبة من «الكاف» و «ذا» المقصود به
والكسر فيه من تغييرات النسب كالضم في دهري، والقياس الفتح، ثم من قرأ قتل فمعنى الآية إن كثيرا من الأنبياء قتلوا والذين بقوا بعده ما وهنوا في دينهم بل استمروا على جهاد عدوّهم ونصرة دينهم وكان ينبغي أن يكون لكم فيهم أسوة حسنة. فيكون المقصود من الآية حكاية ما جرى لسائر الأنبياء لتقتدي هذه الأمة بهم. ومن قرأ قاتَلَ فالمعنى:
وكم من نبي قاتل معه العدد الكثير من أصحابه فأصابهم من عدوّهم قروح فما وهنوا. فعلى هذا يكون الغرض من الآية ترغيب الذين كانوا مع النبي ﷺ في القتال. وربما تؤيد هذه القراءة بما روي عن سعيد بن جبير أنه قال: ما سمعنا بنبي في القتال. ويحتمل أن تنزل القراءة الأولى على هذه الرواية أيضا بأن يقال: المعنى وكأين من نبي قتل ممن كان معه وعلى دينه ربيون كثير، فما ضعف الباقون وما استكانوا لقتل من قتل من إخوانهم، بل مضوا على جهاد عدوّهم. ثم إنه تعالى مدح هؤلاء الربيين بصفات وذلك قوله فَما وَهَنُوا إلخ ولا بد من تغايرها فقيل فَما وَهَنُوا عند قتل النبي وَما ضَعُفُوا عن الجهاد بعده وَمَا اسْتَكانُوا للعدو أي لم يخضعوا له، وفيه تعريض بما أصاب المسلمين من الوهن والانكسار عن الإرجاف بقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبضعفهم عند ذلك عن جهاد الكفار
واستكان قيل «افتعل» من السكون كأنه سكن لصاحبه ليفعل به ما يريد. وعلى هذا فالمد شاذ كقولهم «هو منه بمنتزاح» أي ببعد يراد بمنتزح. والأصح أنه استفعل من «كان» والمد قياسي كأن صاحبه تغير من كون إلى كون أي من حال إلى حال. وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ بأن يريد إكرامهم والحكم بالثواب والجنة لهم. ثم أخبر أنهم كانوا مستعينين عند ذلك التصبر والتجلد بالدعاء والتضرع وطلب الإمداد والنصر من الله، والغرض أن تقتدي هذه الأمة بهم. فإن من عول في تحصيل مهماته على نفسه وعدده وعدده ذل، ومن اعتصم بالله والتجأ إليه فاز بالظفر. وفي إضافتهم الذنوب والإسراف إلى أنفسهم وهم ربانيون هضم للنفس واستصغار لها. قال المحققون: إنما قدموا الاستغفار لعلمهم بأنه تعالى ضمن نصر المؤمنين، فإذا لم يحصل النصرة وظهرت أمارات استيلاء الأعداء دل ذلك على صدور ذنب وتقصير من المؤمنين، فيلزم تقديم التوبة والاستغفار على طلب النصرة ليكون طلبهم إلى ربهم عن زكاة وطهارة أقرب إلى الاستجابة. إنهم عمموا الذنوب أوّلا الصغائر والكبائر بقولهم: رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا ثم خصصوا الذنوب الكبائر بقولهم وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا لأن الإسراف في كل شيء هو الإفراط فيه. والمراد بتثبيت الأقدام وإزالة الخوف عن قلوبهم وإماطة الخواطر الفاسدة عن صدورهم. والمراد بالنصر الأمور الزائدة على القوة والعدة والشدة كإلقاء الرعب في قلوب الأعداء، وكإحداث أحوال سماوية أو أرضية توجب انهزامهم كهبوب ريح تثير الغبار في وجوههم، وإجراء سيل في مواضع وقوفهم. وفي الآية تأديب وإرشاد من الله تعالى في كيفية الطلب عند النوائب جهادا كان أو غيره فَآتاهُمُ اللَّهُ ثَوابَ الدُّنْيا من النصرة والغنيمة والعز وطيب الذكر وانشراح الصدر وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ وهو الجنة وما فيها من المنافع واللذات وذلك غير حاصل في الحال. والمراد أنه حكم لهم بحصولها في الآخرة، وحكم الله بالحصول كنفس الحصول. أو المراد أنه سيؤتيهم مثل أتى أمر الله أي سيأتي، قال القاضي: ولا يمتنع أن تكون الآية مختصة بالشهداء وأنهم في الجنة عند ربهم كما ماتوا أحياء. وثواب الآخرة كله حسن، فما ظنك بحسن ثوابها؟ وإنما لم يصف ثواب الدنيا بالحسن لقلتها وامتزاجها بالمضار وكدر صفوها بالانقطاع والزوال. قال القفال: يحتمل أن يكون الحسن هو الحسن كقوله وَقُولُوا لِلنَّاسِ
[البقرة: ٨٣] والغرض منه المبالغة كما يقال: فلان جود وعدل إذا كان غاية في الجود ونهاية في العدل. وهاهنا نكتة وهي أنه أدخل «من» التبعيضية في الآية المتقدمة في قوله: نُؤْتِهِ مِنْها في الموضعين، ولم يذكر في هذه الآية. لأن أولئك اشتغلوا بالثواب عن العبودية فلم ينالوا إلا البعض، بخلاف هؤلاء فإنهم لم يذكروا أنفسهم إلا بالعيب والقصور ولم يسألوا ربهم إلا ما يوجب إعلاء كلمته، فلا جرم فازوا بالكل. وفيه تنبيه على أن من أقبل على خدمة الله أقبل على خدمته كل ما سوى الله. ثم قال وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ والإحسان أن تعبد الله كأنك تراه. وهاهنا سر وهو أنه تعالى وفقهم للطاعة ثم أثابهم عليها ثم مدحهم على ذلك فسماهم محسنين، ليعلم العبد أن الكل بعنايته وفضله.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا عن السدي: المراد بالذين كفروا هو أبو سفيان وأصحابه فإنه كان كبير القوم في ذلك اليوم. والمعنى إن تستكينوا لهم وتستأمنوهم.
وعن علي عليه السلام: هم المنافقون عبد الله بن أبيّ وأشياعه قالوا للمؤمنين عند الهزيمة:
ارجعوا إلى إخوانكم وادخلوا في دينهم.
وعن الحسن: هم اليهود والنصارى يستغوونهم ويوقعون لهم الشبهة في الدين ولا سيما عند هذه الواقعة كانوا يقولون: لو كان نبيا حقا لما غلب ولما أصابه وأصحابه ما أصابهم وإنما هو رجل حاله كحال غيره من الناس يوم له ويوم عليه. والأقرب أنه عام في جميع الكفار فإن خصوص السبب لا ينافي إرادة العموم، فعلى المؤمنين أن لا يطيعوهم في شيء ولا ينزلوا على حكمهم وعلى مشورتهم حتى لا يستجرّوهم إلى موافقتهم وهو المراد بقوله: يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ أي إلى الكفر بعد الإيمان فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ في الدنيا باستبدال ذلة الكفر بعزة الإسلام والانقياد للأعداء الذي هو أشق الأشياء لدى العقلاء، وفي الآخرة بالحرمان عن الثواب المؤبد والوقوع في العقاب المخلد. بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ ناصركم وهو إضراب عما كانوا بصدده من طاعة الكفار. والمعنى أنكم إنما تطيعون الكفار لينصروكم ويعينوكم على مطالبكم وهذا خطأ وجهالة لأنهم عاجزون مثلكم متحيرون، وبغير إذن الله لا ينفعون ولا يضرون. وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ لو فرض أن لأحد سواه قدرة على النصر لأنه خبير بمواقع الحاجات، قدير على إنجاز الطلبات، ينصر في الدنيا والآخرة بلا شائبة علة من العلات، ونصرة غيره لو فرض فإنه مخصوص بالدنيا وببعض الأمور وفي بعض الأوقات ولغرض من الأغراض الفاسدات، كيف ولا ناصر بالحقيقة سواه.
التأويل:
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ أن تلجوا عالم الملكوت ولم تظهر منكم مجاهدات تورث المشاهدات ولا الصبر على تزكية النفوس وتصفية القلوب على وفق
خليلي هل أبصرتما أو سمعتما | بأكرم من مولى تمشى إلى عبد |
أتى زائرا من غير وعد وقال لي | أصونك عن تعذيب قلبك بالوعد |
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٥١ الى ١٦٠]
سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِما أَشْرَكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (١٥١) وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (١٥٢) إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا ما أَصابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٥٣) ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ ما فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (١٥٤) إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (١٥٥)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١٥٦) وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (١٥٧) وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ (١٥٨) فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (١٥٩) إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٦٠)
الرُّعْبَ بضمتين حيث كان: ابن عامر وعلي ويزيد وسهل ويعقوب.
الباقون: بسكون العين- وَمَأْواهُمُ وبابه بغير همز: أبو عمرو غير شجاع ويزيد والأعشى والأصفهاني عن ورش وحمزة في الوقف. وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ وبابه بإدغام الدال في الصاد:
حمزة وعلي وخلف وأبو عمرو وهشام وسهل. وتغشى بتاء فوقانية وبالإمالة: حمزة وعلي وخلف. الباقون: بياء الغيبة. كُلَّهُ بالرفع: أبو عمرو وسهل ويعقوب. الباقون:
بالنصب. يعملون بصير بياء الغيبة: ابن كثير وعباس وعلي وخلف وحمزة. الباقون:
بالخطاب. مُتُّمْ ومتنا بكسر الميم من مات يمات حيث كان: نافع وعلي وحمزة وخلف وافق حفصا إلا هاهنا لجوار قُتِلْتُمْ الباقون: بضم الميم من مات يموت.
يَجْمَعُونَ بياء الغيبة: حفص والمفضل وسائر القراء بتاء الخطاب.
سُلْطاناً ج لعطف المختلفتين النَّارُ ط الظَّالِمِينَ هـ بِإِذْنِهِ ج لأن «حتى» تحتمل انتهاء الحس، ووجه الابتداء أظهر لاقتران «إذا» مع حذف الجواب أي إذا فعلتم وفعلتم انقلب الأمر ويمنعكم نصره. والوقف على تُحِبُّونَ ظاهر في الوجهين.
الْآخِرَةَ ج لأن «ثم» لترتيب الإخبار وقيل لعطف صَرَفَكُمْ على الجواب المحذوف.
لِيَبْتَلِيَكُمْ ج عَفا عَنْكُمْ ط الْمُؤْمِنِينَ هـ أَصابَكُمْ ط تَعْمَلُونَ هـ طائِفَةً مِنْكُمْ (لا) لأن الواو للحال. الْجاهِلِيَّةِ ط مِنْ شَيْءٍ ط لِلَّهِ ط يُبْدُونَ لَكَ ط هاهُنا ط مَضاجِعِهِمْ ج لأن الواو مقحمة أو عاطفة على محذوف أي لينفذ الحكم فيكم. وَلِيَبْتَلِيَ ما فِي قُلُوبِكُمْ ط الصُّدُورِ هـ الْجَمْعانِ (لا) لأن إنما خبر إن كَسَبُوا ج لاحتمال الواو حالا واستئنافا عَنْهُمْ ط حَلِيمٌ هـ وَما قُتِلُوا ج لأن لام لِيَجْعَلَ قد يتعلق بقوله: وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ أو بمحذوف أي ذلك ليجعل فِي قُلُوبِهِمْ ط وَيُمِيتُ ط بَصِيرٌ هـ يَجْمَعُونَ هـ تُحْشَرُونَ هـ لِنْتَ لَهُمْ ج لأن الواو للعطف و «لو» للشرط مِنْ حَوْلِكَ ص والوصل أولى ليعطف الأمر بالرحمة على النهي عن الغلظة تعريضا الْأَمْرِ ج لفاء التعقيب مع «إذا» الشرطية عَلَى اللَّهِ ط الْمُتَوَكِّلِينَ هـ لَكُمْ ج لابتداء شرط آخر مع الواو. مِنْ بَعْدِهِ ط الْمُؤْمِنُونَ هـ.
التفسير:
إنه تعالى يذكر في هذه الآيات وجوها كثيرة في باب الترغيب في الجهاد وعدم المبالاة بالكفار. من جملتها الوعد بإلقاء الرعب في قلوب الكفرة، ولا شك أن هذا من معاظم أسباب الاستيلاء، ثم إن هذا الوعد مخصوص بيوم أحد أو هو عام في جميع الأوقات. الأظهر الثاني كأنه قيل: إنه وإن وقعت لكم هذه الواقعة في يوم أحد إلا أنا سنلقي الرعب في قلوب الكفار بعد ذلك حتى يظهر هذا الدين على سائر الأديان، ويؤيده
قوله ﷺ «نصرت بالرعب مسيرة شهر» «١»
وذهب كثير من المفسرين إلى أنه مختص بيوم أحد لوروده في مساق تلك القصة. قال السدي: لما ارتحل أبو سفيان والمشركون يوم أحد متوجهين إلى مكة، انطلقوا حتى بلغوا بعض الطريق. ثم إنهم ندموا وقالوا بئسما صنعنا. قتلناهم حتى إذا لم يبق منهم إلا الشريد تركناهم، ارجعوا فاستأصلوهم. فلما عزموا على ذلك ألقى الله الرعب في قلوبهم حتى رجعوا عما هموا به ففي ذلك نزلت الآية. وقيل: إن الكفار لما استولوا على المسلمين وهزموهم أوقع الله الرعب في قلوبهم فتركوهم وفروا منهم من غير
ولا ترى الضب بها ينجحر قال المتكلمون: التقليد باطل لأن كل ما لا دليل عليه لم يجز إثباته. ومنهم من يبالغ فيقول: ما لا دليل عليه فيجب نفيه. ومنهم من احتج بهذا الحرف على وحدانية الصانع فقال: لا سبيل إلى إثبات الصانع إلا باحتياج المحدثات إليه. ويكفي في رفع هذه الحاجة إثبات الصانع الواحد فما زاد لا سبيل إلى إثباته فلم يجز إثباته. أقول: هذا إذا استدللنا بعدم الدليل على وجود الشريك على نفيه، أما إذا استدللنا بوجود الدليل على نفيه فلا شريك لأجل الدليل، ولا دليل على الاشتراك لوجود الدليل على نفي الشريك. ولما ذكر حال الكفرة في الدنيا وهو استيلاء الرعب عليهم أتبعه حالهم في الآخرة فقال: وَمَأْواهُمُ أي والمكان الذي يأوون إليه النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ مقام المشركين من ثوى بالمكان يثوي إذا أقام به ثم أكد وعد إلقاء الرعب بقوله: وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ
بطنه إذا أصاب بطنه، ورأسه إذا أصاب رأسه. بِإِذْنِهِ بعلمه. وقيل: المراد بهذا الوعد أنه ﷺ رأى في المنام أنه يذبح كبشا فصدق الله رؤياه بقتل طلحة صاحب لواء المشركين يوم أحد، وقتل تسعة نفر بعده على اللواء. وقيل: هو ما ذكره من قوله إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ [آل عمران: ١٢٥] إلا أن هذا كان مشروطا بشرط هو الصبر والتقوى.
وقيل: المراد هو أن الرسول ﷺ قال للرماة: لا تبرحوا هذا المكان فإنا لا نزال غالبين ما دمتم فيه.
فلما أقبل المشركون جعل الرماة يرشقون خيلهم والباقون يضربونهم بالسيوف حتى انهزموا والمسلمون على آثارهم يقتلونهم. وقيل: لما رجعوا الى المدينة قال ناس من المؤمنين: من أين أصابنا هذا وقد وعدنا الله النصر فنزلت حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ قال بعض العلماء: هذا ليس بشرط فلهذا لم يقتض الجواب. والمعنى قد نصركم الله إلى حين كان منكم الفشل لأن وعدهم بالنصر كان مشروطا بالصبر. وقال آخرون: إنه للمجازاة. ثم اختلفوا في الجزاء على وجوه: أحدها قال البصريون: إنه محذوف كما مر في الوقوف وذلك لدلالة سياق الكلام عليه. وثانيها قال الكوفيون: جوابه وعصيتم، والواو زائدة. والمراد بالعصيان خروجهم من ذلك المكان فإن الفشل والتنازع أخرجهم من المكان الذي وقفهم فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم. وثالثها قال أبو مسلم:
جوابه ثم صرفكم. و «ثم» هاهنا كالساقطة. وقيل: جوابه ما يدل عليه قوله: مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ والتقدير: حتى إذا فشلتم صرتم فريقين. والمراد بالفشل الجبن والخور، وبالتنازع أن الرماة لما هزم المشركون ونساؤهم يصعدن الجبل وكشفن عن سوقهن بحيث بدت خلاخلهن قالوا: الغنيمة.
فقال عبد الله بن جبير أمير الرماة: عهد إلينا رسول الله ﷺ أن لا نبرح هذا المكان. فأبوا عليه وذهبوا إلى طلب الغنيمة، وبقي عبد الله مع طائفة دون العشرة إلى أن قتلهم المشركون.
وقوله: فِي الْأَمْرِ إما أن يكون بمعنى الشأن والقصة أي تنازعتم فيما كنتم فيه من الشأن، أو بمعنى الأمر الذي يضاد النهي أي تنازعتم فيما أمركم الرسول به وعصيتم بترك ملازمة ذلك المكان. وإنما قدم ذكر الفشل على التنازع والمعصية كأنهم فشلوا في أنفسهم عن الثبات طمعا في الغنيمة، ثم تنازعوا من طريق القول في أنا هل نذهب في طلب الغنيمة أم لا، ثم اشتغل بعضهم بطلب الغنيمة.
وإنما ورد الخطاب عاما وإن كانت المعصية بمفارقة ذلك الموضع خاصة بالبعض اعتمادا على المخصص بعده وهو قوله وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وفائدة قوله: مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ التنبيه على عظم شأن المعصية لأنهم لما شاهدوا أن الله أكرمهم بإنجاز الوعد كان
وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ يقتضي تقدم ذنب منهم. فإن كان ذلك الذنب من الصغائر صح أن يصف نفسه بالعفو عنهم من غير توبة، وإن كان من باب الكبائر فلا بد من إضمار توبتهم لقيام الدلالة على أن صاحب الكبيرة إذا لم يتب لم يكن من أهل العفو. وقالت الأشاعرة: لا شك أن ذلك الذنب كان من الكبائر لأنهم خالفوا صريح نص الرسول، وصارت تلك
قوله سبحانه: إِذْ تُصْعِدُونَ إما مستأنف بإضمار «واذكر»، وإما أن يتعلق بما قبله أي عفا عنكم إذ تصعدون، لأن ما صدر عنهم من مفارقة ذلك المكان والأخذ في الوادي كالمنهزمين ذنب اقترفوه. أو المعنى ليبتليكم إذ تصعدون، أو ثم صرفكم حين إصعادكم، والإصعاد الذهاب في الأرض والإبعاد فيها. قال أبو معاذ النحوي: كل شيء له أسفل وأعلى كالوادي والنهر والأزقة فيقال فيه أصعد إذا أخذ من أسفله إلى أعلاه، وأما ما ارتفع كالسلم والجبل فإنه يقال صعد. وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ لا تلتفتون إليه. وأصله أن المعرّج على الشيء يلوي إليه عنقه أو عنان دابته. وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ كان يقول: إليّ عباد الله، أنا رسول الله من كرّ فله الجنة. فيحتمل أنه كان يدعوهم إلى نفسه حتى يجتمعوا عنده ولا يتفرقوا، ويحتمل أنه كان يدعوهم إلى محاربة العدو. فِي أُخْراكُمْ في ساقتكم وجماعتكم الأخرى، لأن القوم بسبب الهزيمة قد تقدموه ﷺ وبقي هو في الجماعة المتأخرة. يقال:
جئت في آخر الناس وأخراهم كما تقول في أوّلهم وأولاهم بتأويل مقدمتهم وجماعتهم الأولى. فَأَثابَكُمْ قال في الكشاف: إنه عطف على صرفكم. وأقول: لا يبعد أن يعطف على تُصْعِدُونَ لأنه بمعنى أصعدتم بدليل أن يقال: ثاب إليه أي رجع. والمرأة تسمى ثيبا لأن واطئها عائدا إليها. فأصل الثواب كل ما يعود إلى الفاعل من جزاء فعله خيرا كان أو شرا إلا أن العرف خصه بالخير. فإن حملنا لفظ الآية على أصل اللغة استقام بلا تأويل، وإن حملناه على مقتضى العرف كان واردا على سبيل التهكم كقولهم: عتابك السيف وتحيتك الضرب. أي جعل مكان ما يرجون من الثواب الغم وهو في الأصل التغطية ومنه الغمام، فكأن الغم يستر وجه اللذة والسرور. والباء في بِغَمٍّ يحتمل أن تكون بمعنى المعاوضة نحو: بعت هذا بذاك، ويحتمل أن تكون بمعنى المصاحبة. أما الاحتمال الأول ففيه وجوه:
قال الزجاج: إنكم لما أذقتم الرسول غما بسبب عصيان أمره، أذاقكم الله غم الانهزام.
وقيل: المجازاة والمعنى جازاكم من ذلك الغم بهذا الغم. وقال الحسن: يريد غم يوم أحد للمسلمين بغم يوم بدر للمشركين. وفي الكشاف: يجوز أن يكون الضمير في فَأَثابَكُمْ
وثانيهما أن يراد بغم مع مواصلة الغموم وتتابعها وكثرتها، فيشمل جميع الغموم المعدودة وما ينخرط في سلكها. ثم اللام في قوله: لِكَيْلا تَحْزَنُوا يحتمل أن يتعلق بقوله: وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ لأن في عفوه تعالى ما يزيل كل هم وحزن، وإما أن يتعلق بقوله: فَأَثابَكُمْ فيكون المعنى على قول الزجاج: إنه عاقبهم بغم الهزيمة ليتمرنوا على تجرع الغموم واحتمال الشدائد فلا يحزنوا فيما بعد على فائت من المنافع ولا على مصيب من المضار، وليصير ذلك زاجرا لهم عن الإقدام على المعصية والاشتغال بما يخالف أمر الله. وعلى قول الحسن: جعلكم مغمومين يوم أحد في مقابلة ما جعلهم مغمومين يوم بدر لكيلا تحزنوا بإدبار الدنيا ومصائبها، ولا تفرحوا بإقبالها وعوائدها. قالت الأشاعرة: معنى إثابة الغم من الله تعالى خلق الغم فيهم ولا يقبح منه شيء. وأما المعتزلة فإنهم يقولون: الغم فعل العبد لكنه أسند إليه تعالى لأنه طبع العباد طبعا يغتمون بالمصائب وهم لا يحمدون على ذلك ولا يذمون. وإن سلم أنه بخلق الله فلرعاية المصالح، وليس الغرض تسليط الكفار على المسلمين فإن ذلك كفر ومعصية، ولكن الغرض أن لا يبقى في قلوب المؤمنين اشتغال بغير الله، ولا يحزنوا بالإدبار ولا يفرحوا بالإقبال. وإن جعل الإثابة مسندا إلى الرسول فإنما فعل ذلك ليسليهم وينفس عنهم لئلا يحزنوا على ما فاتهم من نصر الله ولا على ما أصابهم من غلبة العدوّ. وإن جعلت الباء بمعنى «مع» فالمعنى كما في قول الزجاج: أو المراد أنكم قلتم لو بقينا في هذا المكان وامتثلنا وقعنا في غم فوت الغنيمة، فاعلموا أنكم لما خالفتم أمر الرسول وطلبتم الغنيمة وقعتم في غموم أخر كل واحد منها أعظم من ذلك، فيصير هذا مانعا لهم من أن يحزنوا على فوات الغنيمة في وقعة أخرى. ثم كما زجرهم على تلك المعصية بزاجر دنيوي زجرهم بزاجر أخروي فقال: وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ عالم بجميع
ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً وأراد هؤلاء بقول: يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ والأمنة مصدر كالأمن ومثله من المصادر العظمة والغلبة. والنعاس فتور في أوائل النوم. وانتصاب أَمَنَةً على أنها حال متقدمة من نُعاساً مثل: رأيت راكبا رجلا، أو مفعول له بمعنى نعستم أمنة، أو على أنه حال من المخاطبين بمعنى ذوي أمنة، أو على جمع آمن كبارّ وبررة، أو على أنه مفعول أَنْزَلَ ونُعاساً بدل منه. قال أبو طلحة: غشانا النعاس ونحن في مصافنا، فكان السيف يسقط من يد أحدنا فيأخذه ثم يسقط فيأخذه وما أحد إلّا ويميل تحت حجفته. وعن الزبير: كنت مع الرسول ﷺ حين اشتد الخوف فأرسل الله علينا النوم. والله إني لأسمع قول معتب بن قشير والنعاس يغشاني يقول: لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا وعن ابن مسعود: النعاس في القتال أمنة، والنعاس في الصلاة من الشيطان. وذلك أنه في القتال لا يكون إلا من غاية الوثوق بالله والفراغ عن الدنيا، ولا يكون في الصلاة إلا من غاية البعد عن الله. وكان في ذلك النعاس فوائد منها: أن شموله للمؤمنين كلهم لا في الوقت المعتاد معجزة ظاهرة جديدة له ﷺ موجبة لزيادة وثوقهم بأن الله ينجز وعده وينصرهم، فيزداد جدهم واجتهادهم في الجهاد. ومنها أن الأرق والسهر يوجبان الفتور والكلال، والنعاس يجدد القوة والنشاط. ومنها شغلهم عن مشاهدة قتل الأعزة والأحبة. ومنها أن الأعداء كانوا حراصا متهالكين في قتلهم. فبقاؤهم سالمين في تلك المعركة وهم في النوم من أدل الدلائل على أن حفظ الله وكلاءته معهم. ومن الناس من زعم أن ذكر النعاس هاهنا كناية عن غاية الأمن وهذا صرف للفظ عن ظاهره من غير ضرورة مع أن فيه إبطال الفوائد والحكم المذكورة. واعلم أن من قرأ تَغْشى بالتاء فللعود إلى الأمنة ويؤيده أن الأمنة مقصودة بالذات، والنعاس مقصود بالعرض، ولأنها متبوع وأنه تابع.
ومن قرأ بالياء فللعود إلى النعاس، وينصره كونه أقرب، وكون المبدل منه في حكم النحي، وموافقته لقوله في قصة بدر إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ [الأنفال: ١١] ولأن العرب تقول: غشية النعاس، وقلما يقولون غشيه الأمن، ولأن النعاس والأمنة لما كانا شيئا واحدا كان التذكير أولى. وأما الفريق الثاني فهم المنافقون الذين كانوا في شك من نبوته ﷺ وما حضروا إلا لطلب الغنيمة كعبد الله بن أبي ومعتب بن قشير ونظرائهم، فأخبر عنهم بقوله: وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ ما بهم إلا همّ أنفسهم لا همّ أنفسهم لا همّ الدين ولا همّ النبي ولا المسلمين. والهمّ
والفائدة في هذا الترتيب أن غير الحق أديان كثيرة، وأرداها مقالات أهل الجاهلية فذكر أولا أنهم يظنون بالله ظنا باطلا، ثم بين أنهم اختاروا من الأديان أرذلها كما يقال: فلان دينه ليس بحق دينه دين الملاحدة. أو ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ مصدر وغَيْرَ الْحَقِّ تأكيد ل يَظُنُّونَ كقولك: هذا القول غير ما تقول. وظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ كقولك: حاتم الجود ورجل صدق.
مما أضيف للملابسة أي الظن المختص بالملة الجاهلية وهي زمان الفترة قبل الإسلام. أو أريد ظن أهل الجاهلية وهم أهل الشرك الجاهلون بالله. فالجاهلية مصدر كالعالمية والقادرية. قيل: إن ذلك الظن هو أنهم كانوا ينكرون الإله العالم بكل المعلومات القادر على كل المقدورات، وينكرون النبوة والمعاد، فلا جرم ما وثقوا بقول النبي ﷺ إن الله يقوّيهم وينصرهم. وقيل: الظن هو أنهم كانوا يقولون: لو كان محمد نبيا حقا لم يسلط الله الكفار عليه، وهذا ظن فاسد. أما عند أهل السنة فلأنه تعالى فاعل لما يشاء ولا اعتراض لأحد عليه، وإذا شرف المولى عبده بخلعة لم يجب أن يشرفه بأخرى. وأما عند من يعتبر المصالح في أفعاله وأحكامه فلا يبعد أن يكون في التخلية بين الكافر والمسلم وغير ذلك من المصائب حكم خفية. ولو كان كون المؤمن محقا يوجب زوال المصائب عنه اضطر الناس الى معرفة الحق، وكان ينافي التكاليف واستحقاق الثواب والعقاب. وإنما يعرف كون الإنسان محقا بالدلائل والبينات، ولا يجوز الاستدلال بالدولة والشوكة ووفور القوة والمال والجاه على حقية صاحبها والله أعلم. يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ حكاية شبهة تمسك بها أهل النفاق فاستفهموا عنها على سبيل الإنكار. وإنما يحتمل وجوها: أحدها هل لنا من التدبير من شيء يعنون رأي عبد الله بن أبي وأن النبي ﷺ لم يقبل قوله حين أمره أن يسكن في المدينة ولا يخرج منها. ونظيره ما حكى عنه لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا [آل عمران:
١٦٨] وثانيها من عادة العرب أنه إذا كانت الدولة لأحد قالوا له الأمر، وإذا كانت لعدوّه قالوا عليه الأمر. أي هل لنا من الأمر الذي كان يعدنا به محمد وهو النصر والقدرة شيء؟
وثالثها أنطمع أن يكون لنا الغلبة على هؤلاء؟ والغرض منه تعيير المسلمين على التسديد في
وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ ما فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ خص الابتلاء بما في الصدور والتمحيص بما في القلوب إما لاختلاف العبارة، وإما لأن الابتلاء محله القلب الذي في الصدر. والتمحيص مورده الهيئات والعقائد التي في القلب. واعلم أن نسق هذه الآية أنيق ونظمه عجيب. أما نسقه فقوله: وَطائِفَةٌ مبتدأ وأَهَمَّتْهُمْ صفته ويَظُنُّونَ خبره.
ويحتمل أن يكون خبره محذوفا أي وثمة، أو ومنهم طائفة أهمتهم، ويَظُنُّونَ صفة أخرى، أو حال بمعنى أهمتهم أنفسهم ظانين، أو استئناف على وجه البيان للجملة قبلها، ويَقُولُونَ بدل من يَظُنُّونَ أو بيان له. وإنما صح وقوع القول الذي مقوله إنشاء بدلا من الإخبار بالظن لأن سؤالهم كان صادرا عن الظن. ويُخْفُونَ حال من يَقُولُونَ وقُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ اعتراض بين الحال وذي الحال، فمن قرأ كُلَّهُ بالرفع فلأنه مبتدأ ولِلَّهِ خبره، والجملة خبر «إن». ومن قرأ بالنصب فلكونه تأكيدا للأمر ولِلَّهِ خبر «إن» كما لو قلت: إن الأمر أجمع لله. وقوله: يَقُولُونَ استئناف، وقوله: وَلِيَبْتَلِيَ تقدم ذكره في الوقوف. وأما نظمه فإنه لما أخبر عن هذه الطائفة بأنهم يظنون ظن الجاهلية، فسر ذلك الظن بأنهم يقولون هل لنا من الأمر من شيء، لأن هذا القول لا يصدر إلا عمن كان ظانا بل شاكا في حقية هذا الدين وفي المبدأ والمعاد وفي القضاء والقدر، فأزال ذلك الظن بقوله: قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ بيده الإماتة والإحياء والفقر والإغناء والسراء والضراء. ثم لما كان سؤالهم ذلك مظنة أن يكون سؤال المؤمنين المسترشدين لا المعاندين المنكرين، أراد أن يكشف عن حالهم ويبين مقالهم كيلا يغتربه المؤمنون فقال: يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا
أي ذلك القول إنما صدر عنهم في هذه الحالة، فكان لسائل أن يسأل ما الذي يخفونه في أنفسهم؟ فقيل يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا وقد مر تفسيره. ويحتمل أن يراد: لو كان لنا رأي مطاع لم نخرج من المدينة فلم نقتل هاهنا؟ فيكون كالطعن في قوله: قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ قال في التفسير الكبير: هذا بعينه هو المناظرة الدائرة بين السني والمعتزلي. فذاك يقول: الطاعة والعصيان والكفر والإيمان من الله. وهذا يقول: الإنسان مختار مستقل إن شاء آمن وإن شاء كفر. فأمر النبي ﷺ أن يجيب عن هذا الاعتقاد بأن ما قضى الله فهو كائن، والحذر لا يرد القدر، والتدبير لا يبطل التقدير. وإن شئتم المصالح ففائدته الابتلاء وهو أن يتميز الموافق عن المنافق كما في المثل: لا تكرهوا الفتن فإنها حصاد المنافقين وتطهير القلوب عن وساوس الشبهات وتبعات المعاصي والسيئات. ثم قال: وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ صاحبتها وهي الأسرار والضمائر ليعلم أن ابتلاءه ليس لأنه لا يخفى عليه شيء، وإنما ذلك لمحض الإلهية أو للاستصلاح.
قوله عز من قائل: إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ يعني يوم أحد. وذكر محمد بن إسحق أن ثلث الناس كانوا مجروحين، وثلثهم انهزموا، وثلثهم ثبتوا. ومن المنهزمين من ورد المدينة وكان أولهم سعد بن عثمان أخبر أن رسول الله ﷺ قتل. ثم بعده رجال ودخلوا على نسائهم وجعل النساء يقلن: أعن رسول الله ﷺ تفرون؟ وكن يحثين التراب في وجوههم ويقلن: هاك المغزل اغزل. وقال بعض الرواة: إن المسلمين لم يعدوا الجبل. قال القفال: الذي تدل عليه الأخبار في الجملة أن نفرا قليلا تولوا وأبعدوا، فمنهم من دخل المدينة، ومنهم من ذهب إلى سائر الجوانب. وأما الأكثرون فإنهم نزلوا عند الجبل واجتمعوا هنالك- ومن المنهزمين عمر- إلا أنه لم يكن في أوائل المنهزمين. ولم يبعد، بل ثبت على الجبل إلى أن صعد النبي صلى الله عليه وسلم. ومنهم أيضا عثمان انهزم هو مع رجلين من الأنصار- يقال لهما سعد وعقبة- انهزموا حتى بلغوا موضعا بعيدا، ثم رجعوا بعد ثلاثة أيام
فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: لقد ذهبتم فيها عريضة.
وأما الذين ثبتوا مع الرسول ﷺ فكانوا أربعة عشر رجلا. سبعة من المهاجرين: أبو بكر، وعلي، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وطلحة بن عبيد الله، وأبو عبيدة بن الجراح، والزبير بن العوّام.
وسبعة من الأنصار: الحباب بن المنذر، وأبو دجانة، وعاصم بن ثابت، والحرث بن الصمة، وسهل بن حنيف، وأسيد بن حضير، وسعد بن معاذ. وذكر أن ثمانية من هؤلاء كانوا بايعوه يومئذ على الموت ثلاثة من المهاجرين: علي وطلحة والزبير. وخمسة من الأنصار: أبو دجانة، والحرث بن الصمة، وحباب بن المنذر، وعاصم بن ثابت، وسهل بن
وركع. وإنما قال: إِذا ضَرَبُوا دون «إذ ضربوا» أو «حين ضربوا» ليشاكل في المعنى قوله: وَقالُوا لأنه أراد حكاية الحال الماضية. والمعنى أن إخوانهم إذا ضربوا في الأرض. فالكافرون يقولون: لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا. فمن أخبر عنهم بعد ذلك لا بد أن يقول: «قالوا». ويجوز أن يكون قالُوا في تقدير «يقولون» لكنه وقع التعبير عنه بلفظ الماضي لأنه لازم الحصول في المستقبل مثل أَتى أَمْرُ اللَّهِ [النحل: ١] وفيه دلالة على أن جدهم واجتهادهم في تقرير هذه الشبهة قد بلغ الغاية، فكأن هذا المستقبل كالكائن الواقع. ويمكن أن يقال: عبر عن المستقبل بلفظ الماضي ليعلم أن المقصود الإخبار عن جدّهم واجتهادهم في تقرير هذه الشبهة. وقال قطرب: كلمه «إذ» و «إذا» يجوز إقامة كل منهما مقام الأخرى، وهذا وإن لم يوجد له في كلام العرب نظير، لكن القرآن أولى ما يستشهد به وهو حجة على غيره وليس غيره حجة عليه. قال الواحدي: في الكلام محذوف والتقدير: إذا ضربوا في الأرض فماتوا أو كانوا غزى فقتلوا لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا. وأما اللام في قوله: لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ ففي متعلقه وجهان: الأول أنه قالُوا أي قالوا ذلك الكلام واعتقدوه ليجعل الله ذلك الكلام حسرة فتكون لام العاقبة كقوله تعالى: فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً [القصص: ٨] وكيف استعقب ذلك القول حصول الحسرة؟ فيه وجوه: فقيل: لأن أقارب ذلك المقتول إذا سمعوا هذا الكلام تخيلوا أنهم لو بالغوا في منعه عن ذلك السفر أو الغزو لم يمت أو لم يقتل فازدادت حسرتهم وتلهفهم بسبب أنهم قصروا في منعه، بخلاف المسلم المعتقد في أن الحياة والموت لا يكونان إلا بتقدير الله فإنه لا يحصل له شيء من هذا النوع من الأسف. وقيل:
والمعنى أن القتل والموت في السفر غير لازم الحصول لأن ذلك منوط بالقدر لا بالسفر.
ولئن سلم أنه لازم فإنه يستعقب المغفرة ويستجلب الرحمة من الله، وإن ذلك خير مما تجمعون من الدنيا وما فيها لو لم تموتوا. وعن ابن عباس: خير من طلاع الأرض ذهبة حمراء. ومن قرأ بالياء فالضمير للكفار لأن الذي يجمعونه في الدنيا قد يكون من باب الحلال الذي يعد خيرا، أو ورد على حسب معتقدهم أن أموالهم خيرات لهم. وإنما كانت المغفرة والرحمة خيرا من المال لأن المال الذي يجمع لأجل الغد قد يموت صاحبه قبل الغد، وإن لم يمت فلعل المال لا يبقى في الغد، فكم من أمير أصبح أسيرا. وعلى تقدير بقاء المال وبقاء صاحبه إلى الغد فلعل مانعا من مرض أو خوف يمنعه عن الانتفاع به،
يروى أن عيسى عليه السلام مر بأقوام نحفت أبدانهم واصفرت وجوههم، ورأى عليهم سيما الطاعة فقال: ماذا تطلبون؟ فقالوا: نخشى عذاب الله. فقال: هو أكرم من أن لا يخلصكم من عذابه. ثم مر بآخرين فرأى عليهم تلك الآثار فسألهم فقالوا: نطلب الجنة والرحمة. فقال: هو أكرم من أن يمنعكم رحمته. ثم مر بقوم ثالث ورأى عليهم سمات
قال القاضي: في الآية دليل على أن المقتول ليس بميت وإلا كان قوله: وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ عطفا للشيء على نفسه. قلت: لا، ولكنه عطف الأخص على الأعم. ثم إنه سبحانه لما أرشدهم في الآيات المتقدمة إلى ما ينفعهم في معاشهم ومعادهم وكان من جملة ذلك أن عفا عنهم، زاد في الفضل والإحسان بأن مدح الرسول ﷺ حين عفا عنهم وترك التغليظ عليهم في انهزامهم.
روي أن امرأة عثمان دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم- وكان النبي ﷺ وعلي يغسلان السلاح- فقالت: ما فعل عثمان؟ أما والله لا تجدونه أمام القوم. فقال لها علي: ألا إن عثمان فضح الذمار اليوم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مه.
وروي أنه قال حينئذ: أعياني أزواج الأخوات أن يتحابوا. ولما دخل عثمان مع صاحبيه ما زاد على أن قال: لقد ذهبتم فيها عريضة.
وعنه أنه قال: «إنما أنا لكم مثل الوالد لولده، فإذا ذهب أحدكم إلى الغائط فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها» «١»
وقال صلى الله عليه وسلم: «لا حلم أحب إلى الله من حلم إمام ورفقه، ولا جهل أبغض إلى الله من جهل إمام وخرقه»
فلما كان ﷺ إمام العالمين وجب أن يكون أكثرهم حلما وأحسنهم خلقا لأن الغرض من البعثة- وهو التزام التكاليف- لا يتم إلا إذا مالت قلوب الأمة إليه، وسكنت نفوسهم لديه، ورأوا فيه آثار الشفقة وأمارات النصيحة. وعن بعض الصحابة أنه قال: لقد أحسن الله إلينا كل الإحسان. كنا مشركين فلو جاءنا رسول الله ﷺ بهذا الدين جملة وبالقرآن دفعة لثقلت هذه التكاليف علينا فما كنا ندخل في الإسلام، ولكنه دعانا إلى كلمة واحدة، فلما قبلناها وعرفنا حلاوة الإيمان قبلنا ما وراءها، كلمة بعد كلمة على سبيل الرفق إلى أن تم هذا الدين وكملت هذه الشريعة.
واعلم أن من عرف سر الله في القدر هانت عليه المصائب، فإنه يعلم أن الحوادث الأرضية كلها مستندة إلى الأسباب الإلهية، فيعلم أن الحذر لا يدفع القدر، فلا جرم إذا فاته مطلوب له لم يغضب، وإذا حصل له مطلوب لم يأنس به لأنه مطلع على الروحانيات التي هي أشرف من هذه الجسمانيات، فلا ينازع أحدا في هذا العالم في طلب شيء من لذاتها وطيباتها، ولا يغضب على شيء بسبب فوات شيء من مطالبها، فيكون حسن الخلق طيب العشرة مع الخلق. ولما كان ﷺ أكمل البشر في القوتين النظرية والعملية وقد بعث ليتمم مكارم الأخلاق، وجب أن يكون أكمل الناس خلقا وذلك من فضل الله ورحمته على الناس
ومنهم من حمل الآية على واقعة أحد فقال: فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ يوم أحد حين عادوا إليك بعد الانهزام وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ تشافههم بالملامة على ذلك لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ هيبة منك وحياء بسبب ما كان منهم فكان ذلك مما يطمع العدو فيك وفيهم. وهاهنا دقيقة هي أن اللين والرفق إنما يجوز إذا لم يفض إلى إهمال حق من حقوق الله ولهذا أمر بالغلظة في قوله: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ [التحريم: ٩] وقال في إقامة حد الزنا: وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ [النور: ٢] ومثله أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ [المائدة:
٥٤] أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ [الفتح: ٢٩] فيعلم من المدح على اللين في موضع ومن الأمر بالغلظة في موضع آخر أن الفضيلة في الوسط وهو استعمال كل شيء في موضعه، وأن طرفي الإفراط والتفريط مذمومان، ومنه المثل «لا تكن حلوا فتسترط ولا مرا فتعقى». واحتجت الأشاعرة بالآية في مسألة القضاء والقدر. وذلك أن حسن خلقه مع الخلق إنما كان بسبب رحمة الله، وهي عند المعتزلة عامة في حق جميع المكلفين. فكل ما فعله مع محمد ﷺ من الهداية والدعوة والبيان والإرشاد فقد فعل مثل ذلك مع فرعون وهامان وأبي جهل وأبي لهب. فلطف الله ورحمته مشترك بين أصفى الأصفياء وبين أشقى الأشقياء، فلا يكون اختصاص بعضهم بحسن الخلق وكمال الطريقة مستفادا من رحمة الله،
من شرت الدابة شورا عرضتها على البيع، أقبلت بها وأدبرت. والمكان الذي تعرض فيه الدواب يسمى مشوارا. يقال: إياك والخطب فإنها مشوار كثير العثار. وتركيبه يدل على الإظهار والكشف، فبالمشاورة يظهر خير الأمور وحسن الآراء. وقد ذكر العلماء لأمر الرسول بالمشاورة مع أنه أعلم الناس وأعقلهم فوائد منها: أنها توجب علو شأنهم ورفعة قدرهم وزيادة إخلاصهم ومحبتهم، وفي ترك ذلك نوع من الإهانة والفظاظة، وكان سادات العرب إذا لم يشاوروا في الأمر شق ذلك عليهم. ومنها أن علوم الإنسان متناهية فلا يبعد أن يخطر ببال أحد ما لم يخطر بباله ولا سيما فيما يتعلق بأمور الدنيا. ومنها قال الحسن وسفيان بن عيينة: قد علم الله أنه ما به إليهم حاجة ولكنه أراد أن يستن به من بعده، ومنها أنه شاورهم في وقعة أحد فأخطؤا فلو ترك مشاورتهم بعد ذلك لكان مظنة أنه قد بقي في قلبه أثر من تلك الواقعة. ومنها أن يظهر له مقادير عقولهم فينزلهم على قدر منازلهم. ومنها أن تصير النفوس الطاهرة متطابقة على تحصيل أصلح الوجوه فيكون أعون على الظفر بالمقصود ولهذا
قال صلى الله عليه وسلم: «ما تشاور قوم قط إلا هدوا لأرشد أمرهم»
وهذا هو السر في الجماعات والجمعات. ومنها أنه تعالى ما أمر رسوله بالمشاورة قبل تلك الواقعة وأمره بها بعدها مع صدور المعصية عنهم ليعلم أنهم الآن أعظم حالا مما كانوا، وأن عفوه أعظم من كل ذنب، وأن الاعتماد على فضله وكرمه لا على العمل والطاعة. ثم إن العلماء اتفقوا على أن كل ما نزل به وحي لم يجز للرسول أن يشاور الأمة فيه، لأنه إذا جاء النص بطل الرأي والقياس كما قيل: إذا جاء نهر الله بطل نهر عيسى. وفيما وراء ذلك هل تجوز المشاورة في كلها أم لا؟ قال الكلبي وكثير من العلماء: إن الأمر بها مخصوص بالحرب لأن اللام في لفظ الْأَمْرِ ليس للاستغراق لخروج ما نزل فيه الوحي بالاتفاق، فهو إذن لمعهود سابق وليس
كقوله ﷺ «البكر تستأمر في نفسها» «١»
ولو أكرهها الأب على النكاح جاز لكن الأولى ذلك تطييبا لنفسها فكذا هاهنا. فَإِذا عَزَمْتَ أي قطعت الرأي على شيء بعد الشورى فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ لأن الاعتماد في جميع الأمور عليه لا على الفكر والتدبير والرأي الحسن. عن جابر بن زيد أنه قرأ فَإِذا عَزَمْتَ بالضم إذا أرشدتك إلى شيء وألزمته إياك فتوكل علي ولا تشاور بعد ذلك أحدا. إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ عن ابن عباس: إن ينصركم كما نصركم يوم بدر فلا يغلبكم أحد وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ كما خذلكم يوم أحد فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ أي من بعد خذلانه لدلالة الفعل عليه، أو هو من قولك «ليس لك من يحسن إليك من بعد فلان» تريد إذا جاوزته. وقيل: إن ينصركم بجذبات العناية فلا غالب لكم من الصفات البشرية، وإن يخذلكم بترك الجذبات فمن ينصركم بعده من الأنبياء والأولياء؟ فإنه القادر على الإخراج عن هذا الوجود كما أنه هو القادر على الإدخال فيه. وَعَلَى اللَّهِ وليخص المؤمنون إياه بالتوكل لما علم أن الأمر كله له ولا رادّ لقضائه ولا دافع لبلائه، ولأن الإيمان يوجب ذلك ويقتضيه. وليس المراد بالتوكل أن يهمل الإنسان حال نفسه بالكلية ويرفض الوسائط والأسباب كما يتصور الجهال وإلا كان الأمر بالمشاورة منافيا للأمر بالتوكل، وإنما التوكل هو أن يراعي الأسباب الظاهرة ولكن لا يعول بقلبه عليها بل يعوّل على عصمة الحق وتأييده وتوفيقه وتسديده.
التأويل:
وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ أيها الطلاب وَعْدَهُ ألا من طلبني وجدني إذ تقتلون جنود الصفات البشرية بأمره لا على وفق الطبع حتى إذا تركتم قتال النفس وخالفتم في أمر
أحمد في مسنده (١/ ٢١٩) بلفظ «لا تنكح البكر.... ولا الثيب حتى تستأمر».
ما كان من أحد يقال له ومنكم من يريد الله ثم صرفكم عن جهاد النفس وقتل صفاتها باستيلائها عليكم ليمتحنكم بالستر بعد ما تجلى لكم أنوار المشاهدات، وبالصحو بعد ما أسكركم بأقداح الواردات، وبالفطام بعد ما أرضعكم بألبان الملاطفات وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ يعني بعد ابتلائكم عفا عن التفاتاتكم إلى الدنيا والآخرة بالعناية الأزلية وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ في الأزل إذ تصعدون في طريق الحق طالبين بعد ما كنتم هاربين ولا تلتفتون إلى أحد من الأمرين الدنيا والآخرة، ورسول الوارد من الحق يدعوكم إليّ عبادي إليّ عبادي، فجازاكم بدل غم الدنيا والآخرة غم طلب الحق لكيلا تحزنوا على ما فاتكم من زخارف الدنيا ولا لما أصابكم من نعيم الآخرة وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ من ترك نعيم الدنيا والآخرة في طلب وجدانه فلا يخيب رجاءكم ويوفي جزاءكم. ثم أخبر عن إنزال حقائق أصناف ألطافه على عباده في صور مختلفة. فأنزل الأمن في صورة النعاس على الصحابة، وأخرج جواهر الوقائع السنية لأرباب القلوب والمكاشفات من معدن النعاس فإن أكثرها يقع بين النوم واليقظة. وطائفة من أرباب النفوس ومدعي الإسلام لا هم لهم إلا هم أنفسهم من استيفاء حظوظها واستيفاء لذاتها ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ وهو أن الأمور إلى الخلق لا إلى الله ولا بقضائه وقدره. هل لنا من أمر النصرة والظفر من شيء؟ ما قُتِلْنا هاهُنا بالباطل على أيدي حزب الشيطان وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ ما فِي صُدُورِكُمْ أنها المنافقون لأن الصدور معدن النفاق والغل ووسوسة الشيطان وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ [الأعراف: ٤٣] يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ [الناس: ٥] وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ أيها المؤمنون لأن القلوب محل الإيمان والاطمئنان كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ [المجادلة: ٢٢] أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد: ٢٨] ونسبة الإسلام باللسان إلى الإيمان بالجنان كنسبة الصدر إلى القلب إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا الشيطان خلق من نار فلهذا استخرج من معدن الإنسان حديد ما كسبوا من التولي ليجعله مرآة ظهور صفاته العفو والمغفرة والحلم. وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ ليعلم أن لله تعالى في كل شيء من الخير والشر أسرارا لا يعلمها إلا هو. ومن هنا
قال: «لو لم تذنبوا لجاء الله بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم» «١»
إذا
فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ يمكن أن يفهم منه الخطاب مع الروح الإنساني أنه لان برحمة الله لصفات النفس وقواها الشهوية والغضبية حتى يستوفي كل منها حظها ويرتبط بذلك بقاء النسل وصلاح المعاش، ولولا ذلك لاضمحلت تلك القوى وانفضت من الجوانب وتلاشت، واختلت حكمة التمدن وفقدت الكمالات التي خلق الإنسان لأجلها. ثم الكلام في أن هذا اللين لا بد له من الغلظة حتى لا يتجاوز عن الوسط ولا يخرج عن قانون الشرع والعقل كما تقدم.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٦١ الى ١٧٥]
وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (١٦١) أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللَّهِ كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٦٢) هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (١٦٣) لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (١٦٤) أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها قُلْتُمْ أَنَّى هذا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٦٥)
وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (١٦٦) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالاً لاتَّبَعْناكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ (١٦٧) الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٦٨) وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (١٦٩) فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (١٧٠)
يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (١٧١) الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (١٧٢) الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (١٧٣) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (١٧٤) إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٧٥)
يَغُلَّ بفتح الياء وضم الغين: ابن كثير وأبو عمرو وعاصم غير المفضل ويعقوب غير رويس. الباقون: بالضم والفتح على البناء للمفعول. ولا يحسبن بياء الغيبة: الحلواني عن هشام. الباقون: بتاء الخطاب. قُتِلُوا بالتشديد: ابن عامر.
الباقون: بالتخفيف. وَأَنَّ اللَّهَ بالكسر على الابتداء: عليّ. الباقون: بالفتح.
وخافوني بالياء في الحالين: سهل ويعقوب وابن شنبوذ عن قنبل، وافق أبو عمرو ويزيد وإسماعيل في الوصل. الباقون بالحذف.
الوقوف:
أَنْ يَغُلَّ ط لابتداء الشرط يَوْمَ الْقِيامَةِ ج لانتهاء جزاء الشرط مع العطف لا يُظْلَمُونَ هـ جَهَنَّمُ ط الْمَصِيرُ هـ عِنْدَ اللَّهِ ط بِما يَعْمَلُونَ هـ وَالْحِكْمَةَ ج لمكان العطف مُبِينٍ هـ مِثْلَيْها (لا) لأن استفهام الإنكار دخل على قُلْتُمْ هذا ط أَنْفُسِكُمْ ط قَدِيرٌ هـ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ هـ لا نافَقُوا ج لاحتمال العطف والاستئناف والوصل أولى على تقدير وقد قيل لهم. أَوِ ادْفَعُوا ط لَاتَّبَعْناكُمْ ط لِلْإِيمانِ ج لاحتمال الحال والاستئناف. فِي قُلُوبِهِمْ ط يَكْتُمُونَ ج لاحتمال كون «الذين» بدلا عن ضمير يَكْتُمُونَ أو خبر مبتدأ محذوف. ما قُتِلُوا ط صادِقِينَ هـ أَمْواتاً ط عِنْدَ رَبِّهِمْ ص يُرْزَقُونَ هـ لا لأن فَرِحِينَ حالهم.
مِنْ فَضْلِهِ (لا) للعطف. مِنْ خَلْفِهِمْ (لا) لتعلق «أن». يَحْزَنُونَ هـ م للآية واستئناف الفعل إذ يستحيل أن يكون الاستبشار حالا للذين يحزنون. وَفَضْلٍ (لا) لأن التقدير وبأن ومن كسر وقف والجملة حينئذ اعتراضية. الْمُؤْمِنِينَ هـ ج لأن «الذين» يصلح صفة للمؤمنين ومبتدأ خبره للذين أحسنوا، أو نصبا على المدح والأول أوجه لاتحاد الصفة. الْقَرْحُ ط لمن لم يقف على الْمُؤْمِنِينَ. عَظِيمٌ ج لاحتمال البدل وكونه خبر مبتدأ محذوف. إِيماناً ق والوصل أولى للعطف واتصال توكل اللسان بيقين القلب.
الْوَكِيلُ هـ سُوءٌ لا للعطف رِضْوانَ اللَّهِ ط عَظِيمٍ هـ أَوْلِياءَهُ ص لوصل النهي عن الخوف بعد ذكر التخويف مُؤْمِنِينَ هـ.
التفسير:
هذا حكم من أحكام الجهاد. وأصل الغلول أخذ الشيء في خفية. يقال:
أغل الجازر والسالخ إذا أبقى في الجلد شيئا من اللحم ليسرقه. والغل الحقد الكامن في الصدر. والغلالة الثوب الذي يلبس تحت الدرع والثياب، والغلل الماء الذي يجري في
وقال صلى الله عليه وسلم: «من بعثناه على عمل فغل شيئا جاء يوم القيامة يحمله على عنقه» «١»
وقال أيضا: «هدايا الولاة غلول» «٢».
وقال الجوهري: غل يغل غلولا أي خان. وأغل مثله إلا أن العرف جعله في الغالب مخصوصا بالخيانة في الغنيمة حتى قال أبو عبيدة: الغلول في المغنم خاصة، وقد جعله النبي ﷺ من الكبائر.
عن ثوبان عن رسول الله ﷺ «من فارق روحه جسده وهو بريء من ثلاثة دخل الجنة الكبر والغلول والدين» «٣»
وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال: قام فينا رسول الله ﷺ ذات يوم فذكر الغلول فعظمه وعظم أمره حتى قال: «لا ألفينّ أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته بعير له زعاء يقول يا رسول الله أغثني فأقول لا أملك لك شيئا قد أبلغتك. لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته فرس له حمحمة فيقول يا رسول الله أغثني فأقول لا أملك لك شيئا قد أبلغتك. لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته شاة لها ثغاء يقول يا رسول الله أغثني فأقول لا أملك لك شيئا قد أبلغتك. لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته نفس لها صياح فيقول يا رسول الله أغثني فأقول لا أملك لك شيئا قد أبلغتك. لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته رقاع تخفق فيقول يا رسول الله أغثني فأقول لا أملك لك شيئا قد أبلغتك. لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته صامت فيقول يا رسول الله أغثني فأقول لا أملك لك شيئا قد أبلغتك» «٤»
ومعنى الآية فيمن قرأ بفتح الياء وضم الغين: ما كان لنبي أن يخون أي ما صح وما ينبغي له ذلك لأن النبوة تنافي الغلول لأنها أعلى المراتب الإنسانية، فلا يليق بصاحبها ما هو عار في الدنيا ونار في الآخرة، كيف وإنه أمين على الوحي النازل عليه من فوق سبع سموات، أفلا يكون أمينا في الأرض؟ هيهات. وقيل: اللام منقولة والتقدير: وما كان نبي ليغل كقوله ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ [مريم: ٣٥] أي ما كان الله ليتخذ ولدا. ومن قرأ بضم الياء وفتح الغين ففيه وجهان: أحدهما يخان أي يؤخذ من غنيمته. وفي تخصيصه بهذه الحرمة والخيانة محرمة على الإطلاق فوائد منها: أن المجني عليه كلما كان أجل منصبا كانت الخيانة في حقه أفحش. ومنها أنه لا يكاد يخفى عليه من
(٢)
رواه أحمد في مسنده (٥/ ٤٢٤) بلفظ «هدايا العمال غلول».
(٣) رواه الترمذي في كتاب السير باب ٢١. ابن ماجه في كتاب الصدقات باب ١٢. الدارمي في كتاب البيوع باب ٥٢. أحمد في مسنده (٥/ ٢٧٦).
(٤) رواه مسلم في كتاب الإمارة حديث ٢٤. أبو داود في كتاب الإمارة باب ١٢. أحمد في مسنده (٢/ ٤٢٦).
بل يغل ويقتل. ولا يخفى أن الإنكار لا يتوجه إذا كان أغل بمعنى وجده غالا، وإنما يتوجه إذا كان الإغلال بمعنى النسبة إلى الخيانة كما
روي أن قطيفة حمراء فقدت يوم بدر فقال بعض المنافقين: لعل رسول الله ﷺ أخذها.
وقد طعن بعضهم في هذه القراءة وقال: إن أكثر ما جاء من هذا القبيل في التنزيل أسند الفعل فيه إلى الفاعل ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ [يوسف: ٣٨] ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ [يوسف: ٧٦] ما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ [آل عمران: ١٤٥] ما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً [التوبة: ١١٥] وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ [آل عمران: ١٧٩] وحكى أبو عبيدة عن يونس أنه قال: ليس في الكلام «ما كان لك أن تضرب» بضم التاء. والحق أن القرآن حجة على غيره لا بالعكس. ويوافق هذه القراءة ما
روي أنه ﷺ لما وقعت غنائم هوازن في يده غله رجل بمخيط فنزلت.
وعلى هذا يغل بمعنى يخان.
وإن جعل يغل بمعنى يوجد غالا فالقراءتان متعاضدتان ويوافقهما أسباب النزول، أكثرها يروى أنه تأخرت قسمة الغنيمة في بعض الغزوات لمانع فجاءه قوم وقالوا: ألا تقسم غنائمنا؟ فقال صلى الله عليه وسلم: لو كان لكم مثل أحد ذهبا ما حبست منكم درهما، أترون أني أغلكم مغنمكم؟ فنزلت. وعن ابن عباس أن أشراف الناس طمعوا أن يخصهم النبي ﷺ من الغنائم بشيء زائد فنزلت.
وقال الكلبي ومقاتل: نزلت في غنائم أحد حين ترك الرماة المركز طلبا للغنيمة وقالوا: يخشى أن يقول رسول الله من أخذ شيئا فهو له وأن لا يقسم الغنائم كما لم يقسمها يوم بدر. فقال لهم صلى الله عليه وسلم: ألم أعهد إليكم أن لا تتركوا المركز حتى يأتيكم أمري؟ فقالوا: تركنا بقية إخواننا وقوفا فقال صلى الله عليه وسلم: بل ظننتم أنا نغل ولا نقسم لكم.
وروي أنه ﷺ بعث طلائع فغنم بعدهم غنائم فقسمها ولم يقسم للطلائع فنزلت
مبالغة في النهي لرسوله يعني وما كان لنبي أن يعطي قوما ويمنع آخرين، بل عليه أن يقسم بالسوية. وسمى حرمان بعض الغزاة غلولا تغليظا وتقبيحا لصورة الأمر. وقيل: نزلت في أداء الوحي. كان يقرأ القرآن- وفيه عيب دينهم وسب آلهتهم- فسألوه أن يترك ذلك فقيل:
قوله صلى الله عليه وسلم: «لكل غادر لواء يوم القيامة» «١»
وقال أبو مسلم: هذا على سبيل التمثيل والتصوير لوباله وتبعته.
والمراد أنه تعالى يحفظ عليه هذا الغلول ويعزره عليه يوم القيامة ويجازيه لأنه لا يخفى عليه خافية. وقيل: المراد أنه يشتهر بذلك مثل اشتهار من يحمل ذلك الشيء، وفيه صرف اللفظ عن ظاهره من غير دليل ولا ضرورة. ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ إثبات للجزاء لكل كاسب على سبيل العموم ليعلم صاحب الغلول أنه غير متخلص من بينهم مع عظم ما اكتسب وهذا أبلغ مما لو خص الغال بتوفية الجزاء فقيل: ثم يوفى ما كسب.
ثم فصل ما أجمل فقال: أَفَمَنِ اتَّبَعَ والهمزة للإنكار والفاء للعطف على محذوف تقديره «أمن اتقى فاتبع». قال الكلبي والضحاك: أفمن اتبع رضوان الله في ترك الغلول كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ رجع منه بشدّة إرادة انتقام لأجل الغلول؟ وقال الزجاج: أفمن اتبع رضوان الله بامتثال أمر النبي ﷺ حين دعاهم إلى دفع المشركين يوم أحد، كمن باء بسخط من الله وهم الذين لم يمتثلوا؟ وقيل: الأولون المهاجرون والآخرون المنافقون.
وقيل: أفمن اتبع رضوان الله بالإيمان والعمل بطاعته كمن باء بسخط من الله بالكفر به والاشتغال بمعصيته؟ وهذا القول أقرب لتكون الآية مجراة على العموم وإن كان سبب النزول خاصا. وقوله: وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ من تمام صلة من «باء». وقوله: وَبِئْسَ الْمَصِيرُ اعتراض. قال القفال: لا يجوز في الحكمة أن يسوى بين المسيء والمحسن وإلا كان إغراء بالمعاصي وإباحة لها وإهمالا للطاعات وتنفيرا عنها. هُمْ دَرَجاتٌ قيل: أي لهم
الدارمي في كتاب البيوع باب ١١. أحمد في مسنده (١/ ٤١١، ٤١٧).
قال صلى الله عليه وسلم: «الناس معادن كمعادن الذهب والفضة» «١»
فهم في أنفسهم درجات لا أن لهم درجات. وقيل: المراد ذوو درجات. ثم الضمير إلى أي شيء يعود؟ قيل: إلى من اتبع رضوان الله لأن الغالب في العرف استعمال الدرجات في أهل الثواب، والدركات في أهل العقاب. ولأنه قد ذكر وصف من باء بسخط من الله وهو أن مأواه جهنم فيكون هذا وصفا لمن اتبع الرضوان ويؤيده قوله: عِنْدَ اللَّهِ وهذا وإن كان معناه في علمه وحكمه كما يقال: «هذه المسألة عند الشافعي كذا» ولا يراد به عندية المكان لتنزهه تعالى عن ذلك إلا أنه يفيد في الجملة تشريفا وأنه يليق بأهل الثواب. وقال الحسن:
يعود إلى من باء بسخط لأنه أقرب لأنهم متفاوتون في العذاب.
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن منها ضحضاحا وغمرا» «٢»
وقال: «إن أهون أهل النار عذابا رجل يحذى له نعلان من نار يغلي من حرهما دماغه ينادي يا رب وهل يعذب أحد عذابي» «٣»
والأوجه أن يكون عائدا إلى الكل، لأن درجات أهل الثواب متفاوتة، وكذا دركات أهل العقاب حسب تفاوت أعمال الخلق.
وقد تستعمل الدرجات في مراتب أهل النار كقوله: وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا [الأنعام:
١٣٢] وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ فيجازيهم بمقدارها.
قوله عز من قائل: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ في النظم وجوه منها: أن هذا الرسول نشأ فيما بينهم ولم يظهر منه طول عمره إلا الصدق والأمانة، فكيف يليق بمن هذا حاله الخيانة؟ ومنها كأنه تعالى قال: لا أكتفي في وصفه بأن أنزهه عن الخيانة ولكني أقول: إن وجوده فيكم من أعظم نعمي عليكم. ومنها أنكم كنتم خاملين جاهلين وإنما حصل لكم الشرف والعلم بسبب هذا الرسول، فالطعن فيه طعن فيكم. ومنها أن مثل هذا الرجل يجب على كل عاقل أن يعينه بأقصى ما يقدر عليه ويكون معه باليد واللسان والسيف والسنان، فيكون المقصود العود إلى ترغيب المسلمين في الجهاد. ومعنى المنّ هاهنا الإنعام على من لا يطلب الجزاء منه. والوجه في المنة إما أن يعود إلى أصل البعثة، وإما أن يعود إلى بعثة هذا الرسول. فمن الأول أن الخلق مجبولون على النقصان والجهالة، والنبي يورد عليهم
(٢) رواه مسلم في كتاب الإيمان حديث ٣٥٨.
(٣) رواه البخاري في كتاب الأنبياء باب ١، مسلم في كتاب الإيمان حديث ٣٦٢. الترمذي في كتاب جهنم باب ١٢. الدارمي في كتاب الرقاق باب ١٢١. أحمد في مسنده (٢/ ٤٣٢).
مِنْ أَنْفُسِهِمْ أي من جنس الإنس لا من الملك لأن الجنس إلى الجنس أميل. ويروى عن النبي ﷺ وعن فاطمة أنهما قرآ مِنْ أَنْفُسِهِمْ بفتح الفاء أي أشرفهم، وعلى هذا يكون المؤمنون عاما. ويحتمل أن يراد بهم العرب ويصح لأن عدنان ذروة ولد إسماعيل، ومضر ذروة نزار بن معد بن عدنان، وخندف ذروة مضر، ومدركة ذروة خندف، وقريش ذروة مدركة، وذروة قريش محمد صلى الله عليه وسلم. وأما سائر أوصافه من قوله: يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ فقد مر تفسيرها في البقرة عند قوله: رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا [البقرة: ١٢٩] وإعراب قوله: وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ كما سلف في قوله: وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً [البقرة: ١٤٣] ومعنى المنة فيه أن النعمة إذا وردت بعد المحنة كان موقعها أعظم. فبعثة هذا الرسول عقيب الجهل والذهاب عن الدين تكون أعم نفعا وأتم وقعا. ثم لما أجاب عن نسبة النبي ﷺ إلى الغلول، حكى عنهم شبهة أخرى وهي قولهم لو كان رسولا من عند الله ما انهزم عسكره وهو المراد بقوله: أَنَّى هذا وأجاب عنها بقوله:
قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ والواو في قوله أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ لعطف هذه الجملة الاستفهامية على ما قبلها من قصة أحد إلا أن حرف الاستفهام قدم على واو العطف لأن له صدر الكلام ولَمَّا ظرف قُلْتُمْ ومقول القول أَنَّى هذا. وأَصابَتْكُمْ في محل
روي عن علي رضي الله عنه أنه قال: جاء جبريل عليه السلام إلى النبي ﷺ يوم بدر فقال: يا محمد إن الله قد كره ما صنع قومك في أخذهم الفداء من الأسارى، وأمرك أن تخيرهم بين أن يقدموا الأسارى فيضربوا أعناقهم وبين أن يأخذوا الفداء على أن يقتل منهم عدتهم. فذكر رسول الله ﷺ ذلك لقومه فقالوا: يا رسول الله عشائرنا وإخواننا نأخذ الفداء منهم فنتقوى به على قتال العدو ونرضى أن يستشهد منا بعددهم. فقتل يوم أحد سبعون رجلا بعدد أسارى بدر.
فمعنى هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ هو بأخذكم الفداء واختياركم القتل.
وتمسك المعتزلة بالآية على أن للعبد اختيارا في الفعل والترك، وأنه من عند نفسه.
وعارضهم الأشاعرة بقوله: إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فإن فعل العبد من جملة الأشياء فيكون الله قادرا عليه. فلو وجد بإيجاد العبد امتنع من الله أن يقدر عليه إذ لا قدرة على إيجاد الموجود والحق أن وجود الواسطة لا ينافي انتهاء الكل إلى مسبب الأسباب ويؤيده قوله: وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ قال ابن عباس: أي وقع بقضائه وحكمه وفيه تسلية للمؤمنين لأن الرضا بالقضاء لازم. وقيل: بتخليته لأن الإذن مخل بين المأذون له ومراده، فاستعير الإذن للتخلية، وإن اعتبرتم المصالح فذاك قد وقع لِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ أي ليتميزوا عن أهل النفاق. وإنما لم يقل «وليعلم المنافقين» ليناسب المؤمنين لفظا لأن الغرض تصوير أنهم شرعوا في الأعمال اللائقة بالنفاق في ذلك الوقت وأحدثوها، ولأنه عطف على الصلة. وَقِيلَ لَهُمْ قال الأصم: هذا القائل رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان يدعوهم إلى
مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ [الصافات: ١١٧] فهذه الزيادة لا شك فيها. وقال الواحدي: فيه دليل على أن الآتي بكلمة التوحيد لا يكفر لأنه تعالى لم يظهر القول بتكفيرهم يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ أي لا يتجاوز الإيمان حناجرهم ومخارج الحروف منهم خلاف صفة المؤمنين في مواطأة قلوبهم ما نطقوا به من التوحيد وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ من بغض الإسلام والمسلمين وسائر مجاري أحوالهم فيما بينهم. وذلك أن المؤمنين قد علموا بعض ذلك بالقرائن والأمارات، وهو تعالى عالم بتفاصيل ذلك لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ [سبأ: ٣].
الَّذِينَ قالُوا منصوب على الذم أو على البدل من الَّذِينَ نافَقُوا أو مرفوع على الذم أي هم الذين، أو على البدل من ضمير يَكْتُمُونَ وقيل: يجوز أن يكون مجرورا بدلا من الضمير في بِأَفْواهِهِمْ أو قُلُوبِهِمْ لِإِخْوانِهِمْ لأجل إخوانهم المقتولين يوم أحد
وروي أنه مات يوم قالوا هذه المقالة سبعون منافقا.
جميع ذلك بناء على أن القتل أمر مكروه يجب على العاقل أن يتحرز منه لو أمكنه، لكنا لا نسلم ذلك وهو المراد بقوله: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً والخطاب للرسول أو لكل أحد. ومن قرأ على الغيبة فالضمير للرسول. أو المراد لا يحسبن حاسب أو لا يحسبنهم أمواتا. وضمير المفعول للذين قتلوا أي لا يحسبن الذين قتلوا أنفسهم أمواتا. فحذف المفعول الأوّل لدلالة الكلام عليه، فكأنه مذكور كما حذف المبتدأ في قوله: بَلْ أَحْياءٌ أي هم أحياء للدلالة.
عن ابن عباس قال: قال رسول الله ﷺ «لما أصيب إخوانكم بأحد جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها وتأوى إلى قناديل من ذهب معلقة في ظل العرش فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم ومقيلهم قالوا من يبلغ إخواننا عنا أنا في الجنة نرزق لئلا يزهدوا في الجهاد ولا ينكلوا عن الحرب فقال الله عز وجل أنا أبلغهم عنكم فأنزل هذه الآية» «١»
وعن جابر بن عبد الله قال: نظر إليّ رسول الله ﷺ فقال: ما لي أراك مهتما؟ قلت: يا رسول الله قتل أبي وترك دينا وعيالا. «فقال: ألا أخبرك ما كلم الله أحدا قط إلا من وراء حجاب وإنه كلم أباك كفاحا. فقال: يا عبدي سلني أعطك. فقال: أسألك أن تردّني إلى الدنيا فأقتل فيك ثانية. فقال: إنه قد سبق مني أنهم إليها لا يرجعون. فقال: يا رب فأبلغ من ورائي» «٢» فنزلت.
وقال جماعة من أهل التفسير: نزلت
(٢) رواه الترمذي في كتاب تفسير سورة آل عمران باب ١٨. ابن ماجه في كتاب المقدمة باب ١٣. كتاب الجهاد باب ١٦.
روي أنه لما أراد معاوية أن يجري العين إلى قبور الشهداء أمر بأن ينادي: من كان له قتيل فليخرجه من هذا الموضع. قال جابر: فخرجنا إليهم فأخرجناهم رطاب الأبدان فأصاب المسحاة أصبع رجل منهم فقطرت دما.
ومن هؤلاء من قال: المراد أنهم لا يغسلون كما لا يغسل الأحياء.
وذهبت طائفة من متكلمي المعتزلة إلى أن المراد أنهم سيصيرون أحياء والغرض تعذيب منكري المعاد، وزيف بأنه عدول عن الظاهر، وبأن عذاب القبر ثابت. فالثواب أولى. وبأنه نهى عن حسبانهم أمواتا والذي يزيل هذا الحسبان هو اعتقاد أنهم أحياء في الحال لا اعتقاد أنهم أحياء في يوم القيامة، فإن ذلك مما لا يشك النبي والمؤمنون فيه. وبما رويناه عن ابن عباس أن أرواحهم في أجواف طير. وبقوله: وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ والاستبشار بمن يكون في الدنيا لا بد أن يكون قبل يوم القيامة. وذهب كثير من المحققين إلى أنهم أحياء في الحال لكن بحياة روحانية، وأن أرواحهم تركع وتسجد كل ليلة تحت العرش إلى يوم القيامة. وذلك أن الإنسان ليس عبارة عن مجموع هذه البنية، لأن أجزاء البدن في الذوبان والانحلال ويعرض لها السمن والهزال والقوّة والكلال، وكلنا يجد من نفسه أنه شيء واحد من أول عمره إلى آخره والباقي مغاير للمتبدل. ولأن الإنسان يكون عالما بنفسه حالما يكون غافلا عن جميع أعضائه وأجزائه، والمعلوم مغاير لما ليس بمعلوم. ثم ذلك الشيء المغاير لهذا البدن المحسوس سواء كان جسما مخصوصا ساريا أو جوهرا مجردا لا يبعد أن ينفصل بعد موت البدن حيا أو أماته الله فيعيده حيا، وبهذا يثبت عذاب القبر وثوابه وتزول الشبهات. ومن تأمل في الأمور الواردة عليه وجد أحوال النفس مضادة لأحوال البدن، ووجد قوة أحدهما مقتضية لضعف الآخر، كما أن البدن يضعف وقت النوم وتقوى النفس على مشاهدة المغيبات ونقوش عالم الأرواح. وإذا أعرضت النفس عن الطعام والشراب وأقبلت على مطالعة العالم العلوي زادت سرورا وابتهاجا وفرحا وارتياحا، وانطبعت فيها الجلايا القدسية، وانكشفت لها المعارف الإلهية. وأكثر أرباب
إن النفس تبقى لها علاقة مع بدنها لا بالتحريك واكتساب الأعمال، ولكن بالتلذذ والتألم والتعقل ونحوها. وليس ببدع أن يتغير التعلق بحسب تغير الأطوار كما كان يتغير في مدّة العمر بحسب الأسنان والأمزجة. والتحقيق فيه أن النفس في هذا العالم جعلت متصرفة في البدن لأجل اكتساب الأعمال والملكات، وأنه يفتقر إلى تحريك الأعضاء وأعمال الجوارح والآلات، وبعد الموت تجعل متصرفة فيه من جهة الجزاء والحساب، فكيف ينبغي أن يقاس أحدهما على الآخر؟ فلعله يكفي بعد الموت أن يكون له علاقة التلذذ والتألم والإدراك فقط إلى أن تقوم القيامة الكبرى. وهذا القدر لا ينافي كون البدن مشاهدا في القبر من غير تحرك ولا إحساس ونطق، ويؤيده ما
روي أنه ﷺ وقف على قليب بدر وقال: يا فلان ابن فلان ويا فلان ابن فلان هل وجدتم ما وعدكم الله ورسوله حقا؟ فإني وجدت ما وعدني الله حقا. فقال عمر: يا رسول الله كيف تكلم أجسادا لا أرواح فيها؟ فقال: ما أنتم بأسمع لما أقول منهم غير أنهم لا يستطيعون أن يردّوا عليّ شيئا.
وفي حديث عذاب القبر «إنه ليسمع قرع نعالهم» «١»
ولعل السر في أنه اكتفى بهذا القدر من التصرف أنه إن كان أكثر من ذلك كما سيكون في القيامة الكبرى نافى تكليف سائر الأحياء وأفضى الأمر إلى الإلجاء وهو السر في آخر حديث عذاب القبر
«فيصيح صيحة يسمعها من يليه غير الثقلين» «٢»
وأما الشهداء فلا يبعد أن يجازيهم الله تعالى بمزيد التلذذ بنعيم الآخرة كما قتلوا تعجيلا للثواب. وكما عجلوا الانقطاع عن طيبات الدنيا ومشتهياتها فإن جزاء كل طائفة ينبغي أن يناسب عملهم. فافهم
(٢) رواه البخاري في كتاب الجنائز باب ٦٧، ٨٦. أبو داود في كتاب السنّة باب ٢٤. النسائي في كتاب الجنائز باب ١١٠. أحمد في مسنده (٢/ ٢٧٢، ٤٥٧)، (٣/ ١٢٦).
فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وهو توفيق الشهادة وما خصصهم به من التفضيل على غيرهم من قبل تعجيل رزق الجنة ونعيمها. وقال المتكلمون: الثواب منفعة خالصة دائمة مقرونة بالتعظيم. فقوله: يُرْزَقُونَ إشارة إلى المنفعة وقوله: فَرِحِينَ إشارة إلى الابتهاج الحاصل بسبب التعظيم. وبلسان الحكماء يُرْزَقُونَ إشارة إلى كون ذواتهم مشرقة بالمعارف الإلهية وفَرِحِينَ رمز إلى ابتهاجها بالنظر إلى ينبوع النور ومصدر الكمال، ويَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ بإخوانهم من المجاهدين الذين لم يقتلوا فيلحقوا بهم. والاستبشار السرور الحاصل بالبشارة. ومعنى مِنْ خَلْفِهِمْ أنهم بقوا بعدهم. وقيل لم يلحقوا بهم أي لم يدركوا فضلهم ومنزلتهم أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ بدل الاشتمال من «الذين». وذلك أن الله يبشرهم بأن من تركوا خلفهم من المؤمنين يبعثون امنين يوم القيامة، فهم مستبشرون بأنه لا خوف عليهم. وإنما بشرهم الله بذلك لأنهم لما فارقوا الدنيا بغتة كان ذلك مظنة أن يكون لهم نوع تعلق بأحوال إخوانهم وهو شبه تألم، فأكرمهم الله تعالى بإزالة ذلك التعلق بأن أعلمهم أمن إخوانهم من عذاب الله فحصل لهم سروران: من قبل حالهم في أنفسهم وذلك قوله: فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ ومن قبل حال إخوانهم وأعزتهم وذلك قوله وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ ثم كرر هذا المعنى لمزيد التأكيد فقال:
يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وهي الثواب. وفضل وهو التفضل الزائد وهذا هو سرورهم بسعادة أنفسهم. وَأَنَّ اللَّهَ أي وبأن الله لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ وهذا سرورهم بسعادة إخوانهم المؤمنين. ثم إنه تعالى مدح المؤمنين بغزوتين متصلتين بغزوة أحد تعرف أولاهما بغزوة حمراء الأسد، والثانية بغزوة بدر الصغرى. أما الأولى فما
روي أن أبا سفيان وأصحابه لما انصرفوا من أحد فبلغوا الروحاء ندموا وقالوا: إنا قتلنا أكثرهم ولم يبق منهم إلّا القليل. فلم تركناهم؟ فهموا بالرجوع فبلغ ذلك رسول الله، فأراد أن يرهب الكفار ويريهم من نفسه ومن أصحابه قوّتهم فندب أصحابه إلى الخروج في طلب أبي سفيان وقال:
لا أريد الآن أن يخرج معي إلا من حضر يومنا بالأمس. فخرج في سبعين من الصحابة حتى بلغوا حمراء الأسد- وهي من المدينة على ثمانية أميال- فألقى الله الرعب في قلوب
بإتيان جميع المأمورات وَاتَّقَوْا بالانتهاء عن المحظورات وأَحْسَنُوا في طاعة الرسول واتقوا مخالفته وإن بلغ الأمر بهم إلى الجراحات. روي أنه كان فيهم من يحمل صاحبه على عنقه ساعة. ثم كان المحمول يحمل الحامل ساعة أخرى، وكان فيهم من يتوكأ على صاحبه ساعة ويتوكأ عليه صاحبه ساعة. و «من» في قوله: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ للتبيين لأن الذين استجابوا لله والرسول قد أحسنوا كلهم واتقوا لا بعضهم.
وقال أبو بكر الأصم: نزلت في يوم أحد لما رجع النبي ﷺ بالناس بعد الهزيمة فشد بهم على المشركين حتى كشفهم، وكانوا قد هموا بالمثلة فدفعهم عنهم بعد أن مثلوا بحمزة، فصلى عليهم النبي ﷺ ودفنهم بدمائهم. وذكروا أن صفية جاءت لتنظر إلى أخيها حمزة فقال ﷺ للزبير:
ردّها لئلا تجزع من مثلة أخيها. فقالت: قد بلغني ما فعل به وذلك يسير في جنب طاعة الله تعالى. فقال للزبير: فدعها تنظر إليه، فقالت خيرا واستغفرت له. وجاءت امرأة أخرى قد قتل زوجها وأبوها وأخوها وابنها، فلما رأت الرسول ﷺ وهو حي قالت: إن كل مصيبة بعدك هدر.
وأما الثانية
فروى ابن عباس أن أبا سفيان لما عزم أن ينصرف من المدينة إلى مكة نادى: يا محمد موعدنا موسم بدر الصغرى القابل فنقتتل بها إن شئت. فقال ﷺ لعمر:
قل بيننا وبينك ذاك إن شاء الله. فلما حضر الأجل خرج أبو سفيان مع قومه حتى نزل مرّ الظهران، فألقى الله الرعب في قلبه فبدا له أن يرجع، فلقي نعيم بن مسعود الأشجعي وقد قدم معتمرا فقال: يا نعيم إني واعدت محمدا أن نلتقي بموسم بدر، وإن هذا عام جدب ولا يصلحنا إلا عام نرعى فيه الشجر ونشرب فيه اللبن، وقد بدا لي أن أرجع. ولكن إن خرج محمد ولم أخرج زاده ذلك جرأة فألحق بالمدينة وثبطهم ولك عندي عشر من الإبل. فخرج نعيم فوجد المسلمين يتجهزون فقال لهم: ما هذا بالرأي أتوكم في دياركم وقراركم فقتلوا أكثركم، فإن ذهبتم إليهم لم يرجع منكم أحد، فوقع هذا الكلام في قلوب قوم منهم.
فقال صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده لأخرجنّ إليهم وحدي. فخرج في سبعين راكبا وهم يقولون:
حسبنا الله ونعم الوكيل، إلى أن وصلوا إلى بدر الصغرى وهي ماء لبني كنانة وكانت موضع سوق لهم يجتمعون فيها كل عام ثمانية أيام. فلم يلق رسول الله ﷺ وأصحابه أحدا من المشركين. وكانت معهم تجارت ونفقات فوافوا السوق وباعوا ما معهم واشتروا بها أدما وزبيبا وربحوا وأصابوا بالدرهم درهمين، وانصرفوا إلى المدينة سالمين غانمين. ورجع أبو سفيان إلى مكة فسمى أهل مكة جيشه جيش السويق وقالوا: إنما خرجتم لتشربوا السويق وأنزل الله في المؤمنين الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ
يعني نعيم بن مسعود كما ذكرناه. وإنما عبر
فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ قول نعيم أو قول المثبطين إِيماناً لأنهم لم يسمعوا قولهم وأخلصوا عنده النية والعزم على الجهاد، وأظهروا حمية الإسلام فكان ذلك أثبت ليقينهم وأقوى لاعتقادهم. واستدل بالآية من قال: إن الطاعات داخلة في مسمى الإيمان وأنه يزيد وينقص بحسب زيادتها ونقصانها. وأما من قال: الإيمان عبارة عن نفس التصديق فتأويله أن الزيادة وقعت في ثمرات الإيمان، ولكنها جعلت في الإيمان مجازا. وقد مر تحقيق الكلام لنا في هذا المعنى في أوائل الكتاب. وكما أنهم أضمروا ذلك بحسب الاعتقاد وافقوا الخليل عليه السلام حين ألقي في النار فأظهروه باللسان وقالوا: حسبنا الله. وقد مر إعراب مثله في البقرة في قوله: فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ [البقرة: ٢٠٦]. وَنِعْمَ الْوَكِيلُ الكافي أو الكافل أو الموكول إليه هو. ثم عملوا بما اعتقدوه وقالوه فخرجوا فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وهي العافية وَفَضْلٍ وهو الربح بالتجارة، أو النعمة منافع الدنيا والفضل ثواب الآخرة. لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ لم يصبهم قتل ولا جراح. وصفهم بأنه حصل لهم الملائم ولم يحصل لهم المنافي وهذه غاية المطلب ونهاية الأماني، وإن ذلك ثمرة الإخلاص والتوكل على الله سبحانه وتعالى. ثم روي أنهم قالوا: هل يكون هذا غزوا؟ فقال تعالى: وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللَّهِ ليعلموا أن لهم ثواب المجاهدين حيث قضوا ما عليهم. ثم قال: وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ تنبيها على أن السبب الكلي في ثواب المطيعين هو فضل ربهم ورحمته عليهم ولم ينج أحدا عمله إلا أن يتغمده الله برحمته، فعلى المؤمن أن لا يثق إلا بالله ولا يخاف أحدا إلا إياه وذلك قوله: إِنَّما ذلِكُمُ المثبط هو الشَّيْطانُ لعتوّه وتمرده وإغوائه. ثم بين شيطنته بقوله: يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ أو الشيطان صفة اسم الإشارة، وهذه الجملة خبر والمفعول الأوّل محذوف أي يخوّفكم أولياءه فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فإن الإيمان يقتضي أن تؤثروا خوف الله على خوف الناس الذين هم أولياء المثبطين. والأولياء هم أبو سفيان وأصحابه. وقيل: الشيطان هو إبليس. وقيل: المضاف محذوف والتقدير إنما
التقدير يخوّفكم بأوليائه كقوله: وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ [الزمر: ٣٦] فحذف حرف الجر قاله الفراء والزجاج وأبو علي، وزيفه ابن الأنباري بأن التخويف قد يتعدى بنفسه إلى مفعولين فلا ضرورة إلى إضمار حرف الجر. الله حسبي.
التأويل:
قد ذكرنا أن النفس يبقى لها نوع تعلق ببدنها. فالآن نقول: إن روح الشهيد مخصوص بمزيد تعلق ببدنه جزاء له على تعجيب إذاقة مرارة الفراق عن الدنيا، ولهذا لا تبلى أجساد كثير منهم وتبقى غضة طرية وكأنهم هم الشهداء في الحقيقة، وهكذا أجساد الكاملين من النبيين والصديقين الذين قتلوا أنفسهم بسيوف الرياضات، ومطارف الأذكار، وأسنة ألسنة الطاعنين، وتجرع سموم مخالفات النفس، ومكايدة الشيطان حتى ماتوا بالإرادة وحيوا بالطبيعة. وليس كل تعلق بهذا العالم سببا للتألم بل بعضه سبب اللذة والابتهاج يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ [يس: ٢٦- ٢٧] وكما
ورد في حديث الشهداء «من يبلغ إخواننا عنا إنا في الجنة» والذي جاء فيه «إن أرواحهم في أجواف طير خضر» «١»
فلعل ذلك جزاء لهم على خروج الدم والأبخرة اللطيفة منهم ظلما. فمن الممكن أن يخلق الله تعالى من ذلك جسما لطيفا شبه طائر، ويكون لروح الشهيد به مزيد تعلق حتى تحركه ويطير حيث شاء من السماء والأرض وإلى الجنة بإذن الله تعالى. وأما كون الطير خضرا فإما لأن بدن الميت يميل إلى الخضرة، وإما أن يكون عبارة عن النضرة تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ [المطففين: ٢٤] وإما لأن حالهم بالنسبة إلى ما سيؤل إليه أهل الجنة والنار يوم القيامة كالمتوسط بين الحالين الذين يعبر عنهما بالبياض والسواد في قوله: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ [آل عمران: ١٠٦] وهذه المعاني ما وجدتها في كتب التفسير والتأويل، وأرجو أن أكون مصيبا فيها الغرض والله تعالى ورسوله أعلم بمرادهما.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٧٦ الى ١٨٩]
وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً يُرِيدُ اللَّهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٧٦) إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٧٧) وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (١٧٨) ما كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (١٧٩) وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١٨٠)
لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ سَنَكْتُبُ ما قالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (١٨١) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (١٨٢) الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٨٣) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جاؤُ بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتابِ الْمُنِيرِ (١٨٤) كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ (١٨٥)
لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (١٨٦) وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ (١٨٧) لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٨٨) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٨٩)
وَلا يَحْزُنْكَ من الأفعال حيث كان إلا قوله: لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ [الأنبياء: ١٠٣] نافع ومثله لَيَحْزُنُنِي [يوسف: ١٣] ولِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا [المجادلة:
١٠] وقرأ يزيد على ضده. الباقون: بفتح الياء وضم الراء. ولا خلاف في مثل يَحْزَنُونَ [البقرة: ٣٨] ولا تَحْزَنْ [الحجر: ٨٨] مما هو لازم. وَلا يَحْسَبَنَّ وثلاثة بعدها بالياء التحتانية مع ضم الباء في تَحْسَبَنَّهُمْ أبو عمرو وابن كثير، وقرأ حمزة كلها بتاء الخطاب، وقرأ أبو جعفر ونافع وابن عامر ويعقوب كلها بالتحتانية إلا قوله: فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ فإنها بالتاء وفتح الباء. الباقون: الأوليان على الغيبة والأخريان بالخطاب.
خفيف بفتح الياء وكسر الميم. يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ بياء الغيبة: ابن كثير ويعقوب وأبو عمرو لَقَدْ سَمِعَ وبابه مدغما: أبو عمرو وحمزة وعلي وخلف وهشام. سيكتب بضم الياء وفتح التاء وَقَتْلَهُمُ برفع اللام ويقول على الغيبة: حمزة الباقون: بالنون فيهما على التكلم. ونصب اللام في وَقَتْلَهُمُ وَبِالزُّبُرِ ابن عامر وَبِالْكِتابِ الحلواني عن هشام. الباقون: بغير إعادة الخافض فيهما. زُحْزِحَ عَنِ مدغما: شجاع وأبو شعيب من طريق العطار وابن مهران ليبيننه ولا يكتمونه بالياء فيهما لأنهم غيب: ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب غير رويس وأبو بكر وحماد. الباقون: بتاء الخطاب فيهما على حكاية مخاطبتهم.
الوقوف:
فِي الْكُفْرِ ج للابتداء بأن ولاحتمال إضمار اللام أو الفاء شَيْئاً ط فِي الْآخِرَةِ ج لعطف المختلفتين مع اتحاد مقصود الكلام عَظِيمٌ هـ شَيْئاً ج لما ذكر فِي الْآخِرَةِ ط أَلِيمٌ هـ لِأَنْفُسِهِمْ ط إِثْماً ج لما ذكر أيضا مُهِينٌ هـ مِنَ الطَّيِّبِ ط وَرُسُلِهِ ط عَظِيمٌ هـ خَيْراً لَهُمْ ط شَرٌّ لَهُمْ ط الْقِيامَةِ ط وَالْأَرْضِ ط خَبِيرٌ هـ أَغْنِياءُ م لئلا يصير ما بعده من مقولهم، ومن قرأ بضم الياء فوقفه مطلق. بِغَيْرِ حَقٍّ ج لمن قرأ ويقول بالياء لأن التقدير: ويقول الله أو يقول الزبانية فلا ينعطف على قوله: سَنَكْتُبُ مع اتساق المعنى. الْحَرِيقِ هـ لِلْعَبِيدِ ج هـ لاحتمال الصفة وأن يكون المراد هم الذين، والوقف أولى لأنه لا يظلم العبيد مطلقا لا العبيد الموصوفة. نعم لو كان بدلا من الذين قالوا إن الله فقير صح تَأْكُلُهُ النَّارُ ط صادِقِينَ هـ الْمُنِيرِ هـ الْمَوْتِ ط يَوْمَ الْقِيامَةِ ط لابتداء شرط في أمر معظم.
فَقَدْ فازَ ط الْغُرُورِ هـ كَثِيراً ط الْأُمُورِ هـ وَلا تَكْتُمُونَهُ ز لأن الجملتين وان اتفقتا لم يكن النبذ متصلا بأخذ الميثاق فلم يضف إلى ظرف «إذ». قَلِيلًا ط يَشْتَرُونَ هـ مِنَ الْعَذابِ ج لما ذكر. أَلِيمٌ هـ وَالْأَرْضِ ط قَدِيرٌ هـ.
التفسير:
نزلت في كفار قريش وإنه تعالى جعل رسوله آمنا من شرهم وأتاح العاقبة له وإن جمعوا الجموع وجهزوا الجيوش حتى يظهر هذا الدين على الأديان كلها. وقيل في المنافقين ومسارعتهم هي أنهم كانوا يخوّفون المؤمنين بسبب واقعة أحد، ويؤيسونهم من النصر والظفر، وربما يقولون: إن محمدا لطالب ملك فتارة يكون الأمر له وتارة يكون عليه، ولو كان رسولا ما غلبه أحد.
وقيل: إن قوما من الكفار أسلموا ثم ارتدوا خوفا من قريش، فاغتم النبي ﷺ لذلك فبيّن الله تعالى أن ردتهم لا تؤثر في لحوق ضرر بك.
ونصر بعضهم هذا القول بأن المسارعة وهي شدة الرغبة في الكفر إنما تناسب من كفر بعد الإيمان
ومن كان عقله هذا القدر- وهو أن يبيع بالقليل من الدنيا السعادة الكثيرة في الآخرة- كان في غاية الحماقة، ومثله لا يقدر على إلحاق الضرر بالغير. ولو قيل: إن الآية في المرتدين فالمعنى أن اختيار دين بعد دين ثم الارتداد على العقبين يدل على الاضطراب وضعف الرأي، والإنسان المضطرب الحال لا قدرة له على إيصال الضرر إلى الغير. ثم بين أن بقاء المنافقين المتخلفين عن الجهاد والكفار الذين بقوا بعد شهداء أحد لا خير فيه فقال: وَلا يَحْسَبَنَّ من قرأ بالياء فقوله: الَّذِينَ كَفَرُوا فاعل، و «أن» مع ما في حيزه ساد مسد مفعوليه. ومن قرأ بتاء الخطاب ف الَّذِينَ كَفَرُوا مفعول أول و «أن» مع ما في حيزه بدل منه. وصح الإبدال وإن لم يمض إلا أحد المفعولين لأن المبدل في حكم المنحي. ألا تراك تقول: جعلت متاعك بعضه فوق بعض. مع امتناع السكوت على متاعك؟ والتقدير: ولا تحسبن الذين كفروا أن إملائي خير لهم على أن «ما» مصدرية. ويجوز أن يقدر مضاف محذوف أي لا تحسبنهم أصحاب أن الإملاء خير لهم، أو لا تحسبن حال الذين كفروا أن الإملاء خير لأنفسهم. قال الأصمعي: يقال أملى عليه الزمان أي طال. وأملى له أي طوّل له وأمهله. قال أبو عبيدة: ومنه الملا للأرض الواسعة الطويلة، والملوان الليل والنهار.
ويقال: أقمت عنده ملاوة من الدهر أي حينا وبرهة. وإِثْماً نصب على التمييز. وفي
والآية دلت على أنها ليست بخير ففيه دلالة على أنه سبحانه فاعل الخير والشر. وأيضا إنه نص على أن الغرض من هذا الإملاء، أن يزدادوا إثما، فإذن الكفر والمعاصي بإرادة الله.
وأيضا أخبر عنهم أنه لا خير لهم فيه وأنهم لا يحصلون منه إلا على ازدياد الغي والإثم، والإتيان بخلاف خبر الله تعالى محال، فعلمنا أنهم مجبورون على ذلك في صورة مختارين.
أجابت المعتزلة بأن المراد أن هذا الإملاء ليس خيرا من موت الشهداء إذ الآية من تتمة قصة أحد، لا أنه ليس بخير مطلقا. وزيف بأن بناء المبالغة لا يجوز ذكره إلا مع المفضل عليه، لكنه لم يذكر فعلمنا أنه لنفي الخيرية لا لنفي كونه خيرا من شيء آخر، وعن الثاني أن ازدياد الإثم علة للإملاء وليس كل علة بغرض كقولك: قعدت عن الغزو للعجز والفاقة. ومثله وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلُّوا [إبراهيم: ٣٠] وهم ما فعلوا ذلك إلا ضلال. ويقال: ما كانت موعظتي لك إلا للزيادة في تماديك في الغي إذا كانت عاقبة الموعظة ذلك. ورد بأن حمل اللام على لام العاقبة عدول عن الظاهر، على أنا نعلم بالبرهان أن علمه تعالى بأنهم مزدادون إثما على تقدير الإمهال علة فاعلية لازديادهم إثما فكان تعالى فاعلا للازدياد ومريدا له. قالوا: في الكلام تقديم وتأخير وترتيبه: لا يحسبن الذين كفروا إنما نملي لهم ليزدادوا إثما إنما نملي لهم خير لأنفسهم. ويعضده قراءة يحيى بن وثاب بكسر «إن» الأولى وفتح الثانية. وردّ بأن التقديم والتأخير خلاف الأصل، والقراءة الشاذة لا اعتداد بها مع أن الواحدي أنكرها. ثم إنه تعالى أخبر أنه لا يجوز في حكمته أن يترك المؤمنين على ما هم عليه من اختلاط المخلص بالمنافق، ولكنه يعزل أحد الجنسين عن الآخر بإلقاء الحوادث وإبداء الوقائع كما في قصة أحد.
لله در النائبات فإنها | صدأ اللئام وصيقل الأحرار |
وفي الحديث «من ماز أذى عن الطريق فهو له صدقة وحجة» «١»
ولفظ الطيب والخبيث وإن كان مفردا إلا أنه للجنس والمراد جميع
رواه أحمد في مسنده (٤/ ٤٢٢، ٤٢٣) بلفظ «أمز الأذى عن الطريق» عند ما طلب منه أبو برزة أن يحدثه بشيء ينفعه الله به.
بإعلاء كلمة الدين وقلة شوكة المخالفين ليظهره على الدين كله. وقيل: بالوحي إلى نبيه ولهذا أردفه بقوله: وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي أي يصطفي ويختار مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ وبناء الكلام على ثلاث مراتب: الأولى أن هذا المنصب الذي استأثر الله تعالى بعلمه لا يليق بكل أحد منكم، وإنما هو مخصوص بالمصطفين من عبيده. الثانية أن الرسول أيضا لا يعلم المغيبات بأن يطلع عليها من تلقاء نفسه وبخاصية فيه، ولكنه إنما يعلم ذلك من طريق الوحي وإطلاع الله تعالى إياه عليه أن هذا مؤمن وذاك منافق. الثالثة أن هذا أيضا مختص ببعض الرسل وفي بعض الأوقات حسب مشيئته وإرادته. فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ومن جملة الإيمان بالله أن تعتقدوه وحده علاما للغيوب، ومن جملة الإيمان بالرسل أن تنزلوهم منازلهم بأن تعلموهم عبيدا مصطفين لا يعلمون من الغيب إلا ما علمهم الله تعالى. ووجه النظم على القول الأول: لا تظنوا أن هذا التمييز يحصل بأن يطلعكم الله على غيبه ويقول إن فلانا مؤمن وفلانا منافق، فإن سنة الله جارية بأنه لا يطلع العوام على غيبه ولا يكون لهم سبيل إلى معرفة الأمور إلا بالامتحان والقرائن المفيدة للظن الغالب، ولكنه يصطفي من رسله من يشاء، فيعلمهم أن هذا مؤمن وذاك منافق ويختارهم للرسالة ووضع التكاليف الشاقة التي بمثلها يتميز الفريقان ويخلص أهل الوفاء من أهل الجفاء. أو المراد ما كان الله ليطلعكم كلكم عالمين بالغيب من حيث يعلم الرسول حتى تصيروا مستغنين عن الرسول، ولكنه يخص من يشاء بالرسالة ثم يكلف الباقين طاعة هؤلاء الرسل، فآمنوا بالله ورسله كلهم، لأن طريق ثبوت نبوّتهم واحد، فمن أقر بنبوّة واحد منهم لزمه الإقرار بنبوّة كلهم. ثم اتبعه الوعد بالثواب فقال: وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ
قال السدي: قال رسول الله ﷺ «عرضت عليّ أمتي في صورها كما عرضت على آدم وأعلمت من يؤمن بي ومن يكفر» فبلغ ذلك المنافقين فاستهزؤا فقالوا: زعم محمد أنه يعلم من يؤمن به ومن يكفر ونحن معه ولا يعرفنا فأنزل الله ما كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ.
وقال الكلبي: قالت قريش: تزعم يا محمد أن من خالفك فهو في النار والله عليه غضبان، وأن من اتبعك على دينك فهو من أهل الجنة والله عنه راض، فأخبرنا بمن يؤمن بك وبمن لا يؤمن بك فنزلت.
وقال أبو العالية: نزلت حين سأل المؤمنون أن يعطوا علامة يفرقون بها بين المؤمن والمنافق.
وعلى هذا التفسير فمعنى سَيُطَوَّقُونَ أن الله تعالى يجعل في رقابهم طوقا من النار
كقوله صلى الله عليه وسلم: «من سئل عن علم يعلمه فكتمه ألجم بلجام من نار» «١»
والسر فيه أنهم لم ينطقوا بأفواههم وألسنتهم بما يدل على الحق. وعلى التفسير الأول فإما أن يكون محمولا على ظاهره وهو أن يجعل ما بخل به من الزكاة حية يطوّقها في عنقه تنهشه من قرنه إلى قدمه وتنقر رأسه ويقول: أنا مالك.
عن ابن مسعود عن النبي ﷺ «ما من رجل له مال لا يؤدي حق ماله إلا جعل طوقا في عنقه شجاعا أقرع يفر منه وهو يتبعه» «٢». ثم قرأ مصداقه من كتاب الله عز وجل ولا تحسبن الذين يبخلون الآية.
وعن ابن عمر قال: قال صلى الله عليه وسلم: «إن الذين لا يؤدي زكاة ماله يخيل إليه ماله يوم القيامة شجاعا أقرع له زبيبتان فيلزمه أي يطوّقه يقول: أنا كنزك» «٣»
وأما أن يكون على طريق التمثيل لا على أن ثمة أطواقا أي سيلزمون إثمه في الآخرة إلزام الطوق. وفي أمثالهم «يقلدها طوق الحمامة». إذا جاء بهنة يسب بها ويذم. وقال مجاهد: معناه سيكلفون أن يأتوا بما بخلوا به يوم القيامة. ونظيره ما روي عن
(٢) رواه النسائي في كتاب الزكاة باب ٢.
(٣) رواه البخاري في كتاب الزكاة باب ٣. ابن ماجه في كتاب الزكاة باب ٢. أحمد في مسنده (١/ ٣٧٧).
يكلفونه ولا يطيقونه أي يؤمرون بأداء ما منعوه حتى لا يمكنهم الإتيان به فيكون ذلك توبيخا على معنى هلا فعلتم ذلك حين كان ممكنا؟ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وله ما فيهما مما يتوارثه أهلهما من مال وغيره. فمالهم يبخلون عليه بملكه ولا ينفقونه في سبيله؟ ونظيره قوله: وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ [الحديد: ٧] وقال كثير من المفسرين:
المقصود أنه يبطل ملك جميع المالكين إلا ملك الله فيصير كالميراث. قال ابن الأنباري:
يقال ورث فلان علم فلان إذا تفرد به بعد أن كان مشاركا له فيه. ومثله وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ [النمل: ١٦] أي انفرد بذلك الأمر بعد أن كان داود مشاركا له فيه أو غالبا عليه وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ من قرأ على الغيبة فظاهر، أي يجازيهم على منعهم الحقوق. ومن قرأ على الخطاب فللالتفات وهي أبلغ في الوعيد لأن الغضب كأنه تناهى إلى حد أقبل على الخطاب وشافه بالعتاب. ثم شرع في حكاية شبه الطاعنين في نبوة محمد صلى الله عليه وسلم. وذلك أنه لما أمر بالإنفاق في سبيل الله قالوا: لو كان محمد صادقا في أن الله تعالى يطلب منا المال فهو إذن فقير ونحن أغنياء، لكن الفقر على الله محال فمحمد غير صادق. وأيضا لو كان نبيا لكان إنما يطلب المال لأجل أن تجيء نار من السماء فتحرقه كما كان في الأزمنة السالفة، فلما لم يفعل ذلك عرفنا أنه ليس بنبي. فهذا بيان النظم وليس في الآية تعيين القائلين إلا أن العلماء نسبوا هذا القول إلى اليهود لعنهم الله لقولهم في موضع آخر يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ [المائدة: ٦٤] عنوا أنه بخيل. وذلك الجهل يناسب هذا الجهل، ولأن التشبيه غالب عليهم، والقائل بالتشبيه لا يمكنه إثبات كونه تعالى قادرا على كل المقدورات، وإذا عجز عن إثبات هذا الأصل عجز عن بيان أنه غني، ولما
روى عكرمة ومحمد بن إسحق والسدي ومقاتل أن رسول الله ﷺ كتب مع أبي بكر إلى يهود بني قينقاع يدعوهم إلى الإسلام وإلى إقام الصلاة وإيتاء الزكاة وأن يقرضوا الله قرضا حسنا. فقال فنحاص بن عازوراء- وهو من علمائهم- أتزعم أن ربنا يستقرضنا أموالنا فهو إذن فقير ونحن أغنياء، فغضب أبوبكر ولطمه في وجهه وقال: لولا الذي بيننا وبينكم من العهد لضربت عنقك. فذهب فنحاص إلى رسول الله ﷺ وقال: يا محمد انظر ما صنع بي صاحبك. فقال رسول الله ﷺ لأبي بكر: ما الذي حملك على ما صنعت؟ فقال: يا رسول الله إن عدوّ الله قال هكذا. فجحد ذلك فنحاص فنزلت هذه الآية تصديقا لأبي بكر.
وأيضا إن موسى لما طلب منهم الجهاد ببذل النفوس قالوا له: اذهب أنت وربك فقاتلا. فلا يبعد أن محمدا ﷺ لما طلب منهم الأموال قالوا له: لو كان الإله غنيا فأي حاجة إلى أموالنا. ثم إن القائل لو كان فنحاصا وحده فإنما
ثم إنه تعالى لم يجبهم عن شبهتهم. أما على قواعد أهل السنة فبأن يقول يفعل الله ما يشاء ويحكم ما يريد، فلا يبعد أن يأمر عبيده ببذل الأموال مع كونه أغنى الأغنياء. وأما على قوانين المعتزلة فبأن في هذا التكليف فوائد منها: إزالة حب المال عن القلب، ومنها التوسل إلى الثواب المخلد، ومنها تسخير البعض للبعض فبذلك ترتبط أمور التمدن وتنتظم أحوال صلاح المعاش والمعاد وإنما لم يجب لكثرة ورودها في القرآن لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [آل عمران: ٩٢] مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً [البقرة: ٢٤٥] وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ [البقرة: ٢٧٢] ولأن وجوب الوجود عبارة عن الغنى المطلق حتى لا يحتاج في ذاته ولا في شيء من صفاته ولا بجهة من جهاته إلى ما سوى ذاته. فمن اعترف بوجوب وجوده ثم شك في كمال غناه في وجوده فقد عاد بالنقض على موضوعه فلا يستحق الجواب عند أولي الألباب، وإنما يستأهل صنوفا من العتاب وضروبا من العذاب. فلهذا قال على جهة الوعيد سَنَكْتُبُ ما قالُوا في صحائف الحفظة، أو نستحفظه ونثبته في علمنا لا ننساه كما يثبت المكتوب فلا ينسى. وفي التفسير الكبير: سنكتب عنهم هذا الجهل في القرآن حتى يبقى على لسان الأمة إلى يوم القيامة. ثم عطف عليه قتلهم الأنبياء ليدل على أنهم كما لو يقدروا الله حق قدره حتى نسبوا إليه ما نسبوه، فكذلك لم يقضوا حقوق الأنبياء ففعلوا بهم ما فعلوا. وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ وهو من أسماء جهنم. «فعيل» بمعنى «مفعول» كالأليم بمعنى المؤلم. أو سميت باسم صاحبها أي ذات حرقة. والمعنى: ينتقم منهم فيقول لهم ذوقوا عذاب النار كما أذقتم المسلمين جرع الغصص. وهذا القول يحتمل أن يقال عند الموت، أو عند الحشر، أو عند قراءة الكتب. ويحتمل أن يكون كناية عن الوعيد وإن لم يكن ثمة قول. ذلِكَ العذاب أو الوعيد بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ من السب والقتل. وذكر الأيدي لأن أكثر الأعمال يباشر باليد، فجعل كل عمل كالواقع بالأيدي على سبيل التغليب وإن كان بعضه باللسان أو بسائر الجوارح والآلات. وإنما جمع لأن المخاطب جمع ولو كان مفردا. قيل: بما قدمت يداك مثنى كما في سورة الحج. قال الجبائي: قوله: وَأَنَّ اللَّهَ أي وبأن الله ليس بظلام للعبيد، فيه دلالة على أن فعل العقاب بهم كان يكون ظلما بتقدير أن لا يقع منهم الذنوب. وفيه بطلان قول المجبرة أن الله يعذب الأطفال بغير جرم ويجوز أن يعذب البالغين بغير ذنب، ويدل على كون العبد فاعلا وإلا لكان الظلم حاصلا. والجواب أنه لم ينف الظلم عن نفسه بمعنى أن الجزاء إنما كان مرتبا على الذنب الصادر بكسب العبد وفعله فلا ظلم، بل بمعنى
قال الكلبي: نزلت في كعب بن الأشرف ومالك بن الصيف ووهب بن يهودا وزيد بن التابوت وفنحاص بن عازوراء وحيي بن أخطب، أتوا رسول الله ﷺ فقالوا: تزعم أن الله بعثك إلينا رسولا، وأنزل عليك الكتاب، وإن الله قد عهد إلينا في التوراة أن لا نؤمن لرسول يزعم أنه جاء من عند الله حتى يأتينا بقربان تأكله النار، فإن جئتنا به صدقناك فنزلت.
قال عطاء: كانت بنو إسرائيل يذبحون لله فيأخذون الثروب وأطايب اللحم فيضعونها في وسط بيت والسقف مكشوف، فيقوم النبي في البيت ويناجي ربه وبنو إسرائيل خارجون واقفون حول البيت، فتنزل نار بيضاء لها دوي وحفيف ولا دخان لها فتأكل ذلك القربان وهو البر الذي يتقرب به إلى الله. وأصله مصدر كالكفران والرجحان. ثم سمي به نفس المتقرب به إلى الله ومنه
قوله عليه السلام لكعب بن عجرة: «يا كعب، الصوم جنة والصلاة قربان» «١»
أي بها يتقرب إلى الله ويستشفع في الحاجة لديه. وللعلماء فيما ادعاه اليهود قولان: قال السدي: إن هذا الشرط جاء في التوراة مع الاستثناء. قال: من جاءكم يزعم أنه رسول الله فلا تصدقوه حتى يأتيكم بقربان تأكله النار إلا المسيح ومحمدا. فكانت هذه العادة جارية إلى مبعث المسيح ثم زالت. وقيل: إنه افتراء لأن المعجزات كلها في كونها خارقة للعادة وآية لصحة النبوة سواء، فأي فائدة في تخصيصها؟ ولأنه إما أن يكون في التوراة أن مدعي
وذلك أن القوم يحتمل أن يقولوا إن الإتيان بهذا القربان شرط للنبوة لا موجب لها، والشرط يلزم من عدمه عدم المشروط لكن لا يلزم من وجوده وجود المشروط. فلو اكتفى بذكر القربان لم يتم الإلزام، وحيث أضاف إليه البينات ثبت أنهم أتوا بالموجب وبالشرط جميعا، فكان الإقرار بالنبوة واجبا. ثم سلى رسوله بقوله: فَإِنْ كَذَّبُوكَ في أصل الشريعة والنبوة أو في قولك إن الأنبياء الأقدمين جاؤهم بالبينات وبالقربان فقتلوهم. فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وأي رسل والمصيبة إذا عمت طابت جاؤُ بِالْبَيِّناتِ وهي الحجج الواضحات والمعجزات الباهرات. والزبر هي الصحف جمع زبور بمعنى مزبور أي مكتوب. وقال الزجاج: الزبور كل كتاب ذي حكمة فيشبه أن يكون من الزبر بمعنى الزجر عن خلاف الحق وبه سمي زبور داود لما فيه من الزواجر والمواعظ والكتاب المنير الموضح أو الواضح المستنير. ويعلم من عطف الزبور والكتاب على البينات، أن معجزاتهم كانت مغايرة لكتبهم، وأنها لم تكن معجزة لهم والإعجاز من خواص القرآن. وعطف الكتاب المنير على الزبر لأن الكتاب بوصفه بالإثارة أو الاستنارة أشرف من مطلق الزبر فخص بعد العموم لشرفه مثل وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ [البقرة: ٩٨] وقيل: المراد بالزبر الصحف، وبالكتاب المنير التوراة والإنجيل والزبور.
ثم أكد التسلية بقوله: كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ لأن تذكر الموت واستحضاره مما يزيل الغموم والأشجان الدنيوية، وكذا العلم بأن وراء هذه الدار دارا يتميز فيها المحسن عن المسيء، ويرى كل منهما جزاء عمله. والمراد بكل نفس ذائقة الموت كل ذات. فالقضية لا يمكن إجراؤها على عمومها لاستثناء الله تعالى منها تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ [المائدة: ١١٦] وكذا كل الجمادات لأن لها ذوات. ولقوله: فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ [الزمر: ٦٨] ولأنه لا موت ولا لأهل الجنة ولأهل النار. فالمراد المكلفون الحاضرون في دار التكليف، والملائكة عند من يجوّز الموت عليهم. روي عن ابن عباس: لما نزل قوله تعالى: كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ [الرحمن:
والأرواح المجردة لا موت لها، وناقشهم المسلمون فيه. وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ في ذكر التوفية إشارة إلى أن بعض الأجور يعطى قبل ذلك اليوم كما
قال صلى الله عليه وسلم: «القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار».
فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ الزح التنحية والإبعاد والزحزحة تكريره فَقَدْ فازَ لم يقيد الفوز بشيء لأنه لا فوز وراء هذين الأمرين:
الخلاص من العذاب والوصول إلى الثواب. فمن حصل له هذان فقد فاز الفوز المطلق المتناول لكل ما يفاز به.
قال صلى الله عليه وسلم: «من أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتدركه منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر ويأتي إلى الناس ما يحب أن يؤتى إليه» «١»
فالأول رعاية حقوق الله، والثاني محافظة حقوق العباد. ثم شبه الدنيا بالمتاع الذي يدلس به على المستام ويغرّ حتى يشتريه ثم يتبين له فساده ورداءته، وذلك أن لذاتها تفنى وتبعاتها تبقى. والغرور بالضم مصدر، والغار المدلس هو الشيطان.
عن علي بن أبي طالب: لين مسها قاتل سمها.
وعن بعضهم: الدنيا ظاهرها مظنة السرور وباطنها مطية الشرور. وعن سعيد بن جبير: إنما هذا المن آثرها على الآخرة. فأما من طلب الآخرة بها فإنها متاع بلاغ. لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ
اللام جواب القسم المقدر، والنون دخلت مؤكدة، وضمت الواو للساكنين ولما كان يجب لما قبلها من الضم. والمراد ما نالهم من الفقر والضر والقتل والجرح، والتكاليف الشاقة البدنية والمالية من الصلاة والزكاة والصوم والجهاد، والذي كانوا يسمعونه من الكفرة كالطعن في الدين الحنيف وأهليه، وإغراء المخالفين وتحريضهم عليهم وإغواء المنافقين وتنفيرهم عنهم وَإِنْ تَصْبِرُوا على ما ابتلاكم الله به وَتَتَّقُوا المخالفة أو تصبروا على أداء الواجبات وتتقوا ارتكاب المحظورات فَإِنَّ ذلِكَ الصبر والتقوى مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ من معزوماتها الذي لا يترخص العاقل في تركه لكونه حميد العاقبة بين الصواب، أو هو من
روي أن رسول الله ﷺ ركب على حمار وأردف أسامة بن زيد وراءه يعود سعد بن عبادة في بني الحرث بن خزرج قبل وقعة بدر حتى مر بمجلس فيه عبد الله بن أبي وذلك قبل أن يسلم عبد الله. فإذا في المجلس أخلاط من المسلمين والمشركين واليهود، وفي المجلس عبد الله بن رواحة. فلما غشيت المجلس عجاجة الدابة خمر عبد الله بن أبي أنفه بردائه وقال: لا تغبروا علينا. فسلم رسول الله ﷺ ثم وقف. فنزل ودعاهم إلى الله وقرأ عليهم القرآن. فقال عبد الله بن أبي: أيها المرء إنه لا أحسن مما تقول إن كان حقا فلا تؤذنا به في مجالسنا. ارجع إلى رحلك فمن جاءك فاقصص عليه. فقال عبد الله بن رواحة: بلى يا رسول الله فاغشنا به في مجالسنا فإنا نحب ذلك.
فاستب المسلمون والمشركون واليهود حتى كادوا يتثاورون. فلم يزل النبي ﷺ يخفضهم حتى سكنوا. ثم ركب النبي ﷺ دابته فسار حتى دخل على سعد بن عبادة فقال له: يا سعد ألم تسمع ما قال أبو حباب- يريد عبد لله بن أبي؟ قال: كذا وكذا. فقال سعد بن عبادة: يا رسول الله اعف عنه واصفح، فو الذي أنزل عليك الكتاب لقد جاء الله بالحق الذي نزل عليك، وقد اصطلح أهل هذه البحيرة على أن يتوّجوه ويعصبوه بالعصابة، فلما ردّ الله ذلك بالحق الذي أعطاكه شرق بذلك فعفا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنزل الله هذه الآية.
ثم إنه تعالى عجب من حال اليهود أنه كيف يليق بحالهم إيراد الطعن في نبوته مع أن كتبهم ناطقة به- وأيضا من جملة إيذائهم الرسول أنهم كانوا يكتمون نعته وصفته فلهذا قال: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ بإضمار «اذكر» والضمير في لَتُبَيِّنُنَّهُ قيل لمحمد لأنه معلوم وإن كان غير مذكور أي لتبينن حاله وهذا قول سعيد بن جبير والسدي. وقال الحسن وقتادة: يعود إلى الكتاب كأنه أكد عليهم إيجاب بيان الكتاب واجتناب كتمانه كما يؤكد على الرجل إذا عزم عليه. وقيل له الله لتفعلن وَلا تَكْتُمُونَهُ قيل: الواو للحال أي غير كاتمين. ويحتمل أن تكون للعطف وإن لم يكن مؤكدا بالنون. والأمر بالبيان يتضمن النهي عن الكتمان، لكنه صرح به للتأكيد فَنَبَذُوهُ
وعن علي رضي الله عنه: ما أخذ الله على أهل الجهل أن يتعلموا حتى أخذ على أهل العلم أن يعلموا.
وقال قتادة: مثل علم لا يقال به كمثل كنز لا ينفق منه، ومثل حكمة لا تخرج كمثل صنم قائم لا يأكل ولا يشرب. طوبى لعالم ناطق ولمستمع واع، هذا علم علما فبذله، وهذا سمع خيرا فوعاه.
ومعنى قوله: وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا أنهم كتموا الحق ليتوسلوا به إلى وجدان حظ يسير من الدنيا فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ هو ويدخل في الوعيد كل من كتم شيئا من أمر الدين لغرض فاسد من تسهيل على الظلمة وتطييب لنفوسهم واستجلاب لمسارّهم واستجذاب لمبارّهم، أو لتقية من غير ضرورة، أو لبخل بالعلم وغيرة أن ينسب إلى غيره. ثم ذكر نوعا آخر من إيذاء اليهود وأوعدهم عليه وسلى رسوله بذلك فقال: لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ من قرأ بتاء الخطاب وفتح الباء فالخطاب للرسول أو لكل أحد، وأحد المفعولين الَّذِينَ يَفْرَحُونَ والثاني بِمَفازَةٍ. وقوله: فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ إعادة للعامل لطول الكلام وإفادة التأكيد. ومن ضم الباء في الثاني مع تاء فالخطاب للمؤمنين، ومن ضمها مع ياء الغيبة فالضمير للذين يفرحون، والمفعول الأول محذوف أي لا يحسبن أنفسهم الذين يفرحون فائزين، والثاني للتأكيد. ومعنى بِما أَتَوْا بما فعلوا. وأتى وجاء يستعملان بمعنى فعل. قال تعالى: إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا [مريم: ٦١] لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا [مريم: ٢٧]. ومعنى بمفازة من العذاب بمنجاة منه أي بمكان الفوز. وقال الفراء: أي ببعد منه لأن الفوز التباعد عن المكروه. في الصحيحين أن مروان قال لرافع أبوابه: اذهب إلى ابن عباس وقل له: لئن كان كل امرئ منا فرح بما أتى وأحب أن يحمد بما لم يفعل معذبا لنعذبن أجمعون. فقال ابن عباس: ما لكم ولهذه إنما دعا النبي ﷺ يهودا فسألهم عن شيء فكتموه إياه وأخبروه بغيره، فأروه أن قد استحمدوا إليه بما أخبروه عنه وفرحوا بما أتوا من كتمانهم إياه، ثم قرأ ابن عباس وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ الآيتين. وقال الضحاك: كتب يهود المدينة إلى يهود العراق واليمن ومن بلغهم كتاب من اليهود في الأرض كلها أن محمدا ليس نبي الله فأثبتوا على دينكم واجمعوا كلمتكم على ذلك. فاجتمعت كلمتكم على الكفر بمحمد والقرآن، ففرحوا بذلك وقالوا: الحمد لله الذي جمع كلمتنا ولم نتفرق ولم نترك ديننا ونحن أهل الصوم والصلاة، نحن أولياء الله. فذلك قول الله يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا
بما فعلوا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فأنزل الله هذه الآية. يعني بما ذكروا من الصوم والصلاة والعبادة. وعن أبي سعيد الخدري أن رجالا من المنافقين كانوا إذا خرج رسول الله ﷺ إلى الغزو تخلفوا عنه، فإذا قدم اعتذروا عنده وحلفوا وأحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا فأنزل الله هذه الآية. وهذه الوجوه كلها مشتركة في الإتيان بما لا ينبغي ومحبة
التأويل:
هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ كل واحد من صفتي البخل والسخاء بمنزلة الإكسير حتى يجعل الخير شرا وبالعكس. سَيُطَوَّقُونَ شبه بالطوق لأنه يحيط بالقلب ومنه ينشأ معظم الصفات الذميمة كالحرص والحسد والحقد والعداوة والكبر والغضب والبخل
«حب الدنيا رأس كل خطيئة».
وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الإنسان وارث الدنيا والآخرة أولئك هم الوارثون. والوارث إذا مات من غير وارث فميراثه لبيت المال. فالإشارة فيه أن من غلب عليه هذه الصفات ومات قلبه فقد بطل استعداد وراثته فميراثه لله إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ فيه أن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى، فيعكس القضايا فيصف الرب بصفات العبد والعبد بصفات الرب وذلك لغلبة الصفات الذميمة واستيلاء سلطان الهوى والشيطان، فيقول تارة: أنا ربكم الأعلى، وتارة إن الله فقير ونحن أغنياء. بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قالت يهود صفات النفس البهيمية والسبعية والشيطانية لا ننقاد لرسول أي لخاطر رحماني أو إلهام رباني حتى يأتينا بقربان هو الدنيا وما فيها يجعلها نسيكة لله عز وجل، تأكله نار الله الموقدة التي تقدح من زناد محبتهم، فإن كثيرا من الطالبين الصادقين يجعلون الدنيا وما فيها قربانا لله فلا تأكله نار الله. قل يا وارد الحق قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي أي واردات الحق بالبينات بالحجج الباهرة وَبِالَّذِي قُلْتُمْ أي بجعل الدنيا قربانا فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ غلبتموهم ومحوتموهم حتى لم يبق أثر الواردات. كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ كلهم مستعدون للفناء في الله، ولا بد لها من موت. فمن كان موته بالأسباب تكون حياته بالأسباب، ومن كان فناؤه في الله يكون بقاؤه بالله. لَتُبْلَوُنَّ بالجهاد الأكبر وَلَتَسْمَعُنَّ من أهل العلم الظاهر ومن أهل الرياء أَذىً كَثِيراً بالغيبة والملامة والإنكار والاعتراض وَإِنْ تَصْبِرُوا على جهاد النفس وَتَتَّقُوا بالله عما سواه فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ أي من أمور أولي العزم فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ [الأحقاف: ٣٥] والله أعلم.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٩٠ الى ٢٠٠]
إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ (١٩٠) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ (١٩١) رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (١٩٢) رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ (١٩٣) رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ (١٩٤)
فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ (١٩٥) لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ (١٩٦) مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ (١٩٧) لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ (١٩٨) وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (١٩٩)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٢٠٠)
الْأَبْرارِ بالإمالة: أبو عمرو وحمزة غير خلاد ورجاء. والكسائي والنجاري عن ورش، وخلف وابن مجاهد والنقاش عن ابن ذكوان. وكذلك كل ما تكرر فيه الراء غير ابن مجاهد والنقاش في جميع القرآن. وقتلوا وقاتلوا حمزة وعلي وخلف، وقرأ ابن كثير وابن عامر وَقُتِلُوا مشددا. الباقون: وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا مخففا. لا يَغُرَّنَّكَ بالنون الخفيفة: رويس. الباقون بالتشديد نُزُلًا حيث كان بالاختلاس عباس.
الوقوف:
الْأَلْبابِ ج لاحتمال الذين صفة أو مستأنفا نصبا أو رفعا على المدح بتقدير أعني الذين أو هم الذين والوصل أشهر. وَالْأَرْضِ ج لحق المحذوف أي يقولون ربنا. باطِلًا ج للابتداء بسبحانك تعظيما وإلا فالقول متحد وفاء التعقيب متعقب.
النَّارَ هـ أَخْزَيْتَهُ ط أَنْصارٍ هـ فَآمَنَّا قف قتيل: والوصل أولى لأن كلمة رَبَّنا تكرار لمزيد الابتهال، وقوله: فَاغْفِرْ لَنا معطوف على فَآمَنَّا أي إذا آمنا فاغفر.
الْأَبْرارِ هـ ج للآية وللعطف. يَوْمَ الْقِيامَةِ ط الْمِيعادَ هـ أُنْثى ج لاتحاد الكلام وإلا فبعضكم مبتدأ مِنْ بَعْضٍ ج الْأَنْهارُ ز لأن ثَواباً مفعول له أو مصدر. مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ط الثَّوابِ هـ الْبِلادِ
هـ ط لأن التقدير لهم متاع أو ذلك متاع. جَهَنَّمُ ط الْمِهادُ هـ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ط لِلْأَبْرارِ هـ لِلَّهِ لا لأن ما بعده حال آخر. قَلِيلًا ط عِنْدَ رَبِّهِمْ ط الْحِسابِ هـ تُفْلِحُونَ هـ.
التفسير:
إنه لما طال الكلام في تقرير القصص والأحكام عاد إلى ما هو الغرض
عن ابن عمر قلت لعائشة: أخبريني بأعجب ما رأيت من رسول الله صلى الله عليه وسلم. فبكت وأطالت ثم قالت: كل أمره عجب. أتاني في ليلتي فدخل في لحافي، حتى ألصق جلده بجلدي ثم قال: يا عائشة، هل لك أن تأذني لي الليلة في عبادة ربي؟ فقلت: يا رسول الله إني لأحب قربك وأحب هواك قد أذنت لك. فقام إلى قربة من ماء في البيت فتوضأ ولم يكثر من صب الماء، ثم قام يصلي فقرأ من القرآن وجعل يبكي حتى بلغ الدموع حقويه، ثم جلس فحمد الله وأثنى عليه وجعل يبكي ثم رفع يديه فجعل يبكي حتى رأيت دموعه قد بلت الأرض. فأتاه بلال يؤذنه بصلاة الغداة فرآه يبكي فقال له: يا رسول الله أتبكي وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فقال: يا بلال، أفلا أكون عبدا شكورا؟. ثم قال: وما لي لا أبكي وقد أنزل الله عليّ في هذه الليلة إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ثم قال: ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها.
وعن علي أن النبي ﷺ كان إذا قام من الليل يتسوّك ثم ينظر إلى السماء ثم يقول: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ.
واعلم أنه ذكر في سورة البقرة أن في خلق السموات والأرض إلى أن عد ثمانية دلائل، وهاهنا اقتصر منها على الثلاثة الأول تنبيها على أن العارف بعد استكمال المعرفة لا بد له من تقليل الدلائل ليكمل له الاستغراق في معرفة المدلول، فإن البصيرة إذا التفتت إلى معقول عسر عليها الالتفات إلى آخر كالبصر إذا حدّق إلى مرئي امتنع تحديقه نحو آخر، وإليه الإشارة بقوله: فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ [طه: ١٢] يعني المقدمتين اللتين وصلت بهما الى النتيجة وهو وادي قدس الوحدانية. وإنما وقع الاقتصار على الدلائل السماوية لأنها أقهر وأبهر، والعجائب فيها أكثر، وانتقال النفس منها إلى عظمة الله أيسر. وإنما قال في تلك السورة لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [البقرة: ١٦٤] وفي هذه السورة لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ لأن العقل له ظاهر ولب، ففي أول الأمر يكون عقلا وفي كمال الحال يكون لبا. وباقي التفسير قد مر هناك. ثم بعد دلائل الإلهية ذكر وظائف العبودية وهي أن يكون باللسان وسائر الأركان وبالجنان مع الرحمن. فقوله: الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ إشارة إلى عبودية اللسان. وقوله: قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وهو في موضع حال آخر أي معتمدين على الجنب إشارة إلى عبودية سائر الجوارح والأركان.
والمراد أنهم ذاكرون في أغلب أحوالهم كما
قال ﷺ «من أحب أن يرتع في رياض الجنة فليكثر ذكر الله» «١».
وقيل: المراد بالذكر هاهنا الصلاة أي يصلون في حال القيام فإن عجزوا
بل يصلي مستلقيا إن عجز عن القعود حتى لو وجد خفة قعد. وقوله: وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إشارة إلى عمل الجنان. وقد عرفت معنى الفكر في البحث الخامس من تفسير قوله: وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ [البقرة: ٣١] وإنما لم يقل و «يتفكرون في الله» كما قال: يَذْكُرُونَ اللَّهَ
لقوله صلى الله عليه وسلم: «تفكروا في الخلق ولا تتفكروا في الخالق»
والسبب فيه أن الاستدلال بالخلق على الخالق لا يمكن وقوعه على نعت المماثلة وإنما يمكن على نعت المخالفة، فإنا نستدل بحدوث هذه المحسوسات على قدم خالقها، وبإمكانها على وجوبه، وبافتقارها على غناه. فالفكر في المخلوقات ممكن وفي الخالق غير ممكن، كيف وإن الفكر ترتيب المقدمات على وجه منتج، والمقدمة لها موضوع ومحمول لا بد من تصورهما، وتصوره سبحانه محال لأن تصور الشيء عبارة عن حصول صورته في النفس، فتكون الصورة محاطة والنفس محيطة بها، ولا يحيط بالواجب شيء ألا إنه بكل شيء محيط، لكنه إذا تفكر في مخلوقاته ولا سيما السموات مع ما فيها من الشمس والقمر والنجوم، وإلى الأرض مع ما عليها من البحار والجبال والمعادن والنبات والحيوان، عرف أوّلا أن لها ربا وصانعا فيقول: رَبَّنا. ثم يعترف بأن في كل من ذلك حكما ومقاصد وفوائد لا يحيط بتفاصيلها إلا موجدها فيقول: ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا ثم إذا قاس أحوال هذه المصنوعات إلى صانعها علم أن ذاته تعالى منزه عن مشابهة شيء من هذه المصنوعات فيعلم أنه ليس بجوهر ولا عرض ولا مركب ولا مؤلف ولا في حيز وجهة فيقول: سُبْحانَكَ أي أنزهك عما لا يليق بك من مناسبة الجواهر والأعراض. ثم إذا بلغ من الاستغراق في بحار العظمة والجلال هذا المبلغ وجد نفسه ذرة من ذرات الكائنات واقعة في حضيض عالم البشرية محاطة بالطبائع والأركان، فيتضرع إلى خالق السموات والأرض أن يخلصه من قيد العناصر ويعرج به من الأرض ويقيه عذاب كرة النار ويوصله إلى معارج السموات وذلك قوله فَقِنا عَذابَ النَّارِ، ثم ذكر سبب الاستعاذة من النار بقوله: رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ أي أبلغت في إخزائه نظيره قوله: فَقَدْ فازَ [آل عمران: ١٨٥] وفي كلامهم: من أدرك مرعى الصمان فقد أدرك. ثم توسل إلى ما سأل بالإيمان بمحمد ﷺ وذلك قوله:
رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً الآية. فهذا بيان وجه النظم في هذه الكلمات والآيات على وجه
والله أعلم بأسرار كلامه.
عن النبي صلى الله عليه وسلم: «بينما رجل مستلق على فراشه إذ رفع رأسه فنظر إلى النجوم وإلى السماء فقال: أشهد أن لك ربا وخالقا اللهم اغفر لي فنظر الله إليه فغفر له».
وعنه صلى الله عليه وسلم: «لا تفضلوني على يونس بن متى فإنه كان يرفع له في كل يوم مثل عمل أهل الأرض»
قالوا: وإنما كان ذلك التفكر في أمر الله الذي هو عمل القلب لأن أحدا لا يقدر على أن يعمل بجوارحه في اليوم مثل عمل أهل الأرض.
وعنه صلى الله عليه وسلم: «لا عبادة كالتفكر».
وهذا إشارة إلى لفظ الخلق على أنه بمعنى المخلوق أو إلى السموات والأرض بتأويل المخلوق. وفي كلمة هذا ضرب من التعظيم كأنه لعظم شأنه معقود به الهمم حتى صار حاضرا في خزانه الخيال. وباطِلًا نصب على المصدر أي خلقا باطلا أو على الحال، وقيل. بنزع الخافص أي بالباطل أو للباطل. قالت المعتزلة: فيه دليل على أن كل ما يفعله الله تعالى فهو إنما يفعله لغرض الإحسان إلى العبد ولأجل حكمة وغاية. وقوله:
سُبْحانَكَ جملة معترضة تنزيها له من العبث وأن يخلق شيئا بغير حكمة. فوجه النظم في قوله: فَقِنا عَذابَ النَّارِ أن الحكمة في خلق الأرض والسموات أن يجعلها مساكن للمكلفين وأدلة لهم على معرفته ووجوب طاعته واجتناب معصيته، والنار جزاء من عصى ولم يطع. وقالت الأشاعرة: الدليل الدال على أن أحد طرفي الممكن لا يترجح إلا بمرجح عام، وذلك المرجح لا بد أن ينتهي إلى الله تعالى، فإذن الخير والشر والأفعال كلها بقضاء الله وقدره، فلا يمكن أن تعلل أفعال الله بمصالح العباد بل له أن يتصرف في ملكه كيف يشاء. والباطل في اللغة الذاهب الزائل الذي لا يكون له قوّة ولا صلابة فيكون بصدد التلاشي والاضمحلال. والمراد أن خلقهما خلق محكم متقن كقوله: وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً [النبأ: ١٢] هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ [الملك: ٣]. ومعنى سُبْحانَكَ أنك وإن خلقتهما في غاية شدة التركيب وبصدد البقاء إلا أنك غني عن الاحتياج إليهما، منزه عن الانتفاع بهما. ثم لما وصف ذاته تعالى بالغنى أقر لنفسه بالعجز والحاجة إليه في الدنيا والآخرة فقال فَقِنا عَذابَ النَّارِ واحتج حكماء الإسلام بالآية على أنه سبحانه خلق الأفلاك والكواكب وأودع في كل واحد منها قوى مخصوصة، وجعلها بحيث يحصل من حركتها واتصال بعضها ببعض مصالح هذا العالم ومنافع قطان العالم السفلي. قالوا: لأنها لو لم تكن كذلك لكانت باطلة، ولا يمكن أن تقصر منافعها على الاستدلال بها على الصانع لأن كل ذرة من ذرات الهواء والماء يشاركها في ذلك، فلا تبقى لخصوصياتها فائدة وهو خلاف النص. وناقشهم المتكلمون في ذلك وقالوا: إن الفلكيات أسباب للأرضيات على مجرى
وأيضا الآية ليست على عمومها لقوله: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا [مريم: ٧١] فثبت أن كل من دخل النار فإنه ليس بمخزي. وعن سعيد بن المسيب والثوري أن هذا في حق الكفار الذين أدخلوا النار للخلود. وأيضا إنه مخزي حال دخوله وإن كانت عاقبته الخروج. وقوله: يَوْمَ لا يُخْزِي [التحريم: ٨] نفى الخزي على الإطلاق والمطلق يكفي في صدقه صورة واحدة وهي نفي الخزي المخلد.
ويحتمل أن يقال: الإخزاء مشترك بين التخجيل وبين الإهلاك، وإذا كان المثبت هو الأول والمنفي هو الثاني لم يلزم التنافي. واحتجت المرجئة بالآية على أن صاحب الكبيرة لا يدخل النار لأنه مؤمن لقوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ [البقرة: ١٧٨] ولقوله: وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا [الحجرات: ٩] والمؤمن لا يخزى لقوله:
يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ [التحريم: ٨] والمدخل في النار مخزي بهذه الآية، والمقدمات بأسرها يدخلها المنع. أما الأولى فباحتمال أن لا يسمى بعد القتل مؤمنا وإن كان قبله مؤمنا، وأما الأخريان فبخصوص المحمول وجزئية الموضوع كما تقرر آنفا. وقد يتمسك حكماء الإسلام بهذا في أن العذاب الروحاني أشد لأنه بين سبب الاستعاذة بالإخزاء الذي هو التخجيل وهو أمر نفساني. وقد يتمسك المعتزلة بقوله: وَما لِلظَّالِمِينَ أي الداخلين في النار مِنْ أَنْصارٍ أي في نفي الشفاعة للفساق لأنها نوع نصرة، ونفي الجنس يقتضي نفي النوع. والجواب أن الظالم على الإطلاق هو الكافر لقوله: وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ في
وعلى هذا ففائدة تخصيص الظالمين بهذا الحكم أنه وعد المتقين الفوز فلهم هذه الحجة بخلاف الفساق. وأيضا أدلة الشفاعة مخصصة لعموم الآية. قالوا: الفاسق لا يخرج من النار وإلا كان مخرجه ناصرا له. وعورض بالآيات الدالة على العفو رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي تقول: سمعت رجلا يتكلم بكذا فتوقع الفعل على الرجل وتحذف المسموع اكتفاء بما وصفته به، أو جعلته حالا عنه. والمنادي عند الأكثرين هو رسول الله ﷺ ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ [النحل: ١٢٥] أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ [يوسف: ١٠٨] وَداعِياً إِلَى اللَّهِ [الأحزاب: ٤٦] وقيل: القرآن كما نسب إليه الهداية في قوله: إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي [الإسراء: ٩] كأنه يدعو إلى نفسه وينادي بما فيه من الدلائل كما قيل في جهنم تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى [المعارج: ١٧] والفصحاء يصفون الدهر بأنه ينادي ويعظ لدلالة تصاريفه قال:
يا واضع الميت في قبره | خاطبك الدهر فلم تسمع |
والحاصل من هذه الآيات أنهم نظروا في المصنوع فعرفوا منه الصانع فقالوا: رَبَّنا ثم تفكروا في عجيب خلقه وبديع شكله فعرفوا أن صانعه حكيم والحكيم لا تخلو أفعاله من الفوائد والغايات وإن لم يكن مستكملا بها فقالوا: ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا ثم تأملوا في غاية الغايات ونهاية الحركات فوجدوها الإنسان المكلف على ألسنة الرسل، ووجدوا عاقبة التكليف الجنة أو النار فتضرعوا إلى معبودهم في توفيق الوصول إلى الجنة والخلاص من النار، ولأن دفع الضرر أهم من جلب المنفعة فجعلوا أول دعائهم وآخره الاستعاذة من العذاب، ولأن العذاب الروحاني عند العقلاء أشد من العذاب الجسماني فلا جرم وقع الختم على الاستعاذة من الإخزاء، اللهم شاركنا في هذا الدعاء واجعلنا من السعداء المتفكرين في ملكوت الأرض والسماء إنك واهب العطاء وكاشف الغطاء. عن جعفر الصادق: من حزبه أمر فقال خمس مرات «ربنا» أنجاه الله مما يخاف، وأعطاه ما أراد لأن الله تعالى حكى عنهم في هذه الآيات أنهم قالوا خمس مرات «ربنا» ثم قال: فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أي أجابهم أَنِّي أي بأني لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى «من» في مِنْكُمْ للتبعيض.
لأن كل عامل فرد من أفراد المخاطبين وفي «من» ذكر للتبيين لأن العامل إما ذكر وإما أنثى.
وإضاعة العمل عبارة عن إضاعة ثوابه بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ أي يجمع ذكوركم وإناثكم أصل واحد، فكل واحد منكم من الآخر أي من أصله. أو المراد بعضكم كأنه من البعض الآخر لفرط اتصالكم واتحادكم كما يقال: فلان مني أي على خلقي وسيرتي.
قال صلى الله عليه وسلم: «من غشنا فليس منا».
وقيل: المراد وصلة الإسلام. وهذه جملة معترضة بيّن بها شركة النساء مع
روي أن أم سلمة قالت: يا رسول الله إني أسمع الله يذكر الرجال في الهجرة ولا يذكر النساء فنزلت.
ثم فصل عمل العامل منهم تفخيما لشأن العمل وتنويها بذكره فقال: فَالَّذِينَ هاجَرُوا أوطانهم مع الرسول ﷺ أو بعده باختيارهم وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ ألجأهم الكفار إلى الخروج وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي يريد طريق الدين وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا من قرأ بالتشديد فللتكثير وتكرر القتل فيهم. وقيل: أي قطعوا. ومن قرأ قتلوا وقاتلوا فإما لأن الواو لا تفيد الترتيب والترتيب الطبيعي: قاتلوا حتى قتلوا. وإما من قولهم: قتلنا ورب الكعبة إذا ظهرت أمارات القتل وإذا قتل قومه وعشيرته. وإما بإضمار «قد» أي قتلوا وقد قاتلوا لَأُكَفِّرَنَّ جواب للقسم المقدر عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وهو الذي طلبوه بقولهم: رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وهو الذي طلبوه بقولهم رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وهو الذي طلبوه من الثواب المقرون بالتعظيم بقولهم: وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ أي ثوابا يختص به وبقدرته وبفضله لا يثيبه غيره ولا يقدر عليه. يقول الرجل: عندي ما تريد أنا مختص به وبملكه وإن لم يكن بحضرته. وثَواباً نصب على المصدر المؤكد أي إثابة أو تثويبا من عنده لأن قوله: لَأُكَفِّرَنَّ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ في معنى لأثيبنهم. وقال الكسائي: هو منصوب على القطع أي على الحال. وقال الفراء: نصب على التفسير كقولك: هو لك هبة أو بيعا أو صدقة. ثم ختم بقوله: وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ لأنه القادر على كل المقدورات، العالم بكل المعلومات، القاضي جميع الحاجات. وفي تعليقه حسن الإثابة على احتمال المشاق في دينه والصبر على صعوبة تكاليفه دليل على أن حكمة الله تعالى اقتضت نوط الثواب والجنة بالعمل حتى لا يتكل الناس على فضله بالكلية، ولا يهملوا جانب العمل رأسا. عن الحسن: أخبر الله تعالى أنه استجاب لهم إلا أنه أتبع ذلك رافع الدعاء وما يستجاب به، فلا بد له من تقديمه بين يدي الدعاء يعني قوله:
وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ [فاطر: ١٠] ثم إنه تعالى لما وعد المؤمنين الثواب العظيم وكانوا في الدنيا في غاية الفقر والشدة، والكفار كانوا في التنعم، أراد أن يسليهم ويصبرهم فقال:
لا يَغُرَّنَّكَ والخطاب لكل مكلف يسمعه أي لا يغرنك أيها السامع أو للرسول والمراد الأمة. قال قتادة: والله ما غرّوا نبي الله حتى قبضه الله أوله. والمراد هو فلعل السبب في عدم اغتراره هو تواتر أمثال هذه الآيات عليه. قيل: إن مشركي مكة كانوا يتجرون ويتنعمون، فقال بعض المؤمنين: إن أعداء الله فيما نرى من الخير وقد هلكنا من الجوع والجهد فنزلت. وقيل: كانت اليهود تضرب في الأرض فتصيب الأموال فنزلت. والمراد بتقلبهم
والنزل ما يعدّ للضيف ويعجل، ومن هنا تمسك به بعض الأصحاب في الرؤية لأنه لما كانت الجنة بكليتها نزلا فلا بد من شيء آخر يكون أصلا بالنسبة إليها. قلت: ويحتمل أن يكون قوله: وَما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ [النحل: ٩٦] إشارة إليه وهو مقام العندية والقرب الذي لا يوازيه شيء من نعيم الجنة. وقيل: المعنى وما عند الله من الكثير الدائم خير للأبرار مما يتقلب فيه الفجار من القليل الزائل، وانتصاب نُزُلًا على الحال من جَنَّاتٌ لتخصيصها بالوصف، والعامل معنى الاستقرار في لهم، أو هو مصدر مؤكد كأنه قيل: رزقا أو عطاء، أو نصب على التفسير كما قلنا في ثَواباً. ثم إنه تعالى لما ذكر حال المؤمنين وكان قد ذكر حال الكفار بين حال مؤمني أهل الكتاب كلهم فقال: وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وهذا قول مجاهد. وقال ابن جريج وابن زيد: نزلت في عبد الله بن سلام وأصحابه. وقيل: في أربعين من أهل نجران واثنين وثلاثين من الحبشة وثمانية من الروم كانوا على دين عيسى عليه السلام فأسلموا.
وعن جابر بن عبد الله وأنس وابن عباس وقتادة: نزلت في النجاشي لما مات نعاه جبريل إلى رسول الله ﷺ في اليوم الذي مات فيه فقال رسول الله ﷺ للأصحاب:
اخرجوا فصلوا على أخ لكم مات بغير أرضكم. قالوا: ومن هو؟. قال: النجاشي. فخرج رسول الله ﷺ إلى البقيع وكشف له من المدينة إلى أرض الحبشة فأبصر سرير النجاشي وصلى عليه وكبر أربع تكبيرات واستغفر له، وقال لأصحابه: استغفروا له. فقال المنافقون:
انظروا إلى هذا يصلي على علج حبشي نصراني لم يره قط وليس على دينه، فأنزل الله هذه الآية.
واللام في لَمَنْ يُؤْمِنُ لام الابتداء الذي يدخل على خبر «إن» أو على اسمه عند الفصل كما في الآية. والمراد ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ القرآن وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ الكتابان وخاشِعِينَ لِلَّهِ حال من فاعل يؤمن لأن «من» في معنى الجمع فحمل على اللفظ تارة وعلى المعنى أخرى لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا كما يفعله من لم يسلم من أحبارهم ورؤسائهم أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ ولا يخفى فخامة شأن هذا الوعد حسبما أشار إليه بقوله: إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ لأنه عالم بجميع المعلومات قادر على كل المقدورات فيعلم ويعطي ما لكل أحد من جزاء الحسنات والسيئات. أو المراد سرعة موعد حسابه
وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «من رابط يوما وليلة في سبيل الله كان كعدل صيام شهر وقيامه لا يفطر ولا ينفتل عن صلاته إلا لحاجة» «١»
وثانيهما أنها انتظار الصلاة بعد الصلاة لما روي عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أنه قال: لم يكن في زمن رسول الله ﷺ غزو يرابط فيه، ولكن انتظار الصلاة خلف الصلاة. وفي حديث أبي هريرة ذكر انتظار الصلاة بعد الصلاة ثم قال:
فذلك الرباط ثلاث مرات والله أعلم.
إن في خلق سموات القلوب وأطوارها، وخلق أرض النفوس وقرارها، واختلاف ليل البشرية وصفاتها، ونهار الروحانية وأنوارها، لآيات لأولي الألباب. الذين عبروا بقدمي الذكر والفكر عن قشر الوجود الجسماني، ووصلوا إلى لب الوجود الروحاني، فشاهدوا بعيون البصائر ونواظر الضمائر أن لهم وللعالم إلها قادرا حيا عليما سميعا بصيرا متكلما مريدا باقيا. وإنما نالوا هذه المراتب لأنهم يذكرون الله في جميع الأحوال بالظاهر والباطن، ويتفكرون في خلق المصنوعات من البسائط والمركبات، ويقولون ما خلقت هذا باطلا أي خلقته إظهارا للحق على الخلق، ووسيلة للخلق إلى الحق. سبحانك تنزيها للحق عن الشبه بالخلق، فَقِنا باعد عنا عذاب نار قهرك والبعد عنك، ففيها كل الخزي والندامة والغواية والضلالة. ثم أخبر عن شرط العبودية في استجلاب فضل الربوبية بقوله: رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا من هاتف الحق في الغيب بالسمع الحقيقي مناديا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا أي كما أسمعتنا النداء بالإرادة القديمة لا بسعي منا قبل أن تخلقنا. فاغفر لنا بفضلك ورحمتك.
لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ بالظاهر والباطن مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى على قدر همتكم ورجوليتكم فَالَّذِينَ هاجَرُوا عن الأوطان والأوطار والأعمال السيئة والأخلاق الذميمة وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ من معاملات الطبيعة وديارها الى عالم الحقيقة بسطوات تجلي صفات الربوبية وَأُوذُوا فِي طلبي بأنواع البلاء وَقاتَلُوا مع النفس وَقُتِلُوا بسيف الصدق لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سيئات وجودهم وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ الوصول فيها أشجار التوكل واليقين والزهد والورع والتقوى والصدق والإخلاص والهدى والقناعة والعفة والمروءة والفتوّة والمجاهدة والشوق والذوق والرغبة والرهبة والوفاء والطلب والمحبة والحياء والكرم والشجاعة والعلم والحلم والعزة والقدرة والهمة وغيرها من المقامات والأخلاق تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أنهار العناية ثَواباً من مقام العندية وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ لا يكون عند الجنة وغيرها. وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ من علماء الظاهر علماء متقين يكون إيمانه من نتيجة نور الله الذي دخل قلبه، ويؤمن بما أنزل إليكم من الواردات والإلهامات والكشوف وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ من الخواطر الرحمانية خاشِعِينَ لِلَّهِ كما
قال صلى الله عليه وسلم: «إذا تجلى الله لشيء خضع له»
لا يَشْتَرُونَ بما أوتوا من العلم والحكمة عرض الدنيا إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ يوصلهم إلى مقام العندية قبل وفاتهم اصْبِرُوا على جهاد النفس بالرياضات وَصابِرُوا في مراقبة القلب عند الابتلاءات وَرابِطُوا الأرواح للوصل بالله وَاتَّقُوا اللَّهَ في الالتفات إلى ما سواه لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ فتفوزوا بالبقاء بالله وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين.
سورة آل عمران
اتصَلتْ سورةُ (آلِ عِمْرانَ) من حيث الفضلُ بسورةِ (البقرة)؛ فقد وصَفهما الرسولُ ﷺ بـ (الزَّهْراوَينِ)؛ لِما احتوتا عليه من نورٍ وهداية.
وجاءت هذه السُّورةُ ببيانِ هداية هذا الكتابِ للناس، متضمِّنةً الحوارَ مع أهل الكتاب، مُحاجِجَةً إياهم في صِدْقِ هذا الدِّين وعلوِّه على غيره، مبرهنةً لصِدْقِ النبي ﷺ بهذه الرسالة، وهَيْمنةِ هذا الدِّينِ على غيره، ونَسْخِه للأديان الأخرى؛ فمَن ابتغى غيرَ الإسلام فأمرُه ردٌّ غيرُ مقبولٍ، كما أشارت إلى غزوةِ (أُحُدٍ)، وأمرِ المسلمين بالثَّبات على هذا الدِّين.
ترتيبها المصحفي
3نوعها
مدنيةألفاظها
3501ترتيب نزولها
89العد المدني الأول
200العد المدني الأخير
200العد البصري
200العد الكوفي
200العد الشامي
200* قوله تعالى: {إِنَّ اْلَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اْللَّهِ وَأَيْمَٰنِهِمْ ثَمَنٗا قَلِيلًا أُوْلَٰٓئِكَ لَا خَلَٰقَ لَهُمْ فِي اْلْأٓخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اْللَّهُ وَلَا يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ اْلْقِيَٰمَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٞ} [آل عمران: 77]:
ورَد عن عبدِ اللهِ بن مسعودٍ - رضي الله عنه -، عن النبيِّ ﷺ، قال: «مَن حلَفَ على يمينٍ يقتطِعُ بها مالَ امرئٍ مسلمٍ، وهو فيها فاجرٌ: لَقِيَ اللهَ وهو عليه غضبانُ»، ثم أنزَلَ اللهُ تصديقَ ذلك: {إِنَّ اْلَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اْللَّهِ وَأَيْمَٰنِهِمْ ثَمَنٗا قَلِيلًا أُوْلَٰٓئِكَ لَا خَلَٰقَ لَهُمْ فِي اْلْأٓخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اْللَّهُ وَلَا يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ اْلْقِيَٰمَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٞ} [آل عمران: 77]، ثم إنَّ الأشعَثَ بنَ قيسٍ خرَجَ إلينا، فقال: ما يُحدِّثُكم أبو عبدِ الرَّحمنِ؟ قال: فحدَّثْناه، قال: فقال: صدَقَ؛ لَفِيَّ نزَلتْ، كانت بيني وبين رجُلٍ خصومةٌ في بئرٍ، فاختصَمْنا إلى رسولِ اللهِ ﷺ، فقال رسولُ اللهِ ﷺ: «شاهِدَاكَ أو يمينُهُ»، قلتُ: إنَّه إذًا يَحلِفُ ولا يُبالي، فقال رسولُ اللهِ ﷺ: «مَن حلَفَ على يمينٍ يستحِقُّ بها مالًا، وهو فيها فاجرٌ: لَقِيَ اللهَ وهو عليه غضبانُ»، ثم أنزَلَ اللهُ تصديقَ ذلك، ثم اقترَأَ هذه الآيةَ: {إِنَّ اْلَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اْللَّهِ وَأَيْمَٰنِهِمْ ثَمَنٗا قَلِيلًا} إلى قوله: {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٞ} [آل عمران: 77]. أخرجه البخاري (٢٣٥٦).
* قوله تعالى: {كَيْفَ يَهْدِي اْللَّهُ قَوْمٗا كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَٰنِهِمْ وَشَهِدُوٓاْ أَنَّ اْلرَّسُولَ حَقّٞ وَجَآءَهُمُ اْلْبَيِّنَٰتُۚ وَاْللَّهُ لَا يَهْدِي اْلْقَوْمَ اْلظَّٰلِمِينَ ٨٦ أُوْلَٰٓئِكَ جَزَآؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اْللَّهِ وَاْلْمَلَٰٓئِكَةِ وَاْلنَّاسِ أَجْمَعِينَ ٨٧ خَٰلِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ اْلْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنظَرُونَ ٨٨ إِلَّا اْلَّذِينَ تَابُواْ مِنۢ بَعْدِ ذَٰلِكَ وَأَصْلَحُواْ فَإِنَّ اْللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٌ} [آل عمران: 86-89]:
صحَّ عن عبدِ اللهِ بن عباسٍ - رضي الله عنهما -، قال: «كان رجُلٌ مِن الأنصارِ أسلَمَ، ثم ارتَدَّ ولَحِقَ بالشِّرْكِ، ثم نَدِمَ، فأرسَلَ إلى قومِه: سَلُوا رسولَ اللهِ ﷺ: هل لي مِن توبةٍ؟ فجاء قومُهُ إلى رسولِ اللهِ ﷺ، فقالوا: إنَّ فلانًا قد نَدِمَ، وإنَّه قد أمَرَنا أن نسألَك: هل له مِن توبةٍ؟ فنزَلتْ: {كَيْفَ يَهْدِي اْللَّهُ قَوْمٗا كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَٰنِهِمْ} [آل عمران: 86] إلى {غَفُورٞ رَّحِيمٌ} [آل عمران: 89]، فأرسَلَ إليه قومُهُ، فأسلَمَ». أخرجه النسائي (٤٠٧٩).
* قوله تعالى: {وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنتُمْ تُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ ءَايَٰتُ اْللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُۥۗ وَمَن يَعْتَصِم بِاْللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسْتَقِيمٖ ١٠١ يَٰٓأَيُّهَا اْلَّذِينَ ءَامَنُواْ اْتَّقُواْ اْللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِۦ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ١٠٢ وَاْعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اْللَّهِ جَمِيعٗا وَلَا تَفَرَّقُواْۚ وَاْذْكُرُواْ نِعْمَتَ اْللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَآءٗ فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِۦٓ إِخْوَٰنٗا وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٖ مِّنَ اْلنَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَاۗ} [آل عمران: 101-103]:
عن عبدِ اللهِ بن عباسٍ - رضي الله عنهما -، قال: «كان الأَوْسُ والخَزْرجُ يَتحدَّثون، فغَضِبوا، حتى كان بينهم حربٌ، فأخَذوا السِّلاحَ بعضُهم إلى بعضٍ؛ فنزَلتْ: {وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنتُمْ تُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ ءَايَٰتُ اْللَّهِ} [آل عمران: 101] إلى قوله تعالى: {فَأَنقَذَكُم مِّنْهَاۗ} [آل عمران: 103]. "المعجم الكبير" للطبراني (١٢٦٦٦).
* قوله تعالى: {لَيْسَ لَكَ مِنَ اْلْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَٰلِمُونَ} [آل عمران: 128]:
صحَّ عن أبي هُرَيرةَ - رضي الله عنه - أنَّه قال: «كان رسولُ اللهِ ﷺ يقولُ حين يفرُغُ مِن صلاةِ الفجرِ مِن القراءةِ ويُكبِّرُ ويَرفَعُ رأسَه: «سَمِعَ اللهُ لِمَن حَمِدَه، ربَّنا ولك الحمدُ»، ثم يقولُ وهو قائمٌ: «اللهمَّ أنْجِ الوليدَ بنَ الوليدِ، وسلَمةَ بنَ هشامٍ، وعيَّاشَ بنَ أبي ربيعةَ، والمستضعَفِينَ مِن المؤمنين، اللهمَّ اشدُدْ وَطْأتَك على مُضَرَ، واجعَلْها عليهم كَسِنِي يوسُفَ، اللهمَّ العَنْ لِحْيانَ، ورِعْلًا، وذَكْوانَ، وعُصَيَّةَ؛ عصَتِ اللهَ ورسولَه»، ثم بلَغَنا أنَّه ترَكَ ذلك لمَّا أُنزِلَ: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ أوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإنَّهُمْ ظالِمُونَ}». أخرجه مسلم (675).
وعن عبدِ اللهِ بن عُمَرَ - رضي الله عنهما -: أنَّه سَمِعَ رسولَ اللهِ ﷺ إذا رفَعَ رأسَه مِن الرُّكوعِ مِن الركعةِ الآخِرةِ مِن الفجرِ يقولُ: «اللهمَّ العَنْ فلانًا وفلانًا وفلانًا» بعدما يقولُ: «سَمِعَ اللهُ لِمَن حَمِدَه، ربَّنا ولك الحمدُ»؛ فأنزَلَ اللهُ: {لَيْسَ لَكَ مِنَ اْلْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَٰلِمُونَ} [آل عمران: 128]. أخرجه البخاري (٤٠٦٩).
* قوله تعالى: {ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّنۢ بَعْدِ اْلْغَمِّ أَمَنَةٗ نُّعَاسٗا يَغْشَىٰ طَآئِفَةٗ مِّنكُمْۖ وَطَآئِفَةٞ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ} [آل عمران: 154]:
عن أنسِ بن مالكٍ - رضي الله عنه -، أنَّ أبا طَلْحةَ قال: «غَشِيَنا النُّعَاسُ ونحن في مَصافِّنا يومَ أُحُدٍ، قال: فجعَلَ سيفي يسقُطُ مِن يدي وآخُذُه، ويسقُطُ وآخُذُه؛ وذلك قولُه عز وجل: {ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّنۢ بَعْدِ اْلْغَمِّ أَمَنَةٗ نُّعَاسٗا يَغْشَىٰ طَآئِفَةٗ مِّنكُمْۖ وَطَآئِفَةٞ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ} [آل عمران: 154]، والطائفةُ الأخرى: المنافقون، ليس لهم إلا أنفسُهم؛ أجبَنُ قومٍ وأرعَبُهُ، وأخذَلُهُ للحقِّ». أخرجه البخاري (٤٠٦٨).
* قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَغُلَّۚ وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ اْلْقِيَٰمَةِۚ ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٖ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [آل عمران: 161]:
صحَّ عن عبدِ اللهِ بن عباسٍ - رضي الله عنهما - أنَّه قال: «نزَلتْ هذه الآيةُ: {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَغُلَّۚ} في قَطيفةٍ حَمْراءَ فُقِدتْ يومَ بدرٍ، فقال بعضُ الناسِ: لعلَّ رسولَ اللهِ - ﷺ - أخَذَها؛ فأنزَلَ اللهُ: {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَغُلَّۚ وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ اْلْقِيَٰمَةِۚ ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٖ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [آل عمران: 161]». أخرجه أبو داود (٣٩٧١).
* قوله تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ اْلَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اْللَّهِ أَمْوَٰتَۢاۚ بَلْ أَحْيَآءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169]:
عن مسروقٍ، قال: سأَلْنا عبدَ اللهِ - هو ابنُ مسعودٍ رضي الله عنه - عن هذه الآيةِ: {وَلَا تَحْسَبَنَّ اْلَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اْللَّهِ أَمْوَٰتَۢاۚ بَلْ أَحْيَآءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ}، قال: «أمَا إنَّا قد سأَلْنا عن ذلك، فقال: أرواحُهم في جوفِ طيرٍ خُضْرٍ، لها قناديلُ معلَّقةٌ بالعرشِ، تَسرَحُ مِن الجَنَّةِ حيث شاءت، ثم تَأوي إلى تلك القناديلِ، فاطَّلَعَ إليهم ربُّهم اطِّلاعةً، فقال: هل تشتهون شيئًا؟ قالوا: أيَّ شيءٍ نشتهي ونحن نَسرَحُ في الجَنَّةِ حيث شِئْنا؟! ففعَلَ ذلك بهم ثلاثَ مرَّاتٍ، فلمَّا رأَوْا أنَّهم لن يُترَكوا مِن أن يَسألوا، قالوا: يا ربُّ، نريدُ أن ترُدَّ أرواحَنا في أجسادِنا؛ حتى نُقتَلَ في سبيلِك مرَّةً أخرى، فلمَّا رأى أنْ ليس لهم حاجةٌ، تُرِكوا». أخرجه مسلم (١٨٨٧).
سُمِّيتْ (آلُ عِمْرانَ) بهذا الاسم لذِكْرِ (آلِ عِمْرانَ) فيها، وثبَت لها اسمٌ آخَرُ؛ وهو (الزَّهْراءُ):
لِما جاء في حديث أبي أُمامةَ الباهليِّ رضي الله عنه، قال: سَمِعْتُ رسولَ الله ﷺ يقولُ: «اقرَؤُوا الزَّهْراوَينِ: البقرةَ، وسورةَ آلِ عِمْرانَ». أخرجه مسلم (804).
يقول ابنُ منظورٍ: «والزَّهْراوانِ: أي: المُنِيرتانِ المُضِيئتانِ، واحدتها: زَهْراءُ». لسان العرب (4 /332).
وقد عدَّ بعضُ العلماء أنَّ ذِكْرَ (الزَّهْراوانِ) في هذا الحديثِ هو من بابِ الوصف، لا التسمية. انظر: "التحرير والتنوير" لابن عاشور (3 /143)، "التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (1 /20).
* تُحاجُّ عن صاحبِها:
صحَّ عن أبي أُمامةَ الباهليِّ رضي الله عنه، قال: سَمِعْتُ رسولَ اللهِ ﷺ يقولُ: «اقرَؤُوا القرآنَ؛ فإنَّه يأتي يومَ القيامةِ شفيعًا لأصحابِه؛ اقرَؤُوا الزَّهْراوَينِ: البقرةَ، وسورةَ آلِ عِمْرانَ؛ فإنَّهما تأتيانِ يومَ القيامةِ كأنَّهما غَمَامتانِ، أو كأنَّهما غَيَايتانِ، أو كأنَّهما فِرْقانِ مِن طيرٍ صوافَّ، تُحاجَّانِ عن أصحابِهما، اقرَؤُوا سورةَ البقرةِ؛ فإنَّ أَخْذَها برَكةٌ، وتَرْكَها حَسْرةٌ، ولا تستطيعُها البَطَلةُ». أخرجه مسلم (804).
* كان يعظُمُ بين الصحابةِ قارئُ سورةِ (آلِ عِمْرانَ):
فعن أنسٍ رضي الله عنه، قال: «كان الرَّجُلُ إذا قرَأ البقرةَ وآلَ عِمْرانَ، جَدَّ فينا - يعني: عظُمَ -»، وفي روايةٍ: «يُعَدُّ فينا عظيمًا»، وفي أخرى: «عُدَّ فينا ذا شأنٍ». أخرجه أحمد (12236).
* ورَدتْ قراءتُه ﷺ لسورة (آل عِمْران) في قيام الليل:
فعن حُذَيفةَ بن اليمانِ رضي الله عنهما، قال: «صلَّيْتُ مع رسولِ اللهِ ﷺ ذاتَ ليلةٍ، فاستفتَحَ بسورةِ البقرةِ، فقرَأَ بمائةِ آيةٍ لم يَركَعْ، فمضى، قلتُ: يَختِمُها في الرَّكعتَينِ، فمضى، قلتُ: يَختِمُها ثم يَركَعُ، فمضى حتى قرَأَ سورةَ النِّساءِ، ثم قرَأَ سورةَ آلِ عِمْرانَ، ثم ركَعَ نحوًا مِن قيامِهِ، يقولُ في ركوعِهِ: سبحانَ ربِّيَ العظيمِ، سبحانَ ربِّيَ العظيمِ، سبحانَ ربِّيَ العظيمِ، ثم رفَعَ رأسَهُ، فقال: سَمِعَ اللهُ لِمَن حَمِدَه، ربَّنا لك الحمدُ، وأطال القيامَ، ثم سجَدَ، فأطال السُّجودَ، يقولُ في سجودِهِ: سبحانَ ربِّيَ الأعلى، سبحانَ ربِّيَ الأعلى، سبحانَ ربِّيَ الأعلى، لا يمُرُّ بآيةِ تخويفٍ أو تعظيمٍ للهِ عز وجل إلا ذكَرَهُ». أخرجه النسائي (١١٣٢).
* كان النبيُّ ﷺ يَقرأُ خواتمَها منتصَفَ الليلِ عندما يستيقظُ مِن نومِه:
فممَّا صحَّ عن عبدِ اللهِ بن عباسٍ رضي الله عنهما: أنَّه باتَ عند مَيْمونةَ زَوْجِ النبيِّ ﷺ - وهي خالتُهُ -، قال: «فاضطجَعْتُ في عَرْضِ الوِسادَةِ، واضطجَعَ رسولُ اللهِ ﷺ وأهلُهُ في طُولِها، فنامَ رسولُ اللهِ ﷺ حتى انتصَفَ الليلُ - أو قَبْله بقليلٍ، أو بعده بقليلٍ -، ثم استيقَظَ رسولُ اللهِ ﷺ، فجعَلَ يَمسَحُ النَّوْمَ عن وجهِهِ بيدَيهِ، ثم قرَأَ العَشْرَ الآياتِ الخواتِمَ مِن سُورةِ آلِ عِمْرانَ، ثم قامَ إلى شَنٍّ معلَّقةٍ، فتوضَّأَ منها، فأحسَنَ وُضُوءَهُ، ثم قامَ يُصلِّي، فصنَعْتُ مِثْلَ ما صنَعَ، ثُمَّ ذهَبْتُ فقُمْتُ إلى جَنْبِهِ، فوضَعَ رسولُ اللهِ ﷺ يَدَهُ اليُمْنى على رَأْسي، وأخَذَ بأُذُني بيدِهِ اليُمْنى يَفتِلُها، فصلَّى ركعتَينِ، ثم ركعتَينِ، ثم ركعتَينِ، ثم ركعتَينِ، ثم ركعتَينِ، ثم ركعتَينِ، ثم أوتَرَ، ثم اضطجَعَ حتى جاءه المؤذِّنُ، فقامَ فصلَّى ركعتَينِ خفيفتَينِ، ثم خرَجَ فصلَّى الصُّبْحَ». أخرجه البخاري (٤٥٧١).
جاءت مواضيعُ سورةِ (آل عِمْرانَ) مُرتَّبةً على النحوِ الآتي:
مقدِّمات للحوار مع النَّصارى (١-٣٢).
إنزال الكتاب هدايةً للناس (١-٩).
تحذير الكافرين وحقيقةُ الدنيا (١٠-١٨).
انتقال الرسالة لأمَّة الإسلام (٢٩-٣٢).
اصطفاء الله تعالى لرُسلِه (٣٣-٤٤).
حقيقة عيسى عليه السلام (٤٥-٦٣).
الإسلام هو دِين الحقِّ، وهو دِينُ جميع الأنبياء (٦٤-٩٩).
إبراهيم عليه السلام كان حنيفًا مسلمًا (٦٤-٦٨).
مخاطبة فِرَق أهل الكتاب، وبيان حقائقهم (٦٩-٨٠).
وَحْدة الرسالات، والدِّين الحق هو الإسلام (٨١- ٩٢).
صلة المسلمين بإبراهيم، وافتراء أهل الكتاب (٩٣-٩٩).
بيان خَيْرية هذه الأمَّة، وتحذيرها من أعدائها (١٠٠-١٢٠).
التحذير من الوقوع في أخطاء السابقين (١٠٠-١٠٩).
خيرية هذه الأمَّة وفضلها (١١٠-١١٥).
تحذير الأمَّة من المنافقين (١١٦-١٢٠).
معركة (أُحُد) (١٢١-١٤٨).
مقدِّمات معركة (أُحُد) (١٢١-١٢٩).
أهمية الطاعة ومواعظُ (١٣٠-١٣٨).
تعزية المسلمين، والنهيُ عن الهوان (١٣٩-١٤٨).
دروس مستفادة من الهزيمة (١٤٩-١٨٩).
التحذير من طاعة الأعداء والتنازل (١٤٩-١٥٨).
أهمية الشورى وطاعة الرسول (١٥٩-١٦٤).
أسباب الهزيمة وفوائدها (١٦٥-١٧٩).
تحذير المنافقين والبخلاء (١٨٠-١٨٩).
أولو الألباب يستفيدون من الآيات الكونية (١٩٠-١٩٥).
الأمورُ بخواتيمها (١٩٦-٢٠٠).
ينظر: "التفسير الموضوعي للقرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (1 /426).
افتُتِحت السُّورةُ بمقصدٍ عظيمٍ؛ وهو التنويهُ بالقرآن، وبمحمَّدٍ ﷺ، وتقسيمُ آيات القرآن، ومراتبُ الأفهام في تَلقِّيها، والتنويهُ بفضيلة الإسلام، وأنه لا يَعدِله دِينٌ، وأنه لا يُقبَل دِينٌ عند الله بعد ظهور الإسلام غيرُ الإسلام.
ومِن مقاصدِها: مُحاجَّةُ أهلِ الكتابينِ في حقيقة الحنيفيَّة، وأنهم بُعَداءُ عنها، وما أخَذ اللهُ من العهد على الرُّسلِ كلِّهم: أن يؤمنوا بالرسول الخاتم.
واشتملت على أمرِ المسلمين بفضائلِ الأعمال: مِن بذلِ المال في مواساة الأمَّة، والإحسان، وفضائل الأعمال، وتركِ البخل، ومَذمَّةِ الربا.
وخُتِمت السُّورةُ بآياتِ التفكير في ملكوت الله.
ينظر: "التحرير والتنوير" لابن عاشور (3 /145).