بسم الله الرحمن الرحيم
تفسير سورة لقمانكلها مكية إلا ثلاث آيات نبينها إذا وصلنا إليها، والله أعلم.
ﰡ
وَقَوله: ﴿للمحسنين﴾ أَي: للْمُسلمين، وَالْمُسلم محسن إِلَى نَفسه، وَقد صَحَّ الْخَبَر أَن النَّبِي سُئِلَ عَن الْإِحْسَان فَقَالَ: " أَن تعبد الله كَأَنَّك ترَاهُ، فَإِن لم تكن ترَاهُ فَإِنَّهُ يراك ". وَيُقَال: المحسن هُوَ الَّذِي يحب للنَّاس مَا يحب لنَفسِهِ.
وروى أَبُو أُمَامَة الْبَاهِلِيّ عَن لنَبِيّ أَنه قَالَ: " حرَام تَعْلِيم الْمُغَنِّيَات وبيعهن وشرائهن وَأَثْمَانُهُنَّ حرَام، ثمَّ تَلا قَوْله تَعَالَى: ﴿وَمن النَّاس من يَشْتَرِي لَهو الحَدِيث﴾ وَقَالَ: مَا من رجل رفع عقيرته بِالْغنَاءِ إِلَّا وَيَأْتِي شيطانان، فيقعد أَحدهمَا على كتفه الْأَيْمن، وَالْآخر على كتفه الْأَيْسَر، ويضربان برجلهما على ظَهره وصدره حَتَّى يكون هُوَ يسكت ".
وَعَن عبد الله بن مَسْعُود وَعبد الله بن عَبَّاس وَمُجاهد وَالْحسن وَعِكْرِمَة وَأكْثر الْمُفَسّرين أَن الْآيَة نزلت فِي الْغناء، وَكَانَ عبد الله بن مَسْعُود يحلف على ذَلِك. وَعَن إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ قَالَ: كَانُوا يَقُولُونَ الْغناء ينْبت النِّفَاق فِي الْقلب. قَالَ إِبْرَاهِيم: وَكَانُوا يسدون أَفْوَاه السكَك ويخرقون الدفوف. وَعَن الضَّحَّاك قَالَ: ﴿وَمن النَّاس من يَشْتَرِي لَهو الحَدِيث﴾ هِيَ الشّرك بِاللَّه. وَعَن ابْن جريج: هُوَ الطبل. وَفِي الْأَخْبَار المسندة أَن النَّبِي قَالَ: " هُوَ المعازف والقيان ". وَعَن سهل بن عبد الله التسترِي قَالَ: لَهو الحَدِيث هُوَ الْجِدَال فِي الدّين، والخوض فِي الْبَاطِل.
وَقَوله: ﴿ليضل عَن سَبِيل الله﴾ أَي: دين الله، وَقُرِئَ " ليضل عَن سَبِيل الله ".
وَقَوله: ﴿ليضل﴾ أَي: ليصير إِلَى الضلال.
وَقَوله: ﴿بِغَيْر علم ويتخذها هزوا﴾ أَي: يتَّخذ آيَات الله هزوا، وَيُقَال: يتَّخذ سَبِيل الله هزوا، والسبيل يذكر وَيُؤَنث، قَالَ الشَّاعِر:
(تمنى رجال أَن أَمُوت وَإِن أمت | فَتلك سَبِيل لست فِيهَا بأوحد) |
وَقَوله: ﴿كَأَن فِي أُذُنَيْهِ وقرا﴾ أَي: صمما، وَإِنَّمَا جعله كَذَلِك؛ لِأَنَّهُ لم ينْتَفع بِمَا يسمع، فَصَارَ بِمَنْزِلَة الْأَصَم، والوقر هُوَ الثّقل فِي الْأذن.
وَقَوله: ﴿فبشرناه بِعَذَاب أَلِيم﴾ أَي: مؤلم، وَمعنى المؤلم: هُوَ الموجع.
وَقَوله: ﴿وَهُوَ الْعَزِيز الْحَكِيم﴾ والعزيز هُوَ المنتقم من أعدائه، والحكيم هُوَ الْمُصِيب فِي تَدْبِير خلقه.
وقوله :( وهو العزيز الحكيم ) والعزيز هو المنتقم من أعدائه، والحكيم هو المصيب في تدبير خلقه.
وَقَوله: ﴿وَألقى فِي الأَرْض رواسي﴾ أَي: جبالا ثوابت، وَذكر السّديّ أَن الله
وَقَوله: ﴿أَن تميد بكم﴾ أَي: لِئَلَّا تميد بكم، وَيُقَال: كَرَاهَة أَن تميد بكم، والميد: هُوَ الْميل.
وَقَوله: ﴿وَبث فِيهَا من كل دَابَّة﴾ أَي: فرق فِيهَا من كل دَابَّة، وَالدَّابَّة كل حَيَوَان يدب على الأَرْض.
وَقَوله: ﴿وأنزلنا من السَّمَاء مَاء فَأَنْبَتْنَا فِيهَا من كل زوج كريم﴾ أَي: صنف حسن.
وَقَوله: ﴿بل لظالمون فِي ضلال مُبين﴾ أَي: فِي خطأ بَين.
وَقَالَ الشّعبِيّ وَعِكْرِمَة: إِنَّه كَانَ نَبيا. وَعَن بَعضهم: أَن الله تَعَالَى خَيره بَين النُّبُوَّة وَالْحكمَة، فَاخْتَارَ الْحِكْمَة؛ نَام نومَة فذريت الْحِكْمَة على لِسَانه، فانتبه ينْطق بالحكمة. وَذكر بَعضهم أَنه سُئِلَ: لم اخْتَرْت الْحِكْمَة على النُّبُوَّة؟ فَقَالَ: خشيت أَن أَضْعَف عَنْهَا، وَلَو كَانَ الله أعطانيها ابْتِدَاء وَلم يُخْبِرنِي أعانني عَلَيْهَا، فَلَمَّا خيرني خشيت الضعْف.
وَعَن سعيد بن الْمسيب قَالَ: كَانَ لُقْمَان عبدا أسود من سودان مصر. وَعَن غَيره قَالَ: كَانَ عبدا حَبَشِيًّا غليظ الشفتين متشقق الْقَدَمَيْنِ، وَحكي أَن عبدا أسود سَأَلَ سعيد بن الْمسيب عَن مَسْأَلَة فَأجَاب، ثمَّ قَالَ لَهُ: لَا يحزنك سوادك، فقد كَانَ قبلك ثَلَاثَة من السودَان هم من خير النَّاس، ثمَّ ذكر لُقْمَان الْحَكِيم، وبلالا مُؤذن رَسُول الله، وَمهجع مولى عمر بن الْخطاب، وَهُوَ أول شَهِيد فِي الْإِسْلَام، اسْتشْهد يَوْم بدر.
وَاخْتلفُوا فِي صناعَة لُقْمَان؛ فَقَالَ بَعضهم: كَانَ خياطا. وَقَالَ بَعضهم: كَانَ نجارا. وَقَالَ بَعضهم: كَانَ راعي غنم. فَروِيَ أَن بَعضهم لقِيه وَهُوَ يتَكَلَّم بالحكمة فَقَالَ: أَلَسْت فلَانا الرَّاعِي! فَبِمَ بلغت مَا بلغت؟ فَقَالَ: بِصدق الحَدِيث، وَأَدَاء الْأَمَانَة، وتركي مَا لَا يعنيني.
وَمن (حكمه) المنقولة: أَن مَوْلَاهُ دفع إِلَيْهِ شَاة وَقَالَ: اذْبَحْهَا وائتني بأطيب مضغتين مِنْهَا، فَجَاءَهُ بلسانها وقلبها، فَسَأَلَهُ مَوْلَاهُ عَن ذَلِك، فَقَالَ: لَا شَيْء أطيب
وَمعنى الْحِكْمَة الْمَذْكُورَة فِي هَذِه الْآيَة هُوَ الْفِقْه والإصابة فِي القَوْل. وَيُقَال: الْعقل الْكَامِل.
وَقَوله: ﴿أَن اشكر لله﴾ أَي: على نعمه.
وَقَوله: ﴿وَمن شكر فَإِنَّمَا يشْكر لنَفسِهِ﴾ أَي: مَنْفَعَة الشُّكْر تعود إِلَيْهِ.
وَقَوله: ﴿وَمن كفر فَإِن الله غَنِي حميد﴾ أَي: غَنِي عَن خلقه، مَحْمُود فِي فعله.
وَقَوله: ﴿يَا بني لَا تشرك بِاللَّه إِن الشّرك لظلم عَظِيم﴾ أَي: لَا تعدل بِاللَّه أحدا فِي الربوبية.
وَقَوله: ﴿إِن الشّرك لظلم عَظِيم﴾ الظُّلم هُوَ وضع الشَّيْء فِي غير مَوْضِعه، من أشرك مَعَ الله غَيره فقد وضع الشَّيْء فِي غير مَوْضِعه.
وَقَوله: ﴿وفصاله فِي عَاميْنِ﴾ أَي: فطامه فِي عَاميْنِ، والحولان نِهَايَة مُدَّة الْفِطَام.
وَقَوله: ﴿أَن اشكر لي ولوالديك﴾ قَالَ سُفْيَان بن عُيَيْنَة: من صلى الصَّلَوَات الْخمس فِي مواقيتها فقد شكر الله تَعَالَى، وَمن اسْتغْفر لِأَبَوَيْهِ فِي كل صَلَاة فقد شكر
وَقَوله: ﴿إِلَى الْمصير﴾ أَي: إِلَى الْمرجع.
وَقَوله: ﴿فَلَا تطعهما﴾ أَي: فَلَا تطعهما فِي الشّرك ومعصيتي.
وَقَوله: ﴿وصاحبهما فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفا﴾ أَي: صَاحبهَا فِي الدُّنْيَا بِالْبرِّ والصلة، وَهُوَ الْمَعْرُوف من غير أَن تطيعهما فِي معصيتي.
وَقَوله: ﴿وَاتبع سَبِيل من أناب إِلَيّ﴾ الْأَكْثَرُونَ أَنه مُحَمَّد.
وَقَوله: ﴿ثمَّ إِلَيّ مرجعكم فأنبئكم بِمَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
وَرُوِيَ [عَن] عَطاء عَن ابْن عَبَّاس فِي قَوْله: ﴿وَاتبع سَبِيل من أناب إِلَيّ﴾ أَن المُرَاد مِنْهُ أَبُو بكرالصديق رَضِي الله عَنهُ قَالَ ابْن عَبَّاس: لما أسلم أَبُو بكر، رَضِي الله عَنهُ جَاءَ عُثْمَان وَطَلْحَة وَالزُّبَيْر وَسعد بن أبي وَقاص وَعبد الرَّحْمَن بن عَوْف إِلَى أبي بكر الصّديق رَضِي الله عَنْهُم فَقَالُوا: يَا أَبَا بكر، قد صدقت هَذَا لرجل، وَآمَنت بِهِ؟ قَالَ: نعم، هُوَ صَادِق فآمنوا بِهِ، [و] حملهمْ إِلَى النَّبِي حَتَّى أَسْلمُوا، فَهَؤُلَاءِ الْقَوْم لَهُم سَابِقَة الْإِسْلَام، وَأَسْلمُوا بإرشاد أبي بكر رَضِي الله عَنْهُم وَأنزل الله تَعَالَى فِي أبي بكر، ﴿وَاتبع سَبِيل من أناب إِلَيّ﴾.
وَقَوله: ﴿أناب﴾ أَي: رَجَعَ إِلَيّ، وعَلى هَذَا القَوْل هُوَ أَبُو بكر رَضِي الله عَنهُ.
وَقَوله: ﴿فتكن فِي صَخْرَة﴾ أَي: فِي جبل، وَقَالَ السّديّ: هِيَ الصَّخْرَة الَّتِي عَلَيْهَا الأرضون السَّبع، وَهِي صَخْرَة خضراء، خضرَة السَّمَاء مِنْهَا.
وَقَوله: ﴿أَو فِي السَّمَوَات أَو فِي الأَرْض يَأْتِ بهَا الله﴾.
وَقَوله: ﴿إِن الله لطيف خَبِير﴾ قَالَ أَبُو الْعَالِيَة: لطيف باستخراج الخردلة، خَبِير بمكانها، وَفِي بعض التفاسير: أَن هَذِه الْحِكْمَة آخر حِكْمَة تكلم بهَا لُقْمَان، فَلَمَّا تكلم بهَا انشقت مرارته من هيبتها فتوفى.
وَقَوله: ﴿واصبر على مَا أَصَابَك﴾ أَي: من الْأَذَى.
وَقَوله: ﴿إِن ذَلِك من عزم الْأُمُور﴾ أَي: من الْأُمُور الَّتِي يُؤمر بهَا ويعزم عَلَيْهَا، وَقد روى حُذَيْفَة عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " لَيْسَ لِلْمُؤمنِ أَن يذل نَفسه، فَقيل: وَكَيف يذل
وَقد ثَبت عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " أفضل الْجِهَاد كلمة حق عِنْد سُلْطَان جَائِر ".
وَرُوِيَ عَن الني أَنه قَالَ: " سيد الشُّهَدَاء يَوْم الْقِيَامَة حَمْزَة بن عبد الْمطلب، ثمَّ رجل قَامَ إِلَى سُلْطَان يخَاف مِنْهُ ويرجو، فَأمره بِمَعْرُوف أَو نَهَاهُ عَن مُنكر، فَقتله على ذَلِك ".
وَقَوله: ﴿وَلَا تمش فِي الأَرْض مرحا﴾ أَي: لَا تمشي فِي الأَرْض مختالا.
وَقَوله: ﴿إِن الله لَا يحب كل مختال فخور﴾ أَي: مختال على الأَرْض، فخور
وَقَوله: ﴿واغضض من صَوْتك﴾ أَي: لَا تجْهر، وَمعنى اغضض أَي: انقص. يُقَال: غض فلَان من فلَان أَي: نقص من حَقه.
وَقَوله: ﴿إِن أنكر الْأَصْوَات لصوت الْحمير﴾ أَي: أقبح الْأَصْوَات لصوت الْحمير. يُقَال: جَاءَنِي فلَان بِوَجْه مُنكر أَي: قَبِيح، فَإِن قَالَ قَائِل: لم جعل صَوت الْحمار أقبح الْأَصْوَات؟ وَالْجَوَاب عَنهُ إِنَّمَا جعله أقبح الْأَصْوَات، لِأَن أَوله زفير، وَآخره شهيق، والزفير والشهيق: صَوت أهل النَّار. وَعَن سُفْيَان الثَّوْريّ قَالَ: كل شَيْء يسبح إِلَّا الْحمار؛ فَلهَذَا جعل صَوته أقبح الْأَصْوَات.
وَذكر النقاش فِي تَفْسِيره: أَن أهل الْجَاهِلِيَّة كَانُوا يتنافسون فِي شدَّة الصَّوْت، وَكَانُوا يَقُولُونَ: من كَانَ أَجْهَر صَوتا فَهُوَ أعز عِنْد الله. وَكَانُوا يجهرون بأصواتهم ويرفعونها بغاية الْإِمْكَان، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة، وَمَعْنَاهُ: أَنه لَيست الْعِزَّة فِي شدَّة الصَّوْت، وَلَو كَانَ من هُوَ أَشد أعز، لَكَانَ الْحمار أعز من الْكل. وَعَن جَعْفَر بن مُحَمَّد بن الصَّادِق أَنه قَالَ فِي قَوْله تَعَالَى: ﴿إِن أنكر الْأَصْوَات لصوت الْحمير﴾ : هِيَ العطسة القبيحة الْمُنكرَة.
وَمن حكم لُقْمَان سوى مَا ذكرنَا مَا رُوِيَ أَنه قَالَ: لَا مَال كصحة الْبدن، وَلَا نعيم كطيب النَّفس. وَمن حكمه أَيْضا أَنه قَالَ: أدب الْوَالِد لوَلَده كالسماد للزَّرْع.
وَحكى عِكْرِمَة أَن لُقْمَان دخل على دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام وَهُوَ يصنع درعا، فَلم يدر مَا يصنع؛ فَأَرَادَ أَن يسْأَله، وَكَانَ (حكمه) تَمنعهُ مِنْهُ، فَلَمَّا أتم دَاوُد الدرْع لبسهَا، وَقَالَ: نعم جُبَّة الْحَرْب هِيَ. فَقَالَ لُقْمَان: الصمت حكم وَقَلِيل فَاعله.
وَحكى أَيْضا عِكْرِمَة أَن مَوْلَاهُ خاطر قوما على شرب مَاء الْبَحْر فِي حَال سكره، فَدَعَا لُقْمَان وَقَالَ: لمثل هَذَا الْيَوْم كنت أعدك، وَذكر لَهُ الْقِصَّة. فَقَالَ: اجْمَعْ الْقَوْم الَّذين خاطرتهم؛ فَجَمعهُمْ، فَقَالَ لَهُم: احْبِسُوا مواد الْبَحْر حَتَّى يشرب مَاء الْبَحْر. فَقَالُوا: كَيفَ نحبس مواد الْبَحْر؟ فَقَالَ: كَيفَ يشرب مَاء الْبَحْر ومواده غير مُنْقَطِعَة؟ فخلص مَوْلَاهُ.
وَحكى أَيْضا عِكْرِمَة أَنه كَانَ لمولى لُقْمَان عبيد سواهُ، وَلم يكن فيهم أخس مِنْهُ عِنْده، فبعثهم إِلَى بُسْتَان لَهُ ليحملوا لَهُ فَاكِهَة، فَذَهَبُوا وأكلوا الْفَاكِهَة؛ فَلَمَّا رجعُوا أحالوا على لُقْمَان أَنه هُوَ الَّذِي أكل، وَصدقهمْ مَوْلَاهُ لخسة لُقْمَان عِنْده، وَأَرَادَ أَن يُؤْذِيه، فَقَالَ لُقْمَان لمَوْلَاهُ: إِن ذَا اللسانين وَذَا الْوَجْهَيْنِ لَا يكون وجيها عِنْد الله، فاسقني مَاء حميما، واسق هَؤُلَاءِ العبيد مَاء حميما؛ فسقاهم، فقاء سَائِر العبيد مَا أكلُوا من الْفَاكِهَة، وقاء هُوَ مَاء بحتا، فَعرف صدقه وكذبهم.
وَقَوله: ﴿وأسبغ عَلَيْهِم نعْمَة﴾ أَي: أتم عَلَيْكُم وأكمل نعمه ظَاهِرَة وباطنة، قَالَ ابْن عَبَّاس: النِّعْمَة الظَّاهِرَة هِيَ الْإِسْلَام وَحسن الْخلق، وَالنعْمَة الْبَاطِنَة هِيَ مَا يستر من الْعُيُوب. وَقَالَ بَعضهم: النِّعْمَة الظَّاهِرَة هِيَ الْإِقْرَار بِاللِّسَانِ، والباطنة هِيَ الِاعْتِقَاد
﴿وأسبع عَلَيْكُم نعمه ظَاهِرَة وباطنة وَمن النَّاس من يُجَادِل فِي الله بِغَيْر علم وَلَا هدى وَلَا كتاب منيروإذا قيل لَهُم إتبعوا مَا أنزل الله قَالُوا بل نتبع مَا وجدنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَو لَو كَانَ الشَّيْطَان يَدعُوهُم إِلَى عَذَاب السعير وَمن يسلم وَجهه إِلَى اللهوهو محسن فقد استمسك بالعروة الوثقى وَإِلَى الله عَاقِبَة الْأُمُور وَمن كفر فَلَا﴾ بِالْقَلْبِ. وَيُقَال النِّعْمَة الظَّاهِرَة: نعْمَة الدُّنْيَا، والباطنة: نعْمَة العقبى. وَقيل النِّعْمَة الظَّاهِرَة: نعْمَة الْأَبدَان، والباطنة: نعْمَة الْأَدْيَان. وَيُقَال: النِّعْمَة الظَّاهِرَة: تَمام الرزق، وَالنعْمَة الْبَاطِنَة: حسن الْخلق، وَيُقَال النِّعْمَة الظَّاهِرَة: الزى والرياش الْحسن. وَالنعْمَة الْبَاطِنَة: مَا أخْفى من الْمعْصِيَة وسترها. وَقَالَ بَعضهم: النِّعْمَة الظَّاهِرَة: الْوَلَد، والباطنة: الْوَطْء.
وَقَوله: ﴿وَمن النَّاس من يُجَادِل فِي الله بِغَيْر علم وَلَا هدى وَلَا كتاب مُنِير﴾ نزلت هَذِه الْآيَة فِي أُميَّة بن خلف وَأبي بن خلف وَأبي جهل بن هِشَام وَالنضْر بن الْحَارِث وأشباههم؛ كَانُوا يجادلون النَّبِي بِالْبَاطِلِ فِي الله وَفِي صِفَاته.
وَقَوله: ﴿أَو لَو كَانَ الشَّيْطَان يَدعُوهُم﴾ هَذَا جَوَاب عَن مَحْذُوف، والمحذوف: أيتبعون الشَّيْطَان، وَإِن كَانَ الشَّيْطَان يَدعُوهُم إِلَى عَذَاب السعير.
وَقَوله: ﴿ [وَهُوَ محسن] فقد استمسك بالعروة الوثقى﴾ : قَول لَا إِلَه إِلَّا الله. وَقيل العروة الوثقى: السَّبَب الَّذِي يُوصل إِلَى رضَا الله تَعَالَى. والوثقى تَأْنِيث الأوثق. والعهد الوثيق، هوالعهد الْمُحكم الشَّديد، والأوثق الأشد.
وَقَوله: ﴿وَإِلَى الله عَاقِبَة الْأُمُور﴾ أى: خَاتِمَة الْأُمُور.
﴿يحزنك كفره إِلَيْنَا مرجعهم فننبئهم بِمَا عمِلُوا إِن الله عليم بِذَات الصُّدُور نمتعهم قَلِيلا ثمَّ نطرهم إِلَى عَذَاب غليظ وَلَئِن سَأَلتهمْ من خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض ليَقُولن الله قل الْحَمد لله بل أَكْثَرهم لَا يعلمُونَ لله مَا فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض إِن الله هُوَ الْغَنِيّ الحميد وَلَو أَنما فِي الأَرْض من شَجَرَة أَقْلَام وَالْبَحْر يمده من بعد سَبْعَة أبحر مَا نفدت كلما ت الله إِن الله عَزِيز حَكِيم مَا خَلقكُم﴾
وَقَوله: ﴿إِلَيْنَا مرجعهم﴾ أى: مصيرهم.
وَقَوله: ﴿فننبئهم بِمَا عمِلُوا﴾ أى: نخبرهم بِمَا عمِلُوا.
وَقَوله: ﴿إِن الله عليم بِذَات الصُّدُور﴾ أى: عَالم بِمَا فِي الصُّدُور.
وَقَوله: ﴿ثمَّ نضطرهم إِلَى عَذَاب غليظ﴾ أى: نلجئهم إِلَى عَذَاب غليظ.
وَقَوله: ﴿إِن الله عَزِيز حَكِيم﴾ قد بَينا.
وَقَوله: ﴿إِن الله سميع بَصِير﴾ سميع لأقوال الْعباد، بَصِير بأفعالهم. وَالْآيَة الَّتِي تلِي هَذِه الْآيَة إِلَى آخرهَا قد بَينا مَعْنَاهَا، وَأما الْآيَات الثَّلَاث الَّتِي نزلت بِالْمَدِينَةِ فَهِيَ من قَوْله تَعَالَى: ﴿وَلَو أَن مَا فِي الأَرْض من شَجَرَة أَقْلَام﴾ إِلَى آخر الْآيَات الثَّلَاث.
قَوْله تَعَالَى: ﴿ألم تَرَ أَن الْفلك تجْرِي فِي الْبَحْر بِنِعْمَة الله﴾ أَي: بإنعام الله.
وَقَوله: ﴿إِن فِي ذَلِك لآيَات لكل صبار شكور﴾ رُوِيَ عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " الصَّبْر نصف الْإِيمَان، وَالشُّكْر نصف الْإِيمَان، وَالْيَقِين هُوَ الْإِيمَان كُله ". وَفِي بعض الْأَخْبَار: أَن أحب الْعباد إِلَى الله من يصبر عِنْد الْبلَاء، ويشكر عِنْد النعماء، ويرضى بِالْقضَاءِ.
وَقَوله: ﴿دعوا الله مُخلصين لَهُ الدّين﴾ أَي: أَخْلصُوا فِي الدُّعَاء، وَفِي التَّفْسِير: أَن الْآيَة نزلت فِي عِكْرِمَة بن أبي جهل حِين هرب من مَكَّة يَوْم فتحهَا رَسُول الله، وَكَانَ رَسُول الله أَمن جَمِيع النَّاس إِلَّا نَفرا مِنْهُم عِكْرِمَة بن أبي جهل، فهرب عِكْرِمَة إِلَى الْبَحْر، فَجَاءَهُمْ ريح عاصف، فَقَالَ صَاحب السَّفِينَة: أَخْلصُوا، فَإِنَّهُ لَا ينجيكم إِلَّا الْإِخْلَاص. وَرُوِيَ أَنه قَالَ لَهُم: لَا تدعوا آلِهَتكُم؛ فَإِن آلِهَتكُم لَا تغني عَنْكُم شَيْئا، وَادعوا الله وَحده.
فَقَالَ عِكْرِمَة: إِنَّمَا هربت من هَذَا، وَلَئِن نجاني الله من هَذَا لأرجعن إِلَى مُحَمَّد، ولأضعن يَدي فِي يَده. ثمَّ سكن الرّيح، وَخرج عِكْرِمَة وَرجع إِلَى مَكَّة، وَأسلم وَحسن إِسْلَامه، وَاسْتشْهدَ يَوْم اليرموك بِالشَّام.
وَقَوله: ﴿فَلَمَّا نجاهم إِلَى الْبر فَمنهمْ مقتصد﴾ أَي: عدل فِي فعله على معنى الْوَفَاء بِمَا وعده، وَمِنْهُم من قَالَ: مقتصد أَي: مقتصد فِي القَوْل لَا يسرف، وَمِنْهُم من يسرف.
وَقَوله: ﴿وَمَا يجْحَد بِآيَاتِنَا إِلَّا كل ختار كفور﴾ الختر: هُوَ أَشد الْغدر.
قَالَ الشَّاعِر:
(فَإنَّك لَو رَأَيْت أَبَا عُمَيْر | مَلَأت يَديك من ختر وغد) |