تفسير سورة لقمان

أحكام القرآن

تفسير سورة سورة لقمان من كتاب أحكام القرآن
لمؤلفه الجصاص . المتوفي سنة 370 هـ

قوله تعالى :﴿ وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ ﴾ إلى قوله :﴿ وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ لا تُشْرِكَ بي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فلا تُطِعْهُمَا وصَاحِبْهُمَا في الدُّنْيَا مَعْرُوفاً ﴾، أبان تعالى بذلك أن أمْرَه بالإحسان إلى الوالدين عامّ في الوالدين المسلمين والكفار، لقوله تعالى :﴿ وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ﴾، وأكّده بقوله :﴿ وَصَاحِبْهُمَا في الدُّنْيَا مَعْرُوفاً ﴾ ؛ وفي ذلك دليل على أنه لا يستحق القَوَدَ على أبيه وأنه لا يُحَدُّ له إذا قذفه ولا يُحبس له بدَيْنٍ عليه وأن عليه نفقتهما إذا احتاجا إليه، إذْ كان جميع ذلك من الصحبة بالمعروف، وفِعْلُ ضدّه ينافي مصاحبتهما بالمعروف ؛ ولذلك قال أصحابنا : إن الأبَ لا يحبس بدَيْنِ ابنه، ورُوي عن أبي يوسف أنه يحبسه إذا كان متمرداً.
قوله تعالى :﴿ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ ﴾ ؛ قال الضحاك :" ضعفاً على ضعف " يعني ضعف الولد على ضعف الأم.
وقيل : بل المعنى فيه شدة الجهد ﴿ وَفِصَالُهُ في عَامَيْنِ ﴾ يعني في انقضاء عامين، وفي آية أخرى :﴿ وحمله وفصاله ثلاثون شهراً ﴾ [ الأحقاف : ١٥ ] ؛ فحصل بمجموع الآيتين أن أقل مدة الحمل ستة أشهر، وبه استدلَّ ابن عباس على مدة أقل الحمل واتفق أهل العلم عليه.
قوله تعالى :﴿ وَاتَّبِعَ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إليَّ ﴾ يدلّ على صحة إجماع المسلمين لأمر الله تعالى إيانا باتباعهم، وهو مثل قوله :﴿ ويتبع غير سبيل المؤمنين ﴾ [ النساء : ١١٥ ].
قوله تعالى :﴿ يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وأْمُرْ بالمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ المُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ ﴾ ؛ يعني والله أعلم : اصبر على ما أصابك من الناس في الأمر بالمعروف ؛ وظاهره يقتضي وجوب الصبر وإن خاف على النفس، إلا أن الله تعالى قد أباح إعطاء التَّقِيَّةِ في حال الخوف في آي غيرها قد بيناها، وقد اقتضت الآية وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
قوله تعالى :﴿ ولا تُصَعِّرْ خَدَّكَ للنَّاسِ ﴾ ؛ قال ابن عباس ومجاهد :" معناه لا تُعْرِضْ بوجهك عن الناس تكبيراً ". وقال إبراهيم :" هو التشدق " ؛ ومعناه يرجع إلى الأول لأن المتشادق في الكلام متكبّر.
وقيل : إن أصل الصَّعَرِ داءٌ يأخذ الإبل في أعناقها ورؤوسها حتى يلوي وجوهها وأعناقها فيشبَّه بها الرجل الذي يلوي عنقه عن الناس ؛ قال الشاعر :
* وكُنَّا إِذَا الجَبَّارُ صَعَّرَ خَدَّهُ * أَقَمْنَا له مِنْ مَيْلِهِ فَتَقَوَّمَا *
وقوله تعالى :﴿ وَلا تَمْشِ في الأَرْضِ مَرَحاً ﴾ ؛ المرح البَطَرُ وإعجاب المرء بنفسه وازدراء الناس والاستهانة بهم، فنهى الله عنه إذْ لا يفعل ذلك إلا جاهل بنفسه وأحواله وابتداء أمره ومنتهاه ؛ قال الحسن : أنَّى لابن آدم الكبر وقد خرج من سبيل البول مَرَّتين.
وقوله تعالى :﴿ إِنَّ الله لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ﴾، قال مجاهد : هو المتكبر والفخور الذي يفتخر بنعم الله تعالى على الناس استصغاراً لهم، وذلك مذموم لأنه إنما يستحقّ عليه الشكر لله على نِعَمِهِ لا التوصل بها إلى معاصيه.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم حين ذَكَرَ نِعَمَ الله أنّهُ " سَيِّدٌ وَلَدِ آدَمَ ولا فَخْرَ "، فأخبر أنه إنما ذكرها شكراً لا افتخاراً، على نحو قوله تعالى :﴿ وأما بنعمة ربك فحدث ﴾ [ الضحى : ١١ ].
قوله تعالى :﴿ وَاقْصِدْ في مَشْيِكَ ﴾ ؛ قال يزيد بن أبي حبيب :" هو السرعة ". قال أبو بكر : يجوز أن يكون تأوّله على ذلك لأن المختال في مشيته لا يسرع فيها فسرعة المشي تنافي الخيلاء والتكبر.
وقوله تعالى :﴿ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الحَمِيرِ ﴾ فيه أمر بخفض الصوت لأنه أقرب إلى التواضع، كقوله تعالى :﴿ إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله ﴾ [ الحجرات : ٣ ]، ورَفْعُ الصوت على وجه ابتهار الناس وإظهارِ الاستخفاف بهم مذمومٌ، فأبان عن قبح هذا الفعل وأنه لا فضيلة فيه لأن الحمير ترفع أصواتها وهو أنكر الأصوات ؛ قال مجاهد في قوله :﴿ أَنْكَرَ الأَصْوَاتِ ﴾ : أقبحها، كما يقال هذا وجه منكر ؛ فذكر الله تعالى ذلك وأدّب العباد تزهيداً لهم في رفع الصوت.
قوله تعالى :﴿ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئاً ﴾ يدل على أن أحداً لا يستحق عند الله فضيلةً بشرف أبيه ولا بنسبه لأنه لم يخصص أحداً بذلك دون أحد، وبذلك ورد الأثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله :" مَنْ أَبْطَأَ بِهِ عَمَلُهُ لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ " وقال :" يا بني عَبْدِ المُطَّلِبِ لا يَأْتِيَنّي النَّاسُ بأَعْمَالِهِمْ وَتَأْتُوني بأَنْسَابِكُمْ فأَقُول إِني لا أُغْني عَنْكُمْ مِنَ الله شيئاً ".
وقوله :﴿ لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ ﴾ معناه لا يغني، يقال : جزيت عنك إذا أغنيت عنك.
قوله تعالى :﴿ إِنَّ الله عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ ﴾ ؛ مفهوم هذا الخطاب الإخبار بما يعلمه هو دون خلقه وأن أحداً لا يعلمه إلا بإعلامه إياه ؛ وفي ذلك دليل على أن حقيقة وجود الحَمْلِ غير معلومة عندنا وإن كانت قد يغلب على الظنّ وجوده، وهذا يوجب أن يكون نافي حمل امرأته من نفسه غير قاذف لها، وقد بينا ذلك فيما سلف.
سورة لقمان
معلومات السورة
الكتب
الفتاوى
الأقوال
التفسيرات

سورةُ (لُقْمانَ) من السُّوَر المكية، وقد جاءت ببيانِ عظمة هذا الكتاب، واتصافه بالحِكْمة، ومن ثَمَّ إثبات صفة الحِكْمة لله عز وجل، كما ذكرت السورةُ الكريمة وصايا (لُقْمانَ) الحكيمِ لابنه، التي يجدُرُ بكلِّ مَن آمَن بهذا الكتاب أن يأخذ بها، وقد تعرَّضتِ السورةُ لدلائلِ وَحْدانية الله وعظمته في هذا الكون، وبيان أقسام الناس، وموقفهم من الكتاب؛ من مؤمنٍ به وكافر.

ترتيبها المصحفي
31
نوعها
مكية
ألفاظها
550
ترتيب نزولها
57
العد المدني الأول
33
العد المدني الأخير
33
العد البصري
34
العد الكوفي
34
العد الشامي
34

* قوله تعالى: {يَٰبُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاْللَّهِۖ إِنَّ اْلشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٞ} [لقمان: 13]:

عن عبدِ اللهِ بن مسعودٍ رضي الله عنه، قال: «لمَّا نزَلتِ: {اْلَّذِينَ ‌ءَامَنُواْ ‌وَلَمْ ‌يَلْبِسُوٓاْ إِيمَٰنَهُم بِظُلْمٍ} [الأنعام: 82]، شَقَّ ذلك على المسلمين، فقالوا: يا رسولَ اللهِ، أيُّنا لا يَظلِمُ نفسَه؟ قال: «ليس ذلك؛ إنما هو الشِّرْكُ؛ ألَمْ تَسمَعوا ما قال لُقْمانُ لابنِهِ وهو يَعِظُه: {يَٰبُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاْللَّهِۖ إِنَّ اْلشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٞ} [لقمان: 13]؟!»». أخرجه البخاري (٣٤٢٩).

* سورة (لُقْمانَ):

سُمِّيتْ سورةُ (لُقْمانَ) بهذا الاسم؛ لذكرِ (لُقْمانَ) فيها، ولم يُذكَرْ في سورة أخرى.

* قراءة النبيِّ صلى الله عليه وسلم لها في صلاة الظُّهْرِ:

عن البَراء بن عازبٍ رضي الله عنهما، قال: «كان رسولُ اللهِ ﷺ يُصلِّي بنا الظُّهْرَ، فنَسمَعُ منه الآيةَ بعد الآياتِ مِن سورةِ لُقْمانَ، والذَّاريَاتِ». أخرجه النسائي (٩٧١).

اشتمَلتْ سورةُ (لُقْمانَ) على الموضوعات الآتية:

1. المحسِنون: تعريفٌ وجزاء (١-٥).

2. فريق اللَّهْوِ من الناس (٦-٧).

3. آية الحِكْمة والقُدْرة (٨-١١).

4. نعمة الحِكْمة، والدعوةُ إلى شُكْرها (١٢-١٩).

5. إسباغ النِّعَم (٢٠-٢١).

6. الإنسان بين الكفرِ والإيمان (٢٢-٢٦).

7. كلمات الله التى لا تَنفَدُ (٢٧- ٢٨).

8. نعمة التسخير (٢٩- ٣٢).

9. المُغيَّبات وغُرور الحياة (٣٣-٣٤).

ينظر: "التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (6 /27).

جاءت سورةُ (لُقْمانَ) بمقاصِدَ عظيمةٍ؛ منها: إثباتُ الحِكْمة للكتاب، التي يلزم منها حِكْمةُ مُنزِلِه في أقواله وأفعاله؛ وهو اللهُ عزَّ وجلَّ.

ومنها: تذكيرُ المشركين بدلائلِ وَحْدانية الله تعالى، وبنِعَمِه عليهم؛ من خلال وصايا (لُقْمانَ) عليه السلام لابنه، وذكَرتْ مزيَّةَ دِين الإسلام، وتسليةَ الرسول صلى الله عليه وسلم بتمسُّك المسلمين بالعُرْوة الوثقى، وأنه لا يُحزِنه كفرُ مَن كفروا.

ينظر: "مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور" للبقاعي (2 /356)، "التحرير والتنوير" لابن عاشور (21 /139).