وهي مدنية
بسم الله الرحمن الرحيم
قال الشيخ الإمام الأجل - رضي الله عنه - لقد ورد في فضل هذه السورة وسورة البقرة أخبار منها : ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم [ أنه ] ( ١ )قال :«تعلموا البقرة وآل عمران فإنهما الزهروان تظلان صاحبهما يوم القيامة »( ٢ ).وروى عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال :«تجيء البقرة و آل عمران يوم القيامة كأنهما غمامتان أو غيايتان أو فرقان من طير صواف »( ٣ ).
٢ - تقدم في أول سورة البقرة..
٣ - رواه مسلم (٦/١٣٠-١٣١ رقم ٨٠٥)، والترمذي (٥/١٤٧-١٤٨ رقم ٢٨٨٣)، وأحمد (٤/١٨٣) عن النواس بن سمعان، وقد تقدم تخريجه في أول سورة البقرة، من حديث أبي أمامة، وبريدة – رضي الله عنهما-..
ﰡ
فالألف: هُوَ الله، وَاللَّام: جِبْرِيل، وَالْمِيم: مُحَمَّد، وَفِيه إِشَارَة لما أنزل الله، على لِسَان جِبْرِيل، على مُحَمَّد.
وَقد ذكرنَا الْأَقْوَال فِي حُرُوف التهجي.
وَإِنَّمَا فتح الْمِيم عِنْد الْوَصْل، وَإِن كَانَ السَّاكِن إِذا حرك حرك إِلَى الْكسر؛ لأَنهم استثقلوا الكسرة بعد [الْجَزْم، وَالْيَاء فِيهِ جزم].
﴿لَا إِلَه إِلَّا هُوَ﴾ لَا معبود سواهُ. ﴿الْحَيّ القيوم﴾ فالحي: الدَّائِم الَّذِي لَا يزل..
وَأما القيوم فقد سبق تَفْسِيره، وَقيل: هُوَ الَّذِي لَا يَزُول وَلَا يحول. وَقَالَ جَعْفَر بن مُحَمَّد [بن] الزبير: هُوَ دَائِم الْوُجُود. وَقَرَأَ عمر، وَابْن مَسْعُود ﴿الْحَيّ الْقيام﴾ وَهُوَ فِي الشواذ.
وقد ذكرنا الأقوال في حروف التهجي.
وإنما فتح الميم عند الوصل، وإن كان الساكن إذا حرك حرك إلى الكسر ؛ لأنهم استثقلوا الكسرة بعد [ الجزم، والياء فيه جزم ] ( ١ ).
( لا إله إلا هو ) لا معبود سواه. ( الحي القيوم ) فالحي : الدائم الذي لا يزل.
وأما القيوم فقد سبق تفسيره، وقيل : هو الذي لا يزول ولا يحول. وقال جعفر بن محمد [ بن ] ( ١ )
الزبير : هو دائم الوجود. وقرأ عمر، وابن مسعود ( الحي القيام ) وهو في الشواذ.
وَمِنْه يُقَال: كتبت البغلة، إِذا جمع بَين شفريها بِحَلقَة. وَقَوله: ﴿بِالْحَقِّ﴾ أَي: بِالصّدقِ فِي الدلالات والإخبارات، والوعد والوعيد.
وَقَوله: ﴿مُصدقا لما بَين يَدَيْهِ﴾ يَعْنِي: الْقُرْآن مُصدق لما قبله من التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل.
وَإِنَّمَا قَالَ: ﴿لما بَين يَدَيْهِ﴾ ؛ لِأَنَّهُ فِي تَصْدِيق مَا قبله، وَإِظْهَار صدقه، كالشيء الْحَاضِر بَين يَدَيْهِ.
﴿وَأنزل التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل من قبل هدى للنَّاس﴾
فَذكر هَا هُنَا ﴿أنزل﴾ وَذكر فِي الِابْتِدَاء ﴿نزل الْكتاب﴾، لِأَنَّهُ أنزل التَّوْرَاة جملَة وَالْإِنْجِيل جملَة، وَنزل الْقُرْآن مفصلا.
وَأما التَّوْرَاة أَصْلهَا وورية من الورى، من قَوْلهم ورى الزند إِذا أَضَاء، وَخرجت ناره، وَيُقَال: ورى زندي عِنْد فلَان؛ إِذا أَضَاء أمره عِنْده.
فَسمى وورية؛ لضيائها وَكَونهَا نورا، وقلبت الْوَاو تَاء فَصَارَت تورية. وَأما الْإِنْجِيل من " النجل " وَهُوَ الأَصْل فَسمى بِهِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ أصلا من الْأُصُول فِي الْعلم.
﴿وَأنزل الْفرْقَان﴾ قيل: هُوَ الْقُرْآن، وَهُوَ المفرق بَين الْحَلَال وَالْحرَام، وَقيل: كل مَا أنزل الله فَهُوَ فرقان؛ لكَونه مفرقا بَين الْحَلَال وَالْحرَام، وَفِي الْآيَة تَقْدِيم وَتَأْخِير، وَتَقْدِيره وَأنزل التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل من قبل، وَأنزل الْفرْقَان هدى للنَّاس.
قَوْله تَعَالَى: ﴿إِن الَّذين كفرُوا بآيَات الله لَهُم عَذَاب شَدِيد﴾ " نزلت فِي وَفد نَجْرَان من النَّصَارَى، قدمُوا على رَسُول الله، وَفِيهِمْ السَّيِّد وَالْعَاقِب: كَانَا رجلَيْنِ مِنْهُم، وهم سِتُّونَ رَاكِبًا، وَقيل قَرِيبا من عشْرين رَاكِبًا، فَدَخَلُوا الْمَسْجِد، وَالنَّبِيّ قد صلى الْعَصْر، فوقفوا يصلونَ نَحْو الْمشرق صلَاتهم، فَلَمَّا فرغوا سَأَلَهُمْ رَسُول الله عَن عِيسَى، فَاخْتَلَفُوا فِيهِ، فَقَالَ بَعضهم: الله. وَقَالَ بَعضهم: ابْن الله، وَقَالَ بَعضهم: ثَالِث ثَلَاثَة، فَقَالَ: أَسْلمُوا، فَقَالُوا نَحن مُسلمُونَ، فَقَالَ: كَذبْتُمْ؛ يمنعكم من ذَلِك قَوْلكُم عِيسَى ولد الله. فَأنْزل الله تَعَالَى فيهم بضع وَثَمَانِينَ آيَة، من أول سُورَة آل عمرَان فِي الْحجَّاج، وَالدّلَالَة عَلَيْهِم، ورد قَوْلهم، وَهَذِه الْآيَة من جملها نزلت فيهم ".
﴿وَالله عَزِيز ذُو انتقام﴾ فالعزيز: المنيع الَّذِي لَا يقدر عَلَيْهِ، وَمِنْه: الأَرْض العزاء،
وَهِي الصلبة الشاقة المسلك، وَقيل: الْعَزِيز: الْغَالِب الَّذِي لَا يفوتهُ شَيْء، وَمِنْه: يُقَال: من عز بز أَي من غلب سلب، والمنتقم المعاقب على (الْجِنَايَة﴾، والنقمة: الْعقُوبَة.
وأما التوراة أصلها وَوْرِيَةٌ من الورى، من قولهم ورى الزند إذا أضاء، وخرجت ناره، ويقال : ورى زندي عند فلان ؛ إذا أضاء أمره عنده.
فسمى وورية ؛ لضيائها وكونها نورا، وقلبت الواو تاء فصارت تورية. وأما الإنجيل من " النجل " وهو الأصل فسمى به ؛ لأنه كان أصلا من الأصول في العلم.
( وأنزل الفرقان ) قيل : هو القرآن، وهو المفرق بين الحلال والحرام، وقيل : كل ما أنزل الله فهو فرقان ؛ لكونه مفرقا بين الحلال والحرام، وفي الآية تقديم وتأخير، وتقديره وأنزل التوراة والإنجيل من قبل، وأنزل الفرقان هدى للناس.
قوله تعالى :( إن الذين كفروا بآيات الله لهم عذاب شديد ) «نزلت في وفد نجران من النصارى، قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيهم السيد والعاقب : كانا رجلين منهم، وهم ستون راكبا، وقيل قريبا من عشرين راكباً، فدخلوا المسجد، والنبي صلى الله عليه وسلم قد صلى العصر، فوقفوا يصلون نحو المشرق صلاتهم، فلما فرغوا سألهم رسول الله عن عيسى، فاختلفوا فيه، فقال بعضهم : الله. وقال بعضهم : ابن الله، وقال بعضهم : ثالث ثلاثة، فقال صلى الله عليه وسلم : أسلموا، فقالوا نحن مسلمون، فقال صلى الله عليه وسلم : كذبتم ؛ يمنعكم من ذلك قولكم عيسى ولد الله. فأنزل الله تعالى فيهم بضع وثمانين آية، من أول سورة آل عمران في الحجاج، والدِّلالة عليهم، وردِّ قولهم، وهذه الآية من جملها نزلت فيهم »( ١ ).
( والله عزيز ذو انتقام ) فالعزيز : المنيع الذي لا يُقْدَر عليه، ومنه : الأرض العزاء، وهي الصلبة الشاقة المسلك، وقيل : العزيز : الغالب الذي لا يفوته شيء، ومنه : يقال : من عَزَّ بَزَّ( ٢ ) أي من غلب سلب، والمنتقم المعاقب على ( الجناية ) ( ٣ )، والنقمة : العقوبة.
وعزاه في الدر (٢/٤٣) لأبي نعيم في الدلائل، من حديث ابن عباس ولكن قال: «وهم أربعة عشر رجلا...» الحديث، ورواه ابن مردويه من حديث رافع بن خديج. إلا أنه قال في الأشراف: «كانوا اثنى عشر.. » الحديث. (تفسير ابن كثير ١/٣٦٩)..
٢ - تكررت في الأصل من الناسخ..
٣ - في "ك": الخيانة..
وَقد روى عَن ابْن مَسْعُود - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: إِن النُّطْفَة إِذا وَقعت فِي الرَّحِم تكون أَرْبَعِينَ يَوْمًا نُطْفَة، ثمَّ أَرْبَعِينَ يَوْمًا علقَة، ثمَّ أَرْبَعِينَ يَوْمًا مُضْغَة، ثمَّ يبْعَث الله تَعَالَى ملكا يَأْخُذ تُرَابا بَين أصبعيه فيخلطه بالمضغة، ثمَّ يصوره بِإِذن الله كَيفَ (شَاءَ)، أَحْمَر أَو أسود أَو أَبيض، طَويلا أَو قَصِيرا، حسنا أَو قبيحا، ثمَّ يكْتب رزقه وَعَمله وأثره وأجله وشقى أَو سعيد، ثمَّ إِذا مَاتَ يدْفن فِي التربة الَّتِي أَخذ مِنْهَا التُّرَاب. (٦ لَا إِلَه إِلَّا هُوَ الْعَزِيز) فِي أمره ﴿الْحَكِيم﴾ فِي سُلْطَانه.
آخر الْآيَات الثَّلَاث، وَأما المتشابهات: حُرُوف التهجي فِي اوائل السُّور. وَقَالَ عِكْرِمَة وَمُجاهد: المحكمات: الْحَلَال وَالْحرَام، وَمَا سواهُ كُله من المتشابهات؛ لِأَنَّهُ يشبه بَعْضهَا بَعْضًا فِي الْحق، والتصديق، يصدق بعضه بَعْضهَا.
وَقَالَ الضَّحَّاك: المحكمات: الناسخات، والمتشابهات: المنسوخات.
وَقَالَ جَابر بن عبد الله الْأنْصَارِيّ: المحكمات مَا أوقف الله تَعَالَى الْخلق على مَعْنَاهَا، والمتشابهات مَا لَا يعقل مَعْنَاهَا، وَلَا يعلمهَا إِلَّا الله. وَفِيه قَولَانِ آخرَانِ: أَحدهمَا: أَن المحكمات مَا لَا يشْتَبه مَعْنَاهَا، والمتشابهات مَا يشْتَبه ويلتبس مَعْنَاهَا. وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن المحكمات مَا يسْتَقلّ بِنَفسِهِ فِي الْمَعْنى، [والمتشابهات] مَا لَا يسْتَقلّ بِنَفسِهِ فِي الْمَعْنى إِلَّا بِنَوْع اسْتِدْلَال، أَو رد إِلَى غَيره؛ وَإِنَّمَا سميت محكمات من الإحكام؛ (كَأَنَّهُ) أحكمها؛ فَمنع الْخلق من التَّصَرُّف فِيهَا؛ لظهورها (ووضوح) مَعْنَاهَا.
﴿هن أم الْكتاب﴾ أَي: أصل الْكتاب، فَإِن قَالَ قَائِل: لم لم يقل: هن أُمَّهَات الْكتاب؟ قيل: قَالَ الْفراء: تَقْدِيره: هن الشَّيْء الَّذِي هُوَ أصل الْكتاب. وَقَالَ غَيره: مَعْنَاهُ: كل وَاحِدَة مِنْهُنَّ أصل الْكتاب، كَمَا يُقَال: الْقَوْم أَسد على، أَي: كل وَاحِد مِنْهُم أَسد على، وَمَعْنَاهُ: هن أصل الْكتاب؛ لِأَن الْخلق يفزعون إِلَيْهِ، كَمَا تفزع الْفُرُوع إِلَى الْأُصُول، فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ فرق هَا هُنَا بَين المحكمات والمتشابهات، وسمى كل الْقُرْآن متشابها فِي قَوْله تَعَالَى ﴿الله نزل أحسن الحَدِيث كتابا متشابها﴾. وسمى الْكل محكما حَيْثُ قَالَ: ﴿الر. كتاب أحكمت آيَاته﴾ ؟ قُلْنَا: لما ذكر هُنَالك ﴿كتابا متشابه﴾ على معنى: أَنه يشبه بعضه بَعْضًا فِي الْحق والصدق، وَإِنَّمَا ذكر فِي الْموضع الآخر ﴿أحكمت آيَاته﴾ على معنى أَن الْكل حق وجد، لَيْسَ فِيهِ
﴿فَأَما الَّذين فِي قُلُوبهم زيغ﴾ قَالَ مُجَاهِد: الزيغ: اللّبْس. وَقيل: هُوَ الشّرك، وَقيل: هُوَ الشُّبُهَات الَّتِي تتَعَلَّق بِالْقَلْبِ ﴿فيتبعون مَا تشابه مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَة وابتغاء تَأْوِيله﴾ يَعْنِي: أَن الَّذين فِي قُلُوبهم زيغ يغلون فِي طلب التَّأْوِيل للمتشابه؛ فيقعون على التَّأْوِيل المظلم؛ فَذَلِك ابْتِغَاء الْفِتْنَة؛ لِأَن من غلا فِي الدّين، وَطلب تَأْوِيل مَا لَا يُعلمهُ إِلَّا الله، يَقع فِي الْفِتْنَة، وَيكون مفتونا، وَخير الدّين: النمط الْأَوْسَط الَّذِي لَيْسَ فِيهِ غلو وَلَا تَقْصِير.
ثمَّ اخْتلفُوا فِي الَّذين يتبعُون مَا تشابه من هم؟ قيل: هم الْيَهُود الَّذين قَالُوا: مُدَّة أمة مُحَمَّد على حُرُوف التهجي، وَقيل: هم النَّصَارَى من وَفد نَجْرَان، حَيْثُ قَالُوا لرَسُول الله: مَا تَقول فِي عِيسَى؟ فَقَالَ: عبد الله وَرَسُوله، قَالُوا: فَهَل تَقول: أَنه كلمة الله وروح مِنْهُ؟ فَقَالَ: نعم، قَالُوا: حَسبنَا الله. وَاتبعُوا مَا تشابه من قَوْله: كلمة الله وروح مِنْهُ. وَقيل: هم الغالون فِي طلب التَّأْوِيل وَاتِّبَاع الْمُتَشَابه، وروت عَائِشَة " أَن النَّبِي قَرَأَ هَذِه الْآيَة، ثمَّ قَالَ: إِذا رَأَيْتُمْ الَّذين يجادلون فِي الْآيَات فاحذروهم فهم هم ".
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَمَا يعلم تَأْوِيله إِلَّا الله﴾ اسْتَأْثر الله تَعَالَى بِعلم التَّأْوِيل، وَقطع أفهام الْعباد عَنهُ، وَالْفرق بَين التَّأْوِيل وَالتَّفْسِير: أَن التَّفْسِير: هُوَ ذكر الْمَعْنى الْوَاضِح، كَمَا تَقول فِي قَوْله: ﴿لَا ريب فِيهِ﴾ أَي: لَا شكّ فِيهِ، وَأما التَّأْوِيل: هُوَ مَا يؤول الْمَعْنى إِلَيْهِ، ويستقر عَلَيْهِ. ثمَّ الْكَلَام فِي الْوَقْف، فَاعْلَم: أَن أبي بن كَعْب وَعَائِشَة
وَابْن عَبَّاس - فِي رِوَايَة طَاوس عَنهُ - (رأو) الْوَقْف على قَول ﴿إِلَّا الله﴾، وَهُوَ قَول الْحسن، وَأكْثر التَّابِعين، وَبِه قَالَ الْكسَائي، وَالْفراء، والأخفش، وَأَبُو عبيد، وَأَبُو حَاتِم، قَالُوا: إِن الْوَاو فِي قَوْله: ﴿والراسخون﴾ وَاو الإبتداء؛ وَالدَّلِيل على صِحَّته قِرَاءَة ابْن عَبَّاس " وَيَقُول الراسخون فِي الْعلم آمنا بِهِ " وروى ابْن جريج، عَن مُجَاهِد، عَن ابْن عَبَّاس - فِي رِوَايَة أُخْرَى -: الْوَاو للنسق، وَلَا وقف (على قَوْله) ﴿إِلَّا الله﴾ (وَأَن الراسخون) فِي الْعلم يعلمُونَ التَّأْوِيل، قَالَ ابْن عَبَّاس: وَأَنا مِمَّن يعلم تَأْوِيله، وَقد ثَبت عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " اللَّهُمَّ فقهه فِي الدّين وَعلمه التَّأْوِيل "، قَالُوا: وَالصَّحِيح رِوَايَة طَاوس، عَن ابْن عَبَّاس، كَمَا ذكرنَا، وَعَلِيهِ إِجْمَاع الْقُرَّاء؛ وَلِأَن على قَضِيَّة قَول مُجَاهِد لَا يَسْتَقِيم.
قَوْله: ﴿والراسخون فِي الْعلم يَقُولُونَ﴾ قَالَ النُّحَاة: وَإِنَّمَا يَسْتَقِيم أَن تَقول: وَمَا يعلم تَأْوِيله إِلَّا الله والراسخون فِي الْعلم قائلين ﴿أمنا بِهِ﴾ (و) لِأَنَّهُ قَالَ: ﴿والراسخون فِي الْعلم يَقُولُونَ آمنا بِهِ كل من عِنْد رَبنَا﴾ ؛ وَلَو علمُوا التَّأْوِيل لم يكن لقَولهم هَذَا معنى، وَقد روى عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: " أنزل الْقُرْآن على أَرْبَعَة أوجه " الْحَلَال وَالْحرَام، وعربية تعرفها الْعَرَب، وَمِمَّا يعلم الْعباد تَأْوِيله، وَمَا لَا يعلم تَأْوِيله إِلَّا الله " وَهَذَا يشْهد لما قُلْنَا؛ فَدلَّ أَن الْوَقْف على قَوْله: ﴿إِلَّا الله﴾. وَالْوَاو: وَاو الِابْتِدَاء فِي قَول ﴿والراسخون فِي الْعلم يَقُولُونَ آمنا بِهِ كل من عِنْد رَبنَا﴾ قَالُوا: وَمن رسوخهم فِي الْعلم يَقُولُونَ ذَلِك ﴿وَمَا يذكر إِلَّا أولُوا الْأَلْبَاب﴾.
دُعَاء للتثبيت والإدامة عَلَيْهِ، وَقد رَوَت أم سَلمَة عَن النَّبِي أَنه كَانَ يَقُول: " يَا مُقَلِّب الْقُلُوب ثَبت قلبِي على دينك " ﴿وهب لنا من لَدُنْك رَحْمَة﴾ نصْرَة ومعونة ﴿إِنَّك أَنْت الْوَهَّاب﴾.
﴿إِن الله لَا يخلف الميعاد﴾ فَلَا تزغ قُلُوبنَا، وارحمنا، وَلكنه أوجزه وَلم يذكر تَمام الدُّعَاء.
﴿وَالَّذين من قبلهم﴾ يَعْنِي: عادا وَثَمُود ﴿كذبُوا بآيتنا فَأَخذهُم الله بِذُنُوبِهِمْ﴾، عاقبهم بجرائمهم، ﴿وَالله شَدِيد الْعقَاب﴾ لِأَنَّهُ دَائِم، عِقَابه لَا يَنْقَطِع؛ وكل دَائِم شَدِيد.
لَهُم: أَسْلمُوا قبل أَن ينزل بكم مَا نزل بالمشركين من بَأْس الله، فَقَالُوا: إِنَّك لقِيت قوما أَغْمَارًا لَا يعْرفُونَ الْقِتَال، فَلَو قَاتَلْتنَا لَوَلَّيْت " فَنزل قَوْله تَعَالَى: ﴿قل للَّذين كفرُوا ستغلبون وتحشرون إِلَى جَهَنَّم وَبئسَ المهاد﴾ يَعْنِي: ستغلبون فِي الدُّنْيَا، وتحشرون فِي الْآخِرَة إِلَى جَهَنَّم، ﴿وَبئسَ المهاد﴾ وَقَالَ مقَاتل وَجَمَاعَة: هُوَ خطاب لأولئك الْمُشْركين يَوْم بدر، يَقُول الله: قا للْمُشْرِكين: ستغلبون، وتحشرون إِلَى جَهَنَّم، وَقد غلبوا وحشروا إِلَى جَهَنَّم، وَيقْرَأ: " سيغلبون ويحشرون " بِالْيَاءِ - وَهُوَ بِمَعْنى الأول، قَالَ الْفراء: وَهُوَ مثل قَول الرجل: قل لزيد: إِنَّك قَائِم. هُوَ بِمَعْنى قَوْله: قل لزيد: إِنَّه قَائِم؛ فهما فِي الْمَعْنى سَوَاء، وَيحْتَمل أَن يكون هَذَا خطاب للْيَهُود، يَعْنِي: قل للَّذين كفرُوا من الْيَهُود: سيغلب الْمُشْركُونَ، ويحشرون إِلَى جَهَنَّم، وَبئسَ المهاد، أَي: بئْسَمَا مهدوا لأَنْفُسِهِمْ، أَو بئْسَمَا مهد لَهُم.
نَفرا، وَعَن عَليّ وَابْن مَسْعُود: أَن عدد الْمُشْركين كَانُوا ألفا، فَرَآهُمْ الْمُسلمُونَ نيفا وسِتمِائَة. قَالَ ابْن مَسْعُود: رأيناهم ضعفى عددنا، ثمَّ رأيناهم مثل عددنا؛ رجل [بِرَجُل] وَهَذَا معنى قَوْله تَعَالَى فِي سُورَة الْأَنْفَال {وَإِذا يريكهم إِذْ التقيتم فِي أعينكُم قَلِيلا ويقللكم فِي أَعينهم ليقضي الله أمرا كَانَ مَفْعُولا﴾ فَرَآهُمْ الْمُسلمُونَ أقل من عَددهمْ، وَكَذَلِكَ الْمُشْركُونَ رَأَوْا الْمُسلمين أقل من عَددهمْ، وَكَانَت الْحِكْمَة فِيهِ إِذا رَأَوْهُمْ أقل مِمَّا كَانُوا لَا يحجمون، وَلَا يفترون عَن الْقِتَال؛ لِأَن الله تَعَالَى قد أخْبرهُم أَن الْوَاحِد مِنْهُم يُقَاوم اثْنَيْنِ من الْمُشْركين، وَكَذَلِكَ الْمُشْركُونَ إِذا رَأَوْا الْمُسلمين أقل مِمَّا كَانُوا لَا يمتنعون عَن الْقِتَال؛ ﴿ليقضي الله أمرا كَانَ مَفْعُولا﴾، وَذَلِكَ من قتل رُؤَسَائِهِمْ وَقَادَتهمْ، بِإِذن الله تَعَالَى.
قَالَ الْفراء: إِنَّمَا رَأَوْهُمْ على عَددهمْ كَمَا كَانُوا، وَإِنَّمَا قَالَ: ﴿يرونهم مثليهم﴾ يَعْنِي: مثليهم سوى عَددهمْ، وَهَذَا مثل قَول الرجل - وَعِنْده دِرْهَم -: أَنا أحتاج إِلَى مثلى هَذَا الدِّرْهَم، يَعْنِي إِلَى مثلَيْهِ سواهُ. وَالْأول أصح.
وقرىء: " ترونهم " بِالتَّاءِ فَيكون خطابا للْيَهُود، وَكَانَ جمَاعَة مِنْهُم حَضَرُوا قتال بدر؛ لينظروا على من الدبرة، فرأو الْمُشْركين مثلى عدد الْمُسلمين، ورأو النُّصْرَة مَعَ ذَلِك للْمُسلمين، وَكَانَ ذَلِك معْجزَة، وَآيَة للرسول فِي أَعينهم. وعَلى الْقِرَاءَة الأولى يكون الْخطاب مَعَ الْمُسلمين فِي قَوْله: ( ﴿قد كَانَ لكم آيَة فِي فئتين﴾ وَالله يُؤَيّد بنصره من يَشَاء) ؛ لِأَنَّهُ نصر الْمُؤمنِينَ يَوْمئِذٍ.
﴿إِن فِي ذَلِك لعبرة لأولى الْأَبْصَار﴾ أَي: عَلامَة لأولى البصائر فِي الدّين، ولذوي الْعُقُول أَجْمَعِينَ.
قَوْله: ﴿وَالْخَيْل المسمومة﴾ قَالَ مُجَاهِد: هِيَ الحسان المطهمة، وَقَالَ سعيد ابْن جُبَير: المسومة: الراعية. يُقَال: أسام الْخَيل من الرعى. وَفِيه قَول ثَالِث، المسومة: المعلمة من السيما، وَهِي الْعَلامَة. مِنْهُم من قَالَ: سيماها: الشّبَه. وَمِنْهُم من قَالَ: سيماها الكي ﴿والأنعام﴾ : هِيَ الْإِبِل وَالْبَقر وَالْغنم ﴿والحرث﴾ : هِيَ الْأَرَاضِي المهيأة للزِّرَاعَة ﴿ذَلِك مَتَاع الْحَيَاة الدُّنْيَا﴾ فِيهِ إِشَارَة إِلَى أَنه مَتَاع يفنى.
﴿وَالله عِنْده حسن المآب﴾ فِيهِ تزهيد فِي الدُّنْيَا وترغيب فِي الْآخِرَة، ثمَّ أكده
وَفِي الْخَبَر عَن النَّبِي: " أَن أهل الْجنَّة؛ إِذا دخلُوا الْجنَّة يَقُول الله تَعَالَى: إِن لكم عِنْدِي موعدا، وَأَنا منجزكموه، فَيَقُولُونَ: قد أَعطيتنَا كل مَا نتمنى، فَمَا هُوَ يارب؟ فَيَقُول: أنزل عَلَيْكُم رِضْوَانِي وَلَا أَسخط عَلَيْكُم أبدا ".
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَالله بَصِير بالعباد الَّذين يَقُولُونَ﴾
آمن مَعَه، وَقيل: هم الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَار، وَقيل: هم جَمِيع عُلَمَاء الْأمة.
﴿قَائِما﴾ نصب على الْحَال، فَهُوَ الله تَعَالَى قَائِم بتدبير الْخلق ﴿بِالْقِسْطِ﴾ : بِالْعَدْلِ، يُقَال: قسط يقسط إِذا جَار. وأقسط يقسط؛ إِذا عدل، فالقاسط: الجائر، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى ﴿وَأما القاسطون فَكَانُوا لِجَهَنَّم حطبا﴾ والمقسط: الْعَادِل، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: ( ﴿إِن الله يحب المقسطين﴾ لَا إِلَه إِلَّا هُوَ الْعَزِيز الْحَكِيم)
وَالْإِسْلَام الْمَعْرُوف فِي الشَّرْع: هُوَ الْإِتْيَان بِالشَّهَادَتَيْنِ مَعَ سَائِر الْأَركان الْخمس، وَفِي الْأَخْبَار: " أَنه يُؤْتى بِالْأَعْمَالِ يَوْم الْقِيَامَة، فَيُؤتى بِالصَّلَاةِ على صُورَة، فَتَقول: يَا رب، إِنِّي الصَّلَاة، فَيَقُول الله تَعَالَى: إِنَّك بِخَير، وَيُؤْتى بِالزَّكَاةِ على صُورَة، فَتَقول: يَا رب، إِنِّي الزَّكَاة، فَيَقُول الله: إِنَّك بِخَير، وَهَكَذَا الصَّوْم وَالْحج، ثمَّ يُؤْتى بِالْإِسْلَامِ على أحسن الصُّور، فَيَقُول يَا رب، إِنِّي الْإِسْلَام، فَيَقُول الله تَعَالَى: إِنَّك إِلَى خير، بك أَخذ الْيَوْم وَبِك أعطي ".
وَحكي عَن غَالب الْقطَّان أَنه قَالَ: أتيت الْكُوفَة للتِّجَارَة فَنزلت قَرِيبا من الْأَعْمَش، فَكنت أختلف إِلَيْهِ وأسمع مِنْهُ الحَدِيث، فقصدت مِنْهُ لَيْلَة أَن أنحدر مِنْهُ إِلَى الْبَصْرَة، فَوَجَدته يتجهد فِي الْمَسْجِد، فَمر بِهَذِهِ الْآيَة {شهد الله انه لَا إِلَه إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَة
قلت: أَنا عنْدك مُنْذُ سنتَيْن وَلم تُحَدِّثنِي، وَقد قصدت الإنحدار إِلَى الْبَصْرَة، فَقَالَ: وَالله لَا أحَدثك سنة، فَمَكثت بِالْكُوفَةِ وكتبت على بَابه ذَلِك الْيَوْم، فَلَمَّا تمت السّنة أَتَيْته، فَقلت: يَا أَبَا مُحَمَّد، قد تمت السّنة. فَقَالَ: حَدثنِي أَبُو وَائِل، عَن عبد الله بن مَسْعُود، عَن النَّبِي - أَنه قَالَ: " يجاء بصاحبها يَوْم الْقِيَامَة، فَيَقُول الله تَعَالَى: إِن لعبدي هَذَا عِنْدِي عهدا (وَأَنا) أَحَق من وفى بالعهد، أدخلُوا عَبدِي الْجنَّة ".
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَمَا أختلف الَّذين أُوتُوا الْكتاب﴾ يَعْنِي: الْيَهُود وَالنَّصَارَى ﴿إِلَّا من بعد مَا جَاءَهُم الْعلم بغيا بَينهم﴾ أَي: حسدا بَينهم. ﴿وَمن يكفر بآيَات الله فَإِن الله سريع الْحساب﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
﴿أأسلمتم يَعْنِي: أَسْلمُوا، وَقيل: ذكره على التهديد؛ كَمَا يُقَال: أَقبلت هَذَا مني؟ على وَجه التهديد {فَإِن أَسْلمُوا فقد اهتدوا وَإِن توَلّوا فَإِنَّمَا عَلَيْك الْبَلَاغ وَالله بَصِير بالعباد﴾ أَي: عَلَيْك تَبْلِيغ الرسَالَة وَلَيْسَ عَلَيْك الْهِدَايَة (وَالله بَصِير بالعباد) بالضال مِنْهُم والمهتدي.
وتلخيص معنى الْآيَة: أَن الله تَعَالَى يَقُول: " فَإِن جادلوك بِالْبَاطِلِ، فَقل: أسلمت وَجْهي لله، أَي: أخلصت عَمَلي لله، أَو قصدت بعبادتي إِلَى الله الَّذِي لَا تقرون لَهُ بالخلق والتربية؛ فَإِنَّهُم كَانُوا مقرين بِأَن الله خالقهم ومربيهم، فَأَنا أقصد إِلَيْهِ بعبادي وَلَا أتبع هواى كَمَا تتبعون أهواءكم.
ثمَّ قَالَ: ﴿وَقل للَّذين أوتو الْكتاب والأميين أأسلمتم﴾ أَي: أَسْلمُوا. كَمَا قَالَ: ﴿فَهَل أَنْتُم مُنْتَهُونَ﴾ أَي: انْتَهوا، وَإِنَّمَا سمى الْمُشْركين أُمِّيين؛ لأَنهم لم يَكُونُوا قراء، وَقيل: نسبهم إِلَى أم الْقرى وَهِي مَكَّة لسكونهم فِيهَا.
وروى أَبُو عُبَيْدَة بن الْجراح، عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " أَشد النَّاس عذَابا يَوْم الْقِيَامَة من قتل نَبيا أَو قَتله نَبِي ". ثمَّ روى فِي هَذَا الْخَبَر أَنه قَالَ: " قتلت بَنو إِسْرَائِيل اثْنَيْنِ وَأَرْبَعين نَبيا فِي سَاعَة وَاحِدَة، فَقَامَ إِلَيْهِم مائَة وَاثنا عشر رجلا من زهادهم وعبادهم، وَأمرُوا بِالْمَعْرُوفِ، فَقَتَلُوهُمْ " فَهَذَا قَوْله تَعَالَى: (وَيقْتلُونَ الَّذين
يأمرون بِالْقِسْطِ من النَّاس) أَي: بِالْعَدْلِ ﴿فبشرهم بِعَذَاب أَلِيم﴾ وَإِنَّمَا خَاطب أَبْنَاءَهُم بِهِ، مَعَ أَن (الْجِنَايَة) وجدت من آبَائِهِم؛ (لأَنهم) رَضوا بفعلهم، ودانوا بدينهم، فاستوجبوا هَذَا (الْعَذَاب).
وَفِيه قَول آخر: أَن الْآيَة فِي نَصَارَى وَفد نَجْرَان، وَقَوله ﴿يدعونَ إِلَى كتاب الله﴾ يَعْنِي: الْقُرْآن ليحكم بَينهم.
﴿ثمَّ يتَوَلَّى فريق مِنْهُم وهم معرضون﴾ وَذَلِكَ أَن بَعضهم قد أَسْلمُوا.
إِلَى الْيَهُود، وَقد ذَكرْنَاهُ من قبل. ﴿وغرهم فِي دينهم﴾ الْغرُور: هُوَ الإطماع فِيمَا لَا يحصل مِنْهُ شَيْء، والغرور: الشَّيْطَان، وغر الثَّوْب: طيه، فَيُقَال: أعد الثَّوْب إِلَى غره، أَي: إِلَى طيه، والغرور: ركُوب الْخطر. ﴿مَا كَانُوا يفترون﴾ الافتراء: اخْتِلَاق الْكَذِب؛ وَمِنْه الْفِرْيَة: تَسْوِيَة الْكَذِب، قَالَ الشَّاعِر:
(وَلَا أَنْت تفري مَا خلقت | وَبَعض الْقَوْم يخلق ثمَّ لَا يفرى) |
وَقَالَ الْحسن: إِنَّه سَأَلَ ربه لأَصْحَابه ملك فَارس وَالروم.
فَأَما قَوْله: ﴿قل اللَّهُمَّ﴾ فأصله: يَا الله؛ فَلَمَّا حذف حرف النداء زيدت الْمِيم فِي آخِره، قَالَ الْفراء: للميم فِيهِ معنى، وَمَعْنَاهُ: يَا الله، أعنا بالمغفرة أَي: اقصدنا.
﴿مَالك الْملك﴾ تَقْدِيره يَا مَالك الْملك، وَمَعْنَاهُ: مَالك الْعباد؛ وَمَا ملكوه، وَقيل: أَرَادَ بِالْملكِ: النُّبُوَّة، وَقيل: ملك السَّمَوَات وَالْأَرْض. ﴿تؤتي الْملك من تشَاء﴾ أَي: من تشَاء أَن تؤتيه من الْمُسلمين. ﴿وتنزع الْملك مِمَّن تشَاء﴾ أَي: مِمَّن تشَاء أَن تنزعه، وهم فَارس وَالروم. ﴿وتعز من تشَاء وتذل من تشَاء﴾ فِيهِ ثَلَاثَة أَقْوَال:
أَحدهمَا: تعز من تشَاء بالنصر، وتذل من تشَاء بالقهر. وَالثَّانِي: تعز من تشَاء بالغنى، وتذل من تشَاء بالفقر.
وَالثَّالِث: تعز من تشَاء بالهداية، وتذل من تشَاء بالضلالة.
﴿بِيَدِك الْخَيْر﴾ أَي بِيَدِك الْخَيْر وَالشَّر، كَمَا قَالَ: ﴿سرابيل تقيكم الْحر﴾ أَي: تقيكم الْحر وَالْبرد، فَاكْتفى بِأحد الْمَذْكُورين عَن الآخر.
﴿إِنَّك على كل شَيْء قدير﴾، وَقد ورد فِي فضل هَذِه الْآيَة من الْأَخْبَار: مَا روى عَن جَعْفَر بن مُحَمَّد الصَّادِق، عَن أَبِيه، عَن على، عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " فَاتِحَة الْكتاب، وَآيَة الْكُرْسِيّ، وآيتان من آل عمرَان - شهد الله، وَهَذِه الْآيَة - متشفعات لمن قَرَأَهَا يَوْم الْقِيَامَة، لَيْسَ بَينهمَا وَبَين الله حجاب ". وروى فِي هَذَا الْخَبَر: أَنه قَالَ: " لما أنزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَات تعلقن بالعرش، وقلن: يَا رب، تهبطنا إِلَى أَرْضك وعبادك، فَقَالَ الله تَعَالَى: " وَعِزَّتِي وَجَلَالِي مَا قرأكن عبد من عبَادي إِلَّا أسكنته جنتي؛ على مَا كَانَ عَلَيْهِ، وقضيت لَهُ كل يَوْم سبعين حَاجَة، أدناها الْمَغْفِرَة ".
﴿وَتخرج الْحَيّ من الْمَيِّت وَتخرج الْمَيِّت من الْحَيّ﴾ قَالَ الْحسن: مَعْنَاهُ: تخرج
الْكَافِر من الْمُؤمن، وَالْمُؤمن من الْكَافِر، وَالْقَوْل الثَّانِي: تخرج النُّطْفَة من الْحَيّ، والحي من النُّطْفَة، وَفِيه قَول غَرِيب: تخرج الفطن الْكيس من البليد الْفَاجِر، والبليد من الفطن؛ لِأَن البليد ميت فهما؛ والفطن حَيّ فهما. وَيقْرَأ ﴿من الْمَيِّت﴾ : مخففا ومشددا، وَفرق نحاة الْكُوفَة بَين الْمَيِّت وَالْمَيِّت، فَقَالُوا: الْمَيِّت - بِالتَّشْدِيدِ -: هُوَ الْحَيّ الَّذِي لَا يَمُوت، وَالْمَيِّت مخففا: هُوَ الَّذِي مَاتَ؛ وَاسْتَدَلُّوا بقوله تَعَالَى ﴿إِنَّك ميت وَأَنَّهُمْ ميتون﴾ وَأنكر ذَلِك نحاة الْبَصْرَة وَقَالُوا: هما بِمَعْنى وَاحِد.
وَأنْشد الْمبرد لبَعض الشُّعَرَاء:
(لَيْسَ من مَاتَ فاستراح بميت | إِنَّمَا الْمَيِّت ميت الْأَحْيَاء) |
(إِنَّمَا الْمَيِّت من يعِيش كئيبا | كاسفا باله قَلِيل الرَّجَاء) |
﴿وترزق من تشَاء بِغَيْر حِسَاب﴾ : من غير تضييق وَلَا تقتير.
﴿وَمن يفعل ذَلِك فَلَيْسَ من الله فِي شَيْء﴾ أَي: لَيْسَ من حزب الله {إِلَّا أَن
وَقد روى: " أَن مُسَيْلمَة الْكذَّاب - لعنة الله - أَخذ رجلَيْنِ من أَصْحَاب رَسُول الله وَقَالَ لأَحَدهمَا: أَتَشهد أَن مُحَمَّدًا رَسُول الله؟ قَالَ: نعم، فَقَالَ: أَتَشهد أَنِّي رَسُول الله؟ قَالَ: نعم، تقية مِنْهُ، فخلى سَبيله. ثمَّ قَالَ للْآخر: أَتَشهد أَن مُحَمَّد رَسُول الله فَقَالَ: نعم نعم نعم، قَالَ أَتَشهد أَنِّي رَسُول الله، فَقَالَ: أَنا أَصمّ، فَقتله؛ فَبلغ ذَلِك رَسُول الله، فَذكر دَرَجَة الَّذِي صَبر على الْقَتْل، وَقَالَ: إِن الأول أَخذ بِرُخْصَة الله ".
وَقد صَحَّ عَن رَسُول الله: أَنه قَالَ: " أفضل الْجِهَاد كلمة حق عِنْد سُلْطَان جَائِر ". وَقَالَ: " إِن فضل الشُّهَدَاء بعد شُهَدَاء أحد: من قَامَ إِلَى سُلْطَان جَائِر وَأمره بِالْمَعْرُوفِ، فَقتله عَلَيْهِ ".
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿ويحذركم الله نَفسه﴾ أَي: يخوفكم إِيَّاه {وَإِلَى الله
لمصير) أَي: الْمرجع.
﴿وَمَا عملت من سوء تود لَو أَن بَينهَا وَبَينه أمدا بَعيدا﴾ أَي: غَايَة مديدة، قَالَ السّديّ: مَا بَين الْمشرق وَالْمغْرب. وَفِي الْأَخْبَار: أَن الْأَعْمَال يُؤْتى بهَا يَوْم الْقِيَامَة على صور فَمَا كَانَ مِنْهَا حسنا، فعلى الصُّورَة الْحَسَنَة، وَمَا كَانَ قبيحا، فعلى الصُّورَة القبيحة.
﴿ويحذركم الله نَفسه وَالله رءوف بالعباد﴾ وَمن رأفته أَن حذرهم، ورغبهم ورهبهم، وَوَعدهمْ وأوعدهم.
وَالله غَفُور رَحِيم) ".
وَاعْلَم أَن محبَّة الله العَبْد، ومحبة العَبْد الله لَا يكون بلذة شَهْوَة، وَلَكِن محبَّة العَبْد فِي حق الله: هُوَ إتْيَان طَاعَته، وابتغاء مرضاته، وَاتِّبَاع أمره، ومحبة الله فِي حق العَبْد: هُوَ الْعَفو عَنهُ، وَالْمَغْفِرَة، وَالثنَاء الْحسن، وأكده
﴿فَإِن توَلّوا فَإِن الله لَا يحب الْكَافرين﴾، فَإِن قَالَ قَائِل: لم كرر اسْم الله مرَارًا، وَكَانَ يَكْفِيهِ: أَن يَقُول فَإِنَّهُ لَا يحب الْكَافرين؟ قيل: هُوَ على عَادَة الْعَرَب؛ فَإِن من عَادَتهم أَنهم إِذا عظموا شَيْئا كرروا ذكره، وَأنْشد سِيبَوَيْهٍ فِي مثل ذَلِك:
(لَا أرى الْمَوْت سبق الْمَوْت شَيْء | نغص الْمَوْت زلته الْغَنِيّ وَالْفَقِير) |
(فِيهَا اثْنَتَانِ وَأَرْبَعُونَ حلوبة | سُودًا كخافية الْغُرَاب الأسحم) |
واختاروا هَذَا القَوْل لوَجْهَيْنِ: أَحدهمَا: أَنه يكون أقرب إِلَى اسْتِحْقَاق الثَّنَاء، لِأَن الْكَلَام خرج مخرج الثَّنَاء.
وَالثَّانِي: أَنه يكون أبعد من إِلْحَاق الآفة بالأنبياء؛ لبعدهم عَن الْآفَات.
وَأما العاقر: فَهِيَ الَّتِي عقم رَحمهَا من الْكبر، فَإِن قيل: كَانَ شاكا فِي وعد الله تَعَالَى حِين قَالَ: ﴿رب أَنى يكون لي غُلَام﴾ قيل: إِنَّمَا قَالَه على سَبِيل التَّوَاضُع، يَعْنِي: مثلي على هَذَا الْكبر من مثل هَذِه الْعَجُوز يكون لَهُ الْوَلَد، وَقيل مَعْنَاهُ: كَيفَ يكون لي هَذَا الْغُلَام؟ أتردني لحالة الشَّبَاب، أم يكون الْغُلَام على حَال الْكبر؟.
﴿قَالَ كَذَلِك يفعل الله مَا يَشَاء﴾.
﴿قَالَ آيتك أَلا تكلم النَّاس ثَلَاثَة أَيَّام﴾ وَقيل: [إِن الله أمسك] لِسَانه وَحبس عَنهُ الْكَلَام ثَلَاثَة أَيَّام، وَهُوَ سوى صَحِيح؛ وَعَلِيهِ دلّ قَوْله تَعَالَى فِي سُورَة مَرْيَم ﴿ثَلَاث لَيَال سويا﴾.
﴿إِلَّا رمزا﴾ أَي: إِشَارَة، وَالْإِشَارَة تكون بِاللِّسَانِ، وَتَكون بِالْيَدِ، وَتَكون بِالْعينِ وَالْمرَاد هَا هُنَا: الْإِشَارَة بالإصبع المسبحة، قَالَ قَتَادَة: إِنَّمَا أمسك لِسَانه عَن الْكَلَام عُقُوبَة لَهُ على مَا سَأَلَ من الْآيَة بَعْدَمَا أوحى الله تَعَالَى إِلَيْهِ، وشافهته الْمَلَائِكَة بالبشارة.
﴿وَاذْكُر رَبك كثيرا﴾ قيل: إِنَّمَا أمسك لِسَانه عَن الْكَلَام مَعَ النَّاس، وَلم يمسِكهُ عَن ذكر الله تَعَالَى، فَأمره بِالذكر.
﴿وَسبح بالعشى وَالْإِبْكَار﴾ المُرَاد بالتسبيح: الصَّلَاة، وَأما العشى: مَا بَين زَوَال الشَّمْس إِلَى غرُوب الشَّمْس، وَمِنْه صَلَاة الظّهْر وَالْعصر صَلَاتي العشى، وَأما الإبكار: مَا بَين طُلُوع الْفجْر إِلَى الضُّحَى الْأَعْلَى.
على (جَمِيع نسَاء) الْعَالمين؛ فِي أَنَّهَا ولدت بِلَا أَب، وَلم يكن ذَلِك لأحد من نسَاء الْعَالم.
﴿واسجدي واركعي مَعَ الراكعين﴾ قيل: إِنَّمَا قدم السُّجُود على الرُّكُوع؛ لِأَنَّهُ كَانَ كَذَلِك فِي شريعتهم، وَقيل لَا، بل الرُّكُوع قبل السُّجُود فِي جَمِيع الشَّرَائِع، وَلَيْسَت الْوَاو للتَّرْتِيب، بل للْجمع، وَيجوز أَن يَقُول الرجل: رَأَيْت زيدا وعمرا، وَإِن كَانَ قد رأى عمرا قبل زيد، وَيجوز أَن نقُول: رَأَيْت عمرا وزيدا أَي زيدا وعمرا، قَالَ الشَّاعِر:
(أَلا يَا نَخْلَة من ذَات عرق | عَلَيْك وَرَحْمَة الله وَالسَّلَام) |
والقصة فِي ذَلِك: أَنهم تشاحنوا واختصموا فِي كَفَالَة مَرْيَم، فَقَالَ زَكَرِيَّا: أَنا أولى بكفالتها مِنْكُم، لِأَن خَالَتهَا عِنْدِي، وَقَالَ أَحْبَارهم - وَقيل أولياؤهم -: نَحن أولى بكفالتها؛ لِأَن أَبَاهَا كَانَ إمامنا وحبرنا، فاقترعوا واستهموا، على أَن من يثبت قلمه فِي المَاء وَصعد، فَهُوَ أولى بكفالتها، فَألْقوا الأقلام على المَاء وعَلى كل قلم اسْم وَاحِد مِنْهُم، فانحدرت أقلامهم تجْرِي فِي المَاء، وَجرى قلم زَكَرِيَّا مصعدا إِلَى أَعلَى المَاء، قيل: غرقت أقلامهم، وارتد قلم زَكَرِيَّا، وَبَقِي فَوق المَاء، وَقيل إِنَّمَا اخْتَصَمُوا فِي كفالتها؛ لِأَنَّهُ كَانَ قد أَصَابَهُم قحط وأزمة، وَكَانَت تضيق بهم النَّفَقَة؛ فاستهموا على كفالتها تدافعا حَتَّى أَن من خرج سَهْمه هُوَ الَّذِي يعولها، وَينْفق عَلَيْهَا، وَالْأول أصح وَأشهر.
﴿أُسَمِّهِ الْمَسِيح عِيسَى ابْن مَرْيَم﴾ قَالَ ابْن عَبَّاس: إِنَّمَا سمي مسيحا؛ لِأَنَّهُ مَا مسح ذَا عاهة إِلَّا برِئ، وَقَالَ الْحسن وَقَتَادَة: سمي مسيحا؛ لِأَنَّهُ مسح بِالْبركَةِ، وَقيل: الْمَسِيح: الصّديق، وَيكون الْمَسِيح بِمَعْنى: الْكذَّاب، وَهُوَ من الأضداد، وَقيل: سمى مسيحا؛ لِأَنَّهُ كَانَ يمسح وَجه الأَرْض، ويسيح فِيهَا، وَقيل: إِنَّمَا سمى مسيحا؛ لِأَنَّهُ مَمْسُوح الْقدَم لأخمص قَدَمَيْهِ، وَمِنْه قَول الشَّاعِر:
(بَات يقاسيها غُلَام كالزلم | خديج السَّاقَيْن مَمْسُوح الْقدَم) |
﴿وجيها فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة﴾ أَي: رفيعا ذَا جاه عِنْد الله ( ﴿وَمن المقربين﴾
مَرْيَم ﴿إِنِّي عبد الله﴾ وَأنكر النَّصَارَى كَلَامه فِي المهد سَيَأْتِي بَيَانه، وَأما كَلَامه وَهُوَ كهل، قيل: هُوَ إخْبَاره عَن الْأَشْيَاء المعجزة، وَقيل: هُوَ كَلَامه بعد نُزُوله من السَّمَاء.
والكهل: قيل: هُوَ مَا فَوق الْغُلَام، وَدون الشَّيْخ، وَهُوَ ابْن أَربع وَثَلَاثِينَ سنة، وَأَصله: الطول، وَمِنْه: اكتهل النَّبَات إِذا طَال.
﴿أَنِّي قد جِئتُكُمْ بِآيَة من ربكُم﴾ مَعْنَاهُ: بآيَات من ربكُم، وَإِنَّمَا اكْتفى بِذكر الْآيَة؛ لِأَن الْكل دَال على شَيْء وَاحِد.
﴿أَنِّي أخلق لكم من الطين﴾ أَي: أقدر وأصور ﴿كَهَيئَةِ الطير فأنفخ فِيهِ فَيكون طيرا بِإِذن الله﴾ قيل: إِن عِيسَى قَالَ لَهُم: أَي شَيْء أَشد خلقا؟ قَالُوا: الخفاش، فَقدر من الطين خفاشا وصوره، وَنفخ فِيهِ؛ فَقَامَ يطير بِإِذن الله.
فَأَما عازر: فَكَانَ صديقا لعيسى، فَأخْبر بِمَوْتِهِ، فَدَعَا الله تَعَالَى فأحياه [الله]، وَأما ابْن الْعَجُوز: كَانَ على السرير يحمل إِلَى الْمقْبرَة، فَرَآهُ عِيسَى، فَأمر بِوَضْع السرير، ودعا فأحياه، فَأخذ كفانه، ولبسها وَرجع إِلَى الْبَيْت، وَأما بنت الْعَاشِر: فقد كَانَ رجل يَأْخُذ العشور، مَاتَت لَهُ ابْنة فَدَعَا الله فأحياها، وَأما سَام بن نوح فَإِن عِيسَى جَاءَ إِلَى قَبره ودعا (الله فأحياه)، فَقَامَ إِلَيْهِ وَقَالَ: أَقَامَت الْقِيَامَة؟ ! وَقد شَاب نصف رَأسه خوفًا من قيام السَّاعَة.
فَقَالَ: لَا، أَنا عِيسَى بن مَرْيَم؛ فَكَلمهُ؛ وَمَات من سَاعَته، وَأما الثَّلَاثَة الَّذين أحياهم عاشوا، وَولد لَهُم.
﴿وأنبئكم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تدخرون فِي بُيُوتكُمْ﴾ كَانَ عِيسَى يخبر الرجل بِمَا أكل فِي بَيته البارحة، وَمَا يَأْكُل الْيَوْم، وَمَا أدخره للعشاء، وَقيل أَنه كَانَ فِي الْمكتب يخبر الصَّبِي بِمَا أكل، وَمَا خبأت لَهُ أمه من الطَّعَام، حَتَّى كَانَ الصَّبِي يَأْتِي إِلَى أمه، فيبكي حَتَّى تعطيه الطَّعَام، فيحمله إِلَى عِيسَى، فحبسوا الصّبيان عَن الْمكتب، فجَاء عِيسَى فِي طَلَبهمْ، وَكَانُوا فِي دَار، فَقَالَ: من هَؤُلَاءِ الَّذين فِي الدَّار؟ فَقيل: خنازير، فَقَالَ عِيسَى: يكونُونَ كَذَلِك؛ فصاروا خنازير بِأَمْر الله - تَعَالَى - {إِن فِي ذَلِك لآيَة
لكم إِن كُنْتُم مُؤمنين).
(أَو يرتبط بعض النُّفُوس حمامها... )
أَي: كل النُّفُوس، وَقيل: هُوَ على حَقِيقَته، وَقد كَانَ أحل لَهُم بعض مَا حرم عَلَيْهِم فِي التَّوْرَاة من لُحُوم الْإِبِل وثروبها.
﴿وجئتكم بِآيَة من ربكُم﴾ يَعْنِي: بآيَات كَمَا بَينا، {فَاتَّقُوا الله وأطيعون
وَقيل: كَانُوا صيادين يصطادون السّمك. وَالصَّحِيح أَن الحوارى: صفوة كل شَيْء وخالصته وَمِنْه قَوْله فِي الزبير: " هُوَ ابْن عَمَّتي وَحَوَارِيي من أمتِي "، أَي:
صفوتي وخالصتي.
وأصل الحوارى: النَّقَاء والنظافة؛ فسموا حواريين؛ لنقاء قُلُوبهم، وَمِنْه يُقَال لِنسَاء الْأَمْصَار: حواريات. قَالَ الشَّاعِر:
(فَقل للحواريات يبْكين غَيرنَا | وَلَا تبكينا إِلَّا الْكلاب النوابح) |
وَأما قَوْله: ﴿نَحن أنصار الله﴾ لأَنهم إِذا نصروا عِيسَى، فكأنهم نصروا الله ﴿آمنا بِاللَّه واشهد بِأَنا مُسلمُونَ﴾.
على زعمكم؟ قُلْنَا: فِيهِ أَقْوَال، قَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ: مَعْنَاهُ: إِنِّي قابضك من الأَرْض، وَهُوَ صَحِيح عِنْد أهل اللُّغَة، فَيُقَال: توفيت حَقي من فلَان. أَي: قبضت.
قَالَ الازهري: كَأَنَّهُ يَقُول: إِنِّي متوفى عدد آبَائِك فِي الأَرْض، وكل شَيْء تمّ فَهُوَ متوفى، ومستوفى، وَقَالَ الْفراء: فِيهِ تَقْدِيم وَتَأْخِير، وَتَقْدِيره: إِنِّي رافعك إِلَى ومتوفيك " أَي: بعد النُّزُول من السَّمَاء.
وَقد ثَبت عَن رَسُول الله أَنه قَالَ: " ليهبطن عِيسَى بن مَرْيَم حكما مقسطا يكسر الصَّلِيب وَيقتل الْخِنْزِير "، وَفِي رِوَايَة: " أَنه يقتل الدَّجَّال بِبَاب لد " من دمشق، وَفِي الْأَخْبَار: أَنه يعِيش بعد ذَلِك فِي الأَرْض سبع سِنِين، ويتزوج، ويولد لَهُ. ثمَّ يَمُوت، ويصلوا عَلَيْهِ الْمُؤْمِنُونَ من هَذِه الْأمة.
وَهَذَا التَّقْدِيم وَالتَّأْخِير الَّذِي ذكرنَا فِي الْآيَة محكى عَن ابْن عَبَّاس وَله قَول آخر: أَن الْآيَة على حَقِيقَة الْمَوْت، وَأَن عِيسَى قد مَاتَ، ثمَّ أَحْيَاهُ الله تَعَالَى وَرَفعه إِلَى السَّمَاء.
قَالَ وهب بن مُنَبّه: أَمَاتَهُ الله ثَلَاث سَاعَات من النَّهَار، ثمَّ أَحْيَاهُ الله، وَرَفعه إِلَيْهِ، وَقَالَ الرّبيع ابْن أنس: التوفي: هُوَ النّوم، وَكَانَ عِيسَى قد نَام، فرفعه الله نَائِما إِلَى السَّمَاء، وَالْمَعْرُوف: الْقَوْلَانِ الْأَوَّلَانِ.
وَقد روى عَن رَسُول الله أَنه قَالَ: " رَأَيْت ابْني الْخَالَة: عِيسَى، وَيحيى فِي السَّمَاء الثَّانِيَة لَيْلَة الْمِعْرَاج "، وروى أَيْضا: " أَنه رآهما فِي السَّمَاء الدُّنْيَا " وَالْأول
أصح، وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: " رَأَيْت الْمَسِيح بن مَرْيَم يطوف بِالْبَيْتِ " فَدلَّ على أَن الصَّحِيح أَنه فِي الْأَحْيَاء، وَفِي أَخْبَار الْمِعْرَاج: " أَن النَّبِي لقى آدم فِي السَّمَاء الأولى وَعِيسَى فِي السَّمَاء الثَّانِيَة ويوسف فِي السَّمَاء الثَّالِثَة، وَإِدْرِيس فِي السَّمَاء الرَّابِعَة وَهَارُون فِي السَّمَاء الْخَامِسَة ومُوسَى فِي السَّمَاء السَّادِسَة، - وَفِي رِوَايَة السَّمَاء السَّابِعَة - وَإِبْرَاهِيم فِي السَّمَاء السَّابِعَة ".
قَوْله: ﴿ومطهرك من الَّذين كفرُوا﴾ أَي: مخرجك من أرجاسهم وأنجاسهم، ﴿وجاعل الَّذين اتبعوك فَوق الَّذين كفرُوا إِلَى يَوْم الْقِيَامَة﴾.
وَقيل: أَرَادَ بِهِ النَّصَارَى، وهم فَوق الْيَهُود إِلَى يَوْم الْقِيَامَة، وَالْيَهُود أذلّ الْفَرِيقَيْنِ؛ قد ذهب ملكهم، فَلَا يعود أبدا، وَملك النَّصَارَى دَائِم إِلَى قريب من قيام السَّاعَة، وَقيل: أَرَادَ بالذين اتَّبعُوهُ: أمة مُحَمَّد؛ حَيْثُ صدقوه ووافقوه على دين التَّوْحِيد، فهم فَوق الَّذين كفرُوا إِلَى يَوْم الْقِيَامَة.
وَفِيه قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنهم فَوْقهم بِالْحجَّةِ.
وَالثَّانِي: بالعز وَالْغَلَبَة، وَقد قَالَ: " أَنا أولى بِعِيسَى بن مَرْيَم، لَيْسَ بيني وَبَينه نَبِي ".
﴿ثمَّ إِلَى مرجعكم فأحكم بَيْنكُم فِيمَا كُنْتُم فِيهِ تختلفون﴾.
وَالْعَذَاب فِي الدُّنْيَا: الْقَتْل والأسر والجزية، وَالْعَذَاب فِي الْآخِرَة: عَذَاب النَّار.
قَوْله تَعَالَى: {وَمَا لَهُم من ناصرين
فَأَما قَوْله: ﴿ثمَّ قَالَ لَهُ كن فَيكون﴾ رَاجع إِلَى آدم، فَإِن قَالَ قَائِل: لما ذكر أَنه خلقه من تُرَاب، فَمَا معنى قَوْله بعده ﴿ثمَّ قَالَ لَهُ كن فَيكون﴾ بعد الْخلق؟ قيل: مَعْنَاهُ: خلقه من تُرَاب، ثمَّ أخْبركُم أَنِّي قلت لَهُ: كن، فَكَانَ من غير تَرْتِيب فِي الْخلق: كَمَا يكون فِي أَوْلَاده، وَهُوَ مثل قَول الرجل: أَعطيتك الْيَوْم درهما، ثمَّ أَعطيتك أمس درهما، أَي: ثمَّ أخْبرك أَنِّي أَعطيتك أمس درهما.
وَاعْلَم أَن فِيمَا سبق من التَّمْثِيل على جَوَاز الْقيَاس دَلِيل، على أَن الْقيَاس هُوَ رد فرع إِلَى أصل بِنَوْع شبه، وَقد رد الله تَعَالَى عِيسَى إِلَى آدم بِنَوْع؛ فَدلَّ على جَوَاز الْقيَاس. والمثل: هُوَ ذكر سَائِر يسْتَدلّ بِهِ على غَيره فِي مَعْنَاهُ.
هَذَا فِي دُعَاء النَّبِي بني نَجْرَان إِلَى المباهلة، روى سعد بن أبي وَقاص: " أَن النَّبِي أَخذ بيد الْحسن وَالْحُسَيْن وَفَاطِمَة وعَلى، ثمَّ دعاهم إِلَى المباهلة ".
فَقَوله: ﴿نَدع أبناءنا﴾ أَرَادَ بِهِ: الْحسن وَالْحُسَيْن، وَقَوله: ﴿وَنِسَاءَنَا﴾ يَعْنِي: فَاطِمَة، وأنفسنا يَعْنِي: نَفسه وعَلى، فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ قَالَ: ﴿وأنفسنا﴾ وَعلي - رَضِي الله عَنهُ - غَيره؟ قيل: الْعَرَب تسمى ابْن عَم الرجل نَفسه، وَعلي كَانَ ابْن عَمه، وَقيل: ذكره على الْعُمُوم لجَماعَة أهل الدّين. والإبتهال: الإلتعان، وَمِنْه البهلة: وَهِي اللَّعْنَة، يُقَال:
عَلَيْك بهلة الله، أَي: لعنة الله، والابتهال: الِاجْتِهَاد فِي دُعَاء اللَّعْنَة.
واللعنة: الإبعاد والطرد عَن الرَّحْمَة بطرِيق الْعقُوبَة، قَالَ لبيد:
(وكهول سادة من عَامر | نظر الدَّهْر إِلَيْهِم فابتهل) |
وَفِي الْقِصَّة وكهول " أَن النَّبِي لما دعاهم إِلَى الإبتهال، وَجعل اللَّعْنَة على
الْكَاذِب من الْفَرِيقَيْنِ، فَقَالَ الأسقف لَهُم: لَا تباهلوا؛ فَإِنَّكُم لَو ابتهلتهم؛ لاضطرم عَلَيْكُم الْوَادي نَارا، فَقَالُوا للنَّبِي: وَهل غير المباهلة؟ قَالَ الْإِسْلَام أَو الْحَرْب أَو الْجِزْيَة، فقبلوا الْجِزْيَة، وَانْصَرفُوا "، وَقَالَ النَّبِي: " لَو تلاعنوا لصاروا قردة وَخَنَازِير " وَفِي رِوَايَة " لَو تلاعنوا لم يبْق فِي الدُّنْيَا نَصْرَانِيّ وَلَا نَصْرَانِيَّة إِلَى يَوْم الْقِيَامَة ".
﴿سَوَاء بَيْننَا وَبَيْنكُم﴾ أَي: عدل، وَمِنْه قَول زُهَيْر بن أبي سلمى:
(أروني خطة لَا ضيم فِيهَا | يسوى بَيْننَا فِيهَا السوَاء) |
(فَإِن ترك السوَاء فَلَيْسَ بيني | وَبَيْنكُم بني عَمْرو لِقَاء) |
﴿أَلا نعْبد إِلَّا الله﴾ سَبَب هَذَا: أَن الْيَهُود قَالُوا: لَا يُرِيد مُحَمَّد منا إِلَّا أَن نعبده، وَكَذَلِكَ قَالَت النَّصَارَى؛ فَنزلت الْآيَة ﴿قل يَا أهل الْكتاب تَعَالَوْا إِلَى كلمة سَوَاء بَيْننَا وَبَيْنكُم﴾، مَعْنَاهُ: تَعَالَوْا إِلَى أَمر نستوي فِيهِ: وَهُوَ أَن لَا نعْبد إِلَّا الله، ولنتفق جَمِيعًا على عِبَادَته ﴿وَلَا نشْرك بِهِ شَيْئا﴾.
﴿وَلَا يتَّخذ بَعْضنَا بَعْضًا أَرْبَابًا من دون الله﴾ قَالَ عِكْرِمَة: أَي: لَا يسْجد بَعْضنَا لبَعض؛ فَإِن من سجد لغيره فقد اتَّخذهُ رَبًّا.
وَقيل: هُوَ طَاعَة الْخلق فِي مَعْصِيّة الْخَالِق ﴿فَإِن توَلّوا﴾ أَي: فَإِن أَعرضُوا ﴿فَقولُوا اشْهَدُوا بِأَنا مُسلمُونَ﴾ أَي: بِهَذِهِ الْكَلِمَة وَهَذَا الْأَمر.
فَكيف تدعون أَنه على الْيَهُودِيَّة أَو على النَّصْرَانِيَّة؟ وَأما التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل فقد ذكرنَا
اشتقاقها، وَقيل لَيْسَ لَهما اشتقاق، وهما اسمان بالسُّرْيَانيَّة.
والحنيف: هُوَ المائل إِلَى الدّين، والمستقيم عَلَيْهِ، وَمِنْه: الْأَحْنَف: وَهُوَ المائل الْقدَم، وَقَالَ مُجَاهِد: الحنيف: المتبع، وَقَالَ الضَّحَّاك: الحنيف: الْحَاج. فَإِن قَالَ قَائِل: لم قَالَ ﴿حَنِيفا مُسلما﴾ وَالْمُسلم: هُوَ الَّذِي يكون على جَمِيع مَا أَتَى بِهِ مُحَمَّد رَسُول الله، وَإِبْرَاهِيم لم يكن على جملَة شَرِيعَته؟
قيل: قد كَانَ على بعض شَرِيعَته؛ فَيكون بذلك مُسلما؛ كمن مَاتَ من هَذِه الْأمة فِي بَدْء الْأَمر، كَانَ مُسلما بِبَعْض شَرِيعَته؛ فَإِنَّهَا إِنَّمَا تمت، واستقرت فِي آخر الْأَمر، وَيحْتَمل أَن يكون قَوْله: ﴿مُسلما﴾ بِمَعْنى: الانقياد من قَوْله: ﴿أسلم قَالَ أسلمت لرب الْعَالمين﴾ ؛ فَلذَلِك قَالَ: ﴿حَنِيفا مُسلما وَمَا كَانَ من الْمُشْركين﴾.
الْكتاب. ﴿لَو يضلونكم﴾ لَو يردونكم إِلَى الضَّلَالَة، وَمَا هم عَلَيْهِ من الْيَهُودِيَّة والنصرانية ﴿وَمَا يضلون إِلَّا أنفسهم وَمَا يَشْعُرُونَ﴾.
وَالثَّانِي مَعْنَاهُ: لم تكفرون بِمَا ياتي [بِهِ] مُحَمَّد من الدلالات والمعجزات، وَأَنْتُم تقرون بِمِثْلِهَا مِمَّا اتى بِهِ مُوسَى وَعِيسَى؟﴾
(من كَانَ مَسْرُورا بمقتل مَالك | فليأت نسوتنا بِوَجْه نَهَار) |
﴿لَعَلَّهُم يرجعُونَ﴾ أَي: من تبعه فِي دينه، وَيكون وَجه النَّهَار وَآخره بِمَعْنى: الْبَعْض على القَوْل الثَّانِي.
ثمَّ ابْتَدَأَ الله تَعَالَى فَقَالَ: ﴿قل إِن الْهدى هدى الله﴾ أَي: إِن الْبَيَان بَيَان الله.
﴿أَن يُؤْتى أحد مثل مَا أُوتِيتُمْ﴾ أَي: وَلَا يحاجونكم عِنْد ربكُم؛ فَإِن الْحجَّة لكم عَلَيْهِم، وَلَيْسَت لَهُم عَلَيْكُم عِنْد الله.
وقتا مُحَمَّد بن يزِيد الْمبرد: فِي الْآيَة تَقْدِيم وَتَأْخِير: قَوْله: ﴿وَلَا تؤمنوا﴾ أَي: لَا تصدقوا ﴿أَن يُؤْتى أحد مثل مل أُوتِيتُمْ﴾ من الدلالات والآيات من الْمَنّ والسلوى وَنَحْوه.
﴿إِلَّا لمن تبع دينكُمْ﴾ إِلَّا لمن وافقكم فِي الْيَهُودِيَّة ﴿أَو يحاجوكم عِنْد ربكُم﴾ أَي إِن صدقتموهم، يحاجونكم يَوْم الْقِيَامَة عِنْد ربكُم، فَيَقُولُونَ: نَحن مثلكُمْ، أَو خير مِنْكُم، فَلَا تُصَدِّقُوهُمْ حَتَّى لَا يحاجوكم عِنْد ربكُم. إِلَى هَا هُنَا كَلَام الْيَهُود ثمَّ ابْتَدَأَ الله تَعَالَى فَقَالَ: ﴿قل: أَن الْهدى هدى الله﴾ وَقيل: مَعْنَاهُ ﴿وَلَا تؤمنوا إِلَّا لمن تبع دينكُمْ﴾ أَي: وَلَا تصدقوا أَن النُّبُوَّة فِي غير بني إِسْحَاق، وَأَنَّهَا فِي بني إِسْمَاعِيل.
[قَوْله تَعَالَى] {قل إِن الْفضل بيد الله يؤتيه من يَشَاء وَالله وَاسع عليم
برحمته من يَشَاء) قَالَ ابْن عَبَّاس: هُوَ الدّين. وَقَالَ مُجَاهِد: هُوَ النُّبُوَّة. وَقَالَ ابْن جريج: هُوَ الْقُرْآن وَالْإِسْلَام (وَالله ذُو الْفضل الْعَظِيم).
وَهَذَا فِي عبد الله بن سَلام؛ أودعهُ رجل أَلفَيْنِ ومأتي أُوقِيَّة من الذَّهَب فَأدى الْأَمَانَة فِيهِ.
﴿وَمِنْهُم من إِن تأمنه بِدِينَار لَا يؤده إِلَيْك﴾ هَذَا فِي فنحَاص بن عازوراء الْيَهُودِيّ؛ أودعهُ رجل دِينَارا فخان فِيهِ.
﴿إِلَّا مَا دمت عَلَيْهِ قَائِما﴾ أَي: لَا يؤده إِلَيْك إِلَّا مَا دمت على رَأسه قَائِما تطالبه. وَقيل: أَرَادَ بِالْقيامِ: الإلحاح والمطالبة.
﴿ذَلِك بِأَنَّهُم قَالُوا لَيْسَ علينا فِي الْأُمِّيين سَبِيل﴾ قَالَت الْيَهُود: لَيْسَ علينا فِي أَخذ أَمْوَال الْعَرَب حرج، كَأَنَّهُمْ استحلوا أَمْوَال الْأُمِّيين: وهم الْعَرَب، مُحَمَّد وَأَصْحَابه.
﴿وَيَقُولُونَ على الله الْكَذِب وهم يعلمُونَ﴾
قَالَت النُّحَاة: وَهُوَ وقف تَامّ، ثمَّ ابْتَدَأَ، فَقَالَ: ﴿من أوفى بعهده وَاتَّقَى﴾ قَالَ ابْن عَبَّاس: وَاتَّقَى الشّرك ﴿فَإِن الله يحب الْمُتَّقِينَ﴾ الْمُوَحِّدين.
وتلا هَذِه الْآيَة قَالَ: وَكَانَ الْأَشْعَث بن قيس حَاضرا، فَقَالَ: فِي نزلت الْآيَة، وَذكر قصَّة " وَهَذَا حَدِيث فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَرَوَاهُ مُسلم فِي صَحِيحه بِرِوَايَة أُخْرَى، وَزَاد فِيهِ أَنه: " قيل: يَا رَسُول الله، وَإِن كَانَ فِي شَيْء يسير؟ قَالَ: وَإِن كَانَ فِي قضيب من أَرَاك ".
وروى مُسلم أَيْضا فِي كِتَابه بِرِوَايَة ثَالِثَة عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " ثَلَاثَة لَا يكلمهم الله وَلَا ينظر إِلَيْهِم يَوْم الْقِيَامَة، وَلَا يزكيهم [وَلَهُم عَذَاب أَلِيم] : المنان بِمَا أعْطى والمسبل إزَاره، والمنفق سلْعَته بِالْيمن الكاذبة ".
فَقَوله: ﴿إِن الَّذين يشْتَرونَ بِعَهْد الله وَأَيْمَانهمْ ثمنا قَلِيلا﴾ أَي: شَيْء قَلِيل من حطام الدُّنْيَا ﴿أُولَئِكَ لَا خلاق لَهُم فِي الْآخِرَة﴾ أَي: لَا حَظّ لَهُم فِيهَا.
﴿وَلَا يكلمهم الله﴾ أَي: وَلَا يكلمهم كَمَا يكلم الْمُؤمنِينَ؛ وَقد صَحَّ أَنه جلّ جَلَاله - يكلم الْمُؤمنِينَ يَوْم الْقِيَامَة من غير ترجمان، وَقيل: هُوَ بِمَعْنى: الْغَضَب، كَمَا يُقَال: أَنا لَا أكلم فلَانا، إِذا كَانَ غضبانا عَلَيْهِ ﴿وَلَا ينظر إِلَيْهِم يَوْم الْقِيَامَة﴾ يَعْنِي: لَا ينظر إِلَيْهِم بِالرَّحْمَةِ.
﴿وَلَا يزكيهم﴾ لَا يثني عَلَيْهِم بالجميل، وَلَا يطهرهم من الذُّنُوب ﴿وَلَهُم عَذَاب أَلِيم﴾.
قَوْله تَعَالَى: ﴿مَا كَانَ لبشر أَن يؤتيه الله الْكتاب وَالْحكم والنبوة﴾ سَبَب نزُول الْآيَة: " أَن الْيَهُود وَالنَّصَارَى اجْتَمعُوا عِنْد النَّبِي واختصموا فِي إِبْرَاهِيم، فَقَالَت كل فرقة: هُوَ منا، فَقَالَ: كَذبْتُمْ؛ فغضبوا، وَقَالُوا: يَا مُحَمَّد، لَا تُرِيدُ منا إِلَّا أَن نتخذك رَبًّا؛ فَنزلت الْآيَة ".
﴿ثمَّ يَقُول للنَّاس كونُوا عبادا لي من دون الله﴾ أَي: عبيدا لي من دون الله وَقيل: أَرَادَ بالبشر: عِيسَى - صلوَات الله عَلَيْهِ - لأَنهم كَانُوا يدعونَ أَن عِيسَى أَمرهم أَن يعبدوه، ويتخذوه رَبًّا، فَقَالَ: ﴿مَا كَانَ لبشر﴾ يَعْنِي: عِيسَى.
﴿أَن يؤتيه الله الْكتاب﴾ يَعْنِي: الْإِنْجِيل ﴿وَالْحكم والنبوة ثمَّ يَقُول للنَّاس كونُوا عبادا لي من دون الله وَلَكِن كونُوا ربانيين بِمَا كُنْتُم تعلمُونَ الْكتاب﴾.
قَالَ سعيد بن جُبَير: الرباني: الْفَقِيه الْعَالم الَّذِي يعْمل بِعِلْمِهِ. وَقَالَ الضَّحَّاك: الرباني: الْعَالم الْحَكِيم. وَفِي الْخَبَر: " كونُوا عُلَمَاء حلماء ".
والرباني من طَرِيق المعني: هُوَ أَن يكون على دين الرب وعَلى طَرِيق الرب.
وَقيل هُوَ من التربية، فالرباني هُوَ الَّذِي رَبِّي بصغار الْعلم حَتَّى بلغ كباره، وروى: أَن ابْن عَبَّاس لما توفّي، قَامَ مُحَمَّد بن الْحَنَفِيَّة على قَبره، وَقَالَ: الْيَوْم مَاتَ رباني هَذِه الْأمة.
وَقَالَ مُجَاهِد: الربانيون فَوق الْأَحْبَار؛ فالأحبار: الْعلمَاء، والربانيون: الَّذين جمعُوا مَعَ الْعلم البصيرة بسياسة النَّاس.
﴿بِمَا كُنْتُم تعلمُونَ﴾ - بِالتَّشْدِيدِ - من تَعْلِيم الْقُرْآن، وبالتخفيف من الْعلم.
﴿وَبِمَا كُنْتُم تدرسون﴾ تقرءون.
﴿أيامركم بالْكفْر بعد إِذْ أَنْتُم مُسلمُونَ﴾ أَي: لَا يَأْمُركُمْ بالْكفْر بعد الْإِسْلَام.
والأنبياء كَانُوا فيهم كالمصابيح والسرج، أَخذ الْمِيثَاق على النَّبِيين أَن يُؤمنُوا بِمُحَمد وَأَن يصدقوه، وينصروه إِن أدركوه. فَهَذَا معنى قَوْله: ﴿وَإِذ أَخذ الله مِيثَاق النَّبِيين لما آتيتكم من كتاب وَحِكْمَة﴾، وَقَرَأَ حَمْزَة " لما آتيتكم " مخففا بِكَسْر اللَّام، وَقَرَأَ غَيره: " لما آتيتكم " بِفَتْح اللَّام مشددا، وَالْقِرَاءَة الْمَعْرُوفَة: بِفَتْح اللَّام مخففا، وَمَعْنَاهُ: للَّذي آتيتكم بِمَعْنى الْخَبَر.
وَقيل: مَعْنَاهُ: لَئِن آتيتكم بِمَعْنى: الشَّرْط، ﴿ثمَّ جَاءَكُم رَسُول مُصدق لما مَعكُمْ لتؤمنن بِهِ ولتنصرنه﴾ يَعْنِي: مُحَمَّدًا.
﴿قَالَ أأقررتم﴾ أَي: أقرُّوا ﴿وأخذتم على ذَلِكُم إصري﴾ أَي: عهدي. والإصر: الْعَهْد الثقيل ﴿قَالُوا أقررنا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنا مَعكُمْ من الشَّاهِدين﴾.
وَقَالَ الضَّحَّاك: إِنَّمَا أَخذ الْمِيثَاق على النَّبِيين خَاصَّة كَمَا نطقت بِهِ الْآيَة، فَأخذ الْمِيثَاق على كل نَبِي أَن يُؤمن بِالَّذِي يَأْتِي بعده من الْأَنْبِيَاء وينصره، فَأخذ الْمِيثَاق على مُوسَى - صلوَات الله عَلَيْهِ وَسلم - أَن يُؤمن بِعِيسَى، وعَلى عِيسَى أَن يُؤمن بِمُحَمد وَنَحْو ذَلِك.
﴿وَله أسلم من فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض طَوْعًا وَكرها﴾ قَالَ ابْن عَبَّاس: لما خاطبهم بقوله: ﴿أَلَسْت بربكم﴾ أسلم الْكل، وَقَالُوا: بلَى، وَلَكِن بَعضهم قَالُوا: بلَى،
( وله أسلم من في السموات والأرض طوعا وكرها ) قال ابن عباس : لما خاطبهم بقوله :( ألست بربكم ) ( ٢ ) أسلم الكل، وقالوا : بلى، ولكن بعضهم قالوا : بلى، طوعا وبعضهم كرها. وقيل : أسلم من في السموات طوعا، وأسلم من في الأرض كرها وطوعا، وبعضهم طوعا، وبعضهم كرها ؛ لخوف السيف ( وإليه ترجعون ).
٢ - الأعراف: ١٧٢..
(كَيفَ نومي على الْفراش | وَلما تشْتَمل السآم غَارة شعواء؟) |
وَالْآيَة نزلت فِي الْحَارِث بن أَوْس بن الصَّامِت؛ فَإِنَّهُ ارْتَدَّ عَن الْإِسْلَام، وَلحق بِمَكَّة، وَأقَام مُدَّة، ثمَّ أرسل إِلَى الْمُسلمين فِي أَن يرجع إِلَى الْإِسْلَام؛ فَنزلت الْآيَة ﴿كَيفَ يهدي الله قوما كفرُوا بعد إِيمَانهم﴾.
قَالَ الزّجاج: يَعْنِي: أَنهم يسْتَحقُّونَ الضَّلَالَة، وَلَا يسْتَحقُّونَ الْهِدَايَة {وَالله لَا يهدي الْقَوْم الظَّالِمين
فَإِن قَالَ قَائِل: لم قَالَ: ﴿وَالنَّاس أَجْمَعِينَ﴾ فَكَذَلِك يتَنَاوَل نَفسه أَيْضا، فَكيف يلعن على نَفسه؟ قيل: أَرَادَ فِي الْقِيَامَة يلعن بَعضهم بَعْضًا، ويلعنون أنفسهم. وَقيل: إِنَّهُم يلعنون الظَّالِمين والكافرين؛ فَذَلِك لعنهم على أنفسهم؛ لِأَن من لعن الظَّالِمين والكافرين، وَهُوَ ظَالِم وَكَافِر فقد لعن نَفسه.
﴿إِن الَّذين كفرُوا بعد إِيمَانهم﴾ أَي: ارْتَدُّوا عَن الْإِسْلَام بعد إِيمَانهم ﴿ثمَّ ازدادوا كفرا﴾ بقَوْلهمْ: إِنَّا نتربص بِمُحَمد ريب الْمنون ﴿لن تقبل تَوْبَتهمْ﴾ قَالَ أبوالعالية: لأَنهم لم يَكُونُوا محققين للتَّوْبَة، بل كَانُوا متربصين ﴿وَأُولَئِكَ هم الظالون﴾ وَقيل: أَرَادَ بِهِ: الَّذين كفرُوا بعد إِيمَانهم بِعِيسَى؛ ازدادوا كفرا بِمُحَمد ﴿لن تقبل تَوْبَتهمْ﴾ عِنْد النَّاس ﴿وَأُولَئِكَ هم الظالون﴾.
ومسروق بن الأجدع أَبُو عَائِشَة: الْبر: الْجنَّة هَا هُنَا. وَقيل: هُوَ الْعَمَل الصَّالح. وَقيل: هُوَ الثَّوَاب، وَفِي الْخَبَر: " عَلَيْكُم بِالصّدقِ؛ فَأَنَّهُ يهدي إِلَى الْبر، وَالْبر يهدي إِلَى الجنه، وَإِيَّاكُم وَالْكذب؛ فَإِن الْكَذِب يهدي إِلَى الْفُجُور، والفجور يهدي إِلَى النَّار ".
﴿حَتَّى تنفقوا مِمَّا تحبون﴾ قيل: أَرَادَ بِالْإِنْفَاقِ: أَدَاء الزَّكَاة. وَقيل: أَدَاء جَمِيع الصَّدقَات. وَقيل: كل إِنْفَاق يَبْتَغِي بِهِ مرضات الله تَعَالَى ينَال بِهِ هَذَا الْبر.
وروى أَنه لما نزلت هَذِه الْآيَة قَالَ أَبُو طَلْحَة: " يَا رَسُول الله، إِنِّي أرى الله يسألنا أَمْوَالنَا، فأشهدك أَنِّي جعلت حَائِط كَذَا لله تَعَالَى فَقَالَ: اقسمه بَين الْفُقَرَاء قرابتك، فَقَسمهُ بَين أبي وَحسان ".
وروى أَن ابْن عمر - رَضِي الله عَنهُ - اشْترى جَارِيَة كَانَ قد هويها، فَلَمَّا نظر إِلَيْهَا أعْتقهَا، وَزوجهَا رجلا، وتلا قَوْله تَعَالَى ( ﴿لن تنالوا الْبر حَتَّى تنفقوا مِمَّا تحبون﴾ وَمَا تنفقوا من شَيْء فَإِن الله بِهِ عليم) أَي: يُعلمهُ، أَي: يجازى عَلَيْهِ.
حَلَالا لَهُ ولبني إِسْرَائِيل، وَإِنَّمَا حرمهَا يَعْقُوب على نَفسه قبل نزُول التَّوْرَاة، يَعْنِي: أَن حرمتهَا لَيست فِي التَّوْرَاة، وَلَا فِي شرع إِبْرَاهِيم، وَإِنَّمَا هُوَ شَيْء حرمه إِسْرَائِيل على نَفسه، وَسبب تَحْرِيمه ذَلِك على نَفسه: أَنه أشتكى عرق النسا، وَكَانَ لَهُ من ذَلِك زقاء - أَي صياح - فَقَالَ: إِن شفاني الله مِنْهُ لأحرمن أحب الطَّعَام إِلَيّ لُحُوم الْإِبِل وَأَلْبَانهَا، فشفاه الله؛ فَحَرمهَا على نَفسه.
﴿قل فَأتوا بِالتَّوْرَاةِ فاتلوها إِن كُنْتُم صَادِقين﴾ طالبهم بالإتيان بِالتَّوْرَاةِ حجَّة على مَا ادعوا فَلم يَأْتُوا بهَا؛ إِذْ لم يكن تَحْرِيمهَا فِي التَّوْرَاة، فعجزوا عَن الْإِتْيَان بِالتَّوْرَاةِ وَكَانَ ذَلِك كالمعجزة للرسول عَلَيْهِم.
وروى خَالِد بن عرْعرة عَن عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - أَنه قَالَ: أَرَادَ بِهِ: أَن أول بَيت وضع للنَّاس مُبَارَكًا مَعَ الرَّحْمَة وَالْبركَة، والآيات الْبَينَات للَّذي ببكة.
وَقيل: أول مَا خلق الله تَعَالَى من الأَرْض مَوضِع الْبَيْت، ثمَّ مِنْهُ خلق جَمِيع الأَرْض،
وَأول مَا خلق من الْجبَال جبل أبي قبيس.
وَفِي الْقَصَص: أَن الله تَعَالَى أَمر الْمَلَائِكَة بِبِنَاء الْبَيْت قبل خلق آدم بألفي عَام، وَكَانَت الْمَلَائِكَة يحجونه، فَلَمَّا حجه آدم، قَالَت الْمَلَائِكَة: بر حجك، حجَجنَا هَذَا الْبَيْت قبلك بألفي عَام. وَأما بكة فَالصَّحِيح: أَن بكة وَمَكَّة بِمَعْنى وَاحِد، وَهُوَ قَول ابْن عَبَّاس، وَمثله: طين لازب ولازم، وسمل رَأسه وسبل بِمَعْنى وَاحِد.
وَقيل: (أَنه) مَوضِع الْبَيْت، وَمَكَّة جَمِيع الْقرْيَة. وَقيل: إِنَّمَا سميت ببكة، لِأَن النَّاس يتباكون فِيهَا، أَي: يزدحمون، وَمِنْه قَول الشَّاعِر:
(إِذا الشريب أَخَذته أكه | فخله حَتَّى يبك بكة) |
من تِلْكَ الْآيَات: مقَام إِبْرَاهِيم: وَهُوَ الْحجر الَّذِي فِيهِ أثر أَصَابِع قدم إِبْرَاهِيم، وَكَانَ قد بَقِي أَثَره فِيهِ، فاندرس من كَثْرَة الْمسْح بِالْأَيْدِي، وَقيل مقَام إِبْرَاهِيم: جَمِيع الْحرم.
وَمن الْآيَات فِي الْبَيْت أَيْضا: أَن الطير يطير فَلَا يَعْلُو فَوْقه، كَذَا قيل، وَمِنْهَا: أَن الْجَارِحَة إِذا قصدت صيدا، فَإِذا دخل الصَّيْد الْحرم كفت عَنهُ، وَمِنْهَا: أَنه مَا قَصده جَبَّار إِلَّا قصمه الله - تَعَالَى -، وَمِنْهَا: أَن الْمَطَر إِذا أصَاب الرُّكْن الْيَمَانِيّ؛ (كَانَ الخصب بِالْيمن، وَإِن أصَاب جَانب الشَّام) ؛ كَانَ الخصب بِالشَّام، وَإِن أصَاب جَمِيع الجوانب كَانَ الخصب جَمِيع الجوانب.
وَسبب هَذَا أَن الْيَهُود قَالُوا: قبلتنا أولى من قبلتكم؛ فَبين الله تَعَالَى للْمُسلمين شرف قبلتهم؛ فَإِنَّهَا خصت بأَشْيَاء لَيست تِلْكَ لقبلتهم، وَأَن بَيت الْمُقَدّس قد حرق وَهدم، وَأما الْكَعْبَة فَمَا قَصدهَا جَبَّار إِلَّا قصمه الله تَعَالَى. ﴿وَمن دخله كَانَ آمنا﴾ قَالَ ابْن عَبَّاس: هُوَ (الْجَانِي) يدْخلهُ، فَيصير آمنا عَن الْقَتْل فِيهِ، وَلكنه لَا يؤاكل
وَلَا يشارب، وَلَا يُبَاع وَلَا يشاري حَتَّى يخرج فَيقْتل.
وَقَالَ الْحسن وَقَتَادَة وَعَامة الْمُفَسّرين - وَهُوَ الْأَصَح -: إِنَّه أَرَادَ الْأَمْن عَن تخطف الْكفَّار بِالْقَتْلِ والغارة. وَقيل: أَرَادَ بِهِ: وَمن دخله كَانَ آمنا فِي الْقِيَامَة من الْعَذَاب.
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿وَللَّه على النَّاس حج الْبَيْت﴾ قد ذكرنَا معنى الْحَج.
﴿من اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا﴾ روى الْحسن مُرْسلا عَن النَّبِي " أَنه سُئِلَ عَن الِاسْتِطَاعَة، فَقَالَ: الزَّاد وَالرَّاحِلَة "، وروى ابْن عمر " أَنه سُئِلَ أَي الْحَاج أفضل؟ فَقَالَ: الشعث، التفل. فَقيل: أَي الْحَج أفضل؟ العج، والثج. قيل: مَا السَّبِيل؟ قَالَ: الزَّاد وَالرَّاحِلَة ".
وَقَالَ مَالك: الِاسْتِطَاعَة بِقُوَّة الْبدن، فَمَتَى وجد الزَّاد، وقوى على الْمَشْي لزمَه الْحَج، وَالأَصَح أَن الِاسْتِطَاعَة: هِيَ الْقُدْرَة على مَا يوصله إِلَى الْحَج، فَمِنْهَا: الزَّاد، وَالرَّاحِلَة، وَمِنْهَا: أَمن الطَّرِيق، وَنَفَقَة الْأَهْل، وَنَحْو ذَلِك.
﴿وَمن كفر فَإِن الله غَنِي عَن الْعَالمين﴾ الْأَصَح: أَنه أَرَادَ بالْكفْر: إِنْكَار وجوب الْحَج، وَقيل: " إِنَّه لما نزل (قَوْله: ﴿وَللَّه﴾ على النَّاس حج الْبَيْت) جمع رَسُول الله
من جمع الْأَدْيَان، وَقَالَ: إِن الله كتب عَلَيْكُم الْحَج أَيهَا النَّاس فحجوا، فَصدقهُ الْمُؤْمِنُونَ، وَكذبه الْكَافِرُونَ؛ فَنزل قَوْله: ﴿وَمن كفر فَإِن الله غَنِي عَن الْعَالمين﴾ ".
فَإِن قَالَ قَائِل: مَنعه إيَّاهُم عَن الْكفْر؛ يكون الرَّسُول فيهم، يُوهم إِبَاحَة الْكفْر فِي حَال لَا يكون الرَّسُول فيهم، قيل: وَلَا يَخْلُو حَال من كَون الرَّسُول فيهم، فَإِنَّهُ الْيَوْم وَإِن كَانَ خَارِجا من بَينهم، فشرعه قَائِم بَينهم، فَيكون كَأَنَّهُ فيهم.
﴿وَمن يعتصم بِاللَّه فقد هدى إِلَى صِرَاط مُسْتَقِيم﴾ أَي: وَمن يمْتَنع بِاللَّه، قيل: وَمن يَثِق بِاللَّه، فقد أرشد إِلَى طَرِيق مُسْتَقِيم.
يطاع فَلَا يعْصى، وَيذكر فَلَا ينسى، ويشكر فَلَا يكفر. وَقَالَ قَتَادَة: (الْآيَة) مَنْسُوخَة بقوله: ﴿فَاتَّقُوا الله مَا اسْتَطَعْتُم﴾ قَالَ أهل الْمعَانِي: لَا يَسْتَقِيم النّسخ فِيهِ، وَقَوله ﴿فَاتَّقُوا الله مَا اسْتَطَعْتُم﴾ تَفْسِير لهَذِهِ الْآيَة؛ لِأَن من أطَاع الله فِي وَقت وجوب الطَّاعَة، وَذكره فِي وَقت وجوب الذّكر، وشكره فِي مَوضِع وجوب الشُّكْر، فقد اتَّقى الله حق تُقَاته.
وَهَذَا لم يصر مَنْسُوخا، وَقَوله: ﴿فَاتَّقُوا الله مَا اسْتَطَعْتُم﴾ مُوَافق لَهُ؛ لِأَن التَّقْوَى إِن كَانَ فِي مَوضِع الْأَمر وَالْوُجُوب، والأوامر والواجبات على قدر الِاسْتِطَاعَة، فَتكون إِحْدَى الْآيَتَيْنِ مُوَافقَة لِلْأُخْرَى، فَلَا يَسْتَقِيم فِيهِ النّسخ.
﴿وَلَا تموتن إِلَّا وَأَنْتُم مُسلمُونَ﴾، فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ نَهَاهُم عَن الْمَوْت على الْكفْر، وَالْمَوْت لَا يدْخل تَحت الْأَمر وَالنَّهْي؟ ! قيل: مَعْنَاهُ: دوموا على الْإِسْلَام، حَتَّى إِذا وافاكم الْمَوْت ألفاكم على الْإِسْلَام، هَذَا كَمَا يَقُول الرجل لغيره: لَا أريتك تفعل كَذَا. مَعْنَاهُ: لَا تفعل كَذَا، حَتَّى إِذا رَأَيْتُك (لَا) أَرَاك على فعله.
(وَإِذا أجوزها حبال قَبيلَة | نزلت من الْأُخْرَى إِلَيْك حبالها) |
﴿وَلَا تفَرقُوا واذْكُرُوا نعمت الله عَلَيْكُم﴾ سَبَب نزُول الْآيَة مَا روى " أَن رجلَيْنِ: أَحدهمَا من الْأَوْس، وَالْآخر من الْخَزْرَج تسابا، فَدَعَا كل وَاحِد مِنْهُمَا قبيلته؛ فثار الْحَيَّانِ، وضربوا بِأَيْدِيهِم إِلَى السيوف، وَكَاد يكون بَينهم قتال، فَبلغ ذَلِك رَسُول الله فَخرج عَلَيْهِم وَهُوَ على حمَار، وَقَامَ بَينهم؛ فَنزلت الْآيَة، وتلا عَلَيْهِم، فبكوا، وَمَشى كل وَاحِد إِلَى صَاحبه وتعانقوا، واصطلحوا وَكفوا عَن الْقِتَال "، قَالَ جَابر: مَا كَانَ يَوْمًا أقبح أَولا من ذَلِك الْيَوْم، وَلَا أحسن آخر من ذَلِك الْيَوْم. فَقَوله: ﴿وَلَا تفَرقُوا﴾ الْخطاب مَعَهم (واذْكُرُوا نعْمَة الله عَلَيْكُم) يَعْنِي: بِالْإِسْلَامِ وَبعث الرَّسُول وإنزال الْكتاب.
﴿إِذْ كُنْتُم أَعدَاء﴾ لِأَن الْأَوْس والخزرج كَانَ بَينهم قتال [دَامَ] مائَة وَعشْرين سنة ﴿فألف بَين قُلُوبكُمْ﴾ يَعْنِي: بِالْإِسْلَامِ ﴿فأصبحتم بنعمته إخْوَانًا﴾ (أَي: فِي الدّين).
﴿وكنتم على شفا حُفْرَة﴾ أَي: طرف حُفْرَة ﴿من النَّار فأنقذكم مِنْهَا﴾.
وَقيل: نزلت الْآيَة فِي مُشْركي الْعَرَب، وَالْأول [أصح وَهُوَ] قَول عِكْرِمَة. ﴿كَذَلِك يبين الله لكم آيَاته لَعَلَّكُمْ تهتدون﴾ أَي: ترشدون، وتسلكون طَرِيق الْحق.
﴿من بعد مَا جَاءَتْهُم الْبَينَات وَأُولَئِكَ لَهُم عَذَاب عَظِيم يَوْم تبيض وُجُوه﴾ يَعْنِي: وَأُولَئِكَ لَهُم عَذَاب عَظِيم يَوْم الْقِيَامَة، ثمَّ وصف ذَلِك الْيَوْم، فَقَالَ: ﴿يَوْم تبيض وُجُوه﴾ يَعْنِي: بِالتَّوْحِيدِ ﴿وَتسود وُجُوه﴾ بالشرك. وَقيل: تبيض وُجُوه بِالسنةِ، وَتسود وُجُوه بالبدعة. وَقيل: أَرَادَ بِهِ: فِي الدُّنْيَا تبيض وُجُوه بالقناعة، وَتسود وُجُوه بالطمع. وَالْأول أصح، وَيشْهد لذَلِك قَوْله تَعَالَى: ﴿وُجُوه يَوْمئِذٍ مسفرة ضاحكة﴾ الْآيَة.
وَفِي رِوَايَة أبي أُمَامَة عَن النَّبِي " تسود وُجُوه الْخَوَارِج ". ﴿فَأَما الَّذين اسودت وُجُوههم أكفرتم بعد إيمَانكُمْ﴾ أَي: يُقَال لَهُم: أكفرتم بعد إيمَانكُمْ؟ ! فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ كفرُوا بعد الْإِيمَان وَلم يَكُونُوا مُؤمنين قطّ؟ قيل أَرَادَ بِهِ إِيمَان يَوْم الْمِيثَاق، وَكَفرُوا بعده.
وَقيل: أَرَادَ بِهِ: الْيَهُود؛ آمنُوا بِمَا كَانَ فِي التَّوْرَاة من نعت مُحَمَّد، ثمَّ كفرُوا، وغيروا. ﴿فَذُوقُوا الْعَذَاب بِمَا كُنْتُم تكفرون﴾.
وفي رواية أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم «تسود وجوه الخوارج »( ٢ ). ( فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم ) أي : يقال لهم : أكفرتم بعد إيمانكم ؟ ! فإن قال قائل : كيف كفروا بعد الإيمان ولم يكونوا مؤمنين قط ؟ قيل أراد به إيمان يوم الميثاق، وكفروا بعده.
وقيل : أراد به : اليهود ؛ آمنوا بما كان في التوراة من نعت محمد، ثم كفروا، وغيروا. ( فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون ).
٢ - رواه الترمذي (٥/٢١٠ رقم ٣٠٠٠) بطوله، وقال: حسن، وابن ماجة (١/٦٢ رقم ١٧٦)، وأحمد (٥/٢٦٢)، وعبد الرزاق في مصنفه (١٠/١٥٢ رقم ١٨٦٦٣)، وابن أبي شيبة (١٥/٣٠٧-٣٠٨ رقم ١٩٧٣٨)ـ وابن أبي حاتم في تفسير "آل عمران" (١/٤٦٥ رقم ١١٤٤)، والطبراني في الكبير (٨/٢٦٧ رقم ٨٠٣٣) وأعاده في غير موضع من كتابه، كلهم من حديث أبي أمامة مرفوعا..
قَوْله: ﴿وتؤمنون بِاللَّه وَلَو آمن أهل الْكتاب لَكَانَ خيرا لَهُم﴾ وَهَذَا لاشك فِيهِ. ﴿مِنْهُم الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرهم الْفَاسِقُونَ﴾ لِأَنَّهُ آمن بَعضهم، وَكفر أَكْثَرهم.
﴿وَإِن يقاتلونكم يولوكم الأدبار ثمَّ لَا ينْصرُونَ﴾ أَي: يهزمون وَتَكون النُّصْرَة لكم عَلَيْهِم.
﴿إِلَّا بِحَبل من الله﴾ يَعْنِي: عهد الذِّمَّة ﴿وحبل من النَّاس﴾ وَهُوَ عهد الْأمان، يَعْنِي: أَنهم يقتلُون، ويؤسرون، إِلَّا أَن تكون لَهُم ذمَّة أَو أَمَان.
﴿وباءوا بغضب من الله﴾ رجعُوا وَاحْتَملُوا غضب الله، (وَقيل: لَزِمَهُم غضب الله) من قَوْلهم تبوأ مَكَان كَذَا أَي: لزمَه ﴿وَضربت عَلَيْهِم المسكنة﴾ أَي: ذل الْكفْر، بزِي الْفقر، وَذَلِكَ على الْيَهُود، حَتَّى لَا يرى يَهُودِيّ إِلَّا على زِيّ الْفقر، وَإِن كَانَ غَنِيا ﴿ذَلِك بِأَنَّهُم كَانُوا يكفرون بآيَات الله وَيقْتلُونَ الْأَنْبِيَاء بِغَيْر حق ذَلِك بِمَا عصوا وَكَانُوا يعتدون﴾.
(أكفلتني ذَنْب امْرِئ وَتركته | وَهل يأثمن ذُو أمة وَهُوَ طائع) |
(أوقد فَإِن اللَّيْل ليل قر | وَالرِّيح يَا وَاقد ريح صر) |
(عَسى [مَا] نرى نَارا لمن يمر | إِن جلبت ضيفا فَأَنت حر) |
وَاخْتلفُوا فِي تِلْكَ النَّفَقَة: قَالَ بَعضهم: أَرَادَ بِهِ: إِنْفَاق أبي سُفْيَان يَوْم بدر وَأحد على الْمُشْركين فِي قتال الْمُسلمين، وَقيل أَرَادَ بِهِ: إِنْفَاق الْمَرْء الَّذِي ينْفق مَاله رِيَاء
وَسُمْعَة، لَا يَبْتَغِي وَجه الله ﴿وَمَا ظلمهم الله وَلَكِن أنفسهم يظْلمُونَ﴾.
﴿قد بَدَت الْبغضَاء من أَفْوَاههم﴾ يَعْنِي: الوقيعة بِاللِّسَانِ، ﴿وَمَا تخفي صُدُورهمْ أكبر﴾ (يَعْنِي: الَّذِي: فِي صُدُورهمْ) من الغيظ أعظم من الوقيعة بِاللِّسَانِ ﴿قد بَينا لكم الْآيَات إِن كُنْتُم تعقلون﴾.
﴿وَإِذا خلوا عضوا عَلَيْكُم الأنامل من الغيظ قل موتوا بغيظكم﴾ وَهُوَ عبارَة عَن شدَّة الغيظ ﴿إِن الله عليم بِذَات الصُّدُور﴾.
وَهَذَا كَانَ فِي حَرْب أحد، وَهَذِه الْآيَة إِلَى قريب من آخر السُّورَة فِي حَرْب أحد ﴿وَالله سميع عليم﴾ أَي: سميع بِمَا قَالَه المُنَافِقُونَ، عليم بِمَا أضمروا؛ فَيكون على وَجه التهديد، وَقيل: مَعْنَاهُ: ﴿وَالله سميع﴾ بِمَا قَالَ الْمُؤْمِنُونَ، عَلَيْهِم بِمَا أضمروا؛ فَيكون على وَجه الْمَدْح.
الطائفتان بَنو سَلمَة وَبَنُو حَارِثَة أَن يرجِعوا مَعَهم، فثبتهما الله تَعَالَى على الْمُضِيّ مَعَه، فَلم يرجِعوا "، فَهَذَا معنى قَوْله: ﴿إِذْ هَمت طَائِفَتَانِ مِنْكُم أَن تَفْشَلَا﴾ أَي: أَن تضعفا: وتجبنا ﴿وَالله وليهما﴾ أَي: ناصرهما ومثبتهما على الْحَرْب.
قَالَ جَابر: مَا وَدِدْنَا أَن تَفْشَلَا، وَقَالَ الله: ﴿وَالله وليهما وعَلى الله فَليَتَوَكَّل الْمُؤْمِنُونَ﴾.
وَكَانَ لَهُم يَوْمئِذٍ قَلِيل سلَاح، فَمن الله عَلَيْهِم بالنصرة لَهُم؛ مَعَ قلَّة عَددهمْ وعدتهم، ﴿فَاتَّقُوا الله لَعَلَّكُمْ تشكرون﴾.
أَي: يكفيكم ﴿أَن يمدكم ربكُم﴾ الْإِمْدَاد: هُوَ إِعَانَة الْجَيْش بالجيش، وَمِنْه: المدد ﴿بِثَلَاثَة آلَاف من الْمَلَائِكَة منزلين﴾.
﴿يمددكم ربكُم بِخَمْسَة آلَاف﴾ لم يرد بِهِ خَمْسَة آلَاف سوى مَا ذكر من ثَلَاثَة آلَاف؛ لأَنهم أَجمعُوا على أَن عدد الْمَلَائِكَة يَوْمئِذٍ خَمْسَة آلَاف، وَهَذَا نَظِير قَوْله تَعَالَى: ﴿بِالَّذِي خلق الأَرْض فِي يَوْمَيْنِ﴾، ثمَّ قَالَ بعده: ﴿وَجعل فِيهَا رواسي من فَوْقهَا وَبَارك فِيهَا وَقدر فِيهَا أقواتها فِي أَرْبَعَة أَيَّام﴾ وَلم يرد بِهِ أَرْبَعَة أَيَّام سوى ذَلِك الْيَوْمَيْنِ؛ لِأَنَّهُ قَالَ بعده: ﴿فقضاهن سبع سموات فِي يَوْمَيْنِ﴾ وَأَجْمعُوا على أَن خلق الْكل كَانَ فِي سِتَّة أَيَّام لَا فِي ثَمَانِيَة أَيَّام، بل أَرَادَ بِهِ أَرْبَعَة أَيَّام مَعَ ذَلِك الْيَوْمَيْنِ كَذَا هَذَا.
﴿من الْمَلَائِكَة مسومين﴾ يقْرَأ بِفَتْح الْوَاو، وَالْمرَاد بِهِ المعلمين، وَيقْرَأ بِكَسْر الْوَاو فَيكون فعل التسويم: من الْمَلَائِكَة، والتسويم الْإِعْلَام بالعلامة، وَهُوَ من السومة، وَالسَّمَاء: وَهُوَ الْعَلامَة، وَاخْتلفُوا فِي عَلامَة الْمَلَائِكَة يَوْمئِذٍ كَيفَ كَانَت؟ قَالَ عُرْوَة بن الزبير: كَانَت الْمَلَائِكَة على خيل يلق عَلَيْهِم عمائم صفر.
وَقَالَ الْحسن: كَانَت عمائم بيض مُرْسلَة خلف الظُّهُور. وَقَالَ مُجَاهِد: كَانُوا قد أعلمُوا من الصُّوف على أَذْنَاب الْخَيل ونواصيها؛ وَذَلِكَ سنة فِي خلق الشجعان، وَقد قَالَ: " سوموا فَإِن الْمَلَائِكَة قد سومت ".
قَوْله: ﴿أَو يكبتهم﴾ قَالَ أَبُو عُبَيْدَة: أَي: يُهْلِكهُمْ، وَقيل مَعْنَاهُ: يخزيهم، وَهُوَ أصح، وَقيل مَعْنَاهُ: أَو يصرعنهم، والكب والكبت: الصرع على الْوَجْه، وَفِيه قَول رَابِع: يكبتهم بِمَعْنى: يكبدهم، وَذَلِكَ أَن يحزنهم حَتَّى وصل الْحزن إِلَى أكبادهم؛ وَالْعرب تسمي الحزين: أسود الكبد من تَأْثِير الْحزن فِيهِ [وَمِنْه] قَول الشَّاعِر:
(الْأَعْدَاء والأكباد سود... )
﴿فينقلبوا خائبين﴾ أَي: لَا يدركون مَا أملوا، يُقَال: رَجَعَ فلَان من الْغَيْبَة بالخيبة، إِذا لم يدْرك أمله.
شَيْء) وَقيل: أَرَادَ رَسُول الله أَن يدعوا عَلَيْهِم بِدُعَاء الاستئصال؛ فَنزل قَوْله: ﴿لَيْسَ لَك من الْأَمر شَيْء﴾ وَذَلِكَ أَنه تَعَالَى علم أَن فيهم من يسلم [أَو يَتُوب] ﴿أَو يَتُوب عَلَيْهِم أَو يعذبهم﴾ إِنَّمَا نَصبه على نصب قَوْله: ﴿ليقطع طرفا﴾ وَمَعْنَاهُ: لَيْسَ لَك من الْأَمر شَيْء؛ فَإِن تبت عَلَيْهِم، أَو عذبتهم، فأمرك متابع لأمري، أَي: إِن تبت عَلَيْهِم، فبرحمتي، وَإِن عذبتهم، فبظلمهم.
فَإِن قَالَ قَائِل: أَي اتِّصَال لقَوْله: ﴿أَو يَتُوب عَلَيْهِم﴾ بقوله ﴿لَيْسَ لَك من الْأَمر شَيْء﴾ ؟ قيل: مَعْنَاهُ: لَيْسَ لَك من الْأَمر شَيْء، حَتَّى يَتُوب عَلَيْهِم، أَو إِلَى أَن يَتُوب عَلَيْهِم، وَمثله قَول امْرِئ الْقَيْس:
(فَقلت لَهَا لَا تبك عَيْنك إِنَّمَا | نحاول ملكا أَو نموت فنعذرا) |
وَالْأَمر أَمْرِي فِي ذَلِك كُله.
﴿وَاتَّقوا الله لَعَلَّكُمْ تفلحون﴾ أَي: كونُوا على رَجَاء الْفَلاح، يَعْنِي: من ترك الرِّبَا
وَفِيه الْفَلاح، وَفِي عَطاء الرِّبَا الْهَلَاك.
وَعَن ابْن مَسْعُود - رَضِي الله عَنهُ -: " مَا هلك قوم إِلَّا وَقد فَشَا فيهم الرِّبَا وَالزِّنَا "، [و] عَنهُ أَيْضا: " [كثير] الرِّبَا إِلَى قلَّة ".
﴿وجنة عرضهَا السَّمَوَات وَالْأَرْض﴾ أَي: سعتها كسعة السَّمَوَات وَالْأَرْض.
[وَفِي الْخَبَر: " أَن النَّبِي: سُئِلَ إِذا كَانَت الْجنَّة عرضهَا السَّمَوَات وَالْأَرْض] فَأَيْنَ النَّار؟ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاة السَّلَام -: فَإِذا جَاءَ اللَّيْل، فَأَيْنَ يذهب النَّهَار؟ [وَإِذا] جَاءَ النَّهَار فَأَيْنَ يذهب اللَّيْل؟ " وَمَعْنَاهُ - وَالله أعلم - أَنه حَيْثُ يَشَاء الله.
فَإِن قيل: قد قَالَ الله تَعَالَى: ﴿وَفِي السَّمَاء رزقكم وَمَا توعدون﴾، وَأَرَادَ بِالَّذِي وعدنا الْجنَّة، فَإِذا كَانَت فِي السَّمَاء، فَكيف يكون عرضهَا السَّمَوَات وَالْأَرْض؟ قيل: إِن بَاب الْجنَّة فِي السَّمَاء وعرضها السَّمَوَات وَالْأَرْض كَمَا أخبر.
وَقيل: أَرَادَ بِهِ فِي الْقِيَامَة، فَإِن الله يزِيد فِيهَا، فَيصير عرضهَا السَّمَوَات وَالْأَرْض إِذا (وصلت السَّمَوَات وَالْأَرْض) بَعْضهَا بِبَعْض، وَأما طولهَا [فَلَا يُعلمهُ] إِلَّا الله.
﴿وَالْعَافِينَ عَن النَّاس﴾ قيل: عَن المماليك سوء الْأَدَب، وَقيل: على الْعُمُوم عَن كَافَّة النَّاس، ﴿وَالله يحب الْمُحْسِنِينَ﴾.
﴿وَالَّذين إِذا فعلوا فَاحِشَة أَو ظلمُوا أنفسهم ذكرُوا الله﴾ أَي: ذكرُوا وَعِيد الله ﴿فاستغفروا لذنوبهم وَمن يغْفر الذُّنُوب إِلَّا الله وَلم يصروا على مَا فعلوا﴾ الْإِصْرَار هُوَ الْمقَام على الْمعْصِيَة من غير تَوْبَة، فَقَوله: ﴿وَلم يصروا﴾ أَي: وَلم يقيموا، وَلم يمضوا ﴿على مَا فعلوا وهم يعلمُونَ﴾ أَن الله لَا يتعاظمه الْعَفو عَن الذَّنب، وَإِن أَكثر
الذَّنب، وَقد روى عَن معبد بن صَبِيحَة أَنه قَالَ: صليت خلف عُثْمَان، فَلَمَّا أنصرف من صلَاته قَالَ: إِن الله تَعَالَى يَقُول: ﴿وَلم يصروا على مَا فعلوا﴾ وَأَنا قد صليت من غير طَهَارَة نَاسِيا، وَهَا أَنا أتوضأ، فَذهب (وَتَوَضَّأ) وَأعَاد الصَّلَاة.
وروى أَسمَاء بن الحكم الفزازي عَن عَليّ أَنه قَالَ: إِذا سَمِعت من رَسُول الله حَدِيثا، يَنْفَعنِي الله بِهِ مَا شَاءَ، وَإِذا سَمِعت من غَيره (حلفته) عَلَيْهِ، فَإِذا حلف صدقته وحَدثني أَبُو بكر - وَهُوَ صَادِق -: أَن رَسُول الله قَالَ " مَا من عبد يُذنب ذَنبا، فيتوضأ، وَصلى رَكْعَتَيْنِ واستغفر (الله) إِلَّا غفر الله لَهُ ".
وَاعْلَم أَن الاسْتِغْفَار تسهيل لِلْأَمْرِ على هَذِه الْأمة، فَإِن الَّذين قبلنَا كَانَ الْوَاحِد مِنْهُم إِذا أذْنب ذَنبا يطهر على بَابه (أَن اقْطَعْ) من نَفسك عُضْو كَذَا، وَكَانَ لَا بُد لَهُ مِنْهُ، وَقد أخرج الله - تَعَالَى - هَذِه الْأمة عَن الذُّنُوب بالاستغفار؛ كَرَامَة لَهُم؛ وتيسيرا عَلَيْهِم.
وَسُئِلَ ابْن المعتز: إِذا كَانَ الله - تَعَالَى - وَاسع الْمَغْفِرَة، وسعت رَحمته كل شَيْء فَمَا يمنعهُ أَن يرحم الْكَافِر؟ فَقَالَ: إِن رَحمته لَا تغلب حكمته.
وَقد قَالَ فِي الْمَجُوس: " سنوا بهم سنة أهل الْكتاب " وَكَانَت شرا لَهُم. وَقَالَ الشَّاعِر:
(وَإِن الآلى بالطف من آل هَاشم | تأسوا فسنوا للكرام التأسيا) |
وَقيل: إِنَّمَا قَالَ ﴿وَأَنْتُم الأعلون﴾ ؛ لِأَن الْمُسلمين كَانُوا على الْجَبَل، وَالْمُشْرِكين فِي
أَسْفَل الْجَبَل، وَقَوله: ﴿إِن كُنْتُم مُؤمنين﴾ أَي: لَا تهنوا إِن كُنْتُم مُؤمنين؛ لِأَن الْإِيمَان يزِيد الْقُوَّة فَلَا يُورث الوهن.
﴿وَتلك الْأَيَّام نداولها بَين النَّاس﴾ فَتَارَة تكوم الدولة للْمُسلمين على الْكفَّار، وَتارَة للْكفَّار على الْمُسلمين، قَالَ الزّجاج: الدولة تكون للْمُسلمين على الْكفَّار، وَقد كَانَت الدولة للْكفَّار على الْمُسلمين؛ لما خالفوا أَمر الرَّسُول، فَإِن لم يخالفوا أمره كَانَت الدولة للْمُسلمين أبدا؛ لقَوْله تَعَالَى: ﴿وَإِن جندنا لَهُم الغالبون﴾ ؛ وَقَوله تَعَالَى: ﴿فَإِن حزب الله هم الغالبون﴾.
﴿وليعلم الله الَّذين آمنُوا﴾ قَرَأَ ابْن مَسْعُود: " وليبلي الله الَّذين آمنُوا "، وَالْقِرَاءَة الْمَعْرُوفَة: ﴿وليعلم﴾، فَإِن قَالَ قَائِل: مَا معنى قَوْله: ﴿وليعلم الله الَّذين آمنُوا﴾، وَهُوَ عَالم بهم أبدا؟ قيل: مَعْنَاهُ: وليعلم الصابرين على الْجِهَاد فِي مَوَاطِن الْجِهَاد ليعاملهم مُعَاملَة من يبتليهم؛ فيعلمهم، وَالْعلم بِالْجِهَادِ فِي مَوَاطِن الْجِهَاد إِنَّمَا يَقع بعد وُقُوع الْجِهَاد، وَقيل: الْعلم الأول: علم الْغَيْب، وَقَوله: ﴿وليعلم﴾ يَعْنِي: علم الْمُشَاهدَة، والوقوع والمجازة على علم الْوُقُوع لَا على علم الْغَيْب.
﴿ويتخذ مِنْكُم شُهَدَاء وَالله لَا يحب الظَّالِمين﴾ يَعْنِي: أَنه مَا جعل الْيَد للْكفَّار يَوْم أحد لحبه إيَّاهُم؛ وَلَكِن ليبتليكم، ويجعلكم شُهَدَاء.
﴿ويمحق الْكَافرين﴾ [معنى] الْآيَة: أَنهم إِن قتلوكم؛ فَذَلِك تَطْهِير لكم، وَإِن قَتَلْتُمُوهُمْ فَذَلِك محق لَهُم واستئصال.
﴿وَلَقَد كُنْتُم تمنون الْمَوْت﴾ أَي: سَبَب الْمَوْت وَهُوَ الْجِهَاد؛ إِذْ لَا يجوز أَن يتَمَنَّى الْمَوْت بقتل الْكَافِر إِيَّاه ﴿من قبل أَن تلقوهُ﴾ أَي: تلقونَ سَببه من الْجِهَاد ﴿فقد رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُم تنْظرُون﴾، فَإِن قيل: مَا معنى قَوْله: ﴿وَأَنْتُم تنْظرُون﴾، وَقد قَالَ: ﴿فقد رَأَيْتُمُوهُ﴾ ؟ (قيل) : يحْتَمل [أَن تكون] الرُّؤْيَة بِمَعْنى الْعلم؛ فَقَالَ:
﴿وَأَنْتُم تنْظرُون﴾ ليعلم أَن المُرَاد بِالرُّؤْيَةِ هَا هُنَا: التفكر، قَالَه الْأَخْفَش، وَقيل: إِنَّمَا قَالَه تَأْكِيدًا، وَقيل: مَعْنَاهُ: وَأَنْتُم تنْظرُون إِلَى مُحَمَّد.
وروى: أَن [أنس بن النَّضر] " لما سمع قَول الشَّيْطَان: إِن مُحَمَّدًا قتل، اخْتَرَطَ سَيْفه وَتوجه إِلَى الْكفَّار، وَقَالَ: إِن قَاتل مُحَمَّد وَقتل، وَوصل إِلَى مَا وصل، فَأَنا أقَاتل حَتَّى أقتل، وأصل إِلَى مَا وصل إِلَيْهِ، فقاتل حَتَّى قتل ".
وَقَالَ كَعْب بن مَالك: أَنا أول من رأى رَسُول الله يَوْم أحد بعد صياح الشَّيْطَان، عَرفته بِعَيْنيهِ تَحت المغفر، فَقلت: هَذَا رَسُول الله حَيّ، فَأَشَارَ إِلَى أَن اسْكُتْ ". ﴿مِنْهَا وَمن يرد ثَوَاب الْآخِرَة نؤته مِنْهَا وسنجزي الشَّاكِرِينَ (١٤٥) وكأين من نَبِي قَاتل مَعَه ربيون كثير فَمَا وهنوا لما أَصَابَهُم فِي سَبِيل الله وَمَا ضعفوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَالله يحب الصابرين (١٤٦) وَمَا كَانَ قَوْلهم إِلَّا أَن قَالُوا رَبنَا اغْفِر لنا ذنوبنا وإسرافنا فِي﴾
(وَمن يرد ثَوَاب الدُّنْيَا نؤته مِنْهَا) فَإِن قيل: نَحن نرى من يُرِيد الدُّنْيَا، فَلَا يُؤْتى؟ قيل: مَعْنَاهُ: لَا يمْنَع عَنهُ مَا قدر لَهُ من ثَوَاب الدُّنْيَا بِسَبَب كفره.
﴿وَمن يرد ثَوَاب الْآخِرَة نؤته مِنْهَا﴾ فَإِن قيل: وَهل يُؤْتى ثَوَاب الْآخِرَة بِمُجَرَّد الْإِرَادَة؟ قيل مَعْنَاهُ: وَمن يرد بِالْعَمَلِ، وَهَذَا كَمَا يُقَال: فلَان يُرِيد الْجنَّة، أَي: يعْمل للجنة ﴿وسنجزي الشَّاكِرِينَ﴾ يَعْنِي: الْمُؤمنِينَ، قَالَ عَليّ - رَضِي الله عَنهُ -: أَبُو بكر إِمَام الشَّاكِرِينَ. أَي: إِمَام الْمُؤمنِينَ، رَضِي الله عَنهُ.
(وكأين بالأباطح من صديق | يراني إِن أصبت هُوَ المصابا) |
﴿فَمَا وهنوا لما أَصَابَهُم فِي سَبِيل الله﴾ أَي: مَا جبنوا ﴿وَمَا ضعفوا وَمَا اسْتَكَانُوا﴾ أَي: مَا ذلوا، وَمَا خضعوا، وَقَالَ الْحسن: مَا قتل نَبِي فِي معركة قطّ، وَإِنَّمَا معنى الْآيَة: وكأين من نَبِي قتل مَعَه ربيون كثير، وَأما الْقِرَاءَة الْأُخْرَى: " قَاتل مَعَه فَمَعْنَاه ظَاهر، وَأما الربيون قَالَ ابْن مَسْعُود: هم أُلُوف، وَقيل: هم عشرَة آلَاف. قَالَ الْحسن: الربيون من الْعلمَاء مَأْخُوذ من الرب؛ لأَنهم على دين الرب وَطَرِيقه.
قَوْله تَعَالَى: {وَالله يحب الصابرين
﴿وَحسن ثَوَاب الْآخِرَة﴾ قَالَ ابْن عَبَّاس: هُوَ أَن الله ينزل النَّبِي وَأَصْحَابه فِي قباب من در وَيَاقُوت حَتَّى يفصل بَين الْخلق، وَقيل، حسن ثَوَاب الْآخِرَة: أَن يجازيهم على عَمَلهم ويزيدهم من فَضله ﴿وَالله يحب الْمُحْسِنِينَ﴾.
وَقيل: أَرَادَ بِهِ الْمُنَافِقين الَّذين قَالُوا يَوْم أحد: ارْجعُوا إِلَى دينكُمْ الأول؛ فَإِن مُحَمَّدًا قد قتل، فَهَذَا معنى قَوْله تَعَالَى: ﴿يردوكم على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين﴾ أَي: مغبونين. ﴿بل الله مولاكم وَهُوَ خير الناصرين﴾.
﴿ومأواهم النَّار﴾ مكانهم النَّار ﴿وَبئسَ مثوى الظَّالِمين﴾ سَبَب نزُول الْآيَة: أَن الْهَزِيمَة لما وَقعت على الْمُسلمين يَوْم أحد، وَوَقع الْقَتْل فيهم، تشَاور الْمُشْركُونَ فِيمَا بَينهم، وَأَجْمعُوا على أَن يعودوا لِلْقِتَالِ، فيستأصلوا مُحَمَّدًا وَأَصْحَابه فَألْقى الله تَعَالَى الرعب فِي قُلُوبهم، فَمروا على وُجُوههم لَا يلوون على شَيْء حَتَّى بلغُوا مَكَّة، فَذَلِك قَوْله تَعَالَى: ﴿سنلقي فِي قُلُوب الَّذين كفرُوا الرعب﴾.
(تحسهم السيوف كَمَا تسامى | لهيب النَّار فِي أجم الحصيد) |
﴿مِنْكُم من يُرِيد الدُّنْيَا ومنكم من يُرِيد الْآخِرَة﴾ ؛ لأَنهم اخْتلفُوا على مَا سنذكر ﴿ثمَّ صرفكم عَنْهُم ليبتليكم﴾ أَي: [كف] أَيْدِيكُم عَنْهُم؛ ليمتحنكم، وَقيل: لينزل الْبلَاء عَلَيْكُم، ﴿وَلَقَد عَفا عَنْكُم وَالله ذُو فضل على الْمُؤمنِينَ﴾، والقصة فِي ذَلِك: " أَن رَسُول الله رأى فِي مَنَامه: أَنه لبس درعا حَصِينَة حِين نزل الْمُشْركُونَ بِأحد؛ فأولها على الْمَدِينَة، وشاور أَصْحَابه فِي الْخُرُوج إِلَى أحد، فَقَالُوا: إِن هَذِه بَلْدَة مَا دخل علينا فِيهَا أحد، وَلَا تبع حَتَّى قدم وَحَتَّى يخرج إِلَيْهِم، فَلبس رَسُول الله درعين، وَوضع المغفر على رَأسه، وَخرج؛ فَنَدِمُوا وَعَلمُوا أَنه كَانَ مُرَاده أَن يُقيم، فَقَالُوا: يَا رَسُول الله، (إِنَّا) تبع لرأيك، وطلبوا مِنْهُ أَن يرجع إِن شَاءَ، فَقَالَ: مَا كَانَ لنَبِيّ إِذا لبس لامته أَن يَنْزِعهَا حَتَّى يُقَاتل، أَو يحكم الله.
وَمضى مَعَه ألف نفر، فانخذل عبد الله بن أبي بن سلول [وَأَصْحَابه] بِثلث الْجَيْش ثلثمِائة نفر، وَبَقِي سَبْعمِائة، فَلَمَّا وصل إِلَى أحد بعث قوما من الرُّمَاة، وأجلسهم على مَوضِع من جبل يخَاف مِنْهُ الكمين، وَأمر عَلَيْهِم عبد الله بن جُبَير الْأنْصَارِيّ.
ثمَّ ابْتَدَأَ الْقِتَال مَعَ الْمُشْركين، فظفر عَلَيْهِم، وَقتل جمَاعَة من رُؤَسَائِهِمْ، وانهزموا، ولاح الظفر للْمُسلمين، وَسَارُوا فِي أَثَرهم للغنيمة، فَلَمَّا رَآهُ الرُّمَاة، فَقَالُوا: إِن الْمُشْركين قد انْهَزمُوا، ولاح الظفر حَتَّى نسير على أَثَرهم؛ ونغنم، فَقَالَ عبد الله بن جُبَير: لَا تفارقوا هَذَا الْمَكَان؛ فَإِن رَسُول الله أَمركُم أَن تلزموا هَذَا الْمَكَان، فالزموه، فَاخْتَلَفُوا عَلَيْهِ، وَذهب أَكْثَرهم، وَبَقِي عبد الله بن جُبَير مَعَ نفر قَلِيل من أَصْحَابه.
فَلَمَّا عرى مَوضِع الكمين عَن الرُّمَاة، خرج عَلَيْهِم خَالِد بن الْوَلِيد من الكمين، وَحمل عَلَيْهِم بِالْقَتْلِ، فاستشهد عبد الله بن جُبَير، وَمن بَقِي مَعَه، وَعَاد الْمُشْركُونَ لِلْقِتَالِ، وَوَقع الْقَتْل فِي الْمُسلمين، وَقتل مِنْهُم سَبْعُونَ نَفرا، وَانْهَزَمَ الْبَاقُونَ، وَبَقِي مَعَ رَسُول الله نفر قَلِيل، فَذَلِك قَوْله ﴿وَلَقَد صدقكُم الله وعده﴾ أَي: فِي الِابْتِدَاء بالظفر والنصرة ﴿إِذْ تحسونهم بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذا فشلتم وتنازعتم فِي الْأَمر﴾ يَعْنِي: أُولَئِكَ الرُّمَاة الَّذين اخْتلفُوا، ﴿وعصيتم﴾ يَعْنِي: عصيتم الرَّسُول، وخالفتم أمره ﴿من بعد مَا أَرَاكُم﴾ يَعْنِي: من بعد أَن أَرَاكُم الله تَعَالَى ﴿مَا تحبون﴾ من الظفر ﴿مِنْكُم من يُرِيد الدُّنْيَا﴾ هم الَّذين ذَهَبُوا للغنيمة، ﴿ومنكم من يُرِيد الْآخِرَة﴾ : الَّذين صَبَرُوا مَعَ عبد الله بن جُبَير.
قَالَ ابْن مَسْعُود: مَا علمنَا أَن أحدا منا يُرِيد الدُّنْيَا حَتَّى أنزل الله هَذِه الْآيَة.
﴿ثمَّ صرفكم عَنْهُم ليبتليكم﴾ يَعْنِي: فِي الْوَقْعَة الثَّانِيَة حِين عَاد الْمُشْركُونَ، وَهَذَا دَلِيل لأهل السّنة على: أَن أَفعَال الْعباد مخلوقة؛ حَيْثُ نسب الله تَعَالَى هزيمَة الْمُسلمين إِلَى نَفسه مَعَ وُقُوع الْفِعْل مِنْهُم، فَقَالَ: ﴿ثمَّ صرفكم عَنْهُم﴾.
قَوْله تَعَالَى: ﴿إِذْ تصعدون﴾ وَيقْرَأ: بِفَتْح التَّاء وَالْعين. فالإصعاد: هُوَ الْمَشْي فِي مستو من الأَرْض، والصعود: المشى فِي مُرْتَفع من الأَرْض.
وَالْخطاب مَعَ الْمُسلمين الَّذين انْهَزمُوا،
﴿وَالرَّسُول يدعوكم فِي أخراكم﴾ يَعْنِي: فِي آخر الْجَيْش، وَكَانَ يَدعُوهُم: " عباد الله، إِلَيّ إِلَيّ، أَنا رَسُول الله، فَلم يلتفتوا إِلَيْهِ، ومضوا ".
﴿فأثابكم غما بغم﴾ أَي: جازاكم، ثمَّ اخْتلفُوا، مِنْهُم من قَالَ: الْغم الأول: هُوَ الْقَتْل، والهزيمة الَّتِي وَقعت على الْمُسلمين، وَالْغَم الثَّانِي: هُوَ الإرجاف من قَول الشَّيْطَان: إِن مُحَمَّدًا قد قتل. وَقيل: [إِن] الْغم الأول: هُوَ الْقَتْل والهزيمة، وَالْغَم الثَّانِي: هُوَ فَوَات الظفر على الْعَدو.
وَقَالَ الزّجاج: مَعْنَاهُ: أَنهم غموا الرَّسُول بمخافة أمره؛ فجازاهم الله تَعَالَى بذلك الْغم غم الْقَتْل والهزيمة؛ وَإِنَّمَا سَمَّاهُ ثَوابًا؛ لِأَنَّهُ وَضعه مَوضِع الثَّوَاب، كَمَا قَالَ: ﴿فبشرهم بِعَذَاب أَلِيم﴾ سمى الْعَذَاب: بِشَارَة؛ لِأَنَّهُ وَضعه مَوضِع الْبشَارَة ﴿ليكلا تحزنوا على مل فاتكم وَلَا مَا أَصَابَكُم﴾ من الْقَتْل والهزيمة، مَنعهم الله تَعَالَى من الْحزن على شَيْء ابْتَلَاهُم الله بِهِ، ووعد الثَّوَاب عَلَيْهِ ﴿وَالله خَبِير بِمَا تَعْمَلُونَ﴾.
وَاحِد، وَقيل: يكون مَعَ (زَوَال سَبَب الْخَوْف)، فَأَما هَا هُنَا فَقَالَ: ﴿أَمَنَة نعاسا يغشى طَائِفَة مِنْكُم﴾ قيل: فِيهِ تَقْدِيم وَتَأْخِير، وَتَقْدِيره: نعاسا أَمَنَة، وَقيل: هُوَ على نظمه مُسْتَقِيم، وَمعنى الْآيَة: أَن الله تَعَالَى أَرَادَ تميز الْمُؤمنِينَ من الْمُنَافِقين، فأوقع النعاس على الْمُؤمنِينَ أَمَنَة لَهُم، حَتَّى أمنُوا، وَلم يُوقع على الْمُنَافِقين فبقوا على الْخَوْف.
قَالَ أَبُو طَلْحَة: أوقع الله تَعَالَى علينا النعاس وَنحن تَحت الْحجر.
وَقيل: أوقع النعاس عَلَيْهِم حَتَّى كَانَ يسْقط السيوف من أَيْديهم، وَكَذَلِكَ عبد الرَّحْمَن بن عَوْف وَالزُّبَيْر أخبرا عَن ذَلِك النعاس، كَمَا أخبر أَبُو طَلْحَة.
وَعَن الزبير أَنه قَالَ: لما أوقع الله النعاس علينا، سمعنَا معتب بن قُشَيْر يَقُول: لَو كَانَ لنا من الْأَمر شَيْء مَا قتلنَا هَا هُنَا، وَكنت كَأَنِّي فِي النّوم أسمع، فَذَلِك قَوْله: ﴿يغشى طَائِفَة مِنْكُم﴾ يَعْنِي: الْمُؤمنِينَ ﴿وَطَائِفَة قد أهمتهم أنفسهم﴾ يَعْنِي: الْمُنَافِقين ﴿يظنون بِاللَّه غير الْحق ظن الْجَاهِلِيَّة يَقُولُونَ هَل لنا من الْأَمر من شَيْء﴾ قَالَ: ﴿قل إِن الْأَمر كُله لله يخفون فِي أنفسهم مَا لَا يبدون لَك﴾.
ثمَّ فسر ذَلِك فَقَالَ: ﴿يَقُولُونَ لَو كَانَ لنا من الْأَمر شَيْء مَا قتلنَا هَا هُنَا قل لَو كُنْتُم فِي بُيُوتكُمْ لبرز الَّذين كتب عَلَيْهِم الْقَتْل إِلَى مضاجعهم﴾.
أَي: خرج الَّذين كتب عَلَيْهِم الْقِتَال إِلَى مصَارِعهمْ للْمَوْت، وَفِي هَذَا دَلِيل على أَن الْأَجَل فِي الْقَتْل وَالْمَوْت وَاحِد، كَمَا قَالَ أهل السّنة.
قَوْله تَعَالَى: (وليبتلي الله مَا فِي صدوركم وليمحص مَا فِي قُلُوبكُمْ وَالله عليم بِذَات الصُّدُور).
وَفِي الرِّوَايَة الأولى: كَانَ السَّابِع الزبير، وَكَانَ طَلْحَة أَشد نكاية فِي الْكفَّار يَوْمئِذٍ.
وَقيل: إِن يَوْم أحد لطلْحَة، وَقيل: إِنَّه كَانَ وقاية رَسُول الله وَكَانَ قد ضرب على يَده فشلت وَبقيت كَذَلِك.
وَأما سعد وَهُوَ رامية، وَكَانَ يَرْمِي بَين يَدَيْهِ، وَيَقُول لَهُ رَسُول الله: " ارْمِ، فدَاك أبي وَأمي "
وَأما الَّذين انْهَزمُوا، فقد لحق بَعضهم بِالْمَدِينَةِ مِنْهُم عُثْمَان، وَرجع بَعضهم على الطَّرِيق مِنْهُم عمر؛ فَذَلِك قَوْله: ﴿إِنَّمَا استزلهم الشَّيْطَان﴾ أَي: طلب زلتهم، يُقَال: استعجل فلَانا، أَي: طلب عجلته، وَمَعْنَاهُ: أَن الشَّيْطَان استزلهم حَتَّى انْهَزمُوا.
وَقَوله ﴿بِبَعْض مَا كسبوا﴾ يَعْنِي: من مُخَالفَة الرَّسُول ﴿وَلَقَد عَفا الله عَنْهُم إِن الله غَفُور حَلِيم﴾ قَالَ الزّجاج: كَانَ سَبَب انهزامهم: أَن الشَّيْطَان وسوس إِلَيْهِم: إِن عَلَيْكُم ذنوبا؛ فكرهوا الْقَتْل قبل أَن يتوبوا من الذُّنُوب؛ فَذَلِك قَوْله: ﴿إِنَّمَا استزلهم الشَّيْطَان بِبَعْض مَا كسبوا وَلَقَد عَفا الله عَنْهُم إِن الله غَفُور حَلِيم﴾.
روى: " أَن رجلا جَاءَ إِلَى ابْن عمر - وَقيل: إِلَى ابْن عَبَّاس، [و] الْأَصَح إِلَى ابْن عَبَّاس، وَقَالَ: أَلَيْسَ عُثْمَان لم يشْهد بَدْرًا؟ قَالَ: نعم. فَقَالَ: أَلَيْسَ لم يشْهد بيعَة الرضْوَان؟ قَالَ: نعم، قَالَ: أَلَيْسَ انهزم يَوْم أحد؟ قَالَ: نعم.
فَقَالَ الرجل الله أكبر.
فَعرف ابْن عَبَّاس أَنه أَرَادَ النَّقْص؛ فَدَعَاهُ، قَالَ: أما يَوْم بدر؛ فَإِن النَّبِي كَانَ قد خَلفه على ابْنَته، وَكَانَت مَرِيضَة وَقَالَ لَهُ: لَك أجر وَاحِد مِمَّن شهد، وَسَهْم وَاحِد مِمَّا شهد، وَهُوَ بَدْرِي بقول الرَّسُول.
وَأما بيعَة الرضْوَان، فقد كَانَ الرَّسُول بعث عُثْمَان إِلَى مَكَّة رَسُولا، وَلَو كَانَ بَينهم فِي الْوَادي أعز مِنْهُ لبعثه، وَلما بايعهم ضرب رَسُول الله بِشمَالِهِ على يَمِينه، وَقَالَ: هَذِه يَد عُثْمَان، وَهَذِه يَدي، أما انهزامه يَوْم أحد، فقد عَفا الله عَنهُ، وَلَا عيب فِي شَيْء عَفا الله عَنهُ ".
فصل
" وَأما مَا أصَاب رَسُول الله يَوْم أحد، فَإِنَّهُ كَانَ قد هشمت الْبَيْضَة الَّتِي كَانَت على رَأسه، وأدمي وَجهه، وَكسر [ثنيته] ؛ فجَاء إِلَى الْمَدِينَة فَكَانَت فَاطِمَة تغسل وَجهه، وَعلي - رَضِي الله عَنهُ - يَأْتِي بِالْمَاءِ فِي الْمِجَن، وَكَانَ يغلب الدَّم، حَتَّى أحرقت حَصِيرا، فَلَمَّا صَار رَمَادا، جَعَلُوهُ فِي الْجراحَة فَاسْتَمْسك الدَّم ".
﴿وَقَالُوا لإخوانهم إِذا ضربوا فِي الأَرْض﴾ أَرَادَ: إخْوَانهمْ فِي النّسَب، لَا فِي الدّين ﴿ضربوا فِي الأَرْض﴾ أَي: سافروا ﴿أَو كَانُوا غزى﴾ جمع غاز ﴿لَو كَانُوا عندنَا مَا مَاتُوا وَمَا قتلوا﴾ وَهَذَا قَول المعتب بن قُشَيْر، وَعبد الله بن أبي بن سلول، وجد بن قيس؛ ﴿ليجعل الله ذَلِك حسرة فِي قُلُوبهم وَالله يحيي وَيُمِيت وَالله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير﴾.
﴿وَلَو كنت فظا﴾ وَهُوَ الجافي ﴿غليظ الْقلب﴾ أَي: قاسي الْقلب ﴿لَا نفضوا﴾ لتفرقوا ﴿من حولك﴾.
﴿فَاعْفُ عَنْهُم واستغفر لَهُم وشاورهم فِي الْأَمر﴾ الْمُشَاورَة هِيَ اسْتِخْرَاج الرَّأْي، وَكَانَت الْمُشَاورَة جَائِزَة للنَّبِي فِي أُمُور الدُّنْيَا، فَأَما فِي أُمُور الدّين فعلى التَّفْصِيل إِن كَانَ فِي شَيْئَيْنِ يجوز كِلَاهُمَا، جَازَت الْمُشَاورَة، كَمَا شاورهم فِي أُسَارَى بدر، حَيْثُ كَانَ يجوز الْقَتْل وَالْفِدَاء.
وَالثَّانِي: فِي أُمُور ثبتَتْ نصا، كَالصَّوْمِ وَالصَّلَاة، لَا تجوز فِيهَا الْمُشَاورَة.
وَالثَّالِث: فِي شَيْء لَا نَص فِيهِ، فَهُوَ بِنَاء على أَن اجْتِهَاده هَل كَانَ سائغا أم لَا؟ فَإِن سَاغَ اجْتِهَاده، جَازَت مشاورته، وَإِلَّا فَلَا.
ولأي كَانَ يشاور؟ قَالَ الضَّحَّاك: ليقتدى بِهِ، وليستن بسنته، وَهُوَ قَول سُفْيَان الثَّوْريّ، وَقَالَ قَتَادَة: تطييبا لقُلُوبِهِمْ.
﴿فَإِذا عزمت فتوكل على الله﴾ أَي: لَا تتوكل على الْمُشَاورَة، وَإِنَّمَا توكل على الله ﴿إِن الله يحب المتوكلين﴾.
قَالَ ابْن عَبَّاس: سَبَب نزُول الْآيَة: أَنه يَوْم بدر فقدت قطيفة حَمْرَاء، فَقَالَ بعض أَصْحَاب رَسُول الله: الرَّسُول أَخذهَا؛ فَنزل قَوْله: ﴿وَمَا كَانَ لنَبِيّ أَن يغل﴾.
وَقَالَ مُحَمَّد بن كَعْب الْقرظِيّ: مَعْنَاهُ: وَمَا كَانَ لنَبِيّ أَن يكتم شَيْئا من الْوَحْي، ويخون فِيهِ.
وَفِيه قَول ثَالِث: " أَن النَّبِي كَانَ قد بعث طلائع، فهم ألايعطيهم من الْغَنَائِم
شَيْئا؛ فَنزل قَوْله: ﴿وَمَا كَانَ لنَبِيّ أَن يغل﴾ " قَالَ قَتَادَة: أَن يخان مِنْهُ، أَي: لَا تخونوه، وَقيل مَعْنَاهُ: أَن ينْسب إِلَى الْغلُول، وَقيل مَعْنَاهُ: أَن يلقى غلا، وَهَذَا غَرِيب من معنى الْقِرَاءَة الأولى. والغلول: الْخِيَانَة، والغل: الحقد، والغلل: المَاء الَّذِي يجْرِي بَين الشّجر، وَمِنْه قَول الشَّاعِر:
(لعب [السُّيُول] بِهِ فَأصْبح مَاؤُهُ | غللا [يخلل] فِي أصُول الخروع) |
﴿وَمن يغلل﴾ أَي: وَمن يخن ﴿يَأْتِ بِمَا غل يَوْم الْقِيَامَة﴾ قيل: يَأْتِي مَا غل بِعَيْنِه يَوْم الْقِيَامَة، وَذَلِكَ معنى قَوْله فِيمَا روى عَنهُ: " لألقين أحدكُم يَوْم الْقِيَامَة، وعَلى رقبته فرس لَهُ حَمْحَمَة قد غله، فَيَقُول: يَا مُحَمَّد، يَا مُحَمَّد، فَأَقُول: لَا أُغني عَنْك من الله شَيْئا، أَلا قد بلغت، ولألقين أحدكُم يَأْتِي يَوْم الْقِيَامَة، وعَلى رقبته شَاة لَهَا ثُغَاء، قد غلها، فَيَقُول يَا مُحَمَّد، يَا مُحَمَّد، فَأَقُول: لَا أُغني عَنْك من الله شَيْئا، أَلا قد بلغت، ولألقين أحدكُم يَوْم الْقِيَامَة وعَلى رقبته بعير لَهُ رُغَاء، قد غله، فَيَقُول: يَا مُحَمَّد، يَا مُحَمَّد، فَأَقُول: لَا أُغني عَنْك من الله شَيْئا أَلا قد بلغت ".
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَنه أَرَادَ بِهِ: يَأْتِي بإثم مَا غل يَوْم الْقِيَامَة، وَفِي الْخَبَر: " أَن رجلا كَانَ على ثقل رَسُول الله، فاستشهد فَقَالَ النَّاس هُوَ فِي الْجنَّة، فَقَالَ النَّبِي هُوَ فِي النَّار؛ فَطلب، فَإِذا هُوَ قد غل عباءة عَن الْمغنم ".
﴿ثمَّ توفى كل نفس مَا كسبت﴾ أَي: جَزَاء مَا كسبت، فالجزاء مُضْمر فِيهِ ﴿وهم لَا يظْلمُونَ﴾.
(أنصب للمنية تعتريهم | رجالي، أم همو درج السُّيُول) |
وَقَوله تَعَالَى: ﴿إِذْ بعث فيهم رَسُولا من أنفسهم﴾ قيل: هَذَا فِي الْعَرَب خَاصَّة؛
لِأَن الرَّسُول بعث من بني إِسْمَاعِيل إِلَى الْعَرَب، وَقيل: هُوَ على الْعُمُوم فِي حق الكافة؛ فَإِنَّهُ بعث بشر مثلهم.
وَمَوْضِع الْمِنَّة فِي بَعثه من أنفسهم للْعَرَب: أَنه كَانَ شرفا لَهُم، حَيْثُ بعث الرَّسُول مِنْهُم، وَأَيْضًا فَإِن الْقُرْآن نزل بِلِسَان الْعَرَب؛ إِذْ كَانَ الرَّسُول عَرَبيا، وَكَانَ التَّعَلُّم أسهل عَلَيْهِم؛ لكَونه أقرب إِلَى أفهامهم، فالمنة فِي السهولة عَلَيْهِم، وَلِأَنَّهُ لما نَشأ فيهم، وَعرفُوا صَدَقَة وأمانته، وَكَانَ أُمِّيا مثلهم مَا كَانَ يحسن الْخط، وَلَا يعلم شَيْئا، وَلَا سَافر، ثمَّ أَتَى بِكِتَاب يخبر عَن الْقُرُون الْمَاضِيَة وقصص الْأَوَّلين، وَوَافَقَ الْكتب الْمنزلَة قبله، كَانَ أقرب إِلَى قُلُوبهم، فَكَانَ يسهل طَرِيق الْإِيمَان عَلَيْهِم.
وَقَوله: ﴿يَتْلُو عَلَيْهِم آيَاته ويزكيهم﴾ أَي: يشْهد بتزكية سَائِر الْأُمَم، ويجعلهم أزكياء، وَقيل: يطهرهم من الذُّنُوب ﴿وَيُعلمهُم الْكتاب﴾ يَعْنِي: الْقُرْآن ﴿وَالْحكمَة﴾، قَالَ ابْن عَبَّاس: الْفِقْه والشرائع، وَقَالَ غَيره: الْحِكْمَة: السّنة. ﴿وَإِن كَانُوا من قبل لفي ضلال مُبين﴾ أَي: مَا كَانُوا من قبل إِلَّا فِي ضلال مُبين.
﴿قُلْتُمْ أَنى هَذَا﴾ من أَيْن هَذَا؟ ﴿قل هُوَ من عِنْد أَنفسكُم﴾ أَي: بمخالفة الرَّسُول مِنْكُم ". وَعَن عمر - رَضِي الله عَنهُ - أَنه قَالَ فِي تَفْسِير قَوْله تَعَالَى: ﴿قل هُوَ من عِنْد أَنفسكُم﴾ أَي: باختياركم الْفِدَاء؛ وَذَلِكَ أَن النَّبِي خير الْمُسلمين يَوْم بدر فِي الْأُسَارَى بَين الْقَتْل وَالْفِدَاء، وَقَالَ لَهُم: " إِن اخترتم الْفِدَاء أُصِيب
مِنْكُم بِعدَّتِهِمْ فِي الْعَام الْقَابِل، فَاخْتَارُوا الْفِدَاء، وَقَالُوا: نتقوى بِهِ على الْعَدو، وَيسْتَشْهد منا " فَذَلِك قَوْله: ﴿قل هُوَ من عِنْد أَنفسكُم﴾ أَي: باختياركم، وَهُوَ قَول عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - ﴿إِن الله على كل شَيْء قدير﴾.
﴿وَقيل لَهُم تَعَالَوْا قَاتلُوا فِي سَبِيل الله أَو ادفعوا﴾ قَائِل ذَلِك القَوْل: عبد الله بن حرَام أَبُو جَابر، قَالَ لِلْمُنَافِقين: قَاتلُوا فِي سَبِيل الله، وَإِن لم تقاتلوا لأجل الدّين، فادفعوا عَن الْأَهْل والحريم.
﴿قَالُوا لَو نعلم قتالا لَاتَّبَعْنَاكُمْ﴾ فَرَجَعُوا وهم يَقُولُونَ: لَا قتال، لَا قتال، حَتَّى يفشل الْمُسلمُونَ ﴿هم للكفر يَوْمئِذٍ أقرب مِنْهُم للْإيمَان﴾ يَعْنِي: بعد رجوعهم ومقالتهم تِلْكَ؛ لأَنهم كَانُوا من قبل من الْمُؤمنِينَ فِي الظَّاهِر؛ وَإِن كَانُوا منافقين فِي الْبَاطِن، فَلَمَّا فارقوا الْمُؤمنِينَ صَارُوا أقرب إِلَى الْكفْر مِنْهُم للْإيمَان.
﴿يَقُولُونَ بأفواههم مَا لَيْسَ فِي قُلُوبهم وَالله أعلم بِمَا يكتمون﴾.
(أَقُول وَقد درأت لَهَا وضيني | أَهَذا دينكُمْ أبدا وديني؟) |
(أَمرتك الْخَيْر فافعل مَا أمرت بِهِ | فقد تركتك ذَا مَال وَذَا نسب) |
﴿الَّذين يُسَارِعُونَ فِي الْكفْر﴾ يَعْنِي: قَول الَّذين يُسَارِعُونَ فِي الْكفْر.
﴿إِنَّهُم لن يضروا الله شَيْئا﴾ أَي: لن ينقصوا الله شَيْئا ﴿يُرِيد الله أَلا يَجْعَل لَهُم حظا فِي الْآخِرَة﴾ أَي: نَصِيبا فِي الْآخِرَة ﴿وَلَهُم عَذَاب عَظِيم﴾.
﴿إِنَّمَا نملي لَهُم ليزدادوا إِثْمًا﴾ أَي: إِنَّمَا نطيل عمرهم ليزدادوا إِثْمًا. روى الْأسود عَن أبن مَسْعُود: " مَا من أحد إِلَّا وَالْمَوْت خير لَهُ؛ برا كَانَ أَو فَاجِرًا: أما الْبر، لقَوْله تَعَالَى -: ﴿وَمَا عِنْد الله خير للأبرار﴾ وَأما الْفَاجِر؛ لقَوْله تَعَالَى: ﴿إِنَّمَا نملي لَهُم ليزدادوا إِثْمًا﴾ ؛ وَذَلِكَ أَنه إِذا ازْدَادَ إِثْمًا اشتدت عُقُوبَته " ﴿وَلَهُم عَذَاب مهين﴾.
مَا نعى الزَّكَاة، وَقَوله: ﴿سيطوقون مَا بخلوا بِهِ يَوْم الْقِيَامَة﴾ على حَقِيقَته، وَهُوَ معنى مَا روى عَن رَسُول الله أَنه قَالَ: " من منع الزَّكَاة جَاءَ يَوْم الْقِيَامَة، فيمثل لَهُ مَاله شجاعا أَقرع فيطوق فِي رقبته، [فينهسه] من قرنه إِلَى قَدَمَيْهِ ثمَّ قَرَأَ هَذِه الْآيَة ". ﴿وَللَّه مِيرَاث السَّمَوَات وَالْأَرْض﴾ فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ يكون لَهُ مِيرَاث السَّمَوَات وَالْأَرْض؟ قيل: الْعَرَب تسمى كل مَا انْتقل من أحد إِلَى غَيره مِيرَاثا بِأَيّ سَبَب كَانَ، فَلَمَّا خلصت السَّمَوَات وَالْأَرْض لله تَعَالَى بعد هَلَاك الْعباد، سَمَّاهُ مِيرَاثا، كَأَنَّهُ انْتقل مِنْهُم إِلَيْهِ ﴿وَالله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِير﴾.
﴿سنكتب مَا قَالُوا﴾ : هُوَ الْكِتَابَة فِي صَحَائِف الْأَعْمَال، وَقيل: مَعْنَاهُ: نحصي مَا قَالُوا نجازى عَلَيْهِ، وَيقْرَأ: " سيكتب مَا قَالُوا " بِضَم الْيَاء. ﴿وقتلهم الْأَنْبِيَاء﴾ بِالرَّفْع أَي: وَيكْتب قَتلهمْ الْأَنْبِيَاء ﴿بِغَيْر حق ونقول ذوقوا عَذَاب الْحَرِيق﴾ أَي:
بِعَذَاب النَّار؛ لِأَن عَذَاب النَّار محرق.
﴿وَأَن الله لَيْسَ بظلام للعبيد﴾ يَعْنِي: أَنه يفعل مَا يفعل بهم؛ مجازاة لَهُم على أَعْمَالهم.
وَقَالَ غَيره: كَانُوا يَتَقَرَّبُون بالقربان، ثمَّ يَأْخُذُونَ أطايب لَحْمه، فيضعونها فِي بَيت، ثمَّ يقوم نَبِيّهم فِي ذَلِك الْبَيْت يُنَاجِي ربه، فتأتي نَار بَيْضَاء لَهَا حفيف من السَّمَاء، فتأكله، وَيكون ذَلِك عَلامَة قبُول القربان.
﴿قل قد جَاءَكُم رسل من قبلي بِالْبَيِّنَاتِ﴾ أَي: بالدلالات والمعجزات ﴿وَبِالَّذِي قُلْتُمْ﴾ يَعْنِي: من الْإِتْيَان بقربان تَأْكُله النَّار.
﴿فَلم قَتَلْتُمُوهُمْ﴾ أَي: فَلم كذبتموهم، وَقَتَلْتُمُوهُمْ ﴿إِن كُنْتُم صَادِقين﴾ فِي دعوتكم ذَلِك الْعَهْد.
فَإِن قَالَ قَائِل: أَي فرق بَين الزبر وَالْكتاب؟ وَقد قَالَ: ﴿والزبر وَالْكتاب الْمُنِير﴾
قيل: الْكتاب اسْم لما كتب، وَضم بعض الْكَلِمَات فِيهِ إِلَى بعض من الْكتب (وَهُوَ) الضَّم، وَأما الزبر: مَأْخُوذ من الزبر وَهُوَ الزّجر، فالزبور: كتاب فِيهِ مزاجر.
(من لم يمت عبطة يمت هرما | الْمَوْت كأس وكل النَّاس ذائقها) |
﴿فَمن زحزح عَن النَّار﴾ أَي: نجى، وَبعد عَن النَّار ﴿وَأدْخل الْجنَّة فقد فَازَ﴾ أَي: نجا ﴿وَمَا الْحَيَاة الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاع الْغرُور﴾ لِأَنَّهَا تغر الْإِنْسَان، وَهِي الإنقطاع.
﴿ولتسمعن من الَّذين أُوتُوا الْكتاب من قبلكُمْ وَمن الَّذين أشركوا أَذَى كثيرا﴾ قَالَ الزُّهْرِيّ: هَذَا فِي كَعْب بن الْأَشْرَف، كَانَ يهجو النَّبِي وَيسمع الْمُسلمين هجاه "، وَقيل: هُوَ قَول الْيَهُود: عَزِيز ابْن الله، وَقَول النَّصَارَى: الْمَسِيح ابْن الله، وَقيل: هُوَ قَول أُولَئِكَ الَّذين قَالُوا: إِن الله فَقير.
﴿وَإِن تصبروا﴾ يَعْنِي: على الْأَذَى ﴿وتتقوا﴾ يَعْنِي: من مُخَالفَة الرَّسُول ﴿فَإِن ذَلِك من عزم الْأُمُور﴾ أَي: من حقائق الْأُمُور، وشدائدها.
{فنبذوه وَرَاء ظُهُورهمْ﴾ أَي: تَرَكُوهُ وَرَاء ظُهُورهمْ (واشتروا بِهِ ثمنا قَلِيلا) يَعْنِي: الرشاء ﴿فبئس مَا يشْتَرونَ﴾.
﴿وَيُحِبُّونَ أَن يحْمَدُوا بِمَا لم يَفْعَلُوا﴾ (يَعْنِي) : بالأعذار الكاذبة، ﴿فَلَا تحسبنهم بمفازة من الْعَذَاب﴾ أَي: بمنجاة من الْعَذَاب ﴿وَلَهُم عَذَاب أَلِيم﴾.
وروى أَن مَرْوَان بعث إِلَى عَائِشَة: هلكنا إِذن؛ فَإنَّا نفرح بِمَا نأتي، ونحب أَن نحمد بِمَا لم نَفْعل؛ وَالله تَعَالَى يَقُول: ﴿فَلَا تحسبنهم بمفازة من الْعَذَاب﴾ فَذكرت عَائِشَة أَن الْآيَة فِي الْيَهُود
وَقيل: مَعْنَاهُ: الَّذين يوحدون الله على كل حَال.
﴿ويتفكرون فِي خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض﴾ فيستدلون بِهِ على وحدانيته، وَفِي الحَدِيث: " تَفَكَّرُوا فِي الْخلق، وَلَا تَتَفَكَّرُوا فِي الْخَالِق ".
﴿رَبنَا مَا خلقت هَذَا بَاطِلا﴾ أَي: عَبَثا، وَقيل: (بَاطِلا) أَي: بباطل.
﴿سُبْحَانَكَ﴾ : هُوَ للتنزيه عَن كل سوء ﴿فقنا عَذَاب النَّار﴾ روى عَن ابْن عَبَّاس: أَنه قَالَ: " بَيت عِنْد خَالَتِي مَيْمُونَة، فَنَامَ رَسُول الله وَأَهله على عرض الوسادة، وَأَنا
على طولهَا، ثمَّ قَامَ من اللَّيْل، وَقَرَأَ هَذِه الْآيَات الْعشْر " وَفِي رِوَايَة قَالَ: " سُبْحَانَ الْملك القدوس رب الْمَلَائِكَة وَالروح، وَقَرَأَ هَذِه الْآيَات الْعشْر إِلَى آخر السُّورَة ".
﴿رَبنَا فَاغْفِر لنا ذنوبنا﴾ أَي: كبائرنا ﴿وَكفر عَنَّا سيئاتنا﴾ أَي: صغائرنا، وَقيل: الذُّنُوب: الْمعاصِي، والسيئات: التَّقْصِير فِي الطَّاعَات.
﴿وتوفنا مَعَ الْأَبْرَار﴾ الْبر الْمُطِيع، وَفِي الْآثَار: إِن الْبر لَا يُؤْذِي الذَّر. يَعْنِي: النَّمْل الصغار الْحمر.
﴿إِنَّك لَا تخلف الميعاد﴾ وَهُوَ على سَبِيل الْمَدْح لَهُ؛ لأَنا على الْقطع نعلم أَنَّك لَا تخلف الميعاد.
﴿فَالَّذِينَ هَاجرُوا وأخرجوا من دِيَارهمْ وأوذوا فِي سبيلي وقاتلوا وَقتلُوا﴾ وَقَرَأَ حَمْزَة وَالْكسَائِيّ: " وَقتلُوا وقاتلوا " ﴿لأكفرن عَنْهُم سيئاتهم ولأدخلنهم جنَّات تجْرِي من تحتهَا الْأَنْهَار ثَوابًا من عِنْد الله﴾ أَي: جَزَاء من عِنْد الله، ﴿وَالله عِنْده حسن الثَّوَاب﴾.
أعده للْمُؤْمِنين من نعيم الْجنَّة: نزلا من عِنْد الله ﴿وَمَا عِنْد الله خير للأبرار﴾
وَقيل: هُوَ فِي عبد الله بن سَلام، وَمن أسلم مَعَه؛ فَذَلِك قَوْله: ﴿لمن يُؤمن بِاللَّه وَمَا أنزل إِلَيْكُم وَمَا أنزل إِلَيْهِم خاشعين لله﴾ أَي: متواضعين لله ﴿لَا يشْتَرونَ بآيَات الله ثمنا قَلِيلا أُولَئِكَ لَهُم أجرهم عِنْد رَبهم إِن الله سريع الْحساب﴾.
﴿وَاتَّقوا الله لَعَلَّكُمْ تفلحون﴾ أَي: كونُوا على رَجَاء الْفَلاح.
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
قَالَ: اعْلَم أَن هَذِه السُّورَة تسمى: سُورَة النِّسَاء، وَتسَمى سُورَة الْأَحْكَام، وَهِي مَدَنِيَّة على قَول أَكثر الْمُفَسّرين، إِلَّا قَوْله تَعَالَى: ﴿إِن الله يَأْمُركُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَات إِلَى أَهلهَا﴾ ؛ فَإِن هَذِه الْآيَة نزلت بِمَكَّة فِي مَفَاتِيح الْكَعْبَة، وَأورد النّحاس أَن السُّورَة مَكِّيَّة.وَفِي الحَدِيث: " من قَرَأَ سُورَة الْبَقَرَة، وَآل عمرَان، وَالنِّسَاء فِي لَيْلَة؛ كتب من القانتين "، وَعَن عمر - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: تعلمُوا سُورَة الْبَقَرَة، وَالنِّسَاء، والمائدة، وَسورَة النُّور، والأحزاب؛ فَإِن فِيهِنَّ الْفَرَائِض.
سورة آل عمران
اتصَلتْ سورةُ (آلِ عِمْرانَ) من حيث الفضلُ بسورةِ (البقرة)؛ فقد وصَفهما الرسولُ ﷺ بـ (الزَّهْراوَينِ)؛ لِما احتوتا عليه من نورٍ وهداية.
وجاءت هذه السُّورةُ ببيانِ هداية هذا الكتابِ للناس، متضمِّنةً الحوارَ مع أهل الكتاب، مُحاجِجَةً إياهم في صِدْقِ هذا الدِّين وعلوِّه على غيره، مبرهنةً لصِدْقِ النبي ﷺ بهذه الرسالة، وهَيْمنةِ هذا الدِّينِ على غيره، ونَسْخِه للأديان الأخرى؛ فمَن ابتغى غيرَ الإسلام فأمرُه ردٌّ غيرُ مقبولٍ، كما أشارت إلى غزوةِ (أُحُدٍ)، وأمرِ المسلمين بالثَّبات على هذا الدِّين.
ترتيبها المصحفي
3نوعها
مدنيةألفاظها
3501ترتيب نزولها
89العد المدني الأول
200العد المدني الأخير
200العد البصري
200العد الكوفي
200العد الشامي
200* قوله تعالى: {إِنَّ اْلَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اْللَّهِ وَأَيْمَٰنِهِمْ ثَمَنٗا قَلِيلًا أُوْلَٰٓئِكَ لَا خَلَٰقَ لَهُمْ فِي اْلْأٓخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اْللَّهُ وَلَا يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ اْلْقِيَٰمَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٞ} [آل عمران: 77]:
ورَد عن عبدِ اللهِ بن مسعودٍ - رضي الله عنه -، عن النبيِّ ﷺ، قال: «مَن حلَفَ على يمينٍ يقتطِعُ بها مالَ امرئٍ مسلمٍ، وهو فيها فاجرٌ: لَقِيَ اللهَ وهو عليه غضبانُ»، ثم أنزَلَ اللهُ تصديقَ ذلك: {إِنَّ اْلَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اْللَّهِ وَأَيْمَٰنِهِمْ ثَمَنٗا قَلِيلًا أُوْلَٰٓئِكَ لَا خَلَٰقَ لَهُمْ فِي اْلْأٓخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اْللَّهُ وَلَا يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ اْلْقِيَٰمَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٞ} [آل عمران: 77]، ثم إنَّ الأشعَثَ بنَ قيسٍ خرَجَ إلينا، فقال: ما يُحدِّثُكم أبو عبدِ الرَّحمنِ؟ قال: فحدَّثْناه، قال: فقال: صدَقَ؛ لَفِيَّ نزَلتْ، كانت بيني وبين رجُلٍ خصومةٌ في بئرٍ، فاختصَمْنا إلى رسولِ اللهِ ﷺ، فقال رسولُ اللهِ ﷺ: «شاهِدَاكَ أو يمينُهُ»، قلتُ: إنَّه إذًا يَحلِفُ ولا يُبالي، فقال رسولُ اللهِ ﷺ: «مَن حلَفَ على يمينٍ يستحِقُّ بها مالًا، وهو فيها فاجرٌ: لَقِيَ اللهَ وهو عليه غضبانُ»، ثم أنزَلَ اللهُ تصديقَ ذلك، ثم اقترَأَ هذه الآيةَ: {إِنَّ اْلَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اْللَّهِ وَأَيْمَٰنِهِمْ ثَمَنٗا قَلِيلًا} إلى قوله: {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٞ} [آل عمران: 77]. أخرجه البخاري (٢٣٥٦).
* قوله تعالى: {كَيْفَ يَهْدِي اْللَّهُ قَوْمٗا كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَٰنِهِمْ وَشَهِدُوٓاْ أَنَّ اْلرَّسُولَ حَقّٞ وَجَآءَهُمُ اْلْبَيِّنَٰتُۚ وَاْللَّهُ لَا يَهْدِي اْلْقَوْمَ اْلظَّٰلِمِينَ ٨٦ أُوْلَٰٓئِكَ جَزَآؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اْللَّهِ وَاْلْمَلَٰٓئِكَةِ وَاْلنَّاسِ أَجْمَعِينَ ٨٧ خَٰلِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ اْلْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنظَرُونَ ٨٨ إِلَّا اْلَّذِينَ تَابُواْ مِنۢ بَعْدِ ذَٰلِكَ وَأَصْلَحُواْ فَإِنَّ اْللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٌ} [آل عمران: 86-89]:
صحَّ عن عبدِ اللهِ بن عباسٍ - رضي الله عنهما -، قال: «كان رجُلٌ مِن الأنصارِ أسلَمَ، ثم ارتَدَّ ولَحِقَ بالشِّرْكِ، ثم نَدِمَ، فأرسَلَ إلى قومِه: سَلُوا رسولَ اللهِ ﷺ: هل لي مِن توبةٍ؟ فجاء قومُهُ إلى رسولِ اللهِ ﷺ، فقالوا: إنَّ فلانًا قد نَدِمَ، وإنَّه قد أمَرَنا أن نسألَك: هل له مِن توبةٍ؟ فنزَلتْ: {كَيْفَ يَهْدِي اْللَّهُ قَوْمٗا كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَٰنِهِمْ} [آل عمران: 86] إلى {غَفُورٞ رَّحِيمٌ} [آل عمران: 89]، فأرسَلَ إليه قومُهُ، فأسلَمَ». أخرجه النسائي (٤٠٧٩).
* قوله تعالى: {وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنتُمْ تُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ ءَايَٰتُ اْللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُۥۗ وَمَن يَعْتَصِم بِاْللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسْتَقِيمٖ ١٠١ يَٰٓأَيُّهَا اْلَّذِينَ ءَامَنُواْ اْتَّقُواْ اْللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِۦ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ١٠٢ وَاْعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اْللَّهِ جَمِيعٗا وَلَا تَفَرَّقُواْۚ وَاْذْكُرُواْ نِعْمَتَ اْللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَآءٗ فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِۦٓ إِخْوَٰنٗا وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٖ مِّنَ اْلنَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَاۗ} [آل عمران: 101-103]:
عن عبدِ اللهِ بن عباسٍ - رضي الله عنهما -، قال: «كان الأَوْسُ والخَزْرجُ يَتحدَّثون، فغَضِبوا، حتى كان بينهم حربٌ، فأخَذوا السِّلاحَ بعضُهم إلى بعضٍ؛ فنزَلتْ: {وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنتُمْ تُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ ءَايَٰتُ اْللَّهِ} [آل عمران: 101] إلى قوله تعالى: {فَأَنقَذَكُم مِّنْهَاۗ} [آل عمران: 103]. "المعجم الكبير" للطبراني (١٢٦٦٦).
* قوله تعالى: {لَيْسَ لَكَ مِنَ اْلْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَٰلِمُونَ} [آل عمران: 128]:
صحَّ عن أبي هُرَيرةَ - رضي الله عنه - أنَّه قال: «كان رسولُ اللهِ ﷺ يقولُ حين يفرُغُ مِن صلاةِ الفجرِ مِن القراءةِ ويُكبِّرُ ويَرفَعُ رأسَه: «سَمِعَ اللهُ لِمَن حَمِدَه، ربَّنا ولك الحمدُ»، ثم يقولُ وهو قائمٌ: «اللهمَّ أنْجِ الوليدَ بنَ الوليدِ، وسلَمةَ بنَ هشامٍ، وعيَّاشَ بنَ أبي ربيعةَ، والمستضعَفِينَ مِن المؤمنين، اللهمَّ اشدُدْ وَطْأتَك على مُضَرَ، واجعَلْها عليهم كَسِنِي يوسُفَ، اللهمَّ العَنْ لِحْيانَ، ورِعْلًا، وذَكْوانَ، وعُصَيَّةَ؛ عصَتِ اللهَ ورسولَه»، ثم بلَغَنا أنَّه ترَكَ ذلك لمَّا أُنزِلَ: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ أوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإنَّهُمْ ظالِمُونَ}». أخرجه مسلم (675).
وعن عبدِ اللهِ بن عُمَرَ - رضي الله عنهما -: أنَّه سَمِعَ رسولَ اللهِ ﷺ إذا رفَعَ رأسَه مِن الرُّكوعِ مِن الركعةِ الآخِرةِ مِن الفجرِ يقولُ: «اللهمَّ العَنْ فلانًا وفلانًا وفلانًا» بعدما يقولُ: «سَمِعَ اللهُ لِمَن حَمِدَه، ربَّنا ولك الحمدُ»؛ فأنزَلَ اللهُ: {لَيْسَ لَكَ مِنَ اْلْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَٰلِمُونَ} [آل عمران: 128]. أخرجه البخاري (٤٠٦٩).
* قوله تعالى: {ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّنۢ بَعْدِ اْلْغَمِّ أَمَنَةٗ نُّعَاسٗا يَغْشَىٰ طَآئِفَةٗ مِّنكُمْۖ وَطَآئِفَةٞ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ} [آل عمران: 154]:
عن أنسِ بن مالكٍ - رضي الله عنه -، أنَّ أبا طَلْحةَ قال: «غَشِيَنا النُّعَاسُ ونحن في مَصافِّنا يومَ أُحُدٍ، قال: فجعَلَ سيفي يسقُطُ مِن يدي وآخُذُه، ويسقُطُ وآخُذُه؛ وذلك قولُه عز وجل: {ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّنۢ بَعْدِ اْلْغَمِّ أَمَنَةٗ نُّعَاسٗا يَغْشَىٰ طَآئِفَةٗ مِّنكُمْۖ وَطَآئِفَةٞ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ} [آل عمران: 154]، والطائفةُ الأخرى: المنافقون، ليس لهم إلا أنفسُهم؛ أجبَنُ قومٍ وأرعَبُهُ، وأخذَلُهُ للحقِّ». أخرجه البخاري (٤٠٦٨).
* قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَغُلَّۚ وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ اْلْقِيَٰمَةِۚ ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٖ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [آل عمران: 161]:
صحَّ عن عبدِ اللهِ بن عباسٍ - رضي الله عنهما - أنَّه قال: «نزَلتْ هذه الآيةُ: {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَغُلَّۚ} في قَطيفةٍ حَمْراءَ فُقِدتْ يومَ بدرٍ، فقال بعضُ الناسِ: لعلَّ رسولَ اللهِ - ﷺ - أخَذَها؛ فأنزَلَ اللهُ: {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَغُلَّۚ وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ اْلْقِيَٰمَةِۚ ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٖ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [آل عمران: 161]». أخرجه أبو داود (٣٩٧١).
* قوله تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ اْلَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اْللَّهِ أَمْوَٰتَۢاۚ بَلْ أَحْيَآءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169]:
عن مسروقٍ، قال: سأَلْنا عبدَ اللهِ - هو ابنُ مسعودٍ رضي الله عنه - عن هذه الآيةِ: {وَلَا تَحْسَبَنَّ اْلَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اْللَّهِ أَمْوَٰتَۢاۚ بَلْ أَحْيَآءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ}، قال: «أمَا إنَّا قد سأَلْنا عن ذلك، فقال: أرواحُهم في جوفِ طيرٍ خُضْرٍ، لها قناديلُ معلَّقةٌ بالعرشِ، تَسرَحُ مِن الجَنَّةِ حيث شاءت، ثم تَأوي إلى تلك القناديلِ، فاطَّلَعَ إليهم ربُّهم اطِّلاعةً، فقال: هل تشتهون شيئًا؟ قالوا: أيَّ شيءٍ نشتهي ونحن نَسرَحُ في الجَنَّةِ حيث شِئْنا؟! ففعَلَ ذلك بهم ثلاثَ مرَّاتٍ، فلمَّا رأَوْا أنَّهم لن يُترَكوا مِن أن يَسألوا، قالوا: يا ربُّ، نريدُ أن ترُدَّ أرواحَنا في أجسادِنا؛ حتى نُقتَلَ في سبيلِك مرَّةً أخرى، فلمَّا رأى أنْ ليس لهم حاجةٌ، تُرِكوا». أخرجه مسلم (١٨٨٧).
سُمِّيتْ (آلُ عِمْرانَ) بهذا الاسم لذِكْرِ (آلِ عِمْرانَ) فيها، وثبَت لها اسمٌ آخَرُ؛ وهو (الزَّهْراءُ):
لِما جاء في حديث أبي أُمامةَ الباهليِّ رضي الله عنه، قال: سَمِعْتُ رسولَ الله ﷺ يقولُ: «اقرَؤُوا الزَّهْراوَينِ: البقرةَ، وسورةَ آلِ عِمْرانَ». أخرجه مسلم (804).
يقول ابنُ منظورٍ: «والزَّهْراوانِ: أي: المُنِيرتانِ المُضِيئتانِ، واحدتها: زَهْراءُ». لسان العرب (4 /332).
وقد عدَّ بعضُ العلماء أنَّ ذِكْرَ (الزَّهْراوانِ) في هذا الحديثِ هو من بابِ الوصف، لا التسمية. انظر: "التحرير والتنوير" لابن عاشور (3 /143)، "التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (1 /20).
* تُحاجُّ عن صاحبِها:
صحَّ عن أبي أُمامةَ الباهليِّ رضي الله عنه، قال: سَمِعْتُ رسولَ اللهِ ﷺ يقولُ: «اقرَؤُوا القرآنَ؛ فإنَّه يأتي يومَ القيامةِ شفيعًا لأصحابِه؛ اقرَؤُوا الزَّهْراوَينِ: البقرةَ، وسورةَ آلِ عِمْرانَ؛ فإنَّهما تأتيانِ يومَ القيامةِ كأنَّهما غَمَامتانِ، أو كأنَّهما غَيَايتانِ، أو كأنَّهما فِرْقانِ مِن طيرٍ صوافَّ، تُحاجَّانِ عن أصحابِهما، اقرَؤُوا سورةَ البقرةِ؛ فإنَّ أَخْذَها برَكةٌ، وتَرْكَها حَسْرةٌ، ولا تستطيعُها البَطَلةُ». أخرجه مسلم (804).
* كان يعظُمُ بين الصحابةِ قارئُ سورةِ (آلِ عِمْرانَ):
فعن أنسٍ رضي الله عنه، قال: «كان الرَّجُلُ إذا قرَأ البقرةَ وآلَ عِمْرانَ، جَدَّ فينا - يعني: عظُمَ -»، وفي روايةٍ: «يُعَدُّ فينا عظيمًا»، وفي أخرى: «عُدَّ فينا ذا شأنٍ». أخرجه أحمد (12236).
* ورَدتْ قراءتُه ﷺ لسورة (آل عِمْران) في قيام الليل:
فعن حُذَيفةَ بن اليمانِ رضي الله عنهما، قال: «صلَّيْتُ مع رسولِ اللهِ ﷺ ذاتَ ليلةٍ، فاستفتَحَ بسورةِ البقرةِ، فقرَأَ بمائةِ آيةٍ لم يَركَعْ، فمضى، قلتُ: يَختِمُها في الرَّكعتَينِ، فمضى، قلتُ: يَختِمُها ثم يَركَعُ، فمضى حتى قرَأَ سورةَ النِّساءِ، ثم قرَأَ سورةَ آلِ عِمْرانَ، ثم ركَعَ نحوًا مِن قيامِهِ، يقولُ في ركوعِهِ: سبحانَ ربِّيَ العظيمِ، سبحانَ ربِّيَ العظيمِ، سبحانَ ربِّيَ العظيمِ، ثم رفَعَ رأسَهُ، فقال: سَمِعَ اللهُ لِمَن حَمِدَه، ربَّنا لك الحمدُ، وأطال القيامَ، ثم سجَدَ، فأطال السُّجودَ، يقولُ في سجودِهِ: سبحانَ ربِّيَ الأعلى، سبحانَ ربِّيَ الأعلى، سبحانَ ربِّيَ الأعلى، لا يمُرُّ بآيةِ تخويفٍ أو تعظيمٍ للهِ عز وجل إلا ذكَرَهُ». أخرجه النسائي (١١٣٢).
* كان النبيُّ ﷺ يَقرأُ خواتمَها منتصَفَ الليلِ عندما يستيقظُ مِن نومِه:
فممَّا صحَّ عن عبدِ اللهِ بن عباسٍ رضي الله عنهما: أنَّه باتَ عند مَيْمونةَ زَوْجِ النبيِّ ﷺ - وهي خالتُهُ -، قال: «فاضطجَعْتُ في عَرْضِ الوِسادَةِ، واضطجَعَ رسولُ اللهِ ﷺ وأهلُهُ في طُولِها، فنامَ رسولُ اللهِ ﷺ حتى انتصَفَ الليلُ - أو قَبْله بقليلٍ، أو بعده بقليلٍ -، ثم استيقَظَ رسولُ اللهِ ﷺ، فجعَلَ يَمسَحُ النَّوْمَ عن وجهِهِ بيدَيهِ، ثم قرَأَ العَشْرَ الآياتِ الخواتِمَ مِن سُورةِ آلِ عِمْرانَ، ثم قامَ إلى شَنٍّ معلَّقةٍ، فتوضَّأَ منها، فأحسَنَ وُضُوءَهُ، ثم قامَ يُصلِّي، فصنَعْتُ مِثْلَ ما صنَعَ، ثُمَّ ذهَبْتُ فقُمْتُ إلى جَنْبِهِ، فوضَعَ رسولُ اللهِ ﷺ يَدَهُ اليُمْنى على رَأْسي، وأخَذَ بأُذُني بيدِهِ اليُمْنى يَفتِلُها، فصلَّى ركعتَينِ، ثم ركعتَينِ، ثم ركعتَينِ، ثم ركعتَينِ، ثم ركعتَينِ، ثم ركعتَينِ، ثم أوتَرَ، ثم اضطجَعَ حتى جاءه المؤذِّنُ، فقامَ فصلَّى ركعتَينِ خفيفتَينِ، ثم خرَجَ فصلَّى الصُّبْحَ». أخرجه البخاري (٤٥٧١).
جاءت مواضيعُ سورةِ (آل عِمْرانَ) مُرتَّبةً على النحوِ الآتي:
مقدِّمات للحوار مع النَّصارى (١-٣٢).
إنزال الكتاب هدايةً للناس (١-٩).
تحذير الكافرين وحقيقةُ الدنيا (١٠-١٨).
انتقال الرسالة لأمَّة الإسلام (٢٩-٣٢).
اصطفاء الله تعالى لرُسلِه (٣٣-٤٤).
حقيقة عيسى عليه السلام (٤٥-٦٣).
الإسلام هو دِين الحقِّ، وهو دِينُ جميع الأنبياء (٦٤-٩٩).
إبراهيم عليه السلام كان حنيفًا مسلمًا (٦٤-٦٨).
مخاطبة فِرَق أهل الكتاب، وبيان حقائقهم (٦٩-٨٠).
وَحْدة الرسالات، والدِّين الحق هو الإسلام (٨١- ٩٢).
صلة المسلمين بإبراهيم، وافتراء أهل الكتاب (٩٣-٩٩).
بيان خَيْرية هذه الأمَّة، وتحذيرها من أعدائها (١٠٠-١٢٠).
التحذير من الوقوع في أخطاء السابقين (١٠٠-١٠٩).
خيرية هذه الأمَّة وفضلها (١١٠-١١٥).
تحذير الأمَّة من المنافقين (١١٦-١٢٠).
معركة (أُحُد) (١٢١-١٤٨).
مقدِّمات معركة (أُحُد) (١٢١-١٢٩).
أهمية الطاعة ومواعظُ (١٣٠-١٣٨).
تعزية المسلمين، والنهيُ عن الهوان (١٣٩-١٤٨).
دروس مستفادة من الهزيمة (١٤٩-١٨٩).
التحذير من طاعة الأعداء والتنازل (١٤٩-١٥٨).
أهمية الشورى وطاعة الرسول (١٥٩-١٦٤).
أسباب الهزيمة وفوائدها (١٦٥-١٧٩).
تحذير المنافقين والبخلاء (١٨٠-١٨٩).
أولو الألباب يستفيدون من الآيات الكونية (١٩٠-١٩٥).
الأمورُ بخواتيمها (١٩٦-٢٠٠).
ينظر: "التفسير الموضوعي للقرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (1 /426).
افتُتِحت السُّورةُ بمقصدٍ عظيمٍ؛ وهو التنويهُ بالقرآن، وبمحمَّدٍ ﷺ، وتقسيمُ آيات القرآن، ومراتبُ الأفهام في تَلقِّيها، والتنويهُ بفضيلة الإسلام، وأنه لا يَعدِله دِينٌ، وأنه لا يُقبَل دِينٌ عند الله بعد ظهور الإسلام غيرُ الإسلام.
ومِن مقاصدِها: مُحاجَّةُ أهلِ الكتابينِ في حقيقة الحنيفيَّة، وأنهم بُعَداءُ عنها، وما أخَذ اللهُ من العهد على الرُّسلِ كلِّهم: أن يؤمنوا بالرسول الخاتم.
واشتملت على أمرِ المسلمين بفضائلِ الأعمال: مِن بذلِ المال في مواساة الأمَّة، والإحسان، وفضائل الأعمال، وتركِ البخل، ومَذمَّةِ الربا.
وخُتِمت السُّورةُ بآياتِ التفكير في ملكوت الله.
ينظر: "التحرير والتنوير" لابن عاشور (3 /145).