بسم الله الرحمن الرحيم
تفسير سورة الأنبياءوهي مكية، قال ابن مسعود : سورة بني إسرائيل والكهف ومريم وطه والأنبياء من العتاق الأول، وهن من تلادي.
ﰡ
وَقَوله: ﴿وهم فِي غَفلَة معرضون﴾ أَي: هم غافلون معرضون، وَقيل: فِي اشْتِغَال بِالْبَاطِلِ عَن الْحق، وَيُقَال: وهم فِي غَفلَة عَمَّا يُرَاد بهم وأريدوا بِهِ.
وَقَوله: ﴿إِلَّا استمعوه وهم يَلْعَبُونَ﴾ أَي: استمعوه لاعبين.
(فمثلك حُبْلَى قد طرقت ومرضع | فألهيتها عَن ذِي تمائم محول) |
وَقَوله: ﴿وأسروا النَّجْوَى﴾ فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: وأخفوا النَّجْوَى، وَالْآخر: وأظهروا النَّجْوَى، وَالْعرب تَقول: أسر إِذا أخْفى، وَأسر إِذا أظهر، وَقَالَ بعض أهل اللُّغَة: أسر إِذا أخْفى بِالسِّين غير الْمُعْجَمَة، وأشر إِذا أظهر بالشين الْمُعْجَمَة. قَالَ الشَّاعِر:
(وَلما رأى الْحجَّاج جرد سَيْفه
(أسر) الحروري الَّذِي كَانَ أضمرا)
وَقَوله: ﴿الَّذين ظلمُوا﴾ أَي: أشركوا.
وَقَوله: ﴿هَل هَذَا إِلَّا بشر مثلكُمْ﴾ أَنْكَرُوا إرْسَال الْبشر، وطلبوا إرْسَال الْمَلَائِكَة.
وَقَوله: ﴿أفتأتون السحر﴾ أَي: تحضرون السحر وتقبلونه.
وَقَوله: ﴿وَأَنْتُم تبصرون﴾ أَي: تعلمُونَ أَنه سحر.
وَقَوله: ﴿وَهُوَ السَّمِيع الْعَلِيم﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
قَالَ الشَّاعِر:
(أَحَادِيث [طسم] أَو سراب بقيعة | ترقرق للساري وأضغاث حالم) |
وَقَوله: ﴿بل هُوَ شَاعِر﴾ أَي: مثل أُميَّة بن الصَّلْت وَمن أشبه، وَالْمرَاد من الْآيَة: بَيَان تناقضهم فِي قَوْلهم، وَأَنَّهُمْ غير مستقرين على شَيْء وَاحِد.
وَقَوله: ﴿فليأتنا بِآيَة كَمَا أرسل الْأَولونَ﴾ بِالْآيَاتِ، وطلبوا آيَة مثل النَّاقة أَو عَصا مُوسَى، وَيَد مُوسَى، وَمَا أشبه ذَلِك، وَقد كَانَ الله تَعَالَى بَين الْآيَات سوى مَا طلبُوا.
وَقَوله: ﴿أفهم يُؤمنُونَ﴾ مَعْنَاهُ: كَمَا لم يُؤمن أُولَئِكَ، فَلَا يُؤمن هَؤُلَاءِ.
وَقَوله: ﴿فاسألوا أهل الذّكر﴾ الْأَكْثَرُونَ على أَن المُرَاد بِأَهْل الذّكر مؤمنو أهل
وَقَوله: ﴿إِن كُنْتُم لَا تعلمُونَ﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
وَقَوله: ﴿لَا يَأْكُلُون الطَّعَام﴾ مَعْلُوم. وَقَوله: ﴿وَمَا كَانُوا خَالِدين﴾ أَي: فِي الدُّنْيَا، وَهَذَا رد لقَولهم: ﴿وَقَالُوا مَا لهَذَا الرَّسُول يَأْكُل الطَّعَام﴾ الْآيَة.
وَقَوله: ﴿فأنجيناهم وَمن نشَاء وأهلكنا المسرفين﴾ أَي: أنجينا الْمُؤمنِينَ، وأهلكنا المكذبين، وكل مكذب مُشْرك مُسْرِف على نَفسه، والسرف: مُجَاوزَة الْحَد.
وَقَوله: ﴿أَفلا تعقلون﴾ أَي: أَفلا تعتبرون.
وَقَوله: ﴿من قَرْيَة كَانَت ظالمة﴾ أَي: ظلم أَهلهَا.
وَقَوله: ﴿وأنشئنا بعْدهَا قوما آخَرين﴾ أَي: فريقا آخَرين.
وَقَوله: ﴿إِذا هم مِنْهَا يركضون﴾ أَي: يهربون ركضا، يُقَال: ركض الدَّابَّة إِذا أسْرع فِي سَيرهَا.
وَقَوله: ﴿وَارْجِعُوا إِلَى مَا أترفتم فِيهِ﴾ أَي: نعمتم فِيهِ، والمترف: الْمُنعم، وَقيل: إِلَى دنياكم ﴿ومساكنكم﴾ الَّتِي نعمتم فِيهَا. قَالَ أَكثر أهل التَّفْسِير: هَذِه الْآيَات نزلت فِي أهل مَدِينَة كفرُوا، فَسلط الله عَلَيْهِم بعض الْجَبَابِرَة - وَقيل: كَانَ بخْتنصر - فَلَمَّا أَصَابَهُم عَذَاب السَّيْف هربوا، فَقَالَ لَهُم الْمَلَائِكَة، وَالسُّيُوف قد أخذتهم: لَا تهربوا، وَارْجِعُوا إِلَى مَا أترفتم فِيهِ ومساكنكم. ﴿لَعَلَّكُمْ تسْأَلُون﴾ من دنياكم، فتعطون من شِئْتُم، وتمنعون من شِئْتُم، قَالُوا هَذَا لَهُم استهزاء، وَقد قيل: هَذَا فِي أهل مَدِينَة أَصَابَهُم عَذَاب من السَّمَاء، فَخَرجُوا هاربين، وَقَالَ لَهُم الْمَلَائِكَة هَذَا القَوْل، وَيُقَال فِي قَوْله: ﴿لَعَلَّكُمْ تسْأَلُون﴾ أَي: تسْأَلُون لم تركْتُم مَا يصلح دينكُمْ وَأمر آخرتكم، واشتغلتم بِمَا يُوجب الْعَذَاب عَلَيْكُم؟ وَيُقَال: لَعَلَّكُمْ تسْأَلُون عَمَّا عاينتم من الْعَذَاب، قَالَت الْمَلَائِكَة هَذَا توبيخا لَهُم.
وَقَوله: ﴿ظالمين﴾ أَي: ظالمين لأنفسنا.
وَقَوله: ﴿حَتَّى جعلناهم حصيدا خامدين﴾ الحصيد: هُوَ المستأصل.
وَقَوله: ﴿خامدين﴾ أَي: ميتين، وَمعنى الْآيَة: جعلناهم كَأَن لم يَكُونُوا.
(أَلا زعمت بسباسة الْيَوْم أنني | كَبرت وَألا يحسن اللَّهْو أمثالي) |
وَقَوله: ﴿لاتخذناه من لدنا﴾ أَي: لاتخذناه من عندنَا لَا من عنْدكُمْ، وَيُقَال: اتخذناه بِحَيْثُ لَا ترَوْنَ).
وَقَوله: ﴿إِن كُنَّا فاعلين﴾ أَي: مَا كُنَّا فاعلين، وَيُقَال: إِن كُنَّا فاعلين، وَلم نفعله؛ لِأَنَّهُ لَا يَلِيق بِنَا.
وَقَوله: ﴿نقذف﴾ أَي: نلقي.
وَقَوله: ﴿فيدمغه﴾ أَي: يُزِيلهُ، يُقَال: دمغت فلَانا إِذا كسرت دماغه وقتلته.
وَقَوله: ﴿فَإِذا هُوَ زاهق﴾ أَي: ذَاهِب، وَهَذَا من حَيْثُ بَيَان الدَّلِيل وَالْحجّة، لَا من حَيْثُ إِزَالَة الْكفْر أصلا، فَإِن الْكفْر وَالْبَاطِل فِي الْعَالم كثير.
وَقَوله: ﴿وَلكم الويل مِمَّا تصفون﴾ قَالَ قَتَادَة: مِمَّا تكذبون، وَقَالَ الْحسن: هُوَ لكل واصف كذبا إِلَى يَوْم الْقِيَامَة.
وَقَوله: ﴿وَمن عِنْده﴾ أَي: الْمَلَائِكَة.
وَقَوله: ﴿لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَن عِبَادَته﴾. أَي: لَا يتعظمون عَن عِبَادَته، وَذكر ابْن فَارس فِي تَفْسِيره فِي خبر: أَن الله تَعَالَى لما اسْتَوَى على عَرْشه، سجد ملك فَلَا يرفع رَأسه من السُّجُود إِلَى يَوْم الْقِيَامَة، فَإِذا رفع رَأسه يَوْم الْقِيَامَة قَالَ: سُبْحَانَكَ، مَا عبدتك حق عبادتك غير أَنِّي لم أشرك بك، وَلم أَتَّخِذ لَك ندا.
وَقَوله: ﴿وَلَا يستحسرون﴾ أَي: لَا يعيون، يُقَال: دَابَّة حسيرة إِذا كَانَت عيية، قَالَ كَعْب الْأَحْبَار: التَّسْبِيح لَهُم كالتنفس لبني آدم.
وَقَوله: ﴿هم ينشرون﴾ أَي: يحيون، وَلَا يسْتَحق الإلهية إِلَّا من يقدر على الْإِحْيَاء والإيجاد من الْعَدَم؛ لِأَنَّهُ الإنعام بأبلغ وُجُوه النعم، وَهَذَا لَا يَلِيق بِوَصْف الْبشر وكل مُحدث. وأنشدوا للأعشى فِي الانتشار:
(لَو أسندت مَيتا إِلَى نحرها | عَاشَ وَلم ينْقل إِلَى قابر) |
(حَتَّى يَقُول النَّاس مِمَّا رَأَوْا | أيا عجبا للْمَيت الناشر) |
(وكل أَخ مفارقه أَخُوهُ | لعَمْرو أَبِيك إِلَّا الفرقدان) |
وَقَالَ بَعضهم: ﴿إِلَّا الله﴾ " إِلَّا " بِمَعْنى " الْوَاو " هَاهُنَا، وَمَعْنَاهُ: لَو كَانَ فيهمَا آلِهَة وَالله (أَيْضا) لفسدتا، وَمعنى الْفساد فِي السَّمَاء وَالْأَرْض إِذا كَانَ الْإِلَه اثْنَيْنِ، هُوَ فَسَاد التَّدْبِير وَعدم انتظام الْأُمُور بِوُقُوع الْمُنَازعَة والمضادة، وَهُوَ أَيْضا معنى قَوْله تَعَالَى: ﴿ولعلا بَعضهم على بعض﴾.
وَقَوله: ﴿فسبحان الله رب الْعَرْش عَمَّا يصفونَ﴾ نزه نَفسه عَمَّا يصفه بِهِ الْمُشْركُونَ من الشَّرِيك وَالْولد.
وَقد روى أَبُو الْأسود الدؤَلِي أَن عمرَان بن حُصَيْن قَالَ لَهُ: أَرَأَيْت مَا يسْعَى فِيهِ النَّاس ويكدحون، أهوَ أَمر قضي عَلَيْهِم أَو شَيْء يستأنفونه؟ فَقلت: لَا، بل أَمر قضي عَلَيْهِم، قَالَ: أَفلا يكون ظلما؟ قلت: سُبْحَانَ الله {لَا يسْأَل عَمَّا يفعل وهم
وَقَوله: ﴿هَذَا ذكر من معي﴾ أَي: ذكر من معي (بِمَا) أمروا من الْحَلَال وَالْحرَام.
وَقَوله: ﴿وَذكر من قبلي﴾ أَي: من يحيى مِنْهُم بِالطَّاعَةِ وَهلك بالمعصية، وَعَن ابْن عَبَّاس قَالَ: ذكر من معي فَهُوَ الْقُرْآن، وَذكر من قبلي هُوَ التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل، وَمَعْنَاهُ: راجعوا الْقُرْآن والتوراة وَالْإِنْجِيل وَسَائِر الْكتب، هَل تَجِدُونَ فِيهَا أَن الله اتخذ ولدا؟
وَقَوله: ﴿بل أَكْثَرهم لَا يعلمُونَ الْحق فهم معرضون﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
وَقَوله: ﴿سُبْحَانَهُ﴾ نزه نَفسه عَمَّا قَالُوا.
وَقَوله: ﴿بل عباد مكرمون﴾ أَي: عبيد مكرمون.
وَقَوله: ﴿وهم بأَمْره يعْملُونَ﴾ مَعْنَاهُ: أَنهم لَا يخالفونه، لَا قولا، وَلَا عملا، وَيُقَال مَعْنَاهُ: إِذْ أَمر بِأَمْر أطاعوا، فَإِذا قَالَ لَهُم: افعلوا قَالُوا: طَاعَة.
وَقَوله: ﴿وَلَا يشفعون إِلَّا لمن ارتضى﴾ مَعْنَاهُ: إِلَّا لمن قَالَ: لَا إِلَه إِلَّا الله، وَيُقَال: إِلَّا لمن رَضِي الله عَنهُ عمله.
وَقَوله: ﴿وهم من خَشيته مشفقون﴾ أَي: من عَذَابه.
(يهون عَلَيْهِم إِذا يغضبون | سخط العداة وإرغامها) |
(ورتق الفتوق وفتق الرتوق | وَنقض الْأُمُور وإبرامها) |
وَقَوله: ﴿وَجَعَلنَا من المَاء كل شَيْء حَيّ﴾ فَإِن قَالَ قَائِل: قد خلق بعض مَا هُوَ حَيّ من غير المَاء، فَكيف يَسْتَقِيم قَوْله: ﴿وَجَعَلنَا من المَاء كل شَيْء حَيّ﴾ ؟ وَأَيْضًا فَإِن الْإِنْسَان قد يَمُوت بِالْمَاءِ، وَالشَّجر والنبات قد يهْلك بِالْمَاءِ؟ وَالْجَوَاب من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَن المَاء هَاهُنَا هُوَ النُّطْفَة، والحي هُوَ الْآدَمِيّ، وَمَعْنَاهُ: كل شَيْء حَيّ من الْآدَمِيّ. وَالْجَوَاب الثَّانِي: أَن هَذَا على وَجه التكثير، وَأكْثر الْأَحْيَاء فِي الأَرْض إِنَّمَا هُوَ مَخْلُوق من المَاء أَو بَقَاؤُهُ بِالْمَاءِ، فاستقام معنى الْآيَة من هَذَا الْوَجْه.
وَقَوله: ﴿أَفلا يُؤمنُونَ﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
(رسا أَصله تَحت الثرى وسمائه | إِلَى النَّجْم فرع لَا ينَال طَوِيل) |
وَقَوله: ﴿وَجَعَلنَا فِيهَا فجاجا سبلا﴾ الْفَج هُوَ الْوَاسِع بَين الجبلين.
وَقَوله: ﴿سبلا﴾ أَي: طرقا مسلوكة.
وَقَوله: ﴿لَعَلَّهُم يَهْتَدُونَ﴾ أَي: يَهْتَدُونَ إِلَى الْحق.
وَقَوله: ﴿وهم عَن آياتها معرضون﴾ آياتها: شمسها وقمرها ونجومها وارتفاعها واستمساكها بِغَيْر عمد، وَغير ذَلِك.
وَقَوله: ﴿وَالشَّمْس وَالْقَمَر كل فِي فلك يسبحون﴾ أَي: يجرونَ، وَيُقَال يَدُور
وَقَوله: ﴿أَفَإِن مت فهم الخالدون﴾ مَعْنَاهُ: أفهم الخالدون إِن مت؟ وَقد رُوِيَ " أَن النَّبِي لما توفّي دخل أَبُو بكر - رَضِي الله عَنهُ - وَوضع فَمه بَين عَيْنَيْهِ وَيَده على جَانب رَأسه، وَقَالَ: يَا رَسُول الله، طبت حَيا وَمَيتًا، ثمَّ قَرَأَ قَوْله تَعَالَى: ﴿وَمَا جعلنَا لبشر من قبلك الْخلد أَفَإِن مت فهم الخالدون﴾ وَقد كَانَ عمر يَقُول: إِنَّه لم يمت، فَلَمَّا تَلا أَبُو بكر هَذِه الْآيَة، فَكَأَن النَّاس لم يسمعوا هَذِه الْآيَة إللا ذَلِك الْوَقْت، وأعرضوا عَن عمر (وَقَوله)، وَعَلمُوا أَنه قد مَاتَ ".
وَقَوله: ﴿ونبلوكم بِالشَّرِّ وَالْخَيْر﴾ أَي: بالرخاء والشدة، وَالصِّحَّة والسقم، وبالإشقاء والإسعاد، وَغير ذَلِك مِمَّا يخْتَلف على الْإِنْسَان، وَقيل: بِالشَّرِّ وَالْخَيْر أَي: بِمَا يحبونَ ويكرهون، وَيُقَال: الشَّرّ غَلَبَة الْهوى على الْإِنْسَان، وَالْخَيْر الْعِصْمَة من الْمعاصِي، قَالَه سهل بن عبد الله.
وَقَوله: ﴿فتْنَة﴾ أَي: محنة وخبرة.
وَقَوله: ﴿وإلينا ترجعون﴾ أَي: تردون.
وَقَوله: ﴿أَهَذا الَّذِي يذكر آلِهَتكُم﴾ أَي: يعيب آلِهَتكُم، يُقَال: فلَان يذكر فلَانا أَي: يعِيبهُ، وَفُلَان يذكر الله أَي: يعظمه ويجله.
وَقَوله: ﴿وهم بِذكر الرَّحْمَن هم كافرون﴾ قَالَ هَذَا؛ لأَنهم كَانُوا يَقُولُونَ: لَا نَعْرِف الرَّحْمَن إِلَّا مُسَيْلمَة، وهم " الثَّانِيَة صلَة.
وَالْقَوْل الرَّابِع: قَوْله: ﴿خلق الْإِنْسَان من عجل﴾ أَي: من طين. قَالَ الشَّاعِر:
(والنبع فِي الصَّخْرَة الصماء منبته | وَالنَّخْل ينْبت بَين المَاء والعجل) |
وَقَوله: ﴿سأريكم آياتي فَلَا تَسْتَعْجِلُون﴾ هَذَا فِي الْمُشْركين، فَإِنَّهُم كَانُوا يستعجلون الْقِيَامَة على مَا قَالَ الله تَعَالَى فِي مَوضِع آخر: ﴿يستعجل بهَا الَّذين لَا يُؤمنُونَ بهَا﴾ وَقَالَ بَعضهم: ﴿سأريكم آياتي﴾ أَي: مواعدي. وَقَوله: ﴿فَلَا تَسْتَعْجِلُون﴾ أَي: لَا تَطْلُبُوا الْعَذَاب مني قبل وقته، وَإِنَّمَا نزلت هَذِه الْآيَة؛ لِأَن النَّضر بن الْحَارِث كَانَ قَالَ: اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحق من عنْدك فَأمْطر علينا حِجَارَة من السَّمَاء أَو ائتنا بِعَذَاب أَلِيم.
وَقَوله: ﴿عَن وُجُوههم النَّار وَلَا عَن ظُهُورهمْ﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
وَقَوله: (وَلَا هم ينْصرُونَ). أَي: لَا يمْنَعُونَ من الْعَذَاب، وَفِي الْآيَة جَوَاب مَحْذُوف وَمَعْنَاهُ: لعلموا صدق وعدنا.
وَقَوله: ﴿لَو يعلم﴾ فِي ابْتِدَاء الْآيَة مَعْنَاهُ: لَو يرى.
وَقَوله: ﴿فتبهتهم﴾. أَي: تحيرهم، يُقَال: فلَان مبهوت أَي: متحير، وَهُوَ معنى قَوْله تَعَالَى: ﴿فبهت الَّذِي كفر﴾.
وَقَوله: ﴿فَلَا يَسْتَطِيعُونَ ردهَا وَلَا هم ينظرُونَ﴾ أَي: يمهلون.
وَقَوله: ﴿فحاق بالذين سخروا مِنْهُم﴾ أَي: نزل بالذين سخروا مِنْهُم. ﴿مَا كَانُوا بِهِ يستهزئون﴾ أَي: جَزَاء استهزائهم.
(إِن سليمى فَالله يكلؤها | ضنت بِشَيْء مَا كَانَ يرزؤها) |
وَقَوله: ﴿بل هم عَن ذكر رَبهم معرضون﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
وَقَوله: ﴿فَلَا يَسْتَطِيعُونَ نصر أنفسهم﴾ أَي: منع أنفسهم.
وَقَوله: ﴿وَلَا هم منا يصحبون﴾ أَي: يجارون، يُقَال: أجارك الله أَي: حفظك، وَتقول الْعَرَب: صحبك الله أَي: حفظك ونصرك، وَقد قيل: يصحبون أَي: ينْصرُونَ.
وَقَوله: ﴿حَتَّى طَال عَلَيْهِم الْعُمر﴾ أَي: امْتَدَّ بهم الزَّمَان.
وَقَوله: ﴿أَفلا يرَوْنَ أَنا نأتي الأَرْض ننقصها من أطرافها﴾ الْأَكْثَرُونَ: أَن هَذَا هُوَ ظُهُور النَّبِي، وفتحه ديار الشّرك أَرضًا أَرضًا وبلدة بَلْدَة، وَالدَّلِيل على صِحَة هَذَا
وَقَوله: ﴿وَلَا يسمع الصم الدُّعَاء﴾ وقرىء: " لَا يسمع الصم الدُّعَاء "، وَقَرَأَ عبد الرَّحْمَن المقرىء: " لَا تسمع الصم الدُّعَاء "، وَأما الْمَعْرُوف هُوَ ظَاهر الْمَعْنى، والصم هم الْكفَّار، وَسَمَّاهُمْ صمًّا، لأَنهم لم يسمعوا مَا يَنْفَعهُمْ.
وَقَوله: ﴿إِذا مَا ينذرون﴾ أَي: يخوفون بِالْوَحْي.
وَقَوله: ﴿ليَقُولن يَا ويلنا إِنَّا كُنَّا ظالمين﴾ مَعْنَاهُ: يَا هلاكنا، إِنَّا كُنَّا مُشْرِكين، كَأَنَّهُمْ أقرُّوا على أنفسهم بِاسْتِحْقَاق الْعقُوبَة.
وَأما كَيْفيَّة الْوَزْن فقد قَالَ بَعضهم إِنَّه يُوزن الْحَسَنَات والسيئات، وَقيل: يُوزن خَوَاتِيم الْأَعْمَال، وَقَالَ بَعضهم: الْمِيزَان عَلامَة يعرف بهَا مقادير اسْتِحْقَاق الثَّوَاب وَالْعِقَاب، وَالصَّحِيح هُوَ الْمِيزَان حَقِيقَة، فَإِن قيل: قد قَالَ فِي مَوضِع آخر: ﴿فَلَا نُقِيم لَهُم يَوْم الْقِيَامَة وزنا﴾ فَكيف التَّوْفِيق بَين الْآيَتَيْنِ؟ وَالْجَوَاب عَنهُ: أَن معنى قَوْله: ﴿فَلَا نُقِيم لَهُم يَوْم الْقِيَامَة وزنا﴾ أَي: لَا يَسْتَقِيم وزنهم على الْحق، فَإِن ميزانهم شائل نَاقص خَفِيف، وَيُقَال: ﴿فَلَا نُقِيم لَهُم يَوْم الْقِيَامَة وزنا﴾ أَي: ثَوابًا، قَالَ بعض الْخَوَارِج فِي ضَرْبَة ابْن ملجم لعَلي رَضِي الله عَنهُ: -
(يَا ضَرْبَة من تقى مَا أَرَادَ بهَا | إِلَّا ليدرك من ذِي الْعَرْش رضوانا) |
(إِنِّي لأذكر يَوْمًا فأحسبه | أوفى الْبَريَّة عِنْد الله ميزانا) |
وَقَوله تَعَالَى: ﴿فَلَا تظلم نفس شَيْئا﴾ أَي: [لَا] يُزَاد فِي سيئاته، وَلَا ينقص من حَسَنَاته.
وَقَوله: ﴿وَإِن كَانَ مِثْقَال حَبَّة من خَرْدَل﴾ أَي: زنة حَبَّة خَرْدَل.
وَقَول: ﴿أَتَيْنَا بهَا﴾ أَي: أحضرناها؛ لنجازى عَلَيْهَا.
وقرىء فِي الشاذ: " آتَيْنَا بهَا " بِمد الْألف، من الإيتاء أَي: جازينا بهَا أَو أعطينا بهَا.
وَقَوله: ﴿وَكفى بِنَا حاسبين﴾ أَي: محاسبين، وَقيل: حافظين عَالمين، وَقيل: محصين.
وَقَوله: ﴿وضياء﴾ وقرىء بِغَيْر الْوَاو، فَأَما بِالْوَاو فَهُوَ صفة أُخْرَى للتوراة، إِذا حملنَا الْفرْقَان على التَّوْرَاة، وَإِن حملناه على الْبُرْهَان، فَمَعْنَاه: أعطيناه الْبُرْهَان، وأعطيناه التَّوْرَاة الَّتِي هِيَ ضِيَاء، فَأَما بِغَيْر الْوَاو فَمَعْنَى الْفرْقَان على هَذَا لَيْسَ إِلَّا التَّوْرَاة، وَقَوله: ﴿وضياء﴾ صفة لَهَا.
وَقَوله: ﴿وذكرا لِلْمُتقين﴾ أَي: تذكيرا لِلْمُتقين.
وَقَوله: ﴿أفأنتم لَهُ منكرون﴾ مَذْكُور على وَجه التوبيخ والذم لإنكارهم.
وَقَوله: ﴿من قبل﴾ فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: من قبل الْبلُوغ، وَهُوَ حِين خرج من السرب، وَهُوَ صَغِير، وَنظر إِلَى النُّجُوم وَالشَّمْس وَالْقَمَر فاستدل، كَمَا ذكرنَا فِي سُورَة الْأَنْعَام، وَالْقَوْل الثَّانِي: من قبل أَي: من قبل مُوسَى وَهَارُون.
وَقَوله: ﴿وَكُنَّا بِهِ عَالمين﴾ أَي: عارفين.
وَقَوله: ﴿وَأَنا على ذَلِكُم من الشَّاهِدين﴾ أَي: على أَنه الْإِلَه الَّذِي لَا يسْتَحق الْعِبَادَة غَيره، وَأَن الْأَصْنَام لَيست بآلهة، وَقيل: وَأَنا من الشَّاهِدين على أَنه خَالق السَّمَوَات وَالْأَرْض.
وَفِي مغازي الرَّسُول غزا مَوضِع كَذَا، فَلم يلق كيدا، أَي: حَربًا.
وَقَوله: ﴿بعد أَن توَلّوا مُدبرين﴾ أَي: بعد أَن تدبروا منطلقين إِلَى عيدكم، فَإِن قيل: كَيفَ يتَصَوَّر كيد الْأَصْنَام، وَهِي لَا تعقل؟ قُلْنَا: سنبين وَجه كَيده لَهَا.
وَفِي الْقِصَّة: أَنهم لما مروا إِلَى عيدهم قَالُوا لَهُ: أَلا تخرج مَعنا؟ فَقَالَ: لَا، إِنِّي سقيم، وَمَعْنَاهُ: مَا برد بعد، ثمَّ قَالَ فِي نَفسه: تالله لأكيدن أصنامكم، فَسَمعهُ رجل مِنْهُم، ومروا وَلم يبْق فِي الْبَلَد أحد، فجَاء إِلَى بَيت أصنامهم، وَمَعَهُ فأس، وَكَانَ فِي الْبَيْت اثْنَان وَسَبْعُونَ صنما، بَعْضهَا من حجر، وَبَعضهَا من فضَّة، وَبَعضهَا من ذهب، وَغير ذَلِك، والصنم الْكَبِير من الذَّهَب، وَهُوَ مكلل بالجوهر، وَعَيناهُ ياقوتتان تتقدان، وَهُوَ على هَيْئَة عَظِيمَة، فَأخذ الفأس، وَكسر الْكل إِلَّا الْكَبِير، فَإِنَّهُ تَركه وعلق الفأس فِي عُنُقه، وَقيل: ربطه بِيَدِهِ، فَهَذَا هُوَ كيد الْأَصْنَام، وَمَعْنَاهُ: [أَنه] كادهم على مَا يَعْتَقِدُونَ فيهم، فَهَذَا معنى قَوْله: ﴿فجعلهم جذاذا إِلَّا كَبِيرا لَهُم﴾، وأنشدوا فِي الْجذاذ شعرًا:
(جذذ الْأَصْنَام فِي مِحْرَابهَا | ذَاك فِي الله الْعلي المقتدر) |
وَقَوله: ﴿إِنَّه لمن الظَّالِمين﴾ أَي: من الْمُجْرمين.
وَقَوله: ﴿يُقَال لَهُ إِبْرَاهِيم﴾ مَعْلُوم.
وَقَوله: ﴿لَعَلَّهُم يشْهدُونَ﴾ فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنهم يشْهدُونَ عَذَابه إِذا عذبناه، وَالْقَوْل الآخر: لَعَلَّهُم يشْهدُونَ أَي: يسمعُونَ قَول الرجل أَنه قَالَ كَذَا فِي الْأَصْنَام، قَالَ السّديّ: كره الْملك أَن يُعَاقِبهُ بِغَيْر بَيِّنَة.
وَقَوله: ﴿لقد علمت مَا هَؤُلَاءِ ينطقون﴾ وَمَعْنَاهُ: فَكيف نسألهم؟.
وَقَوله: ﴿أَفلا تعقلون﴾ أَي: أَلَيْسَ لكم عقل تعرفُون هَذَا؟.
وَقَوله: ﴿وانصروا آلِهَتكُم﴾ قَالَ الْأَزْهَرِي مَعْنَاهُ: عظموا آلِهَتكُم بإحراقه، وَقيل: وادفعوا عَن آلِهَتكُم.
وَقَوله: ﴿إِن كُنْتُم فاعلين﴾ يَعْنِي: إِن كُنْتُم ناصرين لَهَا أَي: للآلهة.
قَوْله تَعَالَى: ﴿قُلْنَا يَا نَار كوني بردا وَسلَامًا﴾ فِي الْقِصَّة: أَنهم بنوا أتونا بقرية من قرى كوثى، وجمعوا الأحطاب مُدَّة. وَعَن السّديّ قَالَ: كَانَ الرجل مِنْهُم يمرض فيوصي بشرَاء الْحَطب وإلقائه فِيهِ، وَالْمَرْأَة تغزل فتشتري الْحَطب بغزلها فتلقيه فِيهِ، ثمَّ أوقدوا عَلَيْهَا سَبْعَة أَيَّام، ثمَّ ألقوا فِيهَا إِبْرَاهِيم. وَرُوِيَ أَنهم لم يعلمُوا كَيفَ يلقونه فِيهَا؟ فجَاء إِبْلِيس - عَلَيْهِ مَا يسْتَحق - وعلمهم عمل المنجنيق، فوضعوه فِيهِ، وطرحوه فِي النَّار.
وَعَن بكر بن عبد الله الْمُزنِيّ قَالَ: لما طرح إِبْرَاهِيم فِي النَّار ضجت الخليقة، وَقَالَت: يَا رب، إِن خَلِيلك يلقى فِي النَّار، فَقَالَ الله تَعَالَى: إِنَّه خليلي، لَيْسَ لي خَلِيل غَيره، وَأَنا إلهه، لَيْسَ لَهُ إِلَه غَيْرِي، فَإِن اسْتَغَاثَ بكم فأغيثوه، فَلم يستغث بِأحد. وَمن الْمَعْرُوف أَنه قَالَ حِين ألقِي فِي النَّار: حسبي الله وَنعم الْوَكِيل. وَرُوِيَ أَنه قَالَ: سُبْحَانَكَ لَا إِلَه إِلَّا أَنْت رب الْعَالمين، وَلَك الْحَمد لَا شريك لَك. وَعَن كَعْب الْأَحْبَار
وَفِي بعض الْأَخْبَار عَن النَّبِي: " من قتل وزغا فَكَأَنَّمَا قتل كَافِرًا ".
وَقَوله ﴿وَسلَامًا﴾ (رُوِيَ) عَن عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - أَنه قَالَ: لَو لم يقل: ﴿وَسلَامًا﴾ لقتلته الْبرد وَمثله عَن كَعْب.
وَعَن قَتَادَة قَالَ: لم تحرق مِنْهُ إِلَّا وثَاقه.
وَمن الْمَعْرُوف فِي الْآثَار: أَنه لم ينْتَفع فِي ذَلِك الْيَوْم بِنَار فِي الْعَالم.
وَقَوله: ﴿على إِبْرَاهِيم﴾ لَو لم يقل: ﴿على إِبْرَاهِيم﴾ بقيت ذَات برد أبدا، وَفِي الْقِصَّة: أَنهم لما طرحوه فِي النَّار، وَجعلهَا الله عَلَيْهِ بردا وَسلَامًا، قَالَ نمروذ وَأَصْحَابه: إِنَّه قد سحر النَّار، فَقَالَ أَبُو لوط - وَكَانَ كَافِرًا - اطرحوا فِيهِ رجلا آخر وجربوه، فطرحوا فِيهَا رجلا آخر فأكلته النَّار فِي الْحَال.
وَفِي بعض الغرائب من المسانيد عَن النَّبِي: " أَنه لما طرح إِبْرَاهِيم فِي النَّار بعث الله جِبْرِيل إِلَيْهِ، وَبعث مَعَه بطنفسة من طنافس الْجنَّة، وقميص من قمص الْجنَّة، فأقعده على الطفنسة، وَألبسهُ الْقَمِيص وَقعد مَعَه يحدثه ". وَرُوِيَ: " أَنهم نظرُوا فَإِذا هُوَ فِي رَوْضَة تهتز ".
وَقَوله: ﴿وكلا جعلنَا صالحين﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
وَقَوله: ﴿وأوحينا إِلَيْهِم فعل الْخيرَات﴾ مَعْنَاهُ: الْعَمَل بالشرائع.
وَقَوله: ﴿وإقام الصَّلَاة﴾ أَي: الْمُحَافظَة عَلَيْهَا.
﴿وإيتاء الزَّكَاة﴾ مَعْنَاهُ: وَإِعْطَاء الزَّكَاة.
وَقَوله: ﴿وَكَانُوا لنا عابدين﴾ أَي: مُوَحِّدين.
وَقَوله: ﴿ونجيناه من الْقرْيَة الَّتِي كَانَت تعْمل الْخَبَائِث﴾ الْقرْيَة: هِيَ سدوم، وَأما الْخَبَائِث قيل: إتيانهم الذُّكُور، وَيُقَال هُوَ: [التضارط] فِي الأندية.
وَقَوله: ﴿إِنَّهُم كَانُوا قوم سوء فاسقين﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
وَقَوله: ﴿فاستجبنا لَهُ﴾ أَي: أجبناه.
وَقَوله: ﴿فنجيناه وَقَومه من الكرب الْعَظِيم﴾ فِي الْقِصَّة: أَنه كَانَ أطول الْأَنْبِيَاء عمرا، وَأَشد الْأَنْبِيَاء بلَاء، وَرُوِيَ أَنه كَانَ يضْرب فِي الْيَوْم سبعين مرّة.
وَقَوله: ﴿من الكرب الْعَظِيم﴾ أَي: من الْغَرق، وَقيل: من الْغم والضيق.
﴿إِنَّهُم كَانُوا قوم سوء فأغرقناهم أَجْمَعِينَ﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
قَالَ ابْن عَبَّاس: كَانَ كرما قد بَدَت عناقيده، وَقَالَ قَتَادَة: كَانَ زرعا، وَأما الْقِصَّة فِيهِ: فَروِيَ أَنه كَانَ رجلَانِ لأَحَدهمَا حرث وَللْآخر غنم، فَدخل الْغنم فِي حرث صَاحبه لَيْلًا، فَأكلت وأفسدت، حَتَّى لم يبْق شَيْء - وَهُوَ معنى قَوْله: ﴿إِذْ نفشت فِيهِ غنم الْقَوْم﴾ والنفش هُوَ الرَّعْي لَيْلًا، والهمل هُوَ الرَّعْي نَهَارا - فَلَمَّا أصبحا جَاءَ صَاحب الْحَرْث يُخَاصم صَاحب الْغنم عِنْد دَاوُد، فَقَالَ دَاوُد: خُذ بِرَقَبَة الأغنام فَهِيَ لَك بدل حرثك، وَكَانَ سُلَيْمَان ثمَّ فَقَالَ: يَا نَبِي الله، أَو غير ذَلِك؟ هَذَا قَول ابْن مَسْعُود، أَن سُلَيْمَان ثمه.
وَقَالَ غَيره: أَنَّهُمَا خرجا فمرا على سُلَيْمَان، وذكرا لَهُ حكم دَاوُد، فَقَالَ: قد كَانَ هَا هُنَا حكم هُوَ أرْفق بِالرجلَيْنِ، فَذكر ذَلِك لِأَبِيهِ دَاوُد، فَدَعَاهُ وَسَأَلَهُ بِحَق الْأُبُوَّة، فَقَالَ: تسلم الْغنم إِلَى صَاحب الْحَرْث، ينْتَفع بألبانها وسمونها وأصوافها، وتسلم الْحَرْث إِلَى صَاحب الْغنم يقوم عَلَيْهِ، حَتَّى إِذا عَاد إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ لَيْلَة نفشت فِيهِ الْغنم سلمت الْحَرْث إِلَى صَاحبه؛ فَهَذَا معنى قَوْله تَعَالَى: ﴿ففهمناها سُلَيْمَان﴾ وَأخذ دَاوُد بذلك.
وَأما قَوْله: ﴿وَكُنَّا لحكمهم شَاهِدين﴾ أَي: لم يغب عَنَّا حكمهمَا جَمِيعًا، وَكَانَ بعلمنا ومرامنا.
وَاخْتلف الْعلمَاء أَن دَاوُد حكم مَا حكم بِالِاجْتِهَادِ أَو بِالْوَحْي؟ وَكَذَلِكَ سُلَيْمَان، فَقَالَ بَعضهم: إنَّهُمَا فعلا بِالِاجْتِهَادِ، وَقَالُوا: يجوز الِاجْتِهَاد للأنبياء؛ ليدركوا ثَوَاب الْمُجْتَهدين، إِلَّا أَن دَاوُد أَخطَأ، وَسليمَان أصَاب، وَالْخَطَأ يجوز على الْأَنْبِيَاء إِلَّا أَنهم لَا يقرونَ عَلَيْهِ، وَاخْتلفُوا [فِي] أَنه هَل يجوز على نَبينَا الْخَطَأ فِي الحكم كَمَا يجوز على سَائِر الْأَنْبِيَاء؟ قَالَ أَبُو عَليّ بن أبي هُرَيْرَة: لَا يجوز؛ لِأَن شَرِيعَته ناسخة، وَلَيْسَ
وَرُوِيَ أَن رجلا أَتَى النَّبِي وَقَالَ: يَا رَسُول الله، أَرَأَيْت إِن قتلت صَابِرًا محتسبا، هَل يحجزني من الْجنَّة شَيْء؟ قَالَ: لَا، ثمَّ دَعَاهُ وَقَالَ: " إِلَّا الدّين، سَارَّنِي بِهِ جِبْرِيل " وَهُوَ خبر مَعْرُوف، والخبران يدلان على أَنه يجوز أَنه يُخطئ، إِلَّا أَنه لَا يُقرر عَلَيْهِ.
وَالْقَوْل الثَّانِي فِي أصل الْحُكُومَة: هُوَ أَن دَاوُد وَسليمَان - عَلَيْهِمَا السَّلَام - حكما بِالْوَحْي، إِلَّا أَن مَا حكم بِهِ دَاوُد كَانَ مَنْسُوخا، وَالَّذِي حكم بِهِ سُلَيْمَان كَانَ نَاسِخا، وَقَالَ هَؤُلَاءِ الْقَوْم: لَا يجوز للنَّبِي أَن يجْتَهد فِي الْحَوَادِث؛ لِأَنَّهُ مستغن بِالْوَحْي عَن الِاجْتِهَاد، وَقد قَالَ الله تَعَالَى: ﴿وَمَا ينْطق عَن الْهوى إِن هُوَ إِلَّا وَحي يُوحى﴾، وَالْأول هُوَ الْأَصَح.
وَأما حكم هَذِه الْمَسْأَلَة فِي شريعتنا: فَاعْلَم أَن مَا أفسدت الْمَاشِيَة بِاللَّيْلِ عندنَا مَضْمُون على صَاحبهَا، وَمَا أفسدت بِالنَّهَارِ فَلَا ضَمَان، وَالْحجّة فِيهِ مَا روى الزُّهْرِيّ، عَن حرَام بن محيصة عَن أَبِيه: " أَن نَاقَة الْبَراء بن عَازِب دخلت حرث قوم فأفسدته، فَارْتَفعُوا إِلَى النَّبِي فَقضى بِأَن حفظ الْمَاشِيَة على أَرْبَابهَا لَيْلًا، وَأَن حفظ الْحَرْث على أَرْبَابهَا نَهَارا " وَهَذَا أحسن حكم يكون؛ لِأَن الْعَادة جرت أَن الْمَوَاشِي تحفظ
قَالَ الشَّيْخ الإِمَام: أخبرنَا بِهَذَا الحَدِيث القَاضِي الإِمَام الْوَالِد، قَالَ: نَا أَبُو سهل عبد الصَّمد بن عبد الرَّحْمَن الْبَزَّار، قَالَ: أَبُو بكر مُحَمَّد بن زَكَرِيَّا العذافري، قَالَ: أخبرنَا إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم الدبرِي قَالَ: [حَدثنَا] عبد الرَّزَّاق، عَن معمر، عَن الزُّهْرِيّ.... الْخَبَر.
وَقَوله: ﴿وكلا آتَيْنَا حكما وعلما﴾ وَقد بَينا.
فَإِن قيل: قد كَانَ دَاوُد حكم بِمَا حكم بِهِ، والحادثة إِذا جرى فِيهَا حكم الْحَاكِم لَا يجوز أَن تنقض بِغَيْرِهِ، فَكيف وَجه هَذَا؟ وَالْجَوَاب: يحْتَمل أَنه كَانَ طُولِبَ بالحكم، وَلم يحكم بعد، إِلَّا أَنه ذكر وَجه الحكم، وَقَالَ بَعضهم: إِنَّه كَانَ حكم بِالِاجْتِهَادِ، فَلَمَّا قَالَ سُلَيْمَان مَا قَالَ، نزل الْوَحْي أَن الحكم مَا قَالَ.
وَقَوله: ﴿وسخرنا مَعَ دَاوُد الْجبَال يسبحْنَ وَالطير﴾ قيل: تسبيحها صلَاتهَا، وَقيل: تسبيحها هُوَ الثَّنَاء على الله بِالطَّهَارَةِ وَالتَّقْدِيس، وَقد رُوِيَ أَن الْجبَال كَانَت تجاوب دَاوُد بالتسبيح، وَرُوِيَ أَنه كَانَ إِذا قَرَأَ سَمعه الله تَسْبِيح الْجبَال وَالطير؛ لينشط فِي التَّسْبِيح، ويشتاق إِلَيْهِ.
وَقَوله: ﴿وَكُنَّا فاعلين﴾. أَي: قَادِرين على مَا نُرِيد، وَقيل مَعْنَاهُ: فعلنَا مَا فعلنَا بِالتَّدْبِيرِ الصَّحِيح.
وَقَوله: ﴿لتحصنكم من بأسكم﴾ أَي: من بَأْس عَدوكُمْ.
وَقَوله: ﴿لتحصنكم﴾ قرئَ بقراءات: بِالْيَاءِ وَالتَّاء وَالنُّون، أما الْيَاء فَمَعْنَاه: ليحصنكم اللبوس، وَقيل: ليحصنكم الله، وَأما التَّاء فَمَعْنَاه: لتحصنكم الصَّنْعَة، وَأما بالنُّون ينْصَرف إِلَى الله.
وَقَوله: ﴿فَهَل أَنْتُم شاكرون﴾ يَعْنِي: يَا دود وَأهل بَيته، هَل أَنْتُم شاكرون؟.
وَقَوله: ﴿تجْرِي بأَمْره إِلَى الأَرْض الَّتِي باركنا فِيهَا﴾ فِي الْقِصَّة: أَنه كَانَ يسير من الشَّام إِلَى اصطخر تحمله الرّيح غدْوَة، ويسير من اصطخر إِلَى الشَّام تحمله الرّيح عَشِيَّة.
وَقَوله: ﴿وَكُنَّا بِكُل شَيْء عَالمين﴾ يَعْنِي: أَنه مَا غَابَ عَنَّا شَيْء من الْأَشْيَاء.
وَقَوله: ﴿ويعملون عملا دون ذَلِك﴾ أَي: سوى الغوص، وَهُوَ معنى: ﴿يعْملُونَ لَهُ مَا يَشَاء من محاريب وتماثيل﴾ الْآيَة.
وَقَوله: ﴿وَكُنَّا لَهُم حافظين﴾.
قَالَ الْفراء والزجاج معنى ذَلِك: أَنا حفظنا الشَّيَاطِين من أَن يفسدوا مَا عمِلُوا. وَفِي الْقِصَّة: أَن سُلَيْمَان كَانَ إِذا بعث شَيْطَانا مَعَ إِنْسَان ليعْمَل لَهُ عملا قَالَ لَهُ: إِذْ فرغ من عمله قبل اللَّيْل، أشغله بِعَمَل آخر؛ لِئَلَّا يفْسد مَا عمل، وَكَانَ من عَادَة الشَّيْطَان أَنه إِذا فرغ من الْعَمَل، وَلم يشغل بِعَمَل آخر يخرب مَا عمل، ويفسده، فَهَذَا معنى قَوْله تَعَالَى: ﴿وَكُنَّا لَهُم حافظين﴾ على مَا ذكرنَا من الْفراء والزجاج، وَرُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس أَيْضا.
وَقَوله: ﴿أَنِّي مسني الضّر﴾ أَي: الْبلَاء والشدة، وَقيل: الْجهد.
وَقَوله: ﴿وَأَنت أرْحم الرَّاحِمِينَ﴾ أَي: أرْحم من يرحم.
وَاعْلَم أَن قصَّة أَيُّوب طَوِيلَة، وَذكر فِي التَّفْسِير مِنْهَا، وَكَذَا نذْكر بَعْضهَا، فَروِيَ عَن الْحسن الْبَصْرِيّ: أَن الله تَعَالَى أعْطى أَيُّوب مَالا وَولدا، ثمَّ أهلك مَاله وَولده. وَذكر وهب بن مُنَبّه وَغَيره: أَنه كَانَ ذَلِك لتسليط إِبْلِيس على مَاله وَولده، قَالَ الْحسن: فَلَمَّا بلغه هَلَاك مَاله وَولده، حمد الله حمدا كثيرا وَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّه كَانَ يشغلني مَالِي وَوَلَدي عَن عبادتك، والآن قد فرغ لَك سَمْعِي وبصري وقلبي وليلي ونهاري. قَالَ وهب: ثمَّ ابتلاه الله تَعَالَى فِي جِسْمه، وَكَانَ إِبْلِيس يحسده فِي كَثْرَة عِبَادَته وَكَثْرَة ثَنَاء أهل السَّمَاء عَلَيْهِ فَقَالَ: يَا رب، لَو ابتليته لقصر فِي عبادتك، فَقَالَ الله تَعَالَى لَهُ: سلطتك على جِسْمه سوى قلبه وَلسَانه وعقله - هَذَا قَول وهب وَغَيره، وَالله أعلم - ثمَّ ظهر الْبلَاء فِي جسم أَيُّوب، وَاشْتَدَّ بِهِ الْبلَاء غَايَة الشدَّة حَتَّى قرح جَمِيع جسده وتدود، واجتنبه جَمِيع قومه، وَأُلْقِي على مزبلة من مزابل بني إِسْرَائِيل، وَلم يقربهُ أحد غير امْرَأَته كَانَت تَتَصَدَّق النَّاس وتطعمه، وَاخْتلفُوا فِي مُدَّة بلائه: فَقَالَ ابْن عَبَّاس: سبع حجج، وَقَالَ وهب: ثَلَاث أَحْوَال.
وَرُوِيَ أَن إِبْلِيس جَاءَ إِلَى أَيُّوب ووسوس إِلَيْهِ، أَن امْرَأَته زنت، وَأَنه قطعت ذؤابتها لذَلِك، فَحِينَئِذٍ عيل صبره لهَذِهِ الْأَشْيَاء فَدَعَا وَقَالَ: ﴿أَنِّي مسني الضّر﴾.
فَإِن قَالَ قَائِل: أَلَيْسَ أَن الله تَعَالَى سَمَّاهُ صَابِرًا، وَقد ترك الصَّبْر حِين دَعَا؟ قُلْنَا: لَا، لم يتْرك الصَّبْر، فَإِن ترك الصَّبْر بِإِظْهَار الشكوى إِلَى الْخلق، فَأَما بإظهارها إِلَى الله تَعَالَى فَلَا يكون تركا للصبر.
وَعَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة أَنه قَالَ: إِذا أظهر الشكوى إِلَى الْخلق، وَهُوَ رَاض بِقَضَاء الله، فَإِنَّهُ لَا يكون تَارِكًا للصبر أَيْضا.
وَقد رُوِيَ عَن النَّبِي " أَن جِبْرِيل دخل عَلَيْهِ فِي مرض الْمَوْت فَقَالَ: كَيفَ تَجِد نَفسك؟ فَقَالَ: يَا جِبْرِيل، أجدني مغموما، أجدني مكروبا ".
وَرُوِيَ أَنه قَالَ لعَائِشَة - صلوَات الله (عَلَيْهِ) -: " بل أَنا وارأساه " الْخَبَر بِطُولِهِ.
وَفِي الْقِصَّة: أَن الدودتين كَانَتَا [تقتتلان] على جسده، فَكَانَ يفرق بَينهمَا، وَيَقُول لَهما: كلا من رزق الله.
وَقَوله: ﴿وَآتَيْنَاهُ أَهله وَمثلهمْ مَعَهم﴾ قَالَ ابْن مَسْعُود وَابْن عَبَّاس وَالْحسن: رد إِلَيْهِ أَهله وَأَوْلَاده بأعيانهم، وَهَذَا هُوَ القَوْل الْمَعْرُوف، وَظَاهر الْقُرْآن يدل عَلَيْهِ، وَهُوَ أَيْضا مَرْوِيّ بِرِوَايَة جُوَيْبِر، عَن الضَّحَّاك، عَن ابْن عَبَّاس، عَن النَّبِي، وَذكر فِي هَذَا الْخَبَر: أَن الله تَعَالَى رد الْمَرْأَة شبابها، فَولدت لَهُ سِتَّة وَعشْرين ولدا بعد ذَلِك، وَفِي هَذَا الْخَبَر أَيْضا: أَن الله تَعَالَى بعث إِلَيْهِ ملكا وَقَالَ: إِن رَبك يُقْرِئك السَّلَام بصبرك، فَاخْرُج إِلَى ضيَاع أندرك، فَخرج إِلَيْهِ، فَأرْسل الله عَلَيْهِ جَرَادًا من ذهب، قَالَ: فطارت وَاحِدَة فاتبعها وردهَا إِلَى أندره، فَقَالَ لَهُ الْملك: أما يَكْفِيك مَا فِي أندرك حَتَّى تتبع الْخَارِج؟ فَقَالَ: هَذِه بركَة من بَرَكَات رَبِّي، لَا أشْبع من بركته.
قَالَ الشَّيْخ الإِمَام: أَخْبرنِي بِهَذَا أَبُو عَليّ بن بنْدَار بِإِسْنَادِهِ عَن إِسْمَاعِيل بن أبي زِيَاد، عَن جُوَيْبِر، عَن الضَّحَّاك، عَن ابْن عَبَّاس.
وروى سُفْيَان بن عُيَيْنَة، عَن عَمْرو، عَن طَاوس: أَن الله تَعَالَى أمطر على أَيُّوب
وَفِي الْآيَة قَول آخر: وَهُوَ أَن معنى قَوْله: ﴿وَآتَيْنَاهُ أَهله﴾ أَي: ثَوَاب أَهله ﴿وَمثلهمْ مَعَهم﴾ أَي: مثل ذَلِك كَأَنَّهُ ضوعف لَهُ الثَّوَاب، وَعَن عِكْرِمَة قَالَ: " خير أَيُّوب بَين أَن يرد عَلَيْهِ أَهله بأعيانهم، وَبَين أَن يعْطى مثل أَهله وَأَوْلَاده، فَاخْتَارَ أَن يردوا بأعيانهم وَمثلهمْ مَعَهم فَأعْطِي ذَلِك.
وَقَوله: ﴿رَحْمَة من عندنَا﴾ أَي: نعْمَة من عندنَا.
وَقَوله: ﴿وذكرى للعابدين﴾ أَي: وعظا واعتبارا للعابدين.
وَفِي الْآيَة قَول آخر: وَهُوَ أَن ذَا الكفل رجل كفل أَن يُصَلِّي كل لَيْلَة مائَة رَكْعَة إِلَى أَن يقبضهُ الله، فوفي بذلك فَسُمي ذَا الكفل، وَاخْتلف القَوْل أَنه كَانَ نَبيا أَو لم يكن نَبيا، قَالَ بَعضهم: كَانَ نَبيا، وَقَالَ بَعضهم: كَانَ عبدا صَالحا، وَلم يكن نَبيا.
وَقَوله: ﴿كل من الصابرين﴾ أَي: على طاعتنا.
وَقَوله: ﴿إِنَّهُم من الصَّالِحين﴾ ظَاهر الْمَعْنى، وَالصَّلَاح اسْم يجمع جَمِيع خِصَال الْخَيْر.
(يَا حبذا الْقصر نعم الْقصر والوادي | وحبذا أَهله من حَاضر بَادِي) |
(ترقى قراقيره والوحش راتعة | والضب وَالنُّون والملاح وَالْحَادِي) |
وَأما القَوْل الأول فقد كرهه كثير من الْعلمَاء؛ لِأَن من غضب ربه فقد ارْتكب كَبِيرَة عَظِيمَة، وَذكر بَعضهم: أَن معنى غاضب ربه أَي: أَمر ربه، وَسبب ذَلِك أَنه وعد قومه أَن الْعَذَاب يأتيكم يَوْم كَذَا، وَخرج من بَينهم، فَلَمَّا كَانَ ذَلِك الْيَوْم، وَرَأى قوم يُونُس الْعَذَاب، خَرجُوا وضجوا إِلَى الله تَعَالَى على مَا ذكرنَا فِي سُورَة يُونُس، فَرد الله عَنْهُم الْعَذَاب، فَلَمَّا بلغ يُونُس أَن الْعَذَاب لم ينزل على قومه غضب، فَمَا كَانَ غَضَبه، لَا كَرَاهَة بِحكم الله، وَلَكِن كَرَاهَة أَن يُسمى كذابا، فَهَذَا معنى هَذَا القَوْل.
وَأما قَول ابْن عَبَّاس وَهُوَ الْمُخْتَار فَإِنَّهُ خرج مغاضبا لِقَوْمِهِ حِين لم يُؤمنُوا، وَهُوَ حسن صَحِيح لَا اعْتِرَاض عَلَيْهِ.
وَأما قَول من قَالَ: إِنَّه غاضب الْملك، فروى عَطِيَّة الْعَوْفِيّ عَن ابْن عَبَّاس أَنه كَانَ فِي بني إِسْرَائِيل ملك، وَكَانَ مَعَ ذَلِك نَبيا يُوحى إِلَيْهِ، وَكَانَ قد غزا بني إِسْرَائِيل قوم، فَدَعَا الْملك يُونُس، وأرسله إِلَى أُولَئِكَ الْقَوْم، فَقَالَ يُونُس: أَمرك الله بِهَذَا أَو سماني لَك؟ قَالَ: لَا، وَلَكِن أرسلك، فَغَضب وَخرج من بَينهم مُتَوَجها إِلَى الْبَحْر.
وَقَوله: ﴿فَظن أَن لن نقدر عَلَيْهِ﴾ وَقَرَأَ ابْن عَبَّاس: " فَظن أَن لن نقدر عَلَيْهِ "، وَهُوَ شَاذ، وَقَرَأَ ابْن عَامر: " فَظن أَن لن نقدر عَلَيْهِ ". وَاعْلَم أَن فِي الْآيَة سؤالا مَعْرُوفا يعد من مشكلات الْقُرْآن، وَهُوَ أَنه قَالَ: ﴿فَظن أَن لن نقدر عَلَيْهِ﴾ فَكيف يظنّ هَذَا بِاللَّه، وَمن ظن هَذَا بِاللَّه فقد كفر؟ وَالْجَوَاب عَنهُ: أَن لِلْآيَةِ وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَن معنى قَوْله: ﴿فَظن أَن لن نقدر عَلَيْهِ﴾ أَي: لن نقدر عَلَيْهِ بِمَعْنى الحكم وَالْقَضَاء، يُقَال: قدر وَقدر بِمَعْنى وَاحِد، إِلَّا أَنه يُقَال: قدَر يقدِر، وقدَّر يقدِّر، قَالَ الشَّاعِر:
(فَلَيْسَ عشيات اللوى برواجع | لنا أبدا مَا أبرم السّلم النَّضر) |
(وَلَا عَائِدًا ذَاك الزَّمَان الَّذِي مضى | تَبَارَكت مَا تقدر يَقع وَلَك الشُّكْر) |
وَمن هَذَا قَوْله: " فَإِن غم عَلَيْكُم فاقدروا لَهُ " أَي: قدرُوا لَهُ، وَهُوَ خبر صَحِيح.
وَالْوَجْه الثَّانِي من الْجَواب: وَهُوَ [أَن] معنى قَوْله: ﴿فَظن أَن لن نقدر عَلَيْهِ﴾ أَي: لن نضيق عَلَيْهِ، وَمن هَذَا قَوْله تَعَالَى: ﴿وَأما إِذا مَا ابتلاه فَقدر عَلَيْهِ رزقه﴾
قَالَ أهل الْعلم: وَلم يكن يُونُس من أولي الْعَزْم من الرُّسُل، وَكَانَ ضيق الصَّدْر، فَلَمَّا وضع عَلَيْهِ أعباء النُّبُوَّة تفسخ تحتهَا كَمَا يتفسخ الرّبع، وَهَذَا القَوْل مأثور عَن السّلف.
وَقَوله: ﴿فَنَادَى فِي الظُّلُمَات﴾ فِي الْقِصَّة: أَنه لما ذهب ركب السَّفِينَة، وَفِي السَّفِينَة قوم كثير، فجَاء حوت وَحبس السَّفِينَة، وخشي الْقَوْم على أنفسهم الْهَلَاك، وتنبه يُونُس أَنه هُوَ المُرَاد فَقَالَ: ألقوني تنجوا، فامتنعوا عَن ذَلِك، ثمَّ إِنَّهُم استهموا فَخرج السهْم عَلَيْهِ مَرَّات، فألقوه فالتقمه الْحُوت، وَمَرَّتْ السَّفِينَة، قَالَ سَالم بن أبي الْجَعْد: والتقم الْحُوت حوت آخر.
وَأما قَوْله: ﴿فَنَادَى فِي الظُّلُمَات﴾ أَي: ظلمَة اللَّيْل، وظلمة الْبَحْر، وظلمة بطن الْحُوت، وَفِي الْقِصَّة: أَن الْحُوت مر بِهِ إِلَى الأَرْض السَّابِعَة، وَسمع من تَسْبِيح الْأَرْضين والأحجار ودواب الْبحار أمرا عَظِيما، فَنَادَى فِي الظُّلُمَات: ﴿أَن لَا إِلَه إِلَّا أَنْت سُبْحَانَكَ إِنِّي كنت من الظَّالِمين﴾ قَالَ ابْن عَبَّاس: مكث فِيهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، وَعَن غَيره: ثَلَاثَة أَيَّام، وَرُوِيَ أَنه لما دَعَا بِهَذِهِ الدعْوَة سَمِعت الْمَلَائِكَة صَوته، فَقَالُوا: يَا رب صَوت مَعْرُوف من مَكَان مَجْهُول، فَقَالَ الله تَعَالَى: هُوَ عَبدِي يُونُس جعلت بطن الْحُوت سجنا لَهُ فدعوا.
وَقَوله: ﴿ونجيناه من الْغم﴾ أَي: من غم الْبَحْر وضيق الْمَكَان.
وَقَوله: ﴿وَكَذَلِكَ ننجي الْمُؤمنِينَ﴾ وقرىء: نجى الْمُؤمنِينَ "، وَالْأولَى أَن يقْرَأ بنونين، قَالَ الزّجاج: بنُون وَاحِد لحن، وَهُوَ من [الْخَطَأ] روى عَاصِم عَنهُ.
وَرُوِيَ عَن [سعد بن أبي] وَقاص - رَضِي الله عَنهُ - أَنه قَالَ: سَمِعت النَّبِي يَقُول: " كلمة أعرفهَا لَا يَقُولهَا أحد فِي كرب إِلَّا فرج عَنهُ، وَهِي كلمة أخي يُونُس: لَا إِلَه إِلَّا أَنْت سُبْحَانَكَ إِنِّي كنت من الظَّالِمين ". وَفِي الْقِصَّة: أَن الْحُوت أَلْقَاهُ فِي سَاحل الْبَحْر: وَأنْبت الله لَهُ شَجَرَة من يَقْطِين، وقصة ذَلِك تَأتي من بعد فِي سُورَة: " وَالصَّافَّات "، فَإِن قيل: قَوْله: ﴿وَكَذَلِكَ ننجي الْمُؤمنِينَ﴾ هُوَ مَكْتُوب فِي الْمُصحف بنُون وَاحِدَة فَكيف جعلتم أصح الْقِرَاءَتَيْن بنونين؟ وَالْجَوَاب عَنهُ: أَنه إِنَّمَا كتب بنُون وَاحِد؛ لِأَن النُّون الأولى متحركة، وَالنُّون الثَّانِيَة سَاكِنة، فخفيت الساكنة فِي جنب المتحركة، فحذفت، وَقد ذكر الْفراء وَجها لقِرَاءَة عَاصِم، وَهُوَ أَن مَعْنَاهُ: نجى النَّجَاء الْمُؤمنِينَ فخفض الْمُؤمنِينَ على إِضْمَار الْمصدر.
وَقَوله: ﴿رب لَا تذرني فَردا﴾ أَي: وحيدا، وَمَعْنَاهُ: هُوَ مَا ذكرنَا من دُعَاء الْوَلَد.
وَقَوله: ﴿وَأَنت خير الْوَارِثين﴾.
وَأما قَوْله: ﴿وَوَهَبْنَا لَهُ يحيى﴾ سمي يحيى، لِأَن رَحمهَا حَيّ بِالْوَلَدِ.
وَقَوله: ﴿وأصلحنا لَهُ زوجه﴾ فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا - وَهُوَ الْمَعْرُوف - أَنه كَانَ عقيما فَجعله ولودا، وَالْآخر: مَا رُوِيَ عَن عَطاء أَنه قَالَ: معنى الْإِصْلَاح أَنه كَانَ فِي لِسَان امْرَأَته طول، وَفِي خلقهَا سوء فأصلحها.
وَقَوله: ﴿إِنَّهُم كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخيرَات﴾ ينْصَرف إِلَى جَمِيع الْأَنْبِيَاء الَّذين ذكرهم.
وَقَوله: ﴿ويدعوننا رغبا ورهبا﴾ أَي: رغبا فِي الطَّاعَات، ورهبا من الْمعاصِي، (وَقيل: رغبا فِي الْجنَّة، ورهبا من النَّار). وَقَالَ خصيف: رغبا ببطون الأكف، ورهبا بظهورها.
وَقَوله: ﴿وَكَانُوا لنا خاشعين﴾ أَي: متواضعين، وَعَن ابْن عَبَّاس قَالَ: هُوَ أَن يضع يَمِينه على شِمَاله فِي الصَّلَاة، يومىء ببصره إِلَى مَوضِع السُّجُود، وَقَالَ مُجَاهِد: الْخُشُوع هُوَ الْخَوْف اللَّازِم فِي الْقلب، وَعَن الْحسن قَالَ: ذللا لأمر الله تَعَالَى.
وَقَوله: ﴿فنفخنا فِيهَا من رُوحنَا﴾ الْأَكْثَرُونَ أَن هَذَا جيب الدرْع على مَا بَينا، وَفِيه قَول آخر: أَنه نفخ رَحمهَا، وَخلق الله الْمَسِيح فِي بَطنهَا، وَذكر رُوحنَا تَخْصِيصًا وكرامة للمسيح عَلَيْهِ السَّلَام.
وَقَوله: ﴿وَجَعَلنَا وَابْنهَا آيَة للْعَالمين﴾.
أَي: دلَالَة للْعَالمين، فَإِن قيل: هما كَانَا آيَتَيْنِ، فَهَلا قَالَ آيَتَيْنِ؟ وَالْجَوَاب: إِنَّمَا قَالَ: آيَة؛ لِأَن الْآيَة فيهمَا كَانَت وَاحِدَة، وَهِي أَنَّهَا أَتَت بِهِ من غير فَحل، قَالَ أهل الْعلم: وفيهَا آيَات: أَحدهَا: (أَنه لم (تعتن) قبلهَا أُنْثَى للتحرز)، وَالْآخر: إتيانها بِعِيسَى من غير أَب، وَالثَّالِث: مجيىء رزقها من عِنْد الله من غير سَبَب من مَخْلُوق، وَيُقَال: إِنَّهَا لم تقبل ثدي أحد سوى أمهَا.
وَقَوله: ﴿وَأَنا ربكُم فاعبدون﴾ أَي: وحدوني، وَحَقِيقَة معنى الْآيَة: أَن الْملَّة الَّتِي دعوتكم إِلَيْهَا هِيَ مِلَّة الْأَنْبِيَاء قبلكُمْ، إِذْ دين الْكل وَاحِد، وَهَذَا فِي التَّوْحِيد، فَأَما الشَّرَائِع يجوز اختلافها، وَيُقَال: معنى الْآيَة: أَنكُمْ خلق وَاحِد وَكُونُوا على دين وَاحِد.
وَقَوله: ﴿كل إِلَيْنَا رَاجِعُون﴾ أَي: من تفرق، وَمن لم يتفرق.
وَقَوله: ﴿وَإِنَّا لَهُ كاتبون﴾ أَي: حافظون، وَيُقَال: إِن معنى الشُّكْر من الله هُوَ المجازاة.
(وَإِن حَرَامًا لَا أرى الدَّهْر باكيا | على (شجوة) إِلَّا بَكَيْت على (عَمْرو)) |
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن " لَا " صلَة، قَالَه أَبُو عبيد، فَمَعْنَاه: حرَام على قَرْيَة أهلكناها أَي: يرجعُونَ، وَقَالَ الزّجاج: قَوْله: ﴿وَحرَام على قَرْيَة﴾ مَعْنَاهُ: وَحرَام على أهل قَرْيَة ﴿أهلكناها﴾، أَي: حكمنَا بهلاكها أَن يتَقَبَّل أَعْمَالهم؛ ل ﴿أَنهم لَا يرجعُونَ﴾ أَي: لَا يتولون، قَالَ وَالدَّلِيل على هَذَا الْمَعْنى أَنه قد قَالَ فِي الْآيَة الَّتِي قبلهَا: ﴿وَمن يعْمل من الصَّالِحَات وَهُوَ مُؤمن فَلَا كفران لسعيه﴾ أَي: يتَقَبَّل عمله، ثمَّ ذكر عقبه هَذِه الْآيَة، وَبَين أَن الْكَافِر لَا يتَقَبَّل عمله.
وَقَوله: ﴿يَأْجُوج وَمَأْجُوج﴾ قد بَينا، وَالْفَتْح للسد الَّذِي بَيْننَا وَبينهمْ، وَيُقَال: إِن الْخلق عشرَة أَجزَاء، تِسْعَة أَجزَاء كلهم يَأْجُوج وَمَأْجُوج، وجزء وَاحِد هم سَائِر الْخلق، وَيُقَال: إِن جُزْءا من ألف جُزْء سَائِر الْخلق، وَالْبَاقِي هم يَأْجُوج وَمَأْجُوج.
قَوْله: ﴿وهم من كل حدب يَنْسلونَ﴾ الحدب: الْمَكَان الْمُرْتَفع، فَمَعْنَاه: يسرعون النُّزُول من الآكام، وَهُوَ مَكَان مُرْتَفع من القلاع، ونسلان الذِّئْب: سرعَة مَشْيه، قَالَ الشَّاعِر:
(نسلان الذَّنب أَمْسَى باديا | برد اللَّيْل عَلَيْهِ فينسل) |
(فَلَمَّا أجزنا ساحة الْحَيّ وانتحى | بِنَا بطن خبت ذِي حقاف عقنقل) |
وَالثَّانِي: أَن معنى قَوْله: ﴿حَتَّى إِذا فتحت يَأْجُوج وَمَأْجُوج وهم من كل حدب يَنْسلونَ﴾ قَالُوا ﴿يَا ويلنا﴾ وَيُقَال: ظهر لَهُم صدق مَا قُلْنَاهُ، وَفِي بعض الغرائب من الْأَخْبَار بِرِوَايَة ابْن مَسْعُود: " أَن النَّبِي لَيْلَة أسرِي بِهِ اجْتمع مَعَ إِبْرَاهِيم ومُوسَى وَعِيسَى - صلوَات الله عَلَيْهِم - فَذكرُوا أَمر السَّاعَة، فبدءوا بإبراهيم وسألوه عَنْهَا، فَقَالَ: لَا علم لي بهَا، ثمَّ ذكرُوا لمُوسَى فَقَالَ: لَا علم لي بهَا، ثمَّ ذكرُوا لعيسى فَقَالَ عِيسَى: إِن الله تَعَالَى عهد إِلَيّ أَنَّهَا دون وحيها وَلَا يعلم وحيها، إِلَّا الله، ثمَّ قَالَ عِيسَى: إِن الله يهبطني إِلَى الأَرْض فأقتل الدَّجَّال ".
ورد الْخَبَر " أَن يَأْجُوج وَمَأْجُوج قد خَرجُوا فيغلبون على الأَرْض، ثمَّ إِن الْمُسلمين يجأرون إِلَى الله، فَيُرْسل الله النغف فِي رقابهم فيهلكون، وَقد تنتن الأَرْض؛ فَيُرْسل الله طيرا كأعناق البخت، فتأخذهم وتلقيهم فِي الْبَحْر ".
وَعَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ قَالَ: إِن النَّاس يحجون ويعتمرون بعد خُرُوج يَأْجُوج وَمَأْجُوج وهلاكهم.
وَقَوله: ﴿فَإِذا هِيَ شاخصة أبصار الَّذين كفرُوا﴾ أَي: منزعجة.
وَقَوله: ﴿يَا ويلنا قد كُنَّا فِي غَفلَة من هَذَا بل كُنَّا ظالمين﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
وَزعم قطرب وَجَمَاعَة من النَّحْوِيين أَن الْآيَة مَا تناولت إِلَّا الْأَصْنَام من حَيْثُ الْعَرَبيَّة؛ لِأَن الله تَعَالَى قَالَ: ﴿وَمَا تَعْبدُونَ من دون الله﴾ وَهَذَا يُقَال فِيمَا لَا يعقل، فَأَما فِيمَن يعقل فَيُقَال: وَمن تبعدون من دون الله.
وَقَوله: ﴿وكل فِيهَا خَالدُونَ﴾ أَي: مقيمون.
وَقَوله: ﴿وهم فِيهَا لَا يسمعُونَ﴾.
قَالَ ابْن مَسْعُود: يجْعَلُونَ فِي توابيت من نَار، وَقَالَ بَعضهم: والتوابيت فِي توابيت، فَلَا يسمعُونَ وَلَا يبصرون شَيْئا، ويظن كل وَاحِد أَنه لَا يعذب غَيره؛ لِئَلَّا يكون لَهُ تسلى الأسوة، وَهَذَا الْخَبَر لَيْسَ من قَول ابْن مَسْعُود.
وَيُقَال: سبقت لَهُم منا السَّعَادَة، وَيُقَال: وَجَبت لَهُم الْجنَّة.
قَوْله: ﴿أُولَئِكَ عَنْهَا مبعدون﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
وَقَوله: ﴿وهم فِيمَا اشتهت أنفسهم خَالدُونَ﴾ أَي: مقيمون.
وَقَوله: ﴿وتتلقاهم الْمَلَائِكَة﴾ أَي: تستقبلهم الْمَلَائِكَة.
وَقَوله: ﴿هَذَا يومكم الَّذِي كُنْتُم توعدون﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
وَقَوله: ﴿كطي السّجل للكتب﴾ رُوِيَ عَن ابْن إِسْحَاق أَن السّجل كَاتب للنَّبِي، وَهُوَ قَول غَرِيب. وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن السّجل ملك، وَالْقَوْل الثَّالِث - وَهُوَ أصح الْأَقْوَال - أَن السّجل هُوَ الصَّحِيفَة.
وَقَوله: ﴿للكتب﴾ أَي: لأجل مَا كتب، فَمَعْنَاه: كطي الصَّحِيفَة لأجل الْمَكْتُوب.
وَقَوله: ﴿كَمَا بدأنا أول خلق نعيده﴾ أَي: قدرتنا على إِعَادَة الْخلق كقدرتنا على إنشائه.
وَقَوله: ﴿إِنَّا كُنَّا فاعلين﴾ أَي: قَادِرين عَلَيْهِ، وَقد ورد فِي هَذِه الْآيَة خبر صَحِيح وَهُوَ مَا روى سعيد بن جُبَير عَن ابْن عَبَّاس أَن النَّبِي قَالَ: " يحْشر النَّاس يَوْم الْقِيَامَة حُفَاة عُرَاة غرلًا "، وَفِي رِوَايَة: " إِنَّكُم تحشرون يَوْم الْقِيَامَة حُفَاة عُرَاة غرلًا " ثمَّ قَرَأَ: ﴿كَمَا بدأنا أول خلق نعيده﴾، وَأول من يكسى إِبْرَاهِيم - عَلَيْهِ السَّلَام - ويجاء بِقوم من أمتِي فَيُؤْمَر بهم إِلَى النَّار، فَأَقُول: يَا رب، أَصْحَابِي، فَيَقُول: إِنَّهُم لم يزَالُوا مرتدين على أَعْقَابهم مُنْذُ فَارَقْتهمْ، فَأَقُول كَمَا قَالَ العَبْد الصَّالح: ﴿وَكنت عَلَيْهِم شَهِيدا مَا دمت فيهم فَلَمَّا توفيتني كنت أَنْت الرَّقِيب عَلَيْهِم وَأَنت على كل شَيْء شَهِيد﴾ وَفِي رِوَايَة " أَقُول: سحقا لأهل النَّار ". قَالَ الشَّيْخ الإِمَام: أَنا بِهَذَا الحَدِيث الْمَكِّيّ بن عبد الرَّزَّاق، قَالَ: أَنا جدي أَبُو الْهَيْثَم، قَالَ الْفربرِي قَالَ البُخَارِيّ، قَالَ مُحَمَّد بن كثير، عَن سُفْيَان الثَّوْريّ، عَن الْمُغيرَة بن النُّعْمَان، عَن سعيد بن جُبَير... الْخَبَر.
وَقَوله: ﴿أَن الأَرْض يَرِثهَا عبَادي الصالحون﴾ قَالَ ابْن عَبَّاس: وَالْأَرْض أَرض الْجنَّة. وَعنهُ أَيْضا: أَن الأَرْض هِيَ أَرَاضِي الْكفَّار، يفتحها الله للْمُسلمين، ويجعلها لَهُم، وَقيل إِن الأَرْض هِيَ الأَرْض المقدسة.
وَقَوله: ﴿لقوم عابدين﴾ قيل: عَالمين، وَقيل: مُطِيعِينَ.
وَقَوله: ﴿وَإِن أَدْرِي أَقَرِيب أم بعيد﴾ يَعْنِي: مَا أَدْرِي أَقَرِيب أم بعيد ﴿مَا توعدون﴾ ؟.
وَقَوله: ﴿ومتاع إِلَى حِين﴾ أَي: إِلَى الْقِيَامَة، وَقيل: إِلَى الْمَوْت.
وَقَوله: ﴿وربنا الرَّحْمَن الْمُسْتَعَان على مَا تصفون﴾ أَي: تكذبون. وَمثله قَوْله تَعَالَى: ﴿سيجزيهم وَصفهم﴾ أَي: سيجزيهم جَزَاء كذبهمْ، وَيُقَال: على مَا تصفون أَي: تكذبون.
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
﴿يَا أَيهَا النَّاس اتَّقوا ربكُم إِن زَلْزَلَة السَّاعَة شَيْء عَظِيم (١) يَوْم ترونها تذهل كل﴾تَفْسِير سُورَة الْحَج
قَالَ ابْن عَبَّاس فِي أظهر الرِّوَايَتَيْنِ: هِيَ مَكِّيَّة إِلَّا قَوْله تَعَالَى: ﴿هَذَانِ خصمان اخْتَصَمُوا فِي رَبهم﴾ وآيتين بعد هَذِه الْآيَة، وَقَوله تَعَالَى: ﴿أذن للَّذين يُقَاتلُون بِأَنَّهُم ظلمُوا..﴾ الْآيَة، وَعَن ابْن عَبَّاس فِي رِوَايَة أُخْرَى: أَن هَذِه السُّورَة مَدَنِيَّة إِلَّا آيَات فِيهَا نزلت بِمَكَّة.
سورة الأنبياء
سورةُ (الأنبياء) سورةٌ مكية، ذكَرتِ الكثيرَ من قِصص الأنبياء بغرضِ بيان دَوْرهم في نشرِ الاعتقاد الصحيح، والدعوةِ إلى الله، وكذا أبانت عن مقصدٍ آخرَ عظيم؛ وهو قربُ الحساب؛ كما دلَّتْ على ذلك مجموعةُ قِصَصِ الأنبياء المذكورة، وهذا ما أشارت إليه فاتحةُ السورة من قُرْبِ الحساب، وغفلةِ الناس عن ذلك، وفي ذلك دلائلُ كثيرة على وَحْدانية الله عز وجل، وتنزيهِه عن العبث.
ترتيبها المصحفي
21نوعها
مكيةألفاظها
1174ترتيب نزولها
73العد المدني الأول
111العد المدني الأخير
111العد البصري
111العد الكوفي
112العد الشامي
111* قوله تعالى: {إِنَّ اْلَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا اْلْحُسْنَىٰٓ أُوْلَٰٓئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} [الأنبياء: 101]:
عن ابنِ عباسٍ رضي الله عنهما، قال: «آيةٌ في كتابِ اللهِ لا يَسألُني الناسُ عنها، ولا أدري أعرَفوها فلا يَسألوني عنها أم جَهِلوها فلا يَسألوني عنها؟! قيل: وما هي؟ قال: لمَّا نزَلتْ {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اْللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَٰرِدُونَ} [الأنبياء: 98]، شَقَّ ذلك على أهلِ مكَّةَ، وقالوا: شتَمَ مُحمَّدٌ آلهتَنا، فقامَ ابنُ الزِّبَعْرَى، فقال: ما شأنُكم؟ قالوا: شتَمَ مُحمَّدٌ آلهتَنا، قال: وما قال؟ قالوا: قال: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اْللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَٰرِدُونَ} [الأنبياء: 98]، قال: ادعُوه لي، فدُعِيَ مُحمَّدٌ صلى الله عليه وسلم، فقال ابنُ الزِّبَعْرَى: يا مُحمَّدُ، هذا شيءٌ لآلهتِنا خاصَّةً أم لكلِّ مَن عُبِدَ مِن دُونِ اللهِ؟ قال: «بل لكلِّ مَن عُبِدَ مِن دُونِ اللهِ عز وجل»، قال: فقال: خصَمْناه ورَبِّ هذه البَنِيَّةِ، يا مُحمَّدُ، ألستَ تزعُمُ أنَّ عيسى عبدٌ صالحٌ، وعُزَيرًا عبدٌ صالحٌ، والملائكةَ عبادٌ صالحون؟ قال: «بلى»، قال: فهذه النصارى يعبُدون عيسى، وهذه اليهودُ تعبُدُ عُزَيرًا، وهذه بنو مَلِيحٍ تعبُدُ الملائكةَ، قال: فضَجَّ أهلُ مكَّةَ؛ فنزَلتْ: {إِنَّ اْلَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا اْلْحُسْنَىٰٓ} عيسى وعُزَيرٌ والملائكةُ {أُوْلَٰٓئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} [الأنبياء: 101]، قال: ونزَلتْ: {وَلَمَّا ضُرِبَ اْبْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ} [الزخرف: 57]؛ وهو الضَّجيجُ». "شرح مشكل الآثار" للطَّحاويِّ (986).
قال الشيخُ السعديُّ رحمه الله في هذه الآيةِ: «ودخولُ آلهة المشركين النارَ: إنما هو الأصنامُ، أو مَن عُبِدَ وهو راضٍ بعبادته، وأما المسيح، وعُزَيرٌ، والملائكة، ونحوُهم ممَّن عُبِد من الأولياء: فإنهم لا يُعذَّبون فيها، ويدخلون في قوله: {إِنَّ اْلَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا اْلْحُسْنَىٰٓ}؛ أي: سبَقتْ لهم سابقةُ السعادة في علمِ الله، وفي اللَّوْحِ المحفوظ، وفي تيسيرِهم في الدنيا لليُسْرى والأعمالِ الصالحة، {أُوْلَٰٓئِكَ عَنْهَا}؛ أي: عن النار، {مُبْعَدُونَ} فلا يدخُلونها، ولا يكونون قريبًا منها، بل يُبعَدون عنها غايةَ البُعْدِ؛ حتى لا يَسمَعوا حسيسَها، ولا يَرَوْا شخصَها». "تفسير السعدي" (ص531).
* سورة (الأنبياء):
سُمِّيتْ سورة (الأنبياء) بهذا الاسمِ؛ لحديثها عن الأنبياء، ودَوْرِهم في تصحيح العقيدة، وتذكير البشرية.
* تُعَدُّ سورة (الأنبياء) من قديم ما تعلَّمه الصحابةُ من النبي صلى الله عليه وسلم:
عن عبد الرَّحمنِ بن يَزيدَ بن جابرٍ، قال: «سَمِعْتُ ابنَ مسعودٍ يقولُ في (بَنِي إسرائِيلَ)، و(الكَهْفِ)، و(مَرْيَمَ)، و(طه)، و(الأنبياءِ): إنَّهُنَّ مِن العِتَاقِ الأُوَلِ، وهُنَّ مِن تِلادي». أخرجه البخاري (4994).
قال أبو عُبَيدٍ: «قولُه: «مِن تِلَادي» : يعني: مِن قديمِ ما أخَذْتُ مِن القرآنِ؛ وذلك أنَّ هذه السُّوَرَ نزَلتْ بمكَّةَ». "فضائل القرآن" للقاسم بن سلام (ص247).
جاءت موضوعاتُ سورة (الأنبياء) على النحو التالي:
1. غفلة الناس عن الساعة، وإعراضهم عن القرآن (١-٦).
2. الإنذار بالوحي سمةٌ مشتركة بين الرسل عليهم السلام (٧-١٥).
3. دلائل الوَحْدانية والقدرة، وتنزيهُه تعالى عن العبث (١٦-٣٣).
4. المصير المحتوم، وعناية الله بخَلْقه (٣٤-٤٧).
5. دعوة الأنبياء (٤٨-٩١).
6. وَحْدة الملة، وعدل الجزاء (٩٢-١٠٦).
7. ختام سلسلة الأنبياء رحمةٌ مهداة (١٠٧- ١٢١).
ينظر: "التفسير الموضوعي للقرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (5 /5).
لسورة (الأنبياء) مقصدانِ عظيمانِ:
* الأول: بيانُ معالمِ التوحيد، ودَوْر الأنبياء في تصحيح العقيدة، وتذكير البشرية.
* والثاني: الاستدلال على تحقُّقِ الساعة وقُرْبِها، ولو بالموت، ووقوعِ الحساب فيها على الجليل والحقير؛ لأن مُوجِدَها لا شريكَ له يعُوقُه عنها، وهو مَن لا يُبدَّل القولُ لديه، والدالُّ على ذلك أوضَحَ دَلالةٍ: مجموعُ قِصَصِ جماعةٍ ممَّن ذُكِر فيها من الأنبياء عليهم السلام، ولا تستقلُّ قصةٌ منها استقلالًا ظاهرًا لجميع ذلك.
ينظر: "التفسير الموضوعي للقرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (1 /5)، و"مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور" للبقاعي (2 /268).