تفسير سورة الأنبياء

أحكام القرآن

تفسير سورة سورة الأنبياء من كتاب أحكام القرآن
لمؤلفه الجصاص . المتوفي سنة 370 هـ

قال الله تعالى :﴿ وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ في الحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ القَوْمِ وكُنَّا لحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وكلاًّ آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً ﴾. حدثنا عبدالله بن محمد بن إسحاق المروزي قال : حدثنا الحسن بن أبي الربيع الجرجاني قال : أخبرنا عبدالرزاق عن معمر عن قتادة :﴿ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ القَوْمِ ﴾ قال :" في حَرْثِ قوم ". وقال معمر : قال الزهري :" النَّفْشُ لا يكون إلا بالليل والهمل بالنهار ".
وقال قتادة " فَقَضَى أن يأخذوا الغنم ففهّمها الله سليمان، فلما أخبر بقضاء داود عليه السلام قال لا ولكن خذوا الغنم فلكم ما خرج من رَسْلِها وأولادها وأصوافها إلى الحَوْلِ ".
وروى أبو إسحاق عن مرة عن مسروق :﴿ وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ ﴾ قال :" كان الحرث كَرْماً فنفشت فيه ليلاً فاجتمعوا إلى داود فقضى بالغنم لأصحاب الحرث، فمروا بسليمان فذكروا ذلك له فقال : أولاً تدفع الغنم إلى هؤلاء فيصيبون منها ويقوم هؤلاء على حرثهم حتى إذا عاد كما كان ردوا عليهم ؛ فنزلت :﴿ فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ ﴾. ورُوي عن عليّ بن زيد عن الحسن عن الأحنف عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه في قصة داود وسليمان.
قال أبو بكر : فمن الناس من يقول إذا نفشت ليلاً في زرع رجل فأفسدته أن على صاحب الغنم ضمان ما أفسدت، وإن كان نهاراً لم يضمن شيئاً، وأصحابنا لا يرون في ذلك ضماناً لا ليلاً ولا نهاراً إذا لم يكن صاحب الغنم هو الذي أرسلها فيها. واحتجَّ الأوَّلون بقضية داود وسليمان عليهما السلام واجتماعهما على إيجاب الضمان، وبما رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو ما حدثنا أبو داود قال : حدثنا أحمد بن محمد بن ثابت المروزي قال : حدثنا عبدالرزاق قال : حدثنا معمر عن الزهري عن حرام بن مُحَيِّصة عن أبيه :" أن ناقةً للبراء بن عازب دخلت حائط رجل فأفسدته، فقَضَى رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهل الأموال حِفْظَها بالنهار وعلى أهل المواشي حِفْظَها بالليل ". وحدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا محمود بن خالد قال : حدثنا الفريابيّ عن الاوزاعي عن الزهري عن حرام بن محيصة الأنصاري عن البراء بن عازب قال :" كانت له ناقة ضارية فدخلت حائطاً فأفسدت فيه، فكلّم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها فَقَضى أن حِفْظَ الحوائط بالنهار على أهلها وأن حِفْظَ الماشية بالليل على أهلها وأن على أهل الماشية ما أصابت ماشيتهم بالليل ".
قال أبو بكر : ذكر في الحديث الأوّل حرام بن محيصة عن أبيه أن ناقة للبراء، وذكر في هذا الحديث حرام بن محيصة عن البراء بن عازب، ولم يذكر في الحديث الأول ضمان ما أصابت الماشية ليلاً وإنما ذكر الحفظ فقط، وهذا يدل على اضطراب الحديث بمَتْنِهِ وسَنَده. وذكر سفيان بن حسين عن الزهري عن حرام بن محيصة فقال : ولم يجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه شيئاً، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم :﴿ ودَاوُدَ وسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ في الحَرْثِ ﴾، ولا خلاف بين أهل العلم أن حكم داود وسليمان بما حكما به من ذلك منسوخٌ ؛ وذلك لأن داود عليه السلام حكم بدفع الغنم إلى صاحب الحَرْثِ وحكم سليمان له بأولادها وأصوافها، ولا خلاف بين المسلمين أن من نَفَشَتْ غَنَمُهُ في حرث رجل أنه لا يجب عليه تسليم الغنم ولا تسليم أولادها وألبانها وأصوافها إليه، فثبت أن الحُكْمَيْنِ جميعاً منسوخان بشريعة نبينا صلى الله عليه وسلم.
فإن قيل : قد تضمنت القصة معاني، منها : وجوب الضمان على صاحب الغنم، ومنها كيفية الضمان ؛ وإنما المنسوخ منه كيفية الضمان، ولم يثبت أن الضمان نفسه منسوخ. قيل له : قد ثبت نسخ ذلك أيضاً على لسان النبي صلى الله عليه وسلم بخبر قد تلقّاه الناس بالقبول واستعملوه، رَوَى أبو هريرة وهزيل بن شرحبيل عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" العَجْمَاءُ جُبَارٌ " وفي بعض الألفاظ :" جَرْحُ العَجْمَاءِ جُبَارٌ "، ولا خلاف بين الفقهاء في استعمال هذا الخبر في البهيمة المنفلتة إذا أصابت إنساناً أو مالاً أنه لا ضمان على صاحبها إذا لم يرسلها هو عليه، فلما كان هذا الخبر مستعملاً عند الجميع وكان عمومه ينفي ضمان ما تصيبه ليلاً أو نهاراً ثبت بذلك نَسْخُ ما ذكر في قصة داود وسليمان عليهما السلام ونَسْخُ ما ذكر في قصة البراء أن فيها إيجاب الضمان ليلاً. وأيضاً سائر الأسباب الموجبة للضمان لا يختلف فيها الحكم بالنهار والليل في إيجاب الضمان أو نفيه، فلما اتفق الجميع على نفي ضمان ما أصابت الماشية نهاراً وجب أن يكون ذلك حكمها ليلاً، وجائز أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم إنما أوجب الضمان في حديث البراء إذا كان صاحبها هو الذي أرسلها فيه ويكون فائدة الخبر أنه معلوم أن السائق لها بالليل بين الزروع والحوائط لا يخلو من نَفْشِ بعض غنمه في زروع الناس وإن لم يعلم بذلك، فأبان النبي صلى الله عليه وسلم عن حكمها إذا أصابت زرعاً، ويكون فائدة الخبر إيجاب الضمان بسَوْقِهِ وإرساله في الزروع وإن لم يعلم بذلك وبين تساوي حكم العلم والجهل فيه. وجائز أيضاً أن تكون قضية داود وسليمان كانت على هذا الوجه، بأن يكون صاحبها أرسلها ليلاً وساقها وهو غير عالم بنَفْشِها في حَرْثِ القوم، فأوجبا عليه الضمان ؛ وإذا كان ذلك محتملاً لم تثبت فيه دلالة على موضع الخلاف.
وقد تنازع الفريقان من المختلفين في حكم المجتهد في الحادثة القائلون منهم بأن الحق واحد والقائلون بأن الحق في جميع أقاويل المختلفين، فاستدلَّ كل منهم بالآية على قوله ؛ وذلك لأن الذين قالوا بأن الحق في واحد زعموا أنه لما قال تعالى :﴿ فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ ﴾ فَخَصَّ سُلَيمان بالفهم دلَّ ذلك على أنه كان المصيب للحق عند الله دون داود، إذْ لو كان الحق في قوليهما لما كان لتخصيص سليمان بالفهم دون داود معنى. وقال القائلون بأن كل مجتهد مصيب : لما لم يعنّف داود على مقالته ولم يحكم بتخطئته دل على أنهما جميعاً كانا مصيبين، وتخصيصه لسليمان بالتفهيم لا يدلّ على أن داود كان مخطئاً ؛ وذلك لأنه جائز أن يكون سليمان أصاب حقيقة المطلوب فلذلك خُصَّ بالتفهيم ولم يُصِبْ داودُ عين المطلوب، وإن كان مصيباً لما كلف.
ومن الناس من يقول : إن حكم داود وسليمان جميعاً كان من طريق النصِّ لا من جهة الاجتهاد، ولكن داود لم يكن قد أبرم الحكم ولا أمْضَى القضية بما قال، أو أن يكون قوله ذلك على وجه الفُتْيَا لا على جهة إنفاذ القضاء بما أفتى به، أو كانت قضية معلقة بشريطة لم تفصل بعد، فأوحى الله تعالى إلى سليمان بالحكم الذي حكم به ونسخ به الحكم الذي كان داود أراد أن يُنْفِذَه ؛ قالوا : ولا دلالة في الآية على أنهما قالا ذلك من جهة الرأي، قالوا : وقوله :﴿ فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ ﴾ يعني به تفهيمه الحكم الناسخ. وهذا قول من لا يجيز أن يكون حكم النبي صلى الله عليه وسلم من طريق الاجتهاد والرأي وإنما يقوله من طريق النص.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٧٨:قال الله تعالى :﴿ وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ في الحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ القَوْمِ وكُنَّا لحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وكلاًّ آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً ﴾. حدثنا عبدالله بن محمد بن إسحاق المروزي قال : حدثنا الحسن بن أبي الربيع الجرجاني قال : أخبرنا عبدالرزاق عن معمر عن قتادة :﴿ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ القَوْمِ ﴾ قال :" في حَرْثِ قوم ". وقال معمر : قال الزهري :" النَّفْشُ لا يكون إلا بالليل والهمل بالنهار ".
وقال قتادة " فَقَضَى أن يأخذوا الغنم ففهّمها الله سليمان، فلما أخبر بقضاء داود عليه السلام قال لا ولكن خذوا الغنم فلكم ما خرج من رَسْلِها وأولادها وأصوافها إلى الحَوْلِ ".
وروى أبو إسحاق عن مرة عن مسروق :﴿ وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ ﴾ قال :" كان الحرث كَرْماً فنفشت فيه ليلاً فاجتمعوا إلى داود فقضى بالغنم لأصحاب الحرث، فمروا بسليمان فذكروا ذلك له فقال : أولاً تدفع الغنم إلى هؤلاء فيصيبون منها ويقوم هؤلاء على حرثهم حتى إذا عاد كما كان ردوا عليهم ؛ فنزلت :﴿ فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ ﴾. ورُوي عن عليّ بن زيد عن الحسن عن الأحنف عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه في قصة داود وسليمان.
قال أبو بكر : فمن الناس من يقول إذا نفشت ليلاً في زرع رجل فأفسدته أن على صاحب الغنم ضمان ما أفسدت، وإن كان نهاراً لم يضمن شيئاً، وأصحابنا لا يرون في ذلك ضماناً لا ليلاً ولا نهاراً إذا لم يكن صاحب الغنم هو الذي أرسلها فيها. واحتجَّ الأوَّلون بقضية داود وسليمان عليهما السلام واجتماعهما على إيجاب الضمان، وبما رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو ما حدثنا أبو داود قال : حدثنا أحمد بن محمد بن ثابت المروزي قال : حدثنا عبدالرزاق قال : حدثنا معمر عن الزهري عن حرام بن مُحَيِّصة عن أبيه :" أن ناقةً للبراء بن عازب دخلت حائط رجل فأفسدته، فقَضَى رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهل الأموال حِفْظَها بالنهار وعلى أهل المواشي حِفْظَها بالليل ". وحدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا محمود بن خالد قال : حدثنا الفريابيّ عن الاوزاعي عن الزهري عن حرام بن محيصة الأنصاري عن البراء بن عازب قال :" كانت له ناقة ضارية فدخلت حائطاً فأفسدت فيه، فكلّم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها فَقَضى أن حِفْظَ الحوائط بالنهار على أهلها وأن حِفْظَ الماشية بالليل على أهلها وأن على أهل الماشية ما أصابت ماشيتهم بالليل ".
قال أبو بكر : ذكر في الحديث الأوّل حرام بن محيصة عن أبيه أن ناقة للبراء، وذكر في هذا الحديث حرام بن محيصة عن البراء بن عازب، ولم يذكر في الحديث الأول ضمان ما أصابت الماشية ليلاً وإنما ذكر الحفظ فقط، وهذا يدل على اضطراب الحديث بمَتْنِهِ وسَنَده. وذكر سفيان بن حسين عن الزهري عن حرام بن محيصة فقال : ولم يجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه شيئاً، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم :﴿ ودَاوُدَ وسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ في الحَرْثِ ﴾، ولا خلاف بين أهل العلم أن حكم داود وسليمان بما حكما به من ذلك منسوخٌ ؛ وذلك لأن داود عليه السلام حكم بدفع الغنم إلى صاحب الحَرْثِ وحكم سليمان له بأولادها وأصوافها، ولا خلاف بين المسلمين أن من نَفَشَتْ غَنَمُهُ في حرث رجل أنه لا يجب عليه تسليم الغنم ولا تسليم أولادها وألبانها وأصوافها إليه، فثبت أن الحُكْمَيْنِ جميعاً منسوخان بشريعة نبينا صلى الله عليه وسلم.
فإن قيل : قد تضمنت القصة معاني، منها : وجوب الضمان على صاحب الغنم، ومنها كيفية الضمان ؛ وإنما المنسوخ منه كيفية الضمان، ولم يثبت أن الضمان نفسه منسوخ. قيل له : قد ثبت نسخ ذلك أيضاً على لسان النبي صلى الله عليه وسلم بخبر قد تلقّاه الناس بالقبول واستعملوه، رَوَى أبو هريرة وهزيل بن شرحبيل عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" العَجْمَاءُ جُبَارٌ " وفي بعض الألفاظ :" جَرْحُ العَجْمَاءِ جُبَارٌ "، ولا خلاف بين الفقهاء في استعمال هذا الخبر في البهيمة المنفلتة إذا أصابت إنساناً أو مالاً أنه لا ضمان على صاحبها إذا لم يرسلها هو عليه، فلما كان هذا الخبر مستعملاً عند الجميع وكان عمومه ينفي ضمان ما تصيبه ليلاً أو نهاراً ثبت بذلك نَسْخُ ما ذكر في قصة داود وسليمان عليهما السلام ونَسْخُ ما ذكر في قصة البراء أن فيها إيجاب الضمان ليلاً. وأيضاً سائر الأسباب الموجبة للضمان لا يختلف فيها الحكم بالنهار والليل في إيجاب الضمان أو نفيه، فلما اتفق الجميع على نفي ضمان ما أصابت الماشية نهاراً وجب أن يكون ذلك حكمها ليلاً، وجائز أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم إنما أوجب الضمان في حديث البراء إذا كان صاحبها هو الذي أرسلها فيه ويكون فائدة الخبر أنه معلوم أن السائق لها بالليل بين الزروع والحوائط لا يخلو من نَفْشِ بعض غنمه في زروع الناس وإن لم يعلم بذلك، فأبان النبي صلى الله عليه وسلم عن حكمها إذا أصابت زرعاً، ويكون فائدة الخبر إيجاب الضمان بسَوْقِهِ وإرساله في الزروع وإن لم يعلم بذلك وبين تساوي حكم العلم والجهل فيه. وجائز أيضاً أن تكون قضية داود وسليمان كانت على هذا الوجه، بأن يكون صاحبها أرسلها ليلاً وساقها وهو غير عالم بنَفْشِها في حَرْثِ القوم، فأوجبا عليه الضمان ؛ وإذا كان ذلك محتملاً لم تثبت فيه دلالة على موضع الخلاف.
وقد تنازع الفريقان من المختلفين في حكم المجتهد في الحادثة القائلون منهم بأن الحق واحد والقائلون بأن الحق في جميع أقاويل المختلفين، فاستدلَّ كل منهم بالآية على قوله ؛ وذلك لأن الذين قالوا بأن الحق في واحد زعموا أنه لما قال تعالى :﴿ فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ ﴾ فَخَصَّ سُلَيمان بالفهم دلَّ ذلك على أنه كان المصيب للحق عند الله دون داود، إذْ لو كان الحق في قوليهما لما كان لتخصيص سليمان بالفهم دون داود معنى. وقال القائلون بأن كل مجتهد مصيب : لما لم يعنّف داود على مقالته ولم يحكم بتخطئته دل على أنهما جميعاً كانا مصيبين، وتخصيصه لسليمان بالتفهيم لا يدلّ على أن داود كان مخطئاً ؛ وذلك لأنه جائز أن يكون سليمان أصاب حقيقة المطلوب فلذلك خُصَّ بالتفهيم ولم يُصِبْ داودُ عين المطلوب، وإن كان مصيباً لما كلف.
ومن الناس من يقول : إن حكم داود وسليمان جميعاً كان من طريق النصِّ لا من جهة الاجتهاد، ولكن داود لم يكن قد أبرم الحكم ولا أمْضَى القضية بما قال، أو أن يكون قوله ذلك على وجه الفُتْيَا لا على جهة إنفاذ القضاء بما أفتى به، أو كانت قضية معلقة بشريطة لم تفصل بعد، فأوحى الله تعالى إلى سليمان بالحكم الذي حكم به ونسخ به الحكم الذي كان داود أراد أن يُنْفِذَه ؛ قالوا : ولا دلالة في الآية على أنهما قالا ذلك من جهة الرأي، قالوا : وقوله :﴿ فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ ﴾ يعني به تفهيمه الحكم الناسخ. وهذا قول من لا يجيز أن يكون حكم النبي صلى الله عليه وسلم من طريق الاجتهاد والرأي وإنما يقوله من طريق النص.

سورة الأنبياء
معلومات السورة
الكتب
الفتاوى
الأقوال
التفسيرات

سورةُ (الأنبياء) سورةٌ مكية، ذكَرتِ الكثيرَ من قِصص الأنبياء بغرضِ بيان دَوْرهم في نشرِ الاعتقاد الصحيح، والدعوةِ إلى الله، وكذا أبانت عن مقصدٍ آخرَ عظيم؛ وهو قربُ الحساب؛ كما دلَّتْ على ذلك مجموعةُ قِصَصِ الأنبياء المذكورة، وهذا ما أشارت إليه فاتحةُ السورة من قُرْبِ الحساب، وغفلةِ الناس عن ذلك، وفي ذلك دلائلُ كثيرة على وَحْدانية الله عز وجل، وتنزيهِه عن العبث.

ترتيبها المصحفي
21
نوعها
مكية
ألفاظها
1174
ترتيب نزولها
73
العد المدني الأول
111
العد المدني الأخير
111
العد البصري
111
العد الكوفي
112
العد الشامي
111

* قوله تعالى: {إِنَّ اْلَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا اْلْحُسْنَىٰٓ أُوْلَٰٓئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} [الأنبياء: 101]:

عن ابنِ عباسٍ رضي الله عنهما، قال: «آيةٌ في كتابِ اللهِ لا يَسألُني الناسُ عنها، ولا أدري أعرَفوها فلا يَسألوني عنها أم جَهِلوها فلا يَسألوني عنها؟! قيل: وما هي؟ قال: لمَّا نزَلتْ {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اْللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَٰرِدُونَ} [الأنبياء: 98]، شَقَّ ذلك على أهلِ مكَّةَ، وقالوا: شتَمَ مُحمَّدٌ آلهتَنا، فقامَ ابنُ الزِّبَعْرَى، فقال: ما شأنُكم؟ قالوا: شتَمَ مُحمَّدٌ آلهتَنا، قال: وما قال؟ قالوا: قال: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اْللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَٰرِدُونَ} [الأنبياء: 98]، قال: ادعُوه لي، فدُعِيَ مُحمَّدٌ صلى الله عليه وسلم، فقال ابنُ الزِّبَعْرَى: يا مُحمَّدُ، هذا شيءٌ لآلهتِنا خاصَّةً أم لكلِّ مَن عُبِدَ مِن دُونِ اللهِ؟ قال: «بل لكلِّ مَن عُبِدَ مِن دُونِ اللهِ عز وجل»، قال: فقال: خصَمْناه ورَبِّ هذه البَنِيَّةِ، يا مُحمَّدُ، ألستَ تزعُمُ أنَّ عيسى عبدٌ صالحٌ، وعُزَيرًا عبدٌ صالحٌ، والملائكةَ عبادٌ صالحون؟ قال: «بلى»، قال: فهذه النصارى يعبُدون عيسى، وهذه اليهودُ تعبُدُ عُزَيرًا، وهذه بنو مَلِيحٍ تعبُدُ الملائكةَ، قال: فضَجَّ أهلُ مكَّةَ؛ فنزَلتْ: {إِنَّ اْلَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا اْلْحُسْنَىٰٓ} عيسى وعُزَيرٌ والملائكةُ {أُوْلَٰٓئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} [الأنبياء: 101]، قال: ونزَلتْ: {وَلَمَّا ‌ضُرِبَ ‌اْبْنُ ‌مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ} [الزخرف: 57]؛ وهو الضَّجيجُ». "شرح مشكل الآثار" للطَّحاويِّ (986).

قال الشيخُ السعديُّ رحمه الله في هذه الآيةِ: «ودخولُ آلهة المشركين النارَ: إنما هو الأصنامُ، أو مَن عُبِدَ وهو راضٍ بعبادته، وأما المسيح، وعُزَيرٌ، والملائكة، ونحوُهم ممَّن عُبِد من الأولياء: فإنهم لا يُعذَّبون فيها، ويدخلون في قوله: {إِنَّ اْلَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا اْلْحُسْنَىٰٓ}؛ أي: سبَقتْ لهم سابقةُ السعادة في علمِ الله، وفي اللَّوْحِ المحفوظ، وفي تيسيرِهم في الدنيا لليُسْرى والأعمالِ الصالحة، {أُوْلَٰٓئِكَ عَنْهَا}؛ أي: عن النار، {مُبْعَدُونَ} فلا يدخُلونها، ولا يكونون قريبًا منها، بل يُبعَدون عنها غايةَ البُعْدِ؛ حتى لا يَسمَعوا حسيسَها، ولا يَرَوْا شخصَها». "تفسير السعدي" (ص531).

* سورة (الأنبياء):

سُمِّيتْ سورة (الأنبياء) بهذا الاسمِ؛ لحديثها عن الأنبياء، ودَوْرِهم في تصحيح العقيدة، وتذكير البشرية.

* تُعَدُّ سورة (الأنبياء) من قديم ما تعلَّمه الصحابةُ من النبي صلى الله عليه وسلم:

عن عبد الرَّحمنِ بن يَزيدَ بن جابرٍ، قال: «سَمِعْتُ ابنَ مسعودٍ يقولُ في (بَنِي إسرائِيلَ)، و(الكَهْفِ)، و(مَرْيَمَ)، و(طه)، و(الأنبياءِ): إنَّهُنَّ مِن العِتَاقِ الأُوَلِ، وهُنَّ مِن تِلادي». أخرجه البخاري (4994).

قال أبو عُبَيدٍ: «قولُه: «مِن تِلَادي» : يعني: مِن قديمِ ما أخَذْتُ مِن القرآنِ؛ وذلك أنَّ هذه السُّوَرَ نزَلتْ بمكَّةَ». "فضائل القرآن" للقاسم بن سلام (ص247).

جاءت موضوعاتُ سورة (الأنبياء) على النحو التالي:

1. غفلة الناس عن الساعة، وإعراضهم عن القرآن (١-٦).

2. الإنذار بالوحي سمةٌ مشتركة بين الرسل عليهم السلام (٧-١٥).

3. دلائل الوَحْدانية والقدرة، وتنزيهُه تعالى عن العبث (١٦-٣٣).

4. المصير المحتوم، وعناية الله بخَلْقه (٣٤-٤٧).

5. دعوة الأنبياء (٤٨-٩١).

6. وَحْدة الملة، وعدل الجزاء (٩٢-١٠٦).

7. ختام سلسلة الأنبياء رحمةٌ مهداة (١٠٧- ١٢١).

ينظر: "التفسير الموضوعي للقرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (5 /5).

لسورة (الأنبياء) مقصدانِ عظيمانِ:

* الأول: بيانُ معالمِ التوحيد، ودَوْر الأنبياء في تصحيح العقيدة، وتذكير البشرية.

* والثاني: الاستدلال على تحقُّقِ الساعة وقُرْبِها، ولو بالموت، ووقوعِ الحساب فيها على الجليل والحقير؛ لأن مُوجِدَها لا شريكَ له يعُوقُه عنها، وهو مَن لا يُبدَّل القولُ لديه، والدالُّ على ذلك أوضَحَ دَلالةٍ: مجموعُ قِصَصِ جماعةٍ ممَّن ذُكِر فيها من الأنبياء عليهم السلام، ولا تستقلُّ قصةٌ منها استقلالًا ظاهرًا لجميع ذلك.

ينظر: "التفسير الموضوعي للقرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (1 /5)، و"مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور" للبقاعي (2 /268).