ﰡ
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله: ﴿فَاطِرِ السماوات﴾ : إنْ جَعَلْتَ إضافتَه مَحْضَةً كان نعتاً لله، وإنْ جَعَلْتَها غيرَ محضةٍ كان بدلاً. وهو قليلٌ من حيث إنه مشتقٌّ. وهذه قراءةُ العامَّةِ: «فاطر» اسمَ فاعلٍ. والزهريُّ والضحَّاك «فَطَر» فعلاً ماضياً. وفيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنه صلةٌ لموصولٍ محذوفٍ أي: الذي فَطَر، كذا قَدَّره أبو الفضل. ولا يَليق بمذهب البصريين؛ لأنَّ حَذْفَ الموصولِ الاسميِّ لا يجوزُ. وقد تقدَّمَ هذا الخلافُ مُسْتَوْفَى في البقرة. الثاني: أنه حال على إضمار «قد» قاله أبو الفضل أيضاً. الثالث: أنه خبرُ مبتدأ مضمرٍ أي: هو فَطَر. وقد حكى الزمخشري قراءةً تؤيِّد ما ذَهَبَ إليه الرازيُّ فقال: «وقُرِئَ الذي فَطَر وجعل» فصَرَّح بالموصولِ.قوله: «جاعل» العامَّةُ أيضاً على جَرِّه نعتاً أو بدلاً. والحسن بالرفعِ
٣٧٥٨ -....................... | ولا ذاكرَ اللَّهَ إلاَّ قليلاً |
قوله: «يزيدُ» مستأنَفٌ. وما «يَشاء» هو المفعولُ الثاني للزيادة، والأولُ لم يُقْصَدْ، فهو محذوفٌ اقتصاراً، لأنَّ ذِكْرَ قولِه: «في الخَلْق» يُغْني عنه.
قوله: «وما يُمْسِكْ» يجوز أَنْ يكونَ على عمومه، أي: أيَّ شيءٍ أَمْسَكه، مِنْ رحمةٍ أو غيرِها. فعلى هذا التذكيرُ في قوله: / «له» ظاهرٌ؛ لأنه عائدٌ على ما يُمْسِك. ويجوزُ أَنْ يكونَ قد حُذِفَ المبيَّن من الثاني لدلالةِ الأولِ عليه تقديرُه: وما يُمْسِكْ مِنْ رحمةٍ. فعلى هذا التذكيرُ في قولِه: «له» على لفظِ «ما» وفي قولِه أولاً ﴿فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا﴾ التأنيثُ فيه حُمِل على معنى «ما»، لأنَّ المرادَ به الرحمةُ فحُمِل أولاً على المعنى، وفي الثاني على اللفظِ. والفتحُ والإِمساكُ استعارةٌ حسنةٌ.
وقرأ الباقون بالرفع. وفيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدها: أنه خبرُ المبتدأ. والثاني: أنه صفةٌ ل «خالق» على الموضعِ. والخبرُ: إمَّا محذوفٌ، وإمَّا «يَرْزُقُكم». والثالث: أنه مرفوعٌ باسم الفاعل على جهةِ الفاعليةِ؛ لأنَّ اسمَ الفاعلِ قد اعْتَمَدَ على أداةِ الاستفهام. إلاَّ أنَّ الشيخَ تَوَقَّفَ في مثلِ هذا؛ من حيث إنَّ اسم الفاعل وإن اعتمدَ، إلاَّ أنه لم تُحْفَظْ فيه زيادةُ «مِنْ» قال: «فيُحتاج مثلُه إلى سَماعٍ» ولا يَظهرُ التوقُّف؛ فإنَّ شروط الزيادةِ والعملِ موجودةٌ. وعلى هذا الوجهِ ف «يَرْزُقُكم» : إمَّا صفةٌ أو مستأنَفٌ. وجَعَل الشيخُ استئنافَه أَوْلَى قال: «لانتفاءِ صِدْقِ» خالق «على» غير الله «بخلافِ كونِه صفةً فإنَّ الصفةَ تُقَيِّد، فيكون ثَمَّ خالقٌ غيرُ اللَّهِ لكنه ليس برازق».
وقرأ الفضل بن إبراهيم النَّحْوِيُّ «غيرَ» بالنصبِ على الاستثناء. والخبر «
وجرُّه مِنْ وجهَين: النعتِ أو البدليةِ من «أصحابِ». وأحسنُ الوجوهِ: الأولُ لمطابقةِ التقسيم. واللامُ في «ليكونوا» : إمَّا للعلَّةِ على المجازِ، مِنْ إقامةِ المُسَبَّبِ مُقام السببِ، وإمَّا للصيروة.
والعامَّةُ على «زُيِّن» مبنياً للمفعولِ «سوءُ» رُفِعَ به. وعبيد بن عمير «زَيَّنَ» مبنياً للفاعلِ وهو اللَّهُ تعالى، «سُوْءَ» نُصِبَ به. وعنه «أَسْوَأُ» بصيغةِ التفضيلِ منصوباً. وطلحة «أمَنْ» بغيرِ فاءٍ.
قال أبو الفضل: «الهمزةُ للاستخبارِ بمعنى العامَّةِ، للتقرير. ويجوزُ أَنْ يكونَ بمعنى حرفِ النداء، فَحَذَفَ التمامَ كما حَذَفَ مِن المشهورِ الجوابَ. يعني أنه يجوزُ في هذه القراءةِ أَنْ تكونَ الهمزةُ للنداء، وحُذِف التمامُ، أي: ما نُوْدي لأَجْلِه، كأنه قيل: يا مَنْ زُيِّن له سوءُ عملِه ارْجِعْ إلى الله وتُبْ إليه. وقوله:» كما حُذِفَ الجوابُ «يعني به خبرَ المبتدأ الذي تقدَّم تقريرُه.
قوله:» فلا تَذْهَبْ «العامَّة على فتح التاءِ والهاءِ مُسْنداً ل» نفسُك «مِنْ بابِ» لا أُبَيْنَّك ههنا «أي: لا تَتَعاطَ أسبابَ ذلك. وقرأ أبو جعفر وقتادة والأشهبُ بضمِّ التاء وكسرِ الهاء مُسْتداً لضميرِ المخاطب» نَفْسَك «مفعولٌ به.
قوله:» حَسَراتٍ «/ فيه وجهان، أحدُهما: أنه مفعولٌ مِنْ أجلِه أي: لأجلِ الحَسَرات. والثاني: أنه في موضعِ الحالِ على المبالغةِ، كأنَّ كلَّها
٣٧٥٩ - مَشَقَ الهَواجِرُ لَحْمَهُنَّ مع السُّرى | حتى ذَهَبْنَ كَلاكِلاً وصُدورا |
٣٧٦٠ - فعلى إثْرِهِمْ تَسَاقَطُ نَفْسي | حَسَراتٍ وذكْرُهُمْ لي سَقامُ |
٣٧٦١ - ألا مَنْ مُبْلِغٌ فِتْيانَ فَهْمٍ | بما لاقَيْتُ عند رَحا بِطانِ |
بأنِّي قد لَقِيْتُ الغُوْلَ تَهْوِيْ | بسَهْبٍ كالصحيفةِ صَحْصَحانِ |
كِلانا نَضْوُ أرضٍ | أخو سَفَرٍ فَخَلِّي لي مكانِي |
فشَدَّتْ شَدَّةً نَحْوي فأهْوَتْ | لها كَفِّي بمَصْقولٍ يَمانِ |
فأَضْرِبُها بلا دَهْشٍ فَخَرَّتْ | صَريعاً لليدَيْن وللجِرانِ |
وقوله: «فَسُقْناه» و «أَحْيَيْنا» مَعْدولاً بهما عن لفظِ الغيبة إلى ما هو أَدْخَلُ في الاختصاصِ وأَدَلُّ عليه.
قوله: «كذلك النُّشورُ» مبتدأٌ، وخبرُه مقدَّمٌ عليه، والإِشارةُ إلى إحياءِ الأرضِ بالمطرِ، والتشبيهُ واضحٌ بليغٌ.
قوله: «إليه يَصْعَدُ» العامَّةُ على بنائِه للفاعل مِنْ «صَعِد» ثلاثياً، «الكَلِمُ الطيِّبُ» برفعِهما فاعِلاً ونعتاً. وعلي وابن مسعود «يُصْعِدُ» مِنْ أَصْعَدَ، «الكلمَ الطيبَ» منصوبان على المفعولِ والنعت. وقُرئ «يُصْعَدُ» مبنيَّاً للمفعول. وقال ابنُ عطية: «قرأ الضحَّاك» يُصْعد «بضم الياء» لكنه لم يُبَيِّن كونَه مبنيَّاً للفاعلِ أو للمفعول.
قوله: «والعملُ الصالحُ» العامَّةُ على الرفعِ. وفيه وجهان، أحدهما: أنَّه معطوفٌ على «الكلمُ الطيبُ» فيكون صاعداً أيضاً. و «يَرْفَعُه» على هذا استئنافُ إخبارٍ من اللَّهِ تعالى بأنه يرفعُهما، وإنِّما وُحِّد الضميرُ، وإنْ كان المرادُ الكَلِمَ والعملَ ذهاباً بالضميرِ مَذْهَبَ اسمِ الإِشارة، كقوله: ﴿عَوَانٌ بَيْنَ ذلك﴾ [البقرة: ٦٨]. وقيل: لاشتراكِهما في صفةٍ واحدةٍ، وهي الصعودُ. والثاني: أنه مبتدأٌ،
وقرأ ابن أبي عبلة وعيسى بنصبِ «العمل الصالح» على الاشتغالِ، والضميرُ المرفوعُ للكلم أو للَّهِ تعالى، والمنصوبُ للعملِ.
قوله: «يَمْكُرون السَّيِّئات» يمكرون أصلُه قاصِرٌ فعلى هذا ينتصِبُ «السيِّئاتِ» على نعتِ مصدرٍ محذوفٍ أي: المَكَراتِ/ السيئاتِ، أو نعتٍ لمضافٍ إلى المصدر أي: أصناف المَكَراتِ السيئاتِ. ويجوزُ أَنْ يكونَ «يَمْكُرون» مضمَّناً معنى يَكْسِبُون «فينتصِبُ» السيئاتِ «مفعولاً به.
قوله:» هو يَبُوْرُ «» هو «مبتدأٌ و» يبورُ «خبرُه. والجملةُ خبرُ قولِه:» ومَكْرُ أولئك «. وجَوَّزَ الحوفيُّ وأبو البقاء أَنْ يكونَ» هو «فَصْلاً بين المبتدأ وخبرِه. وهذا مردودٌ: بأنَّ الفَصْلَ لا يقعُ قبل الخبرِ إذا كان فعلاً، إلاَّ أن الجرجاني
قوله: «مِنْ عُمُرِه» في هذا الضميرِ قولان، أحدهما: أنه يعودُ على مُعَمَّرٍ آخرَ؛ لأنَّ المرادَ بقوله: «مِنْ مُعَمَّر» الجنسُ فهو يعودُ عليه لفظاً، لا معنى، لأنه بعدَ أَنْ فَرَضَ كونَه معمَّراً، استحال أَنْ يَنْقُصَ مِنْ عمرِه نفسِه، كقول الشاعر:
٣٧٦٢ - وكلُّ أناسٍ قارَبُوا قَيْدَ فَحْلِهم | ونحن خَلَعْنا قيدَه فهو ساربُ |
٣٧٦٣ - حياتُك أَنْفاسٌ تُعَدُّ فكلَّما | مضى نَفَسٌ منكَ انْتَقَصْتَ به جُزْءا |
وقرأ طلحةُ وأبو نهيك «مَلِحٌ» بفتح الميمِ وكسرِ اللام. فقيل: هو مقصورٌ مِنْ مالِح، ومالِحٌ لُغَيَّةٌ شاذةٌ. وقيل: «مَلِحٌ» بالفتحِ والكسرِ لغةٌ في «مِلْحٌ» بالكسرِ والسكون.
قوله: «والذين تَدْعُوْن» العامَّةُ على الخطاب في «تَدْعُون» لقوله: «ربُّكم». وعيسى وسلام ويعقوب - وتُرْوى عن أبي عمرٍو - بياءِ الغَيْبة: إمَّا على الالتفاتِ، وإمَّا على الانتقال إلى الإِخبارِ. والفرقُ بينهما: أنه في الالتفاتِ يكون المرادُ بالضميرَيْن واحداً بخلافِ الثاني؛ فإنهما غَيْران. و «ما يَمْلِكون» هو خبرُ الموصولِ. و «مِنْ قِطْمير» مفعولٌ به، و «مِنْ» فيه مزيدةٌ.
والقِطْميرُ: المشهورُ فيه أنَّه لُفافَةُ النَّواةِ. وهو مَثَلٌ في القِلَّة، كقوله:
٣٧٦٤ - وأبوكَ يَخْصِفُ نَعْلَه مُتَوَرِّكاً | ما يَمْلك المِسْكينُ مِنْ قِطْميرِ |
قوله: ﴿وَلَوْ كَانَ ذَا قربى﴾ [أي:] ولو كان المَدْعُوُّ ذا قُرْبى. وقيل: التقديرُ: ولو كان الداعِي ذا قُرْبى. والمعنيان حسنان. وقُرِئ «ذو» بالرفعِ، على أنها التامَّةُ أي: ولو حَضَرَ/ ذو قُرْبى نحو: «قد كان مِنْ مطْر»، ﴿وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ﴾ [البقرة: ٢٨٠]. قال الزمخشري: «ونَظْمُ الكلامِ أحسن ملاءَمةً للناقصةِ؛ لأنَّ المعنى: على أنَّ المُثْقَلَةَ إذا دَعَتْ أحداً إلى حِمْلِها لا يُحْمَلُ منه شيءٌ، ولو كان مَدْعُوُّها ذا قُرْبى، وهو مُلْتَئِمٌ. ولو قلت: ولو وُجِد ذو قُرْبى لخَرَج عن التئامِه». قال الشيخ: «وهو ملْتَئِمٌ على المعنى الذي ذكَرْناه». قلت: والذي قاله هو «أي: ولو حَضَرَ إذ ذاك ذُو قربى» ثم قال: «وتفسيرُ الزمخشريِّ» كان «- وهو مبنيٌّ للفاعل» يُوْجَدُ «وهو مبنيٌّ للمفعول - تفسيرُ معنى، والذي يفسِّر النحويُّ به» كان «التامَّةَ هو حَدَث وحَضَر ووقَعَ».
قوله: بالغَيْب «حالٌ من الفاعل أي: يَخْشَوْنه غائبين عنه، أو من المفعول أي: غائباً عنهم.
قوله:» ومَنْ تَزَكَّى «قرأ العامَّةُ» تَزَكَّى «تَفَعَّل،» فإنما يَتَزَكَّى «يتفعَّل. وعن
و «لا» في قوله: «ولا الظلماتُ» إلى آخره مكررةٌ لتأكيدِ النفيِ. وقال ابنُ عطية: «دخولُ» لا «إنما هو على نيةِ التَّكْرارِ، كأنه قال: ولا الظلماتُ والنورُ، ولا النورُ والظلماتُ، فاسْتُغْني بذِكْرِ الأوائل عن الثواني، ودَلَّ مذكورُ الكلامِ على مَتْروكِه». قال الشيخ: «وهذا غير مُحْتاجٍ إليه؛ لأنه إذا نُفِي اسْتواؤُهما أولاً فأيُّ فائدةٍ في نَفْي اسْتوائِهما ثانياً» وهو كلامٌ حَسَنٌ إلاَّ أنَّ الشيخَ هنا قال: «فدخولُ» لا «في النفيِ لتأكيدِ معناه، كقوله: ﴿وَلاَ تَسْتَوِي الحسنة وَلاَ السيئة﴾ [فصلت: ٣٤]. قلت: وللناسِ في هذه الآيةِ قولان، أحدهما: ما ذُكِر. الثاني: أنها غيرُ مؤكِّدة؛ إذ يُراد بالحسنةِ الجنسُ، وكذلك» السيئة «فكلُّ واحدٍ منهما متفاوتٌ في جنسِه؛ لأنَّ الحسناتِ درجاتٌ متفاوتةٌ، وكذلك السَّيئاتُ، وسيأتي لك تحقيقُ هذا إنْ شاء اللَّهُ تعالى. فعلى هذا يمكنُ أَنْ يُقالَ بهذا هنا: وهو أنَّ المرادَ نَفْيُ استواءِ الظلماتِ ونَفْيُ استواءِ جنسِ النورِ، إلاَّ أنَّ هذا غيرُ
والحَرُوْرُ: شدةُ حَرِّ الشمس. وقال الزمخشري:» الحَرورُ السَّمُوم، إلاَّ أنَّ السَّمومَ بالنهارِ، والحَرورَ فيه وفي الليل «. قلت: وهذا مذهبُ الفراءِ وغيرِه. وقيل: السَّمومُ بالنهار، والحَرورُ بالليل خاصةً، نقله ابنُ عطية عَن رؤبةَ. وقال:» ليس بصحيحٍ، بل الصحيحُ ما قاله الفراءُ «. وهذا عجيبٌ منه كيف يَرُدُّ على أصحاب اللسانِ بقولِ مَنْ يأخذُ عنهم؟ وقرأ الكسائي في روايةِ زاذانَ عنه» وَمَا تَسْتَوِي الأحيآء «بالتأنيث على معنى الجماعة.
وهذه الأشياءُ جيْءَ بها على سبيلِ الاستعارةِ والتمثيلِ، فالأعمى والبصيرُ، الكافرُ والمؤمنُ، والظلماتُ والنورُ، الكفرُ والإِيمان، والظلُّ والحَرورُ، الحقُّ والباطلُ، والأحياء والأمواتُ، لمَنْ دَخَل في الإِسلامِ لَمَّا ضَرَبَ الأعمى والبصيرَ مَثَلَيْن للكافرِ والمؤمنِ عَقَّبَه بما كلٌّ منها فيه، فالكافرُ في ظلمةٍ، والمؤمنُ في نورٍ؛ لأنَّ البصيرَ وإن كان حديدَ النظر لا بُدَّ له مِنْ ضوءٍ
وقولي «لأجلِ الفاصلةِ» هنا وفي غيرِه من الأماكنِ أحسنُ مِنْ قولِ بَعْضِهم لأجلِ السَّجْع؛ لأنَّ القرآن يُنَزَّه عن ذلِك. وقد منع الجمهورُ/ أَنْ يُقال في القرآن سَجْعٌ، وإنما كرَّر الفعلَ في قوله: ﴿وَمَا يَسْتَوِي الأحيآء﴾ مبالغةً في ذلك؛ لأنَّ المنافاةَ بين الحياةِ والموتِ أتمُّ من المنافاةِ المتقدمةِ، وقدَّم الإِحياءَ لشرفِ الحياةِ ولم يُعِدْ «لا» تأكيداً في قولِه: «الأَعمى والبصير» وكرَّرها في غيره؛ لأنَّ منافاةَ ما بعدَه أتمُّ، فإن الشخصَ الواحدَ قد يكونُ بصيراً ثم يصيرُ أَعْمى، فلا منافاةَ إلاَّ من حيث الوصفُ بخلافِ الظلِّ والحرورِ، والظلماتِ والنور، فإنها متنافيةٌ أبداً، لا يَجْتمع اثنان منها في محلّ، فالمنافاةُ بين الظلِّ والحرورِ وبين الظلمةِ والنورِ دائمةٌ.
فإنْ قيل: الحياةُ والموتُ بمنزلةِ العمى والبصرِ، فإنَّ الجسمَ قد يكون مُتَّصفاً بالحياةِ ثم يتصفُ بالموت. فالجواب: أنَّ المنافاةَ بينهما أتمُّ من المنافاةِ بين الأعمى والبصيرِ؛ لأنَّ الأعمى والبصيرَ يشتركان في إدراكات كثيرةٍ، ولا كذلكَ الحيُّ والميت، فالمنافاةُ بينهما أتمُّ، وأفردَ الأعمى والبصيرَ لأنَّه قابلَ الجنسَ بالجنسِ، إذ قد يُوْجد في أفراد العُمْيان ما يُساوي بعضَ أفرادِ البُصَراءِ كأعمى ذكي له بصيرةٌ يُساوي بصيراً بليداً، فالتفاوتُ بين الجنسين مقطوعٌ به لا بين الأفراد.
وجَمَعَ الظلماتِ لأنها عبارةٌ عن الكفرِ والضلالِ، وطرقُهما كثيرةٌ متشعبةٌ، ووحَّد النورَ لأنه عبارةٌ عن التوحيدِ وهو واحدٌ، فالتفاوتُ بين كلِّ فردٍ مِنْ أفرادِ الظلمة، وبين هذا الفردِ الواحد. والمعنى: الظلماتُ كلُّها لا تجدُ فيها
قوله: ﴿إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ﴾ خبر «مِنْ أمةٍ» وحَذَفَ مِنْ هذا ما أثبته في الأول؛ إذ التقديرُ: إلاَّ خَلا فيها نذيرٌ وبشير.
٣٧٦٥ -........................ | جَوْنُ السَّراةِ له جَدائدُ أربعُ |
قوله:» مختلِفٌ ألوانُها «» مختلف «صفةٌ ل» جُدَد «أيضاً. و» ألوانُها «فاعلٌ به كما تقدَّم في نظيره. ولا جائزٌ أَنْ يكونَ» مختلفٌ «خبراً مقدماً، و» ألوانُها «مبتدأٌ مؤخرٌ، والجملةُ صفةٌ؛ إذ كان يجبُ أَنْ يُقال: مختلفةٌ لتحمُّلِها ضميرَ
وقوله:» وغَرابيبُ سُوْدٌ «فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدها: أنه معطوفٌ على» حمرٌ «عَطْفَ ذي لون على ذي لون. الثاني: أنه معطوفٌ على» بِيضٌ «. الثالث: أنه معطوفٌ على» جُدَدٌ «. قال الزمخشري:» معطوف على «بيض» أو على «جُدَد»، كأنه قيل: ومن الجبالِ مخططٌ ذو جُدَد، ومنها ما هو على لونٍ واحد «ثم قال:» ولا بُدَّ من تقديرِ حذفِ المضافِ في قوله: ﴿وَمِنَ الجبال جُدَدٌ﴾ بمعنى: ومن الجبالِ ذو جُدَدٍ بيضٍ وحمرٍ وسُوْدٍ، حتى يَؤُول إلى قولِك: ومن الجبالِ مختلفٌ ألوانها، كما قال: ﴿ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا﴾.
ولم يذكُرْ بعد «غرابيب سود» «مختلفٌ ألوانُها» كما ذكر ذلك لك بعد بيض وحُمْر؛ لأنَّ الغِرْبيبَ هو المبالِغُ في السوادِ، فصار لوناً واحداً غيرَ متفاوتٍ بخلافِ ما تقدَّم «.
وغرابيب: جمعُ غِرْبيب وهو الأسودُ المتناهِي في السوادِ فهو تابعٌ للأسودِ كقانٍ وناصعٍ وناضِرٍ ويَقَق، فمِنْ ثَمَّ زعَم بعضُهم أنه في نيةِ التأخير، ومِنْ مذهبِ هؤلاءِ يجوز تقديمُ الصفةِ على موصوفِها، وأنشدوا:
٣٧٦٦ - والمُؤْمِن العائذاتِ الطير.............. | ............................ |
٣٧٦ - ٨- كناطِحٍ صَخْرَةً يوماً لِيَفْلِقَها | ...................... |
قوله: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى الله﴾ العامَّةُ على نصب الجلالة ورفع «العلماءُ» وهي واضحةٌ. وقرأ عمرُ بن عبد العزيز وأبو حنيفةَ فيما نقل الزمخشريُّ وأبو حيوةَ - فيما نَقَلَ الهذليُّ في كامله - بالعكس، وتُؤُوِّلت على معنى التعظيم، أي: إنما يُعَظِّمُ اللَّهُ مِنْ عبادِه العلماءَ. وهذه القراءة شبيهةٌ بقراءة ﴿وَإِذِ ابتلى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ﴾ [البقرة: ١٢٤] برفع «إبراهيم» ونصب «رَبَّه» وقد تقدَّمَتْ.
قوله: «من عبادِنا» يجوزُ أَنْ تكونَ للبيانِ على معنى: أنَّ المصطفَيْن هم عبادُنا، وأن تكونَ للتبعيضِ، أي: إن المصطفَيْن بعضُ عبادِنا لا كلُّهم. وقرأ أبو عمران الجوني ويعقوبُ وأبو عمروٍ في روايةٍ «سَبَّاق» مثالَ مبالغةٍ.
وقرأ رزين والزهري» جَنَّةُ «مفرداً. والجحدري» جناتِ «بالنصب على
قوله: «لا يَمَسُّنا» حالٌ مِنْ مفعولِ «أَحَلَّنا» الأول أو الثاني؛ لأن الجملةَ مشتملةٌ على ضميرِ كل منهما، وإن كان الحالُ من الأول أظهرَ. والنَّصَبُ: التعبُ والمشقةُ. واللُّغوبُ: الفتورُ الناشئُ عنه، وعلى هذا فيقال: إذا انتفى السببُ نُفِي المُسَبَّب يقال: «لم آكُلْ» فيُعلمُ انتفاءُ الشِّبع، فلا حاجةَ إلى قولِه ثانياً: «فلم أشبَعْ» بخلاف العكسِ، ألا ترى أنه يجوز: لم أشبع ولم آكل، والآية الكريمة على ما قررتُ مِن نفي السبب ثم نفي المسبب فأي فائدة في ذلك؟ وقد أجيب بأنه بيَّن مخالفةَ الجنة لدار الدنيا؛ فإنَّ أماكنَها على قسمين: موضعٍ تَمَسُّ فيه المشاق كالبراري، وموضعٍ يَمَسُّ فيه الإِعياءُ كالبيوتِ والمنازل التي فيها الأسفارُ. فَقيل: لا يَمَسُّنا فيها نَصَبٌ لأنها ليست مَظانَّ
وقرأ عليٌّ والسُّلميُّ بفتح لام «لَغُوْب» وفيه أوجه، أحدها: أنَّه مصدرٌ على فَعُوْل كالقَبول. / والثاني: أنه اسمٌ لِما يُلْغَبُ به كالفَطور والسَّحور. قاله الفراء. الثالث: أنه صفةٌ لمصدرٍ مقدرٍ أي: لا يَمَسُّنا لُغوبٌ لَغوبٌ نحو: شعرٌ شاعرٌ ومَوْتٌ مائتٌ. وقيل: صفةٌ لشيءٍ غيرِ مصدرٍ أي: أمرٌ لَغوبٌ.
وقرأ عيسى والحسن «فيموتون» بإثباتِ النونِ. قال ابنُ عطية: «هي ضعيفةٌ». قلت: وقد وَجَّهها المازنيُّ على العطفِ على ﴿لاَ يقضى عَلَيْهِمْ﴾ فلا يموتون. وهو أحدُ الوجهين في معنى الرفعِ في قولك: «ما تأتينا فتحدِّثنا» أي: انتفاءُ الأمرَيْن معاً، كقولِه: ﴿وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ﴾ [المرسلات: ٣٦]، أي:
وقرأ أبو عمرٍو في رواية «ولا يُخَفَّفْ» بسكون الفاء، شبَّه المنفصل بِ «عَضْد» كقوله:
٣٧٦٩ - فاليومَ أشْرَبْ غيرَ مُسْتَحْقِبٍ | ............................ |
قوله: ﴿صَالِحاً غَيْرَ الذي كُنَّا نَعْمَلُ﴾ يجوزُ أَنْ يكونا بمعنى مصدرٍ محذوفٍ
قوله: «ما يَتَذكَّر» جوَّزوا في «ما» هذه، وجهين، أحدهما: - ولم يَحْكِ الشيخُ غيرَه - أنها مصدريةٌ ظرفية قال: أي مدةَ تَذَكُّرِ. وهذا غَلَطٌ؛ لأنَّ الضميرَ في «فيه» يمنعُ مِنْ ذلك لعَوْدِهِ على «ما»، ولم يَقُلْ باسميَّةِ «ما» المصدريةِ إلاَّ الأخفشُ وابنُ السَّراج. الثاني: أنها نكرةٌ موصوفةٌ أي تعمُّراً يتذكر فيه، أو زماناً يتذكَّر فيه. وقرأ الأعمشُ «ما يَذَّكَّرُ» بالإِدغام «مَنِ اذَّكَّر». قال الشيخُ: «بالإِدغام واجتلابِ همزةِ الوصلِ ملفوظاً بها في الدَّرْج». وهذا
قوله: «وجاءكم» عطفٌ على «أولم نُعَمِّرْكم» لأنَّه في معنى: قد عَمَّرْناكم، كقولِه: ﴿أَلَمْ نُرَبِّكَ﴾ [الشعراء: ١٨] ثم قال: ﴿وَلَبِثْتَ﴾ [الشعراء: ١٨]، ﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ﴾ [الانشراح: ١] ثم قال ﴿وَوَضَعْنَا﴾ [الانشراح: ٢] إذ هما في معنى: رَبَّيْناك، وشَرَحْنا.
قوله: «مِنْ نصير» يجوزُ أَنْ يكون فاعِلاً بالجارِّ لاعتمادِه، وأنْ يكونَ مبتدأً مُخْبَراً عنه بالجارِّ قبلَه. وقُرِئ «النُّذُرُ» جمعاً.
قلت: والجوابُ عن الأولِ: أنَّ الاستفهامَ فيه غيرُ مرادٍ قطعاً فلم تَعُدْ أداتُه لعدمِ إرادتِه. وأمَّا قولُه: «لم يُوْجَد في لسانِهم» فقد وُجِدَ. ومنه:
٣٧٧٠ - متى تَأْتِنا تُلْمِمْ بنا............... | ............................ |
إنَّ عليَّ اللَّهَ أن تُبايِعا | تُؤْخَذَ كَرْهاً........................ |
قوله: ﴿فَهُمْ على بَيِّنَةٍ﴾ الضميرُ في «آتَيْناهم» و «فهم» الأحسنُ أَنْ يعودَ على الشركاء لتتناسَقَ الضمائرُ. وقيل: يعودُ على المشركين، فيكونُ التفاتاً مِنْ خطابٍ إلى غَيْبة.
وقرأ أبو عمروٍ وحمزةُ وابن كثير وحفصٌ «بَيِّنَةٍ» بالإِفراد. والباقون «بَيِّناتٍ» بالجمع. و «إنْ» في «إنْ يَعِدُ» نافيةٌ.
قوله: «إنْ أَمْسَكَهما» جوابُ القسمِ الموطَّأ له بلام القسمِ، وجوابُ الشرطِ محذوفٌ يدلُّ عليه جوابُ القسمِ، ولذلك كانَ فعل الشرط ماضياً. وقولُ الزمخشري: إنه يَسُدُّ مَسَدَّ الجوابَيْن، يعني أنه دالٌّ على جوابِ الشرطِ. قال الشيخ: «وإنْ أُخِذ كلامُه على ظاهرِه لم يَصِحَّ؛ لأنه لو سَدَّ مَسَدَّهما لكان له
و «مِنْ أحدٍ» «مِنْ» مزيدةٌ لتأكيدِ الاستغراق. و «مِنْ بعدِه» :«مِنْ» لابتداءِ الغاية.
قوله: ﴿مِنْ إِحْدَى الأمم﴾ أي: من الأمَّةِ التي يُقال فيها: هي إحدى الأمم، تفضيلاً لها. كقولِهم: هو أحدُ الأَحَدَيْن. قال:
٣٧٧٢ - حتى استثارُوا بيَ إحدى الإِحَدِ | لَيْثاً هِزَبْراً ذا سلاحٍ مُعْتَدِيْ |
وقرأ العامَّةُ بخفضِ همزةِ «السَّيِّئ»، وحمزة والأعمش بسكونِها وَصْلاً. وقد تَجَرَّأتِ النحاةُ وغيرُهم على هذه القراءةِ ونسبوها لِلَّحْنِ، ونَزَّهوا الأعمشَ عَنْ أَنْ يكونَ قرأ بها. قالوا: وإنما وَقَفَ مُسَكِّناً، فظُنَّ أنه واصَلَ فَغُلِط عليه. وقد احتجَّ لها قومٌ آخرون: بأنه إجراءٌ للوَصْلِ مُجْرَى الوقفِ، أو أَجْرى المنفصلَ مُجْرى المتصلِ. وحَسَّنه كونُ الكسرةِ على حَرْفٍ ثقيل بعد ياءٍ مشددةٍ مكسورةٍ. وقد تقدَّم أنَّ أبا عمروٍ يَقْرأ «إلى بارِئْكم» بسكونِ الهمزةِ. فهذا أَوْلَى لزيادةِ الثقلِ ههنا. وقد تقدَّمَ هناك أمثلةٌ وشواهدُ فعليك باعتبارِها. ورُوِيَ عن ابنِ كثير «ومَكْرَ السَّأْيِ» بهمزةٍ ساكنةٍ بعد السينِ ثم ياءٍ مكسورةٍ. وخُرِّجَتْ على أنها مقلوبةٌ من السَّيْئِ، والسَّيْئُ مخففٌ من السَّيِّئ كالميْت من الميِّت قال الحماسي:
٣٧٧٣ - ولا يَجْزُوْنَ مِنْ حَسَنٍ بسَيْءٍ | ولا يَجْزُون مِنْ غِلَظٍ بلِيْنِ |