ﰡ
ولما كان الإيجاد من العدم أدل على ذلك، قال دالاً على استحقاقه للمحامد: ﴿فاطر﴾ أي مبتدئ ومبتدع ﴿السماوات والأرض﴾ أي المتقدم أن له ما فيهما بأن شق العدم بإخراجهما منه ابتداء على غير مثال سبق كما تشاهدون ولما كانت الملائكة إفرداً وجمعاً مثل الخافقين في أن كلاًّ منهم مبدع من العدم على غير مثال سبق من غير مادة، وكان قد تقدم أنهم يتبرؤون من عبادة الكفرة يوم القيامة، وكان لا طريق لعامة الناس إلى معرفتهم إلا الخبر، أخبر عنهم بعد ما أخبر عما طريقه المشاهدة بما هو الحق من شأنهم، فقال مبيناً بتفاوتهم في الهيئات تمام قدرته وأنها بالاختيار: ﴿جاعل الملائكة رسلاً﴾ أي لما شاء من مراده وإلى ما شاء من عباده ظاهرين للأنبياء منهم ومن لحق بهم وغير ظاهرين ﴿أولي أجنحة﴾ أي تهيؤهم لما يراد منهم؛ ثم وصف فيه إلى أكثر من ذلك، ولعل ذكره للتنبيه على أن ذلك أقل ما يكون بمنزلة اليدين. ولما كان ذلك زوجاً نبه على أنه لا يتقيد بالزوج فقال: ﴿وثلاث﴾ أي ثلاثة ثلاثة لآخرين منهم. ولما كان لو اقتصر على ذلك لظن الحصر فيه، نبه
ولما ثبت بهذا أنه فاعل بالاختيار دون الطبيعة وغيرها، وإلا لوجب كون الأشياء غير مختلفة مع اتحاد النسبة إلى الفاعل، كانت نتيجة ذلك: ﴿يزيد في الخلق﴾ أي المخلوقات من أشياء مستقلة ومن هيئات للملائكة وخفة الروح واللطافة والثقالة والكثافة وحسن الصوت والصيت والفصاحة والسذاجة والمكر والسخارة والبخل وعلو الهمة وسفولها - وغير ذلك مما يرجع إلى الكم والكيف مما لا يقدر على الإحاطة به غيره سبحانه، فبطل قول من قال: أنه فرغ من الخلق في اليوم السابع عند ما أتم خلق آدم فلم يبق هناك زيادة، كاليهود وغيرهم على أن لهذا المذهب من الضعف والوهي ما لا يخفى غير أنه سبحانه أوضح جميع السبل ولم يدع بشيء منها لبساً: ﴿ما يشاء﴾ فلا بدع في أن يوجد داراً أخرى تكون لدينونة العباد، ثم علل ذلك كله بقوله مؤكداً لأجل إنكارهم البعث: ﴿إن الله﴾ أي الجامع لجميع أوصاف الكمال ﴿على كل شيء قدير *﴾ فهو قادر على البعث فاعل له لا محالة.
ولما وصف سبحانه نفسه المقدس بالقدرة الكاملة، دل على ذلك بما يشاهده كل أحد في نفسه من السعة والضيق مع العجز عن دفع شيء من ذلك أو اقتناصه، فقال مستأنفاً أو معللاً مستنتجاً: ﴿ما﴾ أي مهما ﴿يفتح الله﴾ أي الذي لا يكافئه شيء. ولما كان كل شيء من الوجود لأجل الناس قال: ﴿للناس﴾ ولما كان الإنعام مقصوداً
ولما كان حبس النعمة مكروهاً لم يصرح به، وترك الشرط على عمومه بعد أن فسر الشرط الأول بالرحمة دلالة على مزيد الاعتناء بها إيذاناً بأن رحمته سبقت غضبه فقال: ﴿وما يمسك﴾ أي من رحمة أو نعمة بإغلاق باب الخلق عنه ﴿فلا مرسل له﴾ أي الذي أمسكه بمثل البرهان الماضي في الرحمة.
ولما كان ربما ادعى فجوراً حال إمساك الرحمة أو النقمة أنه هو الممسك قال: ﴿من بعده﴾ أي بعد إمساكه، فمن كان في يده شيء فليمسك ما أتى به الله حال إيجاده بأن يعدمه. ولما كان هذا ظاهراً في العزة في أمر الناس والحكمة في تدبيرهم عمم فقال: ﴿وهو﴾ أي هو فاعل ذلك والحال أنه وحده ﴿العزيز﴾ أي القادر على
ولما بيّن بما يشاهده كل أحد في نفسه أنه المنعم وحده. أمر بذكر نعمته بالاعتراف أنها منه، فإن الذكر يقود إلى الشكر، وهو قيد الموجود وصيد المعدوم المفقود، فقال: ﴿يا أيها الناس﴾ أي الذين فيهم أهلية الاضطراب عامة ﴿اذكروا﴾ بالقلب واللسان ﴿نعمت الله﴾ أي الذي لا منعم في الحقيقة سواه، ولما كانت نعمة عامة غامرة من كل جانب قال: ﴿عليكم﴾ أي في دفع ما دفع من المحن، وصنع ما صنع من المنن، على ما تقدم في الفتح والإمساك لتشكروه ولا تكفروه، والذي يخص أهل مكة بعد ما شاركوا به الناس - إسكانهم الحرم، وحفظهم من جميع الأمم، وتشريفهم بالبيت، وذلك موجب لأن يكونوا أشكر الناس.
ولما أمر بذكر نعمته، أكد التعريف بأنها منه وحده على وجه بين عزته وحكمته، فقال منبهاً لمن غفل، وموبخاً لمن جحد، وراداً على أهل القدر الذين ادعوا أنهم يخلقون أفعالهم، ومنبهاً على نعمة الإيجاد الأول: ﴿هل﴾ ولما كان الاستفهام بمعنى النفي أكده ب ﴿من﴾ فقال: ﴿من خالق﴾ أي للنعم وغيرها، ولما كانت ﴿من﴾
ولما كان الجواب قطعاً: لا، بل هو الخالق وحده، قال منبهاً على نعمة الإبقاء الأول: ﴿يرزقكم﴾ أي وحده. ولما كانت كثرة الرزق كما هو مشاهد مع وحدة المنبع أدل على العظمة قال: ﴿من السماء والأرض﴾ بالمطر والنبات وغيرهما. ولما بين أنه الرزاق وحده انقطع أمل كل أحد من غيره حتى من نفسه فحصل الإخلاص فتعين أنه سبحانه الإله وحده فقال: ﴿لا إله إلا هو﴾ فتسبب الإنكار على من عبد غيره ظاهراً أو باطناً فقال: ﴿فأنى﴾ أي فمن أيّ وجه وكيف ﴿تؤفكون *﴾ أي تصرفون وتقلبون عن وجه السداد في التوحيد بهذه الوجوه الظاهرة إلى الشرك الذي لا وجه له.
ولما كان التقدير نفياً للتعجب من التكذيب الجاري على غير قياس صحيح: فمن الله الذي لا أمر لأحد معه تصدر الأمور، عطف عليه قوله مهدداً لمن خالف أمره: ﴿وإلى الله﴾ أي وحده له الأمور كلها ﴿ترجع الأمور *﴾ أي حساً ومعنى، فاصبر ورد الأمر إلينا بترك الأسباب إلا ما نأمرك به كما فعل إخوانك من الرسل.
ولما أشعر هذا الختام باليوم الموعود، وهو الأصل الثابت قال مهدداً به محذراً منه: ﴿يا أيها الناس﴾ أي الذين عندهم أهليه
ولما ذكر جزاء حزبه، اتبعه حزب الله الذين عادوا عدوهم فقال: ﴿والذين آمنوا وعملوا﴾ أي تصديقاً لإيمانهم ﴿الصالحات﴾ ولما كان من أعظم مصايد الشيطان ما يعرض للإنسان خطأ وجهلاً من العصيان، لما له من النقصان ليجره بذلك إلى العمد والعدوان، قال تعالى داعياً له إلى طاعته وإزالة لخجلته: ﴿لهم مغفرة﴾ أي ستر لذنوبهم بحيث لا عقاب ولا عتاب، وذلك معجل في هذه الدار، ولولا ذلك لافتضحوا وغداً، ولولا ذلك لهلكوا. ولما محاها عيناً وأثراً، أثبت الإنعام فقال: ﴿وأجر كبير *﴾ أي يجل عن الوصف بغير هذا الإجمال، فمنه عاجل بسهولة العبادة ودوام المعرفة وما يرونه في القلوب من وراء اليقين، وآجل بتحقيق المسؤول من عظيم المنة، ونيل ما فوق المأمول في الجنة.
ولما كان المحب من يرضى بفعل حبيبه، سبب عن ذلك النهي لأكمل خلقه عن الغم بسبب ضلالهم في قوله: ﴿فلا﴾ والأحسن أن يقدر المشبه به هنا فيكون المعنى: أفمن غير فعل القبيح فاعتقده حسناً لأن الله أضله بسبب أن الله هو المتصرف في القلوب كمن بصره الله بالحقائق؟
ولما كان الجواب: لا، ليس هما سواء سبب عنه قولاً: فلا ﴿تذهب﴾ أي بالموت أو ما يقرب منه ﴿نفسك عليهم﴾ أي بسبب ما هو فيه من العمى عن الجليات ﴿حسرات﴾ أي لأجل حسراتك المترادفة لأجل إعراضهم، جمع حسرة وهي شدة الحزن على ما فات من الأمر.
ولما كان كأنه قيل: إنهم يؤذون أولياءك فيشتد أذاهم، وكان علم الولي القادر بما يعمل عدوه كافياً في النصرة، قال: ﴿إن الله﴾ أي المحيط بجميع أوصاف الكمال ﴿عليم﴾ أي بالغ العلم، وأكده تنبيهاً على أن المقام صعب، ومن لم يثبت نفسه بغاية جهده زل لطول إملائه تعالى لهم وحلمه عنهم ﴿بما يصنعون *﴾ أي مما مرنوا عليه وانطبعوا فيه من ذلك حتى صار لهم خلقاً يبعد كل البعد انفكاكهم عنه.
ولما كانت إثارتها تتجدد كلما أراد أن يسقي أرضاً، قال مسنداً إلى الرياح لأنها السبب، معبراً بالمضارع حكاية للحال لتستحضر تلك الصورة البديعة الدالة على تمام القدرة، وهكذا تفعل العرب فيما فيه
ولما كان المراد الاستدلال على القدرة على البعث، وكان التعبير بالمضارع يرد التعنت، عبر بالمضارع. ولما كان سوق السحاب إلى بلد دون آخر وسقيه لمكان دون مكان من العظمة بمكان، التفت على الغيبة وجعله في مظهر العظمة فقال: ﴿فسقناه﴾ أي السحاب معبراً بالماضي تنبيهاً على أن كل سوق كان بعد إثارتها في الماضي والمستقبل منه وحده أو بواسطة من أقامة لذلك من جنده من الملائكة أو غيرهم، لا من غيره، ودل على أنه فرق بين البعد والقرب بحرف الغاية فقال: ﴿إلى بلد ميت﴾.
ولما كان السبب في الحياة هو السحاب بما ينشأ عنه من الماء قال: ﴿فأحيينا به الأرض﴾ ولما كان المراد إرشادهم إلى القدرة على البعث الذي هم به مكذبون، قال رافعاً للمجاز بكل تقدير وموضحاً كل الإيضاح للتصوير: ﴿بعد موتها﴾ ولما أوصل الأمر إلى غايته، زاد في التنبيه على نعمة الإيجاد الثاني بقوله: ﴿كذلك﴾ أي مثل الإحياء لميت النبات ﴿النشور *﴾ حسّاً للأموات، ومعنى للقلوب والنبات، قال القشيري:
ولما أعلى رتبة القول الحكيم، بين أن الفعل أعلى منه لأنه المقصود بالذات، والقول وسيلة إليه، فقال دالاًّ على علوه بتغيير السياق: ﴿والعمل الصالح يرفعه﴾ هو سبحانه يتولى رفعه ولصاحبه عنده عز منيع ونعيم مقيم، وعمله يفوز، قال الرازي في اللوامع: العلم إنما يتم العمل كما قيل: العلم يهتف بالعمل، فإن أجاب وإلا ارتحل - انتهى، وقد قيل:
لا ترض من رجل حلاوة قوله | حتى يصدق ما يقول فعال |
فإذا وزنت مقاله بفعاله | فتوازنا فإخاء ذاك جمال |
ولما ذكر سبحانه ما صيرهم إليه من المفاوتة في الأخلاق، أتبعه
ولما كان الحمل أيضاً مكذباً لأهل الطبائع بأنه لا يكون من كل جماع، أشار إليه بقوله مؤكداً رداً عليهم إعلاماً بأن ذلك إنما هو بقدرته: ﴿وما تحمل﴾ أي في البطن بالحبل ﴿من أنثى﴾ دالاً بالجار على كمال الاستغراق. ولما كان الوضع أيضاً كذلك بأنه لا يتم كلما حمل به قال: ﴿ولا تضع﴾ أي حملاً ﴿إلا﴾ مصحوباً ﴿بعلمه﴾ في وقته ونوعه وشكله وغير ذلك من شأنه مختصاً بذلك كله حتى عن أمه التي هي أقرب إليه، فلا يكون إلا بقدرته، فما شاء أتمه، وما شاء أخرجه.
ولما كان ما بعد الولادة أيضاً دالاً على الاختيار لتفاضلهم في الأعمار مع تماثلهم في الحقيقة، دل عليه بقوله دالاً بالبناء للمفعول على سهولة الأمر عليه سبحانه، وأن التعمير والنقص هو المقصود بالإسناد: ﴿وما يعمر من معمر﴾ أي يزاد في عمر من طال عمره أي صار إلى طول العمر بالفعل حساً، قال قتادة: ستين، أو معنى بزيادة الفاعل المختار زيادة لولاها لكان عمره أقصر مما وصل إليه ﴿ولا بنقص من عمره﴾ أي المعمر بالقوة وهو الذي كان قابلاً في العادة لطول العمر فلم يعمر بنقص الفاعل المختار نقصاً لولاه لطال عمره، فالمعمر المذكور المراد به الفعل،
ولما كان في سياق العلم وكان أضبطه في مجاري عاداتنا ما كتب قال: ﴿إلا في كتاب﴾ مكتوب فيه «عمر فلان كذا وعمر فلان كذا وكذا، عمر فلان كذا إن عمل كذا وعمره كذا أزيد أو أنقص إن لم يعمله».
ولما كان ذلك أمراً لا يحيط به العد، ولا يحصره الحد، فكان في عداد ما ينكره الجهلة، قال مؤكداً لسهولته: ﴿إن ذلك﴾ أي الأمر العظيم من كتب الآجال كلها وتقديرها والإحاطة بها على التفصيل ﴿على الله﴾ أي الذي له جميع العزة فهو يغلب كل ما يريده، خاصة ﴿يسير *﴾
ولما ذكر سبحانه أحد أصليهم: التراب المختلف الأصناف، ذكر الأصل الآخر: الماء الذي هو أشد امتزاجاً من التراب، ذاكراً اختلاف صنفية اللذين يتفرعان إلى أصناف كثيرة، منبهاً على فعله بالاختيار ومنكراً على من سوى بينه سبحانه وبين شيء حتى أشركه به مع المباعدة التي
ولما كان الملح متعذراً على الآدمي شربه، ذكر أنه خلق فيه ما حياته به مساوياً في ذلك للعذب فقال: ﴿ومن كل﴾ أي من الملح والعذب ﴿تأكلون﴾ من السمك المنوع إلى أنواع تفوت الحصر وغير السمك ﴿لحماً طرياً﴾ أي شهي المطعم، ولم يضر ما بالملح ما تعرفون من أصله ولا زلد في لذة ما بالحلو ملاءمته لكم. ولما ذكر
﴿حلية تلبسونها﴾ أي نساؤكم من الجواهر: الدر والمرجان وغيرهما، فما قضى برخاوة ذلك وصلابة هذا مع تولدهما منه إلا الفاعل المختار.
ولما كان الأكل والاستخراج من المنافع العامة عم بالخطاب، ولما كان استقرار شيء في البحر دون غرق أمراً غريباً، لكنه صار لشدة إلفه لا يقوم بإدراك أنه من أكبر الايات دلالة على القادر المختار إلا أهل البصائر، خص بالخطاب فقال: ﴿وترى الفلك﴾ أي السفن تسمى فلكاً لدورانه وسفينة لقشره الماء، وقدم الظرف لأنه أشد دلالة على ذلك فقال: ﴿فيه﴾ أي كل منهما غاطسة إلا قليلاً منها.
ولما تم الكلام، ذكر حالها المعلل بالابتغاء فقال: ﴿مواخر﴾
ولما كان هذا الفعل في غاية الإعجاب، وكان لكثرة تكراره قد صار مألوفاً فغفل عما فيه من الدلالة على تمام القدرة: نبه عليه بإعادة الفعل فقال: ﴿ويولج النهار في الّيل﴾ فيصير ما كان ضياء ظلاماً، وتارة يكون التوالج بقصر هذا وطول هذا، فدل كل ذلك على أنه تعالى فاعل بالاختيار.
ولما ذكر الملوين ذكر ما ينشأ عنهما فقال: ﴿وسخر الشمس والقمر﴾ ثم استأنف قوله: ﴿كل﴾ أي منهم ﴿يجري﴾ ولما كان مقصود السورة تمام القدرة، والسياق هنا لقسر المتنافرات على ما يزيد،
ولما دل سبحانه على أنه الفاعل المختار القادر على كل ما يريد بما يشاهده كل أحد في نفسه وفي غيره، وختم بما تتكرر مشاهدته في كل يوم مرتين، أنتج ذلك قطعاً قوله معظماً بأداة البعد وميم الجمع: ﴿ذلكم﴾ أي العالي المقدار الذي فعل هذه الأفعال كلها ﴿الله﴾ أي الذي له صفة كمال؛ ثم نبههم على أنه لا مدبر لهو سواه بخبر آخر بقوله: ﴿ربكم﴾ أي الموجد لكم من العدم المربي بجميع النعم لا رب لكم سواه؛ ثم استأنف قوله: ﴿له﴾ أي وحده ﴿الملك﴾ أي كله وهو مالك كل شيء ﴿والذين تدعون﴾ أي دعاء عبادة، ثم بيّن منزلتهم بقوله: ﴿من دونه﴾ أي من الأصنام وغيرها وكل شيء فهو دونه سبحانه ﴿ما يملكون﴾ أي في هذا الحال الذي تدعونهم فيه وكل حال يصح أن يقال فيه لكم هذا الكلام؛ وأغرق في النفي فقال: ﴿من قطمير *﴾ وهو كما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما:
ولما ذكر ما هو على سبيل الفرض، ذكر ما يصير إليه بينهم وبينهم الأمر فقال: ﴿ويوم القيامة﴾ أي حين ينطقهم الله
ولما اختص سبحانه بالملك ونفى عن شركائهم النفع، أنتج ذلك قوله: ﴿يا أيها الناس﴾ أي كافة ﴿أنتم﴾ أي خاصة ﴿الفقراء﴾ أي لأنكم لاتساع معارفكم وسريان أفكاركم وانتشار عقولكم تكثر نوازغكم وتتفرق دواعيكم فيعظم احتياجكم لشدة ضعفكم وعجزكم عظماً يعد معه احتياج غيركم عدماً، ولو نكر الخبر لم يفد هذا المعنى ﴿إلى الله﴾ أي الذي له جميع الملك؛ قال القشيري: والفقر على ضربين: فقر خلقة، وفقر صفة، فالأول عام فكل حادث مفتقر إلى خالقه في أول حال وجوده ليبديه وينشيه، وفي ثانية ليديمه ويبقيه، وأما فقر الصفة فهو التجرد، ففقر العوام التجرد من المال، وفقر الخواص التجرد من
ولما ذكر العبد بوصفه الحقيقي، أتبعه ذكر الخالق باسمه الأعظم على قرب العهد بذكر الإشارة إلى الجهة التي بها وصف بما يذكر، وهي الإحاطة بأوصاف الكمال فقال: ﴿والله هو﴾ أي وحده ﴿الغني﴾ أي الذي لا يتصور أن يحتاج لا إليكم ولا إلى عبادتكم ولا إلى شيء أصلاً. ولما كان الغنى من الخلق لا يسع غناه من يقصده، وإن وسعهم لم يسعهم عطاؤه لخوف الفقر أو لغير ذلك من العوارض، ولا يمكنه عموم النعمة في شيء من الأشياء فلا ينفعك من نوع ذم، وكان الحمد كما قال الحرالي في شرح الأسماء: حسن الكلية بانتهاء كل أمر وجزء، وبعض منها إلى غاية تمامه، فمتى نقص جزء من كل عن غاية تمامه لم يكن ذلك الكل محموداً، ولم يكن قائمه حميداً، وكان الله قد خلق كل شيء كما ينبغي، لم يعجل شيئاً عن إناه وقدره، وكان الذم استنقاضاً يلحق بعض الأجزاء عند من لم يرها في كلها ولا رأى كلها، فكان الذم لذلك لا يقع إلا متقيداً متى أخذ مقتطعاً من كل، والحمد لا يقع إلا في كل لم يخرج عنه شيء فلا حمد في بعض ولا ذم في كل ولا حمد إلا في كل، ولذلك قال الغزالي: الحميد من العباد من حمدت عوائده وأخلاقه وأعماله كلها من غير مثنوية.
وكان سبحانه
ولما أثبت أنه لا يؤخذ أحد إلا بوزر، ونفى أن يحمل أحد وزر غيره، وكان ربما أوهم أن ذلك خاص ببعض الأحوال أو الأشخاص، وكان عظم الوزر يوجب عظم الأخذ، نفى ذلك الإيهام ودل القدرة على المفاوتة بينهم في الأجر وإن كان أخذهم في آن واحد بقوله: ﴿وإن تدع﴾ أي نفس ﴿مثقلة﴾ أي بالذنوب سواء كانت كفراً أو غيره، أحداً ﴿إلى حملها﴾ أي الخاص بها من الذنوب التي ليست على غيرها بمباشرة ولا تسبب ليخفف عنها فيخفف العذاب بسبب خفته ﴿لا يحمل﴾ أي من حامل ما ﴿منه شيء﴾ أي لا طواعية ولا كرهاً. بل لكل امرئ شأن يغنيه أصلاً وتسبباً ﴿ولو كان﴾ ذلك الداعي أو المدعو للحمل ﴿ذا قربى﴾ لمن دعاه، وحاصل الأولى أنه لا يهلك أحد بذنب غيره بل بذنب نفسه، والثانية أنه لا يحط عن أحد ذنبه ليسلم.
ولما كان أوفى الناس عقلاً وأعلاهم همة وأكرمهم عنصراً من كانت غيبته مثل حضوره، وكان لا يحتاج - مع قول الداعي وما يظهر له من سمته وحسن قوله وفعله - إلى آية يظهرها ولا خارقة يبرزها، وإنما إيمانه تصديقاً للداعي في إخباره بالأمر المغيب من غير كشف غطاء قال: ﴿بالغيب﴾ أي حال كونهم غائبين عما دعوا إليه وخوفوا به، أو حال كونه غائباً عنهم أو غائبين عمن يمكن مراءاته، فهم مخلصون في خشيتهم سواء بحيث لا يطلع عليهم إلا الله، ولا نعلم أحداً وازى خديجة والصديق رضي الله عنهما في ذلك.
ولما كانت
ولما كان التقدير: فمن كان على غير ذلك تدسى، ومن كان على هذا فقد تزكى، ومن تدسى فإنما يتدسى على نفسه، عطف عليه قوله، مشيراً بأداة التفعل إلى أن النفس أميل شيء إلى الدنس، فلا تنقاد إلى أحسن تقويم إلا باجتهاد عظيم. ﴿ومن تزكّى﴾ أي تطهر وتكثر بهذه المحاسن. ولما كان الإنسان ليفيده بالأسباب القريبة قد يغفل عن أن هذا نفع له وخاص به أكده فقال: ﴿فإنما يتزكّى لنفسه﴾ فإنه لا يضر ولا ينفع في الحقيقة غيرها ﴿وإلى الله﴾ الذي يكشف عن جميع صفاته أتم كشف تحتمله العقول يوم البعث لا إلى غيره ﴿المصير *﴾ كما كان منه المبدأ فيجازي كلاًّ على فعله فينصف بينك وبين من خشي ربه بإنذارك ومن أعرض عن ذلك.
ولما كان التقدير: فما يستوي في الطبع والعقل المتدسي الذي هو أعمى بعصيانه في الظلمات ولا المتزكي الذي هو بطاعاته بصير في
ولما كان هذا من أغرب الأمور وإن غفل عنه لكثرة إلفه، نبه على غرابته ومزيد ظهور القدرة فيه بتكرير النافي في أشباهه وعلى أن الصبر لا ينفذ إلا في الظلمة، تنبيهاً على أن المعاصي تظلم قلب المؤمن وإن كان بصيراً، وقدم الظلمة لأنها أشد إظهاراً لتفاوت البصر مع المناسبة للسياق على ما قرر، فقال في عطف الزوج على الزوج وعطف الفرد على الفرد جامعاً تنبيهاً على أن طرق الضلال يتعذر حصرها: ﴿ولا الظلمات﴾ التي هي مثال للأباطيل؛ وأكد بتكرير النافي كالذي قبله لأن المفاوتة بين أفراد الظلمة وأفراد النور خفية، فقال منبهاً على أن طريق الحق واحدة تكذيباً لمن قال من الزنادقة: الطرق إلى الله بعدد أنفاس الخلائق: ﴿ولا النور *﴾ الذي هو مثال للحق، فما أبدعهما على هذا التضاد إلا الله تعالى الفاعل المختار، وفاوت بين أفراد النور
ولما كان المظهر لذلك كله الحياة، قدمها فقال مثالاً آخر للمؤمنين، ولذلك أعاد الفعل وهو فوق التمثيل بالأعمى والبصير، لأن الأعمى يشارك البصير في بعض الإدراكات، وصار للمؤمن والكافر مثالان ليفيد الأول نفي استواء الجنس بالجنس مع القبول للحكم على الأفراد، والثاني بالعكس وهو للنفي في الأفراد مع القبول للجنس: ﴿وما يستوي الأحياء﴾ أي لأنه منهم الناطق والأعجم، والذكي والغبي، والسهل والصعب،
ولما كان ما ذكر على هذا الوجه - من وضوح الدلالة على الفعل بالاختيار وعلى ضلال من أشرك به شيئاً لأنه لا يشابهه شيء - بمكان ليس معه خفاء، ومن الإحكام بحيث لا يدانيه كلام يعجب السامع ممن يأباه، فقال مزيلاً عجبه مقرراً أن الخشية والقسوة إنما هما بيده، وأن الإنذار إنما هو لمن قضى بانتفاعه، مسلياً لنبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مؤكداً رداً على من يرى لغيره سبحانه فعلاً من خير أو شر: ﴿إن الله﴾ أي القادر على المفاوتة بين هذه الأشياء وعلى كل شيء بما له من الإحاطة بصفات الكمال، وعبر بالفعل إشارة إلى القدرة على ذلك في كل وقت أراده سبحانه فقال: ﴿يسمع من يشاء﴾ أي فيهديه ولو لم يكن له قابلية في العادة كالجمادات، ويصم ومن يشاء فيعميه وينكسه ويرديه من أحياء القلوب والأرواح، وأموات المعاني والأشباح، والمعنى أن إسماعهم لو كان مستنداً إلى الطبائع لاستووا إما بالإجابة
ولما كان المعرض قد ساوى الميت في حاله التي هي عدم الانتفاع بما يرى ويسمع من الخوارق، فكان كأنه ميت، قال معبراً بالأسمية تنبيهاً على عدم إثبات ذلك له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ﴿وما أنت﴾ أي بنفسك من غير إقدار الله لك، وأعرق في النفي فقال: ﴿بمسمع﴾ أي بوجه من الوجوه ﴿من في القبور *﴾ أي الحسية والمعنوية، إسماعاً ينفعهم بل الله يسمعهم إن شاء فلا تذهب نفسك عليهم حسرات، والآية دليل على البعث.
ولما كان هذا خاصة الإله، أشار إلى نفيه عنه مقتصراً على وصف النذارة، إشارة إلى أن أغلب الخلق موتى القلوب، فقال مؤكداً للرد على من يظن أن النذير يقدر على هداية أو غيرها إلا بإقداره ﴿إن﴾ أي ما ﴿أنت إلا نذير *﴾ أي تنبه القلوب الميتة بقوارع الإنذار، ولست بوكيل يقهرهم على الإيمان.
ولما كان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نبي الرحمة، وكان الاقتصار على هذا الوصف ربما أوهم غير ذلك، أتبعه قوله بياناً لعظمته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
ولما كان مما يسهل القياد ويضعف الجماح التأسية، قال مؤكداً دفعاً لاستبعاد الإرسال إلى جميع الأمم: ﴿وإن﴾ أي والحال أنه ما ﴿من أمة﴾ من الأمم الماضية ﴿إلا خلا فيها نذير *﴾ أرسلناه إليهم بشيراً ونذيراً إما بنفسه وإما بما أبقى في أعقابهم من شرائعه من أقواله وأفعاله ورسومه مع ما لهم من العقول الشاهدة بذلك، والنذارة دالة على البشارة، واقتصر عليها لأنها هي التي تقع بها التسلية لما فيها من المشقة، ولأن من الأنبياء الماضين عليهم السلام من تمحضت دعوته للنذارة لأنه لم ينتفع أحد ببشارته لعدم اتباع أحد منهم له.
ولما كان قبول الرسل لما جاءهم عن الله ونفى التقصير في الإبلاغ عنهم دالاً على علو شأنهم وسفول أمر المكذبين من الأمم، وكل ذلك دالاًّ على تمام قدرة الله تعالى في المفاوتة بين الخلق، قال دالاً على أمري العلو والسفول استئنافاً جواباً لمن كأنه قال: هل كان تكذيبهم عناداً او لنقص في البيان: ﴿جاءتهم﴾ أي الأمم الخالية ﴿رسلهم بالبينات﴾ أي الآيات الواضحات في الدلالة على صحة الرسالة. ولما كان التصديق بالكتاب لازماً لكل من بلغه أمره، وكانت نسبة التكذيب إلى جميع الأمم أمراً معجباً، كان الأمر حرياً بالتأكيد لئلا يظن أنهم ما كذبوا إلا لعدم الكتاب، فأكد بإعادة الجار
ولما سلاه، هدد من خالفه وعصاه بما فعل في تلك الأمم فقال، صارفاً القول إلى الإفراد دفعاً لكل لبس، مشيراً بأداة التراخي إلى أن طول الإمهال ينبغي أن يكون سبباً للإنابة لا للاغترار بظن الإهمال: ﴿ثم أخذت﴾ أي بأنواع الأخذ ﴿الذين كفروا﴾ أي ستروا تلك الآيات المنيرة بعد طول صبر الرسل عليهم ودعائهم لهم. ولما كان أخذ من قص أخباره منهم عند العرب شهيراً، وكان على وجوه من النكال معجبة، سبب عنه السؤال بقوله: ﴿فكيف كان نكير *﴾ أي إنكاري عليهم، أي أنه إنكار يجب السؤال عن كيفية لهوله وعظمه، كما قال القشيري: ولئن أصروا على سنتهم في الغي فلن تجد لسنتنا تبديلاً في الانتقام والخزي.
ولما كان أمراً فائتاً لقوى العقول، نبه عليه بالالتفات إلى مظهر العظمة فقال: ﴿فأخرجنا﴾ أي بما لنا من العظمة ﴿به﴾ أي الماء من الأرض ﴿ثمرات﴾ أي متعددة الأنواع ﴿مختلفاً ألوانها﴾ أي ألوان أنواعها وأصنافها وهيئاتها وطبائعها، فالذي قدر على المفاوتة بينها وهي من ماء واحد لا يستبعد عليه أن يجعل الدلائل بالكتاب وغيره نوراً لشخص وعمى لآخر.
ولما كان أبلغ من ذلك أن تلك الطرق في أنفسها غير متساوية المواضع في ذلك اللون الذي تلونت به، قال تعالى دالاً على أن كلاً من هذين اللونين لم يبلغ الغاية في الخلوص: ﴿مختلف ألوانها﴾ وهي
ولما كانت مادة ﴿غرب﴾ تدور على الخفاء الذي يلزمه الغموض أخذاً من غروب الشمس، ويلزم منه السواد، ولذلك يؤكد الأسود بغربيب مبالغة الغرب كفرح أي الأسود للمبالغة في سواده، وكان المقصود الوصف بغاية السواد مخالفة لغيره، قال تعالى عاطفاً على بيض: ﴿وغرابيب﴾ أي من الجدد أيضاً ﴿سود *﴾ فقدم التأكيد لدلالة السياق على أن أصل العبارة «وسود غرابيب سود» فأضمر الأول ليتقدم على المؤكد لأنه تابع، ودل عليه بالثاني ليكون مبالغاً في تأكيده غاية المبالغة بالإظهار بعد الإضمار، وهو معنى قول ابن عباس رضي الله عنهما: أشد سواد الغرابيب - رواه عنه البخاري، لأن السواد الخالص في الأرض، مستغرب، ومنه ما يصبغ به الثياب ليس معه غيره، فتصير في غاية السواد، وذلك في مدينة فوة ومسير وغيرهما مما داناهما من بلاد مصر.
ولما أكد هذا بما دل على خلوصه، قدم ذكر الاختلاف عليه،
ولما ثبت بهذا البرهان أنه سبحانه فاعل بالاختيار، فهو يفعل فيما يشاء ومن يشاء، ما يشاء فيجعل الشيء الواحد لقوم نوراً ولقوم عمى، وكان ذلك مرغباً في خدمته مرهباً من سطوته سبحانه وتعالى وتقدس لكل ذي لب، وكان السياق لإنذار من يخشى بالغيب، فثبت أن الإنذار بهذا القرآن يكون لقوم أراد الله خشيتهم خشية، ولقوم أراد الله قسوتهم
ولما كان سبب الخشية التعظيم والإجلال، وكان كل أحد لا يجل إلا من أجله، وكان قد ثبت أن العلماء يجلون الله، وكان سبب إجلالهم له إجلاله لهم، كان هذا معنى القراءة الأخرى، فكان كأنه قيل: إنما ينفع الإنذار من يجهل الله فالله يجله لعلمه، وسئل شيخنا محقق زمانه قاضي الشافعية بمصر محمد بن علي القاياتي عن توجيه هذه القراءة فأطرق يسيراً ثم رفع رأسه فقال:
أهابك إجلالاً وما بك قدرة | عليّ ولكن مليء عين حبيبها |
علينا لا تنزل الأحزان شاحتها | لو مسها حجر مسته سراء |
ولما كانت الشدائد في الدنيا تنفرج وإن طال أمدها قال: ﴿ولا يخفف عنهم﴾ وأعرق في النفي بقوله: ﴿من عذابها﴾ أي جهنم. ولما كان ربما توهم متوهم أن هذا العذاب خاص بالذين كانوا في عصره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الكفار قال: ﴿كذلك﴾ أي مثل هذا الجزاء العظيم ﴿نجزي﴾ أي بما لنا من العظمة - على قراءة الجماعة بالنون ﴿كل كفور *﴾ أي به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو بغيره من الأنبياء عليهم السلام وإن لم نره لأن ثبوت المعجزة يستوي فيها المسع والبصر، وبنى أبو عمرو الفعل للمفعول إشارة إلى سهولته وتيسره ورفع ﴿كل﴾.
ولما بيّن عذابهم بين اكتئابهم فقال: ﴿وهم﴾ أي فعل ذلك بهم والحال أنهم ﴿يصطرخون فيها﴾ أي يوجدون الصراخ فيها بغاية ما يقدرون عليه من الجهد في الصياح بالبكاء والنواح. ولما بيّن ذلك بيّن قولهم في اصطراخهم بقوله: ﴿ربنا﴾ أي يقولون: أيها المحسن إلينا ﴿أخرجنا﴾ أي من النار ﴿نعمل صالحاً﴾ ثم أكدوه وفسروه
ولما كان التفكر بعد البعث غير نافع لأنه بعد كشف الغطاء، عبر بالماضي فقال: ﴿من تذكر﴾ إعلاماً بأنه قد ختم على ديوان المتذكرين، فلا يزاد فيهم أحد، والزمان المشار إليه قيل: إنه ستون سنة - قاله ابن عباس رضي الله عنهم، وبوّب له البخاري في أوائل الرقاق من غير عزو إلى أحد، وروى أحمد بن منيع عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «من عمره الله
ولما أشار إلى دليل العقل ابتداء ودواماً، أشار إلى أدلة النقل المنبه على ما قصر عنه العقل، فقال معبراً بالماضي تصريحاً بالمقصود عطفاً على معنى: أو لم نعمركم الذي هو قد عمرناكم: ﴿وجاءكم النذير﴾ أي عنى من الرسل والكتب تأييداً للعقول بالدليل المعقول.
ولما تسبب عن ذلك أن عذابهم لا ينفك قال: ﴿فذقوا﴾ أي ما أعددناه لكم من العذاب دائماً أبداً، ولما كانت العادة جارية بأن من أيس من خصمه فزع إلى الاستغاثة عليه، تسبب عن ذلك قوله: ﴿فما﴾ وكان الأصل: لكم، ولكنه أظهر تعليقاً للحكم بالوصف للتعميم فقال: ﴿للظالمين﴾ أي الواضعين الأشياء في غير مواضعها ﴿من نصير *﴾ أي يعينهم ويقوي أيديهم، فلا براح لكم عن هذا الذواق، وهذا عام في كل ظالم، فإن من ثبت له نصر عليه لأن ظلمه في كل يوم يضعف ويهن والحق في كل حين يقوى ويضخم.
ولما كان المراد توهية أمر شركائهم، وكانت تحصل بسلب قدرتهم على ما مكن فيه سبحانه العابدين من الأرض، أدخل الجار دلالة على أنهم على كثرتهم وامتداد أزمنتهم لا يملؤون مسكنهم بتدبيره لإماتة كل قرن واستخلاف من بعدهم عنهم، ولو لم يمتهم لم تسعهم الأرض مع التوالد على طول الزمان، وهم في الأصل قطعة يسيرة
ولما ثبت أن ذلك نعمة منه، عمرهم فيه مدة يتذكر فيه من تذكر، تسبب عنه قوله: ﴿فمن كفر﴾ أي بعد علمه بأن الله هو الذي مكنه لا غيره، واحتقر هذه النعمة السنية ﴿فعليه﴾ أي خاصة ﴿كفره﴾ أي ضرره. ولما كان كون الشيء على الشيء محتملاً لأمور، بيّن حاله بقوله مؤكداً لأجل من يتوهم أن بسط الدنيا على الفاجر ربح وإكرام من الله له ﴿ولا﴾ أي والحال لأنه لا ﴿يزيد الكافرين﴾ أي المغطين للحق ﴿كفرهم﴾ أي الذي هم متلبسون به ظانون أنه يسعدهم وهو راسخون فيه غير متمكنين عنه، ولذا لم يقل: لا يزيد من كفر قد يكون كفره غير راسخ فيسلم ﴿عند ربهم﴾ أي المحسن إليهم ﴿إلا مقتاً﴾ أي لأنه يعاملهم معاملة من يبغض ويحتقر أشد بغض واحتقار.
ولما كان المراد من هذه الصفات في حق الله تعالى غاياتها، وكان ذكرها إنما هو تصوير له بأفظع صورها لزيادة التنفير من أسبابها، وكانوا ينكحون نساء الآباء مع أنهم يسمونه نكاح المقت، نبه على أنهم لا يبالون بالتمقت إلى المحسن، فقال ذاكراً للغاية مبيناً أن محط نظرهم
ولما بيّن أنه سبحانه هو الذي استخلفهم، أكد بيان ذلك عندهم بأمره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بما يضطرهم إلى الإعتراف به فقال: ﴿قل أرءيتم﴾ أي أخبروني ﴿شركاءكم﴾ أضافهم إليهم لأنهم وإن كانوا جعلوهم شركاءه لم ينالوا شيئاً من شركته لأنهم ما نقصوه شيئاً من ملكه، وإنما شاركوا العابدين في أموالهم بالشوائب وغيرها وفي أعمالهم فهم شركاؤهم بالحقيقة لا شركاؤه، ثم بين المراد من عدهم لهم شركاء بقوله: ﴿الذين تدعون﴾ أي تدعونهم شركاء ﴿من دون الله﴾ أي الذي له جميع صفات الكمال.
ولما كان التقدير: بأي شيء جعلتموهم شركاء في العبادة، ألهم شرك في الأرض، بنى عليه قوله مكرراً لإشهادهم عجز شركائهم ونقص من عبدوه من دونه: ﴿أروني ماذا﴾ أي الذي أو أيّ شيء ﴿خلقوا من الأرض﴾ أي لتصح لكم دعوى الشركة فيهم، وإلا فادعاؤكم ذلك فيهم كذب محض وأنتم تدعون أنكم أبعد الناس منه في
ولما نبههم بهذا الأمر الذي ساقه المعلم بأنه لا ينبغي لعاقل أن يدعي شركة لشيء حتى يعلم الشركة وإن جهل عين المشارك فيه، قال مؤكداً لذلك موسعاً لهم في المحال، زيادة في تبكيتهم على ما هم فيه من الضلال: ﴿أم لهم شرك﴾ أي وإن كان قليلاً ﴿في السماوات﴾ أي أروني ما خلقوا في السماوات، فالآية من الاحتباك: حذف أولاً الاستفهام عن الشركة في الأرض لدلالة مثله في السماء ثانياً عليه، وحذف الأمر بالإراءة ثانياً مثله أولاً عليه.
ولما أتم التبكيت بالاستفهام عن المرئي، أتبعه التوبيخ بالاستفهام عن المسموع، مؤذناً بالالتفات إلى التكلم بمظهر العظمة بشديد الغضب فقال: ﴿أم آتيناهم﴾ أي الشركاء أو المشركين بهم بما لنا من العظمة ﴿كتاباً﴾ أي دالاً على انه من عندنا بإعجازه أو غير ذلك من البراهين
ولما كان التقدير: لم يكن شيء من ذلك فليسوا على بيان، بل على غرور، قال منبهاً لهم على ذميم أحوالهم وسفه آرائهم وخسة هممهم ونقصان عقولهم مخبراً أنهم لا يقدرون على الإتيان بشيء مما به يطالبون وأنه ليس لهم جواب عما عنه يسألون، وأكده لأجل ظنهم أن أمورهم في غاية الإحكام، ﴿بل أن﴾ أي ما ﴿يعد الظالمون﴾ أي الواضعون للأشياء في غير مواضعها ﴿بعضهم بعضاً﴾ أي الأتباع للمتبوعين بأن شركاءهم تقربهم إلى الله زلفى وأنها تشفع وتضر ولا تنفع ﴿إلا غروراً *﴾.
ولما بين حقارة الأصنام وكل ما أشركوا به النسبة إلى جلال عظمته، وكانوا لا يقدرون على ادعاء الشركة في الخلق في شيء من ذلك،
ولما كان هذا دليل على أنهما حادثتان زائلتان، أتبعه ما هو أبين منه، فقال معبراً بأداة الإمكان: ﴿ولئن زالتا﴾ أي بزلزلة أو خراب ﴿إن﴾ أي ما ﴿أمسكهما﴾ وأكد استغراق النفي بقوله: ﴿من أحد﴾ ولما كان المراد أن غيره سبحانه لا يقدر على إمساكهما في زمن من
ولما كان السياق إلى الترغيب في الإقبال عليه وحده أميل منه إلى الترهيب، وكان كأنه قيل: هو جدير بأن يزيلهما لعظيم ما يرتكبه أهلهما من الآثام وشديد الإجرام، قال جواباً لذلك وأكده لأن الحكم عما يركبه المبطلون على عظمه وكثرتهم مما لا تسعه العقول: ﴿إنه كان﴾ أي أزلاً وأبداً ﴿حليماً﴾ أي ليس من شأنه المعاجلة بالعقوبة للعصاة لأنه لا يستعجل إلا من يخاف الفوت فينتهز الفرص، ورغب في الإقلاع مشيراً إلى أنه ليس عنده ما عند حلماء البشر من الضيق الحامل لهم على أنهم إذا غضبوا بعد طول الأناة لا يغفرون بقوله: ﴿غفوراً *﴾ أي محاء لذنوب من رجع إليه، وأقبل بالاعتراف عليه، فلا يعاقبه ولا يعاتبه.
ولما أخبر عن قسمهم، حكى معنى ما أقسموا عليه دون لفظه بقوله: ﴿لئن جاءهم﴾ وعبر بالسبب الأعظم للرسالة فقال: ﴿نذير﴾ أي من عند الله ﴿ليكونن﴾ أي الكفار ﴿أهدى﴾ أي أعظم في الهدى ﴿من إحدى﴾ أي واحدة من ﴿الأمم﴾ أي السالفة أو من الأمة التي لم تكن في الأمم التي جاءتها النذر أهدى منها، قال أبو حيان: كما قالوا هو أحد الأحدين، وهي إحدى الأحد، يريدون التفضيل
«لا تمكروا ولا تعينوا ماكراً فإن الله يقول هذه الآية، ولا تبغوا ولا تعينوا باغياً يقول الله ﴿إنما بغيكم على أنفسكم﴾ ولا تنكثوا ولا تعينوا ناكثاً قال الله: ﴿ومن نكث فإنما ينكث على نفسه﴾ ».
ولما كان هذا سنة الله التي لا تبديل لها، قال مسبباً عن ذلك: ﴿فهل ينظرون﴾ أي ينتظرون، ولعله جرد الفعل إشارة إلى سرعة الانتقام من الماكر المتكبر، ويمكن أن يكون من النظر بالعين لأنه شبه العلم بالانتقام من الأولين مع العلم بأن عادته مستمرة، لأنه لا مانع له منها لعظيم تحققه وشدة استيقانه وقوة استحضاره بشيء محسوس حاضر لا ينظر شيء غيره في ماض ولا آت لأن غيره بالنسبة إليه عدم. ولما جعل استقبالهم لذلك انتظاراً منهم له، وكان الاستفهام
ولما كان هذا النظر يحتاج إلى صفاء في اللب وذكاء في النفس، عدل عن ضميرهم إلى خطاب أعلى الخلق، تنبيهاً على أن هذا مقام لا يذوقه حق ذوقه غيره، فسبب عن حصر النظر أو الانتظار في ذلك قوله، مؤكداً لأجل اعتقاد الكفرة الجازم بأنهم لا يتغيرون عن حالهم وأن المؤمنين لا يظهرون عليهم: ﴿فلن تجد﴾ أي أصلاً في وقت من الأوقات ﴿لسنت الله﴾ أي طريقة الملك الأعظم التي شرعها وحكم بها، وهي إهلاك العاصين وإنجاء الطائعين ﴿تبديلاً﴾ أي من أحد يأتي بسنة أخرى غيرها تكون بدلاً لها لأنه لا مكافئ له ﴿ولن تجد لسنت الله﴾ أي الذي لا أمر لأحد معه ﴿تحويلاً *﴾ أي من حالة إلى أخفى منها لأنه لا مرد لقضائه، لأنه لا كفوء له، وفي الآية أن أكثر حديث النفس الكذب، فلا ينبغي لأحد أن يظن بنفسه خيراً ولا أن يقضي على غائب إلا أن يعلقه بالمشيئة تبرؤاً من الحول والقوة لعل الله يسلمه في عاقبته.
ولما كان التقدير: فما أعجز الله أمر أمة منهم، ولا أمر أحد من أمة حين كذبوا رسولهم، وما خاب له ولي ولا ربح ولا عدو، عطف عليه قوله، مؤكداً إشارة إلى تكذيب الكفرة في قطعهم بأن دينهم لا يتغير، وأنهم لا يغلبون أبداً لما لهم من الكثرة والمكنة وما للمسلمين من القلة والضعف: ﴿وما كان الله﴾ أي الذي له جميع العظمة؛ وأكد الاستغراق في النفي بقوله: ﴿ليعجزه﴾ أي مريداً لأن يعجزه، ولما انتفت إرادة العجز فيه انتفى العجز بطريق الأولى! وأبلغ في التأكيد بقوله: ﴿من شيء﴾ أي قل أو جل! وعم بما يصل إليه إدراكنا بقوله: ﴿في السماوات﴾ أي جهة العلو، وأكد بإعادة النافي فقال: ﴿ولا في الأرض﴾ أي جهة السفل. ولما كان منشأ العجز الجهل، علل بقوله مؤكداً لما ذكر في أول الآية: ﴿إنه كان﴾ أي أزلاً وأبداً ﴿عليماً﴾ أي شامل العلم ﴿قديراً *﴾ أي كامل القدرة، فلا يريد شيئاً إلا كان.
ولما كانوا يستعجلون بالتوعد استهزاء فيقولون: ما له لا يهلكنا، علم أن التقدير: لو عاملكم الله معاملة المؤاخذ لعجل إهلاككم، فعطف عليه قوله إظهاراً للحكم مع العلم: ﴿ولن يؤاخذ الله﴾ أي بما له من صفات العلو ﴿الناس﴾ أي من فيه نوس أي حركة واضطراب من المكلفين عامة.
ولما كان السياق هنا لأفعال الجوارح لأن المكر والكبر إنما تكره آثارهما لا الاتصاف بهما، بخلاف الذي هو سياق النحل فإنه ممنوع من الاتصاف وإن لم يظهر به أثر من آثار الجوارح، عبر هنا بالكسب
ولما كانوا ينكرون ما يفمهه ذلك من البعث، أكد فقال: ﴿فإن الله﴾ أي الذي له صفات الكمال الموجد بتمام القدرة وكمال
وتسمى القلب والدافعة والقاضية والمعمة. مقصودها إثبات الرسالة التي هي روح الوجود وقلب جميع الحقائق وبها قوامه وصلاحها للملارسل بها الذي هو خالصة المرسلين الذين هم قلب الموجودات كلها ذوات ومعاني إلى أهل مكة أم القرى وقلب الأرض وهم قريش قلب العرب الذين هم فلب الناس، بصلاحهم صلاحهم كلهم وبفسادهم فسادهم، فلذلك كان من حولهم جميع أهل الأرض، وجل فائدة الرسالة إثبات اللوحدانية التي هي قلب الإعتقاد وخالصه وعموده للعزيز الرحيم ذي الجلال والإكرام، وإنذار يوم الحجمع الذي به - مع ستره عن العيان الذي هو من خواص القلب - صلاح الخلق، فهو قلب الأكوان، وبه الصلاح أو الفساد للإنسان، وعلى ذلك تنطبق معاني أسمائها: يس والقلب والدافعة والقاضية
لما كان قلب كل شيء أبطن ما فيه وأنفس، وكان قلب الإنسان غائبا عن الإحساس، وكان مودعا من المعاني الجليلة والإدراكات الحفية والجلية ما يكون للبدن سببا في إصلاحه أو إفساده من إشقائه أن إبقائه، وكان الساعة من عالم الغيب، وفيها
يكون انكشاف الأمور، والوقوف على حقائق المقدور، وبملاحقتها
يكون به جياة هنيئة، وهي مبدأ الصلاح كما أ، البعث غايته، وأن الخاتم لها إنسان عين الموجودات وقلبها، فأثبت له ذلك على أصرح وجه وآكده،
سورة فاطر
سورةُ (فاطرٍ) من السُّوَر المكِّية، افتُتِحت بحمدِ الله على كمالِ قُدْرته في خَلْقِ هذا الكونِ والتصرُّفِ به، اللازمِ منه إثباتُ قُدْرته تعالى على البعث والجزاء؛ بالخيرِ خيرًا، وبالشرِّ شرًّا إن شاء سبحانه وتعالى، فأوضحت السورةُ مصيرَ الكافرين، وأبانت عن أسباب صُدودهم، وخُتِمت بدعوتهم للتفكير والتأمُّل فيما حولهم.
ترتيبها المصحفي
35نوعها
مكيةألفاظها
778ترتيب نزولها
43العد المدني الأول
46العد المدني الأخير
46العد البصري
45العد الكوفي
45العد الشامي
46* سورةُ (فاطرٍ):
سُمِّيت سورةُ (فاطرٍ) بهذا الاسم؛ لافتتاحها بهذا الوصفِ لله عزَّ وجلَّ.
اشتمَلتْ سورةُ (فاطرٍ) على الموضوعات الآتية:
1. الاستفتاح بالحمد (١-٢).
2. يا أيها الناس (٣-٢٦).
3. النداء الأول: تذكيرٌ وتسلية (٣-٤).
4. النداء الثاني: أسباب الغُرور (٥-٨).
5. آيات الله في الكون (٩-١٤).
6. النداء الثالث: غِنى الله تعالى وعدلُه (١٥- ٢٦).
7. كتاب الله المنظورُ (٢٧-٢٨).
8. نعمة القرآن، ومصيرُ المؤمنين (٢٩-٣٥).
9. مصير الكافرين (٣٦- ٣٧).
10. دلائل العظمة، وشواهد القدرة (٣٨-٤١).
11. أسباب الصُّدود (٤٢-٤٣).
12. دعوة للسَّير والنظر (٤٤-٤٥).
ينظر: "التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (6 /241).
مقصدُها إثباتُ كمالِ القدرةِ لله عزَّ وجلَّ، الخالقِ لهذا الكونِ بآياته العظام، القادرِ على أن يَبعَثَ الناسَ ويجازيَهم على أعمالهم؛ إنْ خيرًا فخيرٌ، وإنْ شرًّا فشرٌّ.
ينظر: "مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور " للبقاعي (2 /385).