ﰡ
نزلت بمكة بعد الحجر عدا الآيات ٢/ ٣٢ و ٩٢/ ٩٣ و ١١٤/ ١٤١ و ١٥١/ ١٥٢ و ١٥٣ فإنها نزلت بالمدينة وهي مئة وخمس وستون آية، وثلاثة آلاف وخمسون كلمة، واثنا عشر ألفا وأربعمائة واثنان وعشرون حرفا، وتقدمت السور المبدوءة بما بدئت فيه في سورة الفاتحة في ج ١، ولا يوجد مثلها في عدد الآي.
(بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)
قال تعالى: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ» ابتدأ جل شأنه الخلق بالحمد في هذه الآية، وختمه بالحمد، في قوله جل قوله (وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) آخر سورة الزمر الآتية، وبدأ الربع الأول بحسب ترتيب القرآن الموافق لما هو في علم الله بالحمد في سورة الفاتحة، التي ذكرنا فيها معاني الحمد وما يتعلق فيه في ج ١، وفي المقدمة في بحث الحمد أيضا ما به كفاية عن الإعادة في موضع آخر، وبدأ ربعه الثاني في هذه السورة، وربعه الثالث بالحمد في سورة الكهف، وربعه الرابع بالحمد في سورة فاطر، كل ذلك لتعظيم الحمد لديه تعالى ولحث عباده على المداومة عليه لما فيه من الفضل الجزيل والثواب الكثير وحق التأدية لنعم الله تعالى، وبين لهم كيفيته ليحمدوه بها، وجملة الحمد هنا وفي كل موضع خبرية لفظا إنشائية معنى، إلى أن من يقول الحمد لله كأنما قال أحمده على الدوام والاستمرار، وخص السموات والأرض لأنهما من أعظم مخلوقاته فيما يراه الناس، وإلا فالعرش والكرسي أعظم بكثير، وقد جاء في الخبر أن أرضكم هذه بالنسبة لعرش الرحمن كحلقة ملقاة بفلاة، وال فيها للجنس فتشمل جميع أفرادها، وإذا كانت للعهد فالمعهود كلاهما أيضا، وإذا أريد الاستغراق فكذلك فهي صالحة للجميع. قال تعالى «وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ» فيها إذ خلقها بعد خلقها، وجعل فيهما منافع جمة للعباد والحيوان والجماد، ومنهما جعل الليل والنهار، وفي هذه الآية رد على الثنوية القائلين بقدم النور والظلمة، وقد أفرد النور لإرادة الجنس فيصدق على الواحد والمتعدد، وجميع الظلمات باعتبار الإفراد يشمل ظلمة الليل وظلمة البحر وظلمة الموقع وظلمة البطن لمخالفة كل منها الأخرى، والنور لا يختلف.ومن هذا الترتيب يفهم أن خلق السموات قبل الأرض والظلمة قبل النور، إلا أن العطف بالواو لا يقتضي الترتيب كما هو ظاهر. قال تعالى (خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ) وقال تعالى (يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ) الآية الأولى من سورة تبارك الملك الآتية، والثانية الآية ٥٥ من المائدة في ج ٣، وقدمنا ما يتعلق بنشأة الكون في الآية ٢٧ من سورة الحجر المارة وما يتعلق بمبدأه ولبحثها صلة في الآية ٣٠ من سورة الأنبياء الآتية «ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ ١» يساوون به غيره من الأوثان بعد أن علموا أنه الخالق، لذلك كله تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، وبعد أن جعل هذه المخلوقات لمنافعهم ذكرهم بأصول خلقهم علهم ينتهون فقال «هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ» ابتدأ خلق أبيكم آدم منه، أخرج أبو داود والترمذي عن أبي موسى الأشعري قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول إن الله تعالى خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض فجاء بنو آدم على قدر الأرض (أي ألوانها) منهم الأحمر ومنهم الأبيض والأسود وبين ذلك، والسهل والحزن والخبيث والطيب وبين ذلك. وقد نزلت هذه الآية ردا على المشركين الذين ينكرون البعث بعد الموت يفهمهم فيها أن الذي يخلق من الطين بشرا ألا يقدر على إعادته بعد فنائه وإحيائه بعد إماتته، بلى، وهو أهون عليه، لأن الخلق الأول على غير مثال سابق والإعادة عبارة عن خلقه على حالته الأولى، فالذين يعملون الآن السيارات والطيارات والدبابات والقذائف والألغام وغيرها لا فضل لهم بها لأن الفضل كله إلى الذي ابتكر صنعها إبداعا بتعليم الله إياه، ولهذا يقول الله تعالى (أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ) الآية ١٥ من سورة ق في ج ١، وإنما قال ذلك لأن الخلق الثاني عبارة عن إعادة ما خلقه أولا وليس بشيء عنده، واعلم أن ما يخلقه الإنسان هو من خلق الله، قال تعالى (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) الآية ٩٧ من الصافات الآتية، وإن عملهم هذا تقليد للمخترع الأول الذي ابتكر صنعها ليس إلا، لأن الشيء بعد إيجاده يسهل تقليده والعسر كل العسر في إبداعه وتصويره وإنشائه، ولا سواء بين الخالق والمخلوق، لأن المخلوق يحتاج للتعب والتفكر والتدبر وما يعتمد
عليه في تفسير الآية، ومعنى قضى قدر وحكم وكتب في الأزل، ويراد بالكتابة ما تعلمه الملائكة، كما جاء في حديث الصحيحين: إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم مضغة مثل ذلك، ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح
لا نؤمن بك يا محمد حتى تأتينا بكتاب من عند الله مع أربعة من الملائكة يشهدون على أنه من عند الله وأنك رسول الله، فأنزل الله «وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ» وظهر لهم كما أرادوا، لأن اللمس أبلغ من المشاهدة «لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا» والمقترحون خاصة «إِنْ هذا» ما هو بقرآن ولا هو مكتوب على ورق وليس بشيء وإن كنا نراه ما هو «إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ ٧» تخيّل علينا به ووقّه كما قالو في انشقاق القمر تعنتا وعنادا لأنهم لا ينتفعون بالآيات بسبب إصرارهم على الكفر «وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ»
يشهد له بأنه مرسل من الله لآمنا به وصدقناه. قال تعالى «وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً» على رسولهم محمد كما طلبوا «لَقُضِيَ الْأَمْرُ» بإهلاكم لأنا لا نرسل الملائكة إلا لتنفيذ أوامرنا وإنجاز وعيدنا وقد جرت عادتنا أن كل أمة اقترحت على نبيها شيئا وآتاهم ما اقترحوه ولم يؤمنوا استأصلناهم بالعذاب ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ ٨» إذ لا تقبل التوبة عند نزوله، وإنما لم نفعل ذلك لما هو ثابت في علمنا أزلا أن منهم من يؤمن «وَلَوْ جَعَلْناهُ» ذلك الرسول «مَلَكاً» وهذا رد لقولهم لو شاء ربك لأنزل ملائكة لهداية البشر، لأن البشر لا يهدي مثله بزعمهم الباطل «لَجَعَلْناهُ رَجُلًا» على صفة المرسل إليهم، لأن البشر لا يستطيع النظر إلى صورة الملك الحقيقية، ولذلك حينما نرسل الملائكة إلى البشر نرسلهم بصورة البشر كما فعلنا ذلك مع داود ولوط وابراهيم وكما جاء جبريل إلى محمد بصورة
محمد بشر وليس كالبشر | محمد جوهر والناس كالحجر |
وكيف يدرك في الدنيا حقيقته | قوم نيام تسلوا عنه بالحلم |
فمبلغ العلم فيه أنه بشر | وأنه خير خلق الله كلهم |
دع ما ادعته النصارى في نبيهم | واحكم بما شئت مدحا فيه واحتكم |
فأوطأ جرد الخيل عقر ديارهم | وحاق بهم من بأس ضربة حائق |
«قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا» ببصركم وتأملوا ببصيرتكم على تأويل النظر بالاعتبار، وقد يؤول السير أيضا بالاعتبار وبالشيء على الأقدام، أي اعتبروا وانظروا «كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ١١» أمثالكم إذ أورثهم كفرهم
مطلب في الرحمة ومعنى كتبها على نفسه المقدسة وأن الضار والنافع هو الله تعالى:
روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لما خلق الله الخلق كتب في كتاب فهو عنده فوق العرش إن رحمتي تغلب غضبي. وفي البخاري:
إن الله كتب كتابا قبل أن يخلق الخلق إن رحمتي سبقت غضبي فهو مكتوب عنده فوق العرش. وروى مسلم عن سلمان الفارسي قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم إن الله خلق يوم خلق السموات والأرض مئة رحمة كل رحمة طباق ما بين السماء والأرض فجعل منها فى الأرض رحمة واحدة (أي وأخر التسعة والتسعين كما مر في الآية ٥٠ من سورة الحجر المارة) فبها تعطف الوالدة على ولدها والوحش والطير بعضها على بعض، فإذا كان يوم القيامة أكملها بهذه الرحمة. وروى البخاري ومسلم عن عمر قال: قدم على رسول الله صلّى الله عليه وسلم سبي فإذا امرأة من السبي تبتغي (تطلب وتتحرى) إذ وجدت صببا في السبي أخذته فألصقته ببطنها وأرضعته، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم أترون هذه المرأة طارحة ولدها في النار؟ قلنا لا والله وهي تقدر أن لا تطرحه، فقال صلّى الله عليه وسلم لله أرحم بعباده من هذه المرأة بولدها. راجع الآية ٥٠ المذكورة آنفا تجد ما يتعلق بهذا البحث «لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ» بأنه آت بلا شك «الَّذِينَ» نصب بفعل الذم المقدر
١٥» لا مخلص منه لأحد «مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ» أي ذلك العذاب ويتخلص من وباله «يَوْمَئِذٍ» عند حلوله في موقف القيامة المهيب «فَقَدْ رَحِمَهُ» الله بالنجاة منه وفاز بخير الدنيا والآخرة لأنهما حالتان واقعتان لا ثالث لهما، إما الرحمة والجنة أو العذاب والنار «وَذلِكَ» صرف العذاب الناتج عنه دخول الجنة «الْفَوْزُ الْمُبِينُ ١٦» الذي لا غبار عليه «وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ» أيها الإنسان «بِضُرٍّ» من كلّ ما تكرهه نفسك «فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ» وحده جل جلاله «وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ» من كل ما تحبه نفسك فكذلك لا راد له إلا هو «فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ١٧» ومن جملة الأشياء المقدورة دفع الضر وجلب الخير لمن يشاء، وهذا الخطاب وإن كان خاصا بحضرة الرسول إلا أنه عام له ولأمته. فيعلم من هذه الآية أن الضار
الحقيقي والنافع هو الله تعالى وحده لا دخل لأحد من خلقه به البتة، وإن ما نراه من وجود النفع والضر بواسطة بعض خلقه هو بتقديره أيضا، لأنه عبارة عن واسطة وأسباب ظاهرية اقتضت حكمته وجودها على أيديهم وفقا لسابق علمه الأزلي بحدوثها كذلك فسخرهم للقيام بها. أخرج الترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كنت خلف النبي صلّى الله عليه وسلم يوما فقال يا غلام إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه لك، وإن اجتمعت على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف، أي بما هو كائن بحيث لا يبدل ولا يغير ولو أطبقت عليه أهل السماء والأرض لأنه من كلام الله، وقد قال جل شأنه (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) الآية ٨٤ من سورة الإسراء في ج ١، وقد زاد رزين بالحديث السابق.
(تعرّف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة، وفيه أيضا: إن استطعت أن تعمل لله بالرضاء باليقين فافعل، فإن لم تستطع فاصبر فإن الصبر على ما تكره خير كثير) واعلم أن النصر مع الصبر والفرج مع الكرب، وإن مع العسر يسرا، ولن
وروى أبو داود عن جبير بن محمد بن مطعم عن أبيه عن جده قوله صلّى الله عليه وسلم للرجل الذي استشفع بالله تعالى: ويحك أتدري ما الله تعالى؟ إن الله تعالى فوق عرشه، وعرشه فوق سمائه، وقال بأصابعه مثل (القبة) وانه ليئط أطيط الرحل الجديد بالراكب.
وأخرج الأموي في مغازيه من حديث صحيح أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال لسعد يوم حكم في بني قريظة: لقد حكمت فيهم بحكم الملك من فوق سبع سموات. وروى ابن ماجه يرفعه قال: بينا أهل الجنة في نعيمهم إذ سطع لهم نور فرفعوا رءوسهم فإذا
المعبود في السموات والأرض «إِلهٌ واحِدٌ» لا إله غيره واقطع أطماعهم بقولك «وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ» ١٩» به من الأوثان. هذا وقد استنبط العلماء من هذه الآية استحباب قول الرجل أو المرأة أو غيرهما كل يوم: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله برئت من كل دين يخالف دين الإسلام. وتدل هذه الآية على جواز اطلاق الشيء على الله لأنه اسم للموجود، ولا يطلق على العدم، قال في بدء الأمالي:
فسمّى الله شيا لا كالاشيا | وذاتا عن جهات الست خالي |
وما المعدوم مرثيا وشيئا | لفقه لاج في ضوء الهلال |
والله لن يصلوا إليك بجمعهم | حتى أوسد في التراب دفينا |
فاصدع بأمرك ما عليك غضاضة | وابشر بذاك وقر منه عيونا |
ودعوتني وعرفت أنك ناصحي | ولقد صدقت وكنت ثم أمينا |
هو الجد حتى تفضل العين أختها | وحتى يكون اليوم لليوم سيدا |
«قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ» غبنوا وخابوا وفاتهم الثواب المؤدي إلى الجنة المنعم به على المصدقين وتلبسوا بالعقاب الموصل إلى النار إذ تمادوا في الدنيا على تكذيبهم ولم يحسوا بأنفسهم «حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً» فجاة على حين غرة
أخرج الترمذي عن علي بن أبي طالب عليه السلام أن أبا جهل قال للنبي صلّى الله عليه وسلم:
إنا لا نكذبك ولكن نكذب ما جئت به، وقال ناجية بن كعب: قال أبو جهل للنبي صلّى الله عليه وسلم ما نتهمك ولا نكذبك ولكنا نكذب الذي جئت به من الدين المخالف لدين آبائنا وإذعانك أن هناك حياة أخرى نحاسب فيها على ما كان منا في هذه الدنيا.
وإنما سلى الله رسوله في هذه الآية لأنهم مع اعتقادهم صدقه على ما علمت من قول أبي جهل المار ذكره لا يؤمنون بما جاءهم به حسدا، ويضاهي هذه الآية ما أنزله الله بحق غيرهم في قوله عزّ قوله (وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا) الآية ١٤ من سورة النمل المارة في ج ١، قال تعالى «وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ» من أقوامهم وأتباعهم «فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا» ألا تصبر أنت يا محمد على تكذيب قومك «وَأُوذُوا» أيضا بأكثر مما أوذيت به وانتظروا وعد الله بنصرتهم عليهم وبقوا متحملين أذاهم «حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا» فلك أسوة بهم فثابر على الصبر حتى يأتي الوقت المقدر لذلك «وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ» التي وعد بها عباده المخلصين المنوه بها بقوله عزّ قوله (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ) الآية ١٧٢ و ١٧٣ من الصافات الآتية، وقوله تعالى (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا) الآية ٥١ من سورة المؤمن الآتية أيضا، وقوله تعالى (كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي) الآية ٢١ من سورة المجادلة في ج ٣ والآية ١٠٣ من سورة يونس المارة فراجعها، ولا خلف لوعد الله
قال أوس في تأنيثه:
لنا سلم في المجد لا يرتقونها | وليس لهم في سورة المجد سلم |
الشعر صعب وطويل سلّمه | إذا ارتقى فيه الذي لا يعلمه |
لا يعجبن الجهول بزيه... فذاك ميت ثيابه كفن
وقال: أبا سامعا ليس السماع بنافع... إذا أنت لم تفعل فما أنت سامع
إذا كنت في الدنيا عن الخير عاجزا... فما أنت في يوم القيامة صانع
«وَقالُوا» أولئك الكفرة «لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ» تشهد على رسالته مثل الأنبياء قبله لآمنا به فأنزل الله تعالى إنزاله «قُلْ» لهؤلاء الكفرة يا سيد الرسل «إِنَّ اللَّهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً» مثل ما أنزل على من قبلك «وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ٣٧» عاقبتها لأنهم إذا لم يؤمنوا بالآيات المقترحة يستأصلون بالعذاب دون مهلة ما كأمم الأنبياء قبلهم الذين أعطوا ما اقترحوه ولم يؤمنوا فأخذهم الله والله تعالى عالم بأن هؤلاء المقترحين لا يؤمنون وان الذين سيؤمنون منهم لم يحن وقت إيمانهم المقدر لهم وان البلاء إذا نزل عم راجع الآية ٢٥ من سورة الأنفال في ج ٣، على أن من يريد الإيمان عن صدق فلديه القرآن أكبر آية وأعظم معجزة وأجل برهان ولكن لا يقصدون من ذلك إلا العناد والتمادي في الضلال «وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ» من كل ما دب على ظهرها «وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ» أي أن كل جنس من الحيوان أمة مثل البشر والجن، فالطير أمة والوحش أمة والحوت أمة والجراد أمة والديدان أمة وهلم جرا من كل ما كان من خلق الله بالولادة أو التوالد سواء كان على وجه
مطلب كل شيء في القرآن مما كان ومما سيكون والآية الخارقة لعقيدة المعتزلة:
وهنا يظهر سر قوله تعالى «ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ» مما علمه البشر ومما لم يعلمه بدليل التنكير والتفريط يتعدى بعن وقد ضمن هنا معنى ما أغفلنا ولا تركنا شيئا إلا وقد أشرنا إليه في اللوح المحفوظ وألمعنا إلى بعض ما في علمنا في هذا القرآن من أمر الدين والدنيا والآخرة، روى البخاري عن ابن مسعود أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: لعن الله الواشمات والمستوشمات والمتنمّصات والمتفلجات للحسن المغيرات لخلق الله، فقالت له امرأة في ذلك فقال ومالي لا ألعن من لعن رسول الله وهو في كتاب الله فقالت له قرأت ما بين اللوحين (تريد القرآن كله)
سيد الخلق «قُلْ» لهؤلاء المعاندين «أَرَأَيْتَكُمْ» أخبروني، تقول العرب أرأيتك أي أخبرني عن حالك والمراد بهذا الاستخبار تبكيتهم والقامهم الحجر بما لا سبيل إلى إنكاره «إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ» في الدنيا كما أتى على من قبلكم من الموت الفجائي بخسف أو رجم أو غرق أو صيحة أو غيرها فصعقتم حالا دون مهلة أتدعون أحد يكشف ما حل بكم أو أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ» على حين غرة «أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ» لكشف ذلك عنكم وهل تغيثكم أصنامكم إذا استغثتم بها على كشفه أجيبوني «إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ٤٠» أنها تنجيكم من ذلك فإن قالوا لك شيئا أو لم يقولوا فقل يا سيد الرسل
«بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ» لا غير لأنكم تعرفون أنها لا تنفعكم في مهماتكم ولا في غيرها ولكنكم إذا دعوتم الله عن صدق نية وحسن عقيدة وحقيقة يقين «فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ وَتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ ٤١» لشدة الهول النازل بكم فنتضرعون إلى الله بادىء الرأي وتدعون أصنامكم لعلمكم بعجزها عن دفع الضر عن نفسها فضلا عن غيرها، فإذا كان كذلك وهو كذلك أيليق بكم وأنتم تدعون العقل أن تتركوا
ألا موت يباع فأشتريه | فهذا الحال مما لا خير فيه |
٤٤» آيسون كثيروا الأسف والحسرة حزنا على ما فاتهم فيها لأن المبلس المطرق رأسه أسى على ما حل به من الندم وعدم تلافي ما فرط به، روى عامر بن عقبة أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال إذا رأيت الله يعطي العبد ما يحب وهو مقيم على معصيته فإنما ذلك استدراج ثم تلا هذه الآية أسنده الطبري وذكره البغوي بغير سند «فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا» أنفسهم وأهلكوا عن آخرهم يقال دبر فلان القوم إذا كان آخرهم، أي فكأنهم لم يلبثوا فيها وقد انقلب فرحهم ترحا وعزهم ذلة كما قال القائل:
ألا إنما الدنيا كظل سحابة | أظلنك يوما ثم عنك اضمحلت |
فلا تك فرحانا إذا هي أقبلت | ولا تك جزعانا إذا هي ولت |
إذا جاءت الدنيا عليك فجد بها | على الناس طرا قبل أن تتفلت |
فلا الجود يفنيها إذا هي أقبلت | ولا البخل يبقيها إذا هي ولت |
نعم الإله على العباد كثيرة | وأجلهنّ نجابة الأولاد |
عجبت لحكم الله فينا وقد بدا | له صدفنا عن كل حق منزّل |
مطلب من هلك بسائق غيره لا يعذب وتبرؤ حضرة الرسول من قول قومه وقوله تعالى (وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ) إلخ:
أما إذا كان الهلاك عاما وهلك فيه غير الظالم فإن هلاكه هذا بسائق غيره فلا يعد خسارة عليه وحرمانا بل إن الله تعالى يكافئه في الآخرة خيرا على عمله وخيرا على هلاكه كما أنه يجازي المضل على ضلاله وإضلاله غيره راجع الآية ٢٥ من سورة الأنفال في ج ٣ والآية ٨٨ من سورة النحل الآتية، «وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ» المؤمنين بالثواب «وَمُنْذِرِينَ» الكافرين بالعقاب «فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ» عمله بعد إيمانه «فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ» حين يخاف الناس «وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ٤٨» إذا حزنوا بل الأمن لهم والبشرى في الدنيا والآخرة «وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا» في الدنيا وأصروا على تكذيبهم حتى هلكوا فهؤلاء «يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ» بالآخرة حتما سواء سلموا من عذاب الدنيا أو عذبوا فيها جزاء «بِما كانُوا يَفْسُقُونَ» ٤٩ يخرجون عن الطاعة «قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ» أجري عليكم منها ما تريدون «وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ» لأخبركم بما تقترحون أيكون أم لا «وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي
أقوى على ما لا يقواه البشر لأفتك بكم أي لا أدعي الإلهية ولا الملكية ولا الغنى ولهذا فلا يفهم من معنى هذه الآية أن الملك أفضل من الرسول راجع الآية ٣٠ من سورة هود المارة وإنما أنا بشر مفتقر إلى الله في كل أموري «إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ» فأعمل به وأخبركم وأدعوكم للعمل به لا غير «قُلْ» لهم يا سيد الرسل «هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ» الضال والمهتدي «أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ ٥٠» في عدم التسوية بينهما تدل هذه الآية الكريمة على أن حضرة الرسول ما كان مجتهدا في شيء من الأحكام بل كان يتبع وحي الله فقط فيعمل به وهو الصحيح لأنه لا ينطق عن هوى، وسبب نزول هذه الآية الرد على الكفرة الذين يقترحون على الرسول إنزال الآيات السماوية ليصدقوه فأمره الله تعالى أن يقول لهم ما ذكره في هذه الآية حسما للباب،
قال تعالى «وَأَنْذِرْ بِهِ» بما أوحي إليك من لدنا «الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ» المقرين بالبعث وخص المؤمنين مع أن إنذاره عليه السلام عام لجميع الخلق لأن الحجة على هؤلاء أولى من غيرهم، والمراد بالحشر المحل الذي يريده الله تعالى لجمع الخلق وهو الموقف لا إليه ذاته جلت عن المكان فلا حجة في هذه الآية إلى المجسمة القائلين إن إلى (في إِلى رَبِّهِمْ) تفيد الغاية إلى المكان فيكون تعالى شأنه مختصا بمكان تنزه عن ذلك.
هذا ويدخل في حكم هذه الآية المجوزون للحشر سواء كانوا جازمين بأصله كأهل الكتاب، وبعض المشركين المترددين في شفاعة آبائهم الأنبياء كالأولين المعترفين بالبعث بعد الموت أو في شفاعة الأصنام كالآخرين المجوزين للحشر الجازمين فيه من أهل الكتاب وبعض المشركين أي المترددين بهما معا كبعض الكفرة الذين يعلم من حالهم أنهم إذا سمعوا بحديثه يخافون أن يكون حقا، وأما المنكرون للحشر رأسا والقائلون به القاطعون بشفاعة آبائهم أو بشفاعة الأصنام فهم خارجون عمن أمر بإنذارهم هكذا، قال شيخ الإسلام أما ما قيل إن المراد بهم المؤمنون المفرطون أو الكافرون معا بداعي أن الكل يخاف الحشر لأن الرسول مبعوث للكل فهو وجيه إلا أن سياق الكلام لا يساعده وسباقه ينافيه ومما يرد القول الأخير قوله تعالى «لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ» أي الله «وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ» يشفع لهم
هذا وإنما أمر الله تعالى رسوله أن يتقدم لمثل هؤلاء بالإنذار رحمة بهم «لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ٥١» الكفر ودواعيه فيدخلون في زمرتهم، ولما أمر الله غير المتقين ليتقوا أمر بتقريب المتقين إليه وأن لا يقصيهم عن مجلسه فقال عز قوله «وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ» إرضاء للكفرة الذين يأنفون مجالستهم فإياك إياك أن تفعل ذلك، وتشعر هذه الآية بالثناء على هؤلاء المذكورين فيها لمواصلتهم ذكر الله ومواظبتهم على عبادته صباح مساء ولذلك وصفهم بالإخلاص المستفاد من قوله جل قوله «يُرِيدُونَ وَجْهَهُ» ذاته المقدسة بدعائهم لا غير وهؤلاء يا حبيبي «ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ» لأن حسابهم على الله وحده «وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ» لأن حسابك أيضا على الله وذلك أن المشركين طعنوا في دين هؤلاء وإخلاصهم على حد قوله تعالى حكاية عن قوم نوح عليه السلام (ما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا) الآية ٢٧ من سورة هود المارة فأخبره الله تعالى بأنك لا تكلف أمرهم كما هم لم يتكلفوا أمرك لأن وظيفة الرسل النظر إلى ظواهر الأمور وتفويض البواطن إلى الله أي ليس لك يا محمد أن تطردهم بداعي أن إيمانهم غير خالص لأنك لا تعلم ما في قلوبهم، ولهذا حذّره بقوله «فَتَطْرُدَهُمْ» وتبعدهم عنك وهذا جواب ما عليك أي إن طردتهم وأجبت رغبة الكفرة «فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ ٥٢» نفسك بإبعادهم عن مجلسك بل عليك أن تقربهم وتدنيهم منك لمجرد تقواهم وطاعتهم لا أن تبعدهم فتظلمهم اتباعا لقول أعدائهم، قال تعالى «وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ» أي اتباع الرسل قبلك ففتنة الغني بالفقير والشريف بالوضيع والصحيح بالمريض هي الأنفة منهم وبالعكس هي الحسد لأن الفقير يرى سعة الغني وخصب عيشه والمريض يرى تمتع
المستثنيات منها وأولى من قول من قال إنها نزلت في المؤلفة قلوبهم المنوه بهم في قلوله تعالى (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ) الآية ٤٩ من سورة الكهف الآتية وهي مدنية وكان إسلام هؤلاء بعد فتح مكة وهذه الآيات التي نحن بصددها نزلت قبل الهجرة في مكة وبينهما بعد عظيم وفرق كثير قال عكرمة فكان صلّى الله عليه وسلم إذا رأى الذين نهى عن طردهم بدأهم بالسلام امتثالا لأمر الله له بذلك وقيل إن الآية الأخيرة أي وإذا جاءك إلخ نزلت في عمر رضي الله عنه لأنه قيل إنه قال لحضرة الرسول حينما طلب منه المشركون طرد أولئك الأبرار لو أجبتهم لما قالوا لعل الله يأتي بهم (وهذا الذي وقع في نفس رسول الله المذكور بالحديث المروي عن سعد بن أبي وقاص) ولم يعلم المضرة الناتجة عن كلامه هذا وعدم رضاء الله بها ثم إنه صار يبكي وقال معتذرا ما أردت إلا خيرا ولكن المقرر أن العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب فالقول بإطلاق هذه الآية على كل مؤمن أولى وأنسب بالمقام ويدخل فيها السيد عمر وغيره دخولا أوليا «وَكَذلِكَ» مثل ما قصصنا لك هذا وبيناه «نُفَصِّلُ الْآياتِ» بذكر أوصاف المطيعين والعاصين «وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ ٥٥» الذين صاروا إلى النار يوم القيامة ليظهر لك الحق الذي أنت عليه وأصحابك والبطل الذي عليه أعداؤك، وقرئ الفعل بالياء لأن السبيل تذكر وتؤنث قال تعالى (وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا) الآية ١٤٥ من الأعراف المارة في ج ١ وقال تعالى (يَبْغُونَها عِوَجاً) الآية ٤٤ منها فالتذكير على لغة تميم والتأنيث على لغة الحجاز وهو بالرفع كأنه قال ليظهر الحق وليستبين سبيل إلخ وحذف المعطوف عليه من المحسنات البديعة وقرىء بنصب سبيل على المفعولية على أن يعود الفاعل لحضرة الرسول ويكون المعنى سايرهم حتى تستوضح طريقهم وإذ ذاك تعاملهم على ما يليق بهم في الدنيا ومرجعهم إلينا في الآخرة فنعاملهم على ما عاشوا عليه «قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ» من الأوثان كافة، لأن أدلة العقل
وما أنتم عليه من الحال «وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ» بفتح الميم جمع مفتح اي المخزن وعليه يكون المعنى
قال تعالى «وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ» المتسلط عليهم بالغلبة المتعالي عليهم بالقدرة راجع معنى الفوقية في الآية ١٨ المارة «وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً» من ملائكة يسجلون أعمالكم راجع الآية ١٨ من سورة ق في ج ١ «حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ» بانقضاء أجله المبرم «تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وَهُمْ» الرسل الموكلون بالوفاة «لا يُفَرِّطُونَ ٦١» في أمرنا ولا يتوانون فيه البتة.
مطلب الجمع بين آيات الوفاة وسرعة الحساب وقول الفلاسفة فيه ومعنى يذيق بعضكم بأس بعض:
واعلم أن المتوفي في الحقيقة هو الله تعالى فإذا حضر أجل العبد أمر الله الملك بقبض روحه والملك الموكل بقبض الأرواح له أعوان وكل أمرهم إليه فيأمرهم بنزع روحه حتى إذا وصلت للحلقوم قبضها هو بنفسه، وهذا التأويل يجمع بين قوله تعالى (اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ) الآية ٤٢ من الزمر المنوه بها أعلاه وقوله تعالى (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ) الآية ١٢ من سورة السجدة الآتية وبين هذه الآية تيقظ «ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ» بعد استيفاء آجالهم في البرزخ وإنما قال تعالى الحق لأنهم أي الكفرة كانوا يزعمون أن مولاهم الصنم الذي اتخذوه فنبههم الله بأن زعمهم
راحت مشرقة ورحت مغربا | شتان بين مشرق ومغرب |
أيها المنكح الثريا سهيلا | عمرك الله كيف يلتقيان |
فالثريا شامية إذا ما استهلت | وسهيل إذا ما استهل يمان |
وكتيبة لبّستها بكتيبة | حتى إذا التبست نفضت لها يدي |
اثنتان لا بد واقعتان وهما الخسف والرجم وبهذا قال أبي بن كعب ومجاهد وغيرهما فيا أكرم الرسل «انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ» ونكررها بالوعد والوعيد والرجاء والخوف والرضاء والغضب «لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ ٦٥» معانيها ويتدبرون مغازيها فينزجروا عما هم فيه «وَكَذَّبَ بِهِ» بهذا القرآن «قَوْمُكَ» يا محمد «وَهُوَ الْحَقُّ» الذي لا مرية فيه ولا أصدق منه «قُلْ» لهم إذ جرأوا على ذلك قوا أنفسكم من عذاب الله لأني «لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ ٦٦» حتى أقيكم منه ولا بمنتقم حتى أجازيكم عليه ولا بحفيظ حتى أحفظكم من عذابه إنما أنا منذر مبلغ مرشد فقط ولكن عليكم أن تعلموا أن «لِكُلِّ نَبَإٍ» من أخبار القرآن «مُسْتَقَرٌّ» ينتهي إليه إما في الدنيا وإما في الآخرة وإما فيهما معا في الوقت والمكان الذي قدر وقوعه فيه لا يتقدم ولا يتأخر ولا يتخلف، ولا تزالون أيها الكفرة تتلبسون في حالتي التكذيب والجحود حتى يأتيكم أمر الله «وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ٦٧» إذ ذاك مغبة عملكم وقساوة جزائه، وهذه الآية محكمة بدليل وقوع التهديد والوعيد في آخرها، وما قيل إنها منسوخة بآية السيف قيل لا يصح لأن صاحب هذا القيل فسر وكيل بعبارة (لم أومر بحربكم) وهذا المعنى أبعد من عنقاء مغرب لأن وكيلا بمعنى حفيظ ورقيب ومدافع وزعيم وحميل ومحام ليس إلا ومتى كان كذلك فإنه إنما يطالبهم بالظاهر من الإقرار والعمل لا بما تحتويه ضمائرهم بدلالة قوله (لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ) تدبر هذا.
مطلب النهي عن مجالسة الغواة وذم اللغو وتهديد فاعليه ومدح من يعرض عنه:
واعلم أن الله تعالى يقول «وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا» المنزلة عليك يا سيد الرسل وهذا خطاب له ولأمته لأن الآية صالحة للعموم أكثر منها للخصوص، وهذا الخوض هو ما يقع منهم من السخرية والاستهزاء والطعن والذم والتكذيب والإنكار بوجود الإله والنبوة والمعاد ومعناه لغة الشروع في الماء والعبور فيه ويستعار للأخذ بالحديث والشروع فيه بطريق التنقيد والتفنيد، يقال
والمنافق والمخالف والموافق والمرتاب والمصدق فلم يأت في شيء منها استدراك غلط في قول ولا اعتراف بوهم في كلمة واحدة ولو كان لنقل عنه كما نقل سهوه في الصلاة في قصة ذي اليدين وغيرها ونومه عنها وانشغاله في حادثة الخندق وكما نقل عنه استدراك رأيه في تلقيح النخل وقوله بعد ذلك أنتم أعلم بأمور دنياكم وفي نزوله بأدنى مياه بدر إلى غير ذلك من الاعتقادات في أمور الدنيا فلم يمتنع نسبتها إليه وإلى غيره من إخوانه الأنبياء عليهم السلام، ولهذا البحث صلة في الآية ٥٣ من سورة الحج في ج ٣، وفي الآية ١٢١ من سورة طه المارة في ج ١ فراجعها، قال تعالى «وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ» قبائح أحوال الخائضين وأعمالهم «مِنْ حِسابِهِمْ» آثامهم التي يحاسبون عليها وجزاؤهم التي يعذبون بسببها «مِنْ شَيْءٍ» أبدا وجيء بمن لتأكيد الاستغراق إذا كانوا متقين ذلك «وَلكِنْ ذِكْرى»
وتستسلم قال زهير:
وفارقتك برهن لا فكاك له | يوم الوداع وقلبي مبسل علقا |
«قُلْ» لهؤلاء المشركين الذين يدعونك لعبادة آلهتهم «أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا» ونترك النافع الضار «وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا» فنرجع إلى الشرك السافل لأن العقب مؤخر الرجل يقال رجع على عقبه إذا انثنى راجعا، أي أنرجع إلى الضلال «بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللَّهُ» للإسلام أيكون هذا منا ونحن عقلاء فنصير «كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ» خبطته «الشَّياطِينُ» المبثوثة «فِي الْأَرْضِ» وذهبت به في هوئها، والهوى النزول من الأعلى إلى الأسفل على غير انتظام فصار «حَيْرانَ» تائها لا يدري ما يعمل وهذا الممثل به «لَهُ أَصْحابٌ» رفقاء «يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى» لينقذوه مما هو فيه فيقولون له ائتنا» لتنجو وهو لا يأتيهم لاستيلاء الحيرة عليه، هذا مثل ضربه الله تعالى لمن يدعو لعبادة الأصنام ولمن يدعو لعبادة الملك العلام يقول فيه مثل هذين كمثل رجل في رفقة ضل عن الطريق المستقيم فطفق أصحابه ينادونه هلم إلينا لا تضل فتهلك، وشرع الشيطان يدعوه إليه ليوغله في الحيرة فاحتار إلى أين يذهب فإن أجاب الشيطان هلك وإن أجاب أصحابه نجى وفيها دلالة على وجود الغيلان المتعارفة على ألسنة العامة قديما وحديثا المعنية بقوله ﷺ إذا تغولت الغيلان فبادروا بالأذان راجع الآية ٢٩ من سورة الأحقاف الآتية وما ترشدك إليها لتثق بوجود الجن وأنهم كالإنس، قيل إن هذه الآية نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه وابنه عبد الرحمن إذ كان يدعو أباه إلى عبادة الأوثان بعد أن صار كامل الإيمان وأن أباه يدعوه للإسلام ليكون في المسلمين إمام وإن توجه الخطاب إلى سيد المخاطبين كان تعظيما لشأن ابي بكر فعلى فرض صحته لا يمنع أن تكون الآية عامة مطلقة لعموم لفظها لأن العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب إلا أن هذا القيل لا يوثق به إذ لم ينزل في عبد الرحمن قرآن كما سنراه في الآية ١٧ من سورة الأحقاف الآتية ومما يؤيد عمومها
مطلب في الصور وأن آزر هو أبو ابراهيم لا غير وما وقع له مع أبيه وقومه وملكهم:
روي عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: جاء اعرابي إلى النبي صلّى الله عليه وسلم فقال ما الصور؟ قال قرن ينفخ فيه أخرجه أبو داود والترمذي وهو بلغة أهل اليمن ومن هنا اتخذه الملوك وجعلوا النداء به علامة على الجمع والطلب وغيره، أخرج الترمذي عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله ﷺ كيف أنتم وقد النقم صاحب القرن القرن وحنا جبهته وأصغى سمعه ينتظر أن يؤمر فينفخ فكأن ذلك ثقل على أصحاب رسول الله فقال كيف نفعل يا رسول الله وكيف نقول قال قولوا حسبنا
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا) الآية ١٣٥ من النساء في ج ٣، واعلم أن الإيقان عبارة عن علم يحصل بالتأمل بعد زوال الشبهة لأن الإنسان أول أمره لا ينفك عن شبهة وشك فإذا كثرت الدلائل عليه وتوافقت البراهين وتطابقت الحجج صار سببا لحصول اليقين والطمأنينة في القلب فيعلمه حسا كما علمه خبرا ويلمه فعلا كما تكلم به قولا ويراه عيانا كما سمعه بيانا، قال البغوي وروي عن سلمان ورفعه إلى علي عليه السلام قال: لما رأى إبراهيم ملكوت السموات والأرض أبصر رجلا على فاحشة فدعا عليه فهلك ثم أبصر رجلا آخر فدعا عليه فهلك ثم أبصر آخر فأراد أن يدعو عليه فقال تبارك وتعالى يا إبراهيم أنت رجل مجاب الدعوة فلا تدعو على عبادي فإنما أنا من عبدي على ثلاث خلال إما أن يتوب فأتوب عليه وإما أن أخرج منه نسمة تعبدني وإما أن يبعث إليّ فإن شئت عفوت عنه وإن شئت عاقبته وفي رواية وإن تولى فإن جهنم من ورائه وظاهر القرآن أن هذه الرؤية بصرية لا قلبية إذ لا يوجد ما يصرفها عن الظاهر الحقيقي ولا يجنح إلى المجاز إلا إذا تعذرت الحقيقة تأمل قوله تعالى «فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ» أظلم وغطّى كل شيء بسواده لأن الجنّ في الأصل الستر عن الحاسة ولمّا أمعن عليه السلام النظر في السماء «رَأى كَوْكَباً» هو الزهراء لأنها من القدر الأول من حيث قوة نورها كالسماك الأعزل والدبرين راجع الآية ٣٦ من سورة الحجر المارة تعلم هذا «قالَ هذا رَبِّي» يخاطب أهله وقومه ويستفهم منهم على طريق الإنكار والاستهزاء لأنهم كانوا يعبدون الكواكب وقد صنعوا لكل كوكب صنما بما يناسبه ووضعوها في بيت العبادة ليسجدوا لها ويطلبوا حاجتهم منها وكأنهم قالوا له إنه أحد الأرباب «فَلَمَّا أَفَلَ» غاب وتوارى «قالَ» لهم «لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ ٧٦» لأن حق الرب أن يكون باقيا أبدا حاضرا لإغاثة مربوبيه ثابتا لا يتغير لأن من يتبدل أو يتغير من حال
لا تعبد ولا يليق بها أن تعبد وقصده من ذلك أن يتمكن من ذكر الدليل على إبطال عبادتها ولما لم يقبلوا أعرض عنهم وقال معلنا براءته مما هم عليه من الشرك وعبادة الأوثان والكواكب مبينا الأسباب الداعية إلى عدم أهليتها للعبادة ومصرحا بعقيدته بقوله «إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ» شقهما بعضهما عن بعض وابتدعهما الذي دل عقلاء خلقه بتغيير الكواكب في السماء والأنهار في الأرض على أنه منشئهما وقادر على طمس الكواكب في السماء وتغوير الأنهار في الأرض «حَنِيفاً» مائلا عن كل ما تعبدونه وعن كل دين لا يكون مرماه عبادة الله الواحد الأحد «وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ٧٩» به غيره البتة، وما قيل إن مخاطبة إبراهيم بلفظ الضلال وغيره كانت بقصد إيذاء أبيه لا صحة له لأن مثله لا يجوز أن يقع منه مثل ذلك كيف وقد وصفه الله بالحلم والحليم لا يستفزه الغضب ولا يليق أن يصدر منه بل لا يجوز أن ينسب صدور الجفاء منه على أبيه بل لا يتصور إيقاعه على الغير منه، لهذا فإن هذا القيل مردود على أن ما صدر من إبراهيم عليه السلام على أبيه لا يعد من الإيذاء ولو فرض أنه نوع منه فلا يكون محرما لأنه لله وفي طريق الله ويقصد إرشاده إلى الله وما قصد به إلا نفعه وخيره ورشده لا إضلاله واحترامه لا إهانته، ولا يرد عليه أن موسى عليه السلام كلم فرعون باللين والرقة كما مر في الآية ٤٤ فما بعدها من سورة طه المارة في ج ١ مراعاة لحق التربية وإبراهيم خاطب أباه بالخشونة والغلظة ولم يراع حق الأبوة لما ذكرنا ولم يذكر صاحب هذا القيل مخاطبته لأبيه في الآية ٤٢ من سورة مريم فما بعدها المارة في ج ١ التي هي على غاية من اللين والأدب.
مطلب القساوة المنطقية مطلوبة، وقصة إبراهيم، وجواز حذف حرف الاستفهام:
هذا على أن الإنسان قد يقسو أحيانا على شخص لمنفعته وأي منفعة أكبر من الهداية إلى الله، هذا والأمور بمقاصدها والأعمال بالنيات قال أبو تمام:
فقسا ليزدجروا ومن يك حازما | فليقس أحيانا على من رحم |
اضرب وليدك وادلله على رشد | ولا تقل هو طفل غير محتلم |
فربّ شق برأس جرّ منفعة | وقس على شق رأس السهم والقلم |
نبه وليدك من صباه بزجره | فلربما أغضى هناك ذكاؤه |
وانهره حتى تستهل دموعه | في وجنتيه وتلتظي أحشاؤه |
فالسيف لا يذكو لكفك ناره | حتى يسيل بصفحتيه دماؤه |
«وَكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ» مع علمي أن الأمن والخوف من الله لا من أوثانكم «وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ» من لا يصلح للإلهية وإن الإشراك أعظم ذنب ارتكب على وجه الأرض، وإذا تدبرتم وتفكرتم علمتم أن هذا مما «لَمْ يُنَزِّلْ» الله تعالى «بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً» حجة ولا برهانا لأن الإشراك محض اختلاق وبهت خالص وكذب مفترى، وانكم تجرون الأمور معكوسة فتجعلون الأمن موضع الخوف والخوف موضع الأمن «فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ» أنا أم أنتم نبئوني «إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ٨١» علما حقيقيا يعرف به الحق من الباطل، ولم يقل فأيّنا احترازا من تزكية النفس ومن المكابرة في الرّد عليه عتوا وعنادا، وهذه الآية على حد قوله تعالى (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) الآية ٢٤ من سورة سبأ الآتية، على أني أقول لكم إن الأحق بالأمن من العذاب «الَّذِينَ آمَنُوا» إيمانا خالصا «وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ» بشرك، روى البخاري ومسلم عن ابن مسعود قال لما نزلت هذه الآية شق على المسلمين وقالوا أيّنا لا يظلم نفسه، فقال صلّى الله عليه وسلم ليس ذلك إنما هو الشرك، ألم تسمعوا قول لقمان لابنه (يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) الآية ١٣ من سورة لقمان الآتية، تدل هذه الآية على أن من مات لا يشرك بالله شيئا كانت عاقبته الأمن من النار أي من الخلود فيها، لأن العصاة لا بد وأن يطهروا من درن عصيانهم فيها، لأن من أسلم ولم يعمل خيرا ما ثم مات فجدير أن يدخل الجنة، لأن الإيمان يجب ما قبله «أُولئِكَ» المؤمنون الموصوفون «لَهُمُ الْأَمْنُ» من مخاوف الدنيا والآخرة «وَهُمْ مُهْتَدُونَ ٨٢» بهداية الله إلى سبيل الرشد والسداد وهذا فضل من الله تعالى وقضاء بين إبراهيم وقومه، إذ بين فيه الذين يستحقون الأمن من الذين يستوجبون الخوف «وَتِلْكَ حُجَّتُنا» الإشارة إلى ما حاج به إبراهيم قومه بما صار له من الغلبة عليهم بحكم الله القائل «آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ» بإلهام ووحي منا وهي حجة واضحة دامغة أفحمتهم وأخرستهم لأنهم تكلموا معه عن جهل، وهو
يشك أنه ولد بعد الأمر بذبح الأولاد، وقالوا فقال لأمه ذات يوم يا أماه من ربي؟ قالت أنا، قال وأنت من ربك؟ قالت أبوك، قال ومن رب أبي؟ قالت له أسكت وأخبرت زوجها، وقالت لا شك
فاطمه وقال له أسكت، وصارا دائما يحذرانه من أن يتكلم بذلك لئلا يصاب بسوء من قبل الملك، وحذرا من أن يفسد دينهم وبسبب هلاك الملك وضياع الملك كما أخبر الكهنة، ثم صنع له أبوه أصناما من حجر وأعطاه إياها ليبيعها في السوق، فأخذها وصار ينادي من يشتري ما لا يضره ولا ينفعه، وصار يسخر ويستهزىء بها، فلما رآه أبواه كذلك أخذا منه الأصنام وحذراه من الطعن بها لئلا تمسه بسوء أي جنون، ووضعاه في بيت فيه صنم عظيم ليستأنس به ويتمرن على عبادته، ورغباه بذلك، ولما رأى إصرارهم عليه بملازمة الصنم ترك أمه وأباه وصار يتفكر في مخلوقات الله ويتدبر في تكوين السموات والأرض والطير والحوت والحيوان والجماد ويهزأ بما عليه أبواه وقومه من توغلهم في عبادة الأصنام والكواكب، ولم يزل يتحمل أبويه ويرفض عبادة الصنم الذي أمراه به ويعتبر بما في الكون من آيات وعظات حتى شرفه الله بالنبوة، فأراد أن يبين لهم أن هذه الكواكب والأصنام المنكبين على عبادتها ليست بشيء ولا تصلح للعبادة، لأن الكواكب من صنع الله الواحد والأصنام من صنع أيديهم وأنها لا تستحق العبادة، وكذلك الشمس والقمر والكوكب ليست بآلهة، فاجتمع بقومه ذات ليلة وخاطبهم بما قصه الله علينا من الآيات المارة، وكانت كلها في ليلة واحدة لأن القمر كان متأخرا عن أول الليل فاحتج عليهم بالزهراء إذ كانت مشرفة على المغيب، وبعد غيابها احتجّ عليهم بالقمر، ولما طلعت الشمس غطت نوره فاحتج عليهم بذلك على طريق التقريع والتوبيخ، فأراهم النقص الداخل على الزهراء بغيابها وعلى القمر بتغطية نوره بالشمس حتى صار كأن لم يكن، ولما قالوا له هذا الإله الأكبر يعنون الشمس قال مصيرها كذلك، وعلموا أنهم إذا أنكروا عليها الأفول وقت القول فإنها تغيب حتما بالمساء، فكتوا وبهتوا من قوة حجته، وقد أثبت خطأهم في اعتقادهم إلهيتها، وبين لهم عدم صلاحيتها للعبادة، وأن الذي يجب أن يعبد هو الذي لا يفنى ولا يغيب، وأن الكواكب والأوثان
ثم قالوا تحبّها قلت بهرا ومنه: فقلت وأنكرت الوجوه هم هم وستأتي تتمة هذه القصة في الآية ٨٣ فما بعدها من سورة الصافات الآتية إن شاء الله، وإنما فعلنا ذلك أي لم نأت ببعض القصص كاملة حذرا من التكرار لأنا إذا اكملنا كل قصة عند ذكرها يحصل تطويل وملال، وإذا أتينا بها تدريجا كنا قد أوفينا بوعدنا من عدم التكرار إلا لحاجة ماسة وأبقينا القارئ يتشوق لإكمالها وسيأتي في الآية ٢٨٨ من البقرة في ج ٣ ما يتعلق ببقية قصص إبراهيم مع قومه، ومع ربه، ومع النمروذ قبل إلقائه في النار، وبعد تكسير الأصنام، فراجعها.
قال تعالى بعد أن أظهره ونجاه وأهلك عدوه وأمره بالهجرة إلى الأرض المقدسة «وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَ» وهبنا لإسحق «يَعْقُوبَ» حفيدا لإبراهيم بحياته، وفي هذه الآية بشارة من الله بطول عمر إبراهيم بحيث يبقى حيا حتى يكبر ويزوج ابنه إسحق ويولد له ولدا ليراه «كُلًّا هَدَيْنا» إلى طريقنا المستقيم إذ جعل فيهم النبوة والكتاب «وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ» إبراهيم وولده وحفيده لأنه هو أبو البشر الثاني على القول بأن دعوته شملت كل من على وجه الأرض والغرق عمها كلها وهو القول المعتمد المناسب لظاهر القرآن والأولى من غيره راجع الآية ٢٥ فما بعدها من سورة هود المارة وما ترشدك إليه «وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ» ذرية نوح
واعلم أن الله تعالى ذكر في هذه الآية ثمانية عشر نبيا لا بحسب الزمان والفضل، لأن العطف جاء بالواو وهو لا يفيد ترتيبا ولا تعقيبا، بل ذكر أولا أصول الأنبياء وهم نوح وإبراهيم وإسحق ويعقوب، ثم أهل الملك والسلطان وهما داود وسليمان، ثم أهل الصبر أيوب وممن جمع بين الصبر والملك وهم يوسف وموسى وهرون، ثم أهل الزهد وهم زكريا وعيسى ويحيى وإلياس، ثم من لم يبق له أتباع ولا شريعة وهم إسماعيل واليسع ويونس ولوط، قال تعالى «وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ» من هنا للتبعيض إذ لم يكن كل آبائهم وأبنائهم أنبياء وصالحين، ولم يولد لكل منهم «وَإِخْوانِهِمْ» الذين على نهجهم القديم «وَاجْتَبَيْناهُمْ» للنبوة والرسالة «وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ٨٧» هو الدين الحق الموصل لخير الدنيا والآخرة، وهذه الآية تدل على أن سعي الغير ينفع كما نوهنا به في الآية ٣٩ من
الآية ٤٧ من سورة الروم الآتية،
الآية ١١٣ من سورة الصافات الآتية وغيرها من الآيات والأحاديث المؤيدة لها قال صلّى الله عليه وسلم: لازلتم منصورين مادمتم متبعين سنتي، فمتى اختلفتم سلط عليكم عدوكم. وسنأتي على هذا البحث عند تفسير الآيتين المذكورتين بصورة مفصلة إن شاء الله، فيا سيد الرسل «قُلْ» لقومك إني «لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ» على تبليغكم وحي ربي وإرشادكم بقوله ونصحي لكم بما هو خير لكم في دنياكم وآخرتكم «أَجْراً» جعلا أو مالا أو شيئا آخر إنما أجري على ربي «إِنْ هُوَ» ما هو الذي أبلغكم إياه «إِلَّا ذِكْرى لِلْعالَمِينَ ٩٠» ومن حق التذكير بالله والهداية إليه أن تكون مجانا لئلا يتهم الداعي إليها بأن قصده عرض الدنيا وليتمحض عند السامع إخلاصه.
مطلب عموم رسالته صلّى الله عليه وسلم والآية المدنية وبحث في النسخ:
وتدل هذه الآية على عموم رسالته صلّى الله عليه وسلم إلى جميع الخلق إنسهم وجنهم، لأن لفظ العالمين يشملها كما في الآية ١٥٨ من سورة الأعراف في ج ١، وتدل على فضله على سائر الأنبياء، لأنه اتصف بجميع خصالهم من احتمال الأذى ومجاهدة النفس والصبر على البلاء والمحن وقتال البغاة وإظهار المعجزات والاتصاف بالزهد والوفاء بالعهد والوعد والصدق والإخبات والنبوة والرسالة والملك، ولهذا أمره الله أن يقتدي بهم جميعا إذ لم يترك خلة من خلالهم ولا خصلة من خصالهم ولا شيئا من أخلاقهم إلا اتصف بها وتأدب بتأديب ربه وزاد عليهم بالشّرف برؤية ربه وباخمس المذكورة بالحديث الصحيح الذي أثبتناه في الآية ١٥٩ من سورة الأعراف ج ١، وقد أسهبنا فيها البحث عن هذا فراجعها، وهذه الآية المدنية الثالثة،
قال تعالى «وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ» وما عرفوه حق معرفته ولا عظموه حق تعظيمه «إِذْ قالُوا» أي اليهود «ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ» وحي ولا كتاب إلى أحد من خلقه، قال ابن عباس: قالت اليهود يا محمد أنزل الله عليك كتابا قال نعم فقالوا والله ما أنزل الله من السماء كتابا فأنزل الله تكذيبا لهم وألزمهم الحجة بقوله «قُلْ» لهم يا سيد الرسل «مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى» إليهم «وجعله نورا وهُدىً لِلنَّاسِ» من بني إسرائيل
«وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ» كمسيلمة الكذاب والأسود العنسي الذين ادعيا النبوة في زمنه صلّى الله عليه وسلم وعموم الآية يشمل كل من تجرأ على ادعاء النبوة بعده أيضا إلى يوم القيامة لأن الله تعالى ختم النّبيين به فكل ادعاء وقع أو يقع في هذا الشأن فهو زور وبهتان وإفك «وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ» أي أنه قادر على مثل ذلك، وهؤلاء كالذين قالوا كذبا (لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا) الآية ٣١ من الأنفال في ج ٣، ومثله الطاعن في نبوته صلّى الله عليه وسلم كعبد الله بن أبي سرح الذي أملى عليه صلّى الله عليه وسلم (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ) إلى قوله (ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ) الآية ١٤ من سورة المؤمنين الآتية، فعجب من ذلك وقال إنه وقع في قلبه لزيادة تفكره فيها (فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) فأجراها على لسانه فقال له صلّى الله عليه وسلم اكتبها فهكذا نزلت، فشك وقال إن كان محمد صادقا
وهذه الحادثة وقعت في المدينة بدليل قوله املى وقوله صلّى الله عليه وسلم هكذا نزلت، أي قبل لا ان نزولها بمكة، بل كان نزولها بالمدينة قبل إملائها عليه، وإلا لتلاها حضرة الرسول أولا، ثم أملاها عليه دفعة واحدة، ويؤكد هذا قوله ولحق بمكة، فيكون هذا سببا لنزول هذه الآية، وذلك أن مسيلمة بن حبيب من بني حنيفة الملقب بالكذاب ادعى النبوة باليمامة وزعم أن الله أوحى إليه، وكان صاحب نيرجات وكهانة، والأسود العنسي عبهلة بن كعب ذو الخمار ادعى النبوة باليمن وتبعه جماعة من قومه، وأن النبي صلّى الله عليه وسلم أرسل إليهما وأمر بقتلهما فقتل الأسود فيروز الديلمي قبل وفات النبي صلّى الله عليه وسلم بيومين، وقد أخبر النبي صلّى الله عليه وسلم أصحابه بقتله قبل ورود خبره، وقال لهم فاز فيروز، وأما مسيلمة فقتله وحسني قاتل حمزة بن عبد المطلب في خلافة أبي بكر رضي الله عنهم، وكان يقول قتلت خير الناس وأنا كافر يعني حمرة، وقتلت شرّ الناس وأنا مؤمن يعني مسيلمة، وكل هذا يؤيد أن هذه الآية مدنية كما ذكرنا أول السورة وهو الصحيح، لأن هذه الحوادث أي قول مالك ابن الصيفي وادعاء مسيلمة والأسود كلها وقعت في المدينة، ومن قال إن هذه الآية نزلت بمكة لم يحقق عن تاريخ هذه الحوادث ومحلها، ولم يقف على أن هذه الآية مستثناة من هذه السورة فقال إنها مكية، ولما لم ير بدا من نفي أسباب نزولها قال إنها من الإخبار بالغيب، وليس بشيء، روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: بينا أنا نائم إذ أوتيت خزائن الأرض فوضع في يدي سوارين من ذهب، فكبرا علي وأهمّاني، فأوحى الله إلي ان انفخهما فنفختهما فطارا، (وفي رواية انفحهما بالحاء لا بالخاء من النفخ وهو الرمي والدفع والرمح تقول نفحت الدابة برجلها أي رمحت ورفست، والمعنى قريب من الأول) فأولتهما الكذابين الذين أنا بينهما صاحب صنعاء وصاحب اليمامة، والمعنى لا أحد أكثر ظلما ولا أعظم خطأ ولا أجهل فعلا ولا أقل عقلا ممن اختلق شيئا من الأشياء الثلاثة المذكورة في هذه الآية، وهي عامة في كل من يزعم هذا الزعم إلى يوم القيامة، لأن العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب، قال تعالى «وَلَوْ تَرى» يا سيد الرسل «إِذِ الظَّالِمُونَ»
وقرىء بضم النون على أنه فاعل بمعنى وصلكم، لأن البين من أسماء الأضداد فيكون بمعنى الهجر وبمعنى الوصل قال:
فو الله لولا البين لم يكن هوى | ولولا الهوى ما حنّ للبين آلف |
تقول هلكنا إن هلكت وإنما | على الله أرزاق العباد كما زعم |
تحشر الناس حفاة عراة عزلا، قالت عائشة فقلت الرجال والنساء جميعا ينظر بعضهم إلى بعض؟ قال الأمر أشدّ من أن يهمهم ذلك. وفي رواية الطبري عنها قالت واسوءتاه إن النساء والرجال يحشرون جميعا ينظر بعضهم إلى سوءة بعض؟ فقال صلّى الله عليه وسلم لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه لا ينظر الرجال إلى النساء ولا النساء إلى الرجال شغل بعضهم عن بعض.
مطلب الدلائل على قدرة الله ومنافع الخلق فيها ومعنى المستقر والمستودع وأصل الخلقة:
ثم شرع جل شأنه يعدد دلائل وجوده وكمال عظمته وقدرته وجليل حكمته بقوله عز قوله «إِنَّ اللَّهَ فالِقُ الْحَبِّ» شاقه عن النبات لأن الحبة حينما تزرع يخرج من شقها الأعلى النبات الصاعد في الهواء الذي يصير فيه السنبل ومن شقها الأسفل العروق التي تغوص في الأرض ولولا ذلك لما ثبت نبات «وَالنَّوى» عن النخل وشبهه هكذا أيضا، وهو جل خلقه «يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ» كالإنسان من النطفة والفرخ من البيضة «وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ» كالنطفة من الإنسان والبيضة من الدجاجة عكس الجملة المعطوفة عليها، لأن مخرج معطوف على خالق وهو بيان له، لأن خلق الحب اليابس وإخراج الحنطة والشعير والذرة والعدس وغيرها منه، وفلق النوى اليابس وإخراج الرطب والخوخ والمشمش والاجاص وغيرها
ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي | بصبح وما الإصباح منك بأمثل |
أفنى رباحا وبني رباح | تناسخ الأمساء والأصباح |
وأنا أقول لعل حمل المستودع على الصلب باعتبار أن الله تعالى بعد أن أخرج من بني آدم عليه السلام من ظهورهم ذريتهم المشار إليه في الآية ٨٧٢ من سورة الأعراف المارة في ج ١ وأشهدهم على أنفسهم بأخذ الميثاق منهم وكان ما كان.
وما المال والأهلون إلا ودائع | ولا بد يوما أن ترد الودائع |
فجع الأحبة بالأحبة قبلنا | فالناس مفجوع به ومفجع |
مستودع أو مستقر قد خلا | فالمستقر يزوره المستودع |
مطلب نبذة فيما يتعلق بالرابطة لدى السادة الصوفية تابع لما مر في الآية ٥٧ من الإسراء في ج ١:
ومن هنا يعلم أن نظر المريد الصادق إلى شيخه الكامل نظر إلى وجه الصديق رضي الله عنه لأن شيخه كان نظر إلى شيخه فسطع على وجهه من نوره وهكذا شيخه وشيخ شيخه وهلم جرا فيصير كل منهم آخذا ومعطيا فيكون لكل حظ منه وهو مقتبس من مشكاة النبوة المستفيض من الحصرة الإلهية فنال نصيبه منه أيضا، وعلى هذا اتخذ السادة الصوفية الرابطة فجعلوها من شروط أورادهم التي يلقنونها إلى المريد واقتبسوها من قوله تعالى (وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ) الآية ٣٨ من سورة المائدة في ج ٣ وسنبين فيها إن شاء ما يقتضي لهذا البحث، ومما يؤيد هذا هو قول المصلي
والدليل الخامس قوله عز قوله «وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً» جاء على الغيبة ثم التفت جل شأنه إلى التكلم فقال «فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ» عمم جل وعلا ثم فصل فقال (فَأَخْرَجْنا مِنْهُ» أي النبات «خَضِراً» شيئا غضا وهو ما تشعب من أصل النبات الخارج من الحبّة «نُخْرِجُ مِنْهُ» من هذا الخضر «حَبًّا مُتَراكِباً» بعضه على بعض كسنبلة الحنطة والأرز وعرنوس الذرة وشبهها «وَمِنَ النَّخْلِ» وأبدل منها قوله «مِنْ طَلْعِها» لأن النخل يخرج منها الطلع ويخرج الثمر من الطلع «قِنْوانٌ» بكسر القاف غدوق جمع قنو كصنو وصنوان ويجوز فتح القاف وضمه، ولا يوجد في اللغة مثنى مفرد ويستوي فيه مثناه وجمعه إلا خمس أسماء: قنو وصنو ورئد بمعنى مثل وشقو وحش بمعنى الثعبان، ولا يفرق بين جمعه ومثناه إلا الإعراب، وقال الرازي في تفسيره إن المثنى منه بكسر النون، وبهذا يكون الفرق بين جمعه وتثنيته بالحركة «دانِيَةٌ» لمن يجتنيها ويقطفها لأنها تثقل بالثمر فتنحني وتتدلى إلى الأسفل، وتأتي قنوان بمعنى نائية بعيدة فتكون من الأضداد، واكتفى بذكر الدانية عن النائية لمعلوميتها على حد قولة تعالى (سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ) أي والبرد كما سيأتي في الآية ٨١ من سورة النحل، ولأن الدانية أيسر تناولا وأسهل للقطف من النائية العالية البعيدة التناول، وهذا الفرق إنما يكون في أشجار الدنيا وثمارها، أما الآخرة فالقريب والبعيد بالتناول سواء، لأنك متى نظرت إلى ثمرة وأردتها صارت بين يديك، والطلع هو الإغريضي الخارج من قلب النخلة الذي ينبثق عنه العثوق، والعثق الذي فيه التمر بمنزلة العنقود من العنب، والمتشعّب منه يسمى عرجون، ويسميه أهل (عانه) شرموخ، وهو الذي ينبت فيه التمر «وَجَنَّاتٍ» عطف على نبات «مِنْ أَعْنابٍ» متنوعة عرائش وكروم «وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ» أخرجناه أيضا «مُشْتَبِهاً» بعضه مع بعض «وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ» أنواع كثيرة منها ما يشابه بعضه ويوافقه باللون
يمد إلى الآفاق بيض خيوطه | فينسج منها للثرى حلة خضرا |
مطلب معتقد الزنادقة والمجوس وتحقيق رؤية الله تعالى:
وذلك أنهم يقولون إن كل ما في الكون من خير فهو من يزدان يعني النور، وجميع ما في العالم من الشر فهو من الظلمة يعني إبليس وهذا مذهب المجوس، لأن الكتاب الذي زعم زردشت أنه نزل من السماء سماه (زاندا) والمنسوب إليه زندى، ثم عرب إلى زنديق ويجمع على زنادقة، ومنهم من يقول إن إبليس قديم، ومنهم من يقول إنه محدث، وكلهم متفقون على أنه شريك لله في تدبير هذا العالم (تنزه عن ذلك) فما كان من خير فمن الله وما كان من شر فمن إبليس.
هذا، وان اليزيدية الموجودين الآن في جبل سنجار على تخوم العراق يدينون بما يشابه هذا الدين ويعتقدون بالشيطان اعتقاد المجوسي بإبليس، وقال بعض المفسرين إن المراد بالجنّ هم الملائكة، لأن العرب عبدتهم وسمتهم بنات الله، كما مرّ في كثير من الآيات الدالة على ذلك وتسميتهم جنا مجاز لاجتنانهم أي استتارهم واختفائهم عن الأعين، وعبر بالجن عن الملائكة للحط بشأنهم بالنسبة لمقام الإلهية، ونقل هذا القول عن قتادة والسدي، والقول الأول أولى لموافقته ظاهر القرآن وهو الحقيقة وخلافها مجاز، ولا يصار إلى المجاز إلا إذا تعذرت الحقيقة، ولا يوجد هنا صارف لمعناها كي يلجأ إليه في اعتبار المجاز، قال تعالى «وَخَلَقَهُمْ» أي أنهم يقولون هذا القول والحال أن الله خلقهم، فكيف يجعلونهم شركاء له، تعالى عن ذلك وتعاظم «وَخَرَقُوا» اختلقوا وافتعلوا وافتروا «لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ» فاليهود تقولت بأن عزيرا ابنه والنصارى بهتت بأن عيسى ابنه، وكفار العرب
«بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» قد أبدعهما ومن فيهما وكونهما على غير مثال سابق، وهذا هو معنى الإبداع ومن كان كذلك «أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ» وهو المنفرد المنزه عن الأزواج كيف «وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ» زوجة لأن الولد لا يكون إلا منها عادة، ولا تكون الزوجة إلا من جنس الزوج حتى يتم التوالد بينهما وهو ليس كمثله شيء، ولأن الولادة من صفات الأجسام وهو مخترعها وليس بجسم، تعالى عن ذلك، ومن لا يكون جسما لا يكون له ولد، والولد لا يكون بلا زوجة عادة وهو منزه عن اتخاذها «وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ» ومن هذا شأنه فهو غني عن كل شيء من الصاحبة والولد والمعين وغيره، «وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ١٠١» لأنه خالق كل شيء، ومن يخلق فهو أعلم بما يخلق علم اليقين، فلا يعزب عن علمه شيء، لأنه محيط بكل شيء «ذلِكُمُ» الموصوف بما تقدم هو «اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ» وحده لا تشركوا به شيئا، إذ هو المستحق للعبادة لا مخلوقه الذي بيده إعدامه وإعادته ونفعه وضره «وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ١٠٢» رقيب فلا تقع حركة في ملكوته ولا سكون إلا بعلمه قال تعالى منزها ذاته الكريمة عما هو من شأن البشر «لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ» من خلقه لا إدراك إحاطة ولا مطلق إدراك، كما أن القلوب تعرفه بلا إحاطة «وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ» من جميع خلقه بحيث يراها ويحيط بها علما، والمراد بها النور الذي به تدرك المبصرات، فإنه لا يدركه مدرك بخلاف جرم العين فإنه
يراه المؤمنون بغير كيف | وإدراك وضرب من مثال |
فينسون النعيم إذا رأوه | فيا خسران أهل الاعتزال |
اختيار الإيمان فهداه إليه فآمن، وشاء كفر من علم منه اختيار
قريش يا محمد أما أخبرتنا أن صالحا أخرج لقومه ناقة من الجبل وأن موسى قلبت عصاه حية وضرب بها الحجر فتفجر الماء منها، وأن عيسى كان يحيي الموتى ويبرىء الأكمه والأبرص؟
قال بلى، قالوا فأتنا به نصدقك ونؤمن، قال أي شيء تحبون قالوا تجعل لنا الصفا ذهبا وابعث لنا موتانا نسألهم عنك ونزل لنا الملائكة ليشهدوا نبوتك، قال صلّى الله عليه وسلم إن فعلت بعض ما تقولون أتصدقون؟ قالوا نعم، والله نتبعنّك أجمعين، ثم إن
مطلب الاستفهام الإنكاري له معنيان وتمحيص لا في هذه الآية وما يناسبها:
وما في الآية استفهامية إنكارية والاستفهام الإنكاري له معنيان بمعنى لم وبمعنى لا فإن كان بمعنى لم يقال وما يشعركم انّها إذا جاءت يؤمنون بدون لا على معنى لم قلتم أنها إذا جاءت يؤمنون وتوقعتم ذلك والحال بخلافه. وإن كانت بمعنى لا
كما أنهم قدروا (لا) في الآية المفسرة آنفا عدد ١٠٥ لتصير لئلا يقولوا درست وفي (عَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ) الآية ١٨٥ من البقرة في ج ٣، وشبهها من الآيات مع أن المعنى جار على المطلوب بدون هذا التقدير كما مر في تفسير الآية الأولى، وما سيأتي في الثانية إن شاء الله، بأن تقدير لا لا لزوم له راجع الآية ٩٦ من سورة يوسف المارة، وقال بعض المفسرين إن (إنّ) من انها بمعنى لعل كقولهم أئت السوق إنك تشتري لنا شيئا أي لعلك تشتري، وقول عدي بن زيد:
أعاذل ما يدريك أن منيتي | إلى ساعة في اليوم أو في ضحى غد |
عوجوا على الطلل المحيل لأننا | نبكي الديار كما بكى ابن خزام |
أريني جوادا مات هولا لأنني | أرى ما تربني أو بخيلا مخلدا |
هل أنتم عائجون بنا لأنا | نرى العرصات أو أثر الخيام |
«وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى» كما طلبوا منك «وَحَشَرْنا» جمعنا وسقنا «عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا» بضمتين وقرىء بضم القاف وفتح الباء وبكسر القاف وفتح الباء، وبكسر الباء وضم القاف، وعلى الكل معناه المشاهدة مقابلة وعيانا، أي لو جعلنا لهم ذلك كله فواجهوا الملائكة والموتى وتكلموا معهم إلخ «ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا» وهذه الجملة جواب لو التي هي حرف امتناع أي امتنع إنزال الملائكة إلخ لامتناع إيمانهم، واعلم أن جواب لو إذا كان منفيا لا تدخله اللام، راجع بحثها في مغني اللبيب إذ أحاطه بجميع ما يتعلق بها، وقد وهم بعض المفسرين فقدروها وعللوا هذا الحكم بسوء استعدادهم الثابت أزلا في علم الله المتعلق بالأشياء حسبما هي عليه في نفس الأمر وعلله بعضهم بسبق القضاء عليهم بالكفر واعترض عليه بعض الأفاضل بأن فيه تعليق الحوادث بالتقدير الأزلي ولا يخفى فساده،
يا محمد اجعل بيننا وبينك حكما من أعيان العرب نتقاضى إليه في أمرنا وأمرك أنزل الله جل إنزاله قل يا أكرم الرسل «أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً» يقضي بيننا «وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ» علي «مُفَصَّلًا» فيه كل شيء من الحلال والحرام والأمر والنهي والوعد والوعيد والقصص والأخبار والحدود والأحكام والحوادث والأمثال، وموضحا فيه الحق من الباطل والصدق من الكذب، فهو وحده الحكم الحق بيني وبينكم وهو يحتوي على ما في الكتب القديمة والصحف وفيه ما لا يوجد فيها، وهذا القول وقع بالمدينة والحكم الذي أرادوه من أحبار اليهود وأساقفة النصارى الموجودين فيها لأن هذه الآية الخامسة المدنية من هذه السورة المستثناة منها «وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ» من اليهود والنصارى الذين أرادهم المشركون حكما «يَعْلَمُونَ» حق العلم ويوقنون حق الإيقان «أَنَّهُ» أي القرآن المنزل عليك والذي تحدثهم به «مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ» لما هو ثابت في كتبهم بالدلائل القاطعة على صحته وصدق نبوتك «فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ١١٤» الشاكين في ذلك بل أيقن وتحقق أنهم عالمون به علم اليقين فلا يخطر ببالك عدم
يعود إلى قوله تعالى (قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً) الآية الآتية بعد بضع وعشرين آية وقد اختاره الإمام الرازي بداعي أن هذا التصور من المتأخر لا يمنع أن يكون المراد به الآن وهو وجيه لو كان عود الضمير إلى المتأخر جائز مطلقا وحيث لا فلا كما أشرنا إليه في الآية ٢٩ المارة بأنه يمكن عوده لما يليه أما عوده لكلام بعد جمل كثيرة فلم يقل به أحد ويحتمل أن الرازي رحمه الله نظر إلى أن التأخير في التلاوة لا يوجب التأخير في النزول، وعليه فلا يضر تأخر هذه الآية التي نحن بصددها لأنها من صورة واحدة تدبر.
مطلب الضرورات تبيح المحظورات والضرورة تقدر بغيرها وأن طاعة الله واجبة مطلقا:
واعلم أن الله تعالى بين لكم، ما حرم عليكم ومنعكم من تعاطيه «إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ» بأن مستكم الحاجة «إِلَيْهِ» وأقسرتم على أكل شيء من المحرمات أو شربه من قبل الغير أو أنهككم الجوع والعطش لتناوله بحيث لا يوجد غيره، وفي عدم التناول يتحقق الهلاك فعلا أو في غالب الظن، فإذ ذاك يجوز تناول المحرم أكلا وشربا بقدر الحاجة الدافعة لمظنة الهلاك، إذ يكون هذا في هذه الحالة مباحا لأنه صار من جملة ما أحله الله عند الحاجة، والقاعدة الفقهية أن الضرورات تبيح المحظورات والضرورة تقدر بقدرها ولذلك قلنا بجواز تناول ما يوقع مظنة الهلاك لأن من غص
قال تعالى «وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ» هذا نهي عام أيضا لا يستثنى منه إلا النسيان والخطأ والإكراه والشك في التسمية، وذبيحة الكتابي مستثناة أيضا روي أنه صلّى الله عليه وسلم سئل عن متروك التسمية نسيانا فقال كلوا فان تسمية الله تعالى في قلب كل مسلم وقال صلّى الله عليه وسلم رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه وروى البخاري في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها قالت قلت يا رسول الله ان هنا أقواما حديثا عهدهم بشرك يأتوننا بلحمان فما ندري يذكرون اسم الله عليها أم لا قال أذكروا أنتم وكلوا، فعلى هذا ليس لنا أن نقول انهم لا يذكرون اسم الله على ذبائحهم وهم أهل كتاب بل نعتقد أنهم يذكرون كيف وقد قال تعالى (وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ) الآية ٥ من سورة المائدة في ج ٣.
مطلب النهي عن كل ما لم يذكر اسم الله عليه والحكم الشرعي في التسمية وما هو مفعولها.
أما ترك التسمية عمدا على الذبيحة فيحرم أكلها بنص هذه الآية لأن عدم ذكرها ظاهرا عمدا ينفي تخطرها في قلبه وإن ما جاء في الخبر ذبيحة المسلم حلال ذكر اسم الله تعالى أو لم يذكر محمول على النسيان لا على العمد لأن فيها تهاونا وعدم مبالاة وهذا هو الحكم الشرعي في ذلك «وَإِنَّهُ» أي كل متروك التسمية عمدا «لَفِسْقٌ» خروج عن طاعة الله «وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ» يسرون ويشيرون «إِلى أَوْلِيائِهِمْ» من المشركين بذلك «لِيُجادِلُوكُمْ» فيه جهلا وعنادا «وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ» أيها المؤمنون في تناول شيء مما حرم عليكم دون
فقط لتشهد برسالة محمد صلّى الله عليه وسلم. وقد نزلت هذه الآية في الوليد بن المغيرة حين قال زاحمنا بني عبد المطلب في الشرف حتى صرنا كفرسي رهان، قالوا منّا نبي يوحى إليه والله لا نؤمن به ولا نتبعه أبدا إلا أن يأتينا وحي كما يأتيه.
ولا مانع بأن يكون نزولها فيهما معا، وهذا من المكر الذي تضمنته هذه الآية الشريفة السابقة. قال أهل المعاني: الأبلغ في تصديق الرسل أن لا يكونوا قبل البعثة مطاعين لأن الطعن يتوجه عليهم فيقال إنهم كانوا رؤساء فاتبعهم قومهم، فكان الله تعالى أعلم بمن يستحقها فجعلها في محمد بن عبد الله وهو يتيم ويوجد من أهله من هو أقدم منه في الرياسة لقومه ولم يجعلها في المجرمين الأكابر كأبي جهل والوليد «سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا» من هؤلاء المتطاولين «صَغارٌ» ذل وهوان «عِنْدَ اللَّهِ» في الآخرة غير الذي حل بهم في الدنيا «وَعَذابٌ شَدِيدٌ»
مطلب ما يوجب ضيق الصدر والمثل المضروب لذلك من معجزات القرآن:
أسند الطبري عن ابن مسعود قال: سئل رسول الله حين نزلت هذه الآية عن شرح الصدر قال نور يقذفه الله في قلب المؤمن فينشرح له وينفسح. قيل فهل لذلك أمارة؟ قال نعم الإنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور والاستعداد للموت قبل نزول الموت. «وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً» حتى لا يدخله الإيمان لأنه يشمئز من ذكر الله ويرتاح لذكر الأوثان، والحرج هو المكان الضيق والغابة الأشجار الملتفة التي لا يصل إليها شيء من الحيوانات الراعية السائمة والوحشية- شبه الله قلب الكافر الذي لا يصل إليه الخير بالحرجة الشجرة الملتفة بجامع الضيق في كل، وجعله بحيث لا يعي علما ولا استدلالا على توحيد الله تعالى والإيمان به وفي هذه الآية دليل على أن جميع الأشياء بمشيئة الله تعالى وإرادته من إيمان المؤمن وكفر الكافر وهو كذلك وقد ألمعنا لهذا في الآية ٣٩- ١٠٧ من هذه السورة وفيها ما يرشدك لمراجعة غيرهما فترى ذلك الضال «كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ» وهذا تمثيل لشدة ضيق الصدر على طريق المبالغة إذ شبهه بمن يزاول ما لا يقدر عليه لأن صعود السماء بدون جناحين أو خاصة أكرم بهما وبعض البشر خارج عن دائرة الاستطاعة ولهذا مثل فيه، وفي الآية تنبيه على أن الإيمان يمتنع ممن هذا شأنه كما يمتنع عليه صعود السماء، وقيل كأنه يكلف صعودها إذا دعي للإيمان إذ يرى أن الأرض ضاقت به، وفيها إيذان بأمر آخر وهو أن أو كسجين الهواء ينقص فى طبقات الجو وكلما ارتفع تناقص وأن الإنسان إذا صعد لتلك الطبقة ولو بالطائرة أو غيرها من الآلات المحدثة لا بطريق الكرامة أو المعجزة يشعر فيها بعوارض الاختناق من صعوبة التنفس حتى يقارب إلى أن يترشح الدم من مسام وجوده فتضعف قواه لضعف الضربة الدموية في قلبه، وقد يؤدي ذلك إلى الموت،
كما استمتع الجن بدلالتنا على الشهوات المنهي عنها وأوصلونا إليها استمتعنا بطاعتهم وإغوائهم بحيث صار بينهم القبيح والخبيث متقابلا «وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا» في الدنيا وحضرنا يوم الجزاء الذي وعدتنا به وهذا اعتراف بما كان منهم
في الدنيا من طاعة الشيطان واتباع الهوى والتكذيب بالبعث والقضاء زمن الاستمتاع وإبداء زمن الحسرة والندم على مافات، فأجابهم الله بقوله «قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ» مأواكم ومنزلكم ومقركم «خالِدِينَ فِيها إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ» من مقدار مبعثهم من قبورهم ومدة حشرهم وزمن حسابهم ووقوفهم إلى وقت دخولهم النار لأن الاستثناء من يوم القيامة المعنى بقوله تعالى ويوم نحشرهم أي منذ يبعثون ولا وجه لقول من قال إلا أوقات نقلهم من النار إلى الزمهرير وبالعكس، أو كلما يستغيثون من عذاب فينقلون لغيره، لأن هذا كله عذاب واختلاف تنوعه يكون فيما بعد يوم القيامة لا فيه، وقال ابن عباس المستثنيون قوم سبق في علم الله أنهم مؤمنون وتقدم بحثهم مستوفيا في الآيتين ١٠٧- ١٠٨ من من سورة هود المارة، والقول الحق أنه لا ينبغي لأحد أن يحكم على الله تعالى في خلقه أن لا ينزلهم جنة أو نارا لأنه الفعال لما يريد «إِنَّ رَبَّكَ» يا سيد الرسل «حَكِيمٌ» فيما يفعل بأوليائه وأعدائه «عَلِيمٌ ١٢٨» بما يصيرون إليه قبل أن يلقوه «وَكَذلِكَ» مثل ما أنزلنا العذاب بالجن والإنس الذين انتفعوا وتمتعوا ببعضهم في الدنيا في عصياننا وتكذيب رسلنا وإنكار ما جاءوهم به من عندنا «نُوَلِّي» في الآخرة «بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً» في النار ليذوقوا العذاب فيها سوية مثل ما ذاقوا المعاصي في الدنيا «بِما كانُوا يَكْسِبُونَ ١٢٩» من الآثام وكما جعلنا المؤمنين بعضهم أولياء بعض في الدنيا، فبعضهم كذلك أولياء بعض في الآخرة، كذلك الكفرة بعضهم أولياء بعض في الدنيا وفي الآخرة يتبع بعضهم بعضا ونقول لهم على جهة التوبيخ والتقريع امَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ»
الذين ضللتم وأضللتم في الدنياَ لَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ»
من جنسكم ليعود الضمير إلى الأخير وهم الإنس لأن الجن لم يرسل لهم رسولا منهم ما عدا الذين سمعوا القرآن من حضرة الرسول وأنذروا به قومهم فهم رسل محمد صلّى الله عليه وسلم إليهم مثل الحواريين الذين أرسلهم عيسى
بما حللت وحرمت وأوجبت وأبحت ووعدت وأوعدت يؤيد إرسال الرسل إليهم كغيرهم والضمير فيَ يُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا»
أي البعث بعد الموت يؤيد إرسال الرسل إليهم منهم أيضاالُوا»
أي كفار الفريقينَ هِدْنا عَلى أَنْفُسِنا»
بأن الرسل بلغونا آياتك وأنذرونا عقابك وحذرونا هول هذا اليوم، وقد كذبناهم لأنا استبعدنا ما أخبرونا به ولم نصدق الإعادة بعد الموتَ غَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا»
بما فيها من الشهوات المموهة المزخرفةَ شَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ
١٣٠» إذ لم يروا بدا من
يوم القيامة طويل وأحواله مختلفة ولكل مقام مقال فإنهم إذا رأوا ما حصل للمؤمنين من الكرامة أنكروا الشرك وإذا رأوا الحساب جادلوا وإذا رأوا شركاءهم طرحوا اللوم عليهم وإذا أدخلوا النار تجادلوا مع أوليائهم ورؤسائهم وهكذا إلا أن كل ذلك لا ينفعهم ولا يخلّصهم من العذاب المتحتم عليهم وقدمنا في الآية ٢٧ المارة والآية ٨٣ من سورة النمل في ج ١، ما يتعلق بهذا البحث فراجعه
«ذلِكَ» إشارة لما تقدم في قوله تعالى ويوم نحشرهم إلى هنا «أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ» أقدموا عليه قبل ان نرسل إليهم رسولا يأمرهم وينهاهم ويرشدهم لما يأنون ويذرون «وَأَهْلُها غافِلُونَ ١٣١» لم ينبهوا من قبل رسل الله أن ذلك يكون ظلما عليهم والله تعالى لا يحب الظلم ولا يفعله كيف وقد نهى عنه عباده أما إذا جاءهم رسول من عند الله وأنذرهم عذابه إن لم يؤمنوا ويقلعوا عن المعاصي ولم يفعلوا فأوقع عليهم العذاب فيكون عدلا منه لأنهم هم الذين ظلموا أنفسهم بعدم الامتثال لأوامر الرسل وتماديهم في الشرك والظلم، والعدل الذي أمر الله به عباده هو الحق الخالص روح كل نظام وحياة كل كمال وهو الأصل الراسخ وقوام كل خير في السماء والأرض يهتدي إليه كل ذي عقل سليم ويؤيده العلم الصحيح ويؤدي إلى النظر القويم فيرتاح إليه القلب ويطمئن له الضمير وتركن إليه الجوارح «وَلِكُلٍّ» من الفريقين «دَرَجاتٌ» للمؤمنين في الجنة ودركات للكافرين في النار «مِمَّا عَمِلُوا» لكل بمقتضى عمله وسببه جزاء له وثوابا للطائعين وعقابا للعاصين «وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ ١٣٢» سرا وعلنا خيرا أو شرا لأن كلا من الفريقين مدون عملهما من قبل الحفظة ومسجل في اللوح المحفوظ وثابت في علمه الأزلي «وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ» عنهما وعن عملهما وهو «ذُو الرَّحْمَةِ» الواسعة «إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ» أيها الناس صالحكم وطائعكم «وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ ما يَشاءُ» من خلقه أطوع وأحسن وأمثل منكم وينشئهم «كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ ١٣٣» أهلكوا قبلكم بذنوبهم. واعلموا أيها الناس «إِنَّ ما
به من العذاب إذا أصررتم على كفركم «لَآتٍ» إليكم وواقع بكم لا محالة كما أن ما توعدون به من البعث والحساب على الأعمال والعقاب عليها كائن البتة «وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ ١٣٤» الله ولا فائتين عذابه ولا مفلتين منه، لأنه يدرككم حيثما كنتم ويدخلكم النار، كما أن ما وعده للمؤمنين من الثواب آت إليهم، قال تعالى لرسوله «قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ» حالتكم التي أنتم عليها وقرىء مكاناتكم جمع مكانة بمعنى المكان وقيل على تمكنكم أي حسبما تستطيعون من الأعمال والأقوال «إِنِّي عامِلٌ» على حالتي وتمكني «فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ» غدا في الآخرة «مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ» المحمودة أنا أم أنتم فاتقوا الله قبل أن يحل بكم عذابه وأقلعوا عن الظلم «إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ١٣٥» بمطلوبهم ولا يفوزون بمرغوبهم إذ لا يسعد من كفر بالله، وما قيل إن هذه الآية منسوخة لأن المراد منها ترك القتال لا وجه له بل هي محكمة وغاية ما فيها التهديد والوعيد وهي من الأخبار والأخبار لا يدخلها النسخ، تأمل ما قدمناه في الآيات ٦٩- ٧٠ و ٩١- ١٠٤ من هذه السورة وهذا طريق لطيف في الإنذار جاء على حد قوله تعالى (فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ) الآية ٨١ من هذه السورة أيضا.
مطلب الأشياء التي ذم الله بها العرب وعدم جواز الوقف على الذكور وتخصيصهم دون الإناث بشيء:
قال تعالى «وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ» خلق وبرأ «مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً» حظا وسهما ولأصنامهم مثله كما يدل عليه قوله جل قوله «فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا» بزعمهم أيضا من حيث أن الله لم يأمرهم بذلك ولم يشرع لهم هذه القسمة ولهذا «فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ» أصناما أو غيرها «فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ» لأنه ليس له خالصا وهو جل شأنه لا يقبل الشركة ولأنهم لم يعطوه للمساكين ولم ينفقوه على الأرحام والفقراء والضيوف «وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ» لأنهم ينفقونه على سدنة الأوثان ويسمونه لله تسمية فقط، وهكذا كان حكمهم السيء ولهذا عابه الله عليهم بقوله «ساءَ
١٣٦» في هذا التقسيم المجحف إذ يؤثرون آلهتهم على الله والله أحق أن يراعى جانبه ويحفظ حقه، فبئس القضاء قضاؤهم. روي أنهم كانوا يعينون أشياء من حرث وأنعام لله تعالى ومثلها لآلهتهم فإذا رأوا ما جعلوه لله زاكيا ناميا رجعوا فجعلوه للأوثان، وإذا رأوا ما جعلوه للأوثان زاكيا ناميا تركوه لها وقالوا إن الله غني عنه، قاتلهم الله يعرفونه غنيا وقادرا وضارا ونافعا ويعبدون غيره ويرجحونه عليه «وَكَذلِكَ» مثل ما زين لهم تجزئة أحوالهم «زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ» شياطينهم لأنهم أطاعوا وسوستهم يوأد البنات وسموا شركاء لهذا المعنى لأن الشريك قد يسمع كلام شريكه راجع الآية ٣١ من سورة الإسراء والآية ٢٩ من سورة التكوير المارتين في ج ١، وسماعهم هذا لأوامرهم ما هو لخيرهم بل لشرهم لقوله تعالى «لِيُرْدُوهُمْ» يدمروهم ويهلكوهم «وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ» يشوشوه عليهم ويخلطوا به ما ليس منه من إفكهم وما تسوله له أنفسهم، بأن يدخلوا عليهم الشك فيه لأن العرب في الأصل كانوا على دين إسماعيل عليه السلام فلبست عليهم شياطينهم أمر ذلك الدين تدريجا ولم يكن لهم كتاب يرجعون إليه فيما اندرس من أمر دينهم وبقوا كذلك يصغون لوساوسهم حتى أخرجوهم عنه وحسنوا لهم ما يلقونه إليهم من الأفعال والأقوال ووضعوا لهم هذه الأوضاع الفاسدة وزينوها لهم فتبعوها «وَلَوْ شاءَ اللَّهُ ما فَعَلُوهُ» إذ لا يقع شيء في كونه إلا بإرادته ومشيئته راجع الآيات ١٢٥، ١٠٧، ١١٢ المارات من هذه السورة، وجاءت هذه الجملة تأكيدا لمثلها في الآية ١١٢ بأن كل ما فعله المشركون وغيرهم بمشيئة الله تعالى خلافا للمعتزلة «فَذَرْهُمْ» يا سيد الرسل «وَما يَفْتَرُونَ ١٣٧» على ربك وعليك من الإفك والبهت فإن ضرر افترائهم عليهم لا يضرك منه شيء وهذه الجملة على حد قوله تعالى (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ) الآية ٤٠ من سورة فصلت الآتية وفيها من التهديد ما لا يخفى، وفيها دلالة على كذبهم من نسبة هذا التحريم والتحليل والتقسيم والقتل إليه تعالى عن ذلك، ومن جملة أوضاعهم الفاسدة عدا ما تقدم ما ذكره الله بقوله «وَقالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ» حرام لأن الحجر معناه المنع وهم يريدون أنها لا ينتفع بها،
عند الذبح اكتفاء بذكر أوثانهم ويفترون هذا وغيره «افْتِراءً عَلَيْهِ» تعالى إذ نسبوا ذلك اليه كذبا محضا تعالت حضرته المقدسة عنه «سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ ١٣٨» من تلك النسبة بهتا وعدوانا وفي هذه الآية أيضا تهديد ووعيد لا يخفى على من له لب واع وفكر سديد «وَقالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا» أي أن نسائهم لا يجوز لهن أكلها كأنها وقف على الذكور «وَإِنْ يَكُنْ» المولود منها «مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ» نساؤهم ورجالهم يأكلون منها على السواء فاتركهم يا سيد الرسل «سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ» أي جزاء وصفهم الكذب على الله في هذا وغيره، قال تعالى (وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ) الآية ٦٣ من سورة النحل الآتية ونسق هذه الجملة من بديع الكلام وبليغه لأنهم يقولون وصف كلامه الكذب إذا كذب وعينه تصف السحر أي أنه ساحر وقده يصف الرشاقة بمعنى انه رشيق القامة مبالغة كأن من رآه أو سمعه وصف له ذلك بما يشرحه له قال ابو العلاء
المعري:
سرى برق العرة بعد وهن | فبات برامة يصف الملالا |
كنت أمنيتي وكنت خالصتي... وليس كل أمر بمؤتمن
قال تعالى «قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً» لخفة عقولهم وقلة إدراكهم «بِغَيْرِ عِلْمٍ» جهلا بان الله تعالى لم يرزقهم وهو الرزاق لهم ولأولادهم والحافظ لهم جميعا وذلك من سبب الوأد وهو مخافة الفقر والسبي للبنات وهاتان الجريمتان قد تقع وقد لا تقع، فاستعجالهم على قتل أولادهم مع عدم معرفتهم العاقبة بمجرد ظنهم ووهمهم خسران لهم بازالة نعمة الولد التي هي أعظم النعم فاذا تسبب بإزالتها استوجب الذم ونقص عدده في الدنيا والعذاب العظيم في الآخرة وسبب نزول هذه الآية أن مضر وربيعة كانت تفعل ذلك فنعى الله عليهم قلة إخلاصهم له وعدم توكلهم عليه وكثرة جهلهم فيه وظاهر هذه الآية أنهم كانوا يقتلون الأولاد ذكرا وأنثى وعليه يكون السبب في قتلهم هو مخافة الفقر فقط أما مخافة السبي فلا يكون إلا بالإناث وسيأتي لهذا البحث صلة في الآية ٥٩ من سورة النحل الآتية إن شاء الله تعالى القائل في فضح أعمالهم وتشنيع صنيعهم أيضا. «وَحَرَّمُوا ما رَزَقَهُمُ اللَّهُ» من بعض الحروث والأنعام وغيرها زاعمين ان الله الذي حرم وحلل ذلك «افْتِراءً عَلَى اللَّهِ» واختلاقا من أنفسهم «قَدْ ضَلُّوا» في هذه المناسبة واقتراف تلك الأمور عن طريق الرشد والسداد «وَما كانُوا مُهْتَدِينَ ١٤٠» إلى الحق والصواب وقد ختم الله هذه الآية بلفظ الاهتداء يشير بها إلى أن الإنسان قد يضل عن الحق ولكنه يعود للاهتداء، وهؤلاء قد توغلوا في الضلال والاهتداء لم يحصل لهم قط وانهم أهل الذم لفعلهم الأمور السبعة المارة التي هي نقمة لهم لو كانوا يعقلون، فقد حرموا نعمة الولد بالقتل، ونعمة العقل بالسفاهة، ونعمة العلم بالجهل، ونعمة التحليل بالتحريم، ونعمة الصدق بالافتراء، ونعمة الرشد بالضلال، ونعمة الرجوع إلى الهدى بالإصرار على الكفر والضلال، ومن يضلل الله فماله من هاد، روى البخاري ومسلم عن ابن عباس قال: إذا سرّك أن تعلم جهل العرب فاقرأ ما فوق الثلاثين والمائة من سورة الأنعام أي إلى هذه الآية، وهذه الآية
قال تعالى «وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ» مرفوعات عن الأرض «وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ» منبسطة على وجه الأرض، وذلك أن أشجار العنب منه ما هو منبسط على الأرض ويسمى كرما عرفا على أن هنالك أخبارا بعدم جواز اطلاق لفظ الكرم على شجر العنب ومنه ما هو مرتفع على الأعواد كهيئة السقف ويسمى عريشا، هذا على تخصيص هذه الجنّات في الآية على العنب فقط أما إذا أطلق لفظ الجنات فإن المعروش منها كل ما انبسط على وجه الأرض وانتشر كالكرم والقرع والبطيخ والقثاء وشبهها من الأزهار غير المثمرة، وغير المعروش كل ما قام على ساق ونسق كالنخل والموز والتفاح وأشباهه، والزروع كالحنطة والذرة والرز وغيرها من النبات الغير مثمر أيضا، ولكن قوله تعالى بعد ذلك «وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ» يؤيد الأول وقد جعل الله كلا من ذلك «مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ» في الطعم كاختلاف شجره وثمره في اللون والشكل والحجم والرائحة «وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشابِهاً» في طعمه ولونه وشكله ورائحته أيضا «وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ» في شيء من ذلك، فيا أيها الناس «كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ» وهذا أمر إباحة بتناول ثمر تلك الأشجار نضجت أو لا إذ لم يقل إذا نضج فيجوز أكله عند بدو إدراكه إذا لم يضر بالصحة فإذا علم ضرره حرم أكله لأن منها ما ينفع نضيجه ويضر نيئه ومنها ما لا، لأن القصد من خلقها والإنعام بها على عباده هو الأكل لما تشتهيه النفس منها راجع الآية ٩٩ المارة «وَآتُوا حَقَّهُ» زكاته التي أوجها الله عليكم وبينها حضرة الرسول «يَوْمَ حَصادِهِ» وبعد تصفيته وجفافه وقد آذنت هذه الآية بجواز الأكل من تلك قبل إعطاء الزكاة لا لبيع وغيره.
مطلب ما تجب فيه الزكاة من الحبوب وغيرها والحكم الشرعي في قدرها:
وإن الزكاة لا تجب إلا بعد الحصاد حذرا من وقوع آفة سماوية أو أرضية على الحبوب والأثمار فيتضرر بها، ولا زكاة وهو في السنبل والجربان والعثوق لعدم معرفة القدر الواجب، وهذا مما يؤيد بأن المراد بالمعروشات الأعناب إذ تجب فيها الزكاة، وكذلك ما عطفت عليها، وبأن هذه الآية مدنية، لأن الزكاة لم تفرض في مكة بل في المدينة وظاهر الأمر للوجوب إذ لا يوجد ما يصرفه عنه وهي محكمة سارية في كل نوع من أنواع ما تجب فيه الزكاة. الحكم الشرعي:
إذا أنا لم أنفع صديقي لوده | فإن عدوي لم يضرّهم بغضي |
فيا سيد الرسل «قُلْ» لهؤلاء الفسقة «آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ» عليكم «أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ» على طريق الاستفهام الإنكاري «أَمِ» حرم «أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ» من تلك الأنعام لأنها لا تشتمل إلا على ذكر وأنثى مثلها
ولم يحرم الله شيئا منها «نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ» صحيح عن العلم الذي أتاكم من الله وجاءكم رسله بتحريم ذلك «إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ١٤٣» بما حرمتم وحللتم تبعا لأمر الله ورسوله وحاشا الله ورسوله أن يأمرا بذلك ولكنكم كاذبون بنسبة ذلك إليهما «وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهذا» التحريم كلا لم يوصكم ولا حجة لكم على ذلك ولا برهان ولا دليل ثم وبخهم الله على ذلك بقوله «فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ» جهلا منه وجرأة على ربه «إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ١٤٤» إلى طريق الحق ولا يوفقهم إلى الرشد، إذ لا أشد ظلما وأبعد عن السداد ممن يكذب على الله فينسب إليه التحريم والتحليل من حيث لم يحلل ولم يحرم، قال صلّى الله عليه وسلم من كذب عليّ متعمدا فليتبوأ مقعده من النار فكيف من يكذب على الله «قُلْ» يا أكرم الخلق لهؤلاء المفترين «لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ» آكل يأكله «إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً» حتف أنفها أو ما هو في حكم الميتة كالموقوذة والمتردية والنطيحة وغيرها الوارد ذكرها في الآية ٥ من سورة المائدة في ج ٣ من كل ما لم تبق فيه حياة معتبرة ويزكى زكاة شرعية وهذا عام خص منه السمك والجراد كما خص مما بعده الكبد أو الطحال لأنه متجمد خلقة وهو «أَوْ دَماً مَسْفُوحاً» حال الحياة أو عند الذبح أما الذي يبقى في العروق وبين اللحم فهو عفو، وقال صلّى الله عليه وسلم: أحل لكم دمان الكبد والطحال وميتتان السمك والجراد «أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ» قذر نجس ضار أكله يورث الجذام والدودة الوحيدة وقلة الغيرة وأمر آخر لم نطلع عليه بعد وكذلك الميتة والدم تورث أضرارا في الوجود لأن الله تعالى لم يحرم علينا شيئا إلا لمنفعتنا، على أنه لو فرض أن لا ضرر فيما حرم الله فيجب علينا اجتنابه امتثالا لأمره ولا حق للعبد أن يقول لم حرّم الخالق، ولا أن نطلب العلة بالتحريم، لأن أفعال الله
٣٠ من سورة البقرة في ج ٣ فهذه الآية مطلقة تفيد حل كل شيء على وجه الأرض وما في المياه من حيوان وعامة الطير، وقيدت بما نص
وروى مسلم عن أبي هريرة أن النبي صلّى الله عليه وسلم نهى يوم خيبر عن أكل لحوم الحمر الأهلية وأذن في الخيل. وعلى هذا فإن كل ما جاء النهي بنص الشارع فهو حرام ولهذا يحرم تناول ما أمر الشارع بقتلها مما ورد في الحديث الصحيح خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم وهي: الحية والعقرب والفأرة والحدأة والكلب العقور. وروي عن سعد بن أبي وقاص أن النبي ﷺ أمر بقتل الوزغ، وعن جابر أنه صلّى الله عليه وسلم نهى عن أكل الهرة، وأخرج أبو داود عن ابن عباس قال: نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن قتل أربع من الدواب النملة النحلة والهدهد والصرد وهو طائر فخم الرأس يصطاد العصافير والوزغ جمع وزغة بالتحريك هو سام أبرص وابن الماء الآتي هو طير يسمى القرلي يعوم فوق الماء فإذا رأى شيئا خرّ عليه فكل ما ورد نص صحيح بقتله أو النهي عن أكله أو تحريمه فهو حرام لا يحل تناوله، وما لم يرد فهو بالخيار إن شاء أكله وإن شاء تركه، وقالوا ما استطابة العرب فهو طيب، وما استكرهته فهو مكروه، وهذا ليس مطردا لاختلاف العادات والنفوس، فلينظر العاقل صاحب النفس السليمة ما تطلبه نفسه من غير ما ورد النص بتحريمه، وما تعافه منها، لأن الله تعالى قال أحل لكم الطيبات فما استطابه الأكثر فهو طيب، لأن العبرة للغالب، لأن ما تستحسنه العرب أو تستخبثه لم يدخل تحت الضبط، وقد قدم لحضرة الرسول الضب فلم يأكله وقد أكله أصحابه بحضوره ولم ينههم عنه، وغاية ما قاله فيه يعافه طبعي، فيكون أكله حلالا لأنه لو كان حراما لما أقرهم على أكله، وانما قلنا العبرة للغالب لأن من العرب من لا يستقذر شيئا ويفهم من الآية جواز الانتفاع بجلد الميتة وعظمها وشعرها لأن النهي عن أكلها فقط أخرج أحمد وغيره عن ابن عباس قال ماتت شاة لسودة بنت زمعة، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لو أخذتم مسكها أي جلدها فقالت نأخذ مسك شاة قد ماتت فقال عليه الصلاة والسلام، إنما قال الله تعالى (قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً
الآية المارة وانكم لا تطعمونه ان تدبغوه فتنتفعوا به. قال تعالى «وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا» اليهود وسموا يهودا لقولهم فيما أخبر الله عنهم إنا هدنا إليك الآية ١٥٦ من الأعراف المارة في ج ٢ وما قيل انهم لقبوا بذلك على اسم ملك صار منهم لا قيمة له لأنه إنما صار بعد أن صاروا أهلا للملك وبعد وفاة موسى عليه السلام «حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ» مثل البعير والنعامة وكل ما لم يكون مشقوق الأصابع من البهائم والطير كالاوز والبط وكل ذي مخلب من الطير وذي حافر من الدواب وكل ذي ناب من السباع والأرنب وابن الماء وأراد بالظفر هنا الحافر مجازا على طريق الاستعارة «وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما) التي في جوفهما وعلى الكليتين وبما أن لفظ الشحوم جاء عاما فقد استثنى منه ما هو حلال وهو ما جاء بقوله عزّ قوله «إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما» يدخل فيه الإلية لأنه مما يتعلق بالظهر، إلا أن اليهود لا يأكلونها «أَوِ الْحَوايا» الأمعاء والمصارين والمباعر مما تحتوي عليه في البطن «أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ» من الشحوم وهذا صريح في حل الإلية لأنها مختلطة بعظم وهو العصعص، وكذلك الشحم الذي في الرأس والعين وسائر العظام فهو حلال، روى البخاري ومسلم عن جابر بن عبد الله قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول عام الفتح ان الله تعالى حرم بيع الخمر ولحم الخنزير والأصنام، فقيل يا رسول الله أرأيت شحوم الميتة فإنها يطلى بها السفن ويدعن بها الجلود ويستصبح بها الناس؟ فقال لا هو حرام، ثم قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم عند ذلك قاتل الله اليهود، إن الله لما حرم عليهم شحومها جملوه (أي أذابوه) يقال أجملت الشحم وجملته إذا أذبته وجملته أكثر وأفصح «ذلِكَ» التحريم عقوبة لهم «جَزَيْناهُمْ» به وأوجبنا عليهم التحريم «بِبَغْيِهِمْ» على أنفسهم وغيرهم وأعظم بغيهم قتل الأنبياء وأقله أكل الربا «وَإِنَّا لَصادِقُونَ ١٤٦» فيما أخبرناك به يا سيد الرسل من أفعالهم
هذه «فَإِنْ كَذَّبُوكَ» في شيء من هذا أو غيره «فَقُلْ رَبُّكُمْ» أيها الناس قادر على أن يأخذهم حالا بعذاب لا يستطيعون رده ولا يتمكنون من النّجاة منه على تكذيبهم، هذا ولكنه أي ربك يا أكرم الرسل «ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ» لا يعجل عقوبة الكافر والعاصي
مطلب في المشيئة والإرادة واختيار العبد ودحض حجج المعتزلة وغيرهم:
واعلموا أنه يوم يأتي عذابه «سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا» حينما لم يجدوا عذرا يعتذرون به ولا بدا من الخلاص إذ لزمتهم الحجة ولم يبلغوا الحجة «لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا وَلا» أشرك «آباؤُنا» من قبل إشراكنا ولم نقلدهم بالشرك «وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ» مما ذكر على أنفسنا وغيرنا ولكن الله تعالى شاء ذلك كله ففعلناه تبعا لإرادة الله «كَذلِكَ» مثل هذا الكذب المحض «كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ» أنبياءهم من الأمم السابقة واحتجوا عليهم بهكذا مفتريات وانكبوا عليها «حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا» فكبوا على وجوههم في النار.
وفي قوله تعالى، ذاقوا، إيماء إلى أن لهم عذابا مؤخرا عند الله غير الذي ذاقوه لأن الذوق أول قربان الشيء أو أن الإذاقة في الدنيا والأشد منها بالآخرة «قُلْ» لهم يا سيد الرسل «هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ» يصح الاحتجاج به على زعمكم ذلك «فَتُخْرِجُوهُ لَنا» على أن إشراككم كان بمشيئة الله وأنكم فعلتموه تبعا لإرادته فإذا كان كذلك فلا شيء عليكم بل تستحقون الثواب لأنكم اتبعتم ما أراده الله عن علم ولكنكم فعلتم ذلك عنادا وعتوا وتبعا لشهوات أنفسكم وتسويلات شياطينكم وجهلا بمقام الإلهية المقدسة واستهزاء برسله العظام وسخرية بكلامه الجليل ولم تتبعوا في ذلك حقيقة ناصعة «إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ» الذي لا يغني عن الحق شيئا «وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ ١٤٨» تكذبون على الله وتختلقون أشياء من أنفسكم باطلة لا أصل لها في الشرائع السماوية. وليعلم أن الله تعالى حكى عن هؤلاء الكفار أنهم قالوا لو شاء الله ما أشركنا ثم ذكر عقبه قوله (كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ)
مريد الخير والشر القبيح | ولكن ليس يرضى بالنكال |
قال تعالى يا محمد «قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ» حقا يقينا لا مرية فيه ولا زعما ولا ظنا ولا تقليدا، وليس مما تزعمونه وتنسبونه إلى الله جهلا وتطاولا وتجاوبون به مكابرة وعنادا وتصرون عليه تجبرا أو عتوا، فاعلموا أن أول وأعظم ما حرم عليكم هو «أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً» من خلقه ولا من صنعكم ولا تطيعوا مخلوقا في معصية وقد حرم عليكم عقوق الوالدين بعد الإشراك به وأوجب عليكم برهما فقال «وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً» أحسنوا إليهما إحسانا
له إذ لا يجوز في حال من الأحوال قربان ماله إلا في حالة واحدة وهي ما يكون له فيها الحظ والنفع كحفظه وتنميته وإصلاحه والمداومة على ذلك «حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ»
راشدا، لأن مطلق البلوغ لا يكفي بل يشترط الرشد معه فادفعوه إليه كاملا مع ربحه يعمل هو برأيه فيه، أما إذا بلغ سفيها فيبقى المال بيد الولي أو الوصي راجع الآيتين ٥ و ٦ من سورة النساء في ج ٣ والآية ٣٤ من سورة الإسراء في ج ١ تقف على التفاصيل المتعلقة بهذا، وإذا كان قربانه منهي عنه فكيف بأكله أجارنا الله منه، والمحرم السابع نقص الكيل والميزان لقوله تعالى «وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ»
بالحق العدل، والأمر بالإيفاء يتضمن النهي عن التطفيف والتنقيص ومعنى القسط يؤذن بعدم الزيادة كما يحرم القص، واعلم أن الوفاء فيها من كرم الإنسان ومروءته التي يحمد عليها عند الله والناس، ومن جملة الوصايا العشر المذكورة في التوراة
والملمح إليها في الإنجيل بلفظ لا تسرق لأن نقص الكيل وتطفيف الوزن سرقة فيكونان داخلين فيها وإذا كان هذا النقص منهى عنه فالسرقة من باب أولى كيف وقد جعل الله حدها قطع اليد راجع الآية ٣٨ من سورة المائدة ج ٣، وقال تعال في عدم الحرج «لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها»
طاقتها لأن الوسع هو الطاقة وهو عندنا بذل الإنسان جهده في عدم قربان شيء من المحرمات ولهذا لم يأمر الله بالزيادة لما فيها من الحرج على البائع ونهى عن النقص لما فيه من الظلم على المشتري والضيق لحاجته، فأمر الله تعالى ببلوغ الوسع في ذلك، وما وراء الوسع عفو مع لزوم الضمان لأن للجائع الذي لا يجد شيئا وقد أشرف على الهلاك، أكل مال غيره
في قولكم وشهادتكم وحكمكم لأن القول يشمل ذلك كله وضدها حرام وهي الكذب وشهادة الزور والجور في القضاء وكذلك الغيبة والنميمة والسب والشتم والقذف أيضا «وَلَوْ كانَ»
المقول فيه والمشهود عليه والمقضي له «ذا قُرْبى»
ويدخل في القول الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من غير زجر ولا شدة ولا ميل للغير ولا غضب لنفسه ويكون حنقه من أجل المنكر لله تعالى ليكون أرجى للإجابة وأكثر تأثيرا للقبول وأدعى للامتثال، والمحرم التاسع الغدر ونقض العهد، قال تعالى «وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا»
لأن الأمر بالمحافظة على العهد يقتضي تحريم نقضه وهو يشمل عهد العبد مع ربه وعهده مع عباده وعهد العباد فيما بينهم والنّذر الواجب لأنه من جملة العهود أيضا والوعود، وقدمنا ما يتعلق بهذا الشان في تفسير الآية ٢٤ من الإسراء في ج ١، ولا يخفى أن الوفاء بالوعود والعهود من أخلاق المؤمن والخلف والنكث من خلق المنافق قال صلّى الله عليه وسلم: آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا أوتمن خان «ذلِكُمْ»
التكاليف الأربعة المتممة مع الخمسة الأول تسعة «وَصَّاكُمْ»
بها الرب الجليل المنعم «بِهِ»
على من قبلكم والتي وصى بها آبائكم الأقدمين والأمم السالفة بواسطة أنبيائهم «لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ»
في هاتين الآيتين المتضمنة تسعة من الأمور المهمة لتأمروا بالمأمور منها وتنهوا عن المنهي عنها، ثم بين الوصية العاشرة الجامعة لأنواع كثيرة من المحلات المانعة عن تعاطي كثير من المحرمات والتي هي نبراس يهتدى بها في الظلمات المبينة بقوله عز قوله «وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً» لا عوج فيه ولا زيغ له ولا حيف فيه ولا محيد عنه لمن أراد الوصول إليّ والتنعم بجنّتي والخلاص من عذابي، وكلمة مستقيما منصوبة على الحال بمعنى الإشارة كما أشرنا إليه في الآية ١٢٦ المارة، لا تحيدوا عنه أبدا ليهديكم إلى الرشد ويقودكم إلى الصواب ويوصلكم إلى الدين الذي ارتضاه لكم بعد أن رضيه لنفسه المقدسة فاقتفوا أثره واعملوا به فهو الطريق السوي الذي يأخذ من اتبعه إلى السداد ويدله على سبل الخير والرشاد، واعلم أن جميع ما تقدم في الآيتين المارتين والخمس عشرة آية
بالنواجذ وتمسكوا بوصية ربكم «لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ١٥٣» طرق الهلاك ومواقع الضّلال وتصلون إلى بغيتكم في الدنيا والآخرة روى البغوي بسنده عن ابن مسعود قال خط لنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم خطا ثم قال هذا سبيل الله ثم خط خطوطا عن يمينه وشماله فقال هذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو اليه وقرأ هذه الآية، هذا وإنه تعالى ضرب مثلا في هذه الآية لدينه القويم الناصع بطريق عام معبد مار بالبيداء يوصل من يسلكه إلى البلد الذي يريده فاذا سلكه أوصله الى قصده بأمن وسلام وللأديان المعوجة الباطلة بطرق صغار متشعبة عن يمين وشمال الطريق السوي الضاربة في الصحاري لا يعلم مداها، ولا يعرف منتهاها، فإذا ترك الرجل ذلك الطريق المستقيم وسلك هذه الطرق تاه وتحير ووقع في حيص بيص فلا يزال يتخبط فيها حتى يهلك جوعا وعطشا وليعلم أن هذه الآيات مذكورة في الكتب السماوية كلها المنزلة على الرسل كما أشرنا إلى هذا قبل والوصايا العشر المذكورة في التوراة والإنجيل داخلة فيها
وإنّ الذي جادت بفلج دماؤهم | هم القوم كل القوم يا أم خالد |
مطلب آيات الصفات وعلامات الساعة وإيمان اليأس واعتبار كل الأمم من ملة الإسلام والتفرقة في الدين:
وهذه الآية من آيات الصفات من قسم المتشابه الذي ذهب السلف الصالح إلى إبقائه على ظاهره وتأوله الخلف بما يلائم المقام، راجع الآية المذكورة آنفا والآية ١٨ من هذه السورة وما يرشدانك إليه وسنأتي على توضيحها عند الآية ٢١٠ من البقرة والآية ٧ من آل عمران في ج ٣ إن شاء الله «أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ» من علامات الساعة كالخسف والزلزال وظهور عيسى بن مريم والدجال والتار ويأجوج ومأجوج وطلوع الشمس من مغربها ودابة الأرض راجع الآية ٨٢ من سورة النمل في ج ١، «يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ» من علاماتها كالدابة أو الموت «لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها» إذ ذاك لأنه اضطراري للتخلص من العذاب مثل إيمان فرعون المار ذكره في الآية ٩٠ من سورة يونس المارة، وأن إيمان اليأس والبأس عند مشاهدة العذاب لا يقبل لقوله تعالى «لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ» حضور الموت أو القتل والغرق أو وصول الروح الحلقوم «أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً» إخلاصا لله تعالى قبل اليأس فتنتفع بالإيمان وإلا فلا، وكما لا يقبل إيمان الكافر في مثل هذه الأوقات لا تقبل توبة الفاسق ولا إخلاص المنافق ولا توبته أيضا، راجع الآية ١٥٩ من الشعراء في ج ١ والآيتين ٨٣ و ٨٤ من سورة غافر الآتية، ثم هددهم ثانيا بقوله «قُلِ» يا محمد لهؤلاء المعاندين «انْتَظِرُوا»
مغبة تسويفكم وإصراركم احدى هذه الآيات القاطعة لآمالكم لتعضوا أصابعكم ندما وأسفا وتتفطر قلوبكم من التحسر على ما فاتكم من زمن قبول التوبة والإيمان «إِنَّا مُنْتَظِرُونَ ١٥٨» نزول أحدها بكم وناظرون ما يحل بكم. روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: لا تقوم الساعة حتى تطلع
وروى مسلم عن أبي حذيفة بن أسد الغفاري قال: طلع رسول الله صلّى الله عليه وسلم علينا ونحن نتذاكر فقال ما تذاكرون؟ قلنا الساعة فقال إنها لا تقوم حتى تروا قبلها عشر آيات فذكر الدجال والدخان والدابة وطلوع الشمس من مغربها ونزول عيسى بن مريم عليه السلام وثلاث خسوف، خسف بالمشرق وخسف بالمغرب وخسف بجزيرة العرب وآخر ذلك نار تطرد الناس إلى محشرهم. وروى مسلم عن عبد الله بن عمرو ابن العاص قال حفظت من رسول الله صلّى الله عليه وسلم حديثا لم أنسه بعد سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول إن أول الآيات خروجا طلوع الشمس من مغربها وخروج الدابة على الناس ضحى وأيهما كانت قبل صاحبتها فالأخرى على أثرها قريبا. وقال في سوق العروس لابن الجوزي إن الشمس تطلع من مغربها ثلاثة أيام بلياليها ثم يقال لها ارجعي من مطلعك. والمشهور أنها تطلع يوما واحدا من المغرب فتسير إلى خط الاستواء ثم ترجع إلى المغرب وتطلع بعد ذلك من المشرق كعادتها قيل والكل أمر ممكن والله سبحانه وتعالى على كل شيء قدير. روى البخاري في تاريخه وأبو الشيخ وابن عساكر في كيفية ذلك عن كعب رضي الله عنه قال: إذا أراد الله تعالى أن تطلع الشمس من مغربها أدارها بالقطب فجعل شرقها غربا ومغربها مشرقها. وزعم
أمتي أقوام تتجارى بهم الأهواء كما يتجارى الكلب بصاحبه لا يبقى منه عرق ولا مفصل إلا دخله، أخرجه أبو داود. وأراد بالتجاري هنا على قول بعضهم الوقوع في الأهواء الفاسدة تشبيها بجري الفرس والكلب، ولا أراه سديدا بل أراد والله أعلم داء الكلب، أي تتداخل بهم الأهواء كتداخل داء الكلب في الوجود بدليل ما بعده.
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: إن بني إسرائيل تفرقت على اثنتين وسبعين ملّة وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملّة كلها في النار إلّا ملّة واحدة، قالوا من هي يا رسول الله قال من كان على ما أنا عليه وأصحابي- أخرجه الترمذي-. وفي هذين الحديثين دلالة كافية على أن جميع أهل الملل المتفرقة في المذاهب والطرق من ملة الإسلام إذ جعلهم الرسول صلّى الله عليه وسلم من أمته بنص قوله (أمتى) في الحديث الأخير فنسأل الله تعالى أن يجمع كلمتهم على طريق الحق ويوحد صفوفهم على الصدق ويشد أزرهم بعضهم ببعض، وينزع الخلاف من بينهم ويوحد كلمة هؤلاء الأحزاب المتضاربة المتحزبة بعضها لبعض الآن بما يزيد عن التعصّب الكائن في الجاهلية بسبب القرابة ويسدد خطاهم إلى الهدى والصواب ويلهمهم الرشد ويزيل عنهم الحجاب ونظير هذه الآية ١٣ من سورة الشورى الآتية فراجعها وهذه الآية عامة محكمة وحكمها باق إلى آخر الدوران فمن قال منسوخة احتج بانها خاصة باليهود والنصارى والكفار من حيث لا دليل يخصصها بأحد من هؤلاء من كتاب أو سنة لهذا فلا عبرة بهذا القول لأن معناها عام والعام يبقى على عمومه ما لم يخصص ولا مخصص له.
كان السيد محمود الألوسي رحمه الله صاحب تفسير روح البيان اجتمع بأحد متعصبي الشيعة وكان اسمه حمد وقد روى الحديثين المذكورين آنفا وجعل بدل واحدة في الحديث الأول وصلته في الحديث الثاني (فرقة) وقال إن فيها إشارة إلى نجاة الشيعة وانهم هم المرادون بالفرقة الناجية من الثلاث والسبعين، قال والحجة على هذا أن عدد حروف فرقة بالجمل وعدد حروف شيعة سواء فكأنه عليه الصلاة والسلام قال الا شيعة والمشهور في هذا العنوان هم الشيعة الإمامية لا غير، فأجابه على الفور دون أن يتعرض لتبديل كلمة واحدة وفرقة وملة: يلزم من هذا أن تكون كلبا وحاشاك لأن عدد حروف كلب بحروف الجمل مثل عدد حروف حمد، فألقم الحجر ولم ينبس ببنت شفة قال تعالى «إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ» وحده في تفرقهم وتعصبهم لبعضهم ليس لك يا سيد الرسل فأنا وليهم إن شئت عذبتهم في الدنيا والاخرة وإن شئت هديتهم في الدنيا وعفوت عنهم في الآخرة، وإن شئت عذبتهم في الدنيا والاخرة وإن شئت هديتهم في الدنيا ونعمتهم في الاخرة فاتركهم فان أمرهم اليّ في الدنيا ومرجعهم إلي في الآخرة «ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ ١٥٩» لا يعزب عن علمه شيء من أعمالهم وأنه سيجازيهم عليها الشر بمثله والخير بأحسن منه قال تعالى «مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ» في هذه الدنيا «فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها» في الآخرة وقد يضاعفه إلى سبعمئة وإلى ما لا يحصى «وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ» فيها «فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها» فيها وهذا من عظيم فضل الله على عباده إذ يفيض على الطائعين من جوده العميم ويقاصص العاصين بمقدار عصيانهم «وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ١٦٠» في ذلك إذ لا يزاد في عقابهم كما لا ينقص من ثواب الطائعين، وهذا عدل منه جلّ عدله في حق العاصي وفضل منه في حق الطائع، على أن له تعالى أن يعذب الطائع ويرحم العاصي لأن الكل ملكه يتصرف فيه كيف يشاء، فإذا أراد إبلاغ ثواب الطائع إلى ما لا يحصى وعقاب المسيء إلى ما لا يطاق فعل ولا راد لقضائه ولا يسأل عما يفعل، وهذه الآية عامة في كل حسنة وسيئة والتقدير ليس للتحديد لأن الله يضاعف لمن يشاء، فالثواب فضل منه والعقاب عدل منه. روى البخاري
ارقبوه فإن عملها فاكتبوها له بمثلها، وإن تركها فاكتبوها له حسنة، فإنما تركها من جرائي. زاد الترمذي: من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها. وقدمنا ما يتعلق في هذا في الآية ٢٠ من سورة يوسف المارة وفيها أيضا ما يرشدك للمواقع المتعلق فيها هذا البحث فراجعها، فنعم الرب ربكم أيها الناس هذا لطفه بكم ورأفته عليكم، فأين المتعرض لألطافه المتطلب
«قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» موصل إلى النجاة، ثم بين هذا الطريق بقوله «دِيناً قِيَماً» عدلا لا عوج فيه بالتخفيف وجاء في الآية الثانية من سورة الكهف الآتية قيما بالتشديد وجاء معرفا ومشددا في الآية ٣٠ من سورة الروم الآتية والآية ٣٧ من سورة التوبة في ج ٣ «مِلَّةَ إِبْراهِيمَ» السوية السهلة التي ملتم عنها واختلفتم فيها أيها المشركون والمجوس وأهل الكتابين، وقد اتبعتها أنا لكونه أي سيدنا إبراهيم كان «حَنِيفاً» مائلا عن الضلال إلى الاستقامة وعن الباطل إلى الحق وكانت العرب تسمي كل من حج واختتن حنيفا إعلاما بأنه على دين إبراهيم عليه السلام الذي كان مسلما مؤمنا «وَما كانَ» من يوم وعيه «مِنَ الْمُشْرِكِينَ ١٦١» قط وهو الذي سمى المؤمنين به مسلمين، راجع الآية الأخيرة من سورة الحج في ج ٣، نزلت هذه الآية في كفار قريش لأنهم يزعمون أنهم على دين إبراهيم مع أنهم يعبدون الأوثان وعبادتها شرك محض، فرد الله عليهم بأن إبراهيم ما كان مشركا ولم يعبد الصنم قط، وأنتم مشركون تعبدون الأوثان، فادعاؤكم أنكم على دينه بهت واختلاق، وإنما ذكرنا المجوس وأهل الكتابين مع أن الآية مكية ولا يوجد في مكة مجوس ولا يهود ونصارى وقع لهم مجادلة مع حضرة الرسول في ذلك، بل لأنهم داخلون في معنى الآية بسبب ما هم عليه من التفرقة في دينهم وتعصب بعضهم لبعض فيشملهم إطلاق لفظها، إذ لا مقيد لها، تدبر. قال تعالى «قُلْ» يا سيد الرسل موبخا مقرعا من عاندك في توحيد الله أو جادلك في إثبات الشرك بوحدانية الله المقدسة وهو مع سفه عقله وقلة إدراكه يتوقع موافقتك لاتباع دينه الباطل «إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي» حجي وذبحي وكل عبادتي «وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ ١٦٢» وحده «لا شَرِيكَ لَهُ» في ذاته ولا في شيء من صفاته جلت حضرته عما يقول الكفرة وتنزهت مما تصفه، فإذا أردتم الخير لأنفسكم أيها الناس في الدارين فأخلصوا له الدين الذي أرسلت به إليكم «وَبِذلِكَ» الإخلاص والتوحيد والتنزيه «أُمِرْتُ» من قبل ربي عزّ وجل «وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ١٦٣» في هذه الأمة
وغيرها وما كنتم تتفرقون من أجله ويتعصب بعضكم لبعض في غير الحق ويجازي كلا يحسبه
سورة الأنعام
لم تَحْتَوِ سورةُ (الأنعام) على كثيرٍ من الأحكام الشَّرعية كأخواتِها من السُّوَر الطِّوال؛ بل اهتمَّت بتحقيقِ مقصدٍ عظيم؛ وهو (توحيدُ الألوهية، وتثبيتُ مسائلِ العقيدة)، وكما قال أبو إسحاقَ الأَسْفَرَائينيُّ: «في سورةِ الأنعام كلُّ قواعدِ التوحيد»؛ فقد رسَمتِ السورةُ معالمَ على طريق الهداية، ذاكرةً قصَّةَ إبراهيمَ في البحث عن الحنيفيَّةِ الخالصة بما حَوَتْهُ من حُجَجٍ عقلية، وبراهينَ قاطعة؛ فعنايةُ السورة بالعقيدة كانت واضحةً جليَّة؛ لكي يُحقِّقَ العبدُ ما افتُتحت به السورةُ: {اْلْحَمْدُ لِلَّهِ اْلَّذِي خَلَقَ اْلسَّمَٰوَٰتِ وَاْلْأَرْضَ} [الأنعام: 1].
ترتيبها المصحفي
6نوعها
مكيةألفاظها
3055ترتيب نزولها
55العد المدني الأول
167العد المدني الأخير
167العد البصري
166العد الكوفي
165العد الشامي
166* قوله تعالى: ﴿وَلَا تَطْرُدِ اْلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِاْلْغَدَوٰةِ وَاْلْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُۥۖ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٖ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٖ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ اْلظَّٰلِمِينَ﴾ [الأنعام: 52]:
عن سعدِ بن أبي وقَّاصٍ رضي الله عنه، قال: «فِيَّ نزَلتْ: ﴿وَلَا تَطْرُدِ اْلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِاْلْغَدَوٰةِ وَاْلْعَشِيِّ﴾ [الأنعام: 52].
قال: نزَلتْ في ستَّةٍ؛ أنا وابنُ مسعودٍ منهم، وكان المشركون قالوا له: تُدْني هؤلاء؟!».
وفي روايةٍ: «كنَّا مع النبيِّ ﷺ في ستَّةِ نفَرٍ، فقال المشركون للنبيِّ ﷺ: اطرُدْ هؤلاء؛ لا يَجترِئون علينا!
قال: وكنتُ أنا وابنُ مسعودٍ ورجُلٌ مِن هُذَيلٍ وبلالٌ ورجُلانِ لستُ أُسمِّيهما، فوقَعَ في نفسِ رسولِ اللهِ ﷺ ما شاءَ أن يقَعَ، فحدَّثَ نفسَهُ؛ فأنزَلَ اللهُ: ﴿وَلَا تَطْرُدِ اْلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِاْلْغَدَوٰةِ وَاْلْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُۥۖ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٖ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٖ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ اْلظَّٰلِمِينَ﴾ [الأنعام: 52]». أخرجه مسلم (٢٤١٣).
* قوله تعالى: ﴿وَلَا تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اْسْمُ اْللَّهِ عَلَيْهِ﴾ [الأنعام: 121]:
عن عبدِ اللهِ بن عباسٍ رضي الله عنهما، قال: «جاءت اليهودُ إلى النبيِّ ﷺ، فقالوا: نأكلُ ممَّا قتَلْنا، ولا نأكلُ ممَّا قتَلَ اللهُ؟ فأنزَلَ اللهُ: ﴿وَلَا تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اْسْمُ اْللَّهِ عَلَيْهِ﴾ [الأنعام: 121] إلى آخِرِ الآيةِ». أخرجه أبو داود (٢٨١٩).
* قوله تعالى: ﴿مَن جَآءَ بِاْلْحَسَنَةِ فَلَهُۥ عَشْرُ أَمْثَالِهَاۖ﴾ [الأنعام: 160]:
صحَّ عن أبي ذَرٍّ الغِفَاريِّ رضي الله عنه أنه قال: قال رسولُ اللهِ ﷺ: «مَن صامَ ثلاثةَ أيَّامٍ مِن كلِّ شهرٍ، فذلك صيامُ الدَّهْرِ؛ فأنزَلَ اللهُ تصديقَ ذلك في كتابِهِ: ﴿مَن جَآءَ بِاْلْحَسَنَةِ فَلَهُۥ عَشْرُ أَمْثَالِهَاۖ﴾ [الأنعام: 160]؛ فاليومُ بعشَرةِ أيَّامٍ». أخرجه الترمذي (٧٦٢).
سُمِّيتْ سورةُ (الأنعام) بذلك؛ لأنَّها السورةُ التي عرَضتْ لذِكْرِ (الأنعام) على تفصيلٍ لم يَرِدْ في غيرها من السُّوَر.
* جاء في فضلِ سورة (الأنعام): أنَّها نزَلتْ وحولها سبعون ألفَ مَلَكٍ يُسبِّحون:
دلَّ على ذلك ما رواه ابنُ عبَّاسٍ رضي الله عنهما، قال: «نزَلتْ سورةُ الأنعامِ بمكَّةَ ليلًا جُمْلةً، حولَها سبعون ألفَ مَلَكٍ، يَجأرون حولها بالتَّسْبيحِ». "فضائل القرآن" للقاسم بن سلَّام (ص240)، وصحَّح إسنادَه أحمد شاكر في "عمدة التفسير" (1/761).
وقريبٌ منه ما جاء عن أنسِ بن مالكٍ رضي الله عنه، قال: «نزَلتْ سورةُ الأنعامِ على النَّبيِّ ﷺ ومعها مَوكِبٌ مِن الملائكةِ سَدَّ ما بين الخافِقَينِ، لهم زَجَلٌ بالتَّسْبيحِ والتَّقْديسِ، والأرضُ تَرتَجُّ، ورسولُ اللهِ ﷺ يقولُ: سُبْحانَ اللهِ العظيمِ، سُبْحانَ اللهِ العظيمِ». "المعجم الأوسط" للطبراني (٦٤٤٧).
اشتمَلتِ السُّورةُ على عِدَّة موضوعات جاءت مُرتَّبةً كالآتي:
الاستفتاح بالحمد، وخَلْق الإنسان وبَعْثه (١-٣).
إعراض المشركين (٤-١١).
مع الله حُجَج بالغة (١٢-٢٠).
في موقف الحشر (٢٢-٣٢).
تسليةٌ وتثبيت (٣٣-٣٥).
لماذا الإعراض؟ (٣٦-٤١).
سُنَنٌ ربانية (٤٢-٤٧).
مهمة الرسل عليهم السلام (٤٨- ٥٨).
مفاتيح الغيب (٥٩-٦٧).
تجنُّب مجال الخائضين (٦٨-٧٠).
معالمُ على طريق الهداية (٧١-٧٣).
قصة إبراهيمَ عليه السلام (٧٤-٩٠).
الاحتجاج على منكِري البعث (٩١-٩٤).
من دلائلِ القدرة (٩٥-٩٩).
الرد على مزاعمِ المشركين، وتقرير العقيدة (١٠٠-١٠٥).
منهج التعامل مع المشركين (١٠٦-١٠٨).
تعنُّتٌ وإصرار (١٠٩-١١١).
الإعلام المضلِّل وموقف الإسلام منه (١١٢-١١٤).
قواعدُ وأصول في العقيدة والدعوة (١١٥-١١٧).
قواعد وأصول في التحليل والتحريم (١١٨-١٢١).
من مظاهرِ الصُّدود وأسبابه (١٢٢-١٢٦).
وعدٌ ووعيد (١٢٧-١٣٥).
من جهالات المشركين (١٣٦-١٤٠).
حُجَجٌ باهرة، ونِعَمٌ ظاهرة (١٤١-١٥٠).
الوصايا العَشْرُ (١٥١-١٥٣).
من مشكاةٍ واحدة (١٥٤-١٥٧).
وماذا بعد الحُجَج؟ (١٥٨-١٦٥).
ينظر: "التفسير الموضوعي للقرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (2 /393).
أُقيمت هذه السُّورةُ على مقصدٍ عظيمٍ جدًّا؛ ألا وهو (تحقيق التَّوحيد)؛ وذلك بإشعار الناس بأنَّ حقَّ الحمد ليس إلا للهِ؛ لأنَّه مُبدِعُ العوالِمِ: جواهرَ وأعراضًا؛ فعُلِم أنه المتفرِّدُ بالإلهيَّة، وأنَّ الأصنامَ والجِنَّ تأثيرُها باطلٌ؛ فالذي خلَق الإنسانَ ونظامَ حياته وموته بحِكْمته هو المستحِقُّ لوصفِ الإلهِ المتصرِّف. وجاءت السورةُ بتنزيه اللهِ عن الولَدِ والصاحبة، وكما قال أبو إسحاقَ الأَسْفَرَائينيُّ: «في سورةِ الأنعامِ كلُّ قواعدِ التوحيد». واشتمَلتِ السورةُ على موعظة المُعرِضين عن آياتِ القرآن والمكذِّبين بالدِّين الحقِّ، وتهديدِهم بأن يحُلَّ بهم ما حَلَّ بالقرونِ المكذِّبين من قبلِهم والكافرين بنِعَمِ الله تعالى، وأنَّهم ما يضُرُّون بالإنكارِ إلا أنفسهم، ووعيدِهم بما سيَلقَون عند نزعِ أرواحهم، ثم عند البعثِ.
ينظر: "التحرير والتنوير" لابن عاشور (7 /123).