تفسير سورة الأنعام

تفسير آيات الأحكام للسايس

تفسير سورة سورة الأنعام من كتاب تفسير آيات الأحكام للسايس المعروف بـتفسير آيات الأحكام للسايس.
لمؤلفه محمد علي السايس .

من سورة الأنعام
قال الله تعالى: فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ (١١٨) وَما لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (١١٩)
لما قال المشركون: يا محمد أخبرنا عن الشاة إذا ماتت من قتلها؟ فقال عليه الصلاة والسلام: «الله قتلها»، قالوا: فتزعم أنّ ما قتلت أنت وأصحابك حلال، وما قتل الصقر والكلب حلال، وما قتله الله حرام فأنزل الله قوله تعالى: فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إلخ.
وجمهور المفسّرين على أنّ في الآية الأولى حصرا مستفادا من عدم اتباع المضلين المشار إليه بقوله تعالى قبل هذه الآية: وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ
ومستفاد أيضا من الشرط إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ فيكون المعنى: اجعلوا أكلكم مقصورا على ما ذكر اسم الله عليه، ولا تتعدوه إلى الميتة، ولولا هذا القصر لم يلاق الجواب الاعتراض، ويكون الكلام متعرضا لما لا يحتاج إليه، وساكتا عما يحتاج إليه.
وَما لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إنكار لأن يكون لهم شيء يدعوهم إلى ترك الأكل مما ذكر اسم الله عليه من البحائر والسوائب ونحوها. وفي ذلك إشارة إلى أنه لا ينبغي أن يعولوا على عوائد الجاهلية في تحريم ما لم يحرّمه الله، ولا أن يعولوا على اعتراضاتهم وشبههم الواهية.
وقوله: وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ حال مؤكدة للإنكار، أي أنه ليس هناك سبب يمنعكم من أن تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه، والحال أنه قد بيّن المحرّم عليكم في قوله تعالى: قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى إلخ فبقي ما عدا ذلك على الحل.
وقوله تعالى: إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ معناه لكن الذي اضطررتم إلى أكله مما هو محرّم عليكم حلال لكم حال الضرورة.
وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ معناه أن كثيرا من الكفار ليضلون الناس بتحريم الحلال وتحليل الحرام كما حرموا البحيرة والسائبة،
412
وأحلوا الميتة بأهوائهم وشهواتهم الباطلة، وبغير علم أصلا، إنما هو محض الهوى، وسيجازيهم الله على هذا الاعتداء لا محالة.
قال الله تعالى: وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ (١٢٠) قيل: المراد اتركوا جميع المعاصي ما أعلنتم وما أسررتم. وقيل: ما عملتم وما نويتم. وقيل: ظاهِرَ الْإِثْمِ أفعال الجوارح وَباطِنَهُ أفعال القلوب.
وقيل: اتركوا الزنى في الحوانيت واتخاذ الأخدان.
وقد روي أنّ أهل الجاهلية كانوا يرون أنّ الزنى إذا ظهر كان إثما، وإذا استتر فلا إثم فيه. ثم أخبر الله أنه لا بدّ سيجازي مرتكبي المعاصي على عصيانهم.
قال الله تعالى: وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (١٢١) المتبادر من المقام تخصيص ما لم يذكر اسم الله عليه بالحيوان، فيكون ذلك نهيا عن الأكل من الحيوان الذي لم يذكر اسم الله عليه، فتحرم الميتة وما ذكر عليه اسم غير الله ومتروك التسمية عمدا كان تركها أم سهوا، وإلى ذلك ذهب داود، وروي عن الحسن وابن سيرين.
وقال الشافعي: متروك التسمية حلال مطلقا، وهو رواية عن مالك.
وذهب الحنفية إلى التفرقة بين العمد والنسيان، فحرموا متروك التسمية عمدا، وأحلّوا متروك التسمية نسيانا. وهذا هو الصحيح من مذهب مالك. وعن أحمد ثلاث روايات أصحها عندهم وهي المشهورة عنه: أن التسمية شرط للإباحة، فإن تركها عمدا أو سهوا في صيد فهو ميتة، وفي الذبيحة إن تركها سهوا حلّت، وإن تركها عمدا فعنه روايتان.
وحجة داود ومن قال بقوله هذه الآية الكريمة، وهي ظاهرة في ذلك.
وللحنفية في تقرير مذهبهم من الآية طريقان:
الأول: أن ظاهر الآية يقتضي شمولها لمتروك التسمية نسيانا، إلا أنّ الشارع جعل الناسي ذاكرا، لعذر من جهته، وفي ذلك رفع للحرج، فإنّ الإنسان كثير النسيان، فيكون متروك التسمية سهوا مخصوصا من حكم الآية.
والثاني: أنّ الناسي ليس بتارك التسمية، بل هي في قلبه على ما
روي عنه صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «تسمية الله على كل مسلم»
وحينئذ يكون متروك التسمية عمدا أو سهوا بقوله تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ [المائدة: ٣] إلى قوله تعالى: إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ
413
[المائدة: ٣] فأباح المذكى، ولم يذكر التسمية، وليست التسمية جزءا من مفهوم الذكاة، فإنّ الذكاة لغة الشق والفتح وقد وجدا.
وبحديث البخاري وأبي داود والنسائي وابن ماجه عن عائشة رضي الله عنها قالت: إنهم قالوا: يا رسول الله إن قومنا حديثو عهد بالجاهلية يأتون بلحمان لا ندري أذكروا اسم الله عليه أم لم يذكروا أفنأكل منها؟
فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «سموا وكلوا» «١»
قال أصحاب الشافعي هذه التسمية المستحبة عند أكل كل طعام، وشرب كل شراب.
وأجابوا عن هذه الآية بأنّ المراد فيها ما ذبح للأصنام، يدل على ذلك وجوه:
الأول: أنّ من أكل متروك التسمية ليس بفاسق، وقد قال الله: وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ.
والثاني: أن قوله تعالى: وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ يدل على أن المراد ما ذبح على اسم الأصنام، فإن معناه إنّكم لو رضيتم بهذه الذبيحة التي ذبحت على اسم الأصنام فقد رضيتم بألوهيتها، وذلك يوجب الشرك.
والثالث: أن قوله تعالى: وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ لا يجوز أن يكون معطوفا على النهي قبله، لأنّ عطف الخبر على الإنشاء ضعيف إن لم يكن ممنوعا، فكان قوله: وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ قيدا في النهي، فصار هذا النهي مخصوصا بما إذا كان الأكل فسقا، ثم طلبنا في كتاب الله تعالى أنه متى يكون الأكل فسقا فوجدناه مفسّرا في آية أخرى، وهي قوله تعالى: قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إلى أن قال: رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فصار الفسق في هذه الآية مفسّرا بما أهلّ به لغير الله، وإذا كان كذلك كان قوله:
وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ مخصوصا بما أهلّ به لغير الله.
وأجاب بعض الشافعية بجواب آخر وهو حمل النهي على كراهة التنزيه جمعا بين الأدلة. ومع هذا فالأولى بالمسلم أن يجتنب متروك التسمية، لأنّ ظاهر هذا النص قوي.
وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ أي وإن إبليس وجنوده ليوسوسون إلى أوليائهم من المشركين ليجادلوا محمدا وأصحابه في أكل الميتة، كما سبق.
وقال عكرمة: المراد بالشياطين مردة المجوس من أهل فارس، وكانوا قد كتبوا إلى قريش أنّ محمدا وأصحابه يزعمون أنهم يتّبعون أمر الله، ثم يزعمون أن ما يذبحونه حلال، وما يذبحه الله حرام، فوقع في أنفس المسلمين من ذلك شيء فأنزل الله هذه الآية «٢».
(١) رواه البخاري في الصحيح (٦/ ٢٨١)، ٧٢- كتاب الذبائح، ٢١- باب ذبيحة الأعراب حديث رقم (٥٥٠٧)، وأبو داود في السنن (٣/ ١٩)، كتاب الأضاحي، باب ما جاء في أكل اللحم حديث رقم (٢٨٢٩)، والنسائي في السنن (٧- ٨/ ٢٧٢)، كتاب الضحايا، باب ذبيحة من لم يعرف حديث رقم (٤٤٤٨)، وابن ماجه في السنن (٢/ ١٠٥٩)، كتاب الذبائح، باب التسمية حديث رقم (٣١٧٤).
(٢) رواه ابن جرير الطبري في تفسيره جامع البيان (٨/ ١٢).
414
وقوله تعالى: وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ يعني وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ في تحليل الميتة، أو في تحليل ما أهلّ به لغير الله إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ وفيه دليل على أنّ من استحل الحرام واتبع غير الله في دينه كان كافرا، لأنه أشرك بالله غيره، بل آثر حكمه على حكم الله. وهذا الكلام على تقدير القسم وحذف اللام الموطئة، أي ولئن أطعتموهم إنّكم جواب القسم أغنى عن جواب الشرط، وأجاز المبرّد أن يكون الجواب للشرط بلفظ الماضي.
قال الله تعالى: وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشابِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (١٤١)
المعروشات من الكرم: ما يحمل على العريش، وهو عيدان تصنع كهيئة السقف، ويوضع الكرم عليها.
وغير المعروشات: الملقيات على وجه الأرض من الكرم أيضا. وقيل المعروش ما يحتاج إلى عريش يحمل عليه من الكرم وما يجري مجراه. وغير المعروش: الشجر المستغني باستوائه على سوقه عن التعريش. والأكل: الثمر المأكول.
والحصاد: حصد الزرع إذا انتهى وجاء زمانه.
سيقت هذه الآية هي ومثيلتها السابقة في قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ الآية لإقامة الدلائل على تقرير التوحيد.
المعنى: أنّ الله وحده هو الذي خلق وأظهر هذه الجنات من غير أن يكون معه شريك.
وقوله: كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ أمر إباحة، وفائدة التقييد بقوله: إِذا أَثْمَرَ الترخيص للمالك في الأكل منه قبل أداء حقّ الله تعالى.
واختلف العلماء في الحق الواجب في الثمر المفهوم من قوله تعالى: وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ فعن ابن عباس أنه الزكاة الواجبة، وهي العشر، أو نصفه. وفي رواية أخرى على الخبر أيضا أنه ما كان يتصدق به يوم الحصاد بطريق الوجوب من غير تعيين المقدار، ثم نسخ بالزكاة، واختار هذه الرواية بعض العلماء، لأنّ الزكاة فرضت بالمدينة، وهذه السورة مكية.
وأجاب الإمام الرازي «١» عن ذلك بأنّا لا نسلّم أنّ الزكاة لم تكن واجبة بمكة، وكون آيتها مدنية لا يدلّ على ذلك. على أنه قد قيل: إنّ هذه الآية من سورة الأنعام مدنية. وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ.
(١) انظر تفسير مفاتيح الغيب للإمام الرازي (١٣/ ٢١٣).
لما أباح الله للمالك أن يأكل من الثمر قبل أداء حق الله تعالى فيه نهى عن الإسراف في الأكل المرخّص فيه قبل الحصاد، كيلا يؤدي إلى بخس حق الفقراء، وقال الزهري: المعنى لا تنفقوا في معصية الله، ويروى نحوه عن مجاهد، فقد أخرج ابن أبي حاتم عنه أنه قال: لو كان أبو قبيس ذهبا فأنفقه رجل في طاعة الله تعالى لم يكن مسرفا، ولو أنفق درهما في معصية الله تعالى كان مسرفا.
ومن هنا قال بعض الحكماء: لا سرف في الخير، ولا خير في السرف. وقال مقاتل: لا تشركوا الأصنام في الحرث والأنعام «إنّ الله لا يحب المسرفين» بل يبغضهم من حيث إسرافهم ويعذّبهم عليه إن شاء.
قال الله تعالى: قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٤٥)
روي عن طاوس أنّ أهل الجاهلية كانوا يستحلّون أشياء، ويحرمون أشياء، فأنزل الله تعالى هذه الآية «١».
وقد ذكر الله قبل هذه الآية ما كانوا يحرمون من الأنعام، وذمّهم على تحريم ما أحله، وعنّفهم، وأبان عن جهلهم، لأنّهم حرّموا بغير وحي من الله، ثم أتبع ذلك البيان الصحيح فقال: قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إلخ فبيّن بذلك أنّ التحليل والتحريم لا يثبت كلّ منهما إلا بالوحي.
وإذ ليس في الوحي محرّم غير أربعة أشياء: الميتة، والدم المسفوح، ولحم الخنزير، والفسق الذي أهل لغير الله به: ثبت أنه لا يحرم إلا هذه الأربعة.
واستشكلت هذه الآية بأنها حصرت المحرمات في هذه الأربعة، ولا شك أنها أكثر من ذلك. وأجيب عن ذلك بأجوبة:
الأول: أن المعنى لا أجد محرّما مما كان أهل الجاهلية يحرّمونه من البحائر والسوائب كما يشير إلى ذلك سبب النزول والآيات السابقة على هذه الآية. وعلى هذا المعنى يكون الاستثناء منقطعا، أي لا أجد ما حرّموه، لكن أجد الأربعة محرّمة، والاستثناء المنقطع ليس كالمتصل في إفادة الحصر، كما نبهوا على ذلك.
والجواب الثاني: أن المعنى لا أجد إلى الآن محرّما على طاعم يطعمه إلا الأربعة، ولم يرتض الإمام الرازي «٢» هذين الجوابين، لأنّه ورد في القرآن الكريم غير
(١) رواه ابن جرير الطبري في تفسيره جامع البيان (٨/ ٥٠).
(٢) انظر تفسير مفاتيح الغيب للإمام الرازي (١٣/ ٢١٩).
416
هذه الآية ثلاث آيات كلّها تفيد حصر المحرمات في هذه الأربعة ففي سورة النحل قوله تعالى: إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ [النحل: ١١٥] وفي سورة البقرة قوله تعالى: إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ [البقرة: ١٧٣] وإنما تفيد الحصر، فالآيتان تفيدان الحصر وفي سورة المائدة قوله تعالى: أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ [المائدة: ٢] وهذه جملة حاصرة، وأجمع المفسرون على أنّ مراد الله بما يتلى هو قوله: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ [المائدة: ٣] إلخ. وليس فيه إلا الأربعة، وأما المنخنقة وما معها فإنما هي من أقسام الميتة، وخصّت بالذكر لأنّهم كانوا يستحلّونها، وإذ كانت الآيات الثلاث تدل على حصر المحرم في الأربعة وجب القول بدلالة الآية التي معنا على الحصر، لتطابق الآيات التي ذكرنا، لأنّها كلها في موضوع واحد، وإن من هذه الآيات ما نزل بعد استقرار الشريعة، فآية البقرة مدنية، وليس قبلها ذكر ما كانوا يحرّمون من البحائر والسوائب، وكذلك آية المائدة مدنية، وهي من آخر القرآن نزولا، ولا شيء قبلها يقتضي تقييدها، والأصل عدم التقييد، فيدل ذلك على أنّ الحكم الثابت في الشريعة من أولها إلى آخرها ليس إلا حصر المحرمات في هذه الأشياء.
والجواب الثالث: وهو المرضي أنّ الآية وإن دلت على الحصر مخصوصة بالآيات والأخبار الدالّة على تحريم ما حرّم من غير الأربعة، مثل قوله تعالى: وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ [الأعراف: ١٥٧] فذلك يقتضي تحريم كلّ الخبائث المستقذرة، كالنجاسات وهوام الأرض، ومثل ما
رواه البخاري ومسلم في «صحيحيهما» عن جابر رضي الله عنه قال: نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم خيبر عن لحوم الحمر الأهلية «١».
وما روياه «٢» عن أبي ثعلبة الخشني أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم نهى عن أكل كل ذي ناب من السباع.
وفي رواية ابن عباس: وأكل كل ذي مخلب من الطير «٣». وما
روياه «٤» عن عائشة وحفصة وابن عمر من قوله صلّى الله عليه وسلّم: «خمس من الدواب كلّهن فاسق يقتلن في
(١) رواه البخاري في الصحيح (٦/ ٢٨٥)، ٧٢- كتاب الذبائح، ٢٧- باب لحوم الخيل، حديث رقم (٥٥٢٤)، ومسلم في الصحيح (٣/ ١٥٤١)، ٣٤- كتاب الصيد، ٦- باب في أكل لحوم الخيل حديث رقم (٣٦/ ١٩٤١).
(٢) رواه البخاري في الصحيح (٦/ ٢٨٦)، ٧٢- كتاب الذبائح، ٢٩- باب أكل كل ذي ناب حديث رقم (٥٥٣٠)، ومسلم في الصحيح (٣/ ١٥٣٣)، ٣٤- كتاب الصيد، ٣- باب تحريم أكل كل ذي ناب حديث رقم (١٢/ ١٩٣٢).
(٣) رواه مسلم في الصحيح (٣/ ١٥٣٤)، ٣٤- كتاب الصيد، ٣- باب تحريم أكل ذي ناب حديث رقم (١٦/ ١٩٣٤).
(٤) سبق تخريجه.
417
الحرم: الغراب، والحدأة، والعقرب والفأر، والكلب العقور»
ففي الأمر بقتلهنّ دلالة على تحريم أكلهنّ، لأنّها لو كانت مما يؤكل لأمر بالتوصل إلى دفع أذاها بذكاتها، فلما أمر بقتلها، والقتل إنما يكون لا على وجه الذكاة، ثبت أنها غير مأكولة.
وكذلك ما نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن قتله، لأنّ ما يؤكل لا ينهى عن قتله.
والشافعية يخصّصونها أيضا بما
روي عنه صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: ما استخبثته العرب فهو حرام.
وشنع عليهم الإمام الرازي «١» في ذلك، ولكن كلامه لا يخلو عن وهن، ورأي الشافعية في ذلك أن الحيوان الذي لم يرد فيه بخصوصه نصّ بالتحليل أو بالتحريم، ولم يؤمر بقتله، ولم ينه عن قتله، فإن استطابته العرب فهو حلال، وإن استخبثته فهو حرام. ومعتمدهم في ذلك قوله تعالى: وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ [الأعراف: ١٥٧] وقوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ ماذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ [المائدة: ٤] قالوا: وليس المراد بالطيب هنا الحلال، لأنّه لو كان المراد الحلال لكان تقديره أحل لكم الحلال، وليس فيه بيان، وإنما المراد بالطيبات ما يستطيبه العرب، وبالخبائث ما يستخبثونه، قالوا: ولا يرجع في ذلك إلى طبقات الناس، وينزل كل قوم على عادتهم في الاستطياب والاستخباث، لأنه يؤدي إلى اختلاف الأحكام في الحلال والحرام واضطرابها، وذلك يخالف قواعد الشرع، فيجب اعتبار العرب، فهم أولى الأمم بأن يؤخذ باستطيابهم واستخباثهم، لأنهم المخاطبون أولا، وهم جيل معتدل لا يغلب فيهم الانهماك على المستقذرات، ولا العفافة المتولدة من التنعم.
قالوا: وإنما يرجع إلى العرب الذين هم سكان القرى والريف، دون سكان البوادي الذين يأكلون ما دب ودرج من غير تمييز، وتعتبر عادة أهل اليسار والثروة، وحال الخصب والرفاهية.
وبعد فقد احتجّ بظاهر الآية: قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إلخ كثير من السلف فأباحوا ما عدا المذكور فيها.
فقد أخرج أبو داود عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه سئل عن أكل القنفذ فقرأ الآية.
وأخرج ابن أبي حاتم وغيره بسند صحيح عن عائشة أنها كانت إذا سئلت عن كل ذي ناب من السباع ومخلب من الطير قالت: قُلْ لا أَجِدُ إلخ.
وعن ابن عباس أنه قال: ليس من الدواب شيء حرام إلا ما حرّم الله تعالى في كتابه: قُلْ لا أَجِدُ الآية.
هذا واستدل بقوله سبحانه: عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ على أنه إنما حرّم من الميتة ما
(١) انظر كتاب أحكام القرآن للإمام الرازي (٣/ ٢١).
418
يتأتى فيه الأكل منها، فلم يتناول الجلد المدبوغ والشعر ونحوه، وقد فهم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم من النظم الكريم ذلك.
أخرج أحمد «١» وغيره عن ابن عباس قال: ماتت شاة لسودة بنت زمعة- وفي بعض الروايات أنها كانت لميمونة- فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لو أخذتم مسكها» فقالت:
نأخذ مسك شاة قد ماتت! فقال عليه الصلاة والسلام: «إنما قال الله تعالى: قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً
وإنكم لا تطعمونه، إن تدبغوه تنتفعوا به»
.
وقوله تعالى: أَوْ دَماً مَسْفُوحاً يدلّ على أنّ المحرم من الدم ما كان سائلا. قال ابن عباس: يريد ما خرج من الأنعام وهي أحياء، وما يخرج من الأوداج عند الذبح، فلا يدخل فيه الكبد والطحال لجمودهما، ولا الدم المختلط باللحم في المذبح، ولا ما يبقى في العروق من أجزاء الدم، فإنّ ذلك كله ليس بسائل.
واستدل الشافعية بقوله سبحانه: فَإِنَّهُ رِجْسٌ على نجاسة الخنزير بناء على عود الضمير على خنزير، لأنّه أقرب مذكور.
(١) في المسند (٦/ ٣٣٤)، والنسائي في السنن (٧- ٨/ ١٩٣)، حديث رقم (٤٢٤٥/ ٠٠٠).
419
سورة الأنعام
معلومات السورة
الكتب
الفتاوى
الأقوال
التفسيرات

لم تَحْتَوِ سورةُ (الأنعام) على كثيرٍ من الأحكام الشَّرعية كأخواتِها من السُّوَر الطِّوال؛ بل اهتمَّت بتحقيقِ مقصدٍ عظيم؛ وهو (توحيدُ الألوهية، وتثبيتُ مسائلِ العقيدة)، وكما قال أبو إسحاقَ الأَسْفَرَائينيُّ: «في سورةِ الأنعام كلُّ قواعدِ التوحيد»؛ فقد رسَمتِ السورةُ معالمَ على طريق الهداية، ذاكرةً قصَّةَ إبراهيمَ في البحث عن الحنيفيَّةِ الخالصة بما حَوَتْهُ من حُجَجٍ عقلية، وبراهينَ قاطعة؛ فعنايةُ السورة بالعقيدة كانت واضحةً جليَّة؛ لكي يُحقِّقَ العبدُ ما افتُتحت به السورةُ: {اْلْحَمْدُ لِلَّهِ اْلَّذِي خَلَقَ اْلسَّمَٰوَٰتِ وَاْلْأَرْضَ} [الأنعام: 1].

ترتيبها المصحفي
6
نوعها
مكية
ألفاظها
3055
ترتيب نزولها
55
العد المدني الأول
167
العد المدني الأخير
167
العد البصري
166
العد الكوفي
165
العد الشامي
166

* قوله تعالى: ﴿وَلَا تَطْرُدِ اْلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِاْلْغَدَوٰةِ وَاْلْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُۥۖ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٖ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٖ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ اْلظَّٰلِمِينَ﴾ [الأنعام: 52]:

عن سعدِ بن أبي وقَّاصٍ رضي الله عنه، قال: «فِيَّ نزَلتْ: ﴿وَلَا تَطْرُدِ اْلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِاْلْغَدَوٰةِ وَاْلْعَشِيِّ [الأنعام: 52].

قال: نزَلتْ في ستَّةٍ؛ أنا وابنُ مسعودٍ منهم، وكان المشركون قالوا له: تُدْني هؤلاء؟!».

وفي روايةٍ: «كنَّا مع النبيِّ ﷺ في ستَّةِ نفَرٍ، فقال المشركون للنبيِّ ﷺ: اطرُدْ هؤلاء؛ لا يَجترِئون علينا!

قال: وكنتُ أنا وابنُ مسعودٍ ورجُلٌ مِن هُذَيلٍ وبلالٌ ورجُلانِ لستُ أُسمِّيهما، فوقَعَ في نفسِ رسولِ اللهِ ﷺ ما شاءَ أن يقَعَ، فحدَّثَ نفسَهُ؛ فأنزَلَ اللهُ: ﴿وَلَا تَطْرُدِ اْلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِاْلْغَدَوٰةِ وَاْلْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُۥۖ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٖ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٖ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ اْلظَّٰلِمِينَ﴾ [الأنعام: 52]». أخرجه مسلم (٢٤١٣).

* قوله تعالى: ﴿وَلَا تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اْسْمُ اْللَّهِ عَلَيْهِ﴾ [الأنعام: 121]:

عن عبدِ اللهِ بن عباسٍ رضي الله عنهما، قال: «جاءت اليهودُ إلى النبيِّ ﷺ، فقالوا: نأكلُ ممَّا قتَلْنا، ولا نأكلُ ممَّا قتَلَ اللهُ؟ فأنزَلَ اللهُ: ﴿وَلَا تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اْسْمُ اْللَّهِ عَلَيْهِ﴾ [الأنعام: 121] إلى آخِرِ الآيةِ». أخرجه أبو داود (٢٨١٩).

* قوله تعالى: ﴿مَن جَآءَ بِاْلْحَسَنَةِ فَلَهُۥ عَشْرُ أَمْثَالِهَاۖ﴾ [الأنعام: 160]:

صحَّ عن أبي ذَرٍّ الغِفَاريِّ رضي الله عنه أنه قال: قال رسولُ اللهِ ﷺ: «مَن صامَ ثلاثةَ أيَّامٍ مِن كلِّ شهرٍ، فذلك صيامُ الدَّهْرِ؛ فأنزَلَ اللهُ تصديقَ ذلك في كتابِهِ: ﴿مَن جَآءَ بِاْلْحَسَنَةِ فَلَهُۥ عَشْرُ أَمْثَالِهَاۖ﴾ [الأنعام: 160]؛ فاليومُ بعشَرةِ أيَّامٍ». أخرجه الترمذي (٧٦٢).


سُمِّيتْ سورةُ (الأنعام) بذلك؛ لأنَّها السورةُ التي عرَضتْ لذِكْرِ (الأنعام) على تفصيلٍ لم يَرِدْ في غيرها من السُّوَر.

* جاء في فضلِ سورة (الأنعام): أنَّها نزَلتْ وحولها سبعون ألفَ مَلَكٍ يُسبِّحون:

دلَّ على ذلك ما رواه ابنُ عبَّاسٍ رضي الله عنهما، قال: «نزَلتْ سورةُ الأنعامِ بمكَّةَ ليلًا جُمْلةً، حولَها سبعون ألفَ مَلَكٍ، يَجأرون حولها بالتَّسْبيحِ». "فضائل القرآن" للقاسم بن سلَّام (ص240)، وصحَّح إسنادَه أحمد شاكر في "عمدة التفسير" (1/761).

وقريبٌ منه ما جاء عن أنسِ بن مالكٍ رضي الله عنه، قال: «نزَلتْ سورةُ الأنعامِ على النَّبيِّ ﷺ ومعها مَوكِبٌ مِن الملائكةِ سَدَّ ما بين الخافِقَينِ، لهم زَجَلٌ بالتَّسْبيحِ والتَّقْديسِ، والأرضُ تَرتَجُّ، ورسولُ اللهِ ﷺ يقولُ: سُبْحانَ اللهِ العظيمِ، سُبْحانَ اللهِ العظيمِ». "المعجم الأوسط" للطبراني (٦٤٤٧).

اشتمَلتِ السُّورةُ على عِدَّة موضوعات جاءت مُرتَّبةً كالآتي:

الاستفتاح بالحمد، وخَلْق الإنسان وبَعْثه (١-٣).

إعراض المشركين (٤-١١).

مع الله حُجَج بالغة (١٢-٢٠).

في موقف الحشر (٢٢-٣٢).

تسليةٌ وتثبيت (٣٣-٣٥).

لماذا الإعراض؟ (٣٦-٤١).

سُنَنٌ ربانية (٤٢-٤٧).

مهمة الرسل عليهم السلام (٤٨- ٥٨).

مفاتيح الغيب (٥٩-٦٧).

تجنُّب مجال الخائضين (٦٨-٧٠).

معالمُ على طريق الهداية (٧١-٧٣).

قصة إبراهيمَ عليه السلام (٧٤-٩٠).

الاحتجاج على منكِري البعث (٩١-٩٤).

من دلائلِ القدرة (٩٥-٩٩).

الرد على مزاعمِ المشركين، وتقرير العقيدة (١٠٠-١٠٥).

منهج التعامل مع المشركين (١٠٦-١٠٨).

تعنُّتٌ وإصرار (١٠٩-١١١).

الإعلام المضلِّل وموقف الإسلام منه (١١٢-١١٤).

قواعدُ وأصول في العقيدة والدعوة (١١٥-١١٧).

قواعد وأصول في التحليل والتحريم (١١٨-١٢١).

من مظاهرِ الصُّدود وأسبابه (١٢٢-١٢٦).

وعدٌ ووعيد (١٢٧-١٣٥).

من جهالات المشركين (١٣٦-١٤٠).

حُجَجٌ باهرة، ونِعَمٌ ظاهرة (١٤١-١٥٠).

الوصايا العَشْرُ (١٥١-١٥٣).

من مشكاةٍ واحدة (١٥٤-١٥٧).

وماذا بعد الحُجَج؟ (١٥٨-١٦٥).

ينظر: "التفسير الموضوعي للقرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (2 /393).

أُقيمت هذه السُّورةُ على مقصدٍ عظيمٍ جدًّا؛ ألا وهو (تحقيق التَّوحيد)؛ وذلك بإشعار الناس بأنَّ حقَّ الحمد ليس إلا للهِ؛ لأنَّه مُبدِعُ العوالِمِ: جواهرَ وأعراضًا؛ فعُلِم أنه المتفرِّدُ بالإلهيَّة، وأنَّ الأصنامَ والجِنَّ تأثيرُها باطلٌ؛ فالذي خلَق الإنسانَ ونظامَ حياته وموته بحِكْمته هو المستحِقُّ لوصفِ الإلهِ المتصرِّف. وجاءت السورةُ بتنزيه اللهِ عن الولَدِ والصاحبة، وكما قال أبو إسحاقَ الأَسْفَرَائينيُّ: «في سورةِ الأنعامِ كلُّ قواعدِ التوحيد». واشتمَلتِ السورةُ على موعظة المُعرِضين عن آياتِ القرآن والمكذِّبين بالدِّين الحقِّ، وتهديدِهم بأن يحُلَّ بهم ما حَلَّ بالقرونِ المكذِّبين من قبلِهم والكافرين بنِعَمِ الله تعالى، وأنَّهم ما يضُرُّون بالإنكارِ إلا أنفسهم، ووعيدِهم بما سيَلقَون عند نزعِ أرواحهم، ثم عند البعثِ.

ينظر: "التحرير والتنوير" لابن عاشور (7 /123).