تفسير سورة الأنعام

الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه

تفسير سورة سورة الأنعام من كتاب الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه
لمؤلفه مكي بن أبي طالب . المتوفي سنة 437 هـ

﴿ وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ ٱلْحَقُّ قُل لَّسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ ﴾

قوله تعالى: ﴿قُل لَسْتُ عَلَيْكُم بِوَكِيل﴾:
قال ابن عباس: نَسَخَ هذا (آيةُ) السيف: ﴿فاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُوَجَدتُمُوهُمْ﴾ [التوبة: ٥]، وفي الرواية عنه بذلك ضعف.
ولا يَحْسُنُ نسخُ هذا لأنه خبر، إنما أَمَره الله أن يُخْبِرَ عن نفسه بذلك، لم يأمره ألاّ يكونَ عليهم وكيلاً فَنَسَخَ ذلك.
فالمعنى صحيحٌ لا نسخَ فيه؛ لأن النبي - عليه السلام - ليس هو حفيظاً على مَن أُرْسِلَ إليه يحفظ أعماله، إنما (هو) داعٍ ومنذرومُبَلِّغ، والحسابُ والعقابُ إلى الله - جلَّ ذِكْرُه -. ومثله في الاختلاف:﴿وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً﴾ [الأنعام: ١٠٧]، ﴿وَمَا أنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيل﴾ [الأنعام: ١٠٧]، كُلُّهمحكم غيرُ منسوخ.

﴿ وَمَا عَلَى ٱلَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَلَـٰكِن ذِكْرَىٰ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ﴾

قوله تعالى: ﴿وَمَا عَلَى الّذِينَ يَتَّقونَ مِنْ حِسَابِهِم مِن شَيء﴾.
[أباح الله بمكة الجلوسَ مع المشركين؛ إذ لا يلزمُهم مِنْ كُفْرِهم من شيء] وذُكِرَ عن ابن عباس أنها منسوخةٌ (بقوله): ﴿وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْفِي الكِتَابِ أنْ إذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللهِ﴾ [النساء: ١٤٠] - الآية - فأَمرَهُم (الله)- بالمدينة -. أن لا يجلسوا مَعَهُم في هذه الحال.
والذي عليه أَهلُ النظر: أن هذا لا يُنْسَخُ لأنه خبر، ومعناه: ليسعلى من اتقى المنكرَ إذا نَهَى عنه من حساب مَنْ يفعلُه شيء، وإنما عليه أن ينهاه ولا يقعدَ معه راضياً بقوله. فالآيتان محكمتان.

﴿ وَذَرِ الَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ ٱلْحَيَٰوةُ ٱلدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَن تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ ٱللَّهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لاَّ يُؤْخَذْ مِنْهَآ أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ أُبْسِلُواْ بِمَا كَسَبُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ ﴾

قولُه تعالى: ﴿وَذَرِ الّذَِين اتخذوا دينَهُم لعباً ولَهواً﴾.
قال قتادة: هذا منسوخٌ بقوله: ﴿فاقتُلُوا المشْرِكِينَ حَيْثُوَجَدتُمُوهُمْ﴾.
والنسْخُ في هذا جائزٌ ولَكِنَّ أكثرَ النَّاس على أنه غيرُ منسوخ؛لأنه تهددٌ ووعيدٌ للكفار، وليس هو بمعنى الإِلزام، والمعنى: ذَرْهُم فإن اللهَ معاقِبُهُم، وهو كقوله: ﴿ذَرْهُم يَأكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا﴾ [الحجر: ٣]، وكقوله: ﴿ذَرْهُمْ في خوضِهِمْ يَلْعَبُون﴾ [الأنعام: ٩١]، لم يُبِحْ لهم ذلك، إنّما هو كُلُّه تهدُّدٌ ووعيد، وذلك لا يُنْسَخ، وقد ذكرنا قولَه: ﴿ولاَ تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسمُ اللهِعليه﴾ [الأنعام: ١٢١] ومَن قال: إنه منسوخٌ بتحليل أكلِ طعامِ أهلِ الكتاب.

﴿ ٱتَّبِعْ مَآ أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ لاۤ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ ٱلْمُشْرِكِينَ ﴾

قوله تعالى: ﴿وأَعْرِضْ عَن المُشْرِكِين﴾:
رُوِيَ عن ابن عباس أنه قال: نَسَخَتْها آيةُ السَّيْف: ﴿فاقْتُلُواالمُشْرِكِين﴾.
وأكثرُ الناس على أنها محكمةٌ، وأن المعنى: لا ينبسط إلى المشركين، من قولهم: أَوْلَيْتُه عَرْض وَجهي. وهذا المعنى لا يجوزُ أَن يُنْسَخ؛ لأنه لو نُسِخَ لصار (المعنى): انْبَسِط إليهم وخالِطْهُم، وهذا لا يؤمرُ به ولايجوز.
وكذلك قيل في قوله: ﴿وكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيءٍ﴾ [الأنعام ١٥٩]: إنهمنسوخٌ بقوله: ﴿فَاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ﴾ [التوبة: ٥]، وهو خبر لا يَحْسُنُ نَسْخُهومعناه: لَسْتَ مِن دينهم في شيء. وهذا لا يَحْسُنُ نَسْخُه.

﴿ وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ ٱسْمُ ٱللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ ٱلشَّيَٰطِينَ لَيُوحُونَ إِلَىۤ أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَٰدِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ ﴾

قوله تعالى: ﴿وَلاَ تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْه وإِنَّه لَفِسْقٌ﴾:
قال عكرمةُ: هي منسوخة بقوله: ﴿وَطَعامُ الّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ حِلٌّلَكُمْ﴾ [المائدة: ٥]، فأَحَلَّ لنا طعامَهم، وهم لا يُسَمُّونَ على ذبائحهم، - وهذا قول مكحول وعطاء -.
وقيل: هي محكمةٌ ولا يجوز أن تؤكلَ ذبيحةٌ لم يُذْكَرِ اسْمُ الله عليها،- وهو قول الحسن، وابن سيرين والشعبي - وقد أُجْمعَ على جوازِ أكل ذبيحة الناسي لِذكر الله عند الذَّبْح.
وقيل: الآيةُ مُخَصَّصَةٌ مُحْكَمة، والمرادُ بها الْمُتَعَمِّدُ لِتَرْكِ التَّسميةِ على الذبيحة، وخَصَّصَها إباحةُ أكل ذبائحِ أَهل الكتاب - وهو قولُ ابنِ جُبَيْروالنَّخعي ومالك وأبي حنيفة - غير أَنَّ مالكاً يكرهُ أكلَ ذبيحة الكتابي إذاعلم أنه لم يُسَمِّ مُتَعَمِّداً، ولم يُحَرِّم ذلك، وقد بينّا هذا في المائدة بأشبعمن هذا.
وقد يتوهم متوهِّمٌ أنَّ قولَه: ﴿وَلاَ تَأكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهعليه﴾ [الأنعام: ١٢١] أَتى عامّاً في كُلِّ طعام، (والإِجماعُ) على أن المرادَ به الذبائحُناسخٌ لذلك، وليس الأمرُ كذلك، إنما الإِجماع (بيَّنَ وخَصَّصَ) أن المرادَبذلك الذبائحُ، ولو كان ذلك نسخاً عند مَن أجاز النسخَ بالإِجماع لوجَبَبالنسخ أن يؤكلَ كُلُّ ما لم يُذْكَرِ اسمُ الله عليه مِن ذبيحةٍ وغيرِها، لأَنّ حقَّالناسخ إزالةُ حُكْم المنسوخ، وهذا لا يجوز، وإنما هو (تخصيصٌوتبيينٌ) بالإِجماع؛ إذ المرادُ الذبائحُ خاصةً دون سائر الطعام، وفي الآية ما يدلُّ على ذلك.

﴿ وَهُوَ ٱلَّذِيۤ أَنشَأَ جَنَّٰتٍ مَّعْرُوشَٰتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَٰتٍ وَٱلنَّخْلَ وَٱلزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَٱلزَّيْتُونَ وَٱلرُّمَّانَ مُتَشَٰبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَٰبِهٍ كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَآ أَثْمَرَ وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلاَ تُسْرِفُوۤاْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلْمُسْرِفِينَ ﴾

قوله تعالى: ﴿وآتَوا حَقَّه يَوْمَ حَصَادِهِ﴾:
قال ابن جبير: هي منسوخة بآية الزكاة - وهو قول عكرمة والضحاك -.
قال الضحاك: نسخت الزكاةُ كُلَّ صدقة في القرآن.
وعن ابن عباس: أنها منسوخةٌ بالسنّة في إيجاب العُشْر فيما سقت السماء، ونصف العشر في غير ذلك - وهو قولُ السُّدِّي وابنِ الحنفية -.
وقال أنسُ بنُ مالك والحسنُ وابنُ المسيّب وجابرُ بن زيد، وعطاءُوقتادةُ وزيدُ بنُ أَسلم: هي محكمة، والمراد بها: الزكاة - وهو قول مالك،(وهو أحد) قولي الشافعي -.
وقد قال مالك: إن الزكاة والصَّوم فُرضا (في المدينة) فكيف يقول: إن قوله: ﴿وآتُوا حَقَّه يومَ حَصاده﴾، المرادُ بها الزكاة - رواه عنه ابن وهبوابن القاسم - والأنعام مَكِّيَّةٌ كُلُّها، فهذا قولٌ اللهُ أَعلمُ بحقيقته.
وأكثر الناس على أن الزكاةَ فُرِضَت بالمدينة لا أَعرفُ في ذلك خلافاً.
وقال سفيان: هي مُحْكَمةٌ، والمرادُ بها شيءٌ يُتْرَكُ للمساكين غيرالزكاة - وهو قول مجاهد ومحمد بن كعب، وأبي عبيد -.
وإجماع المسلمين أولاً على أن لا فرضَ غيرُ الزكاة يَرُدُّ هذا القول، وأيضاً فإن الفروضَ محدودةٌ وهذا غير محدود، ولا معلوم قدرُه عند أحد، فلا يجوز أن يكون فرضاً ما لا يُعْرَفُ قَدْرُه.
فإن حَمَلْتَه على الزكاة حَسُنَ لأن النبي - عليه السلام - قَدْ بَيَّن قَدْرَ ماتجبُ فيه الزكاة، وقَدْرَ ما يلزمُ من الزكاة، فهو محكم إن حَمَلْتَه على الزكاة.
وقد اعترض قومٌ في أن يُرادَ به الزكاةُ، وقالوا:
الزكاة لا تجب وقت الحصاد، وإنما تجب بعد الكيل.
وقالوا: الزكاة معلومةٌ محدودة، وهذا غيرُ محدود ولا معلوم.
وقالوا: وقد قال: ﴿وَلاَ تُسْرِفُوا إنَّه لاَ يُحِبُّ المُسْرِفِين﴾ [الأنعام: ١٤١]، والزكاةلا إسرافَ فيها.
وقالوا: ظاهرُ الآية يَدُلُّ على أن الزكاةَ واجبةٌ في كل ما أخرجتالأرض، وعلى إخراجِ الزكاةِ مِن قليلهِ وكثيرِه.
قال أبو محمد: وجميعُ هذا لا يلزم لأن النبيَّ - عليه السلام - قد بيَّن ذلك كله وحَدَّهُ، فالقرآن يأتي مجملاً، والنبيّ - صلى الله عليه وسلم -يُبَيِّنُه، لقوله تعالى: ﴿لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّل إِلَيْهِمْ﴾ [النحل: ٤٤]، وهذا أبلغكتبيينه للصلاة والحج وغير ذلك.
ومعنى: ﴿وَلاَ تُسْرِفُوا﴾ [الأنعام: ١٤١]: ولا تَتَخَلَّفوا عن إخراج ما يجبُعليكم، ومنعُ حَقِّ الله مِن أَعظم الإِسراف، وقد قيل: ﴿وَلاَ تُسْرِفُوا﴾: مخاطبةٌ للسُّعاةِ في أن لا يأخذوا أكثرَ مما يَجِبُ لهم. فهذا كُلُّه يُبَيِّنُ أَنهامحكمةٌ نزلت في فرض الزكاة مُجْمَلَةً، وبيّنها النبي عليه السلام، ويعارضكونَها في الزكاة قولُ أكثر الناس إِنَّ الزكاةَ فُرِضت بالمدينة - والأنعام: مكية -فيصيرُ فرضُ الزكاةِ نزل بمكة، والله أعلم بذلك.

﴿ قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَآ أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَىٰ طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ ٱللَّهِ بِهِ فَمَنِ ٱضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾

قوله تعالى: ﴿قُلْ لاَ أجِدُ فِيمَا أُوحِىَ إلىَّ مُحَرّماً عَلَى طاعِمٍيَطْعَمُه﴾.
أباح اللهُ بهذه الآية المكِّية أَكْلَ كُلِّ ما عدا ما ذُكِرَ فيها من الأربعالمحرمات.
وأكثرُ الناس على أنها مُخَصِّصَةٌ لتحريم النبي - عليه السلام - أكلَ لحوم الحُمُر الأهلية، وأَكْلَ لَحْمِ كُلِّ ذي نابٍ من السِّباع وذي مِخْلَبٍ مِنالطَّير.
وقيل: هي منسوخَةٌ بما حرَّمَ النبىُّ - عليه السلام - والأَوَّلُ: (أوْلى)وأَحْسَنُ لأنه خبرٌ لا يجوز نَسْخُه.
وقال جماعةٌ مِن العلماء: الآية مُحْكَمةٌ وكُلُّ ما حَرَّمَه النبي - عليه السلام - مضمومٌ إليها معمولٌ به، لقوله تعالى: ﴿ومَا آتَاكُمُ الرَّسُولُفَخُذُوه﴾ [الحشر: ٧] - وهو قولُ مالكٍ والزُّهريِّ وغيرِهما -.
وقيل: الآيةُ مخصوصةٌ نزلَت جواباً لما سألوا عنه، والذي حَرَّمَرسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - داخلٌ في التَّحريم.
وقال سعيدُ بن جبير والشعبيُّ: هي محكمةٌ وأَكْلُ لُحوم الْحُمُرِ جائزٌ، وإنَّما مَنَعَه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في ذلك الوقتِ لِعِلَّةٍ وعُذْرٍ، وذلكَ أَنَّها كانتتأكلُ القَذَرَ، مع أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يُحَرِّمْه، وإنما كَرِهَه.

﴿ وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ ٱلْيَتِيمِ إِلاَّ بِٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّىٰ يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ ٱلْكَيْلَ وَٱلْمِيزَانَ بِٱلْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَٱعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ وَبِعَهْدِ ٱللَّهِ أَوْفُواْ ذٰلِكُمْ وَصَّـٰكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾

قولُه تعالى: ﴿وَلاَ تَقْرَبُوا مَالَ اليَتِيمِ إلاَّ بالتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾:
رُوي عن قتادَة (أنه قال): نسخها قولُه: ﴿وإن تُخَالِطُوهُمْفإخوانُكُم﴾ [البقرة: ٢٢٠]، مَنَعَ مِن قُرْبِ ماله بمكَّة، وأباح مخالَطَتهُ وقربَه بالمدينة.
وقيل: إنها ليست بمنسوخةٍ، لأنه قال: ﴿إلاَّ بالتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ فإنَّما وقع النهي عن قُرْبِ مالِ اليتيم بغير التي هي أحسن)، وذلك مُحَرَّمٌ لا يجوز وقال في الموضع الآخر: ﴿وإن تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ﴾، أي: إنتُخالطوهُم بالتي هي أحسن، فهم إخوانكم في الدِّين، ودلَّ على ذلك قولُه: ﴿والله يَعْلَمُ المفسدَ مِنَ المُصْلِح﴾ [البقرة: ٢٢٠]، فالآيتانِ مُحْكَمتان في معنىًواحد، وهو الصواب.

سورة الأنعام
معلومات السورة
الكتب
الفتاوى
الأقوال
التفسيرات

لم تَحْتَوِ سورةُ (الأنعام) على كثيرٍ من الأحكام الشَّرعية كأخواتِها من السُّوَر الطِّوال؛ بل اهتمَّت بتحقيقِ مقصدٍ عظيم؛ وهو (توحيدُ الألوهية، وتثبيتُ مسائلِ العقيدة)، وكما قال أبو إسحاقَ الأَسْفَرَائينيُّ: «في سورةِ الأنعام كلُّ قواعدِ التوحيد»؛ فقد رسَمتِ السورةُ معالمَ على طريق الهداية، ذاكرةً قصَّةَ إبراهيمَ في البحث عن الحنيفيَّةِ الخالصة بما حَوَتْهُ من حُجَجٍ عقلية، وبراهينَ قاطعة؛ فعنايةُ السورة بالعقيدة كانت واضحةً جليَّة؛ لكي يُحقِّقَ العبدُ ما افتُتحت به السورةُ: {اْلْحَمْدُ لِلَّهِ اْلَّذِي خَلَقَ اْلسَّمَٰوَٰتِ وَاْلْأَرْضَ} [الأنعام: 1].

ترتيبها المصحفي
6
نوعها
مكية
ألفاظها
3055
ترتيب نزولها
55
العد المدني الأول
167
العد المدني الأخير
167
العد البصري
166
العد الكوفي
165
العد الشامي
166

* قوله تعالى: ﴿وَلَا تَطْرُدِ اْلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِاْلْغَدَوٰةِ وَاْلْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُۥۖ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٖ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٖ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ اْلظَّٰلِمِينَ﴾ [الأنعام: 52]:

عن سعدِ بن أبي وقَّاصٍ رضي الله عنه، قال: «فِيَّ نزَلتْ: ﴿وَلَا تَطْرُدِ اْلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِاْلْغَدَوٰةِ وَاْلْعَشِيِّ [الأنعام: 52].

قال: نزَلتْ في ستَّةٍ؛ أنا وابنُ مسعودٍ منهم، وكان المشركون قالوا له: تُدْني هؤلاء؟!».

وفي روايةٍ: «كنَّا مع النبيِّ ﷺ في ستَّةِ نفَرٍ، فقال المشركون للنبيِّ ﷺ: اطرُدْ هؤلاء؛ لا يَجترِئون علينا!

قال: وكنتُ أنا وابنُ مسعودٍ ورجُلٌ مِن هُذَيلٍ وبلالٌ ورجُلانِ لستُ أُسمِّيهما، فوقَعَ في نفسِ رسولِ اللهِ ﷺ ما شاءَ أن يقَعَ، فحدَّثَ نفسَهُ؛ فأنزَلَ اللهُ: ﴿وَلَا تَطْرُدِ اْلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِاْلْغَدَوٰةِ وَاْلْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُۥۖ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٖ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٖ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ اْلظَّٰلِمِينَ﴾ [الأنعام: 52]». أخرجه مسلم (٢٤١٣).

* قوله تعالى: ﴿وَلَا تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اْسْمُ اْللَّهِ عَلَيْهِ﴾ [الأنعام: 121]:

عن عبدِ اللهِ بن عباسٍ رضي الله عنهما، قال: «جاءت اليهودُ إلى النبيِّ ﷺ، فقالوا: نأكلُ ممَّا قتَلْنا، ولا نأكلُ ممَّا قتَلَ اللهُ؟ فأنزَلَ اللهُ: ﴿وَلَا تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اْسْمُ اْللَّهِ عَلَيْهِ﴾ [الأنعام: 121] إلى آخِرِ الآيةِ». أخرجه أبو داود (٢٨١٩).

* قوله تعالى: ﴿مَن جَآءَ بِاْلْحَسَنَةِ فَلَهُۥ عَشْرُ أَمْثَالِهَاۖ﴾ [الأنعام: 160]:

صحَّ عن أبي ذَرٍّ الغِفَاريِّ رضي الله عنه أنه قال: قال رسولُ اللهِ ﷺ: «مَن صامَ ثلاثةَ أيَّامٍ مِن كلِّ شهرٍ، فذلك صيامُ الدَّهْرِ؛ فأنزَلَ اللهُ تصديقَ ذلك في كتابِهِ: ﴿مَن جَآءَ بِاْلْحَسَنَةِ فَلَهُۥ عَشْرُ أَمْثَالِهَاۖ﴾ [الأنعام: 160]؛ فاليومُ بعشَرةِ أيَّامٍ». أخرجه الترمذي (٧٦٢).


سُمِّيتْ سورةُ (الأنعام) بذلك؛ لأنَّها السورةُ التي عرَضتْ لذِكْرِ (الأنعام) على تفصيلٍ لم يَرِدْ في غيرها من السُّوَر.

* جاء في فضلِ سورة (الأنعام): أنَّها نزَلتْ وحولها سبعون ألفَ مَلَكٍ يُسبِّحون:

دلَّ على ذلك ما رواه ابنُ عبَّاسٍ رضي الله عنهما، قال: «نزَلتْ سورةُ الأنعامِ بمكَّةَ ليلًا جُمْلةً، حولَها سبعون ألفَ مَلَكٍ، يَجأرون حولها بالتَّسْبيحِ». "فضائل القرآن" للقاسم بن سلَّام (ص240)، وصحَّح إسنادَه أحمد شاكر في "عمدة التفسير" (1/761).

وقريبٌ منه ما جاء عن أنسِ بن مالكٍ رضي الله عنه، قال: «نزَلتْ سورةُ الأنعامِ على النَّبيِّ ﷺ ومعها مَوكِبٌ مِن الملائكةِ سَدَّ ما بين الخافِقَينِ، لهم زَجَلٌ بالتَّسْبيحِ والتَّقْديسِ، والأرضُ تَرتَجُّ، ورسولُ اللهِ ﷺ يقولُ: سُبْحانَ اللهِ العظيمِ، سُبْحانَ اللهِ العظيمِ». "المعجم الأوسط" للطبراني (٦٤٤٧).

اشتمَلتِ السُّورةُ على عِدَّة موضوعات جاءت مُرتَّبةً كالآتي:

الاستفتاح بالحمد، وخَلْق الإنسان وبَعْثه (١-٣).

إعراض المشركين (٤-١١).

مع الله حُجَج بالغة (١٢-٢٠).

في موقف الحشر (٢٢-٣٢).

تسليةٌ وتثبيت (٣٣-٣٥).

لماذا الإعراض؟ (٣٦-٤١).

سُنَنٌ ربانية (٤٢-٤٧).

مهمة الرسل عليهم السلام (٤٨- ٥٨).

مفاتيح الغيب (٥٩-٦٧).

تجنُّب مجال الخائضين (٦٨-٧٠).

معالمُ على طريق الهداية (٧١-٧٣).

قصة إبراهيمَ عليه السلام (٧٤-٩٠).

الاحتجاج على منكِري البعث (٩١-٩٤).

من دلائلِ القدرة (٩٥-٩٩).

الرد على مزاعمِ المشركين، وتقرير العقيدة (١٠٠-١٠٥).

منهج التعامل مع المشركين (١٠٦-١٠٨).

تعنُّتٌ وإصرار (١٠٩-١١١).

الإعلام المضلِّل وموقف الإسلام منه (١١٢-١١٤).

قواعدُ وأصول في العقيدة والدعوة (١١٥-١١٧).

قواعد وأصول في التحليل والتحريم (١١٨-١٢١).

من مظاهرِ الصُّدود وأسبابه (١٢٢-١٢٦).

وعدٌ ووعيد (١٢٧-١٣٥).

من جهالات المشركين (١٣٦-١٤٠).

حُجَجٌ باهرة، ونِعَمٌ ظاهرة (١٤١-١٥٠).

الوصايا العَشْرُ (١٥١-١٥٣).

من مشكاةٍ واحدة (١٥٤-١٥٧).

وماذا بعد الحُجَج؟ (١٥٨-١٦٥).

ينظر: "التفسير الموضوعي للقرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (2 /393).

أُقيمت هذه السُّورةُ على مقصدٍ عظيمٍ جدًّا؛ ألا وهو (تحقيق التَّوحيد)؛ وذلك بإشعار الناس بأنَّ حقَّ الحمد ليس إلا للهِ؛ لأنَّه مُبدِعُ العوالِمِ: جواهرَ وأعراضًا؛ فعُلِم أنه المتفرِّدُ بالإلهيَّة، وأنَّ الأصنامَ والجِنَّ تأثيرُها باطلٌ؛ فالذي خلَق الإنسانَ ونظامَ حياته وموته بحِكْمته هو المستحِقُّ لوصفِ الإلهِ المتصرِّف. وجاءت السورةُ بتنزيه اللهِ عن الولَدِ والصاحبة، وكما قال أبو إسحاقَ الأَسْفَرَائينيُّ: «في سورةِ الأنعامِ كلُّ قواعدِ التوحيد». واشتمَلتِ السورةُ على موعظة المُعرِضين عن آياتِ القرآن والمكذِّبين بالدِّين الحقِّ، وتهديدِهم بأن يحُلَّ بهم ما حَلَّ بالقرونِ المكذِّبين من قبلِهم والكافرين بنِعَمِ الله تعالى، وأنَّهم ما يضُرُّون بالإنكارِ إلا أنفسهم، ووعيدِهم بما سيَلقَون عند نزعِ أرواحهم، ثم عند البعثِ.

ينظر: "التحرير والتنوير" لابن عاشور (7 /123).