وقال ابن عباس وقتادة : هي مكية إلا آيتين منها نزلتا بالمدينة : إحداهما :" وما قدروا الله حق قدره " نزلت في مالك بن الصيف وكعب بن الأشرف اليهوديين. والأخرى " وهو الذي أنشأ جنات معروشات " نزلت في ثابت بن قيس بن شماس.
وقال ابن جريج نزلت في معاذ بن جبل١. <وقيل : شيع هذه السورة سبعون ألف ملك>٢.
٢ - زيادة من ق..
ﰡ
أحدها : أن الأجل الأول الذي قضاه أجل الحياة إلى الموت، والأجل الثاني المسمى عنده أجل الموت إلى البعث، قاله الحسن، وقتادة.
والثاني : أن الأجل الأول الذي قضاه أجل الدنيا، والأجل الثاني المسمى عنده ابتداء الآخرة، قاله ابن عباس، ومجاهد.
والثالث : أن الأجل الأول الذي قضاه هو حين أخذ الميثاق على خلقه في ظهر آدم، والأجل الثاني المسمى عنده الحياة في الدنيا، قاله ابن زيد.
والرابع : أن الأجل الذي قضاه أجل من مات، والأجل المسمى عنده أجل من يموت بعد، قاله ابن شجرة.
﴿ تَمْتَرُونَ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : تشكون، والامتراء : الشك.
والثاني : تختلفون، مأخوذ من المراء وهو الاختلاف.
أحدها : أن معنى الكلام وهو الله المُدَبِّر في السموات وفي الأرض.
﴿ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ ﴾ أي ما تخفون، وما تعلنون. والثاني : وهو الله المعبود في السموات، وفي الأرض.
والثالث : أن في الكلام تقديماً وتأخيراً، وتقديره : وهو الله يعلم سركم وجهركم في السموات وفي الأرض، لأن في السموات الملائكة، وفي الأرض الإِنس والجن، قاله الزجاج.
﴿ وََيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ ﴾ أي ما تعملون من بعد، ولا يخفى عليه ما كان منكم، ولا ما سيكون، ولا ما أنتم عليه في الحال من سر، وجهر.
(بها أخاديد من آثار ساكنها | كما تردد في قرطاسه القلم) |
(أصدق مقالته واحذر عداوته | والبس عليه بشك مثل ما لبسا) |
بها أخاديد من آثار ساكنها | كما تردد في قرطاسه القلم |
ويحتمل بلمس اليد دون رؤية العين ثلاثة أوجه :
أحدها : أن نزوله مع الملائكة وهم لا يرون بالأبصار، فلذلك عَبَّر عنه باللمس دون الرؤية.
والثاني : لأن الملموس أقرب من المرئي.
والثالث : لأن السحر يتخيل في المرئيات، ولا يتخيل في الملموسات.
﴿ لَقَالَ الََّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ ﴾ تكذيباً لليقين بالعناد، والمبين : ما دل على بيان بنفسه، والبيِّن : ما دل غيره على بيانه، فكان المبين أقوى من البيِّن.
أحدهما : لقضي عليهم بعذاب الاستئصال، قاله الحسن، وقتادة، لأن الأمم السالفة كانوا إذا اقترحوا على أنبيائهم الآيات فأجابهم الله تعالى إلى الإِظهار فلم يؤمنوا استأصلهم بالعذاب.
والثاني : أن معنى لقضي الأمر لقامت الساعة، قاله ابن عباس.
﴿ ثُمَّ لاَ يُنظَرُونَ ﴾ أي لا يُمهلون ولا يُؤَخَّرون، يعني عن عذاب الاستئصال. على التأويل الأول، وعن قيام الساعة على التأويل الثاني.
وفي وجوب جعله رجلاً وجهان :
أحدهما : لأن الملائكة أجسامهم رقيقة لا تُرَى، فاقتضى أن يُجْعَل رجلاً لكثافة جسمه حتى يرى.
والثاني : أنهم لا يستطيعون أن يروا الملائكة على صورهم، وإذا كان في صورة الرجل لم يعلموا ملك هو أو غير ملك.
﴿ وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَّا يَلبِسُونَ ﴾ فيه ثلاثة تأويلات :
أحدهما : معناه ولخلطنا عليهم ما يخلطون، قاله الكلبي.
والثاني : لشبهنا عليهم ما يشبهون على أنفسهم، قال الزجاج : كما يشبهون على ضعفائهم واللبس في كلامهم هو الشك ومنه قول الخنساء :
أصدق مقالته واحذر عداوته | والبس عليه بشك مثل ما لبسا |
(طال النهار على من لقاح له | إلا الهديّة أو ترك بإسلام) |
فإن قيل : فلم قال ﴿ مَا سَكَنَ ﴾ ولم يقل ما تحرك ؟ قيل لأمرين :
أحدهما : أن ما يَعُمُّه السكون أكثر مما يَعُمُّه الحركة.
والثاني : لأن كل متحرك لا بد أن تنحل حركته سكوناً، فصار كل متحرك ساكناً، وقد قال الكلبي : معناه وله ما استقر في الليل والنهار، وهما الزمان كله، لأنه لا زمان إلا ليل أو نهار، ولا فصل بينهما يخرج عن واحد منهما.
﴿ فَاطِر السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ ﴾ أي خالق السموات والأرض ومبتدئها، قال ابن عباس : كنت لا أدري ما فاطر حتى اختصم إليّ أعرابيان في بئر، فقال أحدهما لصاحبه : أنا فَطَرْتُهَا، أي ابتدأتها، وأصل الفطر الشق، ومنه
﴿ هَل تَرَى مِن فُطُورٍ ﴾
[ الملك : ٣ ] أي شقوق.
﴿ وَهُوَ يَطْعمُ وَلاَ يُطْعَمُ ﴾ معناه يَرْزُقُ ولا يُرْزَق، قرأ بعضهم ﴿ وَهُوَ يُطْعِمُ ولا يَطْعَمُ ﴾ معناه على هذه القراءة : وهو يطعم خلقه ولا يأكل.
﴿ قُل إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ ﴾ يعني من أمته، وفي إسلامه هذا ثلاثة أوجه١ :
أحدها : استسلامه لأمر الله، ومثله قول الشاعر :
طال النهار على من لا لقاح له | إلا الهديّة أو ترك بإسلام |
والثاني : هو دخوله في سلم الله وخروجه من عداوته.
والثالث : دخوله في دين إبراهيم كقوله تعالى :
﴿ مِلَّة ءَابِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ المُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ ﴾
[ الحج : ٧٨ ] ويكون المراد به أول من أَسْلَم من قريش، وقيل : من أهل مكة.
﴿ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ المُشْرِكِينَ ﴾ يحتمل أن يكون هذا خطاباً من الله لنبيه يَنْهَاهُ به عن الشرك، ويُحْتَمَل أن يكون المراد به جميع أمته، وإن توجه الخطاب إليه.
(لا يأخذ الرِّشْوَة في حُكْمِهِ | ولا يُبالي خُسْرَ الخاسر) |
لا يأخذ الرِّشْوَة في حُكْمِهِ | ولا يُبالي خُسْرَ الخاسر |
٢ - وفي رواية: وابني لا أدري ما كان من أمه، أي أنه لا يعرف أن كان هذا ابنه حقيقة أو ابن رجل آخر..
(ودعوتني وزَعَمْتَ أنَّكَ ناصِحِي | فلقَدْ صَدَقْت وكُنْتَ ثَمَّ أميناً) |
(وعرضتَ ديناً قد علِمْتُ بأنه | من خيْرِ أَدْيانِ البَرِيةِ دِيناً) |
(لولا الذَّمَامَةُ أو أُحَاذِرُ سُبَّةً | لَوَجَدْتَني سَمْحاً بذالك مُبِيناً) |
(فاذهب لأمرك ما عليك غَضَاضَةٌ | وابشِرْ بذاك وقَرَّ مِنَكَ عيوناً) |
(والله لن يَصِلُوا إيك بِجَمْعِهم | حتى أُوسَّدَ في التُّرابِ دَفِيناً) |
أحدها : يعني معذرتهم، فسماها فتنة لحدوثها عن الفتنة، قاله قتادة.
والثاني : عاقبة فتنتهم وهو شركهم.
والثالث : يعني بلِيتهم١ التي ألزمتهم الحجة وزادتهم لائمة، قاله أبو عبيد٢ القاسم بن سلام.
﴿ إِلاَّ أَن قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ﴾ تبرؤوا بذلك من شركهم، فإن قيل : كيف كذبوا في الآخرة بجحود الشرك ولا يصح منهم الكذب في الآخرة لأمرين :
أحدهما : أنه لا ينفعهم.
والثاني : أنهم مصروفون عن القبائح ملجؤون إلى تركها لإِزالة التكليف عنهم، ولو لم يلجؤوا إلى ترك القبيح ويصرفوا عنه مع كما عقولهم وجب تكليفهم ليقلعوا به عن القبيح، وفي عدم تكليفهم دليل على إلجائهم إلى تركه.
قيل : عن ذلك جوابان.
أحدهما : أن قولهم ﴿ وَاللَّهِ رَبنا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ﴾ أي في الدنيا عند أنفسنا لاعتقادنا فيها أننا على صواب، وإن ظهر لنا خطؤه الآن، فلم يكن ذلك منهم كذباً، قاله قطرب.
والثاني : أن الآخرة مواطن، فموطن لا يعلمون ذلك فيه ولا يضطرون إليه، وموطن يعلمون ذلك فيه ويضطرون إليه، فقالوا ذلك في الموطن الأول، قاله بعض متأخري المتكلمين.
وهذا ليس بصحيح لأنه يقتضي أن يكونوا في الموطن الأول مكلفين لعدم الإِلجاء والاضطرار، وفي الموطن الثاني غير مكلفين.
٢ - في ك أبو عبيدة..
وقد أُجِيب عن هذا الاعتراض بجواب ثالث، وهو أنهم أنكروا بألسنتهم، فلما نطقت جوارحهم أقروا، وفي هذا الجواب دخل لأنه قد كذبوا نطق الجوارح.
﴿ وَضَلَّ عَنهُم ما كَانُوا يَفْتَرُونَ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : بسوء كذبهم وجحودهم.
والثاني : فضلت عنهم أوثانهم التي افتروا على الله بعبادتها، والافتراء : تحسين الكذب.
وفيه وجهان : أحدهما : يستمعون قراءته ليردوا عليه.
والثاني : ليعلموا مكانه فيؤذوه، فصرفهم الله عن سماعه، بإلقاء النوم عليهم، وبأن جعل على قلوبهم أكنة أن يفقهوه.
والأكنة الأغطية واحدها كِنان، يقال : كَنَنتُ الشيء إذا غطيته، وأكننته في نفسي إذا أخفيته، وفي قراءة علي، وابن مسعود : على أعينهم غطاء.
﴿ وَفِي ءَاذَانِهِمْ وَقْراً ﴾ والوقر : الثقل، ومنه الوَقَار إذا ثقل في المجلس.
﴿ وَإِن يَرَوْا كَلَّ ءَايَةٍ لاَّ يُؤْمِنُوا بها ﴾ يعني بالآية علامة الإعجاز لما قد استحكم في أنفسهم من حسده وبغضه، وذلك صرفهم عن سماع القرآن، لأنهم قصدوا بسماعه الأذى والافتراء.
﴿ حَتَّىَ إِذَا جَآءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ ﴾ فيما كانوا يجادلون به النبي صلى الله عليه وسلم قولان :
أحدهما : أنهم كانوا يجادلونه بما ذكره الله تعالى من قوله عنهم :﴿ إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ ﴾، قاله الحسن.
والثاني : هو قولهم : تأكلون ما قتلتم ولا تأكلون ما قتل ربكم، قاله ابن عباس.
ومعنى ﴿ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ ﴾ أي أحاديث الأولين التي كانوا يسطرونها في كتبهم، وقيل : إن جادلهم بهذا النضر بن الحارث١.
أحدها : يَنْهَون عن اتباع محمد صلى الله عليه وسلم، ويتباعدون عنه فراراً منه، قاله محمد ابن الحنفية، والحسن، والسدي.
والثاني : يَنْهَون عن القرآن أن يُعْمَل بما فيه، ويتباعدون من سماعه كيلا يسبق إلى قلوبهم العلم بصحته، قاله مجاهد، وقتادة.
والثالث : ينهون عن أذى محمد صلى الله عليه وسلم، ويتباعدون عن اتباعه، قال ابن عباس : نزلت في أبي طالب كان ينهى المشركين عن أذى محمد صلى الله عليه وسلم، ويتباعد عما جاء به، فلا يؤمن به مع وضوح صدقه في نفسه.
واستشهد مقاتل بما دل على ذلك عن شعر أبي طالب بقوله :
ودعوتني وزَعَمْتَ أنَّكَ ناصِحِي | فلقَدْ صَدَقْت وكُنْتَ ثَمَّ أميناً |
وعرضتَ ديناً قد علِمْتُ بأنه | من خيْرِ أَدْيانِ البَرِيةِ دِيناً |
لولا الذَّمَامَةُ أو أُحَاذِرُ سُبَّةً١ | لَوَجَدْتَني سَمْحاً بذالك مُبِيناً |
فاذهب لأمرك ما عليك غَضَاضَةٌ | وابشِرْ بذاك وقَرَّ مِنَكَ عيوناً |
والله لن يَصِلُوا إليك بِجَمْعِهم | حتى أُوسَّدَ في التُّرابِ دَفِيناً |
٢ - ويروى "فاصدع بما تؤمر"..
٣ - في ق: وبه قال عطاء والقاسم..
أحدها : بدا لهم وبال ما كانوا يخفونه.
والثاني : بدا لهم ما كان يخفيه بعضهم عن بعض، قاله الحسن.
والثالث : بدا للأتباع ما كان يخفيه الرؤساء.
﴿ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ ﴾ يعني ولو ردوا إلى ما تمنوا من الدنيا لعادوا إلى ما نهوا عنه من الكفر.
﴿ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ﴾ فيه قولان :
أحدهما : أنه خبر مستأنف أخبر الله به عن كذبهم لا٢ أنه عائد إلى ما تقدم من تمنّيهم، لعدم الصدق والكذب في التمنِّي.
والثاني :﴿ إِنَّهُمْ لَكَاذِبونَ ﴾ يعني في الإِخبار عن أنفسهم بالإِيمان إِن رُدُّوا.
٢ - في ق "لأنه" والصواب ما أثبتناه لأن السياق يفيد أن المراد النفي لا التعليل..
أحدها : وما أمر الدنيا والعمل لها إلا لعب ولهو، فأما عمل الصالحات فيها فهو من عمل الآخرة، فخرج من أن يكون لعباً ولهواً.
والثاني : وما أهل الحياة الدنيا إلا أهل لعب ولهو لاشتغالهم بها عما هو أولى منها، قاله الحسن.
والثالث : أنهم كأهل اللعب واللهو لانقطاع لذاتهم وقصور مدتهم، وأهل الآخرة بخلافهم لبقاء مدتهم واتصال لذتهم٢، وهو معنى قوله تعالى :﴿ وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ للَّذِينَ يَتَّقُونَ ﴾ لأنه قَدْ دام لهم فيها ما كان منقطعاً في غيرها.
﴿ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ﴾ أن ذلك خير لكم.
وذكر بعض الخاطرية٣ قولاً رابعاً : أنها لعب لمن جمعها، لهو لمن يرثها.
٢ -سقط من ق..
٣ - الخاطرية: أهل الخواطر وهم المتصوفة. وقد سقط هذا القول من ق..
(ولا لَكُمَا مَنْجىً عَلَى الأرْضِ فَابْغِيَا | به نَفَقاً أوْ في السَّمَوَات سُلَّماً) |
أحدها : معناه لا مُبطِل لحُجَّتِهِ ولا دافع لبرهانه.
والثاني : معناه لا رَادَّ لأمره فيما قضاه من نصر أوليائه، وأوجبه من هلاك أعدائه.
والثالث : معناه لا تكذيب لخبره فيما حكاه من نصر١ مَنْ نُصِرَ وهلاك مَنْ أُهْلِكَ.
والرابع : معناه لا يشتبه٢ ما تخرصه الكاذبون عليه بما بلَّغه الأنبياء عنه.
﴿ وَلَقْدْ جَآءَكَ مِن نبإ المُرْسَلِينَ ﴾ فيما صبروا عليه من الأذى، وقُوبلوا٣ عليه من النصر.
٢ - في ك: يشبه بما..
٣ - أي أن الله كافأهم بالنصر..
أحدهما :[ إعراضهم ] عن سماع القرآن.
والثاني : عن استماعك١.
﴿ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الأَرْضِ ﴾ أي سرباً، وهو المسلك النافذ فيها، مأخوذ من نافقاء٢ اليربوع.
﴿ أَوْ سُلَّماً فِي السَّمَاءِ ﴾ فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : مصعداً، قاله السدي.
والثاني : دَرَجاً، قاله قتادة.
والثالث : سبباً، قاله الكلبي وقد تضمن ذلك قول كعب بن زهير.
ولا لَكُمَا مَنْجىً عَلَى الأرْضِ فَابْغِيَا | به نَفَقاً أوْ في السَّمَوَات سُلَّماً |
﴿ وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الهُدَى ﴾ يعني٣ بالإلجاء والاضطرار.
قال ابن عباس : كل موضع قال الله فيه ﴿ ولو شاءَ اللهُ ﴾ فإنه لم يشأ.
﴿ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الجَاهِلِينَ ﴾ يعني تجزع في مواطن الصبر، فتصير بالأسف والتحسر مقارباً لأحوال الجاهلين.
٢ - أي حجر اليربوع..
٣ - أي لآمنوا واهتدوا مضطرين لأن الله شاء إيمانهم وهدايتهم..
وقوله :﴿ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ ﴾ فيه تأويلان :
أحدهما : يعني الذين يعقلون، قاله الكلبي.
والثاني : الذين يسمعون طلباً للحق، لأن الاستجابة قد تكون من الذين يسمعون طلباً للحق، فأما من لا يسمع، أو يسمع لكن لا بقصد طلب الحق، فلا يكون منه استجابة.
﴿ وَالمَوْتَى١ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ﴾ فيه قولان :
أحدهما : أن المراد بالموتى هنا الكفار، قاله الحسن، وقتادة، ومجاهد.
ويكون معنى الكلام : إنما يستجيب المؤمنون الذين يسمعون، والكفار لا يسمعون إلا عند معاينة الحق اضطراراً حين لا ينفعهم حتى يبعثهم الله كفاراً ثم يحشرون كفاراً.
والقول الثاني : أنهم الموتى الذين فقدوا الحياة، وهو مثل ضربه الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم، ويكون معنى الكلام : كما أن الموتى لا يستجيبون حتى يبعثهم الله فكذلك الذين لا يسمعون.
(بلغو الملوك وأدركوا ال... كتاب وانتهى الأجل)
والتأويل الثاني: وهو قول الجمهور: أن الكتاب هو القرآن الكريم الذي أنزله، ما أخل فيه بشيء من أمور الدين، إما مُفَصَّلاً يَسْتَغْنِي عن التفسير، أو مجْمَلاً جعل إلى تفسيره سبيلاً. يحتمل تأويلاً ثالثاً: ما فرطنا فيه بدخول خلل عليه، أو وجود نقص فيه، فكتاب الله سليم من النقص والخلل. ﴿ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرْونَ﴾ فيه تأويلان: أحدهما: أن المراد بالحشر الموت، قاله ابن عباس. والثاني: أن الحشر الجمع لبعث الساعة. فإن قيل: فإذا كانت غير مُكَلَّفَةٍ فلماذا تبعث يوم القيامة؟ قيل: ليس التكليف علة البعث، لأن الأطفال والمجانين يبعثون وإن كانوا في الدنيا غير مكلفين، وإنما يبعثها ليعوض ما استحق العوض منها بإيلام أو ظلم، ثم
﴿ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ ﴾ يعني في الهواء، جمع بين ما هو على الأرض وفيها وما ارتفع عنها.
﴿ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم ﴾ في الأمم تأويلان :
أحدهما : أنها الجماعات.
والثاني : أنها الأجناس، قاله الفراء.
وليس يريد بقوله :﴿ أَمْثَالُكُم ﴾ في التكليف كما جعل قوم اشتبه الظاهر عليهم وتعلقوا مع اشتباه الظاهر برواية أبي ذر، قال : انتطحت شاتان عند النبي صلى الله عليه وسلم، فقال : يا أبا ذر أتدري فيم انتطحتا ؟ قلت : لا، قال :" لَكِنَّ اللَّهَ يَدْرِي وَسَيَقْضِي بَيْنَهُمَا " قال أبو ذر : لقد تركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وما يقلب طائر جناحيه في السماء إلا ذكّرنا منه علماً، لأنه إذا كان العقل سبباً للتكليف كان عدمه لارتفاع التكليف١.
والمراد بقوله :﴿ أَمْثَالُكُم ﴾ وجهان :
أحدهما٢ : أنها أجناس وتتميز في الصور والأسماء.
والثاني : أنها مخلوقة لا تُظْلَم، ومرزوقة لا تحرم.
ثم قال تعالى :﴿ ما فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ﴾٣ فيه تأويلان :
أحدهما : ما تركنا خلقاً إلا أوجبنا له أجلاً، والكتاب هنا هو إيجاب الأجل كما قال تعالى :
﴿ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ ﴾[ الرعد : ٣٨ ] قاله ابن بحر وأنشد لنابغة بني جعدة :
بلغو الملوك وأدركوا ال *** كتاب وانتهى الأجل
والتأويل الثاني : وهو قول الجمهور : أن الكتاب٤ هو القرآن الكريم الذي أنزله، ما أخل فيه بشيء من أمور الدين، إما مُفَصَّلاً يَسْتَغْنِي عن التفسير، أو مجْمَلاً جعل إلى تفسيره سبيلاً.
يحتمل تأويلاً ثالثاً : ما فرطنا فيه بدخول خلل عليه، أو وجود نقص فيه، فكتاب الله سليم من النقص والخلل٥.
﴿ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرْونَ ﴾ فيه تأويلان :
أحدهما : أن المراد بالحشر الموت، قاله ابن عباس.
والثاني : أن الحشر الجمع لبعث الساعة.
فإن قيل : فإذا كانت٦ غير مُكَلَّفَةٍ فلماذا تبعث يوم القيامة ؟ قيل : ليس التكليف علة البعث، لأن الأطفال والمجانين يبعثون وإن كانوا في الدنيا غير مكلفين، وإنما يبعثها ليعوض ما استحق العوض منها بإيلام أو ظلم، ثم يجعل ما يشاء منها تراباً، وما شاء من دواب الجنة يتمتع المؤمنون بركوبه ورؤيته.
٢ - سقط من ق..
٣ - سقط من ق..
٤ - وقيل أيضا الكتاب: اللوح المحفوظ فيه ما يقع من الحوادث.
٥ - سقط من ق..
٦ -إلى الدواب والطير..
(ملك إذا حل العفاة ببابه | غبطوا وأنجح منهم المستبلس) |
(يا صاح هل تعرف رسماً مكرساً | قال نعم أعرفه وأبلسا) |
ملك إذا حل العفاة ببابه | غبطوا وأنجح منهم المستبلس |
والثاني : أنه الحزن والندم.
والثالث : الخشوع.
والرابع : الخذلان.
والخامس : السكوت وانقطاع الحجة، ومنه قول العجاج :
يا صاح هل تعرف رسماً مكرساً | قال نعم أعرفه وأبلسا |
أحدهما : الرزق، أي لا أقدر على إغناء فقير، ولا إفقار غني، قاله الكلبي.
والثاني : مفاتيح خزائن العذاب لأنه خَوَّفهُم منه، فقالوا متى يكون هذا ؟ قاله مقاتل.
﴿ وَلاَ أَعْلَمُ الغَيْبَ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : علم الغيب في نزول العذاب عليهم متى يكون ؟، قاله مقاتل.
والثاني : علم جميع ما غاب من ماض ومستقبل، إلا أن المستقبل لا يعلمه إلا الله أو من أطلعه الله تعالى على علمه من أنبيائه، وأما الماضي فقد يعلمه المخلوقون من أحد الوجهين : إما من معاينة أو خبر، والخبر قد يكون من وجهين : إما من مخلوق عاين أو خالق أخبر، فإن كان الإِخبار عن مستقبل، فهو من آيات الله المعجزة، وإن كان عن ماض فإن علم به غير المخبر والمخبر لم يكن معجزاً، وإن لم يعلم به أحد وعلم به المخبِر وحده كان معجزاً، فنفى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نفسه علم الغيب، لأنه لا يعلمه غير الله تعالى، وإن ما أخبر به من غيب فهو عن الله ووحيه.
﴿ وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : أنه يريد أنه لا يقدر على ما يعجز عنه العباد، وإن قدرت عليه الملائكة.
والثاني : أنه يريد بذلك أنه من جملة البشر وليس بمَلَك، لينفي عن نفسه غُلُوَّ النصارى في المسيح وقولهم : إنه ابن الله.
ثم في نفيه أن يكون ملكاً وجهان :
أحدهما : أنه بَيَّنَ بذلك فضل الملائكة على الأنبياء، لأنه دفع عن نفسه منزلة ليست له.
والثاني : أنه أراد أني لست ملكاً في السماء، فأعلم غيب السماء الذي تشاهده الملائكة ويغيب عن البشر، وإن كان الأنبياء أفضل من الملائكة مع غيبهم عما تشاهده الملائكة.
﴿ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ ﴾ يحتمل وجهين :
أحدهما : أن أخبركم إلا بما أخبرني الله به.
والثاني : إن أفعل إلا ما أمرني الله به.
﴿ قُل هَل يَسْتَوِي الأعْمَى وَالبَصِيرُ ﴾ يحتمل وجهين :
أحدهما : الجاهل والعالم.
والثاني : الكافر والمؤمن.
﴿ أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ ﴾ يحتمل وجهين : أحدهما : فيما ضربه الله من مثل الأعمى والبصير.
الثاني : فيما بينه من آياته الدالة على توحيده وصدق رسوله.
روي أن سبب نزول هذه الآية أن الملأ من قريش أتوا النبي صلى الله عليه وسلم وعنده جماعة من ضعفاء المسلمين مثل بلال، وعمار، وصهيب، وخباب ابن الأرت، وابن مسعود، فقالوا : يا محمد اطرد عنا موالينا وحلفاءنا فإنما هم عبيدنا وعتقاؤنا، فلعلك إن طردتهم نتبعك، فقال عمر : لو فعلت ذلك حتى نعلم ما الذي يريدون وإِلاَمَ يصيرون، فَهَمَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك حتى نزلت هذه الآية.
ونزل في الملأ من قريش ﴿ وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُم بِبَعْضٍ ﴾١ الآية، فأقبل عمر فاعتذر من مقالته فأنزل الله فيه :﴿ وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمنُونَ بِآيَاتِنا فَقُل سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ ﴾٢ الآية.
وفي قوله تعالى :﴿ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم ﴾ أربعة تأويلات :
أحدها : أنها الصلوات الخمس، قاله ابن عباس، ومجاهد.
والثاني : أنه ذكر الله، قاله إبراهيم النخعي.
والثالث : تعظيم القرآن، قاله أبو جعفر.
والرابع : أنه عبادة الله، قاله الضحاك.
ومعنى قوله :﴿ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ﴾ فيه قولان :
أحدهما : يريدونه بدعائهم، لأن العرب تذكر وجه الشيء إرادة له مثل قولهم : هذا وجه الصواب تفخيماً للأمر وتعظيماً.
والثاني : معناه يريدون طاعته لقصدهم الوجه الذي وجَّهَهُم إليه.
﴿ مَا عَلَيكَ مِنْ حِسَابِهِم من شَيْءٍ ﴾٣ فيه ثلاث أقوال :
أحدها : يعني ما عليك من حساب عملهم من شيء من ثواب أو عقاب.
﴿ وَمَا مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِم من شَيْءٍ ﴾ يعني وما من حساب عملك عليهم من شيء، لأن كل أحد مؤاخذ بحساب عمله دون غير، قاله الحسن.
والثاني : معناه ما عليك من حساب رزقهم وفقرهم من شيء.
والثالث : ما عليك كفايتهم ولا عليهم كفايتك، والحساب الكفاية كقوله تعالى :
﴿ عَطَاءً حِسَاباً ﴾
[ النبأ : ٣٦ ] أي تاماً كافياً، قاله ابن بحر.
٢ - آية ٥٤ من هذه السورة..
٣ - سقط من ك..
وفي إفتان الله تعالى لهم قولان :
أحدهما : أنه ابتلاؤهم واختبارهم ١ليختبر به شكر الأغنياء وصبر الفقراء، قاله الحسن، وقتادة.
والثاني : تكليف ما يشق على النفس مع قدرتها عليه.
﴿ لَّيَقُولُوا أَهَؤُلآءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِم من بَيْنِنَا ﴾ وهذا قول الملأ من قريش للضعفاء من المؤمنين، وفيما مَنَّ الله تعالى به عليهم قولان :
أحدهما : ما تفضل الله به عليهم من اللطف في إيمانهم.
والثاني : ما ذكره من شكرهم على طاعته.
قوله عز وجل :﴿ وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤمِنُونَ بآيَاتِنَا ﴾ يعني به ضعفاء المسلمين وما كان من شأن عمر.
﴿ فَقُل سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ ﴾ فيه قولان :
أحدهما : أنه أمر بالسلام عليهم من الله تعالى، قاله الحسن.
والثاني : أنه أمر بالسلام عليهم من نفسه٢ تكرمة لهم، قاله بعض المتأخرين.
وفي السلام قولان :
أحدهما : أنه جمع السلامة.
والثاني : أن السلام هو الله ومعناه ذو السلام٣.
﴿ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ﴾ فيه قولان :
أحدهما : معناه أوجب الله على نفسه.
والثاني : كتب في اللوح المحفوظ على نفسه.
و ﴿ الرَّحْمَةَ ﴾ يحتمل المراد بها هنا وجهين :
أحدهما : المعونة.
والثاني : العفو.
﴿ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءَاً بِجَهَالَةٍ ﴾ في الجهالة تأويلان :
أحدهما : الخطيئة، قاله الحسن، ومجاهد، والضحاك.
والثاني : ما جهل كراهية عاقبته، قاله الزجاج.
ويحتمل ثالثاً : أن الجهالة هنا ارتكاب الشبهة بسوء التأويل.
﴿ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ ﴾ يعني تاب من عمله الماضي وأصلح في المستقبل٤.
٢ - الضمير في نفسه يعود على الرسول صلى الله عليه وسلم أي أن الله أمر نبيه أن يبدأ هؤلاء بالسلام وفي ذلك دليل على وجوب تكريم عباد الله الصالحين وعدم إيذائهم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يسلم عليهم ويقول: الحمد لله الذي جعل في أمتي من أمرني أن أبدأهم بالسلام..
٣ سقط من ق..
٤ - سقط من ق..
أحدهما : الحق الذي بان له.
والثاني : المُعْجِزُ في القرآن.
﴿ وَكَذَّبْتُم بِهِ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : وكذبتم بالبينة.
والثاني : وكذبتم بربكم.
﴿ مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ ﴾ فيه قولان :
أحدهما : ما يستعجلون به من العذاب الذي أُوعِدُوا به قبل وقته، كقوله تعالى :﴿ وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالعَذَابِ ﴾، قاله الحسن.
والثاني : ما استعجلوه من اقتراح الآيات لأنه طلب الشيء في غير وقته، قاله الزجاج.
﴿ إِنِ الحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ ﴾ فيه تأويلان :
أحدهما : الحكم في الثواب والعقاب.
والثاني : الحكم في تمييز الحق من الباطل.
﴿ يَقُصُّ الحَقَّ ﴾ قرأ ابن كثير ونافع وعاصم ﴿ يَقُصُّ ﴾ بصاد غير معجمة من القَصَص وهو الإِخبار به، وقرأ الباقون ﴿ يَقْضِي ﴾ بالضاد معجمة من القضاء، وهو صنع الحق وإتمامه.
والثاني : الوصول١ إلى العلم بالغيب.
﴿ وَيَعْلَمُ مَا فِي البَرِّ وَالبَحْرِ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : أن ما في البّر ما على الأرض، وما في البحر ما على الماء، وهو الظاهر، وبه قال الجمهور.
والثاني : أن البَرّ القفر، والبحر القُرى لوجود الماء فيها، فلذلك سميت بحراً، قاله مجاهد.
﴿ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا ﴾ يعني قبل يبسها وسقوطها.
﴿ وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأرْضِ ﴾ يحتمل وجهين :
أحدهما : ما في بطنها من بذر.
والثاني : ما تخرجه من زرع.
﴿ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ ﴾ يحتمل وجهين :
أحدهما : أن الرطب النبات واليابس الجواهر.
والثاني : أن الرطب الحي، واليابس الميت.
﴿ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ﴾ يعني في اللوح المحفوظ.
(إنَّ بَنِي الأَدْرَدِ لَيْسوا مِن أَحَدْ | وَلاَ تَوَفَّاهُم قَرَيْشٌ في العَدَدْ) |
(وهوَ الدَّافِعُ عن ذي كُرْبَةٍ | أيْدِي القَوْمِ إذا الْجَانِي اجْتَرَحْ) |
أحدهما : أنه أعلى قهراً، فلذلك قال :﴿ فَوْقَ عِبَادِهِ ﴾.
والثاني : أن الأقدر إذا استحق صفة المبالغة عبَّر عنه بمثل هذه العبارة، فقيل : هو فوقه في القدرة أي أقدر، وفوقه في العلم أي أعلم.
﴿ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : أنه جوارحهم التي تشهد عليهم بما كانوا يعملون.
والثاني : الملائكة. ويحتمل ﴿ حَفَظَةً ﴾ وجهين :
أحدهما : حفظ النفوس من الآفات.
والثاني : حفظ الأعمال من خير وشر، ليكون العلم بإتيانها أزجر عن الشر، وأبعث على الخير.
﴿ حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ المَوْتُ ﴾ يعني أسباب الموت، بانقضاء الأجل.
فإن قيل : المتولِّي لقبض الروح مَلَك الموت، وقد بين ذلك بقوله تعالى :
﴿ قُل يَتَوَفَّاكُم ملَك المَوتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُم ﴾
[ السجدة : ١١ ] فكيف قال :﴿ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا ﴾ والرسل جمع ؟
قيل : لأن الله أعان مَلَك الموت بأعوان من عنده يتولون ذلك بأمره، فصار التوفِّي من فعل أعوانه، وهو مضاف إليه لمكان أمره، كما يضاف إلى السلطان فعل أعوانه من قتل، أو جلد، إذا كان عن أمره.
﴿ وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : لا يؤخرون.
الثاني : لا يُضَيِّعُونَ، قاله ابن عباس.
أحدهما : أنهم الملائكة التي توفتهم.
والثاني : أنه الله بالبعث والنشور.
وفي ردهم إلى الله وجهان :
أحدهما : معناه ردهم إلى تدبير الله وحده، لأن الله دبرهم عند خلقهم وإنشائهم، ثم مكَّنهم من التصرف فصاروا في تدبير أنفسهم، ثم كَفَّهم عنه بالموت فصاروا في تدبير الله كالحالة الأولى، فصاروا بذلك مردودين إليه.
والثاني : أنهم ردوا إلى الموضع الذي لا يملك الحكم عليهم فيه إلا الله، فجعل الرد إلى ذلك الموضع رداً إليه.
فإن قيل : فكيف قال :﴿ مَوْلاَهُمُ الحَقِّ ﴾ وقد قال :
﴿ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ ءَامَنُوا وَأَنَّ الكَافِرِينَ لاَ مَوْلَى لَهُم ﴾
[ محمد : ١١ ]. قيل : عنه جوابان :
أحدهما : أنه قال هذا لأنهم دخلوا في جملة غيرهم من المؤمنين المردودين فعمَّهم اللفظ.
والثاني : أن المولى قد يعبر به عن الناصر تارة وعن السيد أخرى، والله لا يكون ناصراً للكافرين، وهو سيد الكافرين والمؤمنين.
و ﴿ الحَق ﴾ هنا يحتمل ثلاثة أوجه :
أحدهما : أن الحق هو من أسمائه تعالى.
والثاني : لأنه مستحق الرد عليه.
والثالث : لحُكْمِهِ فيهم بالرد.
﴿ أَلاَ لَهُ الحُكْمُ ﴾ يعني القضاء بين عباده.
فإن قيل : فقد جعل لغيره الحكم ؟
فعنه جوابان :
أحدهما : أن له الحكم في يوم القيامة وحده.
والثاني : أن غيره يحكم بأمره فصار الحكم له.
ويحتمل قوله :﴿ أَلاَ لَهُ الحُكْمُ ﴾ وجهاً ثانياً : أن له أن يحكم لنفسه فصار بهذا الحكم مختصاً.
﴿ وَهُوَ أَسْرَعُ الحَاسِبِينَ ﴾ يحتمل وجهين :
أحدهما : يعني سرعة الحكم بين العباد لتعجيل الفصل، وعبر عن الحكم بالحساب من تحقيق المستوفِي بهما من قليل وكثير.
والثاني : وهو الظاهر أنه أراد سرعة محاسبة العباد على أعمالهم.
ويحتمل مراده بسرعة حسابه وجهين.
أحدهما : إظهار قدرته بتعجيل ما يعجز عنه غيره.
والثاني : أنه يبين به تعجيل ما يستحق عليه من ثواب، وتعجيل ما يستحق على غيره من عقاب جمعاً بين إنصافه وانتصافه١.
أحدها : أن العذاب الذي من فوقهم الرجم، والذي من تحت أرجلهم الخسف، قاله ابن جبير، ومجاهد، وأبو مالك.
والثاني : أن العذاب الذي من فوقهم أئمة السوء، والعذاب الذي من تحت أرجلهم عبيد السوء، قاله ابن عباس.
والثالث : أن الذي من فوقهم الطوفان، والذي من تحت أرجلهم الريح، حكاه علي بن عيسى.
ويحتمل أن العذاب الذي من فوقهم طوارق السماء التي ليست من أفعال العباد لأنها فوقهم، والتي من تحت أرجلهم ما كان من أفعال العباد لأن الأرض تحت أرجل جميعهم١.
﴿ أَوْ يَلبِسَكُمْ شِيَعاً ﴾ فيه تأويلان :
أحدهما : أنها الأهواء المُخْتَلَقَة، قاله ابن عباس.
والثاني : أنها الفتن والاختلاف، قاله مجاهد.
ويحتمل ثالثاً : أي يسلط عليكم أتباعكم الذين كانوا أشياعكم، فيصيروا لكم أعداء بعدما كانوا أولياء، وهذا من أشد الانتقام أن يستعلي الأصاغر على الأكابر.
روي أن موسى بن عمران عليه السلام دعا ربه على قوم فأوحى الله إليه :﴿ قد ملكت سفلتها عليتها، فقال : يا ب أحب لهم عذابا عاجلا ﴾ فأوحى الله إليه : أو ليس هذا هو العذاب العاجل الأليم.
هذا قول المفسرين من أهل الظاهر، وَتَأَوَّلَ بعض المتعمقين في غوامض المعاني ﴿ عَذَاباً مِن فَوقِكُمْ ﴾ معاصي السمع والبصر واللسان ﴿ أَوْمِن تَحْتِ أَرْجلِكُمْ ﴾ المشي إلى المعاصي حتى يواقعوها، وما بينهما يأخذ بالأقرب منهما ﴿ أَوَ يَلبِسَكُمْ شِيَعاً ﴾ يرفع من بينكم الأُلفة.
﴿ وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأسَ بَعْضٍ ﴾ تكفير أهل الأهواء بعضهم بعضاً٢، وقول الجمهور :﴿ وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأسَ بَعْضٍ ﴾ يعني بالحروب والقتل حتى يفني بعضهم بعضاً، لأنه لم يجعل الظفر لبعضهم فيبقى.
﴿ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآياتِ ﴾ يحتمل وجهين :
أحدهما : نفصل آيات العذاب وأنواع الانتقام.
والثاني : نصرف كل نوع من الآيات إلى قوم ولا يعجزنا أن نجمعها على قوم.
﴿ لَعَلَّهُم يَفْقَهُونَ ﴾ أي يتعظون فينزجرون.
واختلف أهل التأويل في نزول هذه الآية على قولين :
أحدهما : أنها في أهل الصلاة، قاله ابن عباس، والحسن، وقتادة، وأن نزولها شق على النبي صلى الله عليه وسلم، [ فقام ] فصلى صلاة الضحى وأطالها فقيل له : ما أطلت صلاة كاليوم، فقال :" إِنَّهَا صَلاَةُ رَغْبَةٍ وَرَهْبَةٍ، إنِّي سَأَلتُ رَبِّي أَنْ يُجِيرَنِي مِنْ أَرْبعٍ فَأَجَارَنِي مِنْ خَصْلَتِينِ وَلَمْ يُجِرْنِي مِنْ خَصْلَتَينِ : سَأَلتُهُ أَلاَّ يُهْلِكَ أُمَّتِي بِعَذَابٍ مِنْ فَوقِهِم كَمَا فَعَلَ بِقَومِ نُوْحٍ، وَبِقَومِ لُوطٍ فَأَجَارَنِي، وَسَأَلتُهُ أَلاَّ يَهْلِكَ أُمَّتِي بعذَاب مِنْ تَحْتِ أَرْجلِهِم كَمَا فَعَلَ بِقَارُونَ٣ فَأَجَارنِي، وَسَأَلتُهُ أََلاَّ يُفَرِّقَهُمْ شِيَعاً فَلَمْ يُجِرْنِي، وَسَأَلتُهُ أَلاَّ يُذِيقَ بَعْضَهُم بَاسَ بَعْضٍ فَلَمْ يُجِرْنِي " وَنَزَلَ عَلَيهِ قَولُه تعالى :
﴿ الم أحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا ءَامَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ ﴾
[ العنكبوت : ٢٢١ ]
والقول الثاني : أنها نزلت في المشركين، قاله بعض المتأخرين.
٢ - من ويحتمل ثالثا إلى هنا سقط من ق..
٣ - جعلت هذه العبارة قولا مستقلا واعتبرت الأقوال أربعة في ق.
أحدهما : معناه أن لكل خَبَرٍ أَخْبَرَ الله تعالى به من وعد أو وعيد مستقراً في مستقبل الوقت أو ماضيه أو حاضره في الدنيا وفي الآخرة١، وهذا معنى قول ابن عباس، ومجاهد.
والثاني : أنه وعيد من الله للكافرين في الآخرة لأنهم لا يقرون بالبعث، قاله الحسن.
والثالث : أنه وعيد لهم بما ينزل بهم في الدنيا، قاله الزجاج.
أحدها : وما على الذين يتقون الله في أوامره ونواهيه من حساب الكفار فيما فعلوه من الاستهزاء والتكذيب مآثم يؤاخذون بها، ولكن عليهم أن يذكروهم بالله وآياته لعلهم يتقون ما هم عليه من الاستهزاء والتكذيب، قاله الكلبي.
والثاني : وما على الذين يتقون الله من الحساب يوم القيامة ما على الكفار في الحساب من التشديد والتغليظ لأن محاسبة المتقين ذكرى وتخفيف، ومحاسبة الكفار تشديد وتغليظ لعلهم يتقون إذا علموا ذلك.
والثالث : وما على الذين يتقون الله فيما فعلوه من رد وصد حساب، ولكن اعدلوا إلى الذكرى لهم بالقول قبل الفعل، لعلهم يتقون إذا علموا.
ويحتمل هذا التأويل وجهين :
أحدهما : يتقون الاستهزاء والتكذيب.
والثاني : يتقون الوعيد والتهديد.
(وإبسالي بني بغير جرم | بعوناه ولا بدم مراق) |
(بَكَرت تَلُومُكَ بَعْدَ وَهْنٍ في النَّدى | بسلٌ عليكِ مَلاَمَتِي وَعِتَابي) |
(وماء وردت قيل الكرى | وقد جنه السدف الأدهم) |
(رفوني وقالوا يا خويلد لا ترع | فقلت وأنكرت الوجه هم هم) |
(مصابيح ليست باللواتي يقودها | نجوم ولا بالآفلات الدوالك) |
وفي المراد بملكوت السموات والأرض خمسة أوجه :
أحدها : أنه خلق السموات والأرض، قاله ابن عباس.
والثاني : مُلك السموات والأرض.
واختلف من قال بهذا فيه على وجهين :
أحدهما : أن الملكوت هو المُلك بالنبطية، قاله مجاهد.
والثاني : أنه المُلك بالعربية، يقال مُلك وملكوت١ كما يقال رهبة ورهبوت، ورحمة ورحموت، والعرب تقول : رهبوت خير من رحموت، أي أن نُرْهَب خير من أن نُرْحَم، قاله الأخفش.
والثالث : معناه آيات السموات والأرض، قاله مقاتل.
والرابع : هو الشمس والقمر والنجوم، قاله الضحاك.
والخامس : أن ملكوت السماوات : القمر، والنجوم، والشمس٢، وملكوت الأرض : الجبال، والشجر، والبحار، قاله قتادة.
﴿ وَلِيَكُونَ مِنَ المُوقِنِينَ ﴾ يحتمل وجهين : أحدهما : من الموقنين لوحدانية الله تعالى وقدرته٣.
والثاني : من الموقنين نبوته وصحة رسالته.
٢ - ليست في ق..
٣ - سقط من ك..
﴿ قَالَ هَذَا رَبِّي ﴾ ومعنى جَنَّ عليه الليل، أي ستره، ولذلك سمي البستان جَنَة لأن الشجر يسترها، والجِنُّ لاستتارهم عن العيون، والجُنُون لأنه يستر العقل، والجَنِين لأنه مستور في البطن، والمِجَنّ لأنه يستر المتترس، وقال الهذلي :
وماء وردت قبيل الكرى | وقد جنه السدف الأدهم١ |
أحدها : أنه قال : هذا ربي في ظني، لأنه في حال تقليب واستدلال.
والثاني : أنه قال ذلك اعتقاداً أنه ربه، قاله ابن عباس.
والثالث : أنه قال ذلك في حال الطفولية والصغر، لأن أمه ولدته في مغارة حذراً عليه من نمرود، فلما خرج عنه قال هذا القول قبل قيام الحجة عليه، لأنها حال لا يصح فيها كفر ولا إيمان، ولا يجوز أن يكون قال ذلك بعد البلوغ لأن الأنبياء لا يجوز أن يكون>٢ منهم شرك بالله تعالى بعد البلوغ.
والرابع : أنه لم يقل ذلك قول معتقد، وإنما قاله على وجه الإِنكار لعبادة الأصنام، فإذا كان الكوكب والشمس القمر وما لم تصنعه يد ولا عَمِلَه بشر لم تكن معبودة لزوالها، فالأصنام التي هي دونها أولى ألاّ تكون معبودة.
والخامس : أنه قال ذلك توبيخاً على وجه الإِنكار الذي يكون معه ألف الاستفهام وتقديره : أهذا ربي، كما قال الشاعر٣ :
رفوني وقالوا يا خويلد لا ترع | فقلت وأنكرت الوجه هم هم |
﴿ فَلَمَّا أَفَلَ ﴾ أي غاب، قال ذو الرمة :
مصابيح ليست باللواتي يقودها | نجوم ولا بالآفلات الدوالك |
وما وردت على خيفة وقد جنة السدف المظلم
والسدف: الليل. والادهم: الأسود..
٢ - مسقط من ك..
٣ - هو أبو خراش الهذلي..
فإن قيل : فَلِمَ كان أفولها دليلاً على أنه لا يجوز عبادتها وقد عبدها مع العلم بأفولها خلق من العقلاء ؟ قيل لأن تغيرها بالأفول دليل على أنها مُدَبَّرة محدثة، وما كان بهذه الصفة استحال أن يكون إلهاً معبوداً.
أحدهما : أنه الشرك، قاله ابن مسعود، وأُبَيّ بن كعب، روى ابن مسعود قال : لما نزلت هذه الآية شق على المسلمين فقالوا : ما منَّا من أحد إلا وهو يظلم نفسه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لَيسَ كَمَا تَظُنُّونَ، وَإِنَّمَا هُوَ كَمَا قَالَ لقْمَانُ لابْنِه "
﴿ يَا بُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلمٌ عَظِيمٌ ﴾١.
والثاني : أنه سائر أنواع الظلم.
ومن قال بهذا اختلفوا في عمومها وخصوصها على قولين :
أحدهما : أنها عامة.
والثاني : أنها خاصة.
واختلف من قال بتخصيصها فيمن نزلت على قولين :
أحدهما : أن هذه الآية نزلت في إبراهيم خاصة وليس لهذه الأمة منها شيء، قاله علي كرّم الله وجهه.
والثاني : أنها فيمن هاجر إلى المدينة، قاله عكرمة.
واختلفوا فيمن كانت هذه الآية جواباً منه على ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه جواب من الله تعالى فصل به بين إبراهيم ومن حَاجّه من قومه، قاله ابن زيد، وابن إسحاق.
والثاني : أنه جواب قومه لما سألهم ﴿ أَيُّ الفَرِيقَينِ أَحَقُّ بِالأمْنِ ﴾ ؟ فأجابوا بما فيه الحجة عليهم، قاله ابن جريج.
والثالث : أنه جواب إبراهيم كما يسأل العالم نفسه فيجيبها، حكاه الزجاج.
أحدها : قوله لهم١ :﴿ أَتَعُْبدُونَ مِنْ دِونِ اللَّهِ مَا لاَ يمْلِكُ لَكُم ضَراً وَلاَ نَفْعاً٢ ﴾ أم تعبدون من يملك الضر والنفع ؟ فقالوا : مالك الضر والنفع أحق.
والثاني : أنه لما قال :﴿ فَأَيُّ الفَرِيقَينِ أَحَقُّ بِالأمْنِ ﴾ عبادة إله واحد أم آلهة شتى ؟ فقالوا : عبادة إله واحد فأقروا على أنفسهم.
والثالث : أنهم لما قالوا لإِبراهيم ألا تخاف أن تخبلك آلهتنا ؟ فقال : أما تخافون أن تخبلكم آلهتكم بجمعكم للصغير مع الكبير في العبادة.
واختلفوا في سبب ظهور الحجَّة لإبراهيم على قولين :
أحدهما : أن الله تعالى أخطرها بباله حتى استخرجها بفكره.
والثاني : أنه أمره بها ولقنه إياها.
﴿ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَشَاءُ ﴾ فيه أربعة أوجه :
أحدها : عند الله بالوصول لمعرفته.
والثاني : على الخلق بالاصطفاء لرسالته.
والثالث : بالسخاء.
والرابع : بحسن الخلق.
وفيه تقديم وتأخير، وتقديره : نرفع من نشاء درجات٣.
٢ - سقطت من ق..
٣ - آية ٧٦ المائدة..
أحدها : فإن تكفر بها قريش فقد وكلنا بها الأنصار، قاله الضحاك.
والثاني : فإن يكفر بها أهل مكة فقد وكلنا بها أهل المدينة، قاله ابن عباس.
والثالث : فإن تكفر بها قريش فقد وكلنا بها الملائكة، قاله أبو رجاء.
والرابع : أنهم الأنبياء١ الثمانية عشر الذين ذكرهم الله تعالى من قبل بقوله :﴿ وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ ﴾، قاله الحسن، وقتادة.
والخامس : أنهم كل المؤمنين، قاله بعض المتأخرين.
ومعنى قوله :﴿ فَقَدْ وَكَّلنَا بِهَا ﴾ أي أقمنا بحفظها ونصرتها، يعني : كتب الله وشريعة دينه.
أحدها : أنه العظيم البركة لما فيه من الاستشهاد به.
والثاني : لما فيه من زيادة البيان لأن البركة هي الزيادة.
والثالث١ : أن المبارك الثابت.
﴿ مُّصَدِقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ ﴾ فيه قولان :
أحدهما : الكتب التي قبله من التوراة، والإِنجيل، وغيرهما، قاله الحسن البصري.
والثاني : النشأة الثانية، قاله علي بن عيسى.
﴿ وَلِتُنذِرَ أُمَّ القُرَى ﴾ يعني أهل أم القرى، فحذف ذكر الأهل إيجازاً كما قال :
﴿ وَاسْأَلِ القَرْيَةَ ﴾٢
[ يوسف : ٨٢ ].
و ﴿ أُمَّ القُرَى ﴾ مكة وفي تسميتها بذلك أربعة أقاويل :-
أحدها : لأنها مجتمع القرى، كما يجتمع الأولاد إلى الأم.
والثاني : لأن أول بيت وضع بها، فكأن القرى نشأت عنها، قاله السدي.
والثالث : لأنها معظمة كتعظيم الأم، قاله الزجاج.
والرابع : لأن الناس يؤمونها من كل جانب، أي يقصدونها.
ثم قال :﴿ وَمَنْ حَوْلَهَا ﴾ قال ابن عباس : هم أهل الأرض كلها.
﴿ وَالَّذِينَ يَؤْمِنُونَ بِالآخرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ ﴾ وفيما ترجع إليه هذه الكناية قولان :
أحدهما : إلى الكتاب، وتقديره : والذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون بهذا الكتاب، قاله الكلبي.
والثاني : إلى محمد صلى الله عليه وسلم، وتقديره : والذين يؤمنون بالآخرة، يؤمنون بمحمد صلى الله عليه وسلم لِمَا قد أظهر الله تعالى من معجزته وأَبَانَه الله من صدقه، قاله الفراء.
فإن قيل : فمن يؤمن بالآخرة من أهل الكتاب لا يؤمنون به ؟ قيل : لا اعتبار لإِيمانهم بها لتقصيرهم في حقها، فصاروا بمثابة من لم يؤمن بها.
٢ - وهو من باب حذف المضاف كقوله تعالى في سورة يوسف "واسأل القرية التي كنا فيها" أي واسأل أهل القرية..
(أذهب إليك أمي براعية | ترعى المخاض ولا أغضي على الهون) |
(هونكما لا يرد الدهر ما فاتا | لا تهلكن أسى في أثر من ماتا) |
(أعطى فلم يبخل ولم يبخل | كوم الذرى من خول المخول) |
أحدهما : فرادى من الأعوان.
والثاني : فرادى من الأموال.
﴿ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلنَاكُمْ وَرَآءَ ظُهُورِكُمْ ﴾ يعني ما ملكناكم من الأموال، والتخويل تمليك المال، قال أبو النجم :
أعطى فلم يبخل ولم يبخل | كوم الذرى من خول المخول |
أحدهما : آلهتهم التي كانوا يعبدونها، قاله الكلبي.
والثاني : الملائكة الذين كانوا يعتقدون شفاعتهم، قاله مقاتل.
﴿ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَآءُ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : يعني شفعاء، قاله الكلبي.
والثاني : أي متحملين عنكم تحمل الشركاء عن الشركاء.
﴿ لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ ﴾١ فيه وجهان :
أحدهما : تفرق جمعكم في الآخرة.
والثاني : ذهب تواصلكم في الدنيا، قاله مجاهد.
ومن قرأ ﴿ بَيْنَكُمْ ﴾ بالفتح، فمعناه تقطع الأمر بينكم.
﴿ وَضَلَّ عَنَكُم مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : من عدم البعث والجزاء.
والثاني : من شفعائكم عند الله.
فإن قيل : فقوله :﴿ وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا ﴾ خبر عن ماض، والمقصود منه الاستقبال ؟
فعن ذلك جوابان. أحدهما : أنه يقال لهم ذلك في الآخرة فهو على الظاهر إخبار.
والثاني : أنه لتحققه بمنزلة ما كان، فجاز، وإن كان مستقبلاً أن يعبر عنه بالماضي.
أحدها : فالق الصبح، قاله قتادة.
والثاني : أنه إضاءة الفجر، قاله مجاهد.
والثالث : أن معناه خالق نور النهار، وهذا قول الضحاك.
والرابع : أن الإِصباح ضوء الشمس بالنهار وضوء القمر بالليل، قاله ابن عباس.
﴿ وَجَعَلَ اللَّيلَ سَكَناً ﴾ فيه قولان :
أحدهما : أنه سُمِّي سكناً لأن كل متحرك بالنهار يسكن فيه.
والثاني : لأن كل حي يأوي فيه إلى مسكنه.
﴿ وَالشَّمْسَ والقَمَرَ حُسْبَاناً ﴾ فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : معناه يجريان في منازلهما بحساب وبرهان فيه بدء ورد إلى زيادة ونقصان، قاله ابن عباس والسدي.
والثاني : أي جعلهما سبباً لمعرفة حساب الشهور والأعوام١.
والثالث : أي جعل الشمس والقمر ضياء، قاله قتادة، وكأنه أخذه من قوله تعالى :
﴿ وَيُرْسِلَ عَلَيهَا حُسْبَاناً مِنَ السَّمَآءِ ﴾
[ الكهف : ٤٠ ] قال : ناراً.
(أثت أعاليه وآدت أصوله | ومال بقنوان من البسر أحمرا) |
أحدهما : معناه رزق كل شيء من الحيوان.
والثاني : نبات كل شيء من الثمار.
﴿ فَأَخْرجْنَا مِنهُ خَضِراً ﴾ يعني زرعاً رطباً بخلاف صفته عند بذره.
﴿ نخْرِجُ مِنهُ حَبّاً مُّتَرَاكِباً ﴾ يعني السنبل الذي قد تراكب حبه.
﴿ وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيةٌ ﴾ القنوان جمع قنو وفيه ثلاثة تأويلات١ :
أحدها : أنه الطلع، قاله الضحاك.
والثاني : أنه الجمار٢.
والثالث : هي الأعذاق، قال امرؤ القيس
أثت أعاليه وآدت أصوله | ومال بقنوان من البسر أحمرا٣ |
أحدهما : دانية من المجتني لقصر نخلها وقرب تناولها، قاله ابن عباس.
والثاني : دانية بعضها من بعض لتقاربها، قاله الحسن.
﴿ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ ﴾ يعني بساتين من أعناب.
﴿ مُشْتَبِهاً وَغَيرَ مُتَشَابِهٍ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : مشتبها ورقه مختلفاً ثمره، قال قتادة.
والثاني : مشتبهاً لونه مختلفاً طعمه، قاله الكلبي.
﴿ انظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ ﴾ قرأ حمزة والكسائي بالضم٤، وقرأ الباقون بالفتح، وفي اختلافه بالضم والفتح قولان :
أحدهما : أن الثُّمُر بالضم جمع ثمار، وبالفتح جمع ثمرة، قاله علي بن عيسى.
والثاني : أن الثُّمُر بالضم : المال، وبالفتح : ثمر النخل، قاله مجاهد، وأبو جعفر الطبري.
﴿ وَيَنْعِهِ ﴾ يعني نضجه وبلوغه.
٢ - سقط من ق..
٣ - هكذا في الأصول: وفي شرح القصائد السبع الطوال لابن الأنباري. وفي اللسان: "ومال بقنيان". ومعنى أتت أعاليه: كثر نباتها. وقنوان وقنيان جمع قنو وهو الشمراخ. وآدت: ثقلت. البسر: البلح قبل أن يصير رطبا مفرده بسرة (اللسان)..
٤ - أي ثمر بضم الثاء والميم..
أحدها : معناه لا تحيط به الأبصار، وهو يحيط بالأبصار، واعتل قائل هذا بقوله :﴿ فَلَمَّا أَدْرَكَهُ الغَرَقُ ﴾ فوصف الله الغرق بأنه أدرك فرعون، وليس الغرق موصوفاً بالرؤية، كذلك الإدراك هنا، وليس ذلك بمانع من الرؤية بالإِبصار، غير أن هذا اللفظ لا يقتضيه وإن دل عليه قوله :﴿ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ﴾١.
والقول الثاني : معناه لا تراه الأبصار وهو يرى الأبصار، واعتل قائلو ذلك بأمرين :
أحدهما : أن الأبصار ترى ما بينها ولا ترى ما لاصقها، وما بين البصر فلا بد أن يكون بينهما فضاء، فلو رأته الأبصار لكان محدوداً ولخلا منه مكان، وهذه صفات الأجسام التي يجوز عليها الزيادة والنقصان.
والثاني : أن الأبصار تدرك الألوان كما أن السمع يدرك الأصوات، فلما امتنع أن يكون ذا لون امتنع أن يكون مرئياً، كما أن ما امتنع أن يكون ذا صوت امتنع أن يكون مسموعاً.
والقول الثالث : لا تدركه أبصار الخلق في الدنيا بدليل قوله :﴿ لاَ تَدْرِكُهُ الأَبْصَارُ ﴾ وتدركه في الآخرة بدليل قوله :
﴿ إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ﴾
[ القيامة : ٢٣ ] وهو يدرك الأبصار في الدنيا والآخرة.
والرابع : لا تدركه أبصار الظالمين في الدنيا والآخرة، وتدركه أبصار المؤمنين، وهو يدرك الأبصار في الدنيا والآخرة، لأن الإِدراك له كرامة تنتفي عن أهل المعاصي.
والقول الخامس : أن الأبصار لا تدركه في الدنيا والآخرة، ولكن الله يحدث لأوليائه حاسة سادسة سوى حواسهم الخمس يرونه بها، اعتِلاَلاً بأن الله أخبر برؤيته، فلو جاز أن يُرَى في الآخرة بهذه الأبصار وإن زِيْدَ في قواها جاز أن يرى بها في الدنيا وإن ضعف قواها بأضعف من رؤية الآخرة، لأن ما خُلِقَ لإِدراك شيء لا يُعْدَمُ إدراكه، وإنما يختلف الإِدراك بحسب اختلاف القوة والضعف، فلما كان هذا مانعاً من الإدراك - وقد أخبر الله تعالى بإدراكه - اقتضى أن يكون ما أخبر به حقاً لا يدفع بالشبه، وذلك بخلق حاسة أخرى يقع بها الإِدراك.
ثم قال :﴿ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ ﴾ فاحتمل وجهين من التأويل :
أحدهما : لطيف بعباده في الإِنعام عليهم، خبير بمصالحهم.
والثاني : لطيف في التدبير خبير بالحكمة.
أحدها : أن يتلو بعضها بعضاً فلا ينقطع التنزيل.
والثاني : أن الآية تنصرف في معان متغايرة مبالغة في الإِعجاز ومباينة لكلام البشر.
والثالث : أنه اختلاف ما تضمنها من الوعد والوعيد والأمر والنهي، ليكون أبلغ في الزجر، وأدعى إلى الإِجابة، وأجمع للمصلحة.
ثم قال تعالى :﴿ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ ﴾ وفي الكلام حذف، وتقديره : ولئلا يقولوا درست، فحذف ذلك إيجازاً كقوله تعالى :
﴿ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّوا ﴾
[ النساء : ١٦٧ ] أي لئلا تضلوا.
وفي ﴿ دَرَسْتَ ﴾ خمس قراءات يختلف تأويلها بحسب اختلافها :
إحداهن :﴿ دَرَسْتَ ﴾ بمعنى قرأت وتعلمت، تقول ذلك قريش للنبي صلى الله عليه وسلم، قاله ابن عباس، والضحاك، وهي قراءة حمزة، والكسائي.
والثانية :﴿ دَارَسْتَ ﴾ بمعنى ذاكرت وقارأت، قاله مجاهد، وسعيد بن جبير، ومروي عن ابن عباس، وهي قراءة ابن كثير، وأبي عمرو.
وفيها على هذه القراءة تأويل ثان، أنها بمعنى خاصمت وجادلت.
والثالثة :﴿ دَرَسَتْ ﴾ بتسكين التاء بمعنى انمحت وتقادمت، قاله ابن الزبير، والحسن، وهي قراءة ابن عامر.
والرابعة :﴿ دُرِسَتْ ﴾ بضم الدال لما لم يسم فاعله تليت وقرئت، قاله قتادة.
والخامسة :﴿ دَرَسَ ﴾ بمعنى قرأ النبي صلى الله عليه وسلم وتلا، وهذا حرف أبي بن كعب، وابن مسعود.
﴿ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْْلَمُونَ ﴾ يحتمل وجهين :
أحدهما : لقوم يعقلون.
والثاني : يعلمون وجوه البيان وإن لم يعلموا المبين.
أحدهما : لا تسبوا الأصنام فتسب عبدة الأصنام من يسبها، قاله السدي.
والثاني : لا تسبوها فيحملهم الغيظ والجهل على أن يسبوا من تعبدون كما سَبَبْتم ما يعبدون.
﴿ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ﴾ فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : كما زينا لكم فعل ما أمرناكم به من الطاعات كذلك زينا لمن تقدمكم من المؤمنين فعل ما أمرناهم به من الطاعات، قاله الحسن.
والثاني : كذلك شبهنا لكل أهل دين عملهم بالشبهات ابتلاء لهم حتى قادهم الهوى إليها وعَمُوا عن الرشد فيها.
والثالث : كما أوضحنا لكم الحجج الدالة على الحق كذلك أوضحنا لمن قبلكم من حجج الحق مثل ما أوضحنا لكم.
أحدها : أنها عقوبة من الله في الآخرة يقلبها في النار.
والثاني : في الدنيا بالحيرة حتى يزعج النفس ويغمها.
والثالث : معناه أننا نحيط بذات الصدور وخائنة الأعين منهم١.
وفي قوله :﴿ أَوَّلَ مَرَّةٍ ﴾ تأويلان :
أحدهما : أول مرة جاءتهم الآيات.
والثاني : أن الأول أحوالهم في الدنيا كلها، ثم أكد الله تعالى حال عنتهم.
(ترى السفيه به عن كل محكمة | زيغ وفيه إلى التشبيه إصغاء) |
ترى السفيه به عن كل محكمة | زيغ وفيه إلى التشبيه إصغاء |
﴿ وَلِيَرْضَوْهُ ﴾ لأن من مَالَ قلبه إلى شيء رضيه وإن لم يكن مرضياً.
﴿ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مقْتَرِفُونَ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : وليكتسبوا من الشرك والمعاصي ما هم مكتسبون، قاله جويبر.
والثاني : وليكذبوا على الله ورسوله ما هم كاذبون، وهو محتمل١.
أحدها : تمام حُجَجِهِ ودلائله.
والثاني : تمام أحكامه وأوامره.
والثالث : تمام إنذاره بالوعد والوعيد.
والرابع : تمام كلامه واستكمال صوره.
وفي قوله :﴿ صِدْقاً وَعَدْلاً ﴾ وجهان :
أحدهما : صدقاً في وعده ووعيده، وعدلاً في أمره ونهيه، قاله ابن بحر.
والثاني : صدقاً فيما حكاه، عدلاً فيما قضاه، وهو معنى قول قتادة.
وقد مضى تفسير ﴿ لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ ﴾.
أحدها : سره وعلانيته، قاله مجاهد، وقتادة.
والثاني : ظاهر الإثم : ما حرم من نكاح ذوات المحارم بقوله تعالى :﴿ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتكُمْ١. . . ﴾ الآية. وباطنه الزِّنى، قاله سعيد بن جبير.
والثالث : أن ظاهر الإثم أُوْلاَت الرايات من الزواني٢، والباطن ذوات الأخدان، لأنهن كُنَّ يستحلونه سراً، قاله السدي، والضحاك.
والرابع : أن ظاهر الإثم العِرية التي كانوا يعملون بها حين يطوفون بالبيت عراة، وباطنه الزِّنى، قاله ابن زيد.
ويحتمل خامساً : أن ظاهر الإثم ما يفعله بالجوارح، وباطنه ما يعتقده بالقلب.
٢ - المراد بأولات الرايات: النساء المجاهرات بالزنا كانت الواحدة منهن ترفع فوق بيتها راية في الجاهلية كي تعرف ويأتيها الرجال..
(وفي الجهل قبل الموت لأهله | فأجسامهم قبل القبور قبور) |
(وإن امرءا لم يحيى بالعلم ميت | فليس له حتى النشور نشور) |
﴿ قَالُوا لَن نُّؤْمِنَ ﴾ يحتمل وجهين :
أحدهما : لن نؤمن بالآية.
والثاني : لن نؤمن بالنبي صلى الله عليه وسلم.
﴿ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَآ أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ ﴾ يحتمل وجهين :
أحدهما : مثل ما أوتي رسل الله من الكرامة.
الثاني : مثل ما أوتوا من النبوة١.
﴿ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ﴾ قصد بذلك أمرين :
أحدهما : تفرد الله تعالى بعلم المصلحة فيمن يستحق الرسالة.
والثاني : الرد عليهم في سؤال ما لا يستحقونه، والمنع مما لا يجوز أن يسألوه.
﴿ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ ﴾ الصَّغَار : الذل سمي صَغَاراً لأنه يصغر إلى الإنسان نفسه.
وفي قوله :﴿ عِنْدَ اللَّهِ ﴾ ثلاثة أوجه :
أحدها : من عند الله، فحذف " من " إيجازاً.
والثاني : أن أنفتهم من اتباع الحق صغَار عند الله وذل إن كان عندهم تكبراً وعزاً، قاله الفراء.
والثالث : صغَار في الآخرة، قاله الزجاج.
(شحنا أرضهم بالخيل حتى | تركناهم أذل من الصراط) |
أحدهما : لأنها دار السلامة الدائمة من كل آفة، قاله الزجاج.
والثاني : أن السلام هو الله، والجنة داره، فلذلك سُمِّيَتْ دار السلام، وهذا معنى قول الحسن، والسدي.
وفي قوله :﴿ عِندَ رَبِّهِمْ ﴾ وجهان :
أحدهما : أن دار السلام عند ربهم في الآخرة لأنها أخص به.
والثاني : معناه أن لهم عن ربهم أن ينزلهم دار السلام.
﴿ وهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ يحتمل وجهين :
أحدهما : وهو ناصرهم في الدنيا على إيمانهم.
والثاني : وهو المتولِّي لثوابهم في الآخرة على أعمالهم١.
(لقد كان في حول ثواءً ثويته | تقضي لبانات وتسأم سائم) |
(قبت مرتفقاً والعين ساهرة | كأن نومي عليَّ الليل محجور) |
(أورثني حمولة وفرشا | أمشّها في كل يوم مشّا) |
(وحوينا الفرش من أنعامكم | والحمولات وربات الحجل) |
أحدها : أن الحمولة كبار الإبل التي يُحْمَلُ عليها، والفرش صغارها التي لا يحمل عليها، مأخوذ من افتراش الأرض بها على الاستواء كالفرش.
وقال ابن بحر الافتراش الإضجاع للنحر، فتكون الحمولة كبارها، والفرش صغارها١، قال الراجز :
أورثني حمولة وفرشا *** أمشّها في كل يوم مشّا
أي أمسحها٢، قاله ابن مسعود، والحسن، ومجاهد.
والثاني : أن الحَمُولة ما حُمِلَ عليه من الإبل والبقر، والفرش : الغنم، قاله ابن عباس، وقتادة، ومنه قول ابن مسلمة :
وحوينا الفرش من أنعامكم *** والحمولات وربات الحجل
والثالث :٣أن الحملة ما حمل من الإبل، والبقر، والخيل، والبغال، الحمير، والفرش ما خلق لهم من أصوافها وجلودها.
﴿ كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ ﴾ يحتمل وجهين :
أحدهما : من الحمولة ليبين أن الانتفاع بظهرها لا يمنع من جواز أكلها.
والثاني : أنه إذن منه في عموم أكل المباح من أموالهم، ونهى عن أكل ما لا يملكونه.
﴿ وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ﴾ فيها قولان :
أحدهما : أنها طريقه التي يدعوكم إليها من كفر وضلال.
والثاني : أنها تخطيه إلى تحريم الحلال وتحريم الحرام٤، وقد ذكرنا ما في ذلك من زيادة التأول ومن الاحتمال، وأنه الانتقال من معصية إلى أخرى حتى يستوعب جميع المعاصي، مأخوذ من خطو القدم : انتقالها من مكان إلى مكان.
﴿ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ ﴾ فيه قولان :
أحدهما : أنه ما بان لكم من عداوته لأبيكم آدم.
والثاني : ما بان٥ لكم من عداوته لأوليائه من الشياطين، قاله الحسن.
٢ - أراد أن معنى أمشها: امسحها والمعنى صحيح إلا أن السياق يقتضي معنى آخر من معاني الكلمة وهو: أحلبها حلبا..
٣ - في ك والرابع وهو سهو، وقد سقط هذا القول من ق..
٤ - سقط من ق..
٥ - هذه العبارة وردت هكذا في ك. وقد سقطت من ق..
(من كل محفوف يظل عصيه | زوج عليه كلة وقرامها) |
حكى أبو صالح عن ابن عباس أن هذه الآية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أتاه عوف بن مالك، فقال له : أَحَلَّلتَ ما حرمه أباؤنا، يعني من البحيرة، والسائبة، والوصيلة، والحام، فأنزل الله تعالى هذه الآية، وقال :﴿ ءَآلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنثَيَيْنِ ﴾ فسكت عوف لظهور الحجة عليه.
(إني وجدَّك ما هجوتك والأن... صاب يسفح فوقهن دم)
فأما الدم غير مسفوح فإن كان ذا عروق يجمد عليها كالكبد والطحال فهو حلال
والتلاوة : هي القراءة، والفرق بين التلاوة١ والمتلو، والقراءة والمقروء أن التلاوة والقراءة للمرة الأولى، والمتلو والمقروء للثانية وما بعدها، ذكره علي بن عيسى، والذي أراه من الفرق بينهما أن التلاوة والقراءة يتناول اللفظ، والمتلو والمقروء يتناول الملفوظ.
ثم إن الله أخذ فيا حرم فقال :﴿ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً ﴾ يحتمل ثلاثة أوجه :
أحدها : ألا تشركوا بعبادته عبادة غيره من شيطان أو وثن.
والثالث٢ : أن يحمل الأمرين معاً.
ثم قال :﴿ وَبَالوَالِدَينَ إِحْسَاناً ﴾ تقديره : وأوصيكم بالوالدين إحساناً، والإحسان تأدية حقوقهما ومجانبة عقوقهما والمحافظة على برهما.
﴿ وَلاَ تَقْتُلُوْا أَوْلاَدَكُمْ منْ إِمْلاَقٍ نحْنُ نَرْزُقَكُمْ وَإِيَّاهُمْ ﴾ وذلك أنهم كانوا في الجاهلية يقتلون أولادهم خشية الإملاق.
وفي الإملاق قولان :
أحدهما : أنه الإفلاس، ومنه الملق لأنه اجتهاد المفلس في التقريب إلى الغنى طمعاً في تأجيله.
والثاني : أن الإملاق٣ ومعناهما قريب وإن كان بينهما فرق، وهذا قول ابن عباس، وقتادة، والسدي، والضحاك، وابن جريج.
ثم ذكر فساد اعتقادهم في الإملاق بأن قال :﴿ نحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ ﴾ لأن رزق العباد كلهم، من كفيل ومكفول، على خالقهم.
ثم قال :﴿ وَلاَ تَقْرَبُوا الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ ﴾ وفيها أربعة تأويلات :
أحدها : أن ذلك عام في جميع الفواحش سرها وعلانيتها، قاله قتادة.
والثاني : أنه خاص في الزنى، ما ظهر منها : ذوات الحوانيت، وما بطن : ذوات الاستسرار، قاله ابن عباس، والحسن، والسدي.
والثالث : ما ظهر منها : نكاح المحرمات، وما بطن : الزنى، قاله مجاهد، وابن جبير.
والرابع : أن ما ظهر منها : الخمر، وما بطن منها : الزنى، قاله الضحاك.
وقد ذكرنا فيه احتمال تأويل خامس : أن ما ظهر منها أفعال الجوارح، وما بطن منها اعتقاد القلوب.
ثم قال :﴿ وَلاَ تَقْتُلُوا النَّفْسَ التِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالحَقِّ ﴾ والنفوس المحرمة : نفس مسلم، أو معاهد، والحق الذي تقتل به النفس ما بيَّنه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله :" لاَ يَحِلُّ دَمُ امْرِىءٍ مُسْلِمٍ إِلاَّ بِإِحْدَى ثَلاَثٍ : كُفْرٌ بَعْدَ إِيمَانٍ، أَوْ زِنًى بَعْدَ إِحْصَانٍ، أَوْ قَتْلُ نَفْسٍ بِغَيْرِ نَفْسٍ ".
ثم قال :﴿ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ ﴾ يعني أن الله وصى عباده بذلك، ووصية الله واجبة.
ثم قال :﴿ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾ يحتمل وجهين :
أحدهما : تعقلون تحريم ذلك عليكم وتعلمونه.
والثاني : تعملون عمل من يعقل وهو ترك ما أوجب العقاب من هذه المحرمات.
٢ - هكذا بالأصول وقد سقط القول الثاني..
٣ - بياض بالأصل، والإملاق لفظ مشترك ومن معانيه: الفقر، الجوع، الإنفاق، والملق" أن يعطي المرء بلسانه ما ليس في قلبه.
وقال كعب الأحبار: هذه الآية مفتتح التوراة وتقدم النقل عن كعب أن أول الأنعام مفتتح التوراة، فأي النقلين أصح؟.
أحدهما : القرآن.
والثاني١ : الشرع وسُمِّيَ ذلك صراطاً، والصراط هو الطريق لأنه يؤدي إلى الجنة فصار طريقاً إليها.
﴿ فَاتَّبِعُوهُ ﴾ يعني في العمل به.
﴿ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ ﴾ فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : ما تقدم من الكتب المنزلة نسخها بالقرآن، وهو محتمل.
والثاني : ما تقدم من الأديان المتقدمة نسخها بالإسلام وهو محتمل.
والثالث٢ : البدع والشبهات.
﴿ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ﴾ يعني عن طريق دينه.
ويحتمل وجهاً ثانياً : أن يكون سبيله نصرة دينه وجهاد أعدائه، فنهى عن التفرق وأمر بالاجتماع٣.
٢ - سقط من ق..
٣ - سقط من ق..
أحدهما : هل ينتظرون إلا أن تأتيهم الملائكة رسلاً، يعني الكفار الذين يتوقفون عن الإيمان مع ظهور الدلائل.
والثاني : هل ينظرون يعني في حُجَج الله ودلائله إلا أن تأتيهم الملائكة لقبض أرواحهم، قاله جويبر١.
﴿ أَوْ يَاتِيَ رَبُّكَ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : أمر ربك بالعذاب، قاله الحسن.
والثاني : قضاء ربك في القيامة، قاله مجاهد.
﴿ أَوْ يَاتِيَ بَعْضُ ءَايَاتِ رَبِّكَ ﴾ فيه قولان :
أحدهما : أنه طلوع الشمس من مغربها، قاله مجاهد، وقتادة، والسدي، قال ابن مسعود : مع القمر في وقت واحد وقرأ :
﴿ وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالقَمَرُ ﴾
[ القيامة : ٩ ].
والثاني : طلوع الشمس من مغربها، والدجال، ودابة الأرض، قاله أبو هريرة.
﴿ يَوْمَ يَاتِي بَعْضُ ءَايَاتِ رَبِّكَ. . . ﴾ في أول آيات الساعة وآخرها قولان :
أحدهما : أن أولها الدجال، ثم الدخان، ثم يأجوج ومأجوج، ثم الدابة، ثم طلوع الشمس من مغربها، ﴿ لاَ يَنْفَعُ نَفْسَاً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ ءَامَنَتْ مِِن قَبْلُ ﴾ هذا قول معاذ بن جبل.
والثاني : أن أولها خروج الدجال، ثم خروج يأجوج ومأجوج، ثم طلوع الشمس من مغربها ﴿ لاَ يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ ءَامَنَتْ مَن قَبْلُ ﴾ ثم خروج الدابة، وهذا قول حذيفة بن اليمان ورواه مرفوعاً.
ثم اختلفوا في ألا ينفعها إيمانها بظهور أول الآيات أو بظهور آخرها على قولين :
أحدهما : إذا خرج أول الآيات، طرحت الأقلام، وجلست الحفظة، وشهدت الأجساد على الأعمال.
والقول الثاني : أن ذلك يكون بخروج آخر الآيات ليكون لنا فيها أثر في الإنذار٢.
ثم قال :﴿ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيَمَانِهَا خَيْراً ﴾ أما إيمانها قبل هذه الآيات فمُعْتَدٌّ به، وأما بعدها فإن لم تكسب فيه خيراً لم يُعْتَدّ به، وإن كسبت فيه خيراً ففي الاعتداد به قولان :
أحدهما : يُعْتَدُّ به، وهو ظاهر الآية أن يكون قبل الآيات أو بعده.
والثاني : لا يُعْتَدُّ به، ويكون معناه : لم تكن آمنت من قبل وكسبت في إيمانها خيراً، وهذا قول السدي.
وفي الخير الذي تكسبه وجهان :
أحدهما : تأدية الفروض على أكمل أحوالها.
والثاني : التطوع بالنوافل بعد الفروض.
روى مجاهد عن عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" بَابُ التَّوْبَةِ مَفْتُوحُ مِن قِبَلِ المَغْرِبِ٣، فَالتَّوْبَةُ مَقْبَولَةٌ إِلاَّ مِنْ ثَلاَثَةٍ : مِنْ إِبْلِيس رَاسِ الكُفْرِ، وَمِنْ قَابِيل قَاتِلِ هَابِيلَ، وَمَنْ قَتَلَ نَبِيَّا لاَ تَوْبَةَ لَهُ، فَإِذَا طَلَعَت الشَّمْسُ مِن ذَلِكَ البَابِ كَالعَكَرِ الأَسْوَدِ لاَ نَورَ لَهَا حَتَّى تَتَوَسَّطَ السَّماءَ ثُمَّ تَرْجِعُ فِيُغْلَقُ البَابُ وَتُرَدُّ التَّوبَةُ فَلاَ يَنْفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُن ءَامَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيراً، ثُمَّ تَرْجِعُ إِلَى مَشَارِقَهَا، فَتَطْلُعُ بَعْدَ ذلِكَ عِشْرِينَ وَمِائَة سَنَة إِلاَّ أَنَّهَا سُنُونَ تَمُرُّ مَراً " ٤.
٢ - من قوله "في أول آيات الساعة" إلى هنا سقط من ق..
٣ - أي من جهة الغرب حيث ستطلع الشمس قبل القيامة..
٤ - سقط من ق..
(إذا حاولت في أسد فجوراً | فإني لست منك ولست مني.) |
(تصيبكم وتخطئى المنايا | وأخلق في ربوع عن ربوع) |
مكية كلها في قول الحسن، وعطاء، وعكرمة، وجابر، وقال ابن عباس، وقتادة: مكية إلا خمس آيات وهي قوله: ﴿واسألهم عن القربة﴾ [الأعراف: ١٦٣] إلى آخر الخمس. بسم الله الرحمن الرحيم
أحدها : أنه جعلهم خلفاً من الجان سكاناً للأرض، قاله ابن عباس.
والثاني : أن أهل كل عصر يخلف أهل العصر الذي قبله، كلما مضى أهل عصر خلفه أهل عصر بعده على انتظام، حتى تقوم الساعة على العصر الأخير فلا يخلق عصر، فصارت هذه الأمة خلفاً للأمم الماضية.
والثالث : جعل بعضهم خليفة لبعض ليتآلفوا بالتعاون.
والرابع : لأنهم آخر الأمم وكانوا خلفاً لمن تقدمهم، قال الشماخ :
تصيبكم وتخطئني المنايا | وأخلف في ربوع عن ربوع |
وقد نبه على ذلك بقوله :﴿ لِيَبْلُوَكُمْ فِيمَا ءَاتَاكُمْ ﴾ يعني من الغنى والقوة وفيه وجهان :
أحدهما : ليختبركم بالاعتراف١.
﴿ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ العِقَابِ ﴾ فإن قيل : فكيف جعله سريعاً وهو في الآخرة ؟ فعنه ثلاثة أجوبة :
أحدها : أن كل آت قريب، كقوله :
﴿ وَمَا أَمْرُ السَّاعِةِ إِلاَّ كَلَمْحِ البَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ ﴾
[ النحل : ٧٧ ].
والثاني : أن ربك سريع العقاب في الدنيا لمن استحق منه تعجيل العقاب فيها.
والثالث : أنه إذا شاء عاقب، فصار عقابه سريعاً لأنه يقترن بمشيئته، وهذا قول ابن بحر.
﴿ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ جمعاً منه بين ما يقتضي الرهبة من سرعة العقاب وبين ما يقتضي الرغبة من الغفران والرحمة، لأن الجمع بين الرغبة والرهبة أبلغ في الانقياد إلى الطاعة والإقلاع عن المعصية، والله عز وجل أعلم٢.
٢ - في ك " إلى هنا انتهى الربع الأول من تفسير القاضي الماوردي" أما في ق فقد قال: "تم الجزء الأول بحمد الله ومنه ويتلوه في الجزء الثاني سورة الأعراف والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله أجمعين"..
سورة الأنعام
لم تَحْتَوِ سورةُ (الأنعام) على كثيرٍ من الأحكام الشَّرعية كأخواتِها من السُّوَر الطِّوال؛ بل اهتمَّت بتحقيقِ مقصدٍ عظيم؛ وهو (توحيدُ الألوهية، وتثبيتُ مسائلِ العقيدة)، وكما قال أبو إسحاقَ الأَسْفَرَائينيُّ: «في سورةِ الأنعام كلُّ قواعدِ التوحيد»؛ فقد رسَمتِ السورةُ معالمَ على طريق الهداية، ذاكرةً قصَّةَ إبراهيمَ في البحث عن الحنيفيَّةِ الخالصة بما حَوَتْهُ من حُجَجٍ عقلية، وبراهينَ قاطعة؛ فعنايةُ السورة بالعقيدة كانت واضحةً جليَّة؛ لكي يُحقِّقَ العبدُ ما افتُتحت به السورةُ: {اْلْحَمْدُ لِلَّهِ اْلَّذِي خَلَقَ اْلسَّمَٰوَٰتِ وَاْلْأَرْضَ} [الأنعام: 1].
ترتيبها المصحفي
6نوعها
مكيةألفاظها
3055ترتيب نزولها
55العد المدني الأول
167العد المدني الأخير
167العد البصري
166العد الكوفي
165العد الشامي
166* قوله تعالى: ﴿وَلَا تَطْرُدِ اْلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِاْلْغَدَوٰةِ وَاْلْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُۥۖ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٖ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٖ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ اْلظَّٰلِمِينَ﴾ [الأنعام: 52]:
عن سعدِ بن أبي وقَّاصٍ رضي الله عنه، قال: «فِيَّ نزَلتْ: ﴿وَلَا تَطْرُدِ اْلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِاْلْغَدَوٰةِ وَاْلْعَشِيِّ﴾ [الأنعام: 52].
قال: نزَلتْ في ستَّةٍ؛ أنا وابنُ مسعودٍ منهم، وكان المشركون قالوا له: تُدْني هؤلاء؟!».
وفي روايةٍ: «كنَّا مع النبيِّ ﷺ في ستَّةِ نفَرٍ، فقال المشركون للنبيِّ ﷺ: اطرُدْ هؤلاء؛ لا يَجترِئون علينا!
قال: وكنتُ أنا وابنُ مسعودٍ ورجُلٌ مِن هُذَيلٍ وبلالٌ ورجُلانِ لستُ أُسمِّيهما، فوقَعَ في نفسِ رسولِ اللهِ ﷺ ما شاءَ أن يقَعَ، فحدَّثَ نفسَهُ؛ فأنزَلَ اللهُ: ﴿وَلَا تَطْرُدِ اْلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِاْلْغَدَوٰةِ وَاْلْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُۥۖ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٖ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٖ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ اْلظَّٰلِمِينَ﴾ [الأنعام: 52]». أخرجه مسلم (٢٤١٣).
* قوله تعالى: ﴿وَلَا تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اْسْمُ اْللَّهِ عَلَيْهِ﴾ [الأنعام: 121]:
عن عبدِ اللهِ بن عباسٍ رضي الله عنهما، قال: «جاءت اليهودُ إلى النبيِّ ﷺ، فقالوا: نأكلُ ممَّا قتَلْنا، ولا نأكلُ ممَّا قتَلَ اللهُ؟ فأنزَلَ اللهُ: ﴿وَلَا تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اْسْمُ اْللَّهِ عَلَيْهِ﴾ [الأنعام: 121] إلى آخِرِ الآيةِ». أخرجه أبو داود (٢٨١٩).
* قوله تعالى: ﴿مَن جَآءَ بِاْلْحَسَنَةِ فَلَهُۥ عَشْرُ أَمْثَالِهَاۖ﴾ [الأنعام: 160]:
صحَّ عن أبي ذَرٍّ الغِفَاريِّ رضي الله عنه أنه قال: قال رسولُ اللهِ ﷺ: «مَن صامَ ثلاثةَ أيَّامٍ مِن كلِّ شهرٍ، فذلك صيامُ الدَّهْرِ؛ فأنزَلَ اللهُ تصديقَ ذلك في كتابِهِ: ﴿مَن جَآءَ بِاْلْحَسَنَةِ فَلَهُۥ عَشْرُ أَمْثَالِهَاۖ﴾ [الأنعام: 160]؛ فاليومُ بعشَرةِ أيَّامٍ». أخرجه الترمذي (٧٦٢).
سُمِّيتْ سورةُ (الأنعام) بذلك؛ لأنَّها السورةُ التي عرَضتْ لذِكْرِ (الأنعام) على تفصيلٍ لم يَرِدْ في غيرها من السُّوَر.
* جاء في فضلِ سورة (الأنعام): أنَّها نزَلتْ وحولها سبعون ألفَ مَلَكٍ يُسبِّحون:
دلَّ على ذلك ما رواه ابنُ عبَّاسٍ رضي الله عنهما، قال: «نزَلتْ سورةُ الأنعامِ بمكَّةَ ليلًا جُمْلةً، حولَها سبعون ألفَ مَلَكٍ، يَجأرون حولها بالتَّسْبيحِ». "فضائل القرآن" للقاسم بن سلَّام (ص240)، وصحَّح إسنادَه أحمد شاكر في "عمدة التفسير" (1/761).
وقريبٌ منه ما جاء عن أنسِ بن مالكٍ رضي الله عنه، قال: «نزَلتْ سورةُ الأنعامِ على النَّبيِّ ﷺ ومعها مَوكِبٌ مِن الملائكةِ سَدَّ ما بين الخافِقَينِ، لهم زَجَلٌ بالتَّسْبيحِ والتَّقْديسِ، والأرضُ تَرتَجُّ، ورسولُ اللهِ ﷺ يقولُ: سُبْحانَ اللهِ العظيمِ، سُبْحانَ اللهِ العظيمِ». "المعجم الأوسط" للطبراني (٦٤٤٧).
اشتمَلتِ السُّورةُ على عِدَّة موضوعات جاءت مُرتَّبةً كالآتي:
الاستفتاح بالحمد، وخَلْق الإنسان وبَعْثه (١-٣).
إعراض المشركين (٤-١١).
مع الله حُجَج بالغة (١٢-٢٠).
في موقف الحشر (٢٢-٣٢).
تسليةٌ وتثبيت (٣٣-٣٥).
لماذا الإعراض؟ (٣٦-٤١).
سُنَنٌ ربانية (٤٢-٤٧).
مهمة الرسل عليهم السلام (٤٨- ٥٨).
مفاتيح الغيب (٥٩-٦٧).
تجنُّب مجال الخائضين (٦٨-٧٠).
معالمُ على طريق الهداية (٧١-٧٣).
قصة إبراهيمَ عليه السلام (٧٤-٩٠).
الاحتجاج على منكِري البعث (٩١-٩٤).
من دلائلِ القدرة (٩٥-٩٩).
الرد على مزاعمِ المشركين، وتقرير العقيدة (١٠٠-١٠٥).
منهج التعامل مع المشركين (١٠٦-١٠٨).
تعنُّتٌ وإصرار (١٠٩-١١١).
الإعلام المضلِّل وموقف الإسلام منه (١١٢-١١٤).
قواعدُ وأصول في العقيدة والدعوة (١١٥-١١٧).
قواعد وأصول في التحليل والتحريم (١١٨-١٢١).
من مظاهرِ الصُّدود وأسبابه (١٢٢-١٢٦).
وعدٌ ووعيد (١٢٧-١٣٥).
من جهالات المشركين (١٣٦-١٤٠).
حُجَجٌ باهرة، ونِعَمٌ ظاهرة (١٤١-١٥٠).
الوصايا العَشْرُ (١٥١-١٥٣).
من مشكاةٍ واحدة (١٥٤-١٥٧).
وماذا بعد الحُجَج؟ (١٥٨-١٦٥).
ينظر: "التفسير الموضوعي للقرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (2 /393).
أُقيمت هذه السُّورةُ على مقصدٍ عظيمٍ جدًّا؛ ألا وهو (تحقيق التَّوحيد)؛ وذلك بإشعار الناس بأنَّ حقَّ الحمد ليس إلا للهِ؛ لأنَّه مُبدِعُ العوالِمِ: جواهرَ وأعراضًا؛ فعُلِم أنه المتفرِّدُ بالإلهيَّة، وأنَّ الأصنامَ والجِنَّ تأثيرُها باطلٌ؛ فالذي خلَق الإنسانَ ونظامَ حياته وموته بحِكْمته هو المستحِقُّ لوصفِ الإلهِ المتصرِّف. وجاءت السورةُ بتنزيه اللهِ عن الولَدِ والصاحبة، وكما قال أبو إسحاقَ الأَسْفَرَائينيُّ: «في سورةِ الأنعامِ كلُّ قواعدِ التوحيد». واشتمَلتِ السورةُ على موعظة المُعرِضين عن آياتِ القرآن والمكذِّبين بالدِّين الحقِّ، وتهديدِهم بأن يحُلَّ بهم ما حَلَّ بالقرونِ المكذِّبين من قبلِهم والكافرين بنِعَمِ الله تعالى، وأنَّهم ما يضُرُّون بالإنكارِ إلا أنفسهم، ووعيدِهم بما سيَلقَون عند نزعِ أرواحهم، ثم عند البعثِ.
ينظر: "التحرير والتنوير" لابن عاشور (7 /123).