تفسير سورة الفيل

تفسير أبي السعود

تفسير سورة سورة الفيل من كتاب إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم المعروف بـتفسير أبي السعود.
لمؤلفه أبو السعود . المتوفي سنة 982 هـ
مكية، وآيها خمس.

﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بأصحاب الفيل﴾ الخطابُ لرسول الله ﷺ والهمزةُ لتقريرِ رؤيتِه عليهِ الصلاةُ والسلامُ بإنكارِ عَدَمِها وكيفَ معلقةٌ لفعلِ الرؤيةِ منصوبةٌ بما بعدَهَا والرؤيةُ عِلْميةٌ أيْ ألمْ تعلْم علماً رصيناً متاخماً للمشاهدةِ والعَيَانِ باستماعِ الأخبارِ المتواترةِ ومعاينةِ الآثارِ الظَّاهرةِ وَتعليقُ الرؤيةِ بكيفيةِ فعلِه عَزَّ وَجَلَّ لاَ بنفسِه بأَنْ يقالَ ألْم ترَ ما فعلَ ربُّكَ الخ لتهويلِ الحادثةِ والإيذانِ بوقوعِها عَلَى كيفيةٍ هائلةٍ وهيئةٍ عجيبةٍ دالةٍ عَلَى عظمِ قُدرةِ الله تعالَى وكمالِ علمِه وحكمتِه وعزةِ بيتِه وشرفِ رسوله ﷺ فإنَّ ذلكَ منَ الإرهاصاتِ لما رُوي أنَّ القصةَ وقعتْ في السنةِ التي ولد فيها النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم وتفصيلُها أنَّ أبرهةَ بْنَ الصبَّاحِ الأشرمَ ملكَ اليمنِ مِنْ قبلِ أصحمةَ النجاشيِّ بنَى بصنعاءَ كنيسةً وسَمَّاها القُلَّيْسَ وأرادَ أنْ يصرفَ إليها الحاجَّ فخرجَ رجلٌ منْ كِنانةَ فقعدَ فيهَا ليلاً فأغضَبهُ ذلكَ وقيلَ أججتْ رفقةٌ منَ العربِ ناراً فحملتها الريحْ فأحرقتَها فحلف ليهد الكعبةَ فخرجَ معَ جيشِه ومعه فيلٌ له اسُمه محمودٌ وكانَ قوياً عظيماً وإثنا عشرَ فيلاً غيرهُ وقيلَ ثمانيةٌ وقيل ألفٌ وقيلَ كانَ معه وَحْدَهُ فلما بلغَ المُغمَّسَ خرجَ إليه عبدُ المطلبِ وعرضَ عليه ثلثَ أموالِ تهامةَ ليرجعَ فأبىَ وعبَّأَ جيشَهُ وقدَّمَ الفيلُ فكانَ كلمَا وجهوه إلى الحرمِ بركَ ولم يبرحْ وإذا وجهوه إلى اليمنِ أو إلى غيرِه من الجهاتِ هرولَ فأرسلَ الله تعالَى طيراً سُوداً وقيلَ خُضراً وقيل بيضَاً مع كُلِّ طائرٍ حجرٌ في منقارِه وحجرانِ في رجليهِ أكبرُ من العدسةِ وأصغرُ من الحِمُصَةِ فكان الحجر يلقى عَلى رأسِ الرجلِ فيخرجُ من دُبُرهِ وعلى كُلِّ حجرٍ اسمُ منْ يقعُ عليهِ ففروا فهلكُوا في كلِّ طريقٍ ومنهلٍ ورويَ أنَّ أبرهةَ تساقطتْ أناملُه وآرابُه وما ماتَ حتى انصدر صدْرُهُ عن قلبهِ وانفلتَ وزيرُهُ أبو يكسومَ وطائرٌ يُحلِّقُ فوقَهُ حتى بلغَ النجاشيِّ فقصَّ عليهِ القصةَ فلما أتمَّها وقعَ عليهِ الحجرُ فخرَّ ميتاً بينَ يديِه وقيلَ إنَّ أبرهةَ أخذَ لعبدِ المطلبِ مائتي بعيرٍ فخرجَ إليهِ في شأنِها فلما رآه أبرهةُ عظُمَ في عينِه وكانَ رجُلاً وَسيماً جَسيماً وقيلَ هذا سَيِّدُ قُريشٍ وصاحبُ عِيرِ مكةَ الذي يطعمُ الناسَ في السهلِ والوحوشَ في رؤوسِ الجبالِ فنزلَ أبرهةُ عن سريرهِ وجلسَ عَلَى بساطِه وقيل أجلَسه مَعَهُ على سريرِه ثم قالَ لترجمانِه قُلْ لَهُ ما حاجتُكَ فلما ذكرَ حاجتَهُ قالَ سقطتَ مِنْ عَينِي حيثُ جئتُ لأهدمَ البيتَ الذي هُوَ دينُكَ ودينُ
200
آبائِك وعصمتُكم وشرفُكم في قديمِ الدهرِ لا تكلمِني فيهِ ألهاكَ عنْهُ ذَودٌ أخذتُ لكَ فقالَ عبدُ المطلبِ أنا ربُّ الإبلِ وإن للبيت رباً يحميِه ثم رجعَ وأتىَ بابَ الكعبةِ فأخذَ بحلقتِه ومعهَ نفرٌ من قريشٍ يدعونَ الله عَزَّ وجَلَّ فالتفتَ وهو يدعُو فإذا هو بطيرٍ منْ نحوِ اليمنِ فقالَ والله إنها لطيرٌ غريبةٌ مَا هيَ نجديةٌ ولا تهاميةٌ فأرسلَ حلقةَ البابِ ثمَّ انطلقَ معَ أصحابِه ينتظرونَ ماذَا يفعلُ أبرهةُ فأرسلَ الله تعالَى عليهُم الطيرَ فكانَ ما كانَ وقيلَ كانَ أَبْرهةُ جَدَّ النجاشيِّ الذي كانَ في زمنِ النبيِّ ﷺ وعنْ عائشةَ رضيَ الله عَنْهَا قالتْ رأيتُ قائدَ الفيلِ وسائسَه أعميينِ مُقعدينِ يستطعمان وقُرِىءَ أَلم تَرْ بسكونِ الراءِ للجدِّ في إظهارِ أثرِ الجازمِ وقولُه تعالَى
201
﴿أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِى تَضْلِيلٍ﴾ الخ بَيَانٌ إِجْمَاليٌ لمَا فعلَه الله تَعَالى بهمْ وَالهْمزةُ للتقريرِ كَما سبقَ ولذلكَ عطفٌ عَلَى الجملةِ الاستفهاميةِ ما بعدَهَا كأنَّه قيلَ قدْ جعلَ كيدَهُم في تعطيلِ الكعبةِ وتخريبِها في تضييعٍ وإبطالٍ بأنْ دمَّرهُم أشنعَ تدميرٍ
﴿وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ﴾ أَيْ طوائفَ وجماعاتٍ جمعُ أبالةٍ وهيَ الحزمةُ الكبيرةُ شُبهتْ بَها الجماعةُ من الطيرِ في تضامِّها وقيلَ أبابيلَ مثلُ عبابيدَ وشماطيطَ لا واحدَ لهَا
﴿ترميهم بحجارة﴾ صفة لطير وقُرِىءَ يَرْميهِمْ بالتذكيرِ لأنَّ الطير اسم جمع تأنيثه باعتبارِ المَعْنَى ﴿مّن سِجّيلٍ﴾ من طينٍ مُتحجرٍ مُعَرَّبُ سَنْك كِلْ وقيلَ كأنهُ عَلمٌ للديوانِ الذي كتبَ فيهِ عذابُ الكفارِ كما أنَّ سجيناً علمٌ للديوانِ الذي يكتبُ فيه أعمالُهم كأنَّه قيلَ بحجارةٍ من جملةِ العذابِ المكتوبِ المدونِ وَاشتقاقُه منَ الإسجالِ وهُوَ الإرسالُ
﴿فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولِ﴾ كورقِ زرع فيهِ الأكالُ وهُوَ أنْ يأكلُه الدودُ أوْ أكلَ حبُّه فبقَي صِفراً منْهُ أوْ كتبنٍ أكلتْهُ الدوابُّ وَرَاثتْهُ أشيرَ إليهِ بأولِّ أحواله عنِ النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلَّم مَنْ قرأَ سورةَ الفيلِ أعفاهُ الله تعالَى أيامُ حياتِهِ منَ الخسفِ والمسخِ وَالله أعلمُ
201
} ٠٦ سورة قريش مكية وآيها أربع

بسم الله الرحمن الرحيم

202
سورة الفيل
معلومات السورة
الكتب
الفتاوى
الأقوال
التفسيرات

سورة (الفيل) من السُّوَر المكية، وفيها تذكيرُ قُرَيش بقدرة الله عز وجل؛ إذ حمَى بيته ممن يَكِيد له، وانفرَد بحمايته دُونَ الأصنام العاجزة عن ذلك، وفيها تثبيتُ النبي صلى الله عليه وسلم بأن الذي دفَع كيدَ من يَكِيد لبيته لَأحقُّ بأن يدفعَ كيدَ من يَكِيد لرسوله صلى الله عليه وسلم ودِينِه.

ترتيبها المصحفي
105
نوعها
مكية
ألفاظها
23
ترتيب نزولها
19
العد المدني الأول
5
العد المدني الأخير
5
العد البصري
5
العد الكوفي
5
العد الشامي
5

* سورة (الفيل):

سُمِّيت سورة (الفيل) بهذا الاسم؛ لذِكْرِ قصة (الفيل) فيها، ولم يَرِدْ في غيرها.

قدرة الله في تعذيبِ مَن انتهَك حُرْمةَ بيته (١-٥).

ينظر: "التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (9 /353).

يقول ابنُ عاشور رحمه الله عن مقاصدها: «قد تضمَّنتِ التذكيرَ بأن الكعبة حرَمُ الله، وأن اللهَ حماه ممن أرادوا به سوءًا، أو أظهَرَ غضبَه عليهم فعذَّبهم؛ لأنهم ظلموا بطمعِهم في هدمِ مسجد إبراهيم وهو عندهم في كتابهم، وذلك ما سماه الله كيدًا، وليكونَ ما حَلَّ بهم تذكرةً لقريش بأن فاعل ذلك هو ربُّ ذلك البيت، وأنْ لا حظَّ فيه للأصنام التي نصَبوها حوله.
وتنبيهَ قُرَيش أو تذكيرهم بما ظهر من كرامة النبيِّ صلى الله عليه وسلم عند الله؛ إذ أهلَك أصحابَ الفيل في عام ولادته.
ومِن وراء ذلك تثبيت النبي صلى الله عليه وسلم بأن اللهَ يدفع عنه كيدَ المشركين؛ فإن الذي دفَع كيدَ من يَكِيد لبيته لَأحقُّ بأن يدفع كيدَ من يَكِيد لرسوله صلى الله عليه وسلم ودِينِه، ويُشعِر بهذا قولُه: {أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٖ} [الفيل: 2].
ومن وراء ذلك كلِّه التذكير بأن اللهَ غالبٌ على أمره، وألا تغُرَّ المشركين قوَّتُهم ووفرةُ عددهم، ولا يُوهِنَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم تألُّبُ قبائلهم عليه؛ فقد أهلك اللهُ من هو أشدُّ منهم قوةً، وأكثَرُ جمعًا». "التحرير والتنوير" لابن عاشور (30 /543-544).