ﰡ
ولنا رسالة في علم التجويد تكفي من يطلع عليها لمعرفته صغيرة الحجم كثيرة العلم، واسمها (أحسن البيان في تجويد القرآن) فعليكم أيها الناس بما يصلح معادكم قبل أن تهلكوا و «كُلُّ شَيْءٍ» من مكونات الله تعالى «هالِكٌ» لأن مصيره إلى الزوال والاندراس «إِلَّا وَجْهَهُ» ذاته المقدسة، وحاشاه وهو الدائم الباقي الذي لا يحول ولا يزول «لَهُ الْحُكْمُ» فصل القضاء بين خلقه مختص به وحده، وهو الحاكم العدل في الدنيا والآخرة «وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ» ٨٨ أيها الناس، فيقضي بينكم قضاء مبرما لا مغيّر ولا مبدل له، وهناك في تلك الدار الباقية يجزى الخلق حسما يفصل بينهم.
لأهل الخير جنات ونعمى | وللكفار إدراك النكال |
تفسير سورة الاسراء عدد ٥٠- ١٧
نزلت في مكة بعد سورة القصص، عدا الآيات ٢٦ و ٣٢ و ٣٣ ومن ٧٤ إلى ٨٠ فإنهنّ نزلن بالمدينة، وهي مئة وإحدى عشرة آية وخمسمائة وثلاث وثلاثون كلمة، وثلاثة آلاف وأربعمائة وستون حرفا، ولا يوجد في القرآن سورة مبدوءة بما بدئت به، ومشتقاته ذكرناها أول سبّح اسم ربك المارة.
(بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)
قال تعالى: «سُبْحانَ» ابتدأت هذه السورة بهذا اللفظ وهو علم على التسبيح تقول سبحت تسبيحا، فالتسبيح مصدر وسبحان علم عليه، ولذلك تسمى سورة سبحان كما تسمى سوره بني إسرائيل والإسراء، ومعناه تنزيه الله تعالى عن كل ما هو من شأن البشر وأحواله، ومعناه لغة التباعد، وعليه يكون المعنى بعد الله ونزاهته القصوى عن كل ما لا ينبغي، لأنه تعالت عظمته ليس كمثله شيء «الَّذِي أَسْرى» وسرى بمعنى واحد، يقال(وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) الآية ٧٥ من سورة الأنعام في ج ٢، لأن هذا الملكوت الذي رآه إبراهيم من بعض الآيات التي أراها الله إلى محمد وآيات الله لا تحصى، وأفضاله لا تستقصى، وإن سيدنا محمدا هو أفضل الأنبياء والرسل والملائكة على الإطلاق، وقد أجمعت الأمة على تفضيله وعليه قولهم:
وأفضل الخلق على الإطلاق | نبينا فمل عن الشقاق |
يا من يرى مدّ البعوض جناحها | في ظلمة الليل البهيم الأليل |
ويرى مناط عروقها في لحمها | وإلخ في تلك العظام النحل |
اغفر لعبد تاب من فرطاته | ما كان منه في الزمان الأول |
لكل شيء يسمع أقوال عبده عند تشرفه به، ويجيب دعاءه حينما يدعوه، وهو أكرم من أن يرد أحدا فضلا عن الأنبياء الكرام «الْبَصِيرُ» ١ بشأنه المسدد لأفعاله وأعماله وأقواله ورموزه وإشاراته، قال تعالى في هذه الآية أسرى وباركنا على طريق الغيبة ثم قال إنه هو على طريق التكلم التفاتا، وهذا من أبواب المعاني والبديع بالكلام، ومن طرق البلاغة والفصاحة، وفي كلمة سبحان المصدرة بها هذه الآية معنى التعجب، لأن عروج الشيء الكثيف إلى العلو وخرقه له مما يتعجب منه، وقدمنا البحث في جواز الخرق والالتئام على سبيل خرق العادة
مطلب وجوب الإيمان بالإسراء والمعراج وكفر من أنكر الأول وتفسيق من أنكر الثاني:
هذا وإن التعجب بعروجه لقصد الحق لأمر عظيم بين المحب والمحبوب أعجب من نزوله لقصد الخلق بينه وبين أمته، وهذا كالفرق بين ولاية النبي ورسالته فإن الأولى بينه وبين مولاه والثانية بينه وبين الناس، وإنما قال تعالى بعبده ولم يقل بنبيه أو رسوله لئلا يتوهم فيه ما توهمه الناس في عيسى عليه السلام من أنه انسلخ من الأكوان وعرج بجسمه إلى الملأ الأعلى مناقضا للعادات البشرية وأطوارها، ولأن العبودية أفضل من النبوة لأنها انصراف من الخلق إلى الخالق، والنبوة انصراف من الخالق إلى الخلق، وشتان ما بينهما، ولأن كلمة عبد عبارة عن الروح والجسد، والبراق الذي ركب عليه في الإسراء من جنس الحيوانات يحمل الأجساد لا كما يقوله الغير من أنه عبارة عن البرق المعلوم الحاصل من احتكاك السحب بعضها ببعض، وهو الذي أقل حضرة الرسول من مكة إلى القدس بسرعته وأعاده لموضعه، وهذا أبلغ في القدرة لو كان لهذا القول أصل من نقل صحيح أو خبر قاطع وليس فليس، أو لو كان العروج بالروح فقط كما يزعمه البعض أو حال النوم كما يقوله الغير أو حال الفناء كما توهمه الآخر أو حال الانسلاخ كما يظنه بعض المتصوفة والحكماء، لأمكن ذلك، على أن الذهاب بالروح يقظة ليس كالانسلاخ الذي ذهب هذا الأخيران إليه، فإنه وإن كان خارقا للعادة إلا ان العرب لا تعرفه، فليس محلا للتعجب، ولم يقل به أحد من السلف كما فندناه في سورة يس المارة، وعلى تلك الأقوال الواهية لا حاجه لذكر البراق، لأن ما ذكر فيها لا يحتاج الى الحمل، ولا محل لأن يستبعده المستبعدون أو ينكره الجاحدون استكبارا على الله القادر الفعال لما يريد، لأن أهل الهيئة من جميع الملل يحصل لهم مثل ذلك، وكثير من الناس من يرى الله في المنام، ويوجد جماعة من أهل المعرفة يتوصلون الى الانسلاخ فلا فضل فيه حينئذ ولا فخر، ولا حاجة للإنكار والجدال وإنما القول الحق هو أنه صلّى الله عليه وسلم أسرى بروحه وجسده يقظة من مكة الى بيت المقدس، ومن
لا تدعني إلا بيا عبدها... فإنه أشرف أسمائي
فقال الآخر:
بالله إن سألوك عني فقل لهم... عبدي وملك يميني وما أعتقته
وذكر العلماء أن الله تعالى لم يعبّر عن أحد بالعبد مضافا الى ضمير الغيبة المشار به الى الهوية إلا عن نبينا محمد صلّى الله عليه وسلم، وفيه من الإشارة وعلو الشارة ما فيه، ومن تأمل أدنى تأمل بين قوله تعالى (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى) الآية من سورة والنجم المارة وبين قوله (ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ) الآية ١٢٠ من المائدة من ج ٣ بان له الفرق بين مكانة روح الله ومكانة رحمة الله، ومن قابل بين قوله سبحان الذي أسرى الآية المارة وبين قوله (وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا) الآية ١٤٢ من سورة الأعراف المارة، ظهر البعد بين مقام الحبيب وبين مقام الكليم، ومن وازن بين هذه الآية وآية (وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ) المارة من سورة الأنعام من ج ٢ عرف البون بين مقام ذلك الخليل ومقام هذا الحبيب الجليل.
وخلاصة القصة بناء على ما جاء في الأحاديث الصحيحة والأخبار الصريحة أنه صلّى الله عليه وسلم كان ليلة سبع وعشرين من شهر رجب سنة ٥١ من ميلاده الشريف، وبدء السنة العاشرة من البعثة الجليلة التي أولها شهر رمضان، لأن سنة الولادة أولها شهر ربيع الأول وكذلك سنة الهجرة أولها ربيع الأول، وقد اعتبروا المحرم أولها اعتبارا، كان نائما في بيت فاختة أم هانىء بنت أبي طالب بعد أن صلى الركعتين اللتين كان بتعبد فيهما قبل النوم، وما جاء أنه كان بالحجر والحطيم وبين زمزم والمقام أقوال لم نعتمد على صحتها ولم نجد ما يقويها، ويؤيد ما جرينا عليه ما روى عن أم هانىء أنها فقدت رسول الله صلّى الله عليه وسلم من بيتها وامتنع النوم عنها مخافة عليه من قريش، وأخبرت بني المطلب، فتفرقوا في التماسه، ورحل العباس الى ذي طوى وهو يصيح يا محمد يا محمد، هذا وقد اظهر الله له في إسرائه ومعراجه سبعين معجزة، أولها أنه خرج عن سقف البيت سحر تلك الليلة، فنزل جبريل وميكائيل واسرافيل عليهم السلام، فأيقظه جبريل، فقال له صلّى الله عليه وسلم مالك يا أخى؟ قال قم إن ربك بعثني إليك وأمرني أن آتيه بك في هذه الليلة بكرامة لم يكرم بها أحد قبلك ولا يكرم بها أحد بعدك، فتكلم ربك وتنظر إليه ويريك عجائب عظمته وبدائع قدرته ومنافع ملكوته، قال صلّى الله عليه وسلم فقمت وتوضأت وصليت ركعتين، قال ثم إن جبريل عليه السلام تقدم إليّ وشق صدري ما بين الرّقوتين الى أسفل بطني بإشارة منه ليس بآلة ما، ولم أجد ألما ما، ولا خرج مني دم ما، معجزة على طريق خرق العادة- واستخرج قلبه الشريف، وغسله بطست من ماء زمزم ثلاثا، ونزع ما كان فيه من أذى، ثم جاء بطست من ذهب ممتلىء إيمانا وحكمة فأفرغه فيه.
تنبيه: من المعلوم أن الإيمان والحكمة ليستا من الأجسام بل هي معان، والمعاني تمثل في الأجسام مجازا، ولذا قال فأفرغه، ويحتمل أنه عليه السلام جعل في الطست شيئا، يحصل به كمال الإيمان والحكمة وزيادتها، فسمي إيمانا وحكمة لكونه سببا لهما. قال ثم وضعت السكينة في قلبه الشريف، وهذه أيضا من الأمور المعنوية التي لا تحتاج إلى حيّز محسوس، ولا بد لهذه الأمور من عقيدة راسخة،
وهي محل الغمز والوسوسة فلم يبق للخبيث حظ فيه، ولهذا كان صلّى الله عليه وسلم في صغره لم يمل إلى ما يميل إليه الأولاد من اللعب واللهو، وهكذا شأن الأنبياء في صغرهم كما مر في سورة مريم من شأن يحيى وعيسى، ثم أنه شق صدره ثانيا حينما شرفه الله بالنبوة وغسل قلبه الشريف وأعيد لمحله على النحو المار ذكره لتحمل أعباء النبوة التي لا يقواها مطلق قلب، وهذه المرة الثالثة لتصفيته للقاء ربه عزّ وجل وتخليصه من الأغيار ليتسنى له حفظ الأسرار الإلهية والكمالات الربانية التي ستلقى عليه. الرابعة أن جبريل عليه السلام جاءه بخاتم من نور فختم على قلبه وبين كتفيه بخاتم النبوة، وكان يراه الرائي بحسب مكانته عند الله وقدر محبته لرسوله واعتقاده به، فمنهم من يراه مثل زر الحجلة (الخيمة) التي يغطى فيها السرير ويدخل في العروة، ومنهم من يراه قطعة نور، ومنهم من يرى فيه عبارة لا إله إلا الله محمد رسول الله، ومنهم من يرى غير ذلك، ولكل وجهه.
مطلب في البراق والأقوال الواردة في المعراج:
الخامسة هي أنه صلّى الله عليه وسلم جيء بالبراق مسرجا وملجا وهو له دابة بيضاء لها بريق يلمع دون البغل وفوق الحمار، خدّه خد إنسان وقوائمه قوائم بعير، وعرفه عرف
ما كدى الميمون وانحلت عزائمه | وأنت أنت الذي باليمن لاجمه |
وإنما شهد الأملاك ساجدة | إلى علاك فانحلت عزائمه |
وكبر للرؤيا وهش فؤاده | وبشر قلبا كان جمّا بلابله |
هذا واعلم أن إعطاء البراق قوة المشي على تلك الصفة معجزة سادسة. والسابعة: قال بينا هو سائر على البراق إذ رأى عفريتا من الجن يطلبه بشعلة نارية كلما التفت رآه، فقال له جبريل قل أعوذ بوجه الله الكريم وبكلماته التامة اللاتي لا يجاوزهنّ برّ ولا فاجر من شرّ ما ينزل من السماء ومن شر ما يعرج فيها، ومن شر ما ذرأ في الأرض ومن شر ما يخرج منها، ومن فتن الليل والنهار، ومن طوارق الليل والنهار إلا طارقا يطرق بخير، يا رحمن، فقالهن صلّى الله عليه وسلم، فانكب لفيه، وخرّ صريعا، وطفئت شعلته. الثابتة: وكشف له بطريق ضرب المثل فرأى قوما يزرعون ويحصدون في ساعة وكلما حصدوا عاد الزرع كما كان، فقال ما هذا يا أخي يا جبريل؟ فقال هؤلاء المجاهدون في سبيل الله، تضاعف لهم الحسنة إلى سبعمئة ضعف، وما أنفقوا من خير فهو يخلفه. التاسعة: بينما هو سائر إذ نادى مناد عن يمينه يا محمد انظرني اسألك، فلم يجبه، فقال ما هذا يا جبريل؟ فقال هذا داعي اليهود، أما أنك لو أجبته لتهوّدت أمتك. العاشرة: ثم ناداه مناد عن يساره، فلم يجبه أيضا، فقال ما هذا يا جبريل؟ قال هذا داعي النصارى، أما لو أجبته لتنصّرت أمتك. الحادية عشرة: ثم رأى امرأة حاسرة عن ذراعيها، عليها من كل زينة، جالسة على الطريق، فقالت انظرني يا محمد أسالك، فلم يلتقت إليها، فقال من هذه يا جبريل؟ فقال تلك الدنيا، أما أنك لو أجبتها لاختارت أمتك الدنيا على الآخرة. الثانية عشرة: ثم رأى عجوزا على جانب الطريق، فقالت يا محمد انظرني فلم يلتفت إليها، فقال ما هذه يا جبريل؟ قال إنه لم يبق من عمر الدنيا إلا بقدر ما بقي من عمر هذه العجوز، وفي عدم إجابته لهما دليل على أن حضرة الرسول غير مبال بها بالطبع، لأنه لم يلتفت
ولو اختفت محارمه في داره. فإنه ان لم يزن بهن خارجها يزنى بهنّ داخلها، فعلى المؤمن الشهم أن يحفظ عرضه بالكفّ عن أعراض الناس. السابعة عشرة رأى صلّى الله عليه وسلم خشبة في الطريق لا يمرّ بها توب ولا شيء إلا مزّقته، فقال ما هذه يا جبريل؟ قال هذه مثل أقوام من أمتك يقطعون الطريق وتلا الآية ٨٥ من سورة الأعراف المارة. الثامنة عشرة: رأى صلّى الله عليه وسلم رجلا يسبح في نهر من دم يلتقم الحجارة، فقال من هذا؟ قال هذا مثل آكل الربا. راجع تفسير الآية ٢٧٥ من سورة البقرة فما بعدها، والآية ١٣٠ من آل عمران في ج ٣، وقال صلّى الله عليه وسلم: لعن الله آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه. التاسعة عشرة: رأى صلّى الله عليه وسلم قوما تقرض ألسنتهم وشفاههم بمقاريض من حديد كلما قرضت عادت، فقال من هؤلاء؟ قال هؤلاء خطباء أمتك الذين يقولون ما لا يفعلون، وقال تعالى (كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ) الآية ٢ من سورة الصفّ ج ٣. العشرون:
ورأى صلّى الله عليه وسلم قوما يخمشون وجوههم وصدورهم بأظفار نحاسية، فقال من هؤلاء؟
قال هؤلاء مثل الذين يغتابون الناس ويقعون في أعراضهم، وقال تعالى (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ) راجع تفسيرها المار ذكره. الحادية والعشرون: ورأى صلّى الله عليه وسلم حجرا يخرج منه ثور عظيم يريد أن يرجع من حيث خرج فلا يستطيع، فقال من هذا يا جبريل؟ قال هذا مثل الرجل من أمتك يتكلم الكلمة العظيمة ثم يندم فلا يستطيع ردّها، وقد جاء في الخبر من كثر لغطه كثر سقطه، ومن كثر سقطه فالنار أولى به. وقال: وهل يكبّ الناس في النار على وجوهم إلا حصائد ألسنتهم. الثانية والعشرون، ورأى صلّى الله عليه وسلم واديا طيبا باردا وريحا مسكية شذية، وسمع صوتا رقيقا، فقال ما هذا يا جبريل؟ قال هذا صوت الجنة، تقول ربّ آتيني ما وعدتني، فقد كثر فيّ ما لا نظائر له ولا أشباه. اللهم اجعلنا من أهلها. الثالثة والعشرون: ورأى صلّى الله عليه وسلم واديا خبيثا وريحا منتنة، وسمع صوتا منكرا بذيا، فقال ما هذا يا جبريل؟ قال هذا صوت جهنم تقول
الرابعة والعشرون. ورأى صلّى الله عليه وسلم شخصا متنحيا عن الطريق والطريقة الإسلامية، يقول هلم يا محمد، فقال جبريل سرّ يا محمد، قال من هذا يا أخى؟ قال هذا عدوّ الله إبليس، أراد أن تميل إليه، وقد وقعت هذه المبادرة من شفقة جبريل عليه السّلام على حبيبه محمد صلّى الله عليه وسلم، إذ قال له سرّ قبل أن يسأله عنه، خلافا لعادته، لما يعلم من حاله عليه اللعنة. الخامسة والعشرون: ورأى محمد موسى عليهما الصلاة والسلام يصلّي في قبره عند الكئيب الأحمر، ويقول أكرمته وفضلته، ويرفع صوته، فقال من هذا يا جبريل؟ قال موسى بن عمران، قال ومن يعاتب؟ قال يعاتب ربّه فيك، قال ويرفع صوته على الحضرة الجلالية؟ قال قد عرف حدّته التي جبله عليها (العتاب مخاطبة فيها إدلال)، فنزل وصلى ركعتين عنده.
السادسة والعشرون: ورأى شجرة عندها شيخ وعياله، فقال من هذا؟ قال هذا أبوك إبراهيم عليه السلام، فسلّم عليه وردّ عليه السلام، فقال إبراهيم يا جبريل من هذا الذي معك؟ قال ابنك محمد، فقال مرحبا بالنبي العربي ودعا له بالبركة (كان ابراهيم تحت تلك الشجرة) فنزل فصلى ركعتين وسار حتى أتى الوادي الذي فيه بيت المقدس. السابعة والعشرون: ورأى جهنم تنكشف عن مثل الزرابي أي الوسائد، قال كيف وجدتها يا رسول الله؟ قال مثل الحمة أي الفحمة.
الثامنة والعشرون: قال وبقي حتى انتهى إلى إيلياء من أرض الشام، أي مدينة القدس، فرأى جمعا غفيرا من الملائكة يستقبلونه صلّى الله عليه وسلم، فدخلها من الباب اليماني الذي فيه تمثال الشمس والقمر. التاسعة والعشرون: قال ولما انتهى إلى البيت المقدس كان على الباب حجر كبير فخرقه جبريل وربط به البراق، وهذه معجزة، لأن البراق لا يحتاج إلى الربط، ولأن الحجرة لا تخرق باليد، قال أبو سفيان لقيصر عند ما سأله عن النبي صلّى الله عليه وسلم كما في حديث البخاري من أنه هل يكذب؟
قال لا ولكن زعم أنه ذهب من حرمنا إلى مسجدكم ورجع في ليلة واحدة! ولما قال له هل يغدر قال لا، ونحن عنه في مدة، ليفهمه في هذه بأنه لعله وقع منه
الثلاثون: ورأى صلّى الله عليه وسلم الحور العين باستقباله أيضا، فسلم عليهن فرددن عليه السلام، فقال من أنتن؟ قلن خيرات حسان قوم أبرار نقوا فلم يدنّسوا يدرّنوا، وأقاموا فلم يضعفوا، وخلدوا فلم يموتوا. ثم دخل المسجد ونزلت الملائكة الذين كانوا في استقباله إلى الأرض. الحادية والثلاثون: أحيا الله له آدم فمن دونه من الأنبياء من سمى ومن لم يسم (فى كتابه) فرآهم في صورة مثالية كهيئاتهم الجسدانية، إلا عيسى وإدريس والخضر والياس فإنه رآهم بأجسادهم الحقيقية الدنيوية، لأنهم من زمرة الأحياء، فسلموا عليه جميعهم وهنأوه بما أعطاه الله من الكرامة، وقالوا الحمد لله الذي جعلك خاتم الأنبياء فنعم النبي والأخ أنت، وأمتك خير الأمم. تنبيه: إن الخضر صاحب موسى عليه السلام لم تجمع الكلمة على نبوّته كعزير ولقمان وذي القرنين، ومجيئه هنا مع الأنبياء كون الكلمة مجمعة على حياته. الثانية والثلاثون: قال جبريل إلى محمد صلّى الله عليه وسلم تقدم فصل بإخوانك الأنبياء فصلى بهم ركعتين، وكان خلفه إبراهيم وعن يمينه إسماعيل، وعن يساره إسحق عليهم السلام، قيل كانوا سبعة صفوف ثلاثة من المرسلين وأربعة من الأنبياء، قال في منية المصلى إمامته صلّى الله عليه وسلم ليلة الإسراء لأرواح الأنبياء كانت في النافلة المطلقة التي تكون فيها الصلاة جماعة، كالتراويح وشبهها وهذا هو الحكم الشرعي: فقد جاء في مجمع البيان عن مقاتل أن قوله تعالى في الآية ٤٥
مطلب الورد الأحمر والأصفر والمواليد الثلاثة والحركة القسرية:
الخامسة والثلاثون: قال صلّى الله عليه وسلم لما عرج بي إلى السماء بكت الأرض من بعدي فنبت الأصفر (أي الزهر الأصفر) فلما رجعت قطر عرقي على الأرض فنبت الورد الأحمر، ألا من أراد أن يشم رائحتي فليشم الورد الأحمر. رواه أنس مرفوعا قال أبو الفرج النهرواني هذا قليل من كثير مما أكرم الله نبيه، على أن هذا لا يستلزم عدم وجود ورد أصفر وأحمر قبل ذلك، إلا أن هذا من باب الكرامة لحضرته الزكية زيادة على ما كان، ولهذا جرت العادة أن من يشم وردا له رائحة طيبة يصلي على محمد صلّى الله عليه وسلم أخذا من هذا. ونظيره على ما قيل إن حواء عليها السلام لما هبطت إلى الأرض بكت فما وقع من قطرها في البحر صار لؤلؤا، وما وقع
لما صعد السلم ومعه جبريل كان جسده تابعا لروحه، وإلا لتعذر عليه العروج.
واعلم أنّ لصورته صلّى الله عليه وسلم صورة ولمعناه معنى، وكل منهما خلاف ما تتصوره الأوهام، لأن السير الملكوتي لا يقاس على السير الملكي، لكن عالم الملكوت مشتمل على ما هو صورة ومعنى، والصورة هناك تابعة للمعنى كحال صاحب الإسراء، وهنا بحث:
اعلم وفقك الله هذاه وأرشدك لما به النجاة، إن المعدن والنبات والحيوان مركبات تسمى المواليد الثلاثة، آباؤها الأجرام الأثيرية التي هى الأفلاك بما فيها من الأجرام النيرة، وأمهاتها العنصريات الأربع التي هي الأرض والماء والهواء والنار، فالأرض ثقيل على الإطلاق والماء ثقيل بالاضافة للهواء والنار وهو محيط بأكثر الأرض. والهواء خفيف مضاف إلى الثقلين بطلب العلو، وهو محيط بكرة الأرض، والماء والنار خفيف على الإطلاق يحيط بكرة الهواء، وان النبي صلّى الله عليه وسلم جاوز هذه العناصر ليلة المعراج بالحركة القسرية، وهي غير منكرة عندنا وعند المحيلين لهذا الإسراء الجسماني، لأنا نأخذ الحجرة وطبعها النزول فنرمي بها في الهواء فتصعد خلافا لطبعها لأنه يقتضي الحركة عند المركز، فصعودها بالهواء عرض بالرمي وهو الحركة القسرية وبطبعها لأنها على طبيعة تقبل الحركة القسرية ولو لم يكن ذلك في طبعه لما انفعل لها ولا
قال هذا بحر في الهواء لا شيء فوقه يتعلق به، ولا شيء تحته يقرّ عليه، ولا يدري قدر عمقه إلا الله تعالى، ولولا حيلولة هذا البحر لاحترق ما في الدنيا من حر الشمس. وهذا مما ينكره الفلكيون والطبيعيون ومن لا عقيدة له، ونحن نعترف به لأنا نعلم أن القادر على خلق الدود في الثلج والسندل في النار والسمك في الماء والطير في الهواء الذي علم البشر صنع الطائرات والراد والذرة والصواريخ وغيرها كالغواصات وشبهها قادر على ذلك وأكثر، فإن كان ما ورد فيه حقا عن حضرة الرسول وهو لا ينطق عن هوى فقد أصبنا الهدف وقدرنا الله حق قدره، وإلا فلا يضرنا أن نعتقد به لعلمنا بقدرة الله، بخلاف ما لو كذّبناه، وكان له حقيقة، فتكون ممن لم يقدر الله حق قدره. أنظر ما قاله تعالى على لسان مؤمن آل فرعون (وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ) الآية ٣٩ من سورة المؤمن في ج ٢، ونحن نخاف إن كذبنا أن يصيبنا وبال تكذيبنا ولهذا فإنا نصدق به لأن تصديق ما لا مضرة له في الدين أحسن من تكذيبه، فالتصديق له ما له والتكذيب فيه ما فيه. الثامنة والثلاثون: قال ثم انتهيت إلى السماء الدنيا واسمها رفيع، فأخذ جبريل بعضدي وضرب بابها وقال افتح.
اعلم أن جبريل لا يحتاج إلى فتح باب السماء لأنه لا يحجبه حاجب، وإنما استفتح
قال جبريل، قال ومن معك؟ (إنما سأله لأن استفتاحه على غير عادته لأن الله أعطاه قوة الاختراق بحيث ينزل من السماء ويصعد إليها بأقل من لحظة) قال محمد، قال أوقد بعث إليه؟ قال نعم، قال الحمد لله، ففتح ودخلنا. قال صلّى الله عليه وسلم:
فلما نظر إليّ قال مرحبا بك يا محمد، ونعم المجيء مجيئك، فقلت يا جبريل من هذا؟ قال ملك اسمه إسماعيل خازن سماء الدنيا، وهو ينتظر قدومك، فدنوت منه وسلمت عليه، فردّ علي السلام وهنأني وقال أبشر، فإن الخير كله فيك وفي أمتك، قال جبريل يا محمد إن هذا الملك لم يهبط إلا عند قبض ملك الموت روحك الشريفة، فرأيت وإذا جنوده قائمون صفوفا لهم زجيل بالتسبيح، يقولون سبوحا سبوحا لرب الملائكة والروح، قدّوسا قدّوسا لرب الأرباب، سبحان العظيم الأعظم، وكانت قراءتهم سورة الملك، فرأيت فيهم كهيئة عثمان بن عفان، فقلت بم بلغت هذا؟ قال بصلاة الليل. التاسعة والثلاثون: قال ثم انتهيت إلى آدم عليه السلام، فإذا هو كهيئته يوم خلقه الله على غاية من الحسن والجمال، وكان تسبيحه سبحان الجليل الأجل، سبحان الواسع الغني، سبحان الله العظيم وبحمده، وإذا تعرض عليه أرواح ذريته المؤمنين، فيقول روح طيبة في جسد طيب، ويقول اجعلوها في عليّين، وتعرض عليه أرواح ذريته الكافرين فيقول روح خبيثة في جسد خبيث، ويقول اجعلوها في سجيّن، وذلك قبل أن تدخل السماء، لأن الله تعالى قال فيهم: (لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ) الآية ٣٩ من الأعراف المارة، قال صلّى الله عليه وسلم فنفذت وسلمت عليه، فقال مرحبا بالابن الصالح والنبي الصالح. الأربعون: قال صلّى الله عليه وسلم ورأيت رجالا لهم مشافر (شفاه) كمشافر الإبل، وفي أيديهم قطع من نار كالأفهار (الحجارة المستطيلة) التي كل واحدة منها ملء الكف يقذفونها بأفواههم فتخرج من أدبارهم، فقلت من هؤلاء يا جبريل؟ قال أكلة أموال اليتامى راجع الآية ٩
قال عليه السلام ثم عرج بي إلى السماء الثانية، فاستفتح جبريل، قيل ومن معك؟
قال محمد، قيل أوقد بعث إليه؟ قال نعم، ففتح لنا، فإذا بابني الخالة عيسى بن مريم ويحيى بن زكريا عليهما السلام، يشبه أحدهما صاحبه بثيابهما وشعرهما وحسنهما وقربهما من السن أيضا لأن يحيى أكبر من عيسى بستة أشهر فقط، وقتل بعد بعثة عيسى، أي رسالته لانه نبىء في المهد ويحيى نبىء وأرسل وهو صغير، راجع الآيتين ١٢ و ٢٠ من سورة مريم المارة. ومعهما نفر من قومها، فرحتبا بي، ودعيا لي بخير. الخامسة والأربعون: قال ثم عرج بي إلى السماء الثالثة، فاستفتح جبريل، فقيل من معك؟ قال محمد، لم ينسبه جبريل لخزان السموات ولا لغيرهم من الملائكة لأنهم يعرفونه من يوم حمله وولادته وبعثته (والمراد بقولهم أو بعث إليه أي للعروج إلى ربه لا البعثة إلى الخلق لانها معلومة عندهم أيضا وهم ينتظرون
الثامنة والأربعون: قال ثم عرج بي إلى السماء السادسة فاستفتح جبريل، قيل من هذا؟ قال جبريل، قيل ومن معك؟ قال محمد، قيل أو قد بعث إليه؟ قال نعم، ففتح لنا فإذا بموسى عليه السلام فرحّب بي، ودعا لي بخير، فلما جاوزته بكى فقيل ما يبكيك؟ قال أبكي لان غلاما بعث بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر ممن يدخل من أمتي ومن سائر الأمم (وهذا منه إشفاق على أمته لا حسدا بأمة محمد، وقوله غلام على سبيل التعظيم ولا يجوز أن يتصوّر غير هذا المعنى في كلامه عليه السلام، لأن كمّل الخلق مطهرون من الحسد وغيره، فكيف بالأنبياء ولا سيما أولى العزم.)
التاسعة والأربعون: قال ثم عرج بنا إلى السماء السابعة، فاستفتح جبريل، قيل من هذا؟ قال جبريل، قيل ومن معك؟ قال محمد، قيل أو قد بعث إليه؟ قال نعم، ففتح لنا، فإذا بإبراهيم عليه السلام، فسلمت عليه فردّ علي السلام، فقال مرحبا بالابن الصالح والنبي الصالح (هذا وان محمدا صلّى الله عليه وسلم قد أمر بالسلام على الأنبياء في الأرض والسماء، مع أنه أفضل منهم، لأنه عابر عليهم، فهو في حكم القائم وهم في حكم القعود، والقاعدة الشرعية أن يسلم القائم على القاعد، وفي هذا دلالة على استحباب لقاء أهل الفضل والصلاح بالبشر والترحيب والكلام اللين الحسن،
الخمسون: قال صلّى الله عليه وسلم وإذا أنا بأمتي شطرين شطر عليهم ثياب بيض كأنها القراطيس وشطر عليهم ثياب رمد، قال فدخلت البيت المعمور ودخل معي الذين عليهم الثياب البيض، وحجب الآخرون، فصليت فيه ركعتين، وقال لي إبراهيم أقرئ أمتك منّي السلام وقل لهم يكثروا من به غراس الجنة طيّبة التربة عذبة الماء وغراسها سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
الحادية والخمسون: قال صلّى الله عليه وسلم واستقبلتني جارية لعساء أي شفتيها تضرب إلى السواد وهو وصف مستملح فيهن فقلت لها أنت لمن قالت لزيد بن حارثه أي الذي تبناه صلّى الله عليه وسلم وزوجه بنت عمته ثم طلقها وتزوّجها هو فآثره الله بدلها في الجنة كما آثر حضرة الرسول في الدنيا على ماله ونفسه. الثانية والخمسون: قال صلّى الله عليه وسلم ورأيت فوجا من الملائكة نصف أبدانهم من النار والنصف الآخر من الثلج، فلا النار تذيب الثلج، ولا الثلج يطفىء النار، وهم يقولون اللهم كما ألفت بين النار والثلج ألف
قال صلّى الله عليه وسلم ثم نظرت إلى السدرة وقد غشيها ما غشيها من نور الحضرة الإلهية أي شيء عظيم أظلها فصار لها من الحسن غير تلك الحالة، فما أحد يستطيع أن ينعتها من حسنها ولا يصف ما فيها إلا الذي أبدعها، ورأيت جبريل عند تلك السدرة على الصورة التي خلقه الله عليه له ستمائة جناح، قد سدّ الأفق ما بين المشرق والمغرب يتناثر من أجنحته الدر والياقوت كهيئته حين رآه في الأرض عدا الدر والياقوت الذي يتناثر منه في الجنة. راجع الآية ٢٣ من سورة التكوير المارة وقد تأخر عني فقلت له يا جبريل في مثل هذا المقام يترك الخليل خليله فقال هذا حدّي لو تجاوزت لأحرقت بالنور وتلا (وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ) الآية ١٦ من سورة الصافات في ج ٢، واعلم أن جبريل عليه السّلام تلا هذه الآية وقبلها تلا آية ٤٢ من الأنفال، قبل أن تنزلا على حضرة الرسول، لأنه نزل بالقرآن كله إلى بيت
السابعة والخمسون: قال صلّى الله عليه وسلم وجاءني نداء من العلي الأعلى أدن يا خير البرية، فأدناني ربي، فكنت كما قال، (ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى) الآية ٨ من سورة والنجم المارة. روي أنه عليه الصلاة والسلام قال عرج بي من السماء الدنيا إلى السابعة على جناح الملائكة، ومن السماء السابعة إلى السدرة على جناح جبريل، ومن السدرة إلى العرش على الرفرف، وهكذا النزول على هذا الترتيب، والرّفرف بساط عظيم (نظير المحفّة عندنا) قال صلّى الله عليه وسلم وناداني جبريل من خلفي يا محمد إن الله يثني عليك، فاسمع وأطع، ولا يهولنّك كلامه أن تعيه فبدأ عليه الصلاة والسلام بالثناء بقوله التحيات لله والصلوات والطيبات لله، فقال تعالى السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، فقال عليه الصلاة والسلام: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، فقال جبريل وهو في مكانه أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، وتابعه جميع الملائكة.
مطلب ما بدأ الله تعالى به حضرة الرسول وما قال له والعلوم التي منحه إياها:
الثامنة والخمسون: قال صلّى الله عليه وسلم ثم سألني ربي فلم أستطع أن أجيبه فوضع يده المقدسة بين كتفي بلا تكييف ولا تحديد، فوجدت بردها، فأورثني علم الأولين والآخرين وعلمني علوما شتى، فعلم أخذ عليّ كتمانه إذ علم أنه لا يقدر على حمله غيري، وعلم خيّرني فيه، وعلم أمرني بتبليغه إلى العام والخاص من أمتي.
قال صلّى الله عليه وسلم ثم فرض عليّ وعلى أمّتي خمسين صلاة في اليوم والليلة، فنزلت إلى إبراهيم فلم يقل شيئا، ثم أتيت موسى فقال لي ما فرض الله على أمتك؟ قلت خمسين صلاة، قال إرجع إلى ربك فاسأله التخفيف، فإن أمتك لا تطيق ذلك، واني قد خبرت قبلك، وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة، قال عليه السلام فرجعت إلى ربي (أي من الفلك السادس الذي فيه موسى إلى المحل المشرف الذي خاطبه به ربه) فخررت ساجدا فقلت أبا رب خقف عن أمتي، فحط عني خمسا، فرجعت إلى موسى وأخبرته، فقال إن أمتك لا تطيق ذلك إرجع إلى ربك واسأله التخفيف، قال فلم أزل أرجع بين ربي وموسى وهو يحط عني خمسا خمسا حتى قال موسى بم أمرت؟ قلت بخمس صلوات كل يوم وليلة، قال إرجع فاسأله التخفيف، فقلت
قال صوت سحرة موسى وأرواحهم حيث أكرمهم الله تعالى كرامة مضاعفة بسبب إيمانهم بموسى وإخزاء فرعون ونبذهم ما خوفهم به لقاء ما أعده الله لهم من النعيم المقيم.
الثانية والستون: قال صلّى الله عليه وسلم وسمعت صوتا آخر يقول لبيك لبيك، فقلت ما هذا الصوت يا رضوان؟ قال صوت أرواح الحجاج، وسمعت أناسا يقولون الله أكبر الله أكبر، فقلت ما هذا الصوت يا رضوان؟ قال صوت أرواح الغزاة، وسمعت أناسا يسبحون الله تعالى، فقلت من هم؟ قال أرواح الأنبياء، ورأيت قصور الصالحين (في أمور دينهم ودنياهم، أما الصالحون لعمارة الأرض فقط فصلاحهم لا يغنيهم عند الله شيئا ولا يدفع عنهم عذابه). الثالثة والستون: قال صلّى الله عليه وسلم ثم عرضت علي النار، قال عرضت لأنها في تخوم الأرض السفلى، إذ لا حاجب يمنع نفوذ بصره صلّى الله عليه وسلم إلى ذلك لما أودع في كل جوارحه من قوة خارقة للعادة لا طلاعه على عظائم الأمور في إسرائه ومعراجه، وهذا من قبيل الاطلاع، كما ضرب الله الأمثال السابقة في إسرائه ما بين مكة والقدس، قال صلّى الله عليه وسلم وإذا مكتوب على بابها (وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ) الآية ٤٣ من سورة الحجر في ج ٢، وأبصرت ملكا لم يضحك في وجهي، فقلت يا جبريل من هذا؟ قال هذا مالك خازن جهنم، وكأنه عرف المغزى من سؤاله، فقال هذا لم يضحك منذ خلقه الله، ولو ضحك لأحد لضحك إليك، فقال جبريل يا مالك هذا محمد فسلم عليه، قال فسلّم علي وهنأني بما صرت إليه من الكرامة. الرابعة والستون: قال صلّى الله عليه وسلم ثم إن الله تعالى أطلعني على ما فيها، فإذا فيها غضب الله وسخطه، لو طرحت فيها الحجارة والحديد لأكلتها وأريت فيها قوما يأكلون الجيف، فقلت من هؤلاء؟ قال هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس أي يغتابونهم، وأريت فيها قوما تنزع ألسنتهم من أقفيتهم، فقلت من هؤلاء قال هؤلاء الذين يحلقون بالله كذبا، وأريت جماعة من النساء علقن من شعورهن، فقلت من هن؟ قال اللاتي لا يستترن من غير محارمهن، ورأيت منهن جماعة لباسهن من القطران، فقلت من هن قال هؤلاء الذين ينحن على الأموات ويعددن صفاتهم. واعلم أن المنوح عليهم والمعدد صفاتهم ليس عليهم شيء إلا إذا أوصوا
قلت أسري بي الليلة إلى البيت المقدس (فلم ينكر عليه مخافة أن لا يحدث بذلك) وقال لي أتحدث قومك بهذا إذا آتيتك بهم؟ وذلك لأنه استعظم ما سمعه منه وعرف أن أحدا لا يصدقه بذلك، قلت نعم، قال فسكت مخافة أن أجحده، قاتله الله كيف وهو الصادق المصدوق، فذهب عليه اللعنة الى مجمع الناس وصاح بأعلى صوته يا معشر كعب بن لؤي، فانقضت إليه المجالس من كل جهة، حتى اجتمعوا فجاء بهم إليّ، وقال حدثتهم بما حدثتني به، فقص عليهم إسراءه، فقال أبو جهل صف لنا الأنبياء الذين صليت بهم في بيت المقدس، فوصف صلّى الله عليه وسلم لهم الأنبياء واحدا واحدا، وهذه المعجزة السابعة والستون إذ جعل الله تعالى صورهم أمامه نصب عينه كما رآهم هناك حتى صار ينظر إليهم ويصفهم واحدا واحدا، لم يخطىء بواحد منهم، قال فضجوا إعجابا بما ذكر وإنكارا وحلفوا بلاتهم أن لا يصدقوه، وقالوا إنا نضرب آباط الإبل شهرين ذهابا وإيابا من مكة الى البيت المقدس، فكيف تقطع هذه ت (٢٨)
مطلب انكار قريش وامتحانهم للرسول وحبس الشمس:
فقالوا إن لنا عيرا آتية من بيت المقدس فاخبرنا عنها نصدقك فقال إني مررت بعيركم في التنعيم (محل قريب من مكة) فقالوا صفه لنا فوصفه لهم وبين عدد جمالهم وقال إنها تطلع عليكم مع طلوع الشمس أي في اليوم التالي يتقدمها جمل أورق (هو الأبيض المائل للسواد) عليه غرارتان إحداهما سوداء والأخرى برقاء أي (فيها بياض وسواد).
فهذه آيتان محسوستان لكم بدلا من الواحدة إن كنتم تؤمنون. قالوا له ننظر، فذهبوا حتى إذا أدبر الليل ابتدروا وتسابقوا الى الثنية يتراءون العير فلما قرب طلوع الشمس قال قائلهم هذه والله الشمس قد طلعت ولم تر العير فأين قول محمد صلّى الله عليه وسلم، فلم يقض قوله إلا وقد قال الآخر هذه والله العير قد أقبلت وقد صدق محمد صلّى الله عليه وسلم وها هي يتقدمها جمل أورق وعليه الغرارتان كما ذكر محمد صلّى الله عليه وسلم. قيل في هذه الحادثة إن الشمس تأخرت عن زمن طلوعها مدة حتى أقبلت العير ورأوها ثم طلعت وهذه تمام السبعين معجزة في هذه المرحلة المباركة وهذا آخر ما اطلعنا عليه في هذه الحادثة الجليلة من المعجزات وقد تبلغ الى التسعين إذا عدت منفردة لأنا جمعنا ما رأى في الجنة وما رأى في النار باعتبار كل منها معجزة وهي معجزات كثيرة ومعجزاته صلّى الله عليه وسلم لا تعد ولا تحصى ولا يستبعدها إلا الأحمق الجاهل يقدر حضرة الرسول ومكانته صلّى الله عليه وسلم عند الله. واعلم أن الشمس حبست لسيدنا داود ولسليمان ويوشع وموسى ولا يقال إن حبسها مشكل لأنه يختلف فيه سير الأفلاك ويفسد فيه نظام جريانها لأن هذا من المعجزات وهي من الأمور الخارقة للعادة ولا مجال للقياس في خرق العادة وقد وقع له صلّى الله عليه وسلم رجوع الشمس بعد غروبها في خيبر فقد جاء عن اسماء بنت عميس قالت كان عليه الصلاة والسلام يوحى إليه ورأسه الشريف في حجر علي كرم الله وجهه ولم يسر عنه حتى غربت الشمس ولم يصل العصر علي فقال صلّى الله عليه وسلم أصليت العصر يا علي
لا تغربي يا شمس حتى ينتهي | مدحي لآل المصطفى ولنجله |
إن كان له ولى وقوفك فليكن | هذا الوقوف لولده ولنسله |
مطلب في دوران الشمس والأرض والدّم وحكاية اتفاقية وان الاسراء اسراءان وغيره:
واعلم أن الفلكيين قالوا إن ما بين طرفي قرص الشمس ضعف ما بين طرفي كرة الأرض مائة ونيفا وستين مرة، ثم إن طرفها الأسفل يصل موضع طرفها الأعلى بتحوير الأرض عنه في أقل من ثانية، والثانية جزء من ستين جزءا من الدقيقة، والدقيقة جزء من ستين جزءا من الساعة والساعة خمس عشرة درجة فلكية، لأن كل درجة أربع دقائق، فإذا كانت هذه السرعة ممكنة في الجمادات فكيف لا تكون ممكنة في أشرف المخلوقات؟ على أن القلب يسير بصاحبه من
واعلم أن ما ذكره النووي في الروضة من أنه وقع في السنة الحادية عشرة أي بعد البعثة بعشر سنين وثلاثة أشهر فيه تسامح، لأنه اعتبر مبدأ التاريخ من شهر الولادة في ١٢ ربيع الأول سنة ١ منها والبعثة وقعت سنة ٤١ من ولادته في ٢٧ رمضان والاسراء وقع في رجب سنة ٥١ قولا واحدا، فيكون على قول النووي عشر سنين وعشرة أشهر بتداخل السنتين المذكورتين وحساب طرفيهما، والحق أنه بعد البعثة بتسع سنين وعشرة أشهر لا عشرة أيام، لأن الكلمة مجمعة على أن الصلاة فرضت في السنة العاشرة كما أن الكلمة مجمعة على أنها فرضت ليلة الإسراء، فيكون
مطلب تعليم الرسول كيفية الصلاة وكونها من خصائص هذه الأمة والحكمة فيها:
لكن صلاتهم ليست على هيئة صلاتنا هذه وعدد ركعاتها، إذ كل منهم أداها على النحو الذي ألهمه الله إياه، والحكمة في كونها خمسا لا يعلمها على الحقيقة إلا الله، وقيل لأن الحواس خمس وتقع المعاصي فيما بينها ليلا ونهارا، وقد أشار صلّى الله عليه وسلم الى هذا المعنى بقوله أرأيتم لو كان على باب أحدكم نهر جار ليغتسل منه منه في اليوم والليلة خمس مرات، أكان ذلك يبقي من درنه شيئا؟ قالوا لا يا رسول الله، قال فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا. وقد سئل ابن عباس هل تجد الصلوات الخمس بالقرآن، قال نعم إن أوقاتها مبينة في قوله تعالى (فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ) الآية ١٨ من سورة الروم من ج ٢، وكذلك من الآية ١٣٠ من سورة طه المارة، وكذلك في الآيتين ٧٧ و ٧٨ الآتيتين من هذه السورة، أما عدد ركعاتها فلم بشر إليه القرآن، وإنما ثبتت بفعل الرسول صلّى الله عليه وسلم وتعليمه وهو لا ينطق عن الهوى، ولا يفعل من نفسه بل بوحي من ربه القائل (ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) الآية ٧ من سورة الحشر في ج ٣ وقال تعالى (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ) الآية ٧٩ من سورة النساء من ج ٣ أيضا قال تعالى «وآتينا موسى الكتاب» جملة واحدة منسوخا على الواح بخلاف القرآن الذي أنزلناه عليك يا محمد فإنه أنزل بحوتا على قلبك بواسطة الملك وأوعينا كه بلغتك ووقّرناه في صدرك غير منسوخ على شىء لأنك أمي راجع بحث نزول القرآن في المقدمة «وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ» آل يعقوب الملقب بإسرائيل (أي صفوة الله من خلقه) ليهتدوا بهديه وقلنا لهم فيه «أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا» ٢ تتكلون عليه في أموركم يا «ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ» في السفينة وانجيناه من الغرق حين لم يكن له من يتوكل عليه غيرنا «إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً» ٣ لي يحمدني على طعامه وشرابه ولبسه واظلاله كثيرا ولهذا وصفه
(كَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً) الآية ١٢٩ من الأنعام في ج ٢، ولأنها جاءت باللام المفيدة للملك والكل مملوكون فلا محل للقول بأنها أي جملة (عبادا لنا) اضافة تشريفية البتة وعلى هذا ما ورد في الحديث القدسي (الظالم سيفي أنتقم به وأنتقم منه) أي أنه آلة للانتقام فيكون المراد من الآية والحديث بيان كون هؤلاء المسلطين مظاهر لأسمائه تعالى المذل المنتقم الجبار ثم وصف هؤلاء العباد بأنهم «أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ» في القتال أصحاب شوكة وبطش في الحرب لا يقاومون لشدة شكيمتهم وكثرة عددهم وعددهم الدال عليه التنوين «فَجاسُوا» أي يجوسون، وجاء بلفظ الماضي لتحقق وقوعه أي أنهم إذا جاءوكم لا يكتفون بقتل للقاتل منكم بل انهم يطوقون المنازل ويتحرون الفارين والمخبّئين لاستقصاء القتل والسلب والأسر، فلا يتركون أحدا من شرهم، ولهذا فإنهم يفتشون «خلال» بين وأواسط وأطراف «الدِّيارِ» الكائنة في بيت المقدس فيقتلون من عثروا عليه فيها من علمائهم وأحبارهم ووجهائهم غير مراعين حرمته ومن بجواره حتى إنهم ليخرّبون البيت نفسه ويحرفون
وما الناس إلا عاملان فعامل | يتبّر ما يبني وآخر رافع |
مطلب واقعتا بني إسرائيل وتبدل الأحكام بتبدل الأزمان:
وخلاصة القصتين على ما ذكره الأخباريون من القصاص أن بني إسرائيل كانوا قبل داود عليه السلام، إذا ملك الله عليهم ملكا بعث معه نبيا يسدد أمره ويرشده، فلا يستبد بشيء دون مشورته، وكانوا تابعين لأحكام التوراة، إذ لم ينزل الله لهم كتابا بعدها إلى زمن عيسى عليه السلام، إذ أنزل عليه الإنجيل بتعديل بعض أحكامها فيما يختص بالمعاملات وفروع بعض العبادات أما ما يتعلق بأصول الدين الثلاثة الاعتراف بالإله الواحد والنبوة والرسالة والبعث والحساب، فمكلف بها جميع الخلق من نشأتهم إلى إبادتهم، لأنها لا تقبل التعديل ولا التأويل البتة، أما القاعدة الشرعية وهي تبدل الأحكام بتبدل الأزمان فهي خاصة بالمعاملات بين الناس فقط، أما ما يتعلق بالعبادات وفروعها فلا تبديل ولا تغير، على أنه قد يقع بعض تغير في فروع العبادات من حيث القلة والكثرة في العود والأوقات ونوع التوبة والعفو والقصاص ومقدار الزكاة ولزوم الحج والرخص والعزائم وشبهها كما سيأتي في الآية
مطلب الواقعة الأولى على بني إسرائيل:
ثم عظمت فيهم الأحداث وأكثروا الفساد فأوحى الله الى نبيهم أن يبلغهم سوء عاقبتهم ويذكرهم بأحوال الأمم السابقة المهلكة، وأسباب إهلاكهم وإنجاء المؤمنين منهم، وبين لهم ثواب الطاعة وعقاب المعصية، وان ينذرهم بأن الله تعالى أقسم بعزته وجلاله أنهم إن لم ينتهوا عما هم عليه ويتوبوا الى الله ليقيضن لهم فتنة يتحير فيها الحليم، وليسلطن عليهم جبارا قاسيا يلبسه الهيبة وينزع من صدره الرحمة، يتبعه عدد مثل سواد الليل، فأبلغهم ذلك نبيهم فلم يلتفتوا إليه ولم يصغوا لقوله، فأوحى الله إلى نبيهم أرميا عليه السلام أبلغهم إني مهلكهم بيافث من أهل بابل، فقبضوا على نبيّهم وحبسوه بدل أن يسمعوا له ويطيعوه، فسلط الله عليهم بختنصر وأوقع في قلبه غزوهم، فخرج إليهم في ستمائة ألف راية من جنوده ووطئ بلادهم ودخل بيت المقدس، وقتل بني إسرائيل الذين هم فيه شر قتلة، وأدام القتل فيهم حتى أفناهم وخرّب بيت المقدس وحرق ما فيه من كتب وأمر جنوده فملأوه ترابا، ثم أمرهم أن يجمعوا من بلاد القدس من بقي منهم، فجمعوهم وأحضروهم بين يديه فاختار منهم سبعين ألفا وقسمهم بين ملوكه، وخرج بهم والغنائم التي أخذها منهم وأثاث بيت المقدس، ثم فرق من بقي من بني إسرائيل ثلاث فرق فرقة قتلهم وفرقة
فرغت من أهل الأرض (ومن هنا، قيل ملك الأرض أربعة كافران بختنصر ونمروذ، ومؤمنان سليمان وذو القرنين). قالوا لن تقدر على هذا، قال لتفعلن أو لاقتلنكم عن آخركم، فبكوا وتضرعوا الى الله تعالى قالوا فبعث الله عز وجل على بختنصر بعوضة دخلت في منخره حتى عضت أم دماغه، فما كان يقر ولا يسكن حتى يوجا له رأسه أي يضرب على فم؟؟؟ دماغه، ولم يزل كذلك حتى مات، فشقوا رأسه فوجدوا البعوضة عاضة على أم دماغه، ليري الله العباد قدرته بأن أهلكه بأضعف خلقه كما أهلك أخاه النمروذ، ونجى الله من بقي من بني إسرائيل وردهم الى الشام، فنموا وكثروا وتحولوا حتى صاروا على حالة أحسن مما كانوا عليها قبل، وزعموا أن الله تعالى أحيا أولئك الذين قتلوا في بابل ولحقوا بهم إلا أنه لم يكن عندهم من الله عهد يرجعون إليه في أموره، لأن التوراة أحرقت وكذلك بقية الصحف مما كان في البيت، وكان عزير من السبايا الذين كانوا ببابل، فلما رجع معهم الى الشام صار يبكي ليله ونهاره وخرج عن الناس، فجاءه رجل فقال له ما يبكيك، قال ابكي على كتاب الله وعهده الذي كان بين أظهرنا لأنه لا يصلح ديننا ودنيانا غيره، قال أن يردهم الله عليك؟ قال نعم قال ارجع الى بيتك فصم وتطهر وطهر ثيابك وموعدك هذا المكان غدا، فرجع الى بيته وفعل ما أمره به ذلك الرجل، ثم عمد ورجع الى المكان الذي وعده به، فجلس فيه فأتاه ذلك الرجل باناء فيه ماء وهو ملك بعثه الله إليه فسقاه فتمثلث التوراة في صدره، فرجع الى قومه فأملى لهم التوراة من صدره وكان منهم من يعرفها فأحبوه حبا شديدا وعملوا بها وصار حالهم على أحسن ما يرام، وهو معنى قوله تعالى (ثُمَّ
الآية المارة، ثم قبض الله روح عزير عليه السلام فطال عليهم الأمر في الراحة والعبادة وانقلب أمرهم الى الفساد وصاروا كلما جاءهم نبي كذبوه وأحدثوا الأحداث العاطلة وطغوا وبغوا وعمدوا الى قتل الأنبياء الذين ينهونهم ويحذرونهم عاقبة أمرهم، وصاروا يقتلون الأنبياء بغير حق، وآخر أنبيائهم زكريا عليه السلام هرب منهم لما أرادوا قتله إلى شجرة هناك، فدخلها فنشروه نصفين فيها كما فعلوا بأشعيا، وتصدوا لقتل عيسى عليه السلام لتحق عليهم كلمة العذاب فوقاه الله منهم ورفعه الى السماء وألقى شبهه على المنافق يهوذا الأسخريوطي الذي دلهم عليه فقتلوه على ظنهم أنه هو عيسى ابن مريم كما سيأتي تفصيله في الآية ٥٤ فما بعدها من سورة آل عمران والآية ١٥٦ فما بعدها من سورة النساء من ج ٣ فاستحقوا عذاب الله وسخطه الذي وعدهم به للمرة الثانية:
مطلب الواقعة الثانية على بني إسرائيل:
فبعث الله عليهم ملك ملوك بابل يقال له خردوش فسار إليهم بملوكه وجيوشه حتى دخل الشام وظهر عليهم فأفناهم قتلا وأسرا ونهبا وأمر قائده أن يديم القتل فيهم في بيت المقدس حتى يسيل الدم في وسط المعسكر، وقال له اني حلفت بإلهي أن أفعل فيهم هكذا إن ظفرت بهم، فدخل القائد واسمه بيور زاذان المدينة، وصار يقتل فيهم فرأى في البقعة التي يقربون فيها القرابين أي يذبحون فيها الصدقات دما يغلي، فسألهم عنه فقالوا هذا دم قربان لنا قربناه فلم يقبل منا فلذلك صار يغلي وانا منذ نمنمئة سنة لقرب القرابين فتقبل منا إلا هذا، فقال ما صدقتموني، فقالوا لو كان أولى زماننا لقبل ولكن انقطع عنا الملك والنبوة والوحي، فلذلك لم يقبل فلم يصدقهم. فذبح على ذلك الدم سبعمئة وسبعين روحا من رؤسائهم، فلم يهدأ الدم فذبح سبعمئة غلام منهم، فلم يهدأ أيضا فذبح سبعة آلاف من شيبهم وأزواجهم فلم يهدأ، فقال لهم ويلكم أصدقوني عن هذا الدم قبل أن أفنيكم فلا أترك منكم أحدا، فلما رأوا الجهد وشدة القتل وتصميمه على ما قال قالوا له هذا دم نبي كان ينهانا عن سخط الله ويأمرنا بالخير ويهددنا ما أوقعتموه فينا الآن فلم نصدقه وقتلناه واسمه يحيى بن زكريا، فقال الآن صدقتم لمثل هذا ينتقم الله منكم، فأمر بإغلاق المدينة وإخراج
مطلب قتل يحيى عليه السلام:
قالوا والسبب في قتل يحيى أن ملكهم في زمنه كان يكرمه ويجلس معه ويدنيه منه، وأن الملك هوي بنت أخيه التي أمها زوجته فسأل يحيى أن يتزوجها فنهاه عن نكاحها لأنها لا تحل له، فبلغ أمها ذلك فحقدت على يحيى وعمدت ذات يوم حين جلس الملك على شرابه فألبستها ثيابها وزينتها وطيبتها وأرسلتها إلى الملك وأمرتها
جاء في الإنجيل ما يقارب هذا، وان الملك اسمه هيدوريا، إلا أنه جاء فيه أن أة ظعينة، راجع الاصحاح ١٤ من إنجيل متى، وكذلك بقية الأناجيل الثلاثة حنا ومرقس ولوقا تؤيد بأنها ظعينة، أما القرآن العظيم فلم يتعرض لهذا البحث.
تعالى «عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ» بعد هذه المرة الثانية إن تبتم وأنبتم؟؟؟ سكتم بكتابكم وأوامر نبيكم، فيردّ عليكم الدولة ويمددكم بأموال وبنين كما فعل «وَإِنْ عُدْتُمْ» يا بني إسرائيل إلى المعاصي كأسلافكم «عُدْنا» إلى تجديد بكم بأكثر من ذي قبل، وقد عادوا قاتلهم الله بعد قتل يحيى والتصدي لقتل؟؟؟ عليهما السلام، فطغوا وبغوا، فسلط عليهم المؤمنين قوم محمد صلّى الله عليه وسلم واقتحموا هم وفتحوها عنوة وأرغموهم على الجلاء منها، وأذلّوهم وأجبروهم على أداء الجزية أن قتلوا منهم ما قتلوا، وشتتوا بالبلاد، وحرمهم الله نعمة الملك والنبوة، ؟؟؟ طع رجاءهم منها، وسيدوم الصغار عليهم إن شاء الله إلى خروج مسيحهم الدجال؟؟؟ كون على يدي جيش عيسى بن مريم عليه السلام. وان ما يتفوهون به من؟؟؟ ور ومساعدة الإنكليز لهم على تنفيذه لا يتيسر لهم إن شاء الله كما يريدون تعاون المسلمون ووحدوا كلمتهم، أما إذا تفرقوا فلا بد أن يسلطه الله عليهم؟؟؟ الجماعة رحمة والفرقة عذاب. ومهما تيقن اليهود تحقيق حلمهم فإنهم سيبقون؟؟؟ ذل من يساعدهم على انجاز ذلك الوعد لا أنجزه الله لهم، ومهما كان فإنه
ومقامة غلب الرقاب كأنهم | جن على باب الحصير قيام |
وفيهم مقامات حسان وجوههم | كأنّما النور منها ثمّ ينبثق |
قال تعالى «وَيَدْعُ الْإِنْسانُ» جنسه وأسند إليه حال بعض أفراده أو حكى عنه حاله في بعض أحيانه، وحذفت واو يدع لفظا دون جازم لأنها تحذف في الوصل لاجتماع الساكنين وتحذف بالوقف وهي مرادة معنى حملا للوقوف على الوصل، أي أن بعض أفراد الإنسان حال غضبه يدعو على نفسه «بِالشَّرِّ» وقد يتعدى بدعائه على ماله وولده وقومه بالهلاك واللعن «دُعاءَهُ» مثل دعاءه «بِالْخَيْرِ» لنفسه وولده وماله وعشيرته عند الرضاء بطلب البقاء لهم وطول البركة فيهم، وهذا ناشىء من عدم تأنيه وتؤدته «وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولًا» ١١ يتسرع بالأمر تسرع الغافل إلى طلب كل ما يخطر بباله متعاميا عن ضره لا يتبصر بعاقبة أمره، والآية عامة في كل إنسان هذا ديدنه، وخصه بعض المفسرين بالكافر بأنه يدعو بالعذاب استهزاء ويستعجل بطلب نزوله
فقد وصف الله كتابه ورسوله بأنهما يدعوان الناس لأن يهتدوا بالطريقة القيّمة المستقيمة إلى الدين القيم السويّ، ولا يراد بالتفضيل هذا اسم للتفضيل على معنى أنها أفضل من غيرها، إذ لا مشاركة بين ما يهدي إليه القرآن وبين ما يهدي إليه غيره، فالمراد بالأقوم القيم على حد قوله تعالى (فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ) الآية ٣ من سورة البينة في ج ٣، (وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) الآية ٥ منها، وهو على حدّ قوله تعالى (وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) الآية ٢٧ من سورة الروم في ج ٢، فهو بمعنى هين، إذ لا شيء على الله أهون من غيره في الخلق والصنع والإبداع، بل كلها عنده سواء، والمعنى أن قومك يا أكرم الرسل يأبون الملة الحسنى ويريدون التي ألوم وهي عبادة الأصنام التي يكثر لومهم عليها في الدنيا والآخرة، ويستعجلون بطلب نزول العذاب ويدعون على أنفسهم بالشر وهم تائهون في ذلك. هذا وقد جاء النهي صريحا في المنع من دعاء الرجل على نفسه وماله وأهله، فقد أخرج ابو داود والبذار عن جابر قال قال رسول صلّى الله عليه وسلم: لا تدعوا على أنفسكم لا تدعوا على أولادكم لا تدعوا على أموالكم، لئلا توافقوا من الله ساعة فيها إجابة فيستجيب لكم. أما ما وقع من أن حضرة الرسول دعا على بعض أهله فهو للزجر، فعلى العاقل أن يتجنب
مطلب الشمس والقمر والفصول الأربعة والليل والنهار وساعاتهما:
والمراد بالمحو هو عدم جعل قوة القمر بالإضائة مثل الشمس «وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ» التي هي الشمس «مُبْصِرَةً» مضيئة جدا يبصر فيها كل شيء، ولولا ذلك لما علم الليل من النهار ولا عرف الحساب ولتعطلت الأمور، فالنهار آية عظيمة دالة على قدرة الله مكملة نعم الدنيا، وقد أودع الله تعالى فيها ما أودع من منافع، راجع الآية ٣٧ من سورة يس المارة، وما ترشدك إليه من الآيات قال ابن عباس جعل الله تعالى نور الشمس سبعين جزءا ونور القمر كذلك، فمحا من نور القمر تسعة وستين فجعلها مع نور الشمس، وقال بعض المفسرين إن الإضافة بيانية فيكون المعنى فمحونا الآية التي هي الليل فجعلناها مطموسة مظلمة لا يبصر بها، وجعلنا الآية التي هي النهار مبصرة تبصر فيها الأشياء إلا أن ظاهر الآية يؤيد الأول الذي جرينا عليه، لأنه الحقيقة ولا يعدل عنها بلا ضرورة هنا، لا سيما وقد ورد الأثر به، فقد أخرج عبد ابن حميد وغيره عن عكرمة ما قاله ابن عباس بزيادة فالشمس على مائة وتسعة وثلاثين جزأ والقمر على جزء واحد، وهذه النسبة بالنظر لقوة الضياء ما بين الشمس والقمر، وإلا فالشمس من حيث الحجم أكثر بكثير من القمر كالبعد منه بالنسبة للأرض، ولا يعلم كنهها على ما هي عليه حقا إلا الله، لأن تقدير الفلكيين عبارة عن ظن وتخمين ليس إلا مهما بالغوا وقالوا، وأخرج ابن أبي حاتم عن محمد بن كعب القرظي أنه قال كانت شمس بالليل وشمس بالنهار
لقد علمت وما الإسراف من خلقي | أن الذي هو رزقي سوف يأتيني |
أسعى إليه فيعيبني تطلبه | ولو قعدت؟؟؟ لا يعييني |
وقسمو الليل الى اثنتي عشرة ساعة أيضا فسموا الأولى الشاهد، والثانية الغسق، والثالثة القمة، والرابعة الفحمة، والخامسة الموهن، والسادسة القطع، والسابعة الجوشن، والثامنة الهتكة، والتاسعة التباشير، والعاشرة الفجر الأول، والحادي عشرة الفجر الثاني، والثانية عشرة الفجر المعترض، وقسمت الشهور الاثني عشر الى ثلاثين وتسعة وعشرين، وسمت كل ثلاثة أيام باسمه، فالأولى هلال، والثانية قمر، والثالثة بهر، والرابعة زهر، والخامسة بيض، والسادسة درع، والسابعة ظلم، والثامنة حنادس، والتاسعة دآدي، والعاشرة ليلتان منها محاق وليلة سرار، وسموا الشهور المتعارف عندنا أسماؤها الآن لمعان متعارفة عندنا، فالمحرم كانوا يحرمون فيه القتال، وصفر كانوا يغيرون فيه على بلاد الصفرية، والربيعان كانوا يحصلون فيها ما أصابوه في صفر، والجماد إن كانت تسميتها زمن جمود الماء من شدة البرد، ورجب من الترجيب أي التعظيم، فإنهم لا يقاتلون فيه، وشعبان لتشعبهم فيه من كثرة الغارات بعضهم على بعض بعد ما كانت محرمة في رجب، ورمضان صادفت تسميته الحر الشديد أخذا من الرمضاء أي الحرارة القوية، وشوال كانوا يتعاهدون فيه إبلهم لأنه أول أشهر الحج أخذا من قولهم شالت الإبل بأذنابها تحضيرا للسفر،
الآية ١١٣ من النساء في ج ٣، فتبين في هذا أن هذا القرآن الذي أنزله الله على نبيه صلّى الله عليه وسلم يهدي للتي هي أقوم، قال تعالى «وَكُلَّ إِنسانٍ» ذكر أو أنثى كبيرا أو صغيرا، لأن النكرة المضافة تكون بمثابة العموم، وجاءت من باب التغليب، وإلا فيقال إنسانة، قال:
إنسانة فتّانة... بدر الدجى منها خجل
«أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ» شؤمه وسعده الذي هو نتيجة عمله في دنياه من خير أو شر، وهو نصيبه وحظه الذي قسمناه له في الأزل مما يتشاءم أو ينفاءل فيه وطوقناه «فِي عُنُقِهِ» كالقلادة، وخصّ العنق لأنه مما يزين أو يشين، فإن كان عمله صالحا كان زينة له كالحلى، وإن كان طالحا كان مشينا كالغل، أعاذنا الله، ومعنى
(اقرأ كتابك) إلخ. والباء في بنفسك للتأكيد ويجوز إسقاطها في غير القرآن
ورفع الاسم بعدها وعليه قوله:... كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا
وقوله:
ويخبرني عن غائب المرء هديه... كفى الهدي عما غيب المرء مخبرا
والمراد بالنفس ذات الإنسان وشخصه، وما قيل إن المراد بالنفس جوارح الإنسان لا يتأتى هنا، لأنه على خلاف ظاهر الآية، قال تعالى «مَنِ اهْتَدى» في هذه الدنيا بهداية هذا القرآن وعمل بما فيه من الأحكام وآمن بمنزله والمنزل عليه «فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ» فيعود نفع هداه لهالا يتخطاها إلى غيره «وَمَنْ ضَلَّ» هداه وخالف ما جاءه فيه «فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها» فيعود وبال ضلاله على نفسه خاصة
مطلب في أولاد المشركين وأهل الفترة:
وما قيل إنها نزلت في أطفال المشركين لا صحة له واستدل الجبائي بهذه الآية على أن أطفال المشركين لا يعذبون وهذه من المسائل الخلافية لتصادم الأحاديث والأخبار في ذلك قال بعض العلماء هم في النار تبعا لآبائهم، واستدل بما أخرجه الحكيم الترمذي في نوادر الأصول عن عائشة قالت: سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن ولدان المسلمين، قال في الجنة، وسألته عن ولدان المشركين اين هم؟ قال في النار، قلت يا رسول الله لم يدركوا لأعمال ولم تجر عليهم الأفلام، قال ربك أعلم بما كانوا عاملين (أي لو بلغوا الحلم) والذي نفسي بيده إن شئت أسمعنك تضاغيهم في النار. إلا أن هذا الخبر قد ضعّفه ابن عبد البر، فلا يحتج به. وأنت عليم بأن الحديث إذا طرقه الاحتمال يفقد صلاحيته للاستدلال، وإنما صح عنه صلّى الله عليه وسلم أنه سئل عن أولاد المشركين فقال الله أعلم بما كانوا عاملين، وتوقف بعضهم فيهم ومنهم أبو حنيفة، والقول الصحيح أنهم ناجون لقوله تعالى «وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ» أحدا من خلقنا «حَتَّى نَبْعَثَ» له «رَسُولًا» ١٥ يرشده في الدنيا لإقامة الحجة عليه وقطعا للمعذرة، حتى إذا لم يهتدوا بهديه عذبهم الله بنوع من أنواع العذاب في
قال وأولاد المشركين- رواه البخاري في صحيحه- والحديث الذي أخرجه الترمذي في النوادر رواه ابن عبد البر عن أنس قال سألنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن أولاد المشركين فقال هم خدم أهل الجنة والآية هذه صرحت بأن لا تعذيب قبل التكليف، والذي هو دون البلوغ لا يتوجّه عليه التكليف. واعلم أنه لم يخالف أحد يكون أولاد المسلمين في الجنّة إلا من لا يعتدّ بقوله لقوله صلّى الله عليه وسلم ما من مسلم يموت له ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث إلا أدخله الله تعالى في الجنة بفضله ورحمته إياهم.
أما من احتج بحديث عائشة رضي الله عنها الذي قالت فيه لما توفي صبي من الأنصار:
طوبى له عصفور من عصافير الجنة لم يعمل السوء ولم يدركه، فقال لها صلّى الله عليه وسلم:
أو غير ذلك يا عائشة، إن الله تعالى خلق للجنة أهلا خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم، وخلق للنار أهلا خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم. فإن هذا القول المتضمن معنى النهي لها رضي الله عنها هو نهي عن المسارعة إلى القطع من غير أن يكون لها دليل قاطع، وهذا مثل إنكاره على سعد بن أبي وقاص في قوله لحضرة الرسول بحقّ رجل حضر تقسيم الصدقة للفقراء من قبله صلّى الله عليه وسلم أعطه إني لأراه مؤمنا قال صلّى الله عليه وسلم أو مسلما، الحديث، ولا يبعد أنه صلّى الله عليه وسلم قال هذا الحديث قبل أن يعلم أن أطفال المسلمين في الجنة فلما علم قال ما ذكر من الأحاديث التي أثبتناها أعلاه، وقدمنا في الآية ٤٦ من القصص بان لا وجه لقول من فسر الرسول في هذه الآية بالعقل، لأن حقيقة الرسول هو النبي المرسل والأصل في الكلام الحقيقة، وما قيل إن المراد نفى المباشرة قبل البعثة لا مطلق التعذيب، مردود، لأن من شأن عظيم القدر للتعبير عن نفى التعذيب مطلقا، ولا يوجد ما يقيدها لا بنوع
واخرج الحكيم الترمذي من نوادر الأصول والطبراني وأبو نعيم عن معاذ بن جبل عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال:
يؤتى يوم القيامة بالممسوح عقلا، وبالهالك وبالفترة، وبالهالك صغيرا، فيقول الممسوح عقلا، أي المجنون يا رب لو آتيتني عقلا ما كان من آتيته عقلا بأسعد بعقله مني، ويقول الهالك في الفترة يا رب لو أتاني منك عهد ما كان من أتاه منك عهد بأسعد بعهدك مني، ويقول الهالك صغيرا يا ربي لو آتيتني عمرا ما كان من آتيته عمرا بأسعد بعمره مني، فيقول لهم الرب تبارك وتعالى فاذهبوا وادخلوا جهنم ولو دخلوها ما ضرتهم شيئا، فتخرج عليهم قوابص (جمع قبصات التي هي جمع قبصة وهو ما يتناول بأطراف الأصابع وهو كناية عن قليل من النار يظنون أنها قد أهلكت ما خلق الله) فيرجعون سراعا ويقولون يا ربنا خرجنا وعزتك نريد دخولها، فخرجت علينا قوابص من نار ظننا أنها أهلكت ما خلق الله تعالى من شيء، ثم يأمرهم ثانية فيرجعون لذلك، ويقولون كذلك، فيقول الرب تعالى خلقتكم على علمي والى علمي تصيرون، يا نار ضمّيهم، فنأخذهم النار وقدمنا في آخر سورة طه المارة ما يتعلق بهذا البحث فراجعه قال في الإصابة أن هذه الأحاديث وإن وردت من عدة طرق فمعارضها أصحّ منها للأدلة السابقة وغيرها، على أن الحديث مهما كان لا يعارض القرآن وان كان متواترا فما بالك بأحاديث لم تبلغ درجة الصحة، قال تعالى «وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً»
من القرى والمراد بالإهلاك أهلها من اطلاق المحل وارادة
بالعمل الصالح والطاعة لنرفع عنهم العذاب، لأن المنعمين والرؤساء إذا ركنوا وخضعوا لأوامر الله كان غيرهم أخضع له وأطوع واكثر إذعانا، لأن أكثرهم تبع لهم، وقرىء «أمرنا» بالتشديد أي جعلناهم الأمراء، وإذا كان الجبابرة والفساق أمراء الناس فبشرهم بالدمار إذ أريد بهم الشر، وإذا كان الصلاح والمتقون أمراءهم فبشرهم بالفلاح والنجاة والنجاح والفوز بالدنيا والآخرة «فَفَسَقُوا فِيها»
في أهالي القرية غير مكترثين بإرشاد الرسل وأصروا على عنادهم وخرجوا عن الطاعة «فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ»
المبين في الآية ١٩- ٣٣ من سورة يونس والآية ١١١ من سورة هود والآية ٤٥ من سورة فصلت والآية ١٤ من سورة الشورى في ج ٢ والآية ١٢٩ من سورة طه المارة وجب على أهلها الوعيد بالعقاب والإهلاك إذ لم يفعلوا ما أمروا به ولم يصغوا الى قول الله ورسوله «فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً»
١١ بانزال العذاب المقدر على أهلها فأهلكناهم فيه وخربنا ديارهم، وهذا هو معنى التدمير لما فيه من محو الأثر للمحل والحال فيه، وقيل أن أمرنا بمعنى سعرنا واستدل على هذا المعنى بما أخرجه احمد وابن أبي شيبة في سنديهما والطبراني في الكبير من حديث سويد بن هبيرة: خير المال سكة مأبورة ومهرة مأمورة.
أي كثيره النتاج والسكة الطريقة المصطفة من النخل والمأبورة الملقحة، وإذا أريد سكة الحراثة فيراد بالمأبورة مصلحة والمهرة المأمورة كثيرة النسل، أي أن خير المال نتاج أو زرع، وعليه يكون المعنى كثرنا جبابرتها وملوكها وخصهم بالذكر مع توجه الأمر الى الكل لأنهم أئمة الفسق ورؤساء الضلال، لأن توجه الأمر إليهم آكد، ولأن غيرهم تبع لهم، ولأن الناس عبيد الدرهم والدينار والجاء والمنصب، على أن البلاء يعم قال تعالى: (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً) الآية ٢٥ من سورة الأنفال في ج ٣، وجاء عن أم المؤمنين زينب بنت جحش أن النبي صلّى الله عليه وسلم دخل عليها فزعا يقول لا إله إلا الله ويل للعرب من شر قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه، وحلق بإصبعيه الإبهام والتي تليها، قالت زينب قلت يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون؟ قال نعم
الآية ٨٢ من سورة المائدة في ج ٣. واعلم ان القرن أقله ثلاث وثلاثون سنة وأربعة أشهر وأكثره مائة وعشرون سنة، فكل ثلاثة قرون عصر أي قرن باعتبار القرن عصرا والعصر مائة سنة فقط. روي عن محمد بن القاسم عن عبد الله بن بشر المازني أن النبي صلّى الله عليه وسلم وضع يده على رأسه وقال سيعيش هذا الغلام قرنا قال محمود بن القاسم مازلنا نعدّله حتى تمت له مائة سنة أيضا «وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ» وإن بالغوا في إخفائها وكتمها وأرخوا الستور حال فعلها «خَبِيراً» بها «بَصِيراً» ١٧ لأنه عالم بجميع ما يقع في ملكه من المعلومات راء المرئيات كافة، فكل ما يفعله العباد حال في علمه قبل أن يفعلوه وبعده، فعلمه بالقبلية والبعدية سواء، لا يتغير علمه في حال من الأحوال جل علمه، وهو القائل «مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ» منكم أيها الناس وسميت الدنيا العاجلة لقلة زمنها فهي كالعربون الذي يأخذه البائع من المشترى «عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ» تعجيله له من نعيمها لا ما يشاء هو وذلك «لِمَنْ نُرِيدُ» نحن من طلابها لا لكل من أرادها كل فليس متمني يعطى ما يتمناه بل قد يعطي بعضهم كله وبعضهم بعضه، وقد يحرم البعض البتة فيخسرون الدنيا والآخرة ويجتمع عليهم فقدها، أجارنا الله من ذلك «ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ» لطالب الدنيا الحاضرة رغبة فيها والآخرة التي لم يردها مكان ما عجلنا له في الدنيا «جَهَنَّمَ يَصْلاها» يحرق فيها ويقامي حرها حال كونه «مَذْمُوماً» مهانا محقرا على اختياره لها ملوما عليه ممقوتا بسببه
نحوهم فنعم، لذلك أدرج الزمخشري الشيخ محمود جار الله في كشافه قبل رجوعه عن الاعتزال الفاسق في هذه الآية «وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ» وعمل لأجلها في دنياه توصلا لنعيمها «وَسَعى لَها سَعْيَها» اللائق بها المستحق لها بأن قام بما أمر الله وانتهى عما نهاه عنه «وَ» الحال أنه «هُوَ مُؤْمِنٌ» إيمانا صحيحا بنية خالصة، أما إذا كان كافرا أو عمله للرياء والسمعة والنفاق فلا ينتفع بإرادته إياها ولا بسعيه لها، لأن الله تعالى ذم المرائين بقوله جل قوله الذين يراؤن الآية ٦ من الماعون المارة وكذلك من يتعبد في الكفرة بما يخترعه من الآراء ويزعم أنه يسعى لها، فهؤلاء يكافئهم الله على أعمالهم الحسنة بالدنيا بإطالة أعمارهم وتوسيع رزقهم ومعافاتهم من الأمراض والأكدار حتى يلقوا الله تعالى وليس لهم حسنة يكافئون عليها بالآخرة، كما أن المؤمن قد يجازيه الله على أعماله السيئة بالمرض وضيق العيش ونقد الأولاد حق يلقى الله تعالى وليس عليه سيئة يعاقب عليها، قال بعض السلف الصالح من لم يكن معه ثلاث لم ينفعه عمله، إيمان ثابت، ونية صادقة، وعمل مصيب «فَأُولئِكَ» مريدوا الآخرة الساعون لها بالأعمال الصالحة حالة كونهم مؤمنين بالله ورسله وكتبه آتين بما أمروا به منتهين عما نهو عنه «كانَ سَعْيُهُمْ» في دار الدنيا «مَشْكُوراً» ١٩ في الآخرة مقبولا عند الله يثيبهم عليها بمنه وكرمه وفضله
أن أجز علقمه بن سعد سبعة | لا أجزه ببلاء يوم واحد |
قال تعالى مخاطبا حبيبه محمدا صلّى الله عليه وسلم «انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ» في هذه الدنيا بالرزق والجاه والعمل والشرف بحسب مراتب العطاء وتفاوت أهله «وَلَلْآخِرَةُ» الآتية «أَكْبَرُ دَرَجاتٍ» ٢١ في الفضل من درجات الدنيا وأعظم تفاوتا فيها «وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا» ٢١ من الدنيا، والفرق بين تفضيل الدنيا وتفضيل الآخرة كالفرق بين دركات جهنم ودرجات الجنة، وكالفرق بين الدنيا والآخرة، فعلى الراغب في التعالي بالدنيا أن تشتد رغبته في تعالي الآخرة أيضا، لأنها ذات مقام أبدي والدنيا مزرعة الآخرة فلها يعمل العاملون، وفيها فليتنافس المتنافسون، وقيل في المعنى:
إذا أنت لم تزرع وأبصرت حاصدا | ندمت على التفريط في زمن الزرع |
مطلب في برّ الوالدين والحكم الشرعي بذلك:
ولما كان حق الإحسان على العبد بعد طاعة الله تعالى لأبويه اللذين هما السبب الظاهري بوجوده اتبع الأمر بعبادته بالإحسان إليهما فقال «وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً» ما فوقه احسان إلا عبادة الملك الديان وحده، وذلك بأن تبرّوهما برّا لا مزيد عليه، وتتلطفوا بهما تلطفا لا نهاية له إلا الموت، فتخدمونهما وتقضوا حوائجهما وتعطفوا عليهما برغبة املا برضاء الله المترتب على رضائهما. واعلموا أيها الناس «إِمَّا» أصلها إن الشرطية زيدت عليها ما تأكيدا للمعنى «يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ» هو منتهى الشيخوخة الذي قد تحوجهما إليك أيها الولد لما يلمّ بهما «أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما» من حالة الضعف والعجز والهرم فيلتجئان عندك آخر عمرهما كما كنت ضعيفا مبدأ عمرك ملتجئا في حضانتهما، يحنيان عليك بشفقتهما، ويحملان الأذى من تحتك، فلا ينامان حتى تنام، ولا يأكلان حتى تأكل، ولا يستريحان حتى تستريح، ويتمنيان أن يصيبهما كل ما قدر عليك من أذى، وأن تكون معافى لا تصيبك شوكة عن طيب نفس ورغبه منهما، فإذا صارا إليك واحتاجا لعنايتك فيجب أن تقوم لهما بهذه الأمور الخمسة إذا أردت رضاء الله ونظره إليك، أولها «فَلا تَقُلْ لَهُما» إذا كلفاك بشيء مهما كان «أُفٍّ» وهذه الكلمة كناية عن عدم التضجر مما يقولانه لك لأنها كلمة تضجر وكراهية، وأصلها إذا سقط عليك تراب ونفخته عنك تقول أف، ثم توسعوا بها الى كل مكروه، أي ولا تتضجّر منهما أو من فعلهما أو قولهما أو مما يطلبانه منك ولو بمثل هذه الكلمة، بل عليك
تمنعهما شيئا أحبّاه.
واعلم أن احتياج المرء إلى من كان محتاجا إليه غاية الضراعة والمسكنة، فيحتاج إلى أشد رحمة وأفرط رأفة ولله در الخفاجي إذ يقول:
يا من أتى يسأل عن فاقتني | ما حال من يسأل من سائله |
ما ذلة السلطان إلا إذا | أصبح محتاجا إلى عامله |
فجعل صلّى الله عليه وسلم القيام بأمورهما خيرا له من الجهاد وأعظم أجرا عند ربه. وجاء في الخبر أنه عليه الصلاة والسلام قال لو علم الله تعالى شيئا أدنى من الأف لنهى عنه، فليعمل العاق ما شاء أن يعمل فلن يدخل الجنة، وليعمل البارّ ما شاء أن يعمل فلن يدخل النار. ورأى ابن عمر رجلا يطوف بالكعبة حاملا أمه على رقبته فقال يا ابن عمر أتراني جزيتها؟ قال لا ولا بطلقة واحدة، ولكنك أحسنت والله تعالى يثيبك على القليل كثيرا. وروى مسلم وغيره لا يجزي ولد والده إلا أن يجده مملوكا فيشتريه فيعنقه. وعنه عليه الصلاة والسلام إياكم وعقوق الوالدين فإن الجنة يوجد ريحها من مسيرة ألف عام ولا يجدها عاق ولا قاطع رحم ولا شيخ زان ولا جارّ إزاره خيلاء إن الكبرياء لله رب العالمين. قدّم في هذا الحديث العاق على قاطع الرحم لأن العقوق أعظم لاشتماله على قطع الرحم وعدم احترام الأبوين الذين وصّى الله ورسوله بهما ومخالفتهما مخالفتهما، ولا أعظم منها وزرا. وروى البخاري ومسلم عن أبي هريره قال: جاء رجل إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال أمك ثم أمك ثم أباك، ثم أدناك فأدناك؟
أي الأقرب فالأقرب منك. وروى مسلم عن أبي هريرة قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: رغم أنفه رغم أنفه رغم أنفه، قيل من يا رسول الله؟ قال من أدرك والديه عند الكبر أو أحدهما ثم لم يدخل الجنة أي بسبب برّهما. وروى مسلم عن عبد الله بن مسعود قال: سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلم أي الأعمال أحب إلى الله
غذوتك مولودا وصنتك يافعا | تعلّ بما أجني عليك وتنهل |
إذا ليلة نابتك بالسقم لم أبت | لسقمك إلا ساهرا أتململ |
كأني أنا المطروق دونك بالذي | طرقت به دوني فعيني تهمل |
تخاف الرّدى نفسي عليك وإنها | لتعلم أن الموت وقت مؤجل |
فلما بلغت السن والغاية التي | إليها مدى ما كنت فيها أؤمل |
جعلت جزائي غلظة وفظاظة | كأنك أنت المنعم المتفضل |
فليتك إذ لم ترع حق أبوتي | فعلت كما الجار المجاور يفعل |
تراه معدا للخلاف كأنه | برد على أهل الصواب موكل |
عليه الطاعة والامتثال فيما عدا ذلك. ومن الكبائر أن يسافر الولد ويترك أبويه أو أحدهما بلا نفقه مع قدرته وحاجتهما، أما السفر إلى حج الفرض وطلب العلم فلا يحق للوالدين المنع إذا تأمنت نفقتهما من مالهما أو ماله، وإن مخالفتهما في هذين لا يعدّ عقوقا ولا يكون فعله كبيرة، أما إذا لم يؤمن نفقتهما مدة ذهابه وإيابه فلا يجوز له الذهاب مطلقا، لأن حقهما أقدم من غيره، وإن فعل كان عاقا ومخالفا ومرتكبا الكبائر، وإذا خالفهما فيما لا دخل لهما فيه ولا ضرر فيه عليهما ولا عليه فلا شيء عليه البتة، إلا أن عدم المخالفة أولى لئلا يحقدا عليه، وإذا فعل فعلا يسبّب ضررا إليهما فيحرم عليه ذلك، لأن إضرار هما والتسبب لإضرارهما حرام ولو كلف الوالد ابنه طلاق زوجته التي يحبّها فلم يمتثل فلا إثم عليه، لأن هذا من خصائصه ولا ضرر يلحقهما منه رأسا ولا تسببا، وإذا كان يقدر أن يصبر عن زوجته فطلقها امتثالا لأمر والديه أو أحدهما فهي فضيلة له يثاب عليها، كما يأثم الوالدان إذا تسببا لطلاقها بلا سبب شرعي، فقد روى ابن حبان في صحيحه أن رجلا أتى
أما أوامره التي لا حامل لها إلا ضعف عقله وسفاهة رأيه بحيث لو عرضت على ذوي العقول لعدوها عبثا أو متساهلا فيها، فلو خالفهما فيها فلا إثم عليه، وينبغي للولد أن لا يتضجر من هكذا أوامر فلو تضجر أو قطب وجهه لقاءهما أو لم يقم لهما حينما يأتيانه بحضور الناس كان عقوقا لهما مؤاخذ عليه، لأنه أكثر من الأف التي نهاه الله عنه، ولا يقال إن الوالدين إنما طلبا بزواجهما تحصيل اللذة لأنفسهما لا لقصد الولد، لأنه إنما لزم منها وجود الولد ودخوله في عالم الآفات والمخالفات، فلا فضل لهما عليه ولا منّة، كما أن أحد المسمّين بالحكمة كان يضرب أباه ويقول له أنت أدخلتني في عالم الكون والفساد وعرضتني للموت والفقر والعمى والزمانة.
وقيل لأبي العلاء المعري ولم يكن ذا ولد ما نكتب على قبرك فقال اكتبوا عليه:
هذا جناه أبي عليّ... وما جنيت على أحد
وقال في ترك التزوج وعدم الولد:
وتركت فيهم نعمة العدم التي... سبقت وصدت عن نعيم العاجل
ولو أنهم ولدوا لنالوا شدة... ترمي بهم في الموبقات الآجل
وقال ابن رشيق:
قبح الله لذة لشقانا... نالها الأمهات والآباء
نحن لولا الوجود لم نألم الفقر فإيجادنا علينا بلاء وقيل للإسكندر: أستاذك أعظم منّة أم والدك؟ فقال الأستاذ أعظم منّة
الصغائر. كما جاء في شرح هذا الحديث في كتاب مصباح الظلام للشيخ محمد بن عبد الله الجرداني، وورد فيه أيضا من صلّى ركعتين بعد المغرب وقرأ فيهما بالمعوّذتين لم يرمد وقد جربته فوجدته، وجاء في الصلاة بعد المغرب أحاديث كثيرة رتب عليها أجر كبير لفاعلها أعرضنا عنها اكتفاء بما ذكرنا خشية التطويل، وقد ألمعنا إلى ما يتعلق به في الآية ٣٠ من سورة ص المارة فراجعها تجد ما يقرّ العين من ذوي العقيدة والإيمان.
قال تعالى «وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ» من نفقة وزيادة عطف، قدّم الله تعالى حق الوالدين لأنهما الأصل، ثم عقبهما بالفروع المحارم، لأن الإنفاق عليهم إذا كانوا محتاجين عاجزين عن الكسب صلة وصدقة وتسمية هذا الإتيان من قبل الله حقا يشعر بإلزام القريب الموسر الإنفاق على قربيه المعسر العاجز على طريق الوجوب، وهذا الحكم الشرعي في ذلك، وسيأتي لهذا البحث صلة في الآية ٢٩ من سورة الروم في ج ٢ نظير هذه الآية، وهذه الآية بالنسبة لما قبلها فيها من أنواع البديع ومحسنات الكلام التعميم بعد التخصيص، لأن الوالدين يدخلان في القربى لغة ولم يتناولهما عرفا، ولذا قالوا في باب الوصية المبنية على العرف لو أوصى لذوي قرابته لا يدخل أبواه، وجاء في المعراج من قال لأبيه قربي فقد عقّه. واعلم أن هذا الحق لا ينحصر في النفقة بل يشمل حسن المعاشرة والرحمة والتوقير، لأن اللفظ عام والآية معطوفة على ما قبلها الشاملة لسائر الحقوق المانعة بجميع أنواع العقوق، وما قيل إن هذه الآية خاصة بحضرة الرسول وأن الله أمره بها ليؤتى أقاربه، أو أنها لما نزلت دعا فاطمة رضي الله عنها فأعطاها فدكا مناف لعموم الآية، لأن فدكا في المدينة وهذه الآية مكية، فضلا عن أنه لا قرينة فيها على التخصيص البتة، ومما يؤيد عدم الإختصاص هو أن فدكا لم تكن إذ ذاك تحت تصرف المصطفى صلّى الله عليه وسلم وكانت طلبتها إرثا بعد وفاته. أما ما قاله الحسن بأن هذه الآية مدنية فيصحّ على قوله ما قيل في سبب نزولها، وحينئذ يراد بالحق هنا الزكاة المفروضة، إلا أن سياق الآية يدل على أنها مكيّة كورتها على قول الجمهور والله أعلم، «وَالْمِسْكِينَ» الذي لا مال له ولا كسب وهو عاجز، أما الفقير فالذي لا يكفيه كسبه، وقيل بالعكس راجع الآية ٧٨ من سورة الكهف في ج ٢، «وَابْنَ السَّبِيلِ» المسافر الذي انقطع عن أهله ولو كان غنيا في بلده، أي أعط أيها الغني مما أعطاك الله هذين الصنفين أيضا بعد أبويك وقرابتك مما زاد على حاجتك من مالك بقدر ما يسد حاجتهما «وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً» ٢٦ بمالك وتسرف فيه، بأن تعطيه من لا يستحقه
وإنما الله سمى الإنفاق لهذين الصنفين حقا لأن أهل مكة قبل الإسلام كانوا افترضوا على أنفسهم إنفاق شيء من أموالهم لنشر الصيت، وكان التصدق مفروضا على الأمم السابقة وكان أهل مكة ينفقون هذا القسم للسمعة والملاهي والطرق التي لا خير فيها، فأمر الله رسوله في هذه الآية بإنفاق هذا الحق لأهله الذين ذكرهم، وهذا قبل نزول آية الزكاة المفروضة، أما بعد نزولها فيكون منها وعلى القدر الذي سنه حضرة الرسول كما سيأتي في الآية ٢٢١ من سورة البقرة والآية ٥٩ من سورة التوبة في ج ٣ وغيرها من السور المدنية. واعلم أن التبذير هو كل إنفاق بغير محله كما علمت مما مرّ عليك، وأصله في اللغة التفريق مأخوذ من إلقاء البذر في الأرض كيفما كان من غير تعهد لمواقعه، وشرعا إنفاق المال في غير حقّه مما هو تجاوز في موقع الحق وجهل بكيفيته، أما الإسراف فهو التجاوز في الكمية وجهل بمقدار الحق، وكلاهما مذموم، قال مجاهد لو أنفق مدا في باطل كان تبذيرا. وقد أنفق بعض
قال تعالى «وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ» أيها الغني القريب «عَنْهُمُ» عن أقاربك الفقراء المحتاجين العاجزين والمساكين المعدمين والفقراء وأبناء السبيل المقطوعين لضيق ذات يدك أو لأمر أخطرك فأوجب إغضاءك عنهم حياء وكان ذلك منك «ابْتِغاءَ» طلب ورجاء «رَحْمَةٍ» رزق «مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها» تتوقعها وتترقب حصولها ومجيئها لتعطيهم منها «فَقُلْ لَهُمْ» عند ما تريد انصرافهم أو ردهم «قَوْلًا» جميلا لا تأنيب فيه عليهم ولا كسر لخواطرهم «مَيْسُوراً» ٢٨ لينا وعدهم وعدا تطيب به خواطرهم كأن تقول لهم إن لنا مالا سيحضر أو دينا سنقبضه قريبا ونخصكم به، وادع لهم بما فيه اليسر لك ولهم، وتقدم معنى أمّا بالآية ٢٣ المارة، وأنث الضمير في ترجوها باعتبار اللفظ لأنه سمّى الرزق رحمة وهو يعود إليها ووضع الابتغاء موضع الفقد لأن فاقد الرزق مبتغ له فكان الفقد سببا للابتغاء مسبّب عنه فوقع السبب الذي هو الابتغاء موضع المسبب الذي هو الفقد. هذا وما قيل إن هذه الآية نزلت بمهجع وبلال وصهيب وسالم وخبّاب الذين كانوا يسألون حضرة الرسول أحيانا ما يحتاجونه وأنه لا يجد ما يعطيهم فيعرض عنهم حياء ويمسك عن القول، أو أنها نزلت في أناس من مزينة جاءوا يستحملون حضرة الرسول فقال لهم (لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ) الآية ٩٤ من التوبة في ج ٣، إذ ظنوا أن ذلك من غضب رسول الله، لا وجه لهما ولا حقيقة، لأن هذه السورة مكية وتلك الحادثتين وقعتا في المدينة، وإنما هذه الآية عامّة في كل أحد ولا يخصصها ما قيل إن النبي صلّى الله عليه وسلم كان إذا سئل شيئا ليس عنده صرف وجهه الشريف وسكت، لأن هذه الحالة شأن كل عاقل منصف، فكيف لا تكون بأكمل الناس عقلا وإنصافا، فهي شاملة لحضرة الرسول وأمته الخيرية على الإطلاق كالآيات التي قبلها. جاء عن الإمام مالك رحمه الله أنه كان لا يري أن يقال للسائل إذا لم يعطه شيئا رزقك الله تعالى أو نحوه، لأن ذلك مما يثقل على السائل ويكره سماعه، ولا ينبغي أن يذكر اسم الله تعالى لمن لا يهش له، وهذا القول ردّ لقول من فسر القول الميسور بأن يقال للسائل رزقك
بين تبذير وقتر رتبة | وكلا هذين إن زاد قتل |
أتجعل نهبي ونهب البعيد... بين عيينة والأقرع
وما كان حصن ولا حابس... يفوقان مرداس في مجمع
وما كنت دون امرئ منهما... ومن يخفض اليوم لا يرفع
فقال صلّى الله عليه وسلم يا أبا بكر اقطع لسانه، أعطه مائة من الإبل. وكانوا جميعهم من المؤلفة قلوبهم لأن النهب والفيء لم يكن في مكة، لهذا فإن ما اعتمد عليه بعض المفسرين من هذه الأخبار في كونها سببا للنزول غير صحيح، وان الآية مطلقة كما ذكرنا عامة شاملة.
مطلب بسط الرزق وقبضه ووأد البنات وما يتعلق فيه:
قال تعالى «إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ» يوسعه ويكثره «لِمَنْ يَشاءُ» من عباده مؤمنا كان أو كافرا لا لكرامته ولا لمحبته «وَيَقْدِرُ» يضيق ويقلل ويقتر على من يشاء لا لهوانه ولا لبغضه ولا لبخل من الجواد عليه، تعالى الله عن ذلك بل لمصالح يقتضيها هو يعلمها وحكم تتعلق بها مشيئته، لأن مقاليد الرزق بيده جل جلاله، وهذه الآية كالعلة لقوله تعالى (وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ) كأنه قيل إن أعرضت عنهم لفقد ما تعطيهم (فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُوراً) ولا تهتم لذلك فإن عدم التوسعة عليك ليس لهوان منك عليه، وإن ما يعرض لك في بعض الأحيان من ضيق المال الذي يحوجك إلى الإعراض ليس إلا لمصلحة وحكمة، وعليه فتكون الآية (وَلا تَجْعَلْ) إلخ كالإعتراض بين هذه الآية والتي قبلها وكالتأكيد لمعنى ما تقتضيه حكمة الله عز وجل «إِنَّهُ كانَ» قديما ولم يزل ولن يزال «بِعِبادِهِ خَبِيراً» بمصالحهم السرية الخفية «بَصِيراً» بحوائجهم العلنية الظاهرة التي منها بسط الرزق وقبضه، لأنهما أمران مختصان به، وما على العبد إلّا أن يقتصد في الإنفاق والإعطاء فيفعل ما عليه ويترك ما على الله بطريق التفضل إلى الله.
قال تعالى «وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ» مخافة الفقر والفاقة، قال الشاعر:
وإني على الإملاق يا قوم ماجد | أعد لأضيافي الشواء المصهّبا |
وأصل الخشية خوف يشوبه تعظيم ويكون عن علم بما يخشى منه، «نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ» هذا ضمان من الله تعالى لرزقهم وتعليل للنهي عن قتلهن، أما النهب والسبي فهو أمر قسري وكل ما يقسر عليه لا عار فيه، كما أن ما يكره عليه لا يتم؟؟؟ فيه، أما الكفاءة فهي في الإسلام متقاربة ولو فرض عدم توفرها، فإنه لا يستوجب القتل وقد أجاز الشرع للولي طلب فسخ النكاح فيها كما أجاز له الإقرار عليها، وإذا كان الله تعالى تعهد بالرزق فلا ينبغي أن يخشى من الفقر لإطعام العاجزات عن طلب الرزق، وسيأتي في الآية ١٥٠ من سورة الأنعام في ج ٢ في نظير هذه الآية تقديم ضمير الأولاد على ضمير المخاطبين عكس ما في هذه الآية وذلك التقديم للإشعار بأصالتهم في افاضة الرزق، وعارض هذه النكتة في آية الأنعام تقدم ما يستدعي الاعتناء بشأن المخاطبين، لأن الباعث على القتل فيها الإملاق الناجز، ولذلك قيل من إملاق، وهنا الإملاق المتوقع، ولذلك قيل فيها خشية إملاق، فكأنه قيل نرزقهم من غير أن ينقص من رزقكم شيء فيعتريكم ما تخشونه ونرزقكم أنتم أيضا رزقا إلى رزقكم «إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً» لذلك السبب المزعوم المبتني على قلة يقينكم بالرازق وترهمكم ذلك «كَبِيراً ٣١» إثمه عظيما تخطره، والإثم والخطأ بمعنى واحد، ومن قرأ خطا بفتح الخاء والطاء أراد أنه لغة في الخطء بكسر الخاء وسكون الطاء مثل مثل مثل وحذر وحذر، لأنه من خطأ يخطىء، وعليه يكون المعنى أن قتلهم غير صواب، والمقام لا يناسبه، لأن غير الصواب لا يوصف بالكبر عادة، وإنما وصف الله تعالى قتلهم بالكبر لأن السبب الذي توخوه منهي عنه ولا أساس له في الشرع، فكان قتلهم بناء على ذلك السبب الواهي أعظم عند الله من
لا تبخلن بدنيا وهي مقبلة | فليس ينقصها التبذير والسرف |
وإن تولت فأحرى أن تجود بها | فالحمد منها إذا ما أدبرت خلف |
مطلب في القتل والولي الذي له حق القصاص ومراتب الزنى واللواطة:
قال تعالى: «وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ» قتلها بأن عصمها بالإسلام أو بالعهد «إِلَّا بِالْحَقِّ» استثناء مفرغ أي لا تقتلوها أبدا لسبب من الأسباب إلا بسبب واحد هو الحق، وذلك بأسباب ثلاثة أن يكفر بالله بعد الإيمان أو يزني بعد الإحصان أو يقتل نفسا عمدا، روى البخاري ومسلم عن ابن مسعود لا يحل دم امرئ يشهد أن لا إله إلا الله واني رسول إلا بإحدى ثلاث النفس بالنفس
لأنه لا يجوز قتل رجل يقول ربي الله إلا بأمر صريح من الشارع لا شك فيه ولا معارض له، لأن الدليل إذا طرقه الاحتمال أفقده الاستدلال، وأما ابو حنيفة رحمه الله فإنه يختار حبس التارك لها كسلا وتهاونا حتى يصليها، أما جحدا فإنه يقتل إجماعا بلا خلاف، وما قاله بعض المحققين من قتل اللوطي فلم تجمع عليه الأمة ولم يرد به نص قاطع من آية قرآنية أو حديث متواتر، وما قيل ان الحصر منقوض بجواز قتل الصائل فيقتل منقوض، لأن قتل الصائل قصد منه الدفع لا القتل، والمراد بالقتل هنا ما يكون مقصودا بنفسه، فإذا أفضى الدفع الى القتل فيكون أيضا بحق، لأنه لو لم يقتله لقتله، والدفاع عن النفس والمال والعرض مشروع، فقد ورد قاتل دون مالك، قاتل دون عرضك، قاتل دون نفسك، فيكون قتالا بحق إذا أدى الحال إليه ولم يقدر على حفظ ماله ونفسه وعرضه من القتل إلا بالقتل، ولهذا فإن القانون المدني عد القتل دفاعا عن النفس معفوا من العقوبة استنباطا من تلك الأدلة، وهكذا كل قانون يقبله العقل السليم مأخوذ من الشرائع السماوية «وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً» منكم أيها الناس دون اقتراف ذنب ولا سبب من هذه الأسباب الثلاثة، والصائل متعد غير مظلوم فلا يدخل في هذه الآية.
قال العلماء إن من عليه القصاص يقتص منه ولا يفيده قول الولي أنا أمرته بذلك، وهذا المظلوم الذي قتل عمدا بغير حق يوجب قتله أو يبيحه «فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً» قويا بأن جعلنا له حق التسلط على قتل القاتل والاستيلاء عليه وإجباره بالقصاص منه أو أخذ الدية بالعفو عنه إن شاء الولي، ولا تتعين الدية إلا بعد العفو، فيجوز أخذها حينئذ كما في قتل الخطأ، لأن القتل العمد لا دية فيه بل القصاص والكفّارة، والمقتول خطأ مقتول ظلما أيضا، إذ لم يقترف جناية تستوجب قتله، إلا أنه لا إثم على قاتله لقوله صلّى الله عليه وسلم رفع عن أمتي ثلاث: الخطأ والنسيان
مطلب المحافظة على أموال اليتيم والوفاء بالعهود:
قال تعالى «وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ» الذي مات أبوه، أما الذي ماتت أمه فهو عجي، والذي مات أبواه فهو لطيم، وفي النهي عن قربانه المبالغة في النهي عن أخذه كما لا يخفى على بصير، ثم استثنى جل شأنه من عموم أخذ مال اليتيم حالات بينها بقوله عز قوله «إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ» لنفس اليتيم من الخصال التي تعود عليه بالنفع والحظ من طرق تنميتها وحفظها والإنفاق عليه منها بلا تقتير ولا إسراف، وبغير هذه الجهات الثلاث وما يقاربها فقد حرم الله قربان ماله، فكيف بأخذه وأكله، قال تعالى (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً) الآية ١٠ من سورة النساء في ج ٣، ولا استثناء في الأكل وإنما هو في القربان فقط لما فيه من النفع لليتيم كما علمت،
قضاة زماننا أضحوا لصوصا | عموما في البرايا لا خصوصا |
أباحوا أكل أموال اليتامى | كأنهمو رأوا فيها نصوصا |
فدعنا يا أخي من أناس | باعوا دينهم بيعا رخيصا |
فالأول واجب الوفاء به كالنذور المتعلقة بالقرب، مثل أن يقول علي أن أصوم كذا وكذا إن عافاني الله من مرضي هذا أو أتصدق بكذا، الثاني يستحب الوفاء به ويجوز تركه كمن حلف على ترك مباح فإن له أن يكفّر عن يمينه ويفعل المحلوف عليه متى أراد، الثالث يستحب ترك الوفاء به وهو ما جاء في قوله صلّى الله عليه وسلم إذا حلف أحدكم على شيء فرأى غيره خيرا منه، فليأت الذي هو خير منه وليكفر عن يمينه ولا يفعل المحلوف عليه، الرابع واجب ترك الوفاء به مثل أن يقول على أن أقتل فلانا أو أغتصب ماله ونحوه، فعليه أن يعرض عن حلفه ويكفّر عن يمينه فيحصل
الآية ٣٤ من سورة النحل في ج ٢ ومن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه.
هذا، وقد قال ابن المنير إن أهل السنة والجماعة عن الإجبار بمعزل لأنهم يثبتون للعبد قدرة واختيارا وأفعالا وهم مع ذلك يوحدون الله تعالى حق توحيده فيجعلون قدرته سبحانه هي الموجدة والمؤثرة، وقدرة العبد مقارنة فحسب، وبذلك يميز بين الاختياري والقسري، وتقوم حجة الله على عباده، ولهذا يعاقب العبد على فعله ويؤجر لأنه إذا فعل الشرّ كالشرب والزنى مثلا فإنه فعلهما عن اختيار ورغبة لا عن إكراه. وكراهية، ولأنه حينما فعلهما كان عالما بأنه يعذب عليهما لأن ذلك لا يعرف إلا بعد وقوع الشيء وإلا لما استحق العذاب ولا السؤال، فلا حجة للعبد بقوله مقدر علي وإنه لو شاء الله لمنعني من فعله، اقتداء بمن سبقه من الكفرة الذين يتقولون بذلك راجع الآية ١٤٠ من سورة الأنعام والآية ٣٥ من سورة النحل في ج ٢ اه. من روح المعاني للآلوسي، وليعلم أن الأمة الإسلامية خير من يراعي العهود ويحافظ عليها ويفي بالوعود ويقوم بها، وكان حضرة الرسول الأعظم هو القدوة الحسنة والمثل الأعلى لأمته في ذلك، ولهذا رأيت أن أذكر نوعا من معاهدات الصلح التي عقدها عليه الصلاة والسلام على أثر انتهاء حروبه مع أهل الكتاب وغيرهم
مطلب نص بعض معاهدات حضرة الرسول صلّى الله عليه وسلم:
بسم الله الرّحمن الرّحيم هذا منّة من الله ومحمد النبي رسول الله ليوحنا بن رؤبة وأهل ايلية سفنهم وسياراتهم في البر والبحر لهم ذمة الله تعالى ومحمد النبي ومن كان معه من أهل الشام وأهل اليمن وأهل البحر فمن أحدث منهم حدثا فإنه لا يحول ماله دون نفسه وانه لطيّبة لمن أخذه من الناس وأنه لا يحل أن يمنعوا ماء يردونه ولا طريقا يريدونه من بر أو بحر. وهذا نص الكتاب الثاني:
بسم الله الرّحمن الرّحيم هذا كتاب محمد لأهل أزرح وجرباء أنهم آمنون بأمان الله وأمان محمد رسول الله وأن عليهم مائة دينار في كل رجب واقية طيبة والله كفيل بالنصح والإحسان إلى المسلمين. وهناك معاهدات أخرى سنأتي بها عند ذكر ما يناسبها من الآيات المارة الذكر في القسم المدني إن شاء الله وخاصة عند قوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) الآية الأولى من سورة المائدة، وعند قوله تعالى (الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ) الآية ١٩ وما بعدها من سورة الرعد والآية ٢ من سورة الصف في ج ٣ والآية ٩١ من سورة النحل في ج ٢ وغيرها مما جاء فيها وجوب المحافظة على العهود والتهديد والوعيد على نقضها، وقد جاء في صحيح البخاري عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا ائتمن خان. فالوفاء بالعهد من شيم النفوس الشريفة والأخلاق الكريمة والخلال الحميدة والخصال المجيدة، ومن الأمثال:
الوعد وجه والإنجاز محاسنه والوعد سحابة والوفاء مطرها. وعد الكريم نقد وتعجيل، ووعد اللئيم مطل وتعليل، وقد ذم الله القض في الآيات ٩٠ فما بعدها من سورة النحل المنوه بها آنفا، وليعلم أن النقض من الغدر والبغي وقال صلّى الله عليه وسلم أعجل الأشياء
غدرت بأمر كنت أنت جذبتنا | إليه وبئس الشيمة الغدر بالعهد |
وقد جاء في الآية ٨٤ من سورة الأعراف المارة (وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ)
وفي الآية ٨٤ من سورة هود (أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ) الآية في ج ٢، لأن الإيفاء لا يتصور بدون تعديل المكيال، وقدمنا في سورة الشعراء المارة في الآية ١٨٢ بأن كلمة القسطاس من التي قيل فيها إنها غير عربية في الأصل، وذكرنا هناك بأنها وغيرها في الأصل عربية واستعملها الأجانب لأن الله تعالى قال (إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا) وذكرنا أيضا بأنه لو فرض جدلا ومحالا بأنها في الأصل ليست بعربية فقد عربت ونطق بها العرب قبل نزول القرآن، فوجدوها فيه على هذا لا يقدح بعربيتها في القرآن أيضا لأنها بعد التعريب والسماع في فصيح كلام العرب استعمالها صارت عربية، فلا حاجة لإنكار عربيتها أو ادّعاء التغليب، أو أن المراد عربي الأسلوب، أو أنها من نوارد اللغات كما يقال في بعض الشعر إنه من نوارد الخاطر إذا وافق قول من قبله. هذا، وقد تبدل سينه صادا كما تبدل صاد الصراط سينا وكذلك المستقيم وشبهه من الألفاظ، لأن السين تخلف الصاد وبالعكس في بعض المواضع راجع تفسير الآية ٥ من سورة الفاتحة المارة، «ذلِكَ» الإيفاء والاستقامة في الكيل والوزن «خَيْرٌ» لكم أيها الناس في الدنيا لأنه يسبب الرغبة في معاملتكم يجلب لكم النفاء الجميل «وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا» ٣٥ في الآخرة، وأجمل عاقبة لما يترتب عليه من الثواب، وأصل التأويل رجوع الشيء إلى الغاية المرادة منه علما، كما في قوله تعالى (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ) الآية ٨ من آل عمران في ج ٣، أو فعلا كما في قوله تعالى (يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ) الآية ٥٣ من سورة الأعراف المارة وقول الشاعر:
وللنوى قبل يوم البين تأويل وليعلم أن نقص الكيل والوزن من الكبائر على ما يقتضيه الوعيد الشديد الوارد في الآيات والأحاديث، ولا فرق بين القليل والكثير، فالتفاوت لا شك قليل والعذاب عظيم كبير، ألا فلينتبه الغافلون وليتأملوا قوله تعالى (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ) الآتية آخر الجزء الثاني، ومن يرد السلامة ويحذر يوم الندامة فليوف الكيل وليرجح الميزان ليكون آمنا من مظنة السوء في الدنيا والعذاب في الآخرة، وهنا لا تسامح في التّافه، ولا عبرة لمن قال إن غصب ما دون ربع
مطلب آداب الله الذي أدب خلقه ووصايا الصوفية واعتبار الظن والسماع في بعض الأوقات:
هذا نهي الله تعالى لكم أيها الناس من أن تحكموا بما لم تحققوا، فكيف بمن يقول رأيت وسمعت وهو لم ير ولم يسمع، فذلك البهت، وذلك الافتراء، وذلك الاختلاق، راجع الآية ١١٠ من النساء والآيتين ٦ و ١٢ من سورة الحجرات، والآية ٥٨ من الأحزاب في ج ٣، والآية ٣٦ من سورة يونس ج ٢، إذ يتدرج تحت هذا أمور كثيرة اقتصر المفسرون على بعضها، فمنهم من قال المراد فيها نهى المشركين عن القول بالإلهيات والنبوات تقليدا لأسلافهم واتباعا لليهود، وقال محمد ابن الحنفية رضي الله عنه: النهي عن شهادة الزور، وقيل المراد النهي عن القذف ورمي المحصنات الآتي ذكره في الآية ٣ فما بعدها من سورة النور في ج ٣، قال الكميت:
ولا أرمي البريّ بغير ذنب | ولا أقفو الحواصن إن رمينا |
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه. وروى البخاري ومسلم عن أبي هريرة أيضا أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه وروى البخاري ومسلم عن أبي هريرة أيضا أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: إياكم والظنّ لأن الظن أكذب الحديث.
وأخرج مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: أتدرون ما الغيبة، قلت الله ورسوله أعلم، قال ذكرك أخاك بما يكره. وفي رواية ولو بحضوره. قلت ولو كان في أخي ما أقول؟ قال إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه فقد بهته. هذا وما جاء بأن الغيبة أشد من ثلاثين زنية في الإسلام، قال أبو عمر الهيثمي لا أصل له، وقال نعم روى الطبراني والبيهقي وغيرهما الغيبة أشد من الزنى إلا أن له ما يبين معناه، وهو ما رواه ابن أبي الدنيا وأبو الشيخ عن جابر وأبي سعيد رضي الله عنهما إياكم والغيبة فإن الغيبة أشد من الزنى، إن الرجل ليزني فيتوب فيتوب الله عليه، وإن صاحب الغيبة لا يغفر الله له حتى يغفر له صاحبه.
فعلم من هذا أن أشدّية المغيبة من الزنى ليست على الإطلاق بل من جهة أن التوبة الباطنية المستوفية لجميع شروطها من الندم والإقلاع، والعزم على عدم العودة إذا وقعت قبل الغرغرة، وقبل طلوع الشمس من مغربها، وظهور دابة الأرض، مقبولة مكفرة لإثم الزاني بخلاف الغيبة فإن التوبة منها وإن وجدت فيها تلك الشروط
هكذا كانت الملوك وسننهم في رعاياهم، وملوك الآن على ما نحن فيه لأن الجزاء من جنس العمل، وكما تكونوا يولى عليكم، هذه عاقبة الزنى في الدنيا، أما عاقبته في الآخرة فالدخول في جهنم والعذاب الأليم فيها، أجارنا الله من ذلك. واحتج في هذه الآية ثقات القياس، لأنّ قفو للظن ولا حكم به، لأن قوله تعالى (وَلا تَقْفُ) عام دخله التخصيص وهو النهي عن العمل بالظن، وأجيب بأن الأمة أجمعت على الحكم بالظن والعمل به في صور كثيرة، منها الصلاة على الميت الذي لم يعرف ودفنه في مقابر المسلمين، وتوريت المسلم منه بناء على أنه مسلم وهو
والرجل للمشي إلى ما لا يرضي الله وما أشبه ذلك. هذا وقد أشار الله تعالى إلى هذه الجوارح بإشارة العقلاء على القول بأنها مختصة بهم تنزيلا لها منزلتهم، لأنها مسئولة عن أحوالها شاهدة على أصحابها. وقال بعضهم إنها غالبة في العقلاء، وجاءت لغيرهم من حيث أنهم اسم جمع (لذا) أي لفظ أولئك اسم جمع لذا وهو أي ذا يعم القبيلين من يعقل ومن لا يعقل ومن ذلك قول جرير:
ذم المنازل بعد منزلة اللوى | والعيش بعد أولئك الأيام |
قال تعالى «وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً» فخرا وكبرا وخيلاء وتبطرا تتعاظم عليهم، وتتكابر في مشيتك على الناس وأنت منهم «إِنَّكَ» أيها الإنسان المتصف في هذه المشية المكروهة «لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ» بمشيتك هذه الممقوتة، فتتصور أنك تثقبها بشدة وطأتك كلا «وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولًا» ٣٧ بتشامخك ومدّ عنقك وقامتك مهما تطاولت، فأنت أنت بل تتصاغر في أعين قومك،
تنزه عن الدنيا وكن متواضعا | عفيفا ولا تسحب ذيولا من الكبر |
إذا كنت في الدنيا حليف تكبر | فإنك في الأخرى أقل من الذر |
واعلم أن لا مجال لما تمسك به بعضهم في هذه الآية من أن القبائح لا تتعلق بها إرادة الله تعالى، لان المراد بالمكروه هنا ما يقابل المرضيّ كما ذكرنا، لا ما يقابل المراد، لقيام القاطع على أن الحوادث كلها واقعة بإرادته تعالى، وإلّا لاجتمع الضدان الإرادة والكراهة كما يزعمه بعض المعتزلة، ووصف ذلك بمطلق الكراهة، مع أن أكثره من الكبائر للإيذان بأن مجرد الكراهة عنده تعالى كافية في وجوب الكف عنها، ولهذا كان المكروه عند المتقين الكاملين مثل الحرام في لزوم الاحتراز عنه، ومن لم يعرفه تعدّى إلى دائرة الإباحة، فتدبر وتحفظ وتأدب تنج وتسلم وتربح «ذلِكَ» المقدّم تفصيله لك أيها المتدبر المتفكّر العارف «مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ» من بعض ما أنزله «رَبُّكَ» يا سيد الرسل «مِنَ الْحِكْمَةِ» التي هي أسّ علم الشرائع ومعرفة ذات الخالق والاحكام المحكمة التي لا يتطرق إليها النسخ والفساد إلى آخر الدوران «وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ» افتراء عليه إياك إياك، احذر من هذا أيها العاقل كل الحذر، فهو أكبر أنواع الكفر، ولهذا صدّرت الآيات الثماني عشرة بمثل ما ختمت للعلم بأن التوحيد مبدأ الأمر وآخره، ورأس كل حكمة ومنتهاها، وملاك كل أمر وعمدته، وقد رتّب عليه أولا ما هو غاية الشرك في الدنيا، إذ ختم تلك الآية بقوله (فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولًا) ورتّب آخرا على هذه الآية ما هو نتيجته في العقبى، وختمها بقوله «فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً» من نفسك وغيرك «مَدْحُوراً» ٣٩ مبعدا من رحمة الله لأنه كفر ما وراءه كفر، والفرق بين المذموم والملوم هو أن الذي يذكر أن الفعل الذي أقدم عليه قبيح ومنكر مذموم، والملوم هو الذي يقال له لم فعلت مثل هذا وما الذي حملك عليه، وما استفدت منه إلا ضرر نفسك، ويعلم من هذا أن الندم يكون أولا واللوم آخرا، والفرق بين المخذول والمدحور هو أن المخذول من لم يعنه أحد وقد فوض
، وهذا القول لا يجترىء عليه ذو عقل بل هو خرق لقضايا العقول، وإثم كبير لا يقادر قدره،
قال تعالى «وَلَقَدْ صَرَّفْنا» كررنا وبيّنا، والتصريف أصله صرف الشيء من جهة إلى أخرى، ولكنه استعمل في التّبيين والتكرير على طريق الكناية، لأن من يحاول بيان الشيء يصرف كلامه من نوع إلى آخر لكمال الإيضاح «فِي هذَا الْقُرْآنِ» العظيم من العبر والحكم والأخبار والقصص والأمثال والحجج والآيات والبراهين، «لِيَذَّكَّرُوا» به قومك يا أكمل الرسل فيتعظوا بزواجره ويخبتوا لأوامره لأن هذا التكرار يقتضي الإذعان والركون إلى ما فيه، ولكنهم تمادوا في كفرهم «وَما يَزِيدُهُمْ» ذلك التبيين «إِلَّا نُفُوراً» ٤١ من حقك الذي جئتهم به، وصدودا عن الإيمان الذي تأمرهم به، وجحودا للكتاب الذي أنزل إليهم، وتباعدا عنك وإعراضا، وما ذلك منهم إلا تعكيس في الحق وتماد في الباطل، وقرىء (ليذكروا) بالتخفيف هنا كما قرىء في مثلها في سورة الفرقان المارة الآية ٥٧ من الذكر بمعنى التذكر ضدّ النسيان والغفلة، كما قرىء صرفنا بالتخفيف أيضا وهو مثل صرفنا بالتشديد، إلّا أنه لا يدل على التكثير «قُلْ» يا أكمل الرسل لهؤلاء المشركين في إظهار بطلان ما تفوّهوا به «لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ» بالتاء خطابا لهم وبالياء على الغيبة وكلا القراءتين جائزة هنا لأنه إذا أمر أحد تبليغ الكلام المأمور به لغيره فالمبلغ له في حال تكلم الأمر غائب، ويصير مخاطبا عند التبليغ، فإذا لوحظ الأول كان حقه الغيبة، وإذا لوحظ الثاني كان حقه الخطاب «إِذاً» إذ لو كان مع الله آلهة أخرى تعالى الله عن ذلك «لَابْتَغَوْا» لطلبوا «إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا» ٤٢ طريقا لمغالبته وقهره ليزيلوا ملكه كما تفعل ملوك الأرض بعضها ببعض، ولكن ليس معه آلهة قطعا، كيف وهو رب العرش العظيم الإله الجليل الذي لا رب غيره، راجع الآية ٣٣ من سورة الرحمن في ج ٣. وهذه الآية تشير إلى برهان التمانع المذكور في قوله تعالى (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا) الآية ٢١ من سورة الأنبياء في ج ٢ كما سيأتي تفصيله فيها إن شاء الله. وقال مجاهد وقتادة إن المعنى إذا لطلبوا الزلفى إليه والتقرب لحضرته بالطاعة لعلمهم بعلوّه سبحانه عليهم وعظمته ورفعته،
مطلب تسبيح الأشياء وبعض معجزات الرسول صلّى الله عليه وسلم:
قال تعالى منزها نفسه المنزهة بنفسه «سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَقُولُونَ» من نسبة آلهة معه أو أولاد وصاحبة وعلا «عُلُوًّا كَبِيراً» ٤٣ لا غاية وراءه، وذكر العلو بعد وصفه سبحانه بذي العرش في أعلى مراتب البلاغة، وهذا مبالغة في البراءة والبعد عمّا وصفوه به لأنه تعالى في قصى غايات الوجود وهو الوجوب الذاتي وما يقولونه في أدنى مراتب العدم وهو الامتناع الذاتي، كيف لا وهو الذي «تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ» من الإنس والجن والملائكة والطير والوحش والحيتان والنّبات والجماد بدليل قوله «وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ» ولا من ذرّة يطلق عليها اسم الشيء ويمتد عليها ظل الوجود فيهن إلا يسبح بحمده منهم بلسان قاله، ومنهم بلسان حاله، لأن كل شيء يدل بإمكانه وحدوثه دلالة واضحة على وجوب وجوده تعالى ووحدته وقدرته وتنزهه من لوازم الإمكان وتوابع الحدوث، كما يدل الأثر على مؤثره «وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ» أيها الناس وأنتم منهكون في الغي والضلال «تَسْبِيحَهُمْ» لأنكم لا يفهم بعضكم لغات بعض فكيف تفهمون لغات ما هو من غير جنسكم «إِنَّهُ» جلت عظمته «كانَ» ولم يزل بعدم معاجلتكم بالعقوبة عما يصدر منكم من القبائح «حَلِيماً» لا يستفزّه الغضب فيمهل خلقه رحمة بهم ورأفة عليهم «غَفُوراً» ٤٤ كثير المغفرة لعباده الرّاجين عفوه الراجعين إليه، ولولا هاتان الصفتان لأنزل بكم العذاب حالا واستأصلكم به.
وليعلم أن عدم فقه تسبيح الحيوانات وغيرها ناشىء من عدم صقل القلوب من رين الذنوب، وقصور النظر فيما يدل على علام الغيوب، وإلا فقد وردت أحاديث وأخبار لا تقبل التأويل بتسبيح الحصى في كفه صلّى الله عليه وسلم، روى مسلم عن جابر بن
وهذا ليس من خصائصه صلّى الله عليه وسلم لأن جل الأنبياء تكلم لهم الحجر، ونبع لهم الماء، وتكلمت لهم الحيوانات والموتى، ووقفت لهم الشمس وكثر لهم القليل من الطعام والشراب، وقلل لهم الكثير من الأعداء، ومن وقف على معجزاتهم وكان موقنا آمن وصدق بهم وبما يقع لأولياء الله من الكرامات الشبيهة بالمعجزات ومن لا فلا، لأنه ختم على قلبه وسمعه وجعل على بصره غشاوة وعلى قلبه رينا وصدأ حتى لا يسمع ولا يبصر ولا يعي، فلا يؤمن. أخرج أحمد وابن مردويه عن ابن عمر أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: إن نوحا عليه السلام لما حضرته الوفاة قال لابنيه آمر كما بسبحان الله وبحمده فإنها صلاة كل شيء، وبها يرزق كل شيء. وأخرج أحمد عن معاذ ابن أنس عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه مر على قوم وهم وقوف على دواب لهم ورواحل، فقال لهم اركبوها سالمة ودعوها سالمة، ولا تتخذوها كراسي لأحاديثكم في الطرق والأسواق، فرب مركوبة خير من راكبها وأكثر ذكرا لله تعالى منه. وأخرج النسائي وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عمر قال: نهى النبي صلّى الله عليه وسلم عن قتل الضفدع
وأخرج الخطيب عن أبي حمزة قال كنا عند علي بن الحسين رضي الله عنهما، فمرّ بنا عصافير يصحن، فقال أتدرون ما تقول هذه العصافير؟ قلنا لا، قال أما اني ما أقول إنا نعلم الغيب، ولكن سمعت أبي أمير المؤمنين علي بن ابي طالب كرم الله وجهه يقول سمعت من رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول إن الطير إذا أصبحت سبحت ربها وسألته قوت يومها، وإن هذه تسبح ربها وتسأله قوت يومها.
وأخرج بن راهويه في مسنده من طريق الزهري قال: أتى أبو بكر الصديق رضي الله عنه بغراب وافر الجناحين، فقال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول ما صيد صيد ولا عضدت ولا قطعت وشيجة إلّا بقلة التسبيح عضاة وأخرج أبو نعيم في الحلية وابن مردويه عن أبي هريرة وأبو الشيخ عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم ما صيد من صيد ولا وشج من وشيج إلا بتضييعه التسبيح (الوشيج شجر الرماح وعرق كل شجرة، والعضاة الشجر العظيم أو الخمط أو كل ذات شوك أو ما عظم وطال من الأشجار، وعضده بمعنى قطعه، والعضد والعضيد الطريقه من النخل جمعه عضدان كغرابان) وأخرج أبو الشيخ عن الحسن لولا ما غم عليكم من تسبيح ما معكم في البيوت ما تضاررتم. وأخرج ابن أبي حاتم عن لوط بن أبي لوط قال بلغني أن تسبيح سماء الدنيا سبحان ربي الأعلى، والثانية سبحانه وتعالى، والثالثة
فمبلغ العلم فيه أنه بشر | وأنه خمير؟؟؟ خلق الله كلهم |
دع ما ادعته النصارى في نبيهم | وأحكم بما شئت فيه مدحا فيه واحتكم |
من أبوابه «إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً» ٤٧ يا سادة قريش أي إذا كنتم تريدون الاتباع فرضا ما تتبعون إلا رجلا سحر فجنّ وكانوا يعتقدون أن ذلك بتأثير السحر وهو معروف عندهم، لأن الشرائع السابقة جاءت به، وقد عرفوه من أهل الكتاب ووجوده حق عند اهل السنّة والجماعة، وانهم يريدون بأنه صلّى الله عليه وسلم سحر فصار مطبوبا مخدوعا يأكل ويشرب مثلكم، ويريد أن يتفضل عليكم بما يتلوه من ذلك السحر من غير أن يمتاز عليكم بشيء. روي أنه صلّى الله عليه وسلم كان حين يريد إبلاغ قومه ما أنزل عليه من كلام ربه يقوم عن يمينه رجلان من بني عبد الدار، وعن يساره رجلان منهم، فيصفّقون ويصفرون ويخلطون عليه بالأشعار لئلا يفهم الناس ما يقول، قاتلهم الله، ومن هنا اقتدي بعض نواب الأمة حينما يسمعون خطيبا من معارضيهم فيما لا يرومونه تراهم يصيحون ويضربون بأيديهم على الرحلات ويصفقون ويصفرون أيضا، فلا حول ولا قوة إلا بالله تشابهت قلوبهم، وفي هذه الآية مما يدل على التهديد والوعيد ما لا يخفى، قال تعالى «انْظُرْ» يا أكمل الرسل «كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ» مما وصموك به من السحر وغيره وما شبهوا ما تتلوه عليهم من وحينا بأساطير الأولين وغيرها مع علمهم أنك وكتابك على خلاف ذلك، «فَضَلُّوا» في هذا التمثيل والتشبيه والوصف عن منهاج المحاجة، والطريق الأقوم والحقيقة الناصعة لميلهم إلى الضلال والاعوجاج «فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا» ٤٨ إلى الحق السوي والطريقة المستقيمة بل يتهافتون إلى أضدادها، ويسلكون السبل المهلكة، ويخبطون في أقاويلهم الأباطيل الظاهر كذبها لكل أحد، وفي هذه
على طريق المشاكلة والمقابلة بالجنس، وهذا الأمر أمر استهانة بهم على حد قولة تعالى حكاية عن سيدنا موسى عليه السلام (أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ) الآية ٨٠ من سورة يونس أي إن ما تلقونه ليس بشيء بالنسبة لقدرة الله التي وضعها في عصاه أو أمر تسخير على حد قوله تعالى (كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ) الآية ٦٦ من البقرة في ج ٣،
«أَوْ خَلْقاً» آخر وأكبر وأعظم وأشدّ من الحجارة والحديد من كل ما يتخيلونه قويا منيعا بعيدا بمراحل كثيرة عن قبول الحياة وائتوا بكل شيء «مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ» ويستحيل عندكم قبوله للحياة وأبعد شيء عنها مما تعدونه عظيما فعله كبيرا قويا جرمه من كل محال لا تقبله عقولكم، فإن الله تعالى يحييكم لا محالة إذ لا يعجزه شيء لتساوي الأجسام في قبول الاعراض عنده، فكيف لا يحييكم إذا كنتم عظاما كانت قبل موضوعة بالحياة والشيء أقبل لما عهد فيه مما لم يعهد كالحديد
أتنغض لي يوم الفخار وقد ترى | خيولا عليها كالأسود ضواريا |
أنغض نحوي رأسه واقنعا | كأنه يطلب مني شيئا أطمعا |
مطلب الخروج من القبور واستقلال المدد الثلاث:
قال تعالى «يَوْمَ يَدْعُوكُمْ» أيها الناس وهذا الظرف منصوب بفعل مضمر تقديره اذكروا يوم يناديكم بالنفخة الأخيرة إسرافيل عليه السلام ببوقه بأمر ربه من قبوركم «فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ» كما أجبتم حين دعاكم للنفخة الأولى للموت فمتم جميعكم بنفخته أي مات كل من حضرها عدا ما استثنى الله كما سيأتي في الآية ٦٧ من سورة الزمر في ج ٢ بصورة أوضح، فكما أنه لم يتخلف أحد منكم بالنفخة الأولى عن الموت لم يتخلف أحد منكم عن الحياة بالنفخة الثانية، وكما دعاكم من العدم في عالم الذر وأخذ عليكم العهد بالطاعة والانقياد للرسل، كذلك دعاكم للقيام من قبوركم. واعلموا أن قولكم حين اجابتكم لهذه الدعوة الأخيرة سبحانك اللهم وبحمدك جئناك تائبين منيبين لا ينفعكم، لأنه في غير محلّه وإلا لقالها كل كافر مثلكم راجع الآية ١٧ من النساء في ج ٣، «وَتَظُنُّونَ» بعد قيامكم من برزخكم ومجيئكم مهرولين وراء الداعي إلى المحشر «إِنْ لَبِثْتُمْ» ما مكثتم في الدنيا وفي البرزخ القبر وما بين النفختين «إِلَّا» لبثا «قَلِيلًا» ٥٢ زمانا طفيفا يقولون هذا استحقارا لتلك المدد الثلاث، لأن الإنسان لو مكث في الدنيا وفي القبر وبين النفختين ألوفا من السنين عدّ ذلك قليلا بنسبة مدة يوم القيامة، فضلا عن مدة الخلود في الآخرة التي لا نهاية لها، والمقصود من هذه الدعوة إحضار الخلائق للحساب والجزاء، لأن دعوة السيد. لعبده إما لاستخدامه أو التفحص عن أمره، والأول منتف في الآخرة إذ لا تكليف فيها فتعين الثاني، قال تعالى (يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ) الآية ٤٠ من سورة ق المارة، قيل إن جبريل عليه السلام يقف على صخرة بيت المقدس فينادي أيتها الأجسام البالية والعظام النخرة والأجزاء المتفرّقة عودي كما كنت، فتعود حالا. أخرج أبو داود وابن حبان عن أبي الدرداء أنه قال:
والخطاب بقوله تعالى (يوم يدعوكم) للمؤمنين أي فتجيبون أيها المؤمنون حامدين له سبحانه على إحسانه إليكم وتوفيقه إياكم للإيمان بالبعث، وهو وجيه لكن جعل الخطاب للعموم أولى وأنسب للمقام، إذ لا مخصص ولا دال على التقييد، وعلى كل إن شاء الله يجيب المؤمنون المنادي بما ذكر الله. أخرج الترمذي والطبراني عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم ليس على أهل لا إله إلا الله وحشة في قبورهم ولا في نشورهم، وكأني بأهل لا إله إلا الله ينفضون التراب عن رءوسهم ويقولون (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ) الآية ٣٤ من سورة فاطر المارة، وفي رواية عن أنس مرفوعا: ليس على أهل لا إله إلا الله وحشة عند الموت ولا في القبور ولا في الحشر، وكأني بأهل لا إله إلا الله قد خرجوا من قبورهم ينفضون رءوسهم من التراب يقولون (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ). راجع تفسير هذه الآية، ومما يدل على أن الخطاب للفريقين المؤمنين والكافرين كما جرينا عليه في تفسير هذه الآية ما أخرجه عبد بن حميد عن ابن جبير أنه قال: يخرجون من قبورهم وهم يقولون سبحانك اللهم وبحمدك ولا بعد في صدور ذلك من الكافرين يوم القيامة وإن لم ينفعهم كما نوهنا به آنفا، وهذا التفسير أولى بالنسبة لسياق الآية وسياق الكلام، هذا وإن قوله تعالى «وَقُلْ لِعِبادِي» خاص بالمؤمنين بدليل الإضافة التشريفية الدالة على التخصيص، بخلاف الآية الأولى لمجيئها بلفظ عام، وعلى القول بأن هذا الخطاب الأخير يشمل الكافرين أيضا فيكون خطابهم بلفظ عبادي لجذب قلوبهم وميل طباعهم إلى قول الحق، والأولى أولى لوجود الصارف وهو الإضافة له، وعليه يكون المعنى قل يا أكرم الرسل لأصحابك المؤمنين «يَقُولُوا»
بمجاملتهم، وتحمل أنت وأصحابك أذاهم، واتركوا المشاغبة معهم وأظهروا لهم اللين والرفق علّه يؤثر في قلوبهم، وذلك لأن أحكام الله تدريجية حتى إذا ظهر لنبيه إيمان من آمن وإصرار من أصر على كفره كما في سابق علمه أمره بقتاله، ولهذا فلا محل للقول لأن هذه الآية منسوخة بآية السيف، لأن الله تعالى جعل للإرشاد والنصح أناسا وللسيف والقتل آخرين، قال تعالى «وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» وما هم عليه من أحوال ظاهرة وباطنة؟؟؟ كلا لما يستأهله، فيختار للنبوة والولاية من تراه حكمته أهلا لها، وهذا ردّ على القائلين بعد أن يكون يتيم بن أبي طالب نبيا والعراة الجوع كصهيب وبلال وخباب وغيرهم أصحابا إليه، دون الأكابر من قريش والصناديد منهم فلا نقبل دعوته ولا نؤمن به، وذكر جل ذكره من في السموات، لإبطال قولهم (لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ) الآية ٢١ من الفرقان المارّة، وذكر من في الأرض رد لقولهم لولا أكابر قريش وصناديدهم معه «وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ» بالفضائل النفسانية والمزايا المقدسة، وإنزال الكتب السماوية لا بكثرة الأموال والأتباع، فأعطينا إبراهيم الخلة وشرفنا موسى بالتكليم وداود بالفضل وسليمان بالملك وخصصنا كل نبي بخاصة لم نعطها غيره، فخلقنا عيسى من روحنا واتخذنا محمدا حبيبا «وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً» ٥٥ فضلناه به لا بالملك والسلطنة وفيه إيذان بأن نبينا خاتم النبيين وأمته خير الأمم إذ أن الزبور تضمن ذلك، وقد أخبر الله عز وجل عن ذلك بقولة (وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ) الآية ١٠٦ من سورة الأنبياء، يعني محمد وأصحابه وأمته من بعدهم، وهذا من باب التلميح راجع هذه الآية في ج ٢ تجد أن ما جاء في الزبور موافق لما جاء في القرآن، وسنبحث ما يتعلق فيها هناك
بالذين يزعمون من دونه الملائكة والأوثان فقط وإذا صرف معناها للعموم يدخل فيها عزير وعيسى والكواكب والنار والحيوان من كل ما عبد من دون الله ولهذا قالوا إن ضمير يدعو وضمير يبتغون عائدان للمشار إليهم وهم الأنبياء الذين عبدوا من دون الله كعيسى وعزير والملائكة ويدخل ضمنهم الشمس والقمر والنجوم والنار والحيوان والتماثيل وغيرها من كل ما يطلق عليه اسم الوثن وما اتخذوه تقربا للعبادة بأن كل أولئك ليست بأهل للعبادة مباشرة وتبعا وأن زعمهم ذلك فيها باطل وفي الآية تغليب العاقل على غيره لأن الجمع في يدعون ويبتغون من خصائص العقلاء لا الجمادات «أَيُّهُمْ أَقْرَبُ» أيهم هنا بدل من ويبتغون وهي موصولة بمعنى من أي أولئك المعبودون يطلبون من هو لحصرة ربه أقرب من غيره الوسيلة إلى الله فيتوسون به لقضاء مصالحهم أو أيّهم الذكر هو أقرب يبتغي الوسيلة إلى الله بطاعته، فكيف بالأبعد فهو بحاجة إلى ذلك من باب أولى. وأيّ مبتدأ مبني على الضم في محل رفع مضاف للضمير، والميم علامة الجمع، وأقرب خبر، والعائد محذوف تقديره هو، وبعضهم جعلها معربة وفيها معنى الاستفهام أي أيهم هو أقرب بالتقوى والصلاح والرضى وازدياد الخير. وأعلم أن يدعون تأتي بمعنى يعبدون كما مر في الآية ٤٩ من سورة مريم المارّة، وسيأتي لهذا البحث صلة في الآية ٣٥ من المائدة وفي الآية ١٣ من سورة التوبة في ج ٣، وهناك بحث يتعلق بالسّادة الصوفية بشأن الرابطة التي يتخذونها في بدء أورادهم «وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ» تعالى وخيره وإحسانه وهذا عطف على يبتغون والرجاء بمعنى التوقع «وَيَخافُونَ عَذابَهُ» كغيرهم من العباد بل أعظم وجلا منهم، لأن العبد كلما رسخ قدمه في العبادة وتقرب إلى المعبود ازداد خوفه بسبب ازدياد معرفته به، وقدم الرجاء على الخوف، لأن متعلقه أسبق من متعلقه.
مطلب الخوف والرّجاء وأنواع العبادة:
جاء في الحديث القدسي سبقت رحمتي غضبي. لهذا فإن العلماء قالوا ينبغي للمؤمن أن يغلّب الخوف على الرجاء ما لم يحضره الموت، فإذا حضره غلّب الرّجاء على
انتهت الآية المدنية. قال تعالى «وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ» من القرى والتنوين هنا يفيد التعميم، لأن إذ نافية بمعنى ما، ومن صلة مؤكدة لاستغراق النفي، فتفيد العموم أيضا «إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوها» بإبادة أهلها وتخريبها بعدهم أو هدمها عليهم أو قلبها بهم أو بسبب آخر، ويكون هذا «قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ» عند النفخة الأولى قال تعالى (فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ، وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً، فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ) الآيات من سورة الحاقة في ج ٢ لأن القيامة لا تقوم إلا بعد إتلاف هذا الكون بما فيه «أَوْ مُعَذِّبُوها» أي أهلها بالقتل وأنواع البلاء «عَذاباً شَدِيداً» لا تقواه قوى أهلها ولا يقدرون على رفعه عنهم
وما تدري إذا ما الليل ولىّ... بأي عجيبة يلد النهار
قال تعالى «وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ» المقترحة ونظهرها للأمم «إِلَّا تَخْوِيفاً» ٥٩ من نزول العذاب عليهم، ولذلك لم نجب اقتراح قومك بإرسال الآيات التي اقترحوها لأنا نعلم أن مصير المقترحين الهلاك وهو خلاف ما تريده أنت. أخرج بن جوير عن قتادة قال إن الله تعالى يخوف الناس بما شاء من آياته لعلهم يعتبرون أو يذكرون فيرجعون عن غيهم.
مطلب الآيات على ثلاثة أنواع وبيان الخمرة الملعونة:
وليعلم أن آيات الله تعالى على ثلاثة أقسام، قسم عام في كل شيء:
وفي كل شيء له آية... تدل على أنه واحد
وهنا فكرة العلماء وقسم معتاد كالبرق والرعد والخسوف والزلازل وفيها فكرة الجهلاء، وقسم خارق للعادة وهو نوعان نوع مقرون بالتحدّي وقد انقضى بانقضاء النبوة، وقسم غير مقرون به وهو الكرامة التي يظهرها الله تعالى على يد من شاء من عباده العارفين العاملين، وهناك فكرة الأولياء، والمعنى أنا تركنا إرسال الآيات لسبق مشيئتنا بتأخير العذاب عنهم لحكم نعلمها، قال تعالى «إِذْ قُلْنا لَكَ» يا أكرم الرسل «إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ» فلا يستطيع أحد الخروج عن مشيئته ولا يفعل شيئا دون إرادته وإن كل ما يقع في هذا الكون بقضائه وقدره، وإذ هنا منصوبة بفعل مقدّر أي اذكر يا محمد لقومك ما أوحيناه إليك من ذلك وأعلمناك أن الخلق كلهم في قبضتنا وإرادتهم من إرادتنا، فلا تبال بما تراه من كفرهم، وامض لأمرك وبلّغ ما أرسلت به ولا تخشهم، فالله حافظك ومانعك
ما ضرّ بالشمع إلا صحبة الفتل. ولهذا قيل الصاحب ساحب:
عن المرء لا تسأل وأبصر قرينه | فكل قرين بالمقارن يقتدي |
يا أبا بكر أما أخبرنا رسول الله أنا ندخل البيت ونطوف فيه؟ فقال إنه لم يقل في هذه السنة، وقد صدق الله ودخلوها في القابلة، فكل هذا لا يكاد يصح شيء مه، لأن هذه كلها وقعت ورسول الله في المدينة، وهذه الآية مكيّة إجماعا وهو مخالف لظاهر الآية المفسرة لذلك فلا يعول عليه، وأن الاعتذار عن كون هذا مدنيا بأنه يجوز أن يكون الوحي بالإهلاك وبالرؤيا واقعا في مكة، وذكر الرؤيا
الآيات ٢٢ فما بعدها من سورة محمد صلّى الله عليه وسلم في ج ٣، ودخولهم في عموم ذلك يكاد يكون دخولا أولياء إلا أنه لا يجوز عند أهل السنة والجماعة أن يلعن واحد بخصوصه إذ صرحوا أنه لا يجوز لعن كافر بعينه ما لم يتحقق موته على الكفر كفرعون ونمرود فكيف من ليس بكافر، وأما ما جاء بحديث الصحيحين إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فأبت أن تجيء فبات غضبان لعنتها الملائكة حتى تصبح. الذي احتج به السراج البلقيني على جواز لعن العاصي بعينه فقد قال ابنه الجلال بحثت مع والدي في ذلك باحتمال أن يكون لعن الملائكة لها بالعموم بأن يقولوا لعن الله تعالى من باتت مهاجرة فراش زوجها، على أنه استدل على ما يقوله بخبر مسلم أنه صلّى الله عليه وسلم مرّ بحمار وسم بوجهه، فقال لعن الله تعالى من فعل هذا، لكان أظهر إذ الإشارة بهذا صريحة في لعن معيّن على أنه لا مانع من تأويله أيضا بأن يراد فاعل الجنس ذلك الوسم، والمغضبة لزوجها على العموم، راجع ما بيناه في الآية ٤٢ من سورة القصص المارة، وعليه فلا دلالة صريحة لا تقبل التأويل في هذين الحديثين لأن الدليل إذا طرقه الاحتمال أو التأويل أفقده قوة
الاحتجاج في الاستدلال، وهذه قاعدة أصولية لا طعن فيها. نعم صح أنه صلّى الله عليه وسلم قال اللهم العن رعلا. وذكوان وعصيه عصوا الله ورسوله، وهذا فيه لعن أقوام بأعينهم، إلا أنه يجوز أنه صلّى الله عليه وسلم علم بإلهام الله إياه، موتهم على الكفر فلعنهم، وهذا جائز كما تقدم، وإذا كان كذلك فلا حجة فيه للسبب المذكور أيضا، ولأنه بأقوام لا لشخص بعينه، ولا يخفى أن تفسير الآية لا ينطبق على ما ذكر ولا يلاثم المعنى المسوقة له الآية، ولم يكن شيء من ذلك كله زمن نزولها، وان بين نزولها وبين هذه الحوادث سنين كثيرة أما الأحاديث الواردة المذكورة آنفا في بني أمية وبني الحكم فيحتمل أنها صحيحة لكن لا علاقة لها في الآية المفسرة المتعلقة بالإسراء خاصة، وتلك بحوادث أخرى ولا مانع من أنه صلّى الله عليه وسلم رأى ما قاله فيهم رؤيا منامية أو بطريق الكشف، لكن غير هذه الرؤيا المقصودة هنا في هذه السورة، وكذلك لا يتجه قول من قال إن الشجرة الملعونة أبو جهل والفتنة وجوده بلاء على المسلمين، لأنه أيضا خلاف الظاهر
قال تعالى «وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ» هذا تحقيق لقوله تعالى (أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ) الآية المارة وهو ظاهر في الملائكة الذين ادعى بعض العرب عبادتهم وتضمن لغيرهم وإشارة إلى عاقبة الذين عاندوا الحق جل وعلا واقترحوا الآيات وكذبوا الرسل، لأنهم داخلون في الذرية التي احتنكهم إبليس لعنه الله واتبعوه اتباع الظل لذويه دخولا أوليا ومشاركون له في العناد أتم مشاركة، ألم تر إلى قولهم فيما حكى الله عنهم (قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ) الآية ٣٣ من الأنفال في ج ٣ ولم يقولوا أللهم اهدنا إليه لسابق شقائهم، ووجه المناسبة بين هذه الآية والتي قبلها أن قريشا كذبوا حضرة الرسول حسدا وتعاظما على ما خصّه الله به دونهم، وما منع إبليس من السجود لآدم عليه السلام شيء من الأشياء إلا الحسد والتكابر عليه، والمعنى أذكر يا محمد لقومك إنما أمرنا الملائكة وقلنا لهم «اسْجُدُوا لِآدَمَ» تكريما وتحية له واحتراما، فسجدوا كلهم امتثالا لأمري دون تلعثم أو سؤال عن السبب بحق الانقياد والطاعة «إِلَّا إِبْلِيسَ» لم يسجد «قالَ» بعد أن وبخ على امتناعه «أَأَسْجُدُ» استفهام إنكاري وتعجب «لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً» ٦١ وقد خلقتني من النار وهي أفضل من الطين، فاستحق اللعن والطرد راجع قصته مفصلة في الآية ١٢ من الأعراف المارة، ثم قال «أَرَأَيْتَكَ» أيها الإله أخبرني من «هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ» وأمرتني بالسجود له أي شيء هو حتى أسجد له
فشكوا إليك سنة قد أجحفت | جهدا إلى جهد بنا فأضعفت |
وقد علم ذلك الملعون من قوة الوهم وتركيب الشهوة في بني آدم وهما سبب الميل عن الحق والركون إلى الباطل وقد برّ في قسمه الخبيث في بعض بني آدم قال تعالى (وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ) الآية ٢٠ من سورة سبأ في ج ٢. هذا ومن قال إن وسوسته خلصت إلى آدم نفسه فقاس الفرع على الأصل لا يصح لأن هذا القول وقع منه قبل الوسوسة لآدم التي كان بسببها ما كان، ومن زعم أن هناك وسوستين فعليه البيان ولن يأتي به البتة «قالَ» استهجانا له وتبكيتا به وإهانة له «اذْهَبْ» لشأنك وامض لما تريد إذ ليس المراد من الذهاب هنا ضد المجيء بل تخليته وما سولت له نفسه الخبيثة احتقارا له كما تقول لمن خالفك في النصح افعل ما تشاء يدل على هذا قوله جل قوله «فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ» وانقاد لخداعك من ذرية آدم وضل عن الحق ومات على ذلك «فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ» أنت ومن أضللت بتغليب المخاطب على الغائب رعاية لحق المتبوعية جَزاءً مَوْفُوراً» ٦٣ وافيا كاملا بغاية الشدة إذ تعقبه بالوعيد ولو كان المراد منه ضد المجيء لما عقب به ووفر كوعد بمعنى كمل والموفور الكامل وعليه قول أشعر الشعراء:
ومن يجعل المعروف من دون عرضه | يفره ومن لا يتق الشتم يشتم |
ركبنا خطايانا وسترك سبل؟؟؟ | وهل لشيء أنت ساتره كشف |
إذا نحن لم نهفوا وتعفو تكرما | فمن غيرنا يهفو وغيرك من يعفو |
هذا وليعلم السائل عن حكمة إنظار إبليس وتمكينه من الوسوسة من قبل الله تعالى وعدم منعه منها وعدم إنظاره مع قدرته على ذلك، هو أن الله تعالى فعل هذا تشديدا للتكليف على الخلق ليستحقّوا مزيد الثواب، على أن وجود إبليس ليس
مطلب أمل إبليس في الجنة والاعتراف بوجود الإله:
وما قيل إن له أملا بالنّجاة قيل مسنده ما حكي أن مولانا عبد الله التستري سأل الله تعالى أن يريه إبليس فرآه فسأله هل تطمع في رحمة الله تعالى؟ فقال:
كيف لا أطمع فيها والله سبحانه يقول (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) الآية ١٥٦ من الأعراف المارة، وأنا شيء من الأشياء، فقال التستري، ويلك إن الله تعالى قيدها بقوله (فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ) إلخ تلك الآية، ثم وصفهم بقوله (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ) إلخ الآية ١٥٧ منها أيضا، فقال له إبليس ويحك ما أجهلك القيد لك لا له، فأسكت التستري لأمر لا نعلمه، ولم يقل له إنها عامة تقبل التخصيص كتسليطك على آدم وهو قادر على منعك منه، وكان ذلك قبل تشريفه بالنبوة إذ ما عموم إلا وخصص والمخصص بالاستثناء منها أنت يا ملعون، إذ نص الله تعالى على جزائك بآيات متعددة بلفظ اللعن الخاص بك والطرد من رحمته، والمبعد عنها لا تشمله هذه الرحمة. ومن هنا يضرب المثل لكل مؤمل أملا لا يدركه بالقول السائر (أمل إبليس بالجنة) ولهذا ولكونه مدونا في أزل الله بأنه يقع منه
عطاء فتى تمكن في المعالي | فأعرض في المكارم واستطالا |
قال نعم، قال فهل يئست من نفع من في السفينة من المخلوقين ونحوهم لك وإنجاءهم إياك مما أنت فيه؟ قال نعم، قال فهل بقي قلبك معلق بشيء آخر غيرهم ترجو منه الخلاص؟ قال نعم، قال ذلك هو الله عز وجل، فاستحسن ذلك منه وقنع، لأن الإنسان مهما عظم وقوعه في المهالك ولم يجد من ينفعه يبقى في قلبه أمل النجاة، وإذ لم يكن لهذا الأمل من يعلم تنفيذه، فيكون المراد به هو الله لا غير، قال تعالى «أَفَأَمِنْتُمْ» أيها المعرضون عمن نجاكم من الغرق في البحر «أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ» الذي هو مأمنكم وأنتم عليه كما خسف بقارون وذهب به في أعماق الأرض، فتغور بكم وتبتلعكم، لأن البر والبحر مسخران لله تعالى، فلا فرق عليه إن أغرقكم في البحر ويرسيكم في قعره أو خسف بكم الأرض، فيغيبكم في ثراها. فعلى العاقل أن يجعل مخافة الله دائما نصب عينيه وفي سويداء قلبه في أي مكان كان «أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً» حجارة صغيرة يرجمكم بها من السماء فيهلككم كما رجم قوم لوط وأبرهة وقومه في دياركم هذه، وقد شاهد آباؤكم حادثته وكثير منكم أيضا حضرها، راجع الآية ٨٢ من سورة القصص والآية ٨٤ من الأعراف وآخر سورة الفيل المارّات. قال الفراء (الحاصب) هو الريح التي ترمي بالحصباء. وقال الزجاج هو التراب الذي فيه الحصباء. وقيل ما تناثر من رقاق الثلج والبرد ومنه قول الفرزدق:
مستقبلين شمال الشام تضربهم | بحاصب كنديف القطن منثور |
إذا صافى صديقك من تعادي | فقد عاداك وانقطع الكلام |
والبعث وما بعده أيضا، وحاصل المعنى يقول الله تعالى لحبيبه محمد صلّى الله عليه وسلم وعزتي وجلالي وكبريائي وعظمتي لو أجبتهم إلى بعض طلبهم لضاعفت عليك عذاب الدنيا والآخرة، وذلك أن الأبرار لو فعلوا ما يستوجب عذابا ما يكون ضعف عذاب الأشرار وأكثر، لأنه لا يتوقع منهم الانحراف عن منهج الرشد أصلا بدليل قوله تعالى «ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً» ٧٥ يدفع عنك عذابنا أو يرفعه، ففيها من التهديد والوعيد ما يتقيض له من يتقيض ولا يخفى أن الأنبياء لا نصير لهم إلا الذي قربهم وشرفهم بنبوته بادىء أمرهم، وإن ما يقع من نصرتهم من بعض خلقه بتسخيره لهم، فكيف يجدون نصيرا لهم من غيره؟ كلا لا نصير له غير ربه. روي عن قتادة أنه لما نزل قوله تعالى: وإن كادوا إلى هنا، قال صلّى الله عليه وسلم: أللهم لا تكلني إلى نفسي طرفة عين. فينبغي للمؤمن إذا تلا هذه الآية أن يجئو على ركبتيه ويتدبر معناها ويستشعر خشية الله تعالى ويزداد تصلبا في دينه، ويقول ما قاله نبيه صلّى الله عليه وسلم تقربا إلى الله، لأن العبد أقرب ما يكون إلى الله إذا سأله بخلاف العبيد فإنه يكون أقرب ما يكون إليهم إذا لم يسألهم، ولهذا قال صلّى الله عليه وسلم ازهد بما في أيدي الناس تحبك الناس. وقال العارف:
لا تسألن ابن آدم حاجة | وسل الذي أبوابه لا تحجب |
الله يغضب إن تركت سؤاله | وابن آدم حين يسأل يغضب |
عفت الديار خلافهم فكأنها | بسط الشواطب بينهن حصيرا |
هذا، ولما لم يقع المقدّم وهو الخروج لم يقع الثاني وهو الهلاك، إذ خرج حضرة الرسول من مكة مهاجرا بعد أن أذن الله له بالهجرة، وهذا من جملة رحمات الله بقريش إرادة استبقائها. وإن ما جاء في قوله تعالى (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ) الآية ١١ من سورة محمد صلّى الله عليه وسلم في ج ٣ لا يناقض معنى هذه الآية المفسرة، لأن غاية ما فيها الاخبار عن انتصار الله تعالى لأنبيائه السابقين من أممهم المعاندين. وقصارى ما دلت عليه الآية المفسرة هو قرب الاستفزاز منهم تسببا إلى إخراجه ولم يكن حاصلا ولا واقعا ومعنى أخرجتك في الآية المستشهد
مطلب مأخذ الصلوات الخمس والجمع بينها:
قال تعالى «أَقِمِ الصَّلاةَ» التي فرضناها عليك وعلى أمتك ليلة الإسراء هذه «لِدُلُوكِ الشَّمْسِ» أي ميلانها إلى الزوال فتتناول هذه الجملة صلاتي الظهر والعصر، ويرجح هذا القول بأن كل صلاة صلاها النبي صلّى الله عليه وسلم وأمه بها جبريل عليه السلام هي صلاة الظهر حين علّمه كيفية الصلاة في يومين، كما أشرنا اليه آخر قصة المعراج المارة، وما قيل إن المراد غروبها ينافيه قوله تعالى «إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ» ظلمته لأن هذه الجملة تتناول أيضا المغرب والعشاء، فال النّضر بن شميل غسق الليل دخول أوله قال الشاعر:
إن هذا الليل قد غسقا | واشتكيت الهم والأرقا |
ظلّت تجود يداها وهي لاهية | حتى إذا جنح الاظلام والغسق |
مصابيح ليست باللواتي يقودها | نجوم ولا بالاملاك الدوالك |
في ذلك الازدحام الذي يعرفه من شاهده ليس إلا، لعدم تثبته رضي الله عنه من صحة ما ورد فيه، وأن الجمع المروي عنه صلّى الله عليه وسلم حال العذر عبارة عن تأخير الأولى لآخر وقتها فصلاها فيه، ولما فرغ منها دخل وقت الثانية فصلاها فصارت هذه الصورة صورة جمع، ويحمل عليه قول من رآه صلّى ثمانيا
مطلب في التهجد والمقام المحمود وما نسب لإبراهيم وصلاة التراويح:
وما احتج به من ضمير (به) في قوله عز قوله «وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ» يجوز رجوعه إلى القرآن بمعناه الحقيقي استخداما وهو أكثر من أن يحصى، ويجوز رجوعه إلى الصلاة أيضا المعبر عنها بالقرآن، لأنها ركن من أركانها كما عبر عنها بالركوع والسجود، وعود الضمير من (به) إلى الصلاة أولى لأن التهجد هو الصلاة بعد النوم، ولا تسمى الصلاة تهجدا إلا إذا كانت بعد النوم وفي الليل ت (٣٥)
الوتر والسواك وقيام الليل. وروي عن الحجاج بن عمر والمازني أنه قال: أيحسب أحدكم إذا قام من الليل فصلى حتى يصبح أنه قد تهجد، إنما التهجد الصلاة بعد الرّقاد، ثم صلاة أخرى بعد رقدة، ثم صلاة أخرى بعد رقدة، هكذا كانت صلاة رسول الله صلّى الله عليه وسلم «عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً» ٧٩ من قبل أهل السموات والأرض. واعلم أن عسى هنا وفي كل موضع من القرآن إذا كانت من الله تكون بمعنى الإيجاب التفضّلي، لأن معناها الإطماع، ومن أطمع إنسانا في شيء ثم حرمه منه كان عارا عليه، والله أكرم من أن يطمع أحدا بشيء ثم لا يعطيه إياه، والمقام المحمود وهو مقام الشفاعة العظمى العامة الذي اختصه الله تعالى به يحمده عليه الأولون والآخرون، وناهيك أن الله تعالى سماه محمودا.
أخرج البخاري ومسلم عن ابن عمر قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول إن الشمس لتدنو حتى يبلغ العرق نصف الأذن، فبينما هم كذلك استغاثوا بآدم فيقول لست بصاحب ذلك، ثم موسى فيقول كذلك، ثم محمد فيشفع فيقضي الله بين الخلائق، فيمشي حتى يأخذ بخلقه باب الجنة، فيومئذ يبعثه الله مقاما محمودا يحمده أهل الجمع كلهم.
وأخرج الترمذي عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، وبيدي لواء الحمد ولا فخر، وما نبي يومئذ، آدم فمن سواه إلا تحت لواني، وأنا أول من تنشق عنه الأرض ولا فخر، فيفزع الناس ثلاث فزعات، فيأتون آدم فيقولون أنت أبونا فاشفع لنا إلى ربك، فيقول إني أذنبت ذنبا أهبطت منه إلى الأرض، ولكن ائتوا نوحا، فيأتون نوحا فيقول إني دعوت على أهل الأرض دعوة فأهلكوا، ولكن اذهبوا إلى إبراهيم، فيأتون إبراهيم فيقول كما جاء في عبارة الترمذي إني كذبت ثلاث كذبات، ثم قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم ما منها كذبة إلا ما حل بها عن دين الله أي (ناضل ودافع) وهي من باب المعاريض لأن الأولى قوله (إِنِّي سَقِيمٌ) الآية ١٩ من سورة الصافات في ج ٢، ومعناها مريض القلب من تماديكم على الكفر وعدم التفاتكم إلى خالقكم، والثانية قوله
لأرمقنّ صلاة رسول الله صلّى الله عليه وسلم الليلة، فتوسدت عتبته أو فسطاطه، فقام فصلى ركعتين خفيفتين، ثم صلّى ركعتين طويلتين كررها ثلاثا، ثم صلّى ركعتين، دون التي قبلها كررها ثلاثا أيضا، ثم أوتر، فذلك ثلاث عشرة ركعة. وروى
وأخرج الترمذي عن عائشة قالت: قام رسول الله صلّى الله عليه وسلم بآية من القرآن ليلة يكررها.
وروى البخاري ومسلم عن الأسود قال: سألت عائشة كيف كانت صلاة رسول الله من الليل؟ قالت كان ينام أوله ويقوم آخره فيصلي ثم يرجع إلى فراشه، فإذا أذن المؤذن وثب فإن كانت به حاجة اغتسل وإلا توضأ وخرج. وأخرج النسائي عن أنس قال: ما كنا نشاء أن نرى رسول الله صلّى الله عليه وسلم في الليل مصليا إلا رأيناه، ولا نشاء أن نراه نائما إلا رأيناه. أي أنه كان لا يوقّت وقتا لنومه
كلا بل لا زلتم على ما أنتم عليه من الضعة غافلين عما يراد بكم في ذلك اليوم العظيم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. قال تعالى «وَقُلْ رَبِّ» حذف منه ياء النداء أي يا محمد قل في دعائك إذا دعوتني يا رب «أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ» في كل مكان أدخل فيه وكل زمان أصير إليه وكل أمر ألج فيه من أمور الدنيا والآخرة، وقرىء هنا وفيما بعد مدخل بفتح الميم إذ يجوز أن يكونا اسمى مكان وانتصابهما على الظرفية ويجوز أن يكونا مصدرين منصوبين بفعل من نوعهما «وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ» كذلك على العمومية في الجملتين، لأن جعلهما عامتين أوفق لظاهر الآية لفظا، وقد خصهما بعض المفسرين في القبر أو في مكة أو المدينة أو الجنة أو في تعاطي المأمورات واجتناب المنهيات وغير ذلك دون استناد لدليل يفيد التخصيص، مع أن سابق اللفظ ولا حقه مما تقدم عن هاتين الجملتين أو تأخر لا يختصان بمكان أو زمان دون زمان ومكان آخرين، والمعنى يا رب أدخلني إدخالا مرضيّا على طهارة وزكاة في كل أموري، وأخرجني إخراجا مرضيّا ملقى بالكرامة آمنّا من الملامة في جميع أحوالي، ويؤيد معنى العموم قوله جل قوله «وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً» ٨٠ على من خالفني ولم يؤازرني وارزقني حجة قوية على من يحاججني وبرهانا مؤزرا على من يخاصمني في أمرك، ودليلا قاطعا على من يجادلني في دينك. هذا، وما قيل إن هذه الآية نزلت حينما أمر حضرة الرسول بالهجرة وطلب إخراجه من مكة آمنا من أذى قومه الذين كلفوه بالخروج، أو حينما خرج من الغار سالما قال وأدخلني المدينة آمنا أو وأدخلني مكة فاتحا أو غير ذلك، فقيل لا مستند له واحتمال المعنى لهذا لا يعني أنها نزلت فيه، وقد دعا صلّى الله عليه وسلم وأجاب الله دعاءه بقوله (وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) الآية ٦٧ من المائدة، وقوله تعالى (أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)
الآية الأخيرة من سورة
قال تعالى «وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ» الصريح من قبل الله تعالى وهو هذا الدين الراسخ المستمد من كلام الله المنزل عليّ لآمركم بالإيمان به «وَزَهَقَ الْباطِلُ» اضمحل وانمحق، وهلك الباطل الذي تدينون به والشرك الذي تزعمونه، وبطلت عبادة الأوثان والشيطان وغيرها. يقال زمقت نفسه إذا خرجت من الأسف. روي البخاري ومسلم عن عبد الله بن مسعود قال: دخل النبي صلّى الله عليه وسلم مكة يوم الفتح وكان حول البيت ثلاثمائة وستون صنما فجعل يطعنها بعود في يده ويقول (جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً) (جاءَ الْحَقُّ وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ) وفي رواية الطبراني في الصغير والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس أنه صلّى الله عليه وسلم جاء ومعه قضيب فجعل يهوي به إلى كل صنم منها فيخرّ لوجهه، فيقول (جاءَ الْحَقُّ) الآية «إِنَّ الْباطِلَ» مهما كان أمره «كانَ زَهُوقاً» ٨١ زائلا سريع الزوال، ومهما صارت له دولة وصولة، فإنه لا يدوم، لأنه ظلم والكفر مع العدل قد يدوم، والظلم مع الإيمان لا يدوم. قال تعالى (وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ) الآية ١١٧ من سورة هود في ج ٢، وهذا آخر الآيات المدنيات الثماني وفسرناها على كونها مدنيات وذكرنا ما يحتملها من التفسير على القول بأنها مكيات، وبينّا ما فيه.
مطلب الاستشفاء بالقرآن على نوعين وثالثهما العقيدة:
قال تعالى «وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ» من أمراض القلوب وبيان من الضلالة والجهالة، يتبين به المختلف فيه، ويتضح به المشكل، ويستشفى به من الشبهات، ويهتدى به من الحيرة. وليعلم أن الأمراض التي يستشفى لها بالقرآن نوعان الأول الاعتقادات الفاسدة في الذات المقدسة والصفات المطهرة والنبوات المعظمة والقضاء والقدر والبعث بعد الموت، فالقرآن العظيم مشتمل على دلائل المذهب الحق فيها كلها ومصرح على إبطال المذاهب الفاسدة منها، فلا جرم أن القرآن الكريم خير
النوع الثاني الأخلاق المذمومة كالكذب والزنى والقمار والقتل والتعدي على الغير والربا وأكل الحرام وأكل مال اليتيم والغيبة والنميمة والتجسس والغمز واللمز وتطفيف الكيل والوزن والذرع والغضب والحدة والحمق وغيرها مما شاكلها، فإن القرآن الجليل لا شك أعظم شاف منها وخير منفّر عنها وأحسن مرشد لاجتنابها والأخذ بأضدادها من الأخلاق الفاضلة والآداب الكاملة والخصال المحمودة، كالوفاء والسماح والعفو ولين الجانب والتؤدة والصبر وخفض القول والعفاف والصفح والكظم وشبهها مما يضاهيها، فلا دواء لها أنفع من الأخذ بآيات القرآن وسنن المنزل عليه.
أخرج ابن مردويه عن أبي سعيد الخدري قال: جاء رجل إلى النبي صلّى الله عليه وسلم فقال إني أشتكي صدري فقال عليه الصلام والسلام اقرأ القرآن يقول الله تعالى (وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ) الآية ٥٧ من يونس في ج ٢. وأخرج البيهقي في الشعب عن وائلة ابن الأسقع أن رجلا شكا إلى النبي صلّى الله عليه وسلم وجع حلقه فقال عليك بقراءة القرآن.
والأخبار في هذا كثيرة جدا وأقوال العارفين والعلماء العاملين تشير إلى ذلك أيضا، وقد جرّب هذا فنفع من كان له إيمان وعقيدة راسخة، أما من لم يعتقد به فهو عليه وبال، راجع الآية ٤٣ من سورة فصلت في ج ٢، أما الأمراض الجسمانية فهي نوعان أيضا: ظاهرة كالجروح والدماميل والكسور وما شابهها فهذه لا بدّ لها من التداوي بالعقاقير المجربة لمثلها والتضميد وغيره، وباطنة كمرض الأمعاء والرئة والمثانة والكلى والكبد والطحال وغيرها، فكذلك لا بد لها من النداوي عند الأطباء الحاذقين المجربين المؤمنين، ولا بأس من التداوي عند غيرهم من أهل الكتاب عند فقدهم لأن الضرورات تبيح المحظورات، ولكن الضرورة تقدر بقدرها لأن هذين النوعين مباينين للنوعين الأولين، أما الأمراض الأخرى كالفتور والخدر والفلج وضرب الرأس وبعض أنواع الجنون واعتراء الوهم والوسواس وما أشبه ذلك فيجوز أن يعرضها على الأطباء الحاذقين بها وعلى حملة كتاب الله العارفين الأمناء فإن قراءة القرآن والتعاويذ به تدفع وتنفع لأمراض كثيرة وتشفي من علل وافرة،
توسلت بالمختار أرجى الوسائل | نبي لمثلي خير كاف وكافل |
كماء المزن في الأصداف درا | وفي ثغر الأفاعي صار سما |
حتى إذا ما التأمت مفاصله... وناء في شق الشمال كاهله
أي نهض متوكئا على شماله وتفسير نهض هنا بأسرع لمناسبة المقام، أي أسرع بصرف جانبه أو بمعنى تثاقل عن أداء شكرنا كأنه مستغن في ذاته مستقل في أمره بحيث لا يخطر على باله احتياجه إلى ربه «وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ» المرض والضيق والذل والإهانة والفقر والخذلان والرق والحرمان من المال والولد والخدم ونحو ذلك من أنواع الشدائد وأصناف النوازل «كانَ يَؤُساً» ٨٣ قنوطا آيسا من رحمة الله لقلة يقينه وضعف دينه، وذلك لأنه لم يحسن معاملته مع خالقه في الرخاء حتى يرجو فضله في الشدة. وقد جاء في الحديث تعرف إلى الله بالرخاء يعرفك في الشدة.
فلو عرف نعمة الله وأدى شكرها لما مسه ضره، ولدعاه فاستجاب دعاءه في كشفه، ولو رجع إليه مخلصا لقبله على ما كان منه، وقد جاء في الحديث القدسي رواه الترمذي عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول الله تعالى:
يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك، يا ابن آدم إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لأتيتك بقرابها مغفرة. وقيل في هذا المعنى:
أناس أعرضوا عنا... بلا جرم ولا معنى
أساءوا ظنهم فينا... فهلا أحسنوا الظنا
فإن عادوا لنا عدنا... وإن خانوا فما خنا
وإن كانوا قد استغنوا... فإنا عنهم أغنى
أما من تكاثفت ظلمات قلبه فقد حيل بينه وبين الرضاء، وحال عتوه وشقاؤه دون ما يطلبه ويتمناه، وهؤلاء قد ينطبق عليهم تفسير الآية الأخيرة من سورة سبأ في ج ٢ فراجعها، واعلموا أيها الناس أن الله تعالى هو الغني عنكم وأنتم الفقراء إليه، وان الله هو القوي عليكم وأنتم الضعفاء عنده، فاستكينوا إليه ووحدوه يرسل لكم خيره ويدفع عنكم شره، وإلا إذا كان شركم إليه صاعدا وخيره إليكم
مطلب الكفران يزيل النعم وذات الإنسان تقتضي الطاعة فطرة:
قال تعالى (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ) الآية ٧ من سورة إبراهيم في ج ٢، وبعد أن ذكر سبحانه حال القرآن بالنسبة للمؤمن والكافر وبيّن حال الكافر في حالتي الإنعام وضده، ذكر ما يصلح جوابا لمن يقول لم كان كذلك بقوله جل قوله «قُلْ» يا سيد الرسل لهذا السائل أو قل أيها المسئول عن ذلك «كُلٌّ» من المؤمن والكافر والمعرض والمقبل والراجي واليائس «يَعْمَلُ» عملا «عَلى» حسب «شاكِلَتِهِ» حالته وطريقته ومذهبه وطبيعته التي جبل عليها بل التي خلق إليها لما جاء في الحديث الصحيح اعملوا فكل ميسر لما خلق له، فمن كان مخلوقا للشر فمهما عمل من طرق الخير فيما يبدو للناس فسيصير إلى عمل الشر ويموت عليه، لأن عمله الخير لم يكن خالصا لله تعالى مهما ادعى الإخلاص فيه، ومن كان مخلوقا للخير فمهما عمل من فنون الشر فيما يبدو للناس فسيصير إلى عمل الخير ويموت عليه، لأن عمله الشر كان في غير رغبة منه ورضى وكان يعقبه الندم والندم استغفار والاستغفار توبة (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ) الآية ٢٥ من الشورى في ج ٢، حيث ختمها بقوله (وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ) من خير أو شر ونياتكم فيهما وما يؤول عملكم فيهما إليه، فعمل الإنسان يشاكل نفسه ويشابهها في الحسن والقبح ويناسب جوهره فيهما، فإذا كان شريفا صدرت عنه الأعمال الجميلة والأخلاق النبيلة والآداب الكاملة والأطوار الذكية والأحوال المرضية والأفكار الزكية، وإن كانت نجسة خبيثة نشأ عنه الأفعال الردية والأخلاق الفاسدة والعوائد السيئة والأمور القبيحة والأطوار الرذيلة، وهذه اللفظة مأخوذة من الشكل بفتح الشين أي المثل والنظير، يقال لست من شكلي
هذا، وقد فسر مجاهد الشاكلة بالطبيعة وهي رواية عن ابن عباس، وفسرها بعضهم بالعادة لأن الطبيعة مقيدة وسلطانها على ربها ظاهر، وهذا السلطان ضابط له وقاهر، ولأن العادة محكمة ومن المشهور على ألسنة الجمهور العادات قاهرات، وفسرها بعضهم بالدين وهو دون التفسيرين الأولين وهما دون الأول، قال الملا صدر الدين الشيرازي صاحب الأسفار لا صاحب حواشي شرح التجريد المشهور حاله مع ملا جلال وهو من فلاسفة الإسلام المتصدرين برأيهم للجمع بين الشريعة والفلسفة. إن ذات الإنسان بحسب الفطرة الأصلية لا تقتضي إلا الطاعة، واقتضاؤها المعصية بحسب العوارض الغريبة الجارية مجري المرض والخروج عن الحالة الطبيعية، فيكون ميلها للمعصية الكائنة على خلاف طبيعتها، مثل ميل منحرف المزاج الأصلي إلى أكل الطين.
وقد ثبت في الحكمة أن الطبيعة بسبب عارض غريب تحدث في جسم المريض مزاجا خاصّا يسمى مرضا فالمرض من الطبيعة بتوسط العارض الغريب، كما أن الصحة منها، ومن هذا المرأة الحامل زمن الوحام قد تأكل الطين وأشياء لا تؤكل عادة، وذلك بسبب ما يعتريها من انحراف المزاج في بداية حملها، وقد جاء في الحديث القدسي إني خلقت عبادي كلهم حنفاء وأنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم.
وجاء في الأثر كل مولود يولد على فطرة الإسلام ثم أبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه. أي بواسطة الشياطين المخالطين له فعلا في الظاهر أو الموسوسين له معنى وخلسة
ولولا المزعجات من الليالي | لما ترك القطا طيب المنام |
فنسأله تعالى أن ينور قلوبنا ويسدد أفهامنا ويثبت أقدامنا ويقنعنا بما كتب لنا ويرضينا بما قسمه لنا، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم روى البخاري ومسلم عن أبي عبد الرحمن عبد الله بن مسعود من حديث صحيح: إن أحدكم يعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس حتى ما يكون بينها وبينه إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار فيما يبدو للناس حتى ما يكون بينها وبينه إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها. فتأمل هذا حق التأمل وانظر كيف يقسم حضرة الرسول في حديثه هذا الذي صدره بقوله فو الله الذي لا إله إلا هو، ثم ساقه. فتمسك به وتلقّه بالقبول وسل الله الثبات والرسوخ في الإيمان.
مطلب أرجى آية في القرآن للمغفرة، وبحث الروح:
واعلم أن رؤساء الاصحاب رضي الله عنهم تذاكروا فيما بينهم عن أي آية في القرآن أرجى للغفران، فروي أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال: لم أر في القرآن أرجي من هذه الآية، أي التي نحن بصددها إذ لا يشاكل بالعبد إلا العصيان، ولا يشاكل بالرب إلا الغفران. وقال عمر رضي الله عنه: لم أر أرجى من الآية التي فيها قوله جل قوله (غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ) الآية الثانية من سورة المؤمن في ج ٢، إذ قدم الغفران قبل قبول التوبة. وقال عثمان رضي الله عنه: لم أر أرجى من قوله تعالى (نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) الآية ٥٠ من سورة الحجر في ج ٢، لما فيها من إعلان المغفرة للجميع وطلب إعلانها. وقال علي كرم الله وجهه: لم أر أرجى من آية (قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا
الآية ٥٤ من سورة الزمر ج ٢.
وقدمنا في سورة والضحى المارة عن جعفر الصادق أن أرجى آية في القرآن (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى) إلا أنه خصّها بأهل البيت فراجعها، والمراد هنا ما يعم الكل غير المشرك لورود النص فيه في الآيتين ٤٧/ ١١٦ من سورة النساء في ج ٣، وهناك اقوال سنأتي بها عند تفسير الآيات المشار بها أعلاه فراجعها، قال تعالى «وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ» الذي هو مبدأ البدن الإنساني ومبدأ حياته وقوام دوامها وملاك بقائها، وإنما سألوه عن الروح لأن معرفتها من أدق الأمور التي لا يسع أحد إنكارها ولا يقدر أحد على معرفتها، لذلك فإن كل أحد يشرئب إلى التعرف عليها، توفر دواعي العقلاء إليها، وكلل الأذهان عنها، ووقوف الفكر ببابها، فمن وفقه الله علم أنها لا تعلم إلا بوحي من الله، والوحي خاص بالأنبياء، وقد ختم الله إرسالهم بمحمد صلّى الله عليه وسلم، فيفوض أمر معرفتها إلى الله.
ويوقن ويسكت، ومن خذله الله تطرق إلى كل ما يتخيلة ليقف على صورتها ومادتها، فيرجع خاشئا، إذ لا طريق إلى ذلك. وقد زعم ابن القيم أن المسئول عنه في هذه الآية قوله تعالى (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ) الآية ٣٨ من سورة عم في ج ٢، وسيأتي في تفسيرها أن الروح هناك يطلق على القرآن وعلى اسم ملك خاص أو صنف من الملائكة أو جبريل عليه السلام، إذ لا يعلم الروح المسئول عنه في الآية المفسرة إلا الله لأنه من الغيب الذي علمه من خصائصه جل شأنه.
واعلم أن الروح كما يطلق على ما ذكر آنفا كما سيأتي في الآية الأخيرة من سورة الشورى في ج ٢، وكما مر في الآية ١٩٢ من الشعراء، يطلق على الروح المركبة في الجسم المرادة في هذه الآية ليس إلّا والله أعلم. أخرج أحمد والنسائي والترمذي والحاكم وصححاه وابن حبان وجماعة عن ابن عباس قال: قالت قريش لليهود أعطونا شيئا لنسأل هذا الرجل، فقالوا اسألوه عن الروح، فسألوه فنزلت هذه الآية.
وفي السير عن ابن عباس أيضا أن قريشا بعثت النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط إلى أحبار اليهود بالمدينة، وقال لهم سلوهم ما نسأل محمدا فإنهم أهل كتاب، عندهم من العلم ما ليس عندنا، فخرجا حتى قدما المدينة فسألوهم، فقالوا اسألوه عن أصحاب
«قُلِ» يا سيد الرسل لهؤلاء السائلين وغيرهم «الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي» لم يعط علمها أحدا من خلقه، لأنها مما استأثر الله بعلمه كالخمسة المذكورة آخر سورة لقمان في ج ٢، وإن معلومات الله التي اختص بها نفسه لا يحيط بها علم البشر، إذ ليس
ومما يدلّ على أن هذه الآية مكّية لا مدنية، ما أخرجه ابن اسحق وابن جرير عن عطاء بن يسار قال نزلت هذه الآية بمكة، فلما هاجر الرسول إلى المدينة أتاه أحبار اليهود فقالوا يا محمد إنا نعجب من قولك، ألم يبلغنا عنك أنك تقول:
(وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ) الآية أفتعنينا أم قومك؟ قال كلا عنيت. قالوا إنك تتلو أنا أوتينا التوراة فيها تبيان لكل شيء، وتتلو (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ
والحكمة هي التوراة وقد أوتيناها، فقال صلّى الله عليه وسلم هي من علم الله قليل، وقد آتاكم الله ما إن عملتم به انتفعتم. فأنزل الله (وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ) الآيتين من سورة لقمان أيضا. ولهذه الحكمة أخّرت هذه الآيات عن سورتها بالنزول لأن السورة نزلت بمكة وهذه الآيات بالمدينة. واعلم أن معنى كون الروح من أمر الله أنها من الإبداعيات الكائنة بالأمر التكويني من غير تحصيل مادة وتولد من أصل كالجسد الإنساني، والمراد بالأمر واحد الأوامر وهو كن، والسؤال كما ذكرنا هو عن الحقيقة، والجواب إجمالي مآله أن الروح من عالم الأمر، مبدعة من غير مادة، لا من عالم الخلق المبتدع في المادة، وهو أي هذا الجواب من الأسلوب الحكيم كجواب سيدنا موسى عليه السلام إلى فرعون حينما قال له:
(وَما رَبُّ الْعالَمِينَ) فأجابه (رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا) الآية ٢٥ من سورة الشعراء المارة مشيرا بجوابه هذا إلى أن كنه حقيقة المسئول عنه ما لا يحيط به دائرة إدراك البشر، وإنما الذي يعلمه البشر عن الإله هو هذا القدر الإجمالي المتدرج تحت ما استثنى مما استأثر به نفسه المقدسة. وقال ردّا على ما خطر في قلب السائل من اطلاع على معلوماته الضئيلة بقوله (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا) (وتفسيره ما تقدم) تستفيدونه من طرق، فإن تعقل المعارف النظرية إنما هو في الأكثر من إحساس الجزئيات، ولذلك قيل من فقد حسا فقد علما. هذا، ولا شك أن الروح مجردة عن علائق الأجسام، وأنه جوهر ليس من جنس الأجسام بل هو جوهر قدسي مجرد، يدل عليه قوله تعالى (مِنْ أَمْرِ رَبِّي) وقوله تعالى (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) الآية ٢٩ من سورة الحجر في ج ٢، وقوله تعالى (وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ) الآية ١٧٠ من سورة النساء في ج ٣، وان هذه الإضافات تنبه على شرف الجوهر الأسنى وكونه عريّا عن الملابس الحسية. ومن هذا القبيل قوله صلّى الله عليه وسلم (أنا النذير العريان) ففيه إشارة إلى تجرّد الروح عن علائق الأجرام، وكذلك قوله صلّى الله عليه وسلم (خلق الله آدم على صورة الرحمن) - وفي رواية على صورته- وقوله عليه السلام (أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني) ففيها إيذان بشرف الروح وقربه من ربه بالذات والصفات، قربا لا يعرف كيفيته، مجردا عن علائق الأجرام وعوائق
وكذلك لا يقدر أن يعرف كيفية تعلقها بالبدن ومفارقتها له حالة النوم، ثم لا بد لنا أن نبحث في حقيقة الإنسان والروح مما لخصه العلماء جزاهم الله عنا خيرا، ونأخذ أصح الأقوال في ذلك ونترك ما وقع من الأخذ والرّد فيها، وهذا البحث الأول في حقيقة الإنسان. اعلم وفقك الله أن الروح في الجسم الإنساني وغيره عبارة عن جسم نوراني علوي حي متحرك، مختلف بالماهية لهذا الجسم المحسوس، سار فيه سريان الماء في الورد، والدهن بالزيتون والسمسم، والزبد في اللبن، والدهن في الجواز واللوز والبطم وما أشبهها، والهواء في البدن والنار في الفحم، وسريان نور الشمس على مطلق الأضواء، لا يقبل التحلل والتبدل والتفرق والتمزق، مفيد للجسم المحسوس الحياة وتوابعها ما دام صالحا يقبل الفيض الإلهي لعدم حدوث ما يمنع من السريان كالأخلاط الغليظة. ومتى حدث ذلك حصل الموت لانقطاع السريان، إذ أن هذه السراية تفطن الإنسان بأن ظهور الأشياء وحياتها ومنبع نشأتها ونمائها منها ليس إلا، وهذا غاية نهاية ما يمكن أن يتكلم فيه عن الروح، إذ الاطلاع على كنهها أمر خارج علمه عن طوق البشر، وليس له أن يبحث عنه، لأن البحث بأكثر من هذا عقيم، وعليه فإن الروح عبارة عن ذلك الجسم الموصوف أعلاه.
البحث الثاني في حدوث الروح وقدمه، واعلم هداك الله أن المسلمين أجمعوا على أن الروح حادثة حدوثا زمانيا كسائر أجزاء العالم، والقول الصحيح أن حدوثها قبل حدوث البدن، لما جاء في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: الأرواح جنود مجندة ما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف. فإن هذا الحديث يشير إلى الإخبار بأن الأرواح مخلوقة قبل الأجساد، لأن معنى هذا الحديث الشريف أن ما تعارف منها عند خلقها الأول ائتلف عند خلق أجسادها، والعكس بالعكس. ومن قال إن الأرواح في برزخ منقطع العناصر، فإذا استعد جسد لشيء منها هبط اليه، وإنها تعود إلى ذلك البرزخ بعد الوفاة
البحث الرابع: هل تموت الروح أم لا؟ اعلم علمك الله أن جماعة من العلماء الأعلام قالوا إنها لا تموت استنادا لما جاء في الأحاديث الصحيحة الدالة على نعيمها وعذابها بعد مفارقتها الجسد إلى أن يرجعها الله إليه عند البعث، لأن القول بموتها يلزم منه انقطاع النعيم والعذاب، وموت الروح المذكور في قوله تعالى (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) الآية ١٨٥ من البقرة في ج ٣، ومثلها في سورة الأنبياء الآية ٣٥ ج ٢ جار على القول بأن النفس هي الروح ويكون بمفارقتها الجسد، وعلى القول بأن النفس غير الروح كما علمت آنفا فلا دليل بالآية على موتها، وما جاء في تفسير قوله تعالى (أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ) الآية ١١ من سورة المؤمن في ج ٢ بأن الموتة الأولى للبدن، والثانية للروح على رأي من فسر بذلك، غير مسلم.
وسيأتي لبحثه بيان في تفسيرها إن شاء الله فراجعه. البحث الخامس في تمايز الأرواح
السادس في مستقر الأرواح بعد مفارقة الأبدان: اعلم بارك الله فيك ونفع بك ذويك أنه قد صح أن حضرة الرسول صلّى الله عليه وسلم كان آخر كلامه: اللهم الرفيق الأعلى.
وقال تعالى (إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ) الآية ١٨ من سورة المطففين في ج ٢، فعلى هذا يكون مستقر أرواح الأنبياء في عليين، وقد أخرج الإمام مالك رحمه الله عن كعب بن مالك مرفوعا إنما نسمة المؤمن (أي ذريته بدليل الأحاديث الصحيحة السابقة، لأن الأحاديث كالقرآن من حيث أنها يفسر بعضها بعضا) طائر يعلق في شجر الجنة حتى يرجعه الله تعالى في جسده حين يبعثه. وقد روى هذا الحديث الإمام أحمد في مسنده، وخرجه النسائي من طريق مالك، وخرجه بن ماجه، وروى ابن منده من حديث أم بشر مرفوعا ما هو نص في أن مستقر أرواح المؤمنين نحو مستقر أرواح الشهداء المار ذكرهم في حديث مسلم عن ابن مسعود، ومستقر أرواح الكفار في سجّين، قال تعالى (إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ) الآية ٧ من المطففين أيضا. وما قاله ابن حزم من أن أرواح الموتى أقبية قبورهم
مطلب في حفظ القرآن ثم رفعه بالوقت الذي قدره له الله.
قال تعالى «وَلَئِنْ شِئْنا» يا سيد الرسل «لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ» فنمحوه من قلبك ومما كتب عليه من قبل كتبة الوحي فلا نبقي له أثرا أبدا «ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ» بالقرآن الموحي إليك الذي هو شفاء ورحمة لأهل الأرض المصدقين به والذي ثبتناك به من أن تفتتن بأقوال قومك ولا يمكنك أن تحضر «عَلَيْنا وَكِيلًا» ٨٦ يستطيع استرداده منا وإعادته إليك ولا تقدر أن تجد من يتوكل لك علينا بذلك من متعهد أو ملزم البتة «إِلَّا» أن يتفضّل عليك ربّك فيرحمك «رَحْمَةً» عظيمة خاصة بك نازلة عليك «مِنْ رَبِّكَ» تتمكن بها من إبقائه وعدم نزعه من الصدور ومحوه من السطور وهذه منّة عظيمة جليلة منّ الله بها عليك، وجعل ما أوحاه إليك محفوظا، وتعهد لك بحفظه بقوله جل قوله (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) الآية ٩ من سورة الحجر في ج ٢، وتعهد لك أيضا بعدم إدخال زيادة عليه وحذف شيء منه بقوله عزّ قوله (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ) الآية ٤٢ من سورة فصلت في ج ٢، روي عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال لا تقوم الساعة حتى يرفع القرآن من حيث نزل، له دويّ حول العرش كدويّ النحل، فيقول الرّب مالك؟ فيقول يا رب أتلى فلا يعمل بي. وقال عبد الله بن مسعود اقرأوا القرآن
(ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ) الآية ٥٢ من سورة الأنفال ج ٣، وقوله تعالى (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ) الآية ١٤ من سورة الرعد في ج ٣، وعليه يكون الجزاء من جنس العمل، لأنهم نسوا الله فأنساهم أنفسهم ونسيهم، فجعلهم متروكين لا يؤبه بهم. وأخرج ابن
وإن أتاه قليل يوم مسغبة | يقول لا غائب مالي ولا حرم |
وقد يسمى سماء كل مرتفع | وإنما الفضل حيث الشمس والقمر |
وخرج هذا سعيد بن منصور عن ابن جبير، وكان ذلك الخبيث عبد الله بن أمية كرر هذا الكلام على حضرة الرسول، وقال له إن قومك عرضوا عليك ما عرضوه من الاقتراحات فلم تقبله منهم، ثم سألوك لأنفسهم أمورا ليعرفوا بها منزلتك عند الله ربك فلم تقبل، ثم سألوك أن تعجل لهم ما تخوفهم به من العذاب فلم تفعل، فو الله لا نؤمن بك أبدا ولو فعلت ما طلبناه منك ولا نصدقك أبدا، ثم انصرف. وقد أسف صلّى الله عليه وسلم لما رأى من مباعدتهم عن الإيمان بعد نزول هذه الآيات وإعراضهم عنها. هذا وما قيل إن الله تعالى أنزل على هؤلاء المقترحين الآيتين ٣٢/ ٣٣ من الرعد في ج ٣ وهما: (كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ) الآية (وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى) الآية فغير وجيه لأن سورة الرعد مدنية ولم يستثنى منها هاتان الآيتان ولا غيرهما، وما نحن فيه من الوقائع في مكة، وسنأتي على ما يتعلق فيها في محلها إن شاء الله في القسم المدني، قال تعالى «وَما مَنَعَ النَّاسَ» الذين حكيت أباطيلهم آنفا من «أَنْ يُؤْمِنُوا» بربهم ويصدقوا رسوله «إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى» على يديه أن يهتدوا بهديه ويسترشدوا برشده ويتوصلوا إلى معرفة توحيده ويؤمنوا به «إِلَّا أَنْ قالُوا» جهلا منهم وعنادا بمن أرسل إليهم على طريق السخرية والاستهزاء «أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولًا» ٩٤ إلينا مثلنا ألّا يبعث ملكا من الملائكة يدعونا إليه لنطيعه ونؤمن به، فيا سيد الرسل «قُلْ» لهؤلاء الباغين «لَوْ كانَ» على سبيل الفرض والتقدير «فِي الْأَرْضِ» التي أنتم عليها «مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ» فيها مثلكم «مُطْمَئِنِّينَ» آمنين متوطنين كآحاد الناس ليس لهم أجنحة
فهو الحكم العدل «بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ» على ذلك كله «إِنَّهُ كانَ» ولا يزال «بِعِبادِهِ خَبِيراً» بظواهر المرسل والمرسل إليهم «بَصِيراً» ٩٧ يبواطنهم وخوافي أمورهم، وانه يجازي كلا على عمله.
قال تعالى تسلية لرسوله صلّى الله عليه وسلم واعلاما بأن ما كان مطابقا لإرادته أزلا سيكون في الواقع لا محالة، وهو «مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ» بهدايته على يد من شاء من خلقه «وَمَنْ يُضْلِلْ» منهم فهو الضال مهما أراد الناس هدايته فلن يقدروا لهذا يقول الله تعالى «فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ» ينصرونهم علينا أو يقودونهم إلى الهدى «مِنْ دُونِهِ» أي الهادي الحقيقي بل يبقى ضالا على ضلاله حتى يموت.
مطلب الحشر على الوجوه وبقاء عجب الذنب:
«وَنَحْشُرُهُمْ» أي هؤلاء الظالمين «يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ» منكوسين حالة كونهم «عُمْياً» لا يبصرون «وَبُكْماً» لا يتكلمون «وَصُمًّا» لا يسمعون كما كانت حالتهم في الدنيا، أي كما أن لم ينتفعوا بحواسهم هذه في الدنيا لما فيه خيرهم لم ينتفعوا فيها في الآخرة أيضا راجع الآية ٢٤ من سورة الفرقان المارة، وهؤلاء الذين هذا وصفهم «مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ» يصيرون إليها بعد الموقف حالة كونها مسعرة «كُلَّما خَبَتْ» هدأ لهيبها وولى سعيرها وخمدت شعلتها «زِدْناهُمْ سَعِيراً» ٩٨ وقودا ليزداد بلاؤهم فيها «ذلِكَ» حشرهم على الصورة المارة فاقدي منافع جوارحهم حالة ازدياد إيقاد النار لزيادة عذابهم «بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا» برسلنا وكفروا أيضا «بِآياتِنا» القرآنية والآفاقيّة الدالة على صحة الاعادة بعد الموت وعلى صدق الرسالة بذلك «وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً» ٩٩ تقدم تفسيرها في الآية ٤٩ المارة أي مستأنفين الحياة مرة ثانية كما كنا، وما قيل إن المعنى يخلق الله غيرهم يعبدونه ويعترفون بربوبيته على حد قوله تعالى: (يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ) الآية الأخيرة من سورة محمد ج ٤، وقوله تعالى (وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ) الآية ١٧ من سورة فاطر المارة، لا يتجه هنا لأنه لا يلائم السياق كما لا يخفي على ذوي الأذواق، وآية فاطر
بالتراب ويكون سبب فنائه إلا عجب الذنب فإن الله تعالى يفنيه بلا تراب كما يميت ملك الموت بلا ملك موت والخلق منه والتركيب يمكن بعد إعادته فليس ما ذكر نصا في بقائه، وبذلك قال ابن قتيبة. قال تعالى «قُلْ» يا محمد لقومك وغيرهم «لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي» من المطر والرزق والنعم الكثيرة من خزائنه الغير متناهية إذ لا يعلمها غيره.
واعلم أن إن أنتم هنا مرفوع بفعل يفسره الفعل بعده لأن لولا تدخل على الأسماء أي لو تملكون أنتم إلخ وهي حروف امتناع لا متناع بخلاف لولا فهي حرف امتناع لوجود، وعلى هذا قول حاتم وقد أسر فلطمته جارية فقال: لو غير ذات سوار لطمتني، أي لو لطمتني غير ذات سوار، وقول المتلمس:
ولو غير أخوالي أرادوا نقيصتي | جعلت لهم فوق العرانين حيسما |
له راحة لو أن معشار جودها | على البر كان البر أندى من البحر |
وهم ينفقون المال في أول الغنى | ويستأنفون الصبر في آخر الفقر |
إذا نزل الحي الغريب تقارعوا | عليه فلم يدر المقل من المثري |
ولما حكى الله تعالى عن قريش ما حكاه من التعنت والعناد تجاه رسوله صلّى الله عليه وسلم شرع يسليه بما جرى لأخيه موسى عليه السلام مع فرعون اللعين وما صنع بفرعون وقومه
قالوا إن داود عليه السلام دعا ربه أن لا يزال في ذريته نبي وإنا نخاف إن اتبعناك أن تفتلنا اليهود- قال الترمذي حديث حسن صحيح-. واعلم أن الله تعالى ذكر في القرآن من معجزات موسى عليه السلام تسع عشرة معجزة منها ما هو خاص به، ومنها ما هو خاص بالقبط، ومنها ما هو خاص بني إسرائيل، أولها إزالة العقدة من لسانه حتى ذهبت عجمته وصار فصيحا، والثانية والثالثة والرابعة هي بياض اليد وإحياء النقباء والخسف بقارون ورفيقيه، والخامسة انقلاب العصا حية، والسادسة جعلها تلقف حبال السحرة وعصيهم مع كثرتها أي ما طلي فيها كما بيناه في الأعراف، والسابعة والثامنة والتاسعة والعاشرة والحادية عشر هي الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم، الثانية عشرة الإظلال بالغمام، والثالثة عشرة شق البحر، والرابعة عشرة إخراج الماء من الحجر بضربه له بعصائه، والخامسة عشرة رفع الجبل وإظلاله فوقهم، والسادسة عشرة إنزال المنّ والسلوى، والسابعة عشرة الجدب المعبّر عنه بالسنين، والثامنة عشرة نقص الثمرات، والتاسعة عشرة الطمس على الأموال. وكلها موضحة في سورة الأعراف والشعراء والقصص المارات وفي السور الآتية كيونس وهود وغيرها، وروي أن عمر ابن عبد العزيز سأل محمد بن كعب عن قوله تعالى تسع آيات بينات فذكر في جملة التسع حل عقدة اللسان والطمس،
واعلم أن تخصيص الذكر هنا بالتسع لا يقدح فيه ثبوت الزائد عليها، لما جاء في أصول الفقه أن تخصيص العدد بالذكر لا يدل على نفي الزائد. وقد اتفق المفسرون على سبع من هذه التسع وهي: العصا واليد والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم، واختلفت آراؤهم في الاثنتين الأخيرتين وأكثر الأقوال على أنها الأخذ بالسنين ونقص الثمرات كما بيناه في الأعراف لأن العقدة والعصا من خصائص سيدنا موسى عليه السلام وليست لقومه، أما كونها تلقف ما يأفكون فهي لقومه، قال تعالى «فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ» الموجودين في زمنك من أهل الكتابين الذين ستقدم عليهم في المدينة لتعرف كذبهم ويعرفوا صدقك، وليس المطلوب من سؤالهم استفادة العلم منهم عنها، بل لنقصود أن يظهر لعامة اليهود وعلمائهم صدق ما ذكره لهم، وعليه فيكون السؤال سؤال استشهاد لأنهم أولاد أولئك اليهود الذين ظهرت لهم تلك الآيات على يد نبيهم، وقد تناقلوها أبا عن جد فضلا عن ذكرها في التوراة التي هي بين أيديهم، ولهذا حسن النكني بهم عن أسلافهم «إِذْ جاءَهُمْ» موسى بها دليلا على صحة رسالته من ربه إليهم «فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ» لما ظهر عجزه تلقاء تلك المعجزات «إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً» ١٠٢ مفعولا بالسحر الذي استولى على جوارحك فصرت مطبوبا مختل العقل بطلبك قوما هم تحت سلطتي قديما، فكيف أرسل معك بني إسرائيل وأنت على ما أنت عليه. وقال بعض المفسرين معنى مسحورا ماهرا بالسحر معطى علمه ومعلّمه، وهذه العجائب التي بينتها هي ناشئة عن مهارتك فيه، وظاهر الآية يدل على الأول، لأن المقام مقام ذم، والتفسير الثاني مقامه مقام مدح يأباه المقام بدليل ما فتحت به الآية الآتية التي جاوبه بها موسى عليه السلام، وهي «قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ» يا فرعون مما رأيت «ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» وجعل تلك الآيات «بَصائِرَ» مرئيّات ظاهرات لا تخفى على أحد من شدة وضوحها تبصرك في صدقي، وتعلمك أني
والقراءة الفصحى علمت بفتح التاء لأن علم فرعون بأنها آيات نازلات من رب السماء او كد في الحجة، ولأن احتجاج موسى عليه السلام على فرعون بعلم فرعون او كد من الاحتجاج عليه بعلم نفسه على قراءة الضم التي معناها أنه أخبر عن نفسه أنه عالم بها وأنه غير مسحور، ونسب هذا القول إلى سيدنا علي عليه السلام، وأنه قال والله ما علم عدو الله ولكن علم موسى وهو قول ضعيف لا يستند اليه، لأنه مروي عن كلثوم المرادي وهو مجهول، ولهذا لما بلغ ابن عباس نسبة هذا القول لسيدنا علي لم يرضه واحتج بقوله تعالى (وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ) الآية ١٤ من سورة النحل المارة بما يدل على أن فرعون وقومه كانوا قد عرفوا صحة أمر موسى عليه كما أن بلقيس وقومها علموا معجزات سيدنا سليمان عليه السلام «وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً» ١٠٢ هالكا مصروفا عن الخير مطبوعا على الشر لانكارك ما عرفت صحته من آيات الله مكابرة وعنادا، وقد قارع الظن منه عليه السلام بالظن من فرعون بالآية السابقة، لأنه لما وصفه بكونه مسحورا أجابه بكونه مثبورا لأن تلك المعجزات مبصرة نيرة لا يرتاب فيها عاقل ولا يقول بها إلا أنها من عند الله وانه أظهرها ليؤمن بها، قال تعالى «فَأَرادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ» أي يخرج فرعون موسى وقومه ويطردهم «مِنَ الْأَرْضِ» أرض مصر أو يعدمهم من ظهر البسيطة لما رأى بقاءهم يهدد ملكه بالخراب وسلطنته بالزوال، ولما كان ثابت في علم أنه لو أمهل فرعون وقومه ما أمهلهم لم يؤمنوا ويبقوا مصرين على كفرهم لهذا أغراه الله تعالى باتباع موسى وقومه وأدخلهم جميعا البحر «فَأَغْرَقْناهُ» لهذه الحكمة «وَمَنْ مَعَهُ» من القبط الذين جنّدهم لاسترجاع موسى وقومه واسترقاقهم فأهلكهم في البحر «جَمِيعاً» ١٠٣ فلم يفلت منهم أحد، راجع كيفية إغراقهم في الآية ٤٠ من
وبيّنا الحق من الباطل وأنما أنزلناه عليك «لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ» تؤدة وتثبت وترسل فتتلوه عليهم خلال اثنتين وعشرين سنة وشهور وأيام، راجع المقدمة في بحث نزول القرآن تعلم مدى نزول سورة المكية والمدنية، أي لا تقرأه عليهم بالسرعة والعجلة فورا بل تمهّل به لعله يوقر في قلوبهم، أولا بأول، هذا ومن قرأ فرّقناه بالتشديد فقد أضاع المعنى المراد منه أعلاه وما معناه على قراءة التشديد إلا أنه أنزل متفرقا، ومكث بضم الميم وسكون الكاف وقرىء بفتح الميم وضم الكاف قراءة شاذة والمعنى الذي ذكرناه تحتمله القراءتان تدبر «وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا» ١٠٦ عظيما بحسب الحوادث والوقائع والأسئلة وعفوا حسبما هو كائن في أزلنا على الوصف المذكور فيه، وعلى ما تقتضيه الحكمة والمصلحة وتشديد الفعل يفيد التكثير، وذلك لأن تنزيله مفرقا مترادفا متقطعا ومتواليا فيه معنى التكثير، قال تعالى «قُلْ» يا أكرم الرسل للذين كفروا بهذا القرآن الجليل «آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا» اختاروا لأنفسكم أحد الأمرين، واعلموا أن في الإيمان به النعيم المقيم في الجنة الخالدة مع النبيين والصالحين، وفي الكفر به العذاب الأليم الدائم مع فرعون وهامان، وإن إيمانكم بالنسبة له ولمنزله والمنزل عليه وعدمه سواء، لأنه لا يزيده كمالا، وجحودكم لا يورثه نقصا. وفي الآية من التهديد والوعيد ما لا يخفى على حد قوله تعالى (فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ) الآية ٢٨ من سورة الكهف في ج ٢، وقوله جل قوله (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ) الآية ٤٠ من سورة فصلت في ج ٢.
مطلب آيات القرآن عامة مطلقة ونزولها بأشخاص لا يقيدها ولا يمنع شمولها غيرهم:
وقد خص بعض المفسرين هذه الآية بالمقترحين المار ذكرهم وهذا أيضا يقيدها فيهم دون نص بالتقييد أو التخصيص، وليس بشيء وما هؤلاء الذين يريدون حصر معاني القرآن بأناس مخصوصين، والله تعالى أنزله عاما لكل البشر ونزوله في أناس لا يقيد عمومه ولا يخصص إطلاقه بل يبقى على عمومه أبدا شاملا للكل، لذلك فسرناها كغيرها على أنها عامة مطلقة، يدخل فيها المقترحون وغيرهم وهو أولى كما ترى،
: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لا يلج النار رجل بكى من خشية الله حتى يعود اللبن في الضرع، ولا اجتمع على عبد غبار في سبيل الله ودخان جهنم. - أخرجه الترمذي والنسائي وزاد في منخري مسلم أبدا- وأخرج الترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول عينان لا تمسهما النار عين بكت من خشية الله وعين باتت تحرس في سبيل الله. وأخرج أيضا عن النضر ابن سعد قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لو أن عبدا بكى في أمته لأنجى الله تلك الأمة من النار ببكاء ذلك العبد، وما من عمل إلا وله وزن وثواب إلا الدمعة فإنها تطفئ بحورا من النار، وما اغرورقت عين بمائها من خشية الله تعالى إلا حرم الله تعالى جسدها على النار، فإن فاضت على خده لم يرهق وجهه قتر ولا ذلة.
إذا كثر الطعام فحذروني | فإن القلب يفسده الطعام |
إذا كثر المنام فنبّهوني | فإن العمر ينقصه المنام |
إذا كثر الكلام فسكتوني | فإن الدين يهدمه الكلام |
إذا كثر المشيب فحركوني | فإن الشيب يتبعه الحمام |
فلا حول ولا قوة إلا بالله القائل «وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً» كما زعم بعض كفرة قريش وهم بنو مليح إذ يقولون إن الملائكة بنات الله، وكما زعم اليهود بأن عزيرا ابن الله، وكما افترى النصارى بأن المسيح ابن الله، وكلهم كاذبون أفاكون لأنه جل شأنه لم يتخذ ولدا «وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ» من الناس والملائكة والجن والأوثان، وهذا إبطال لقول كل من يزعم أن لله شريكا تعالى الله عن ذلك «وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ» فيحتاج إلى من ينصره ويتعزز به لأنه لم يذل قط تعالى عن ذلك ولم يوال أحدا من أجل المذلة من الغير أو المنفعة لنفسه المقدسة، فنزهه عن ذلك كله وعظمه «وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً» ١١١ يليق بذاته العلية وبرأه عن جميع سمات خلقه وأعمالهم وعما يقول الكافرون وأهل الكتابين من اتخاذ الولد والصاحبة والشريك والمعين والولي،
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم أحب الكلام إلى الله أربع: لا إله إلا الله والله أكبر وسبحان الله والحمد لله لا يضرك بأيهن بدأت. وعن ابن عباس قال: قال صلّى الله عليه وسلم أول ما يدعى إلى الجنة يوم القيامة الذين يحمدون الله في السراء والضراء. عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم الحمد لله رأس الشكر ما شكر الله عبد لا يحمده. وأخرج أبو يعلى وابن السّني عن أبي هريرة قال: خرجت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم ويدي في يده فأتى على رجل رثّ الهيئة فقال أي فلان ما بلغ بك ما أرى؟ قال السقم والضر قال صلّى الله عليه وسلم ألا أعلمك كلمات تذهب عنك السقم والضر؟
قال بلى، قال قل توكلت على الحي الذي لا يموت، (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً) إلخ الآية، فأتى عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلم بعد مدة وقد حسنت حالته فقال مهيم أي مم أصابك هذا، فقال لم زل أقول الكلمات التي علمتني. وأخرج ابن ابي الدنيا في كتاب الفرج والبيهقي في الأسماء والصفات عن إسماعيل بن أبي فديك قال:
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم ما كربني أمر إلا مثل لي جبريل عليه السلام، فقال يا محمد قل توكلت على الحي الذي لا يموت و (الْحَمْدُ لِلَّهِ) الآية. وأخرج ابن أنس والديلمي عن فاطمة بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال لها إذا أخذت مضجعك فقولي الحمد لله الكافي، سبحان الله الأعلى، حسبي الله وكفى، ما شاء الله قضى، سمع الله لمن دعا، ليس من الله ملجأ ولا وراءه ملتجى، توكلت على الله ربي وربكم، (ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (الْحَمْدُ لِلَّهِ) الآية. ثم قال ما من مسلم يقرأوها عند منامه ثم ينام وسط الشياطين والهوام فنضره. هذا، ولا يوجد سورة محتومة بمثل ما ختمت به هذه السورة، والله أعلم، وأستغفر الله، ولا ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين وسلم تسليما كثيرا، والحمد لله رب العالمين حمدا يوافي نعمه ويكافي مزيده بمعونة الله تعالى وتوفيقه.
هذا وليعلم القارئ أن ضعفي في فن الكتابة قد أدى إلى سقوط حرف أو زيادته أو زيادة نقطة في بعض الحروف أو نقصها، ومن هذا القبيل تكبير النقطة أحيانا حتى يظن أنها نقطتان، أو بعدها عن موقعها بما يؤدي للاختلاط «١»، فأرجو ممن يطالع هذا إمعان النظر في ذلك كي لا يختلف عليه المعنى المراد. وفقنا الله جميعا لما يحبه ويرضاه وإلى ما به السداد في القول والعمل والنية، ومنّ علينا بألطافه القدسية، ونشر علينا رحمته وستره، إنه على ما يشاء قدير وبالإجابة جدير وصلّى الله وسلم على سيد محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين آمين آمين آمين.
الفقير إليه عبد القادر ملا هويش آل غازي
سورة الإسراء
سورةُ (الإسراء) أو سورةُ (سُبْحانَ) من السُّوَر المكية، وقد تضمَّنتْ مِحْورَينِ رئيسَينِ:
الأول: الحديث عن معجزةِ (الإسراء والمِعراج)، وما دلَّ ذلك عليه من عظيمِ قدرة الله تعالى، وتصرُّفِه في الكون كيف شاء، وما تَبِع ذلك من مُحاجَجة المشركين في إنكارِهم البعثَ، والجزاء، وغير ذلك.
أما المحور الثاني: فقد دلَّ عليه الاسمُ الآخَر للسورة؛ وهو (سُبْحانَ)، فجاءت السورةُ لتنزيهِ الله عزَّ وجلَّ عن كلِّ نقصٍ وعيبٍ؛ فهو صاحبُ القَدْر والملكوت، المستحِقُّ للعبادة، وقد أُثِر عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قراءتُه لسورة (الإسراء) قبل أن ينامَ على فراشه.
ترتيبها المصحفي
17نوعها
مكيةألفاظها
1563ترتيب نزولها
50العد المدني الأول
110العد المدني الأخير
110العد البصري
110العد الكوفي
111العد الشامي
110* قوله تعالى: {أُوْلَٰٓئِكَ اْلَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَىٰ رَبِّهِمُ اْلْوَسِيلَةَ} [الإسراء: 57]:
عن عبدِ اللهِ بن عُتْبةَ بن مسعودٍ، عن عبدِ اللهِ بن مسعودٍ رضي الله عنه، قال: «نزَلتْ في نَفَرٍ مِن العرَبِ كانوا يعبُدون نَفَرًا مِن الجِنِّ، فأسلَمَ الجِنِّيُّونَ، والإنسُ الذين كانوا يعبُدونهم لا يشعُرون؛ فنزَلتْ: {أُوْلَٰٓئِكَ اْلَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَىٰ رَبِّهِمُ اْلْوَسِيلَةَ} [الإسراء: 57]». أخرجه مسلم (٣٠٣٠).
* قوله تعالى: {وَمَا مَنَعَنَآ أَن نُّرْسِلَ بِاْلْأٓيَٰتِ إِلَّآ أَن كَذَّبَ بِهَا اْلْأَوَّلُونَۚ وَءَاتَيْنَا ثَمُودَ اْلنَّاقَةَ مُبْصِرَةٗ} [الإسراء: 59]:
عن عبدِ اللهِ بن عباسٍ رضي الله عنهما، قال: «سألَ أهلُ مكَّةَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أن يَجعَلَ لهم الصَّفَا ذهَبًا، وأن يُنحِّيَ الجبالَ عنهم فيَزْدَرِعُوا، فقيل له: إن شِئْتَ أن تستأنيَ بهم، وإن شِئْتَ أن تؤتيَهم الذي سألوا، فإن كفَروا أُهلِكوا كما أهلَكْتُ مَن قَبْلهم، قال: لا، بل أستأني بهم؛ فأنزَلَ اللهُ عز وجل هذه الآيةَ: {وَمَا مَنَعَنَآ أَن نُّرْسِلَ بِاْلْأٓيَٰتِ إِلَّآ أَن كَذَّبَ بِهَا اْلْأَوَّلُونَۚ وَءَاتَيْنَا ثَمُودَ اْلنَّاقَةَ مُبْصِرَةٗ} [الإسراء: 59]». أخرجه النسائي(١١٢٩٠)، وأحمد (٢٣٣٣).
* قوله تعالى: {وَيَسْـَٔلُونَكَ عَنِ اْلرُّوحِۖ قُلِ اْلرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَآ أُوتِيتُم مِّنَ اْلْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلٗا} [الإسراء: 85]:
عن عبدِ اللهِ بن مسعودٍ رضي الله عنه، قال: «بَيْنا أنا أمشي مع النبيِّ ﷺ في بعضِ حَرْثِ المدينةِ وهو يَتوكَّأُ على عَسِيبٍ معه، فمرَرْنا على نَفَرٍ مِن اليهودِ، فقال بعضُهم لبعضٍ: سَلُوه عن الرُّوحِ، فقال بعضُهم: لا تَسألوه؛ أن يَجِيءَ فيه بشيءٍ تَكرَهونه، فقال بعضُهم: لَنَسألَنَّهُ، فقامَ إليه رجُلٌ منهم، فقال: يا أبا القاسمِ، ما الرُّوحُ؟ فسكَتَ عنه النبيُّ ﷺ، فعَلِمْتُ أنَّه يُوحَى إليه، فقال: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتُوا مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا) [الإسراء: 85]». قال الأعمَشُ: «هكذا في قراءتِنا». أخرجه البخاري (٧٤٦٢). قوله: «هكذا في قراءتِنا»: يَقصِدُ قولَه: (أُوتُوا).
* قوله تعالى: {وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَاْبْتَغِ بَيْنَ ذَٰلِكَ سَبِيلٗا} [الإسراء: 110]:
عن ابنِ عباسٍ رضي الله عنهما، قال: «أُنزِلتْ ورسولُ اللهِ ﷺ مُتَوَارٍ بمكَّةَ، فكان إذا رفَعَ صوتَه سَمِعَ المشركون، فسَبُّوا القرآنَ ومَن أنزَلَه ومَن جاءَ به، فقال اللهُ تعالى: {وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا}: {لَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ} حتى يَسمَعَ المشركون، {وَلَا تُخَافِتْ بِهَا} عن أصحابِك فلا تُسمِعُهم، {وَاْبْتَغِ بَيْنَ ذَٰلِكَ سَبِيلٗا}: أسمِعْهم ولا تَجهَرْ؛ حتى يأخذوا عنك القرآنَ». أخرجه البخاري (٧٤٩٠).
لسورة (الإسراء) اسمانِ آخران غيرُ هذا؛ هما:
* سورةُ (بني إسرائيل):
وقد ثبَت ذلك في حديث عائشةَ رضي الله عنها، قالت: «كان النبيُّ ﷺ لا ينامُ على فراشِه حتى يَقرأَ (بني إسرائيلَ)، و(الزُّمَرَ)». أخرجه الترمذي (٢٩٢٠).
وجهُ تسميتِها بذلك: أنها اشتملت على ذِكْرِ أحوال بني إسرائيل؛ كما أسلفنا في موضوعات السورة.
* سورة (سُبْحانَ):
ودلَّ على ذلك افتتاحُ السورة بهذا اللفظ.
صحَّ في فضلها ما يلي:
* كان صلى الله عليه وسلم يَقرؤُها قبل أن ينامَ على فراشه:
عن عائشةَ أمِّ المؤمنين رضي الله عنها، قالت: «كان النبيُّ ﷺ لا ينامُ على فراشِه حتى يَقرأَ (بني إسرائيلَ)، و(الزُّمَرَ)». أخرجه الترمذي (٢٩٢٠).
والمقصودُ بـ(بني إسرائيل): سورةُ (الإسراء).
* أنَّها من قديم ما تعلَّمَه الصحابةُ من النبي صلى الله عليه وسلم:
عن عبدِ الرَّحْمنِ بن يَزيدَ بن جابرٍ، قال: «سَمِعْتُ ابنَ مسعودٍ يقولُ في (بني إسرائيلَ)، و(الكهفِ)، و(مَرْيمَ)، و(طه)، و(الأنبياءِ): إنَّهنَّ مِن العِتَاقِ الأُوَلِ، وهُنَّ مِن تِلَادي». أخرجه البخاري (٤٩٩٤).
قال أبو عُبَيدٍ: «قولُه: «مِن تِلادي»: يعني: مِن قديم ما أخذتُ من القرآن؛ وذلك أن هذه السُّوَرَ نزَلتْ بمكَّةَ». "فضائل القرآن" للقاسم بن سلام (ص247).
اشتمَلتِ السُّورةُ على عدَّة موضوعات؛ جاءت كما يلي:
1. قصةُ الإسراء (١).
2. إكرام سيِّدنا موسى عليه السلام (٢-٣).
3. أحوال بني إسرائيلَ في التاريخ (٣-٨).
4. أهداف القرآن الكريم (٩-١١).
5. التذكير بنِعَم الله، ودلائلِ قدرته (١٢-١٧).
6. من أراد الدنيا، ومن أراد الآخرة (١٨-٢٢).
7. توجيهاتٌ ربانية في المعاملات والأخلاق (٢٣- ٣٩).
8. إبطالُ دعوى الشريك لله تعالى (٤٠- ٤٤).
9. السر في كفرِ المشركين وعنادِهم (٤٥- ٤٨).
10. إنكار المشركين للبعث، والرد عليهم (٤٩- ٥٥).
11. مناقشة المشركين في عقائدهم الفاسدة (٥٦- ٦٠).
12. الحسد أصلُ الداء (٦١- ٦٥).
13. من نِعَم الله تعالى على الإنسان (٦٦- ٧٠).
14. من مشاهدِ يوم القيامة (٧١- ٧٢).
15. محاولةُ المشركين فتنةَ النبي صلى الله عليه و سلم (٧٣-٧٧).
16. أوامرُ وإرشاداتٌ للنبي عليه السلام (٧٨- ٨٥).
17. إعجاز القرآن الكريم (٨٦-٨٩).
18. اقتراحُ مشركي مكة الآياتِ الحسيةَ (٩٠-٩٣).
19. بعض شُبهات المشركين، والردُّ عليها (٩٤-١٠٠).
20. آيات موسى، وصفة القرآن الكريم (١٠١-١٠٩).
21. الدعاء بأسماء الله الحسنى (١١٠-١١١).
ينظر: "التفسير الموضوعي للقرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (4 /212).
بيَّنتْ هذه السورةُ معجزةً عظيمة؛ وهي معجزةُ (الإسراء والمعراج)، فجاءت تدعو إلى الإقبالِ على الله وحده، وخَلْعِ كل ما سِواه؛ لأنه وحده المالكُ لتفاصيل الأمور، وتفضيلِ بعض الخَلْق على بعض.
وذلك هو العملُ بالتقوى؛ التي أدناها: خَلْعُ الأنداد واعتقادُ التَّوحيد، وأعلاها: الإحسانُ.
كما أنها قامت على تنزيهِ الله عزَّ وجلَّ عن كل عيبٍ ونقص.
ينظر: "مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور" للبقاعي (2 /230).