مكية في قول الحسن، وعكرمة، وعطاء، وجابر. وقال ابن عباس وقتادة : إلا ثماني آيات من قوله تعالى :" وإن كادوا ليفتنونك " إلى قوله :" سلطانا نصيرا١ ".
ﰡ
(أقول لمّا جاءني فَخْرُه | سبحان مِنْ علقمةَ الفاخِر) |
(تلقي بتسبيحةٍ مِنْ حيثما انصرفت | وتستفزُّ حشا الرائي بإرعاد) |
(وليلة ذا ندًى سَرَيت | ولم يلتني مِنْ سُراها ليت) |
﴿ إنّه كان عبداً شكوراً ﴾ يعني نوحاً، وفيه قولان : أحدهما : أنه سماه شكوراً لأنه كان يحمد الله تعالى على طعامه، قاله سلمان. الثاني : أنه كان يستجد ثوباً إلا حمد الله تعالى عند لباسه، قاله قتادة. ويحتمل وجهين : أحدهما : أن نوحاً كان عبداً شكوراً فجعل الله تعالى موسى من ذريته. الثاني : أن موسى كان عبداً شكوراً إذ جعله تعالى من ذرية نوح.
٨٩ (إِلَيْكَ جُسْتُ اللَّيْلَ بِالمَطِيِّ} ٩
الثالث: معناه فقتولهم بين الدور والمساكن، ومنه قول حسان بن ثابت:
(ومِنَّا الَّذِي لاقَى بِسَيْفِ مُحَمَّدٍ | فَجَاس بهِ الأَعْدَاءَ عَرْضَ العَسَاكر) |
(فَجُسنا ديارهم عَنْوَةً | وأبنا بساداتهم موثَقينا) |
(فأكرِم بقحْطَانَ مِن وَالِدٍ | وحِمْيَرَ أَكْرِم بقَوْمٍ نَفِيراً) |
(وما النَّاسُ إلا عَامِلان فَعَامِلٌ | يُتَبِّرُ مَا يَبْنِي وَآخَرُ رَافِعٌ) |
(ومقامَةِ غُلْبِ الرِّقَابِ كَأَنَّهُمْ | جِنٌّ لَدَى بَابِ الحَصِير قِيَامُ) |
(إن يغبطوا يهبطوا وإن أمِروا | يوماً يصيروا إلى الإهلاك والنكد) |
﴿ وبالوالدين أحساناً ﴾ معناه ووصى بالوالدين إحساناً، يعني أن يحسن إليهما بالبر بهما في الفعل والقول.
﴿ إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما ﴾ فيه وجهان : أحدهما : يبلغن كبرك وكما عقلك. الثاني : يبلغان كبرهما بالضعف والهرم.
﴿ فلا تقل لهما أفٍّ ﴾ يعني حين ترى منهما الأذى وتميط عنهما الخلا، وتزيل عنهما القذى فلا تضجر، كما كانا يميطانه عنك وأنت صغير من غير ضجر. وفي تأويل ﴿ أف ﴾ ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه كل ما غلظ من الكلام وقبح، قاله مقاتل. الثاني : أنه استقذار الشيء وتغير الرائحة، قاله الكلبي. الثالث : أنها كلمة تدل على التبرم والضجر، خرجت مخرج الأصوات المحكية. والعرب أف وتف، فالأف وسخ الأظفار، والتُّف ما رفعته من الأرض بيدك من شيء حقير٢.
﴿ وقل لهما قولاً كريماً ﴾ فيه وجهان : أحدهما : ليناً. والآخر : حسناً. قال ابن عباس : نزلت هذه الآية والآية التي بعدها في سعد بن أبي وقاص.
٢ وقيل: الآلف والتف وسخ الأظفار. وقال بعضهم: معنى أف الاحتقار والاستقلال، مأخوذ من الأفف وهو القليل، وقال أبو عمرو بن العلاء: آلاف: وسخ بين الأظفار، والتف قلامتها. وقال الأصمعي: الأف وسخ الأذن، والتف وسخ الأظفار..
﴿ إنه كان بعباده خبيراً بصيراً ﴾ يحتمل وجهين : أحدهما : خبيراً بمصالحهم بصيراً بأمورهم. والثاني : خبيراً بما أضمروا بصيراً بما عملوا.
(الخِطْءُ فاحشةٌ والبِرُّ نافِلةٌ | كعَجْوةٍ غرسَتْ في الأرض تؤتَبرُ) |
﴿ ذلك خيرٌ وأحسنُ تأويلاً ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : أحسن باطناً فيكون الخير ما ظهر، وحسن التأويل ما بطن. الثاني : أحسن عقابة، تأويل الشيء عاقبته.
(ومِثْلُ الدُّمى شُمُّ العَرَنِينِ سَاكِنٌ | بِهِنَّ الْحَيَاءُ لا يُشِعْنَ التَّقَافِيَا) |
(ذُمّ المنازِلِ بَعْدَ منزِلِةِ اللِّوى | والْعَيْشَ بَعْدَ أُولَئكَ الأَيَّامِ) |
(تُلْقِي بِتَسْبِيحَةٍ مِنْ حَيْثُما انْصَرَفَتْ | وتَسْتَقِرُّ حَشَا الرَّائِي بإِرْعَادِ) |
(كَأَنَّمَا خُلِقتْ مِن قِشْرِ لُؤْلُؤةٍ | فَكُلُّ أَكْنَافِها وَجْهٌ لِمِرْصَادِ) |
(فَإِنْ تَسْأَلِينَا فِيمَ نَحْنُ فَإِنَّنَا | عَصَافِيرُ مِنْ هذَا الأَنَامِ الْمُسَحَّرِ) |
(نادوا إلههمُ ليسرع خلقهم | وللموت خلق للنفوس فظيعُ) |
(قلت لها صلي فقالت مِضِّ | وحركت لي رأسها بالنغضِ) |
نادوا إلههمُ ليسرع خلقهم *** وللموت خلق للنفوس فظيعُ١
وهذا قول ابن عمر وابن عباس وعبد الله بن عمرو بن العاص. الثالث : أنه أراد البعث لأنه كان أكبر شيء في صدروهم قاله الكلبي. الرابع : ما يكبر في صدوركم من جميع ما استعظمتموه من خلق الله تعالى، فإن الله يميتكم ثم يحييكم ثم يبعثكم، قاله قتادة.
﴿. . . فسينغضون إليك رءُوسَهُم ﴾ قال ابن عباس وقتادة : أي يحركون رؤوسهم استهزاء وتكذيباً، قال الشاعر :
قلت لها صلي فقالت مِضِّ *** وحركت لي رأسها بالنغضِ٢
٢ انظر اللسان (مضض)..
﴿ وتظنون إن لبثتم إلاّ قليلاً ﴾ فيه خمس أوجه : أحدها : إن لبثتم إلا قليلاً في الدنيا لطول لبثكم في الآخرة، قاله الحسن. الثاني : معناه الاحتقار لأمر الدنيا حين عاينوا يوم القيامة، قاله قتادة. الثالث : أنهم لما يرون من سرعة الرجوع يظنون قلة اللبث في القبور. الرابع : أنهم بين النفختين يرفع عنهم العذاب فلا يعذبون، وبينهما أربعون سنة فيرونها لاستراحتهم قليلة ؛ قاله الكلبي. الخامس : أنه لقرب الوقت، كما قال الحسن : كأنك بالدنيا لم تكن وبالآخرة لم تزل.
(ذكرت أبا أرْوَى فَبِتُّ كأنني | بِرَدِّ الأمور الماضيات وكيلُ) |
قوله تعالى :﴿ أولئك الذين يدعون ﴾ يحتمل وجهين : أحدهما : يدعون الله تعالى لأنفسهم. الثاني : يدعون عباد الله إلى طاعته. وقوله تعالى :﴿ يبتغون إلى ربهم الوسيلة ﴾ وهي القربة، وينبني تأويلها على احتمال الوجهين في الدعاء. فإن قيل إنه الدعاء لأنفسهم كان معناه يتوسلون إلى الله تعالى بالدعاء إلى ما سألوا. وإن قيل دعاء عباد الله إلى طاعته كان معناه أنهم يتوسلون لمن دعوه إلى مغفرته.
﴿ أيهم أقرَبُ ﴾ تأويله على الوجه الأول : أيهم أقرب في الإجابة. وتأويله على الوجه الثاني : أيهم أقرب إلى الطاعة.
﴿ ويرجون رحمته ويخافون عذابهُ ﴾ يحتمل وجهين : أحدهما : أن يكون هذا الرجاء والخوف في الدنيا. الثاني : أن يكونا في الآخرة. فإن قيل إنه في الدنيا احتمل وجهين : أحدهما : أن رجاء الرحمة التوفيق والهداية، وخوف العذاب شدة البلاء١. وإن قيل إن ذلك في الآخرة احتمل وجهين : أحدهما : أن رجاء الرحمة دوام النعم وخوف عذاب النار. الثاني : أن رجاء الرحمة العفو، وخوف العذاب مناقشة الحساب. ويحتمل هذا الرجاء والخوف وجهين : أحدهما : أن يكون لأنفسهم إذا قيل إن أصل الدعاء كان لهم. الثاني : لطاعة الله تعالى إذا قيل إن الدعاء كان لغيرهم. ولا يمتنع أن يكون على عمومه في أنفسهم وفيمن دعوه. قال سهل بن عبد الله : الرجاء والخوف ميزانان على الإنسان فإذا استويا استقامت أحواله، وإن رجح أحدهما بطل الآخر. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لو وزن رجاء المؤمن وخوفه لاعتدلا ".
(أشْكوا إليك سَنَةً قد أجحفت | جهْداً إلى جهدٍ بنا وأضعفت) |
أشْكوا إليك سَنَةً قد أجحفت *** جهْداً إلى جهدٍ بنا وأضعفت
واحتنكَتْ أَمْولُنا واجتلفت١.
.
﴿ بصوتك ﴾ فيه ثلاثة تأويلات : أحدها : أنه صوت الغناء واللهو، قاله مجاهد. الثاني : أنه صوت المزمار، قاله الضحاك. الثالث : بدعائك إلى معصية الله تعالى وطاعتك، قاله ابن عباس.
﴿ وأجلب عليهم بخيلك ورجَلِكِ ﴾ والجلب هو السوْق بجلبه من السائق، وفي المثل : إذا لم تغلب فأجلب. وقوله :﴿ بخيلك ورجلك ﴾ أي بكل راكب وماشٍ في معاصي الله تعالى.
﴿ وشاركهم في الأموال والأولاد ﴾ أما مشاركتهم في الأموال ففيها أربعة أوجه : أحدها : أنها الأموال التي أصابوها من غير حلها، قاله مجاهد. الثاني : أنها الأموال التي أنفقوها في معاصي الله تعالى، قاله الحسن. الثالث : ما كانوا يحرّمونه من البحيرة والسائبة والوصيلة والحام، قاله ابن عباس. الرابع : ما كانوا يذبحون لآلهتهم، قاله الضحاك. وأما مشاركتهم في الأولاد ففيها أربعة أوجه : أحدها : أنهم أولاد الزنى، قاله مجاهد. الثاني : أنه قتل الموؤودة من أولادهم، قاله ابن عباس. الثالث : أنه صبغة أولادهم في الكفر حتى هوّدوهم ونصّروهم، قاله قتادة. الرابع : أنه تسمية أولادهم عبيد آلهتهم كعبد شمس وعبد العزَّى وعبد اللات، رواه أبو صالح عن ابن عباس.
(يا أيها الراكب المزجي مطيتُه | سائل بني أسدٍ ما هذه الصوت) |
(لمقتل مالكٍ إذ بان مني | أبيتُ الليل في ضعفٍ أليم) |
لمقتل مالكٍ إذ بان مني *** أبيتُ الليل في ضعفٍ أليم
قال قتادة : لما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" اللهم لا تكلني إلى نفسي طرفة عين ".
(يُطِيعُ سَفِيهَ القوْمِ إذ يَسْتَفِزُّهُ | ويعْصِي حَكِيماً شَيَّبَتْهُ الْهَزَاهِزُ) |
(عَفَتِ الدِّيَارُ خِلاَفَها فَكَأَنَّما | بَسَطَ الشَّوَاطبُ بَيْنَهُم حَصِيراً) |
(مصابيح ليست باللواتي تقودها | نجومٌ ولا بالآفات الدوالك) |
(هذا مُقام قَدَامي رباح | ذَيّبَ حتى دَلَكت بَراح) |
(ظَلَّت تَجُودُ يَدَاها وهِيَ لاَهِيَةٌ | حتى إذا جَنَحَ الإِظْلاَمُ والغَسَقُ) |
(إن هذا الليل قد غسقا............................................)
وفي الصلاة المأمور بها قولان: أحدهما: أنها صلاة المغرب، وهو قول ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك الثاني: هي صلاة العشاء الآخرة، قاله أبو جعفر الطبري. ثم قال ﴿وقرآن الفَجْر إنّ قرآن الفجْر كان مشهوداً﴾ في ﴿قرآن﴾ تأويلان: أحدهما: أقم القراءة في صلاة الفجر، وهذا قول أبي جعفر الطبري. الثاني: معناه صلاة الفجر، فسماها قرآناً لتأكيد القراءة في الصلاة، وهذا قول أبي اسحاق الزجاج. ﴿إن قرآن الفجر كان مشهوداً﴾ فيه قولان: أحدهما: إن من الحكمة أن تشهده بالحضور إليه في المساجد، قاله ابن بحر. الثاني: ان المراد به ما رواه أبو هريرة عن النبي ﷺ أنه قال: (تشهده ملائكة
(ألا زارت وأهْلُ مِنىً هُجُود | ولَيْتَ خَيَالَهَا بِمِنىً يعُود) |
(أَلا طَرَقَتْنَا والرِّفَاقُ هُجُود | فَبَاتَتْ بِعُلاَّت النّوالِ تجود) |
ألا زارت وأهْلُ مِنىً هُجُود *** ولَيْتَ خَيَالَهَا بِمِنىً يعُود
وشاهد انطلاقه على النوم قول الشاعر :
أَلا طَرَقَتْنَا والرِّفَاقُ هُجُود *** فَبَاتَتْ بِعُلاَّت النّوالِ تجود١
أما التهجد فهو السهر، وفيه وجهان : أحدهما : السهر بالتيقظ لما ينفي النوم، سواء كان قبل النوم أو بعده. الثاني : أنه السهر بعد النوم، قاله الأسود بن علقمة. وفي الكلام مضمر محذوف وتقديره : فتهجد بالقرآن وقيام الليل نافلة أي فضلاً وزيادة على الفرض. وفي تخصيص النبي صلى الله عليه وسلم بأنها نافلة له ثلاثة أوجه : أحدها : تخصيصاً له بالترغيب فيها والسبق إلى حيازة فضلها، اختصاصها بكرامته، قاله علي بن عيسى. الثاني : لأنها فضيلة له، ولغيره كفارة، قاله مجاهد. الثالث : لأنها عليه مكتوبة ولغيره مستحبة، قاله ابن عباس.
﴿ عسى أن يبعثك ربُّك مقاماً محموداً ﴾ فيه ثلاثة أقاويل : أحدها : أن المقام المحمود الشفاعة للناس يوم القيامة، قاله حذيفة بن اليمان. الثاني : أنه إجلاسه على عرشه يوم القيامة، قاله مجاهد. الثالث : أنه إعطاؤه لواء الحمد يوم القيامة. ويحتمل قولاً رابعاً : أن يكون المقام المحمود شهادته على أمته بما أجابوه من تصديق أو تكذيب، كما قال تعالى :﴿ وجئنا بك على هؤلاء شهيداً ﴾[ النساء : ٤١ ].
(ولقدْ شفَى نفسي وأبْرأ سُقْمَهَا | إِقدامُهُ قهْراً له لَمْ يَزْهَق) |
﴿ إن الباطل كان زهوقاً ﴾ أي ذاهباً هالكاً، قال الشاعر :
ولقدْ شفَى نفسي وأبْرأ سُقْمَهَا *** إِقدامُهُ قهْراً له لَمْ يَزْهَق
وحكى قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل الكعبة ورأى فيها التصاوير أمر بثوب فبُل بالماء وجعل يضرب به تلك التصاوير ويمحوها ويقول :﴿ جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً ﴾
﴿ فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلاً ﴾ فيه وجهان : أحدهما : أحسن ديناً. الثاني : أسرع قبولاً.
﴿ أو تأتي بالله والملائكة قبيلاً ﴾ فيه أربعة أوجه : أحدها : يعني كل قبيلة على حدتها، قاله الحسن. الثاني : يعني مقابلة، نعاينهم ونراهم، قاله قتادة وابن جريج. الثالث : كفيلاً، والقبيل الكفيل، من قولهم تقبلت كذا أي تكفلت به، قاله ابن قتيبة. الرابع : مجتمعين، مأخوذ من قبائل الرأس لاجتماع بعضه إلى بعض ومنه سميت قبائل العرب لاجتماعها، قاله ابن بحر.
(وكُنّا كَالحَرِيقِ أَصَابَ غَاباً | فَيَخْبُو سَاعَةً ويَهُبُّ سَاعا) |
﴿ ومن يضلل فلن تجد لهم أولياء من دونه ﴾ فيه وجهان : أحدهما : ومن يحكم بضلاله فلن تجد له أولياء من دونه في هدايته. الثاني : ومن يقض الله تعالى بعقوبته لم يوجد له ناصر يمنعه من عقابه.
﴿ ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم ﴾ فيه وجهان : أحدهما : أن ذلك عبارة عن الإسراع بهم إلى جهنم، من قول العرب : قدم القوم على وجوههم إذا أسرعوا. الثاني : أنه يسحبون يوم القيامة على وجوههم إلى جهنم كمن يفعل في الدنيا بمن يبالغ في هوانه وتعذيبه.
﴿ عُمْياً وبكماً وصماً ﴾ فه وجهان : أحدهما : أنهم حشروا في النار عُمي الأبصار بُكم الألسن صُمّ الأسماع ليكون ذلك زيادة في عذابهم، ثم أبصروا لقوله تعالى :﴿ ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها ﴾[ الكهف : ٥٣ ] وتكلموا لقوله تعالى :﴿ دَعوا هنالك ثبوراً ﴾[ الفرقان : ١٣ ] وسمعوا، لقوله تعالى :﴿ سمعوا لها تغيظاً وزفيراً ﴾[ الفرقان : ١٢ ]. وقال مقاتل بن سليمان : بل إذا قال لهم﴿ اخسئوا فيها ولا تكلمُون ﴾[ المؤمنون : ١٨ ] صاروا عمياً لا يبصرون، صُمّاً لا يسمعون، بكماً لا يفقهون. الثاني : أن حواسهم على ما كانت عليه، ومعناه عمي عما يسرّهم، بكم عن التكلم بما ينفعهم، صم عما يمتعهم، قاله ابن عباس والحسن. ﴿ مأواهم جهنم ﴾ يعني مستقرهم جهنم. ﴿ كلما خبت زدناهم سعيراً ﴾ فيه وجهان : أحدهما : كلما طفئت أوقدت، قاله مجاهد. الثاني : كلما سكن التهابها زدناهم سعيراً والتهاباً، قاله الضحاك. قال الشاعر١ :
وكُنّا كَالحَرِيقِ أَصَابَ غَاباً *** فَيَخْبُو سَاعَةً ويَهُبُّ سَاعا
وسكون التهابها من غير نقصان في الآمهم ولا تخفيف من عذابهم.
﴿ إذاً لأمسكتم خشية الإنفاق ﴾ فيه وجهان : أحدهما : لأمسكتم خشية الفقر، والإنفاق الفقر، قاله قتادة وابن جريج. الثاني : يعني أنه لو ملك أحد المخلوقين خزائن الله تعالى لما جاد بها كجود الله تعالى لأمرين : أحدهما : أنه لا بدّ أن يمسك منها لنفقته وما يعود بمنفعته. الثاني : أنه يخاف الفقر ويخشى العدم، والله عز وجل يتعالى في جوده عن هاتين الحالتين. ﴿ وكان الإنسان قتوراً ﴾ فيه تأويلان : أحدهما : مقتراً، قاله قطرب والأخفش. الثاني : بخيلاً، قاله ابن عباس وقتادة. واختلف في هذا الآية على قولين : أحدهما : أنها نزلت في المشركين خاصة، قاله الحسن. الثاني : أنها عامة، وهو قول الجمهور.
(وَرَأَت قُضَاعَةُ في الأَيَا | مِنِ رَأْيَ مَثْبُورٍ وَثَابِر) |
قوله عز وجل: ﴿فأراد أن يستفزهم من الأرض﴾ وفيه وجهان: أحدهما: يزعجهم منها بالنفي عنها، قاله الكلبي. الثاني: يهلكهم فيها بالقتل. ويعني بالأرض مصر وفلسطين والأردن. قوله عز وجل: ﴿... فإذا جاءَ وعد الآخرة﴾ فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: وعد الإقامة وهي الكرة الآخرة، قاله مقاتل. الثاني: وعد الكرة الآخرة في تحويلهم إلى أرض الشام. الثالث: نزول عيسى عليه السلام من السماء، قاله قتادة. ﴿جئنا بكم لفيفاً﴾ فيه تأويلان: أحدهما: مختلطين لا تتعارفون، قاله رزين. الثاني: جئنا بكم جميعاًً من جهات شتى، قاله ابن عباس وقتادة. مأخوذ من لفيف الناس.
وَرَأَت قُضَاعَةُ في الأَيَا *** مِنِ رَأْيَ مَثْبُورٍ وَثَابِر
الثاني : هالك، وهو قول قتادة. الثالث : مبتلى، قاله عطية. الرابع : مصروفاً عن الحق، قاله الفراء. الخامس : ملعوناً، قاله أبان بن تغلب وأنشد :
يا قَوْمَنَا لاَ تَرُومُوا حَرْبَنَا سَفَهاً | إِنّ السَّفَاهَ وإِنَّ البَغْيَ مَثْبُورُ |
سورة الإسراء
سورةُ (الإسراء) أو سورةُ (سُبْحانَ) من السُّوَر المكية، وقد تضمَّنتْ مِحْورَينِ رئيسَينِ:
الأول: الحديث عن معجزةِ (الإسراء والمِعراج)، وما دلَّ ذلك عليه من عظيمِ قدرة الله تعالى، وتصرُّفِه في الكون كيف شاء، وما تَبِع ذلك من مُحاجَجة المشركين في إنكارِهم البعثَ، والجزاء، وغير ذلك.
أما المحور الثاني: فقد دلَّ عليه الاسمُ الآخَر للسورة؛ وهو (سُبْحانَ)، فجاءت السورةُ لتنزيهِ الله عزَّ وجلَّ عن كلِّ نقصٍ وعيبٍ؛ فهو صاحبُ القَدْر والملكوت، المستحِقُّ للعبادة، وقد أُثِر عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قراءتُه لسورة (الإسراء) قبل أن ينامَ على فراشه.
ترتيبها المصحفي
17نوعها
مكيةألفاظها
1563ترتيب نزولها
50العد المدني الأول
110العد المدني الأخير
110العد البصري
110العد الكوفي
111العد الشامي
110* قوله تعالى: {أُوْلَٰٓئِكَ اْلَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَىٰ رَبِّهِمُ اْلْوَسِيلَةَ} [الإسراء: 57]:
عن عبدِ اللهِ بن عُتْبةَ بن مسعودٍ، عن عبدِ اللهِ بن مسعودٍ رضي الله عنه، قال: «نزَلتْ في نَفَرٍ مِن العرَبِ كانوا يعبُدون نَفَرًا مِن الجِنِّ، فأسلَمَ الجِنِّيُّونَ، والإنسُ الذين كانوا يعبُدونهم لا يشعُرون؛ فنزَلتْ: {أُوْلَٰٓئِكَ اْلَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَىٰ رَبِّهِمُ اْلْوَسِيلَةَ} [الإسراء: 57]». أخرجه مسلم (٣٠٣٠).
* قوله تعالى: {وَمَا مَنَعَنَآ أَن نُّرْسِلَ بِاْلْأٓيَٰتِ إِلَّآ أَن كَذَّبَ بِهَا اْلْأَوَّلُونَۚ وَءَاتَيْنَا ثَمُودَ اْلنَّاقَةَ مُبْصِرَةٗ} [الإسراء: 59]:
عن عبدِ اللهِ بن عباسٍ رضي الله عنهما، قال: «سألَ أهلُ مكَّةَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أن يَجعَلَ لهم الصَّفَا ذهَبًا، وأن يُنحِّيَ الجبالَ عنهم فيَزْدَرِعُوا، فقيل له: إن شِئْتَ أن تستأنيَ بهم، وإن شِئْتَ أن تؤتيَهم الذي سألوا، فإن كفَروا أُهلِكوا كما أهلَكْتُ مَن قَبْلهم، قال: لا، بل أستأني بهم؛ فأنزَلَ اللهُ عز وجل هذه الآيةَ: {وَمَا مَنَعَنَآ أَن نُّرْسِلَ بِاْلْأٓيَٰتِ إِلَّآ أَن كَذَّبَ بِهَا اْلْأَوَّلُونَۚ وَءَاتَيْنَا ثَمُودَ اْلنَّاقَةَ مُبْصِرَةٗ} [الإسراء: 59]». أخرجه النسائي(١١٢٩٠)، وأحمد (٢٣٣٣).
* قوله تعالى: {وَيَسْـَٔلُونَكَ عَنِ اْلرُّوحِۖ قُلِ اْلرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَآ أُوتِيتُم مِّنَ اْلْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلٗا} [الإسراء: 85]:
عن عبدِ اللهِ بن مسعودٍ رضي الله عنه، قال: «بَيْنا أنا أمشي مع النبيِّ ﷺ في بعضِ حَرْثِ المدينةِ وهو يَتوكَّأُ على عَسِيبٍ معه، فمرَرْنا على نَفَرٍ مِن اليهودِ، فقال بعضُهم لبعضٍ: سَلُوه عن الرُّوحِ، فقال بعضُهم: لا تَسألوه؛ أن يَجِيءَ فيه بشيءٍ تَكرَهونه، فقال بعضُهم: لَنَسألَنَّهُ، فقامَ إليه رجُلٌ منهم، فقال: يا أبا القاسمِ، ما الرُّوحُ؟ فسكَتَ عنه النبيُّ ﷺ، فعَلِمْتُ أنَّه يُوحَى إليه، فقال: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتُوا مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا) [الإسراء: 85]». قال الأعمَشُ: «هكذا في قراءتِنا». أخرجه البخاري (٧٤٦٢). قوله: «هكذا في قراءتِنا»: يَقصِدُ قولَه: (أُوتُوا).
* قوله تعالى: {وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَاْبْتَغِ بَيْنَ ذَٰلِكَ سَبِيلٗا} [الإسراء: 110]:
عن ابنِ عباسٍ رضي الله عنهما، قال: «أُنزِلتْ ورسولُ اللهِ ﷺ مُتَوَارٍ بمكَّةَ، فكان إذا رفَعَ صوتَه سَمِعَ المشركون، فسَبُّوا القرآنَ ومَن أنزَلَه ومَن جاءَ به، فقال اللهُ تعالى: {وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا}: {لَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ} حتى يَسمَعَ المشركون، {وَلَا تُخَافِتْ بِهَا} عن أصحابِك فلا تُسمِعُهم، {وَاْبْتَغِ بَيْنَ ذَٰلِكَ سَبِيلٗا}: أسمِعْهم ولا تَجهَرْ؛ حتى يأخذوا عنك القرآنَ». أخرجه البخاري (٧٤٩٠).
لسورة (الإسراء) اسمانِ آخران غيرُ هذا؛ هما:
* سورةُ (بني إسرائيل):
وقد ثبَت ذلك في حديث عائشةَ رضي الله عنها، قالت: «كان النبيُّ ﷺ لا ينامُ على فراشِه حتى يَقرأَ (بني إسرائيلَ)، و(الزُّمَرَ)». أخرجه الترمذي (٢٩٢٠).
وجهُ تسميتِها بذلك: أنها اشتملت على ذِكْرِ أحوال بني إسرائيل؛ كما أسلفنا في موضوعات السورة.
* سورة (سُبْحانَ):
ودلَّ على ذلك افتتاحُ السورة بهذا اللفظ.
صحَّ في فضلها ما يلي:
* كان صلى الله عليه وسلم يَقرؤُها قبل أن ينامَ على فراشه:
عن عائشةَ أمِّ المؤمنين رضي الله عنها، قالت: «كان النبيُّ ﷺ لا ينامُ على فراشِه حتى يَقرأَ (بني إسرائيلَ)، و(الزُّمَرَ)». أخرجه الترمذي (٢٩٢٠).
والمقصودُ بـ(بني إسرائيل): سورةُ (الإسراء).
* أنَّها من قديم ما تعلَّمَه الصحابةُ من النبي صلى الله عليه وسلم:
عن عبدِ الرَّحْمنِ بن يَزيدَ بن جابرٍ، قال: «سَمِعْتُ ابنَ مسعودٍ يقولُ في (بني إسرائيلَ)، و(الكهفِ)، و(مَرْيمَ)، و(طه)، و(الأنبياءِ): إنَّهنَّ مِن العِتَاقِ الأُوَلِ، وهُنَّ مِن تِلَادي». أخرجه البخاري (٤٩٩٤).
قال أبو عُبَيدٍ: «قولُه: «مِن تِلادي»: يعني: مِن قديم ما أخذتُ من القرآن؛ وذلك أن هذه السُّوَرَ نزَلتْ بمكَّةَ». "فضائل القرآن" للقاسم بن سلام (ص247).
اشتمَلتِ السُّورةُ على عدَّة موضوعات؛ جاءت كما يلي:
1. قصةُ الإسراء (١).
2. إكرام سيِّدنا موسى عليه السلام (٢-٣).
3. أحوال بني إسرائيلَ في التاريخ (٣-٨).
4. أهداف القرآن الكريم (٩-١١).
5. التذكير بنِعَم الله، ودلائلِ قدرته (١٢-١٧).
6. من أراد الدنيا، ومن أراد الآخرة (١٨-٢٢).
7. توجيهاتٌ ربانية في المعاملات والأخلاق (٢٣- ٣٩).
8. إبطالُ دعوى الشريك لله تعالى (٤٠- ٤٤).
9. السر في كفرِ المشركين وعنادِهم (٤٥- ٤٨).
10. إنكار المشركين للبعث، والرد عليهم (٤٩- ٥٥).
11. مناقشة المشركين في عقائدهم الفاسدة (٥٦- ٦٠).
12. الحسد أصلُ الداء (٦١- ٦٥).
13. من نِعَم الله تعالى على الإنسان (٦٦- ٧٠).
14. من مشاهدِ يوم القيامة (٧١- ٧٢).
15. محاولةُ المشركين فتنةَ النبي صلى الله عليه و سلم (٧٣-٧٧).
16. أوامرُ وإرشاداتٌ للنبي عليه السلام (٧٨- ٨٥).
17. إعجاز القرآن الكريم (٨٦-٨٩).
18. اقتراحُ مشركي مكة الآياتِ الحسيةَ (٩٠-٩٣).
19. بعض شُبهات المشركين، والردُّ عليها (٩٤-١٠٠).
20. آيات موسى، وصفة القرآن الكريم (١٠١-١٠٩).
21. الدعاء بأسماء الله الحسنى (١١٠-١١١).
ينظر: "التفسير الموضوعي للقرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (4 /212).
بيَّنتْ هذه السورةُ معجزةً عظيمة؛ وهي معجزةُ (الإسراء والمعراج)، فجاءت تدعو إلى الإقبالِ على الله وحده، وخَلْعِ كل ما سِواه؛ لأنه وحده المالكُ لتفاصيل الأمور، وتفضيلِ بعض الخَلْق على بعض.
وذلك هو العملُ بالتقوى؛ التي أدناها: خَلْعُ الأنداد واعتقادُ التَّوحيد، وأعلاها: الإحسانُ.
كما أنها قامت على تنزيهِ الله عزَّ وجلَّ عن كل عيبٍ ونقص.
ينظر: "مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور" للبقاعي (2 /230).