بسم الله الرحمن الرحيم
قال : اعلم أن هذه السورة تسمى : سورة النساء، وتسمى سورة الأحكام، وهي مدنية على قول أكثر المفسرين، إلا قوله تعالى :( إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها )( ١ ) ؛ فإن هذه الآية نزلت بمكة في مفاتيح الكعبة، وأورد النحاس أن السورة مكية.وفي الحديث :«من قرأ سورة البقرة، وآل عمران( ٢ )، والنساء في ليلة ؛ كتب من القانتين »( ٣ )، وعن عمر- رضي الله عنه- قال : تعلموا سورة البقرة، والنساء، والمائدة، وسورة النور، والأحزاب ؛ فإن فيهن الفرائض.
٢ - ليست في "ك"..
٣ - رواه أبو عبيد في فضائل القرآن (١٦٨ رقم ٤٣٣)، وسعيد بن منصور في سننه (التفسير ٣/٢٣ رقم ٤٨٥)، ومن طريقه البيهقي في الشعب (٥/٣٥٩-٣٦٠ رقم ٢٢٠١)، ولكن فيهما: «كان من الحكماء»، جميعهم من طريق سعيد بن جبير، عن عمر موقوفا. قال الحافظ ابن كثير في تفسيره (١/٣٤): فيه انقطاع..
ﰡ
وَقَوله: ﴿يَا أَيهَا﴾ " يَا " للنداء، و " أَي " للْإِشَارَة، و " هَا " للتّنْبِيه ﴿اتَّقوا ربكُم﴾ وَقَرَأَ ابْن مَسْعُود: " اتَّقوا (الله) ربكُم ".
بَدَأَ من السُّورَة بالوعظ والتحذير، فَقَالَ: ﴿اتَّقوا ربكُم الَّذِي خَلقكُم من نفس وَاحِدَة﴾، وَأَرَادَ بِالنَّفسِ الْوَاحِدَة آدم - صلوَات الله عَلَيْهِ - وَإِنَّمَا قَالَ: ﴿وَاحِدَة﴾ على التَّأْنِيث؛ لأجل اللَّفْظ؛ لِأَن النَّفس مُؤَنّثَة، وَهَذَا مثل قَول الشَّاعِر:
(أَبوك خَليفَة وَلدته أُخْرَى | وَأَنت خَليفَة ذَاك الْكَمَال) |
وَقَوله: ﴿وَخلق مِنْهَا زَوجهَا﴾ مَعْنَاهُ: وَخلق من جِنْسهَا زَوجهَا، يَعْنِي: التُّرَاب، وَالأَصَح الأول. وَفِي الْخَبَر: أَن الله تَعَالَى لما خلق آدم ألْقى عَلَيْهِ النّوم، ثمَّ أَخذ ضلعا من أضلاعه، وَخلق مِنْهُ حَوَّاء، فَجَلَست بجنبه، فَلَمَّا انتبه رَآهَا جالسه بجنبه، وَقيل: إِنَّه لم يؤذه أَخذ الضلع شَيْئا، وَلَو آذاه لما عطف رجل على امْرَأَة أبدا.
وَعَن ابْن عَبَّاس: أَن الله تَعَالَى خلق الرجل من التُّرَاب؛ فهمه فِي التُّرَاب، وَخلق
﴿وَبث مِنْهُمَا رجَالًا كثيرا وَنسَاء﴾ ذكر هَذَا كُله لبَيَان الْقُدْرَة؛ وَإِظْهَار الْمِنَّة ﴿وَاتَّقوا الله الَّذِي تساءلون بِهِ﴾ أَي: تسْأَلُون بِهِ، وَذَلِكَ مثل قَول الرجل: أَسأَلك بِاللَّه، ونشدتك بِاللَّه، وَقيل: مَعْنَاهُ: وَاتَّقوا الله الَّذِي تعاهدون بِهِ، وَذَلِكَ أَن تَقول: عَلَيْك عهد الله، وَعلي عهد الله، وَنَحْو ذَلِك.
وَأما قَوْله: ﴿والأرحام﴾ قَرَأَ حَمْزَة: " الْأَرْحَام " بِكَسْر الْمِيم وَتَقْدِيره: تساءلون بِهِ وبالأرحام، قَالَ إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ: تَقول الْعَرَب: نشدتك بِاللَّه وبالرحم. وضعفوا هَذِه الْقِرَاءَة، وَالْقِرَاءَة الْمَعْرُوفَة: بِنصب الْمِيم، وَتَقْدِيره: وَاتَّقوا الْأَرْحَام أَن تقطعوها.
وَفِي الْخَبَر: يَقُول الله تَعَالَى: " أَنا الرَّحْمَن، وخلقت الرَّحِم، واشتققت لَهَا اسْما من اسْمِي، فَمن وَصلهَا وصلته، وَمن قطعهَا قطعته ".
وروى عَن رَسُول الله أَنه قَالَ: " إِن الله تَعَالَى يعمر الْكفَّار، وَيكثر أَمْوَالهم، وَلم ينظر إِلَيْهِم مُنْذُ خلقهمْ؛ بغضا لَهُم، فَقيل: مِم ذَاك يَا رَسُول الله؟ قَالَ: بصلَة الْأَرْحَام ".
﴿إِن الله كَانَ عَلَيْكُم رقيبا﴾ أَي: حفيظا.
﴿وَلَا تتبدلوا الْخَبيث بالطيب﴾ وَفِي قِرَاءَة شَاذَّة: " وَلَا تشتروا الْخَبيث بالطيب " فالخبيث: الْحَرَام، وَالطّيب الْحَلَال، وَمعنى الْكَلَام: وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَال الْيَتَامَى حَرَامًا، وَتَدعُوا أَمْوَالكُم الْحَلَال، وَقَالَ مُجَاهِد: مَعْنَاهُ: لَا تستعجلوا أكل الْحَرَام؛ فَإِن الْحَلَال يأتيكم.
﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالهم إِلَى أَمْوَالكُم﴾ قَالَ الْفراء: مَعْنَاهُ: مَعَ أَمْوَالكُم، وَقَالَ غَيره: " إِلَى " لَا تكون بِمَعْنى " مَعَ "، وَهِي على حَقِيقَتهَا، وَمَعْنَاهُ: وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالهم مُضَافَة إِلَى أَمْوَالكُم.
﴿إِنَّه كَانَ حوبا كَبِيرا﴾ فالحوب: الْإِثْم، وَفِي الْخَبَر: " أَن أَبَا أَيُّوب الْأنْصَارِيّ أَرَادَ أَن يُطلق امْرَأَته أم أَيُّوب، فَقَالَ النَّبِي: إِن طَلَاق أم أَيُّوب لَحوب "
فعلى هَذَا تَقْدِير الْآيَة: وَإِن خِفْتُمْ أَلا تقسطوا فِي نِكَاح الْيَتَامَى؛ ﴿فانكحوا مَا طَابَ لكم من النِّسَاء مثنى وَثَلَاث وَربَاع﴾.
وَقَالَ ابْن عَبَّاس: قصر نِكَاح النِّسَاء على الْأَرْبَع من أجل أَمْوَال الْيَتَامَى، فَإِن قيل:
وَذهب بعض النَّاس إِلَى أَن نِكَاح التسع جَائِز بِظَاهِر هَذِه الْآيَة؛ لِأَن الِاثْنَيْنِ وَالثَّلَاث والأربع يكون تسعا لَيْسَ بِصَحِيح، بل فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: قَالَ الزّجاج: مثنى مثنى، ثَلَاث ثَلَاث، رباع رباع، يَعْنِي: لكل النَّاس، وَقيل: " الْوَاو " بِمَعْنى: " أَو " يَعْنِي: مثنى، أَو ثَلَاث، أَو رباع؛ وَلِأَن على التَّقْدِير الَّذِي ذكرُوا [عي] فِي الْكَلَام؛ لِأَن من أَرَادَ أَن يذكر التسع فَيَقُول: مثنى وَثَلَاث وَربَاع، عد ذَلِك عَيْبا فِي الْكَلَام وَقد قَالَ: ﴿فَإِن خِفْتُمْ أَلا تعدلوا فَوَاحِدَة﴾ ؛ لِأَنَّهُ أخف مؤنه ﴿أَو مَا ملكت أَيْمَانكُم﴾ لِأَن حُقُوق ملك الْيَمين أدنى من حُقُوق ملك النِّكَاح، وَهُوَ معنى قَوْله: ﴿ذَلِك أدنى أَلا تعولُوا﴾ أَي: ذَلِك أقرب أَن لَا تَجُورُوا، يُقَال: عَال، يعول إِذا جَار، وأعال يعيل إِذا كثر عِيَاله، قَالَ الشَّاعِر:
(إِنَّا اتَّبعنَا الرَّسُول واطرحوا | أَمر الرَّسُول وعالوا فِي الموازين) |
وَقَالَ الشَّافِعِي: مَعْنَاهُ: ذَلِك أدنى أَلا تكْثر عيالكم. وَحكى الْأَزْهَرِي عَن الْكسَائي
﴿فَإِن طبن لكم عَن شَيْء مِنْهُ نفسا﴾ أَي: فَإِن أعطين عَن طيب نفس من الصَدَاق شَيْئا. و " من " للتَّخْيِير هَاهُنَا، لَا للتَّبْعِيض؛ حَتَّى يجوز للْمَرْأَة هبة كل الصَدَاق، ﴿فكلوه هَنِيئًا مريئا﴾ الهنيء: مَا أكلت من غير تنغيص، والمريء: هُوَ الْمَحْمُود الْعَاقِبَة؛ وَذَلِكَ أَلا يُورث تخمة. وَعَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ: إِذا مرض أحدكُم، فليستقرض من امْرَأَته ثَلَاثَة دَرَاهِم من صَدَاقهَا، وليشتري بهَا عسلا، وليخلطه بِمَاء السَّمَاء، ثمَّ ليَأْكُل؛ فَإِنَّهُ الشِّفَاء الْمُبَارك والهنيء المريء.
قَالَ سعيد بن جُبَير: معنى الْآيَة: أَن لَا تجْعَلُوا الْمَرْأَة قيمَة الْبَيْت فِي المعاش، بل كونُوا أَنْتُم قوامين على النِّسَاء فِي المعاش، وَقَوله: ﴿الَّتِي جعل الله لكم قيَاما﴾ فالقيام والقوام وَاحِد، يَعْنِي: أَمْوَالكُم الَّتِي جعلهَا الله قواما لمعاشكم، وَقَالَ الزّجاج: تَقْدِيره: الْأَمْوَال الَّتِي تقيمكم فتقومون بِهِ قيَاما ﴿وارزقوهم فِيهَا وأكسوهم﴾ قيل: مَعْنَاهُ: وارزقوهم مِنْهَا، وَقيل كلمة فِي حقيقتهما، وَمَعْنَاهُ: اجعلوا وظائفهم من الرزق وَالْكِسْوَة فِيهَا.
﴿وَقُولُوا لَهُم قولا مَعْرُوفا﴾ قيل: مَعْنَاهُ: تَعْلِيم الدّين والشرائع، وَقيل: أَرَادَ بِهِ: وعد الْجَمِيل؛ وَذَلِكَ أَن تَقول لَهُم: إِن سَافَرت وربحت، أُعْطِيكُم كَذَا، وَإِن غزوت
وَأما الَّذِي قَالَه الْمُفَسِّرُونَ: أَنه يدْفع إِلَيْهِ مَالا، وَيجْعَل إِلَيْهِ نَفَقَة الْبَيْت، ويختبره فِيهَا، ﴿حَتَّى إِذا بلغُوا النِّكَاح﴾ أَي: أَوَان الْحلم ﴿فَإِن آنستم﴾ أَي: أحسستم، ووجدتم ﴿مِنْهُم رشدا﴾ قَالَ مُجَاهِد: عقلا، وَقَالَ سُفْيَان الثَّوْريّ: عقلا وإصلاحا فِي المَال. وَمذهب الشَّافِعِي: أَن الرشد: هُوَ الصّلاح فِي الدّين، والإصلاح فِي المَال.
﴿فادفعوا إِلَيْهِم أَمْوَالهم﴾ أَمر الْأَوْلِيَاء بِدفع المَال إِلَيْهِم عِنْد الْبلُوغ والرشد. ﴿وَلَا تَأْكُلُوهَا إسرافا﴾ أَي: لَا تَأْكُلُوهَا مسرفين ﴿وبدارا أَن يكبروا﴾ أَي: لَا تبَادرُوا إِلَى أكل أَمْوَال الْيَتَامَى، خوفًا من أَن يكبروا؛ فيأخذوا أَمْوَالهم.
﴿وَمن كَانَ غَنِيا فليستعفف﴾ أَي: فليستعفف بِمَالِه عَن مَال الْيَتِيم ﴿وَمن كَانَ فَقِيرا فَليَأْكُل بِالْمَعْرُوفِ﴾ قَالَ عمر رَضِي الله عَنهُ إِذا كَانَ الْوَلِيّ فَقِيرا، يَأْكُل من مَال الْيَتِيم بِقدر الْحَاجة، وَقَالَ أَيْضا: أَنا فِي هَذَا المَال: كولي الْيَتِيم، إِن اسْتَغْنَيْت اسْتَعْفَفْت، وَإِن احتجت أكلت. وَإِلَى هَذَا ذهب قوم من الْعلمَاء، أَن لَهُ أَن يَأْكُل بِقدر مَا يسد بِهِ الْخلَّة، وَقَالَ بَعضهم: عباءا غليظا، وخبز الشّعير، وَقَالَ الشّعبِيّ وَجَمَاعَة: يَأْكُل من مَال الْيَتِيم على سَبِيل الْقَرْض، وَقَالَ مُجَاهِد: لَا يَأْكُل أصلا، لَا قرضا، وَلَا غير قرض، قَالَ: وَالْآيَة مَنْسُوخَة بقوله تَعَالَى: ﴿لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالكُم بَيْنكُم بِالْبَاطِلِ﴾
وَفِيه قَول رَابِع: أَن معنى قَوْله: ﴿فَليَأْكُل بِالْمَعْرُوفِ﴾ يَعْنِي: يَأْكُل الْفَقِير من قوت نَفسه بِالْمَعْرُوفِ، وَلَا يستكثر مِنْهُ حَتَّى ينفذ مَاله؛ فَيحْتَاج إِلَى مَال الْيَتِيم.
﴿فَإِذا دفعتم إِلَيْهِم أَمْوَالهم فأشهدوا عَلَيْهِم﴾ ندب إِلَى الْإِشْهَاد؛ كَيْلا يجحدوا.
﴿وَكفى بِاللَّه حسيبا﴾ أَي: شَهِيدا.
﴿مِمَّا قل مِنْهُ أَو كثر نصيب مَفْرُوضًا﴾ وَقد بَين الأنصبة الْمَفْرُوضَة فِي آيَات الْمَوَارِيث.
ثمَّ اخْتلفُوا، فَقَالَ بَعضهم: الْآيَة مَنْسُوخَة، فَيجوز أَن يُعْطوا، وَيجوز أَن لَا يُعْطوا، وَقيل: هُوَ على النّدب، وَيسْتَحب أَن يعطيهم شَيْئا، وَمِنْهُم من قَالَ: إِن قسموا الْعين وَالْوَرق وَنَحْوه يُوضح لَهُم، وَإِن قسموا الدّور وَالْعَقار، وَالْعَبِيد، وَالثيَاب، وَنَحْوهَا، يَقُول لَهُم: بورك فِيكُم.
وَقَالَ: " من أبكى يَتِيما، فَحق على الله أَن يبكى عَيْنَيْهِ يَوْم الْقِيَامَة ".
﴿وسيصلون سعيرا﴾ أَي: سيدخلون جَهَنَّم، وَقيل: يعاينون سعيرا، والسعير: النَّار المستعرة، وَهُوَ اسْم من أَسمَاء جَهَنَّم.
سَبَب نزُول الْآيَة: " أَن سعد بن الرّبيع لما اسْتشْهد يَوْم أحد خلف ابْنَتَيْن وَامْرَأَة وأخا، فجَاء الْأَخ وَأخذ جَمِيع المَال، فَجَاءَت الْمَرْأَة تَشكوا إِلَى رَسُول الله؛ فَنزلت الْآيَة ". فَدَعَا رَسُول الله الْأَخ، وَقَالَ: اعط الابنتين الثُّلثَيْنِ وَالْمَرْأَة الثّمن، وَخذ الْبَاقِي ".
وَقَوله: ﴿للذّكر مثل حَظّ الْأُنْثَيَيْنِ﴾ يَعْنِي: إِذا خلف ابْنا وَابْنه، فَالْمَال من ثَلَاثَة أسْهم: سَهْمَان للإبن، وَسَهْم للْبِنْت ﴿فَإِن كن نسَاء فَوق اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثلثا مَا ترك﴾ أَكثر الصَّحَابَة وَالْعُلَمَاء على أَن للابنتين، وَالثَّلَاث: الثُّلثَيْنِ.
وَقَالَ ابْن عَبَّاس: للابنتين النّصْف، وَإِنَّمَا الثُّلُثَانِ للثلاث وَمَا زَاد؛ تمسكا بِظَاهِر الْآيَة. وَالْأول أصح.
وَمعنى قَوْله: ﴿فَإِن كن نسَاء فَوق اثْنَتَيْنِ﴾ يَعْنِي: كن نسَاء اثْنَتَيْنِ فَمَا فَوْقهمَا، وَهَذَا كَقَوْلِه: ﴿فاضربوا فَوق الْأَعْنَاق﴾ أَي: فاضربوا الْأَعْنَاق فَمَا فَوْقهَا، وَقيل: " فَوق " فِيهِ صلَة، وَتَقْدِيره: فَإِن كن نسَاء اثْنَتَيْنِ، وَاسم الْجمع ينْطَلق على الِاثْنَيْنِ؛ لِأَن الْجمع عبارَة عَن جمع الشَّيْء، وَيَسْتَوِي فِيهِ الِاثْنَان وَالثَّلَاث، ولأنا أجمعنا على أَن الْأُخْتَيْنِ ترثان الثُّلثَيْنِ، وهما ابنتا أَب الْمَيِّت، فالابنتان لِأَن يرثا الثُّلثَيْنِ أولى، وهما ابنتاه للصلب.
﴿وَإِن كَانَت وَاحِدَة فلهَا النّصْف﴾ وَفِيه إِجْمَاع ﴿ولأبويه لكل وَاحِد مِنْهُمَا السُّدس مِمَّا ترك وَإِن كَانَ لَهُ ولد﴾ يَعْنِي: للْمَيت، ﴿فَإِن لم يكن لَهُ ولد وَورثه أَبَوَاهُ فلأمه الثُّلُث﴾ وَهَذَا لَا خلاف فِيهِ.
﴿فَإِن كَانَ لَهُ إخوه فلأمه السُّدس﴾ أَكثر الصَّحَابَة وَالْعُلَمَاء على أَن الْأَخَوَيْنِ وَالثَّلَاثَة يردون الْأُم من الثُّلُث إِلَى السُّدس.
وَقَالَ ابْن عَبَّاس: الثَّلَاثَة يردون، فَأَما الأخوان فَلَا يردان، لِأَنَّهُ ذكر بِلَفْظ الْجمع وَأقله ثَلَاثَة.
وَقد بَينا أَن اسْم الْجمع ينْطَلق على اثْنَيْنِ وَالثَّلَاثَة.
وَقَرَأَ حَمْزَة وَالْكسَائِيّ: " فلأمه السُّدس " بِكَسْر الْهمزَة، وَهُوَ لُغَة فِي الْأُم، وَالْمَعْرُوف بِالضَّمِّ ﴿من بعد وَصِيَّة يوصى بهَا أَو دين﴾ يقْرَأ بقرآتين " يوصى " بِكَسْر الصَّاد على معنى: يوصيها الْمُوصى، وَيقْرَأ: " يوصى " بِفَتْح الصَّاد، على مَا لم يسم فَاعله.
وَعَن عَليّ رضى الله عَنهُ أَنه قَالَ: إِنَّكُم تقرءون الْوَصِيَّة قبل الدّين، وَالدّين قبل الْوَصِيَّة، يَعْنِي: فِي الْقَضَاء، ثمَّ اخْتلفُوا، مِنْهُم من قَالَ: " أَو " بِمَعْنى " الْوَاو " وَالْمرَاد الْجمع بَينهمَا، وَبَيَان أَن الْإِرْث مُؤَخرا عَنْهُمَا جَمِيعًا، وَمِنْهُم من قَالَ " أَو " على حَقِيقَته، وَمَعْنَاهُ: من بعد وَصِيَّة، إِن كَانَت وَصِيَّة، أَو دين إِن كَانَ دين، فالإرث مُؤخر عَن كل وَاحِد مِنْهُمَا؛ من ذَلِك عرف تَأْخِيره عَنْهُمَا إِذا اجْتَمَعنَا بطرِيق الأولى.
وَقَوله: ﴿آباؤكم وأبناؤكم﴾ يَعْنِي: الَّذين يرثونكم آباؤكم وأبناؤكم ﴿لَا تَدْرُونَ أَيهمْ أقرب لكم نفعا﴾ أَي: لَا تعلمُونَ أَيهمْ أَنْفَع لكم فِي الدّين وَالدُّنْيَا.
فَمنهمْ من يظنّ أَن الْآبَاء تَنْفَع فَتكون الْأَبْنَاء أَنْفَع، وَمِنْهُم من يظنّ أَن الْأَبْنَاء أَنْفَع، فَتكون الأباء أَنْفَع، وَأَنْتُم لَا تعلمُونَ، وَأَنا أعلم بِمن هُوَ أَنْفَع لكم؛ وَقد دبرت أَمركُم على مَا فِيهِ الْحِكْمَة والمصلحة، فَخُذُوهُ، واتبعوه. وَفِي الْأَخْبَار " أَن فِي الْجنَّة يكون الْأَب على الدرجَة الْعَالِيَة، وَالِابْن فِي الدرجَة السافلة، فَيسْأَل الابْن الله تَعَالَى فيرفعه إِلَى دَرَجَة أَبِيه. وَيكون الابْن على الدرجَة الْعَالِيَة، وَالْأَب فِي الدرجَة السافلة، فَيسْأَل الْأَب الله تَعَالَى فيرفعه إِلَى دَرَجَة الابْن " فَهَذَا معنى الْآيَة لَا تَدْرُونَ أَيهمْ أَنْفَع لكم فِي الْآخِرَة، وَأَرْفَع دَرَجَة، فتصلون إِلَى دَرَجَته.
﴿فَرِيضَة من الله﴾ يَعْنِي: مَا قدر من الْمَوَارِيث ﴿إِن الله كَانَ عليما﴾ بِأَمْر الْعباد ﴿حكيما﴾ بِنصب الْأَحْكَام.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَإِن كَانَ رجل يُورث كَلَالَة أَو امْرَأَة﴾ يعْنى: أَو امْرَأَة تورث كَلَالَة، قَالَ بعض الْعلمَاء: الْكَلَالَة لَا يعلم مَعْنَاهَا، وَعَن عمر - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: خرج رَسُول الله من الدُّنْيَا وَلم يبين لنا ثَلَاثَة: الْكَلَالَة، والخلافة، والربا.
وَالصَّحِيح أَنَّهَا مَعْلُومَة الْمَعْنى، ثمَّ اخْتلفُوا، قَالَ ابْن عَبَّاس فِي رِوَايَة وَهِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَن عمر: إِن الْكَلَالَة اسْم لمَيت لَا ولد لَهُ، وَورث الاخوة مَعَ الْأَب.
وَقَالَ الحكم بن عتيبة: والكلالة: اسْم لمَيت لَا ولد لَهُ، وَورث الاخوة مَعَ الْوَالِد، وهما قَولَانِ فِي شواذ الْخلاف، وَالصَّحِيح فِيهِ قَولَانِ:
أَحدهمَا قَول لأهل الْمَدِينَة والكوفة أَن الْكَلَالَة اسْم لوَرَثَة لَيْسَ فيهم ولد وَلَا وَالِد؛ مَأْخُوذ من الإكليل، وَهُوَ الَّذِي على جَانِبي الْوَجْه، فالكلالة اسْم لمن يُحِيط بجانبي الْمَيِّت من الاخوة وَالْأَخَوَات، والأعمام، وَنَحْوهم، وَلم يكن أَعلَى وَلَا أَسْفَل.
وَاسْتَدَلُّوا عَلَيْهِ بِحَدِيث جَابر " كَانَ مَرِيضا؛ فَدخل عَلَيْهِ رَسُول الله يعودهُ، فَقَالَ: إِنَّمَا يَرِثنِي كَلَالَة ". وَلم يكن فِي ورثته ولد وَلَا وَالِد، وَجعل الْكَلَالَة اسْما للْوَارِث، وَيشْهد لهَذَا مَا قرئَ فِي الشواذ: " وَإِن كَانَ رجل يُورث كَلَالَة " مشددا بِكَسْر الرَّاء.
وَقَالَ البصريون: وَهُوَ قَول أَبى بكر، وَعلي، وَابْن مَسْعُود، وَزيد، وفى أصح الرِّوَايَتَيْنِ عَن ابْن عَبَّاس: أَن الْكَلَالَة: اسْم للْمَيت الَّذِي لَيْسَ لَهُ ولد وَلَا وَالِد، وَهُوَ ظَاهر الْآيَة، وَتشهد لَهُ الْقِرَاءَة الْأُخْرَى فِي الشواذ: " وَإِن كَانَ رجل يُورث كَلَالَة " مشددا بِفَتْح الرَّاء. قَالَ الشَّاعِر:
(وَإِن أَبَا الْمَرْء أحمى لَهُ | وَمولى الْكَلَالَة لَا يغْضب) |
وَفِيه قَول آخر: أَن الْكَلَالَة اسْم للتركة، قَالَه عَطاء. وَقَوله: ﴿وَله أَخ أَو أُخْت فَلِكُل وَاحِد مِنْهُمَا السُّدس﴾ أَجمعُوا على أَن المُرَاد بالأخ وَالْأُخْت هَاهُنَا أَوْلَاد الْأُم، وَفرض لكل وَاحِد مِنْهُم السُّدس ذكرا كَانَ أَو أُنْثَى.
﴿فَإِن كَانُوا أَكثر من ذَلِك فهم شُرَكَاء فِي الثُّلُث﴾ وَفِيه إِجْمَاع، أَن فرضهم الثُّلُث إِذا تعددوا، وَإِن كَثُرُوا ﴿من بعد وَصِيَّة يوصى بهَا أَو دين غير مضار﴾ يَعْنِي: الْمُوصي لَا يضر بالورثة بمجاوزة الثُّلُث، وَنَحْوه ﴿وَصِيَّة من الله﴾ أَي: فَرِيضَة من الله ﴿وَالله عليم حَلِيم﴾
(هن اللواتي وَالَّتِي واللاتي | زعمن أَنى قد كَبرت لداتي) |
(من اللائي لم يحججن تبغين حسبَة | وَلَكِن ليقْتلن البريء المغفلا) |
ثمَّ نسخ الْجلد فِي حق الثّيّب، وَاسْتقر أمرهَا على الرَّجْم.
وَقَالَ بعض الْعلمَاء: الْجلد مَعَ الرَّجْم بَاقٍ على الحكم، وَالْأول أصح.
وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَأَصْحَابه: التَّغْرِيب أَيْضا مَنْسُوخ فِي حق الْبكر، والخلوف مَذْكُور فِي الْفِقْه.
وَاخْتلفُوا فِي أَن ذَلِك الْإِمْسَاك فِي الْبَيْت كَانَ على سَبِيل الْحَد أم كَانَ حبسا؛ ليظْهر الْحَد؟ على قَوْلَيْنِ: أَحدهمَا: أَنه كَانَ حدا، وَالثَّانِي: أَنه كَانَ حبسا ليظْهر الْحَد.
وَقَالَ غَيره: الأولى فِي الثّيّب، وَهَذِه الْآيَة فِي الْأَبْكَار.
وَفِيه قَول ثَالِث: أَن الْآيَة الأولى فِي الْمَرْأَة إِذا أَتَت الْمَرْأَة سحقا، وَالْآيَة الثَّانِيَة فِي الرجل إِذا أَتَى الرجل.
وَقد قَالَ: " إِذا أَتَى الرجل الرجل فهما زانيان؛ وَإِذا أَتَت الْمَرْأَة الْمَرْأَة فهما زانيتان ".
وَالْمرَاد بالإيذاء فِي هَذِه الْآيَة: هُوَ السب بِاللِّسَانِ، وإسماع الْمَكْرُوه، وَالتَّعْبِير، وَالضَّرْب بالنعال.
فَإِن قيل: ذكر الْحَبْس فِي الْآيَة الأولى، والإيذاء فِي الْآيَة الثَّانِيَة، فَكيف وَجه الْجمع؟ قيل: أما على قَول من قَالَ: إِن الْآيَة الأولى فِي صنف، وَالْآيَة الثَّانِيَة فِي صنف آخر، يَسْتَقِيم الْكَلَام.
وَقَالَ بَعضهم: أَرَادَ بِهِ: الْجمع بَين الْإِيذَاء وَالْحَبْس فِي حق الزَّانِي فيؤذى أَولا، ثمَّ
﴿ثمَّ يتوبون من قريب﴾ يَعْنِي: قبل الْمَوْت، قَالَ الضَّحَّاك: كل مَا بَيْنك وَبَين الْمَوْت فَهُوَ قريب، وَقيل: أَرَادَ بِهِ: التَّوْبَة قبل أَن يعاين ملك الْمَوْت، وَقيل: أَرَادَ بِهِ: ثمَّ يتوبون قبل أَن يغرغروا.
وَفِي الْخَبَر: أَن النَّبِي قَالَ: " من تَابَ قبل مَوته بِسنة تَابَ الله عَلَيْهِ، ثمَّ قَالَ: إِن السّنة (لكثيرة)، ثمَّ قَالَ: من تَابَ قبل مَوته بِشَهْر تَابَ الله عَلَيْهِ، ثمَّ قَالَ: إِن الشَّهْر لكثير، ثمَّ قَالَ: من تَابَ قبل مَوته بجمعة، تَابَ الله عَلَيْهِ، ثمَّ قَالَ: إِن الْجُمُعَة (لكثيرة)، ثمَّ قَالَ: من تَابَ قبل مَوته بِيَوْم، تَابَ الله عَلَيْهِ، ثمَّ قَالَ: إِن الْيَوْم لكثير، (من تَابَ قبل مَوته بِنصْف يَوْم تَابَ الله عَلَيْهِ، ثمَّ قَالَ: إِن نصف الْيَوْم لكثير) من تَابَ قبل مَوته بساعة تَابَ الله عَلَيْهِ، ثمَّ قَالَ: إِن السَّاعَة لكثيرة، من تَابَ قبل أَن يُغَرْغر تَابَ الله عَلَيْهِ ". رَوَاهُ عبَادَة بن الصَّامِت، فَهَذَا معنى قَوْله: ﴿ثمَّ يتوبون من قريب فَأُولَئِك يَتُوب الله عَلَيْهِم وَكَانَ الله عليما حكيما﴾.
﴿حَتَّى إِذا حضر أحدهم الْمَوْت قَالَ إِنِّي تبت الْآن﴾ يَعْنِي: حَالَة الْمَوْت، يَتُوب حِين يساق، وَوجه ذَلِك: مثل تَوْبَة فِرْعَوْن حِين أدْركهُ الْغَرق، قَالَ: آمَنت أَنه لَا إِلَه إِلَّا الَّذِي آمَنت بِهِ بَنو إِسْرَائِيل، يَقُول الله تَعَالَى لَيْسَ لهَؤُلَاء تَوْبَة.
﴿وَلَا الَّذين يموتون وهم كفار﴾ يَعْنِي: وَلَا الَّذين يموتون كفَّارًا لَهُم تَوْبَة ﴿أُولَئِكَ اعتدنا لَهُم﴾ أَي: أعددنا لَهُم ( ﴿عذَابا أَلِيمًا﴾
وَالصَّحِيح أَنه خطاب للأزواج، يَعْنِي: إِذا لم تكن الزَّوْجَة بموافقة، فَلَا تمسكها
﴿وأخذن مِنْكُم ميثاقا غليظا﴾ هُوَ قَول الْوَلِيّ: زوجتكها على أَن تمسكها بِمَعْرُوف، أَو تسرحها بِإِحْسَان، وَقيل: هُوَ معنى مَا روى: " اتَّقوا الله فِي النِّسَاء؛ فَإِنَّهُنَّ عنْدكُمْ عوان، أَخَذْتُمُوهُنَّ بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بِكَلِمَة الله " فَهَذَا هُوَ الْمِيثَاق الغليظ.
﴿إِنَّه كَانَ فَاحِشَة ومقتا﴾ قيل " كَانَ ": فِيهِ صلَة، وَتَقْدِيره: إِنَّه فَاحِشَة، وَهَذَا كَمَا
(فَكيف إِذا رَأَيْت ديار قومِي | وجيران لنا كَانُوا كرام) |
أما السَّبع بِالنّسَبِ: مِنْهُنَّ الْأُمَّهَات: وَهِي كل امْرَأَة تنْسب إِلَيْهَا بِالْولادَةِ، سَوَاء قربت أَو بَعدت، سَوَاء كَانَ بَيْنك وَبَينهَا ذكر أَو أُنْثَى، أَو لم يكن أحد، فَالْكل حرَام.
قَالَ: ﴿وبناتكم﴾ وَمِنْهَا الْبَنَات: وهى كل امْرَأَة تنْسب إِلَيْكُم بِالْولادَةِ، سَوَاء قربت أَو سلفت، سَوَاء كَانَ بَيْنك وَبَينهَا ذكر أَو أُنْثَى، أَو لم يكن أحد، فَالْكل حرَام.
قَالَ ﴿وأخواتكم﴾ وَمِنْهَا الْأَخَوَات: وَهِي كل امْرَأَة تنْسب إِلَى من تنْسب إِلَيْهِ بِالْولادَةِ، فَالْكل حرَام. قَالَ: ﴿وعماتكم﴾ وَمِنْهَا العمات، والعمة: أُخْت كل ذكر تنْسب إِلَيْهِ بِالْولادَةِ، فَالْكل حرَام، قرب أم بعد، قَالَ: ﴿وخالاتكم﴾ وَمِنْهَا الخالات، وَالْخَالَة: أُخْت كل امْرَأَة تنْسب إِلَيْهَا بِالْولادَةِ، قربت أم بَعدت.
قَالَ: ﴿وَبَنَات الْأَخ وَبَنَات الْأُخْت﴾ وَمِنْهَا بَنَات الْأَخ وَبَنَات الْأُخْت: وَهِي بنت كل من تنْسب إِلَى من تنْسب إِلَيْهِ، فَهَذِهِ السَّبْعَة بِالنّسَبِ.
وَأما السَّبع بِالسَّبَبِ: فإحداهن مَذْكُورَة قبل هَذِه الْآيَة فِي قَوْله: ﴿وَلَا تنْكِحُوا مَا نكح آباؤكم من النِّسَاء﴾، وَالثَّانيَِة فِي قَوْله: ﴿وأمهاتكم اللَّاتِي أرضعنكم﴾، وَالثَّالِثَة: ﴿وأخواتكم من الرضَاعَة﴾، وَلَا خلاف أَن الْأُم وَالْأُخْت من الرضَاعَة حرَام على الرجل نِكَاحهَا، فَأَما مَا عدا الْأُمَّهَات وَالْأَخَوَات من الرضَاعَة حرَام أَيْضا عِنْد أَكثر الْعلمَاء؛ لقَوْله " يحرم من الرَّضَاع مَا يحرم من النّسَب ".
قَالَ دَاوُد، وَأهل الظَّاهِر: لَا يحرم مَا عدا الْأُمَّهَات وَالْأَخَوَات بِالرّضَاعِ؛ تمسكا بِظَاهِر الْقُرْآن.
قَالَ ﴿وَأُمَّهَات نِسَائِكُم﴾ الرَّابِعَة: أم الزَّوْجَة، تحرم على الْإِطْلَاق بِنَفس العقد على قَول الْأَكْثَرين، وَحكى خلاس عَن عَليّ رضى الله عَنهُ أَنه قَالَ: " لَا تحرم أم الزَّوْجَة إِلَّا بعد الدُّخُول بِالزَّوْجَةِ لقَوْله تَعَالَى: ﴿وربائبكم اللاتى فِي حجوركم من نِسَائِكُم اللَّاتِي دَخَلْتُم بِهن﴾ قَالَ: فَقَوله: ﴿من نِسَائِكُم اللَّاتِي دَخَلْتُم بِهن﴾ ينْصَرف إِلَيْهِمَا جَمِيعًا. وَالْأول أصح.
قَالَ ابْن عَبَّاس: أبهموا مَا أبهمه الله، أَي: أطْلقُوا مَا أطلقهُ الله، وَلِأَن قَوْله: ﴿وَأُمَّهَات نِسَائِكُم﴾ مُسْتَقل بِنَفسِهِ، مُعْتَد بِحكمِهِ، فيستغني عَن الْإِظْهَار؛ وَلِأَن قَوْله: وَأُمَّهَات نِسَائِكُم من نِسَائِكُم اللَّاتِي دَخَلْتُم بِهن على هَذَا التَّقْدِير يكون عيا فِي الْكَلَام، فَلَا يَلِيق بِكَلَام الله تَعَالَى الَّذِي هُوَ أفْصح أَنْوَاع الْكَلَام.
قَالَ: ﴿وربائبكم اللَّاتِي فِي حجوركم من نِسَائِكُم اللَّاتِي دَخَلْتُم بِهن﴾.
الْخَامِسَة: الربيبة؛ وَهِي ابْنة الزَّوْجَة، وَسميت ربيبة؛ لِأَن الزَّوْج يربها فِي حجره على الْأَغْلَب، فَهِيَ حرَام بعد الدُّخُول بِالزَّوْجَةِ، وَسَوَاء كَانَت فِي حجره، أَو فِي حجر غَيره.
وَقَالَ دَاوُد: يخْتَص التَّحْرِيم بِالَّتِي فِي حجره؛ لقَوْله: ﴿وربائبكم اللَّاتِي فِي حجوركم﴾، وَهَذَا لَا يَصح؛ لِأَن الْكَلَام خرج على لأغلب.
﴿فَإِن لم تَكُونُوا دَخَلْتُم بِهن فَلَا جنَاح عَلَيْكُم﴾ يَعْنِي: فِي نِكَاحهنَّ.
وَقَالَ: ﴿وحلائل أَبْنَائِكُم الَّذين من أصلابكم﴾ السَّادِسَة: حَلِيلَة الابْن، وَهِي حرَام، وَسميت حَلِيلَة؛ لِأَنَّهَا مَعَ الابْن يحلان فراشا وَاحِدًا، وَقيل: لِأَنَّهَا تحل إِزَار الابْن، وَالِابْن يحل إزَارهَا، وَقيل: سميت حَلِيلَة؛ لِأَنَّهَا تحل لَهُ.
وَقَوله ﴿الَّذين من أصلابكم﴾ إِنَّمَا قيد بالصلب، وَإِن كَانَ حَلِيلَة ولد الْوَلَد حَرَامًا، ليبين أَن حَلِيلَة ولد التبني حَلَال. وَقد تزوج رَسُول الله زَيْنَب بنت جحش امْرَأَة زيد بن حَارِثَة، وَكَانَ قد تبنى زيدا، حَتَّى قَالَ عبد الله بن أَبى بن سلول: انْظُرُوا إِلَى هَذَا الرجل، كَيفَ وثب على امْرَأَة ابْنه وَتَزَوجهَا: فَقَالَ الله تَعَالَى: ﴿وحلائل أَبْنَائِكُم الَّذين من أصلابكم﴾ بذلك السَّبَب.
﴿وَأَن تجمعُوا بَين الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قد سلف﴾ السَّابِعَة: الْجمع بَين الْأُخْتَيْنِ حرَام بِالنِّكَاحِ، وَكَذَلِكَ بِالْوَطْءِ فِي ملك الْيَمين؛ وَقَالَ أهل الظَّاهِر: لَا يحرم الْجمع بَينهمَا إِلَّا فِي النِّكَاح؛ لِأَن الْآيَة فِي التَّحْرِيم بِالنِّكَاحِ، قَالَ عُثْمَان: حرمتهَا آيَة وأحلتها آيَة، فآية التَّحْرِيم هَذِه؛ وَآيَة التَّحْلِيل قَوْله: ﴿إِلَّا مَا ملكت أَيْمَانكُم﴾ ﴿إِلَّا مَا قد سلف﴾ أَي: بَعْدَمَا سلف وَقد [بَينا لَك] ﴿إِن الله كَانَ غَفُورًا رحِيما﴾.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَالْمُحصنَات من النِّسَاء﴾ أَرَادَ بِهِ: ذَوَات الْأزْوَاج ﴿إِلَّا مَا ملكت أَيْمَانكُم﴾ اخْتلفُوا فِيهِ، فَقَالَ عَليّ، وَابْن عَبَّاس: أَرَادَ بِهِ: إِلَّا مَا ملكت أَيْمَانكُم من
وَقَالَ ابْن مَسْعُود، وأبى بن كَعْب: إِن قَوْله: ﴿إِلَّا مَا ملكت أَيْمَانكُم﴾ هُوَ أَن يَبِيع الْجَارِيَة الْمُزَوجَة، فَتَقَع الْفرْقَة بَينهَا وَبَين زَوجهَا، وَيحل للمشترى وَطأهَا، وَيكون بيعهَا طَلَاقا لَهَا.
﴿كتاب الله عَلَيْكُم﴾ أَي: فرض الله عَلَيْكُم، وَيقْرَأ: " كتب الله عَلَيْكُم " أَي: فرض الله عَلَيْكُم ﴿وَأحل لكم مَا وَرَاء ذَلِكُم﴾ يَعْنِي: أحل لله لكم، وَيقْرَأ: " أحل لكم " - بِضَم الْألف - على نظم قَوْله: ( ﴿حرمت عَلَيْكُم أُمَّهَاتكُم﴾ أَن تَبْتَغُوا بأموالكم) قيل: الْإِحْلَال: بالابتغاء بالأموال، وَفِيه دَلِيل على أَن استحلال الْبضْع لَا يَخْلُو عَن عوض ﴿محصنين﴾ أَي: متزوجين متعففين ﴿غير مسافحين﴾ غير زانين، مَأْخُوذ من سفح المَاء، وَهُوَ الصب، وَمِنْه قَول امْرِئ الْقَيْس:
(وَإِن شفائي عِبْرَة إِن سفحتها | فَهَل عِنْد رسم دارس من معول) |
(أُرِيد لأنسى ذكرهَا فَكَأَنَّمَا | تمثل لي ليلى بِكُل سَبِيل) |
قَوْله: ﴿ليبين لكم﴾ أَي: يُوضح لكم الْأَحْكَام ﴿وَيهْدِيكُمْ﴾ أَي: يرشدكم ﴿سنَن الَّذين من قبلكُمْ﴾ أَي: طرائق الَّذين من قبلكُمْ من النبين، وَالصَّالِحِينَ، وَقيل: من قوم مُوسَى، وَعِيسَى، الَّذين هُدُوا بِالْحَقِّ؛ وَذَلِكَ أَنه حرم عَلَيْهِم مَا حرم على الْمُسلمين من الْمَحَارِم الْمَذْكُورَات، وَقيل: مَعْنَاهُ: وَيهْدِيكُمْ إِلَى الْملَّة الحنيفية، مِلَّة إِبْرَاهِيم، ﴿وَيَتُوب عَلَيْكُم﴾ قَالَ ابْن عَبَّاس: بداء من الله، وَمَعْنَاهُ: يوفقكم للتَّوْبَة، وَقيل: يرشدكم إِلَى السَّبِيل الَّذِي يدعوكم إِلَى التَّوْبَة ﴿وَالله عليم﴾ بمصالح أَمركُم
﴿عَن ترَاض مِنْكُم﴾ أَي: بِطيبَة نفس مِنْكُم ﴿وَلَا تقتلُوا أَنفسكُم﴾ أَي: لَا يقتل بَعْضكُم بَعْضًا، وَقَرَأَ الْحسن: ﴿وَلَا تقتلُوا أَنفسكُم﴾ مشددا على التكثير.
وَقيل: مَعْنَاهُ: وَلَا تقتلُوا أَنفسكُم بِأَكْل المَال الْبَاطِل، وَقيل: أَرَادَ بِهِ: قتل الرجل نَفسه على الْحَقِيقَة ﴿إِن الله كَانَ بكم رحِيما﴾.
﴿فَسَوف نصليه نَارا﴾ : ندخله نَارا، يصلى بهَا ﴿وَكَانَ ذَلِك على الله يَسِيرا﴾ أَي هينا، وروى عَن ابْن عمر أَنه قَالَ: كُنَّا نشْهد لمن ارْتكب الْكَبَائِر بالنَّار بِهَذِهِ الْآيَات؛ حَتَّى نزل قَوْله تَعَالَى ﴿وَيغْفر مَا دون ذَلِك لمن يَشَاء﴾ فتوقفنا.
وَقَالَ ابْن مَسْعُود: الْكَبَائِر: مَا ذكر الله تَعَالَى فِي هَذِه السُّورَة إِلَى هَذِه الْآيَة: ﴿إِن تجتنبوا كَبَائِر﴾.
وَعَن ابْن مَسْعُود أَيْضا أَنه قَالَ: الْكَبَائِر أَرْبَعَة: الْإِشْرَاك بِاللَّه، والقنوط من رَحْمَة الله، واليأس من روح الله، والأمن من مكر الله.
وَقَالَ ابْن عَبَّاس: الْكَبَائِر سبع: الْإِشْرَاك بِاللَّه، وَقتل النَّفس بِغَيْر نفس، وَقذف المحصنة، وَأكل الرِّبَا، وَأكل مَال الْيَتِيم، والفرار من الزَّحْف، وَالتَّعَرُّب بعد الْهِجْرَة، يَعْنِي: إِلَى دَار الْحَرْب.
وَقَالَ ابْن عمر: الْكَبَائِر تسع فَذكر هَذِه السَّبع وَزَاد شَيْئَيْنِ أَحدهمَا: السحر، وَالثَّانِي: الْإِلْحَاد فِي الْحرم بالميل وَالظُّلم.
وَسُئِلَ ابْن عَبَّاس، فَقيل لَهُ: الْكَبَائِر سبع؟ فَقَالَ: هِيَ إِلَى السّبْعين أقرب مِنْهَا إِلَى السَّبع، وَقَالَ الْمُغيرَة بن مقسم الضَّبِّيّ: شتم أبي بكر، وَعمر من الْكَبَائِر.
وَالْجُمْلَة أَن الْكَبَائِر: كل جريمة أوعد الله تَعَالَى عَلَيْهَا النَّار، وَقَالَ أَبُو صَالح: الْكَبِيرَة كل مَا أوجب الْحَد؛ غير أَنه لَا كَبِيرَة مَعَ الاسْتِغْفَار، وَلَا صَغِيرَة مَعَ الْإِصْرَار.
وَقَوله: ﴿نكفر عَنْكُم سَيِّئَاتكُمْ﴾ قَالَ السدى: أَرَادَ بالسيئات: الصَّغَائِر ﴿نكفر عَنْكُم سَيِّئَاتكُمْ﴾ إِن شِئْت؛ فالمشيئة مضمرة فِيهِ، وروى عَن رَسُول الله أَنه قَالَ: " الْجُمُعَة إِلَى الْجُمُعَة، والصلوات الْخمس، كَفَّارَة لما بَينهُنَّ مَا اجْتنبت الْكَبَائِر ".
وروى أَبُو سعيد الْخُدْرِيّ عَن رَسُول الله قَالَ: " مَا من مُسلم يُصِيبهُ وصب، أَو نصب، إِلَّا كفر عَنهُ خطاياه حَتَّى الشَّوْكَة يشاكها "
وَقيل: باجتناب الْكَبَائِر، تقع الصَّغَائِر مكفرة، وَمذهب أهل السّنة: أَن تَكْفِير الصَّغَائِر معلقَة بِالْمَشِيئَةِ؛ فَيجوز أَن يعْفُو الله عَن الْكَبَائِر، وَيَأْخُذ بالصغائر، وَيجوز أَن يجْتَنب الرجل الْكَبَائِر، فَيُؤْخَذ بالصغائر.
﴿وَنُدْخِلكُمْ مدخلًا كَرِيمًا﴾ وتقرأ: " مدخلًا " - بِفَتْح الْمِيم فالمدخل: الْجنَّة والمدخل بِضَم الْمِيم: الإدخال، يَعْنِي: إدخالا كَرِيمًا.
قَالَ الْفراء: هَذَا نهي تَأْدِيب وتهذيب، وَقَالَ غَيره: إِنَّه نهي تَحْرِيم ﴿للرِّجَال نصيب مِمَّا اكتسبوا﴾ يَعْنِي: من الْأجر ﴿وللنساء نصيب مِمَّا اكتسبن﴾ يَعْنِي: من الْأجر، وَمعنى الْآيَة: أَن الرِّجَال وَالنِّسَاء فِي الْأجر فِي الْآخِرَة سَوَاء، وَإِن فضل الرِّجَال على النِّسَاء فِي الدُّنْيَا، فالحسنة بِعشر أَمْثَالهَا يَسْتَوِي فِيهَا الرجل وَالْمَرْأَة، وَقيل: مَعْنَاهُ: للرِّجَال نصيب مِمَّا اكتسبوا من أَمر الْجِهَاد، وللنساء نصيب مِمَّا اكتسبن من طَاعَة الْأزْوَاج، وَحفظ الْفروج، يَعْنِي: إِن كَانَ للرجل فضل الْجِهَاد، فللنساء فضل طَاعَة الْأزْوَاج، وَحفظ الْفروج.
﴿واسألوا الله من فَضله﴾ وَفِي هَذَا دَلِيل على أَن الْحَسَد حرَام؛ والحسد: هُوَ أَن يتَمَنَّى زَوَال النِّعْمَة عَن صَاحبه، ويتمناها لنَفسِهِ، وَالْغِبْطَة: هُوَ أَن يتَمَنَّى لنَفسِهِ مثل مَا لصَاحبه، فالحسد حرَام، وَالْغِبْطَة لَا بَأْس بهَا، ثمَّ اخْتلفُوا فِي معنى الْفضل هَاهُنَا، قَالَ ابْن عَبَّاس: واسألوا الله من فَضله، أَي: من رزقه.
وَقَالَ سعيد بن جُبَير: مَعْنَاهُ: ﴿واسألوا الله من فَضله﴾ أَي: من عِبَادَته، وَقيل: هُوَ سُؤال التَّوْفِيق على الطَّاعَة ﴿إِن الله كَانَ بِكُل شئ عليما﴾.
(مهلا بني عمنَا مهلا موالينا | لَا تنشبوا بَيْننَا مَا كَانَ مَدْفُونا) |
قَالَ الْحسن: لما قَالَ لَهَا: اذهبي فاقتصي مِنْهُ؛ نزل قَوْله: ﴿وَلَا تعجل بِالْقُرْآنِ من قبل أَن يقْضى إِلَيْك وحيه﴾ أَي: لَا تحكم قبل أَن ينزل حكم الله.
والقوام والقيم بِمَعْنى وَاحِد، والقوام أبلغ: وَهُوَ الْقَائِم بالمصالح وَالتَّدْبِير، قَالَ الشَّاعِر:
(الله بيني وَبَين قيمها... يفر مني وأتبع)
﴿بِمَا فضل الله بَعضهم على بعض﴾ يَعْنِي: الرِّجَال على النِّسَاء بِالْعقلِ، وَالْعلم، والحلم. ﴿وَبِمَا أَنْفقُوا من أَمْوَالهم﴾ يَعْنِي: بِإِعْطَاء الْمهْر، وَالنَّفقَة.
﴿فالصالحات قانتات﴾ يَعْنِي: مطيعات، وَقيل: مصليات ﴿حافظات للغيب﴾ أَي: حافظات للفروج فِي غيبَة الْأزْوَاج ﴿بِمَا حفظ الله﴾ يَعْنِي: بِمَا حفظهن الله من إيصاء الْأزْوَاج بأَدَاء حقهن من الْمهْر وَالنَّفقَة، وَقيل: مَعْنَاهُ: حافظات للغيب بِحِفْظ الله، وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَر الْمدنِي " بِمَا حفظ الله " بِفَتْح الْهَاء يَعْنِي: بِمَا حفظ الله من طاعتهن وعبادتهن.
﴿واللاتي تخافون نشوزهن﴾ النُّشُوز: هُوَ الشقاق (فعظوهن) أَي: بالتخويف من الله، والوعظ بالْقَوْل، ﴿واهجروهن فِي الْمضَاجِع﴾ قَالَ ابْن عَبَّاس: وَمَعْنَاهُ: ولوهن ظهوركم فِي الْمضَاجِع؛ وَذَلِكَ بِأَن يوليها ظَهره فِي الْفراش، وَلَا يكلمها، وَقيل: مَعْنَاهُ: أَن يعتزل عَنْهَا فِي فرَاش آخر.
﴿واضربوهن﴾ يعْنى: ضربا غير مبرح، وَذَلِكَ ضرب، لَيْسَ فِيهِ جرح وَلَا كسر، قَالَ عَطاء: ضرب بِالسِّوَاكِ وَنَحْوه. ﴿فَإِن أطعنكم فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلا﴾ يَعْنِي: بالتعلل، والتجني، وَقيل: فَلَا تكلفوهن محبتكم؛ فَإِن الْقلب لَيْسَ بأيديهن ﴿إِن الله كَانَ عليا كَبِيرا﴾ أَي: متعاليا عَن أَن يُكَلف الْعباد مَا لَا يطيقُونَهُ، وَفِي الْخَبَر: " لَو جَازَ أَن يسْجد أحد لأحد لأمرت الزَّوْجَة أَن تسْجد لزَوجهَا؛ لما لَهُ عَلَيْهَا من الْحُقُوق ".
وروى مَرْفُوعا: " خير النِّسَاء من إِذا دخلت عَلَيْهَا سرتك، وَإِن أَمَرتهَا أَطَاعَتك وَإِن غبت عَنْهَا حفظتك ".
(إِذا مت فارميني إِلَى جنب كرمة... أَخَاف إِذا مَا مت أَن لَا أذوقها) أَي: أتيقن.
﴿وبالوالدين إحسانا﴾ أَي: وأحسنوا بالوالدين إحسانا، وَمن الْإِحْسَان بالوالدين: لين الْجَانِب، وَألا يرفع صَوته فَوق صوتهما، وَلَا يجبهُ بِالرَّدِّ، وَيكون لَهما كَالْعَبْدِ الذَّلِيل لسَيِّده ﴿وبذي الْقُرْبَى﴾ أَي: أَحْسنُوا بِذِي الْقُرْبَى {واليتامى وَالْمَسَاكِين
وَقد ورد فِي حق الْجَار أَخْبَار، مِنْهَا: مَا روى عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " مَا زَالَ جِبْرِيل يوصيني بالجار، حَتَّى ظَنَنْت أَنه سيورثه " وَقَالَ: " من كَانَ يُؤمن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر فَلَا يؤذ جَاره "، وَقَالَ لمناديه حَتَّى نَادَى: " أَلا إِن الْجِيرَان أَرْبَعُونَ دَارا، وَلم يُؤمن بِاللَّه من آذَى جَاره ".
وَقَالَت عَائِشَة لرَسُول الله: " إِن لي جارين، فَإلَى أَيهمَا أهدي؟ فَقَالَ: إِلَى أقربهما بَابا " فَحق الْجَار الْقَرِيب الْمُسلم ثَلَاثَة حُقُوق: حق الْقَرَابَة، وَحقّ الْإِسْلَام، وَحقّ الْجوَار، وللجار الْغَرِيب الْمُسلم حقان: حق الْإِسْلَام، وَحقّ الْجوَار، وللجار الذِّمِّيّ حق وَاحِد، وَهُوَ حق الْجوَار.
قَوْله تَعَالَى: ﴿والصاحب بالجنب﴾ قَالَ عَليّ، وَابْن مَسْعُود: هِيَ الْمَرْأَة، وَقَالَ الْحسن، وَمُجاهد، وَقَتَادَة، وَجَمَاعَة: هُوَ الرفيق فِي السّفر، ﴿وَابْن السَّبِيل﴾ فِيهِ
﴿وَمَا ملكت أَيْمَانكُم﴾ يَعْنِي: أَحْسنُوا إِلَى المماليك، وَآخر مَا حفظ عَن رَسُول الله أَنه قَالَ: " الصَّلَاة، وَمَا ملكت أَيْمَانكُم " أَي: الزموا الصَّلَاة، وَحقّ مَا ملكت أَيْمَانكُم.
﴿إِن الله لَا يحب من كَانَ مختالا فخورا﴾ المختال: المتكبر، والفخور: الَّذِي يفخر بِنَفسِهِ تكبرا، قَالَ الشَّاعِر:
(وَإِن كنت سيدنَا سدتنا | وَإِن كنت للخال فَاذْهَبْ فَخَل) |
﴿وَمن يكن الشَّيْطَان لَهُ قرينا فسَاء قرينا﴾ أَي: فبئس القرين، قَالَ الشَّاعِر:
(عَن الْمَرْء لَا تسْأَل وبصر قرينه | فَكل قرين بالمقارن يَقْتَدِي) |
(تيممت قيسا وَكم دونه | من الأَرْض من مهمة ذِي شزن) |
قيل: قَالَ ذَلِك لإلزام الْحجَّة، وَقيل: سماهم بذلك على زعمهم أَنهم أهل الْكتاب.
﴿يشْتَرونَ الضَّلَالَة﴾ لأَنهم لما استبدلوا الضَّلَالَة بِالْهدى، فكأنهم اشْتَروا الضَّلَالَة بِالْهدى، وكل مُشْتَر مستبدل.
{ويريدون أَن تضلوا السَّبِيل
﴿واسمع غير مسمع﴾ قَالَ ابْن عَبَّاس: كَانُوا يَقُولُونَ لرَسُول الله: اسْمَع، ثمَّ يَقُولُونَ فِي أنفسهم: لَا سَمِعت، فَهَذَا مَعْنَاهُ، وَقَالَ الْحسن: اسْمَع غير مسمع مِنْك، يَعْنِي: اسْمَع منا، وَلَا نسْمع مِنْك ﴿وراعنا﴾ كَانُوا يَقُولُونَ ذَلِك، ويريدون بِهِ: النِّسْبَة إِلَى الرعونة، فَذَلِك معنى قَوْله: ﴿ليا بألسنتهم وطعنا فِي الدّين﴾ ؛ لِأَن قَوْلهم: رَاعنا من المراعاة، فَلَمَّا حرفوه إِلَى الرعونة، فَذَلِك معنى قَوْله: ( ﴿ليا بألسنتهم﴾ وَلَو أَنهم قَالُوا سمعنَا وأطعنا واسمع وانظرنا) أَي: انْظُر إِلَيْنَا ﴿لَكَانَ خيرا لَهُم وأقوم﴾ أَي: أعدل (وَلَكِن لعنهم الله بكفرهم فَلَا يُؤمنُونَ إِلَّا قَلِيلا) فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا فَلَا يُؤمنُونَ إِلَّا إِيمَانًا قَلِيلا، لَا يسْتَحقُّونَ بِهِ اسْم الْإِيمَان؛ وَذَلِكَ أَنهم يُؤمنُونَ بِاللَّه، وَالْآخِرَة، ومُوسَى، وَقيل: مَعْنَاهُ: فَلَا يُؤمنُونَ إِلَّا نفر قَلِيل مِنْهُم، وَأَرَادَ بِهِ: عبد الله بن سَلام، وقوما مِنْهُم أَسْلمُوا.
فَإِن قَالَ قَائِل: قد أوعد الْيَهُود بالطمس إِن لم يسلمُوا، وَلم يطمس وُجُوههم، فَكيف ذَلِك؟ قيل: هَذَا كَانَ فِي قوم معدودين أَسْلمُوا، وَذَلِكَ: عبد الله بن سَلام، وثعلبة بن سعيد، وَأَوْس بن سعيد، والمحيريق، وَجَمَاعَة، وَلَو لم يسلمُوا لطمسوا.
وَقيل: أَرَادَ بِهِ: الطمس فِي الْقِيَامَة، قَالَ مُجَاهِد: أَرَادَ بقوله ﴿نطمس وُجُوهًا﴾ أَي: نتركهم فِي الضَّلَالَة؛ فَيكون المُرَاد طمس الْقلب ﴿أَو نلعنهم كَمَا لعنا أَصْحَاب السبت﴾ أَي: نجعلهم قردة كَمَا جعلنَا أَصْحَاب السبت قردة ﴿وَكَانَ أَمر الله مَفْعُولا﴾.
قيل أَرَادَ بِهِ: يغْفر الذُّنُوب جَمِيعًا سوى الشّرك.
وَفِي الْخَبَر: " أَنه لما قَرَأَ قَوْله تَعَالَى: ﴿إِن الله يغْفر الذُّنُوب جَمِيعًا﴾ فَقَالَ رجل: والشرك يَا رَسُول الله؟ فَنزل قَوْله تَعَالَى ﴿إِن الله لَا يغْفر أَن يُشْرك بِهِ﴾.
﴿وَلَا يظْلمُونَ فتيلا﴾ أَي: لَا ينقص من أُجُورهم شئ إِن أَسْلمُوا، وَلَا من أوزارهم إِن لم يسلمُوا. والفتيل والقطمير والنقير: ثَلَاثَة أسامي مَذْكُورَة فِي الْقُرْآن فالفتيل: اسْم لما يكون فِي شقّ النواة، والقطمير: اسْم للقشرة الَّتِي تكون على النواة، والنقير: اسْم للنقطة الَّتِي تكون على ظهر النواة، هَذَا قَول ابْن عَبَّاس، وَقَالَ غَيره: الفتيل من الفتل، وَهُوَ اسْم لما يحصل من الْوَسخ بَين الإصبعين عِنْد الفتل، قَالَ الشَّاعِر:
(تجمع الْجَيْش ذَا الألوف وتغزو | ثمَّ لَا ترزأ الْعَدو فتيلا) |
﴿وَيَقُولُونَ للَّذين كفرُوا هَؤُلَاءِ أهْدى من الَّذين آمنُوا سَبِيلا﴾ هَذَا قَول جمَاعَة من الْيَهُود وحضروا موسم الْحَج، فَقَالَ لَهُم الْمُشْركُونَ: نَحن أحسن طَريقَة أم مُحَمَّد وَأَصْحَابه؟ فَقَالُوا: أَنْتُم. وَهَذَا دَلِيل على شدَّة معاندة الْيَهُود؛ حَيْثُ فضلوا الْمُشْركين على الْمُسلمين، مَعَ علمهمْ أَنهم لم يُؤمنُوا بِشَيْء من الْكتب، وَأَن الْمُسلمين آمنُوا بالكتب الْمُتَقَدّمَة.
وَمعنى الْآيَة: أَنهم إِن حسدوا الرَّسُول بِمَا أُوتى من الْفضل، فليحسدوا آل إِبْرَاهِيم؛ فَإِنَّهُم قد أُوتُوا الْكتاب وَالْحكمَة ﴿وآتيناهم ملكا عَظِيما﴾ اخْتلفُوا فِي الْملك الْعَظِيم: فَمن فسر الْفضل بتحليل الزَّوْجَات، فسر الْملك الْعَظِيم بِهِ أَيْضا، وَقد كَانَ لداود تسع وَتسْعُونَ امْرَأَة، ولسليمان مائَة امْرَأَة، وَقيل: كَانَ لِسُلَيْمَان سَبْعمِائة امْرَأَة، وثلثمائة سَرِيَّة، وَقيل: أعْطى نَبينَا صلوَات الله عَلَيْهِ قُوَّة سبعين شَابًّا فِي المباضعة.
وَقيل: الْملك الْعَظِيم: ملك سُلَيْمَان، وَقيل: المُرَاد بِهِ تأييدهم بالجنود من الْمَلَائِكَة.
(تجْعَل الْمسك واليلنجوج والند | صلاء لَهَا على الكانون) |
وَقَالَ الْحسن: فِي كل يَوْم سبعين ألف مرّة.
فَإِن قيل: إِذا بدلت جُلُودهمْ، فَكيف يعذب غير الْجلد الَّذِي كَانَ فِي الدُّنْيَا؟ قيل: إِنَّمَا يعذب الشَّخْص فِي الْجلد دون الْجلد، وَقيل: يُعَاد الْجلد الأول فِي كل مرّة، إِلَّا أَنه سَمَّاهُ جلدا غَيره، وَمثله جَائِز، تَقول الْعَرَب: صغت من خَاتمِي خَاتمًا غَيره، وَإِن كَانَ الثَّانِي إِعَادَة للْأولِ، وَفِي الْخَبَر: " أَن بصر جلد الْكَافِر فِي النَّار أَرْبَعُونَ ذِرَاعا يَعْنِي: غلظه وضرسه مثل جبل أحد، وَمَا بَين مَنْكِبَيْه مسيرَة ثَلَاثَة أَيَّام ".
وَفِي الْأَخْبَار: " يكون عَلَيْهِ مائَة جلد، بَين كل جلدين لون من الْعَذَاب " ﴿إِن الله كَانَ عَزِيزًا حكيما﴾ عَزِيزًا: غَالِبا. حكيما: فِيمَا دبر،
وَفِي الْخَبَر أَنه قَالَ: " أد الْأَمَانَة إِلَى من ائتمنك، وَلَا تخن من خانك ". وروى عَن ابْن عَبَّاس، عَن النَّبِي أَن قَالَ: " لَا إِيمَان لمن لَا أَمَانَة لَهُ، وَلَا دين لمن لَا عهد لَهُ
وَسبب نزُول الْآيَة مَا روى: " أَن رَسُول الله لما فتح مَكَّة، أَخذ مِفْتَاح الْكَعْبَة من عُثْمَان بن طَلْحَة، وَفتح الْبَاب، وَدخل الْكَعْبَة، فَلَمَّا خرج، قَالَ الْعَبَّاس: بِأبي أَنْت وَأمي يَا رَسُول الله، اجْمَعْ لي بَين السدَانَة والسقاية فهم رَسُول الله أَن يدْفع الْمِفْتَاح إِلَيْهِ؛ فَنزل قَوْله تَعَالَى: ﴿إِن الله يَأْمُركُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَات إِلَى أَهلهَا﴾، فَدَعَا رَسُول الله عُثْمَان بن طَلْحَة، وَدفع إِلَيْهِ الْمِفْتَاح، وَقَالَ: خذوها يَا بني طَلْحَة، خالدة تالدة، لَا يَنْزِعهَا عَنْكُم إِلَّا ظَالِم " وَكَانَ مَعَ عُثْمَان حَيَاته، فَلَمَّا توفّي دَفعه إِلَى أَخِيه شيبَة، فَهُوَ فِي بني شيبَة إِلَى قيام السَّاعَة.
﴿وَإِذا حكمتم بَين النَّاس أَن تحكموا بِالْعَدْلِ﴾ أَي: بِالْقِسْطِ ﴿إِن الله نعما يعظكم بِهِ إِن الله كَانَ سميعا بَصيرًا﴾.
وَقَالَ عِكْرِمَة: أَرَادَ بِهِ: أَبَا بكر وَعمر.
﴿فَإِن تنازعتم فِي شئ فَردُّوهُ إِلَى الله وَالرَّسُول﴾ التَّنَازُع: هُوَ التشاجر، سمى تنَازعا؛ لِأَن كل وَاحِد من الْخَصْمَيْنِ ينْزع بِحجَّة وَآيَة.
وَقَوله: ﴿فَردُّوهُ إِلَى الله﴾ يعْنى: إِلَى الْكتاب، وَإِلَى الرَّسُول إِن كَانَ حَيا، وَإِلَى سنته إِن كَانَ مَيتا.
وَالرَّدّ إِلَى الْكتاب وَالسّنة وَاجِب، مَا دَامَ فِي الْحَادِثَة شئ من الْكتاب وَالسّنة، فَإِن لم يكن فالسبيل فِيهِ الِاجْتِهَاد، وروى أَن مسلمة بن عبد الْملك قَالَ لرجل: إِنَّكُم أمرْتُم أَن تطيعونا، فَقَالَ الرجل: قد نَزعهَا الله مِنْكُم؛ حَيْثُ قَالَ: ﴿فَإِن تنازعتم فِي شئ فَردُّوهُ إِلَى الله وَالرَّسُول﴾ وَقد تنازعتم، فَقَالَ مسلمة: أَيْن الله؟ فَقَالَ: الْكتاب، وَقَالَ: أَيْن الرَّسُول؟ فَقَالَ: السّنة.
وَقيل: الرَّد إِلَى الله وَالرَّسُول: أَن يَقُول الرجل فِيمَا لَا يدرى: الله وَرَسُوله أعلم، وَهَذَا قَول حسن ﴿إِن كُنْتُم تؤمنون بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر ذَلِك خير وَأحسن تَأْوِيلا﴾ أَي: أحسن مآل وعاقبة.
فِي الْآيَة قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنه فِي جمَاعَة من الْمُنَافِقين مِنْهُم خلاس بن الصَّامِت، كَانَت لَهُم خُصُومَة مَعَ جمَاعَة من الْمُسلمين، فَقَالَ الْمُسلمُونَ: نَتَحَاكَم إِلَى الرَّسُول، وَقَالَ المُنَافِقُونَ: نَتَحَاكَم إِلَى الكهنة.
وَالْقَوْل الثَّانِي - وَهُوَ الْأَصَح: " أَن رجلا من الْيَهُود خَاصم رجلا من الْمُنَافِقين،
يَقُول الله تَعَالَى: فَكيف الْحَال إِذا أَصَابَتْهُم مُصِيبَة بِمَا قدمت أَيْديهم ﴿ثمَّ جاءوك يحلفُونَ بِاللَّه إِن أردنَا إِلَّا إحسانا وتوفيقا﴾ قيل: هُوَ إِحْسَان بَعضهم إِلَى بعض، وَقيل أَرَادوا بِالْإِحْسَانِ: تقريب الْأَمر من الْحق، لَا الْقَضَاء على مر الحكم.
وَأما التَّوْفِيق: مُوَافقَة الْحق، وَقيل: هُوَ التَّأْلِيف وَالْجمع بَين الْخَصْمَيْنِ. وَمعنى الْآيَة: أَن الْمُنَافِقين يحلفُونَ مَا أردنَا بالتحاكم إِلَى غَيْرك إِلَّا إحسانا وتوفيقا.
وقِي الْآيَة قَول آخر: أَنَّهَا فِي الْمُنَافِقين، حلفوا فِي الْمَسْجِد الَّذِي بنوا ضِرَارًا على مَا هُوَ مَذْكُور قي سُورَة التَّوْبَة ﴿وَلَيَحْلِفُنَّ إِن أردنَا إِلَّا الْحسنى﴾.
قيل مَعْنَاهُ: فَأَعْرض عَن عقوبتهم، وعظهم.
وَقيل: مَعْنَاهُ: فَأَعْرض عَن قبُول عذرهمْ، وعظهم ﴿وَقل لَهُم فِي أنفسهم قولا بليغا﴾ القَوْل البليغ: هُوَ مَا يبلغ الْإِنْسَان بِلِسَانِهِ كنه مَا فِي قلبه، وَقيل: هُوَ التخويف بِاللَّه تَعَالَى وَقيل: هُوَ أَن يَقُول: إِن رجعتم إِلَى هَذَا، فأمركم الْقَتْل.
﴿وَلَو أَنهم﴾ يَعْنِي: الْمُنَافِقين ﴿إِذا ظلمُوا أنفسهم﴾ يعْنى: بالتحاكم إِلَى الطاغوت ﴿جاءوك فاستغفروا الله﴾ لأَنهم مَا جَاءُوا مستغفرين، وَإِنَّمَا جَاءُوا معتذرين بالأعذار الكاذبة.
قَوْله: ﴿فاستغفروا الله﴾ أَي: سَأَلُوا مغْفرَة الله، ﴿واستغفر لَهُم الرَّسُول﴾ أَي: دَعَا لَهُم الرَّسُول بالاستغفار ﴿لوجدوا الله تَوَّابًا رحِيما﴾.
(هم الْحُكَّام أَرْبَاب الندي... وسراة النَّاس إِذْ الْأَمر شجر) أَي: اخْتلف، (ثمَّ لَا يَجدوا فِي أنفسهم حرجا مِمَّا قضيت) أَي: ضيقا، وَمِنْه الحرجة، روى أَن عمر - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ لبَعض الْعَرَب: مَا الحرجة عنْدكُمْ؟ قَالَ: هِيَ شَجَرَة ملتفة، لَا يصل المَاء إِلَيْهَا.
وَمن ذَلِك قَوْله - تَعَالَى -: ﴿يَجْعَل صَدره ضيقا حرجا﴾ أَي: يضيق مسلكه بِحَيْثُ لَا تصل إِلَيْهِ الْهِدَايَة ﴿ويسلموا تَسْلِيمًا﴾ وَمعنى الْآيَة: لَا يكمل إِيمَانهم حَتَّى يرْضوا بحكمك، وينقادوا لَك، قيل: هَذِه أبلغ آيَة فِي كتاب الله - تَعَالَى - فِي الْوَعيد.
وَاخْتلفُوا فِي سَبَب نزُول الْآيَة، قَالَ عَطاء، وَمُجاهد: الْآيَة فِي الْمُنَافِقين الَّذين تحاكموا إِلَى الطاغوت، وَقَالَ عبد الله بن الزبير، وَعُرْوَة بن الزبير، وَجَمَاعَة: " الْآيَة نزلت فِي رجل من الْأَنْصَار يُقَال لَهُ: حَاطِب بن أبي بلتعة - وَكَانَ من أهل بدر - خَاصم الزبير بن الْعَوام فِي مَاء أَرض عِنْد النَّبِي، فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام - للزبير: اسْقِ أَرْضك المَاء ثمَّ أرْسلهُ إِلَى جَارك، وَكَانَت أَرض الْأنْصَارِيّ دون أرضه؛ فَقَالَ الْأنْصَارِيّ: أَن كَانَ ابْن عَمَّتك، فَتَلَوَّنَ وَجه النَّبِي، وَقَالَ للزبير: اسْقِ أَرْضك، واحبس المَاء حَتَّى يبلغ الْجدر " - وَفِي رِوَايَة - حَتَّى يبلغ الْكَعْبَيْنِ ثمَّ سرحه يمر "
كَانَ النَّبِي ساهل فِي حق الزبير فِي ابْتِدَاء الْأَمر، فَلَمَّا أغضبهُ الْأنْصَارِيّ استوعب جَمِيع حَقه، وكلا الْحكمَيْنِ كَانَ حَقًا، وَفِي الْخَبَر: قَالَ الزبير: " احسب أَن قَوْله: ﴿فَلَا وَرَبك لَا يُؤمنُونَ﴾ نزل فِي هَذَا.
وروى أَن الْيَهُود لما بَلغهُمْ ذَلِك، قَالُوا: انْظُرُوا إِلَى أَصْحَاب مُحَمَّد كَيفَ يخالفونه، وَإِن مُوسَى عتب علينا، فَأمرنَا بقتل أَنْفُسنَا، فَقَتَلْنَا أَنْفُسنَا حَتَّى بلغ الْقَتْلَى سبعين ألفا.
وَيقْرَأ " إِلَّا قَلِيلا مِنْهُم " فَمن قَرَأَ بِالرَّفْع؛ فَلِأَنَّهُ مَعْطُوف على قَوْله: ﴿مَا فَعَلُوهُ﴾ وَذَلِكَ فِي مَحل الرّفْع، وَتَقْدِيره: مَا فَعَلُوهُ إِلَّا نفر قَلِيل مِنْهُم فَعَلُوهُ. وَمن قَرَأَ بِالنّصب، فعلى الِاسْتِثْنَاء.
﴿وَلَو أَنهم فعلوا مَا يوعظون بِهِ﴾ يعْنى: من طَاعَة الرَّسُول، وَالرِّضَا لحكمه (لَكَانَ خيرا لَهُم وَأَشد تثبيتا) أَي: تَصْدِيقًا
وروى: أَن رجلا قَالَ: لرَسُول الله أَنْت أحب إِلَى من أَهلِي وَمَالِي وَوَلَدي، وَإِذا غبت عَنى يُصِيبنِي شبه الْجُنُون، حبا لَك، فَكيف حَالي مَعَك فِي الْجنَّة؟ فَنزلت الْآيَة " ﴿فَأُولَئِك مَعَ الَّذين أنعم الله عَلَيْهِم من النَّبِيين﴾ قيل: ذَلِك بِأَن ينزل إِلَيْهِم النَّبِيُّونَ؛ حَتَّى يروهم، لَا أَن يرفعوا إِلَى درجاتهم، وَقيل: مَعْنَاهُ: أَنهم لَا يفوتهُمْ رُؤْيَة النَّبِيين ومجالستهم، وَقَوله: ﴿وَالصديقين﴾ يعْنى: أَصْحَاب رَسُول الله، وَالصديق المبالغ فِي الصدْق، ﴿وَالشُّهَدَاء﴾ الَّذين اسْتشْهدُوا يَوْم أحد.
وَاخْتلفُوا فِي أَنهم لم سموا شُهَدَاء؟ قَالَ بَعضهم: لأَنهم قَامُوا بِشَهَادَة الْحق حَتَّى قتلوا، وَقيل: لِأَن أَرْوَاحهم تشهد الْجنَّة عقيب الْقَتْل، ﴿وَالصَّالِحِينَ﴾ الصَّالح: من اسْتَوَت سريرتيه عَلَانِيَته ﴿وَحسن أُولَئِكَ رَفِيقًا﴾ الرفيق: الْوَاحِد، وَهُوَ بِمَعْنى الْجمع هَاهُنَا ﴿ذَلِك الْفضل من الله وَكفى بِاللَّه عليما﴾.
وَهَذَا دَلِيل على أَن الْجِهَاد فرض على الْكِفَايَة، وَقيل إِن الْآيَة صَارَت مَنْسُوخَة؛
وَقيل: هَذَا فِي عبد الله بن أبي بن سلول ﴿فَإِن أَصَابَتْكُم مُصِيبَة﴾ يعْنى: بِالْقَتْلِ وَالْجرْح فِي الْجِهَاد ﴿قَالَ قد أنعم الله على إِذْ لم أكن مَعَهم شَهِيدا﴾ أَي: حَاضرا
قَالَ الْأَزْهَرِي: معنى الْآيَة: لَا تقاتلون فِي سَبِيل الله، وَفِي سَبِيل الْمُسْتَضْعَفِينَ؛ بتخليصهم من أَيدي الْمُشْركين ﴿من الرِّجَال وَالنِّسَاء والولدان الَّذين يَقُولُونَ رَبنَا أخرجنَا من هَذِه الْقرْيَة﴾ وَهِي مَكَّة بِاتِّفَاق الْمُفَسّرين ﴿الظَّالِم أَهلهَا﴾ أَي: الْمُشرك أَهلهَا ﴿وَاجعَل لنا من لَدُنْك وليا﴾ أَي: من يَلِي أمرنَا {وَاجعَل لنا من لَدُنْك
﴿فَلَمَّا كتب عَلَيْهِم الْقِتَال﴾ يعْنى: بعد الْهِجْرَة ﴿إِذا فريق مِنْهُم يَخْشونَ النَّاس كخشية الله أَو أَشد خشيَة﴾ أَي: يَخْشونَ النَّاس كخشيتهم من الله، أَو أَشد خشيَة، قَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ: مَا كَانُوا يَخْشونَ أَمر الله بِالْقِتَالِ، وَإِنَّمَا ذَلِك: خشيَة طبع البشرية.
﴿وَقَالُوا رَبنَا لم كتبت علينا الْقِتَال لَوْلَا أخرتنا إِلَى أجل قريب﴾ أَي: هلا أخرتنا إِلَى أجل قريب؛ فنموت بآجالنا، قيل: هَذَا قَول الْمُنَافِقين، وَقيل: كَانَ ذَلِك قَول بعض
﴿قل مَتَاع الدُّنْيَا قَلِيل﴾ يعْنى: أَن مَا تستمتعون بِهِ من الدُّنْيَا فَهُوَ قَلِيل، وَفِي الْخَبَر الْمَعْرُوف: " مَا الدُّنْيَا فِي الْآخِرَة إِلَّا كَمَا يغمس أحدكُم الْمخيط فِي الْبَحْر، فَلْينْظر بِمَ يرجع؟ ! " ﴿وَالْآخِرَة خير لمن اتَّقى وَلَا تظْلمُونَ فتيلا﴾ أَي: لَا ينقص من أجرهم شئ، وَلَا مِقْدَار الفتيل.
﴿وَإِن تصبهم حَسَنَة يَقُولُوا هَذِه من عِنْد الله وَإِن تصبهم سَيِّئَة يَقُولُوا هَذِه من عنْدك﴾ فالحسنة: الخصب، والسيئة: الجدب، وَقيل الْحَسَنَة: النَّصْر، وَالظفر يَوْم بدر، والسيئة: الْهَزِيمَة وَالْقَتْل يَوْم أحد، وَمعنى الْآيَة: أَن الْمُسلمين إِذا أَصَابَتْهُم حَسَنَة، فَقَالَ الْكفَّار: هَذَا من عِنْد الله وَإِن تصبهم سَيِّئَة قَالُوا هَذَا من عنْدك أَي: بشؤمك؛ وَذَلِكَ أَن النَّبِي لما قدم الْمَدِينَة أصَاب أَهلهَا نوع سوء؛ فَقَالَت الْيَهُود: مَا رَأينَا أشأم
﴿قل كل من عِنْد الله﴾ أَي: الخصب، والجدب، والنصر، والهزيمة، كل من عِنْد الله، ﴿فَمَا لهَؤُلَاء الْقَوْم لَا يكادون يفقهُونَ حَدِيثا﴾ أَي: مَا لَهُم لَا يعلمُونَ حَدِيثا. والْحَدِيث: الْقُرْآن هَاهُنَا، أَي: لَا يعلمُونَ مَعَاني الْقُرْآن.
وَالْخطاب وَإِن كَانَ مَعَ الرَّسُول، فَالْمُرَاد بِهِ: الْأمة؛ وَذَلِكَ معنى قَوْله - تَعَالَى -: ﴿وَمَا أَصَابَكُم من مُصِيبَة فبمَا كسبت أَيْدِيكُم﴾ قيل مَعْنَاهُ: وَمَا أَصَابَك من حَسَنَة أَيهَا الْإِنْسَان فَمن الله، وَمَا أَصَابَك من سَيِّئَة، فَمن نَفسك؛ فَيكون الْخطاب مَعَ كل أحد من النَّاس، وَقيل: مَعْنَاهُ ﴿مَا أَصَابَك من حَسَنَة﴾ أَي: من النَّصْر، وَالظفر فَمن فضل الله ﴿وَمَا أَصَابَك من سَيِّئَة﴾ أَي: من هزيمَة، وَقتل يَوْم أحد ﴿فَمن نَفسك﴾ أَي: بذنب نَفسك من مُخَالفَة النَّبِي كَمَا سبق.
فَإِن قيل: كَيفَ وَجه الْجمع بَين الْآيَتَيْنِ، فَإِنَّهُ قد قَالَ - فِي الْآيَة الأولى -: ﴿قل كل من عِنْد الله﴾ قيل: معنى الْآيَة الأولى: أَن الخصب والجدب والنصر والهزيمة
وَاعْلَم أَنه لَيْسَ فِي الْآيَة مُتَعَلق لأهل الْقدر أصلا؛ فَإِن الْآيَة فِيمَا يُصِيب النَّاس من النعم والمحن، لَا فِي الطَّاعَات والمعاصي؛ إِذْ لَو كَانَ المُرَاد مَا توهموا، لقَالَ: مَا أصبت من حَسَنَة، فَمن الله وَمَا أصبت من سَيِّئَة؛ فَلَمَّا قَالَ: مَا أَصَابَك من حَسَنَة وَمَا أَصَابَك من سَيِّئَة؛ دلّ أَنه أَرَادَ: مَا يُصِيب الْعباد من النعم والمحن، لَا فِي الطَّاعَات والمعاصي، وَحكى عبد الْوَهَّاب بن مُجَاهِد، عَن مُجَاهِد، أَن ابْن عَبَّاس قَرَأَ: " وَمَا أَصَابَك من سَيِّئَة فَمن نَفسك وَأَنا كتبتها عَلَيْك " وَكَذَا حكى عَن ابْن مَسْعُود أَنه قَرَأَ كَذَلِك، وَهُوَ مَعْرُوف عَن ابْن عَبَّاس، وَهُوَ يُؤَيّد قَوْلنَا: إِن المُرَاد: بذنب نَفسك.
وَفِي الْآيَة قَول آخر: مُضْمر فِيهِ، وَتَقْدِيره: فَمَال هَؤُلَاءِ الْقَوْم لَا يكادون يفقهُونَ حَدِيثا؛ يَقُولُونَ: مَا أَصَابَك من حَسَنَة، فَمن الله، وَمَا أَصَابَك من سَيِّئَة، فَمن نَفسك فَيكون حِكَايَة لقَوْل الْكفَّار ﴿وأرسلناك للنَّاس رَسُولا وَكفى بِاللَّه شَهِيدا﴾.
(بيتوا أَمرهم بلَيْل فَلَمَّا | أَصْبحُوا أَصْبحُوا على ضوضاء) |
وَقَالَ الزّجاج: مَا أخبر عَن الْغَيْب فكله صدق، لَيْسَ بعضه صدقا، وَبَعضه كذبا، وَقيل: مَعْنَاهُ: أَن كُله بليغ صَحِيح، لَيْسَ فِيهِ مرذول وَلَا فَاسد.
وَفِي الْآيَة إِضْمَار، وتقديرها: وَإِذا جَاءَهُم أَمر من الْأَمْن قصروا فِي الْإِخْبَار بِهِ، وكتموا، [وَإِذا] جَاءَهُم أَمر من الْخَوْف أذاعوا بِهِ ﴿وَلَو روده إِلَى الرَّسُول﴾ قيل أَرَادَ بقوله: ﴿وَلَو ردُّوهُ﴾ يَعْنِي: ضعفة الْمُسلمين الَّذين سمعُوا تِلْكَ الْأَخْبَار من الْمُنَافِقين قَالُوا مثل قَوْلهم؛ فَقَالَ الله تَعَالَى: ﴿وَلَو ردُّوهُ إِلَى الرَّسُول﴾ وَيحْتَمل أَن يكون المُرَاد بِهِ فِي الْكَلَام الْمُؤمنِينَ وَالْمُنَافِقِينَ، لَو ردُّوهُ إِلَى الرَّسُول.
﴿وَإِلَى أولي الْأَمر مِنْهُم﴾ يَعْنِي: إِلَى أُمَرَاء السَّرَايَا ﴿لعلمه الَّذين يستنبطونه مِنْهُم﴾ يَعْنِي: لَو طلبُوا تِلْكَ الْأَخْبَار من عِنْد أُمَرَاء السَّرَايَا، ووكلوا الْإِخْبَار بهَا إِلَيْهِم؛ لعلمه الَّذين يحبونَ أَن يعلموه على حَقِيقَته كَمَا هُوَ، والاستنباط: هُوَ اسْتِخْرَاج الْعلم وَمِنْه النبط، وهم قوم يستخرجون المَاء، وَقيل: أَرَادَ بِهِ الْعلمَاء يَعْنِي: وَلَو ردُّوهُ إِلَى الرَّسُول، وَإِلَى أولي الْأَمر مِنْهُم لعلم الَّذين يستنبطونه مِنْهُم مَا يَنْبَغِي أَن
﴿وَلَوْلَا فضل الله عَلَيْكُم وَرَحمته لاتبعتم الشَّيْطَان إِلَّا قَلِيلا﴾ فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ اسْتثْنى الْقَلِيل، وَلَوْلَا فَضله لاتبع الْكل الشَّيْطَان؟ قيل: اخْتلفُوا فِيهِ، قَالَ الْفراء: هَذَا الِاسْتِثْنَاء رَاجع إِلَى قَوْله: ﴿أذاعوا بِهِ﴾ إِلَّا قَلِيلا، وَقَوله: ﴿وَلَوْلَا فضل الله عَلَيْكُم وَرَحمته لَا تبعتم الشَّيْطَان﴾، كَلَام تَامّ، وَقيل: هُوَ رَاجع إِلَى قَوْله: ﴿لعلمه الَّذين يستنبطونه مِنْهُم﴾ ثمَّ قَالَ: ﴿وَلَوْلَا فضل الله عَلَيْكُم وَرَحمته لَا تبعتم الشَّيْطَان﴾ وَقيل: هُوَ على نظمه، وَمَعْنَاهُ: وَلَوْلَا مَا تفضل الله عَلَيْكُم بِهِ من الْبَيَان لما يَنْبَغِي أَن يفعل وَمَا يَنْبَغِي أَن يجْتَنب ﴿لاتبعتم الشَّيْطَان إِلَّا قَلِيلا﴾.
وَفِيه قَول رَابِع: أَنه أَرَادَ بِالْقَلِيلِ: قوما اهتدوا بِالْحَقِّ قبل بعث الرَّسُول، وإنزال الْقُرْآن، وأقروا بِالتَّوْحِيدِ، وَذَلِكَ مثل: زيد بن عَمْرو بن نفَيْل، وورقة بن نَوْفَل، وَجَمَاعَة، وَقد قَالَ فِي زيد بن عَمْرو بن نفَيْل: " إِنَّه يبْعَث أمة على حِدة ".
قَوْله: ﴿يكن لَهُ نصيب مِنْهَا﴾ أَي: من أجرهَا، وَقَوله: ﴿يكن لَهُ كفل مِنْهَا﴾ أَي: من وزرها، والكفل: النَّصِيب، قَالَ الله تَعَالَى: ﴿يُؤْتكُم كِفْلَيْنِ من رَحمته﴾ أَي نَصِيبين.
وَاعْلَم أَن الْإِنْسَان يُؤجر على الشَّفَاعَة، وَإِن لم يشفع؛ لِأَن الله تَعَالَى يَقُول: ﴿من يشفع﴾، وَلم يقل: من يشفع، وَقد روى أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيّ عَن رَسُول الله أَنه قَالَ: " اشفعوا تؤجروا، وَيَقْضِي الله على لِسَان نبيه مَا شَاءَ ".
وَاعْلَم أَن الشَّفَاعَة مُسْتَحبَّة فِي كل الْحُقُوق إِلَّا فِي حُدُود الله تَعَالَى؛ فَإِنَّهُ لَا يجوز فِيهَا الشَّفَاعَة ليترك الْحَد، وَقد قَالَ: " من شفع فِي حد من حُدُود من الله تَعَالَى فقد ضاد الله فِي ملكه " أَي: نازعه فِي ملكه.
﴿وَكَانَ الله على كل شَيْء مقيتا﴾ قَالَ ابْن عَبَّاس: المقيت: المقتدر، قَالَ الشَّاعِر:
(وَذي ضغن كَفَفْت النَّفس عَنهُ | وَكنت على مساءته مقيتا) |
(وَلكُل مَا نَالَ الْفَتى | قد نلته إِلَّا التَّحِيَّة) |
(إِنَّا محيوك يَا سلمى فحيينا | وَإِن سقيت كرام النَّاس فاسقينا) |
وَفِي الْخَبَر: " أَن رجلا جَاءَ، فَسلم على النَّبِي، فَقَالَ: وَعَلَيْكُم السَّلَام وَرَحْمَة الله، فَدخل آخر وَقَالَ: السَّلَام عَلَيْك وَرَحْمَة الله، فَقَالَ: وَعَلَيْكُم السَّلَام وَرَحْمَة الله
وَاعْلَم أَن السَّلَام، سنة ورد السَّلَام فَرِيضَة، لكنه فرض على الْكِفَايَة، حَتَّى إِذا سلم على جمَاعَة فَرد أحدهم؛ سقط الْفَرْض عَن البَاقِينَ، وَكَذَلِكَ السَّلَام سنة على الْكِفَايَة، حَتَّى إِذا كَانَت جمَاعَة، فَسلم أحدهم كفى فِي السّنة. وروى الْحسن مُرْسلا عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " السَّلَام سنة ورده فَرِيضَة ".
وَقَالَ بعض الْمُفَسّرين: أَرَادَ بالتحية: الهبات والهدايا، وَقَوله: ﴿فَحَيوا بِأَحْسَن مِنْهَا﴾ أَرَادَ بِهِ: الثَّوَاب على الْهَدِيَّة، وَهُوَ سنة، " وَكَانَ عَلَيْهِ السَّلَام يقبل الْهَدِيَّة، ويثيب عَلَيْهَا "، وَالأَصَح هُوَ القَوْل الأول.
﴿إِن الله كَانَ على شئ حسيبا﴾ أَي: محاسبا، وَقيل كَافِيا، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: ﴿جَزَاء من رَبك عَطاء حسابا﴾ أَي: كَافِيا.
وَاخْتلفُوا: لم سميت الْقِيَامَة قِيَامَة؟ قَالَ بَعضهم: لِأَن النَّاس يقومُونَ فِيهَا إِلَى رب الْعَالمين، كَمَا قَالَ الله تعالي: ﴿يَوْم يقوم النَّاس لرب الْعَالمين﴾ وَقيل: إِن النَّاس يقومُونَ فِيهَا إِلَى الْحساب. ﴿وَمن أصدق من الله حَدِيثا﴾ أَي: قولا وخبرا.
وَقَالَ مُجَاهِد: الْآيَة فِي جمَاعَة من أهل مَكَّة هَاجرُوا إِلَى الْمَدِينَة، وَأَسْلمُوا، ثمَّ اسْتَأْذنُوا رَسُول الله فِي الرُّجُوع إِلَى مَكَّة، بعلة أَن لَهُم بهَا بضائع؛ فَرَجَعُوا، وَارْتَدوا فَقَالَ بعض أَصْحَابه: هم مُسلمُونَ؛ لأَنهم تكلمُوا بِالْإِسْلَامِ، وَقَالَ بَعضهم: هم قد نافقوا؛ فَنزل قَوْله تَعَالَى: ﴿فَمَا لكم فِي الْمُنَافِقين فئتين﴾ وَحكى مُجَاهِد هَذَا عَن ابْن عَبَّاس.
وَالْقَوْل الثَّالِث وَهُوَ الرِّوَايَة الثَّانِيَة عَن ابْن عَبَّاس: أَن الْآيَة فِي قوم من الْمُشْركين أَسْلمُوا بِمَكَّة، وَكَانُوا يعاونون الْمُشْركين، ويظاهرونهم؛ فَاخْتلف الصَّحَابَة فيهم
وَقَرَأَ ابْن مَسْعُود ﴿وَالله ركسهم﴾ قَالَ الزّجاج: مَعْنَاهُ: نكسهم، وَقَالَ النَّضر بن شُمَيْل: مَعْنَاهُ: أعادهم، يعْنى: إِلَى الْكفْر بِمَا كسبوا، وَمِنْه: الركس؛ لِأَنَّهُ كَانَ طَعَاما فَصَارَ رجيعا.
﴿أتريدون أَن تهدوا من أضلّ الله﴾ يعْنى: أتريدون أَن ترشدوا من أضلّهُ الله ﴿وَمن يضلل الله﴾ يعْنى: وَمن يضلله ﴿فَلَنْ تَجِد لَهُ سَبِيلا﴾ أَي: طَرِيقا إِلَى الْحق.
﴿فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُم أَوْلِيَاء﴾ مَنعهم من الْمُوَالَاة مَعَهم ﴿حَتَّى يهاجروا فِي سَبِيل الله﴾ أَي: حَتَّى يسلمُوا ﴿فَإِن توَلّوا﴾ يعْنى: فِي الْكفْر ﴿فخذوهم﴾ أَي: فأسروهم، وَالْأَخْذ هَاهُنَا: الْأسر، وَيُقَال للأسير: أخيذ ﴿واقتلوهم حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُم وليا وَلَا نَصِيرًا﴾.
(إِذا اتَّصَلت قَالَت لبكر بن وَائِل | وَبكر سباها والأنوف رواغم) |
وَأنكر أهل الْمعَانِي هَذَا على أَبى عبيده، وَقَالُوا: هَذَا لَا يَسْتَقِيم فِي معنى هَذَا الِاسْتِثْنَاء الْمَنْع من الْقَتْل، وَمَا كَانَ الْمَنْع لأجل النِّسْبَة، فَإِن النَّبِي كَانَ يُقَاتل الْمُشْركين من قُرَيْش، وَإِن كَانُوا من نسبه، بل معنى قَوْله: ﴿إِلَّا الَّذين يصلونَ﴾ أَي:
وَذَلِكَ هِلَال بن عُوَيْمِر الْأَسْلَمِيّ، وَقَومه، وَكَانَ الله - تَعَالَى - منع من قتل أُولَئِكَ مِمَّن اتَّصل بهم، وَفِي ذمامهم ﴿أَو جاءوكم﴾ أَو يصلونَ بِقوم جاءوكم للمعاهدة وَالْمُوَادَعَة، ﴿حصرت صُدُورهمْ﴾ ضَاقَتْ، فضاقت صُدُورهمْ من الْقِتَال مَعكُمْ، وَمن معاونتكم على الْقِتَال مَعَ قَومهمْ؛ لأجل الرعب الَّذِي ألْقى الله - تَعَالَى - فِي قُلُوبهم، وَقَرَأَ الْحسن - وَهُوَ قِرَاءَة يَعْقُوب وَسَهل - " حصرة صُدُورهمْ " على الْحَال، أَي: ضيقَة صُدُورهمْ، قَالَ الْمبرد: حصرت صُدُورهمْ على سَبِيل الدُّعَاء، كَقَوْلِه: ﴿قَاتلهم الله﴾ كَأَن الله - تَعَالَى - يَقُول: ﴿حصرت صُدُورهمْ أَن يُقَاتِلُوكُمْ أَو يقاتلوا قَومهمْ﴾ على سَبِيل الدُّعَاء.
﴿وَلَو شَاءَ الله لسلطهم عَلَيْكُم﴾ معنى هَذَا: أَن الله - تَعَالَى - هُوَ الَّذِي ألْقى الرعب فِي قُلُوبهم، وكفهم عَن قتالكم، حَتَّى جَاءُوا معاهدين، وَلَو شَاءَ الله لسلطهم عَلَيْكُم ﴿فلقاتلوكم﴾ ؛ فَإِذا لَا تقاتلوهم وَمن اتَّصل بهم ﴿فَإِن اعتزلوكم فَلم يُقَاتِلُوكُمْ وألقوا إِلَيْكُم السّلم﴾ يعْنى: الصُّلْح فانقادوا، واستسلموا ﴿فَمَا جعل الله لكم عَلَيْهِم سَبِيلا﴾ أَي: طَرِيقا عَلَيْهِم بِالْقَتْلِ والقتال.
وَقَالَ قَتَادَة: أَرَادَ بِهِ: سراقَة بن مَالك بن جعْشم، لما جَاءَ إِلَى النَّبِي، وَقَالَ: أَنا مِنْكُم، ثمَّ رَجَعَ إِلَى قومه، فَقَالَ أَنا مِنْكُم.
﴿يُرِيدُونَ أَن يأمنوكم ويأمنوا قَومهمْ﴾ أَي: يُرِيدُونَ أَن يأمنوا مِنْكُم، وَمن قَومهمْ. ﴿كلما ردوا إِلَى الْفِتْنَة أركسوا فِيهَا﴾ أَي كلما دعوا إِلَى الشّرك دخلُوا فِيهِ.
﴿فَإِن لم يعتزلوكم ويلقوا إِلَيْكُم السّلم﴾ يَعْنِي: القيادة والاستسلام ﴿ويكفوا أَيْديهم فخذوهم﴾ أَي: فأسروهم ﴿واقتلوهم حَيْثُ ثقفتموهم﴾ وَجَدْتُمُوهُمْ، ﴿وأولئكم جعلنَا لكم عَلَيْهِم سُلْطَانا مُبينًا﴾ حجَّة بَيِّنَة بِالْقَتْلِ والقتال.
﴿ودية مسلمة إِلَى أَهله﴾ يَعْنِي: سلمُوا الدِّيَة إِلَى أَهله، وَظَاهر الْآيَة يَقْتَضِي أَن تكون الدِّيَة قي قتل الْخَطَأ فِي مَال الْقَاتِل، كالكفارة، لَكِن عرفنَا بِالسنةِ أَن الْكَفَّارَة فِي مَال الْقَاتِل وَالدية على الْعَاقِلَة.
وَقَوله: ﴿إِلَّا أَن يصدقُوا﴾ يَعْنِي: أَن يتصدقوا، وَقَرَأَ أبي بن كَعْب كَذَلِك، وَمعنى التَّصَدُّق: الْعَفو عَن الدِّيَة ﴿فَإِن كَانَ من قوم عَدو لكم وَهُوَ مُؤمن فَتَحْرِير رَقَبَة﴾
﴿وَإِن كَانَ من قوم بَيْنكُم وَبينهمْ مِيثَاق﴾ هَذَا فِي أهل الذِّمَّة والمعاهدين ﴿فديَة مسلمة إِلَى أَهله﴾ يَعْنِي: على الْقدر الَّذِي اخْتلف فِيهِ ﴿وتحرير رَقَبَة مُؤمنَة فَمن لم يجد فَصِيَام شَهْرَيْن مُتَتَابعين تَوْبَة من الله﴾ يَعْنِي: ليتوبوا إِلَى الله ﴿وَكَانَ الله عليما حكيما﴾.
(قتلت بِهِ فهرا وحملت عقله | سراة بني النجار أَرْبَاب فارع) |
(فأدركت ثَأْرِي واضطجعت مُوسِرًا | وَكنت إِلَى الْأَوْثَان أول رَاجع) |
وَقَالَ زيد بن ثَابت: الشَّدِيدَة بعد الهينة بِسِتَّة أشهر، يَعْنِي بالهينة آيَة الْفرْقَان، وبالشديدة هَذِه الْآيَة.
وروى حميد، عَن أنس، عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " أَبى الله تَعَالَى أَن يكون لقَاتل الْمُؤمن تَوْبَة " وَفِي الْخَبَر عَن النَّبِي: " لقتل الْمُؤمن أعظم عِنْد الله من زَوَال الدُّنْيَا ".
وَالأَصَح، وَالَّذِي عَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ وَهُوَ مَذْهَب أهل السّنة: أَن لقَاتل الْمُؤمن عمدا تَوْبَة، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: ﴿وَإِنِّي لغفار لمن تَابَ وآمن﴾ وَقَوله: ﴿وَيغْفر مَا دون ذَلِك لمن يَشَاء﴾ وَلِأَن الْقَتْل الْعمد لَيْسَ بأشد من الْكفْر، وَمن
وَاعْلَم أَن لَا مُتَعَلق فِي هَذِه الْآيَة لمن يَقُول بالتخليد فِي النَّار لأهل الْكَبَائِر من الْمُسلمين؛ لأَنا إِن نَظرنَا إِلَى سَبَب نزُول الْآيَة، فالآية نزلت فِي قَاتل كَافِر كَمَا بَينا، وَقيل: إِنَّه فِيمَن يقتل مستحلا، وَالْأولَى أَن تَقول فِيهِ مَا قَالَه أَبُو صَالح: إِن معنى قَوْله: ﴿فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّم خَالِدا فِيهَا﴾ إِن جازى، وَبِه نقُول: إِن الله تَعَالَى إِن جازاه ذَلِك خَالِدا، فَهُوَ جَزَاؤُهُ، وَلكنه رُبمَا لَا يجازي، وَقد وعد أَن لَا يجازى وَيغْفر لمن يَشَاء، وَهُوَ لَا يخلف الميعاد، وَحكى عَن قُرَيْش بن أنس رَحمَه الله أَنه قَالَ: كنت فِي مجْلِس فِيهِ عَمْرو بن عبيد، فَقَالَ: لَو قَالَ الله لي يَوْم الْقِيَامَة: لم قلت بتخليد الْقَاتِل الْمُتَعَمد فِي النَّار؟ فَأَقُول لَهُ: أَنْت الَّذِي قلت: ﴿فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّم خَالِدا فِيهَا﴾ قَالَ قُرَيْش: وَكنت أَصْغَر الْقَوْم، فَقلت لَهُ: أَرَأَيْت لَو قَالَ الله تَعَالَى لَك: أَلَسْت قلت ﴿وَيغْفر مَا دون ذَلِك لمن يَشَاء﴾ فَمن أَيْن علمت أَنى لم أشأ مغْفرَة الْقَاتِل؟ فَسكت وَلم يسْتَطع الْجَواب.
وَحكى أَن عَمْرو بن عبيد جَاءَ إِلَى أبي عَمْرو بن الْعَلَاء رَحمَه الله وَقَالَ لَهُ: هَل يخلف الله وعده؟ فَقَالَ: لَا، فَقَالَ: أَلَيْسَ قد قَالَ الله تَعَالَى: ﴿وَمن يقتل مُؤمنا مُتَعَمدا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّم خَالِدا فِيهَا﴾ فَأَنا على هَذَا؛ لِأَنَّهُ لَا يخلف وعده، فَقَالَ أَبُو عَمْرو: وَمن العجمة أتيت يَا أَبَا عُثْمَان؛ إِن الْعَرَب لَا تعد الإخلاف فِي الْوَعيد خلفا
(إِنِّي إِذا أوعدته وعدته | لمخلف إيعادي ومنجز موعدي) |
(وَإِذا وعد السَّرَّاء أنْجز وعده | وَإِن وعد الضراء فالعفو مانعه) |
وَفِي الْخَبَر: " التأني من الله، والعجلة من الشَّيْطَان " ﴿فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقولُوا لمن ألْقى إِلَيْكُم السَّلَام لست مُؤمنا﴾ يقْرَأ " إِلَيْكُم السَّلَام " وَيقْرَأ " إِلَيْكُم السّلم "، فالسلام: هُوَ التَّسْلِيم الْمَعْهُود، وَالسّلم: المقادة والاستسلام، وَالسّلم: الصُّلْح، وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَر الْمدنِي يزِيد بن الْقَعْقَاع: " لست مُؤمنا " من الْأمان ﴿تَبْتَغُونَ عرض الْحَيَاة الدُّنْيَا﴾ يَعْنِي: تَبْتَغُونَ الدُّنْيَا، وَفِي الْآثَار: " الدُّنْيَا عرض حَاضر، يَأْكُل مِنْهَا الْبر والفاجر، وَالْآخِرَة وعد صَادِق، يقْضِي فِيهَا ملك قَادر ".
وَفِي رِوَايَة أَن النَّبِي اسْتغْفر لأسامة، وَأمره بِإِعْتَاق رَقَبَة وَكَانَ أُسَامَة من علية الصَّحَابَة، وعاش إِلَى زمَان على - رضى الله عَنهُ - فَدَعَاهُ على إِلَى الْمُقَاتلَة مَعَه فِي الحروب، فَقَالَ لعلى: أَنْت أعز على من كل أحد، وَلَو قَاتَلت الْمُسلمين مَعَ أحد لقاتلت مَعَك، وَلَكِنِّي مُنْذُ سَمِعت رَسُول الله قَالَ لي: كَيفَ بِلَا إِلَه إِلَّا الله يَوْم الْقِيَامَة، امْتنعت من الْقِتَال، فَإِن أَعْطَيْتنِي سَيْفا يُمَيّز الْمُسلم من الْكَافِر حَتَّى أقَاتل فَتَركه على.
وَكَانَ مِمَّن اعتزل الْفَرِيقَيْنِ هُوَ وَسعد بن أبي وَقاص، وَزيد بن ثَابت، وَعبد الله بن عمر رَضِي الله عَنْهُم أَجْمَعِينَ.
وَقيل: إِن قَاتل صَاحب الغنيمات، كَانَ الْمِقْدَاد بن عَمْرو الْكِنْدِيّ - هُوَ ابْن الْأسود - هَذَا هُوَ القَوْل الْمَعْرُوف فِي سَبَب نزُول الْآيَة، وَفِي الْآيَة قَول آخر: " أَنَّهَا نزلت فِي محلم بن جثامة اللَّيْثِيّ، قتل رجلا وَهُوَ يَقُول: لَا إِلَه إِلَّا الله، ثمَّ جَاءَ إِلَى النَّبِي، وَقَالَ: يَا رَسُول الله، اسْتغْفر لي، فَقَالَ: لَا غفر الله لَك، فَقَامَ يبكي، وَانْصَرف، فَلَمَّا مَاتَ دفن فِي الأَرْض، فلفظته الأَرْض، ثمَّ دفن فلفظته الأَرْض، ثمَّ دفن فلفظته الأَرْض - هَكَذَا ثَلَاثًا - فَأمر النَّبِي حَتَّى ألقِي عَلَيْهِ الْحِجَارَة، قَالَ: إِن الأَرْض لتنطبق على من هُوَ شَرّ مِنْهُ - يعْنى من محلم -، وَلَكِن الله - تَعَالَى - أَرَادَ أَن يريكم الْآيَة ".
﴿غير أولي الضَّرَر﴾ يقْرَأ على وُجُوه: " غير " - بِرَفْع الرَّاء - وَتَقْدِيره: لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ الَّذين هم غير أولي الضَّرَر، وَيقْرَأ: بِفَتْح الرَّاء، على الِاسْتِثْنَاء، يعْنى: إِلَّا أولي الضَّرَر، وَقيل: هُوَ نصب على الْحَال، يعْنى: فِي حَال الصِّحَّة، وَانْتِفَاء الضَّرَر، كَأَنَّهُ قَالَ: لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ من الْمُؤمنِينَ أصحاء، وَهَذَا أشهر الْقِرَاءَتَيْن، وَكَذَلِكَ قَرَأَ النَّبِي " غير أولي الضَّرَر " - بِكَسْر الرَّاء يعْنى -، من الْمُؤمنِينَ غير أولي الضَّرَر، ﴿فضل الله الْمُجَاهدين بِأَمْوَالِهِمْ وأنفسهم على القاعدين دَرَجَة﴾ أَرَادَ بالقاعدين هَاهُنَا: أولى الضَّرَر، فضل الْمُجَاهدين عَلَيْهِم بِدَرَجَة؛ لِأَن الْمُجَاهدين باشروا الْجِهَاد مَعَ النِّيَّة، وَأولُوا الضَّرَر كَانَت لَهُم نِيَّة الْجِهَاد، وَلَكِن لم يباشروا؛ فنزلوا عَنْهُم بِدَرَجَة ﴿وكلا وعد الله الْحسنى﴾ يعْنى: الْجنَّة ﴿وَفضل الله الْمُجَاهدين على القاعدين أجرا عَظِيما﴾ وَأَرَادَ بالقاعدين هُنَا: غير أولي الضَّرَر، فضل الله الْمُجَاهدين عَلَيْهِم أجرا عَظِيما
الْجمع، وَالْمرَاد بِهِ الْوَاحِد، وَمثله شَائِع فِي كَلَام الْعَرَب، وَقيل: إِن لملك الْمَوْت أعوانا، فَلَعَلَّهُ أَرَادَهُ مَعَ أعوانه؛ فَلذَلِك ذكر بِلَفْظ الْجمع.
قَالَ عِكْرِمَة وَالضَّحَّاك: الْآيَة فِي قوم أَسْلمُوا بِمَكَّة قبل الْهِجْرَة، فَلَمَّا هَاجر النَّبِي إِلَى الْمَدِينَة، تخلفوا عَن الْهِجْرَة، فَلَمَّا كَانَ يَوْم بدر حملهمْ الْكفَّار مَعَ أنفسهم إِلَى بدر كرها، فَقتلُوا بَين الْكفَّار.
وَقَوله ﴿ظالمي أنفسهم﴾ يعْنى: بالشرك؛ فَإِنَّهُم قتلوا مُشْرِكين؛ إِذْ مَا كَانَ يقبل الْإِسْلَام بعد هِجْرَة النَّبِي إِلَّا بِالْهِجْرَةِ، ثمَّ أُبِيح ذَلِك بقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام -: " لَا هِجْرَة بعد الْفَتْح ".
﴿قَالُوا فيمَ كُنْتُم﴾ يعْنى: الْمَلَائِكَة قَالُوا لأولئك الَّذين أَسْلمُوا وَلم يهاجروا: ﴿فيمَ كُنْتُم﴾ يعْنى: فِي أَي الْفَرِيقَيْنِ كُنْتُم، فِي الْمُسلمين أم الْمُشْركين؟ وَهَذَا سُؤال توبيخ، لَا سُؤال استعلام ﴿قَالُوا كُنَّا مستضعفين فِي الأَرْض﴾ يعْنى: كُنَّا بِمَكَّة مستضعفين بَين الْمُشْركين ﴿قَالُوا﴾ يعْنى: الْمَلَائِكَة ﴿ألم تكن أَرض الله وَاسِعَة فتهاجروا فِيهَا﴾ يعْنى: إِلَى الْمَدِينَة ﴿فَأُولَئِك مأواهم جَهَنَّم وَسَاءَتْ مصيرا﴾ حكم لَهُم بالنَّار؛ لأَنهم مَاتُوا مُشْرِكين
قَالَ ابْن عَبَّاس: كنت أَنا وَأمي من الْمُسْتَضْعَفِينَ بِمَكَّة، وهم الَّذين دَعَا لَهُم النَّبِي فِي الْقُنُوت، فَقَالَ: " اللَّهُمَّ انج الْوَلِيد بن الْوَلِيد وَسَلَمَة بن هِشَام، وَعَيَّاش بن أبي ربيعَة وَالْمُسْتَضْعَفِينَ بِمَكَّة، وأشدد وطأتك على مُضر، هَكَذَا كَانَ يدعوا لَهُم
﴿وَكَانَ الله عفوا غَفُورًا﴾ روى: أَنه لما نزلت هَذِه الْآيَة، كتب بهَا أَصْحَاب رَسُول الله إِلَى الْمُسْتَضْعَفِينَ بِمَكَّة، وَكَانَ فيهم شيخ كَبِير يُقَال لَهُ: جندع بن ضَمرَة وَيُقَال لَهُ حبيب بن ضَمرَة فَقَالَ: لست من الْمُسْتَضْعَفِينَ، وَأَنا أعرف طَرِيق الْمَدِينَة، وَقَالَ لِبَنِيهِ: احْمِلُونِي إِلَى الْمَدِينَة، فَحَمَلُوهُ يأْتونَ بِهِ، فَلَمَّا بلغ التَّنْعِيم؛ أدْركهُ الْمَوْت، فَبلغ ذَلِك أَصْحَاب رَسُول الله فَقَالُوا: لَو وصل إِلَى الْمَدِينَة لأتمم الله أجره؛ فَنزل قَوْله تَعَالَى: ﴿وَمن يخرج من بَيته مُهَاجرا إِلَى الله وَرَسُوله ثمَّ يُدْرِكهُ الْمَوْت فقد وَقع أجره على الله﴾ يعْنى: تمّ أجره.
(كطود يلوذ بأركانه... عَزِيز المراغم والمهرب)
وَقَالَ ابْن عَبَّاس: مراغما، أَي: متحولا يتَحَوَّل إِلَيْهِ، وَقَالَ مُجَاهِد: مراغما، أَي: متزحزحا، وَقَوله: ﴿وسعة﴾ قَالَ ابْن عَبَّاس: مَعْنَاهُ: وسعة فِي الرزق، قَالَ قَتَادَة:
﴿وَمن يخرج من بَيته مُهَاجرا إِلَى الله وَرَسُوله ثمَّ يُدْرِكهُ الْمَوْت فقد وَقع أجره على الله﴾ قد ذكرنَا أَنه فيمَ نزل ﴿وَكَانَ الله غَفُورًا رحِيما﴾.
قصر الصَّلَاة فِي السّفر لَا خلاف فِي جَوَازه فِي حَال الْخَوْف، وَأما فِي حَال الْأَمْن: قَالَ سعد بن أبي وَقاص: إِنَّه لَا يجوز، وَبِه قَالَ دَاوُد، وَأهل الظَّاهِر؛ تمسكا بِظَاهِر الْقُرْآن، وَقَالَ جُمْهُور الْعلمَاء وَهُوَ قَول أَكثر الْأمة -: إِنَّه يجوز الْقصر فِي حَال الْأَمْن؛ لما روى عَن يعلي بن أُميَّة أَنه قَالَ لعمر - رَضِي الله عَنهُ -: " مَا بالنا نقصر، وَقد أمنا، وَالله - تَعَالَى - يَقُول فِي كِتَابه: ﴿أَن تقصرُوا من الصَّلَاة إِن خِفْتُمْ﴾ قَالَ عمر: عجبت مِمَّا تعجبت أَنْت، فَسَأَلت النَّبِي، فَقَالَ: صَدَقَة تصدق الله بهَا عَلَيْكُم، فاقبلوا صدقته " وروى " أَن رَسُول الله سَافر من مَكَّة إِلَى الْمَدِينَة - لَا يخَاف إِلَّا الله - وَقصر الصَّلَاة " وَكَانَ - عَلَيْهِ السَّلَام - يقصر الصَّلَاة فِي جَمِيع أَسْفَاره، وَلم ينْقل أَنه أتم فِي سفر مَا؛ وَلذَلِك قَالَ الشَّافِعِي: الْقصر أولى؛ وَإِن جَازَ الْإِتْمَام.
وروى عَن جَابر، وَالْحسن - وَهُوَ قَول ابْن عَبَّاس -: أَن صَلَاة الْحَضَر أَربع رَكْعَات، وَصَلَاة السّفر رَكْعَتَانِ، وَصَلَاة الْخَوْف رَكْعَة، وروى عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: " فرض الله - تَعَالَى - الصَّلَاة على لِسَان نبيه فِي الْحَضَر أَربع رَكْعَات، وَفِي السّفر رَكْعَتَيْنِ، وَفِي
وَقَالَ بَعضهم: هُوَ وَاجِب. وَالْخلاف بَين السّلف مَشْهُور فِيهِ.
وَقَوله: ﴿إِن خِفْتُمْ أَن يَفْتِنكُم الَّذين كفرُوا﴾ أَي: يقتلكم، والفتنة بِمَعْنى: الْقَتْل هَاهُنَا، وَقَرَأَ أَبى بن كَعْب: " أَن تقصرُوا من الصَّلَاة أَن يَفْتِنكُم الَّذين كفرُوا " - من غير قَوْله: ﴿إِن خِفْتُمْ﴾ - ويروى عَن أَبى أَيُّوب الْأنْصَارِيّ أَنه قَالَ: نزل قَوْله: ﴿فَلَيْسَ عَلَيْكُم جنَاح أَن تقصرُوا من الصَّلَاة﴾ هَذَا الْقدر فَحسب، ثمَّ مضى حول، وَلم ينزل شئ؛ فَسئلَ رَسُول الله عَن صَلَاة الْخَوْف، ثمَّ نزل قَوْله: ( ﴿إِن خِفْتُمْ أَن يَفْتِنكُم الَّذين كفرُوا إِن الْكَافرين كَانُوا لكم عدوا مُبينًا﴾ وَإِذا كنت فيهم فأقمت لَهُم الصَّلَاة) فَأَشَارَ إِلَى أَنه رَاجع إِلَى صَلَاة الْخَوْف، لَا إِلَى صَلَاة السّفر.
وَقد روى عَن رَسُول الله صَلَاة الْخَوْف بروايات شَتَّى، وَأخذ الشَّافِعِي بِرِوَايَة صَالح بن خَوات بن جُبَير عَن أَبِيه عَن النَّبِي: " أَنه صلى صَلَاة الْخَوْف، فَجعل أَصْحَابه فرْقَتَيْن، وَصلى بِإِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ رَكْعَة، فَقَامُوا، وَأَتمُّوا رَكْعَتَيْنِ، وذهبوا إِلَى وَجه الْعَدو؛ وَجَاءَت الطَّائِفَة الثَّانِيَة وَالنَّبِيّ ينتظرهم، فصلى بهم الرَّكْعَة الثَّانِيَة وانتظرهم جَالِسا حَتَّى قَامُوا وَأَتمُّوا رَكْعَتَيْنِ، ثمَّ سلم بهم " فَهَذَا معنى قَوْله: ﴿فلتقم طَائِفَة مِنْهُم مَعَك وليأخذوا أسلحتهم﴾.
وَاخْتلفُوا فِي أَنهم مَتى يَأْخُذُونَ أسلحتهم؟ قَالَ بَعضهم: يأخذونه فِي الصَّلَاة؛ ليكونوا أهيب فِي عين الْعَدو؛ فعلى هَذَا يَأْخُذُونَ من السِّلَاح مَا لَا يمنعهُم من الْإِتْيَان بأركان الصَّلَاة، وَقَالَ آخَرُونَ: يَأْخُذُونَ السِّلَاح إِذا ذَهَبُوا إِلَى وَجه الْعَدو.
﴿فَإِذا سجدوا﴾ يعْنى: فَإِذا صلوا {فليكونوا من وَرَائِكُمْ ولتأت طَائِفَة أُخْرَى لم
﴿وَلَا جنَاح عَلَيْكُم إِن كَانَ بكم أَذَى من مطر أَو كُنْتُم مرضى أَن تضعوا أسلحتكم﴾ رخص لَهُم فِي وضع السِّلَاح فِي حَال الْمَطَر، وَالْمَرَض؛ لِأَن السِّلَاح يثقل حمله فِي هَاتين الْحَالَتَيْنِ. ﴿وخذوا حذركُمْ إِن الله أعد للْكَافِرِينَ عذَابا مهينا﴾.
(قَاتل الْقَوْم يَا خزاع وَلَا يدخلنكم... )
(من قِتَالهمْ، فَشد الْقَوْم أمثالكم لَهُم | شعر فِي الرَّأْس لَا ينشرون إِن قتلوا) |
(لَا ترتجي إِذا تلاقى الزائدا | أسبعة تلقى مَعًا أم وَاحِدًا) |
﴿فَمن يُجَادِل الله عَنْهُم يَوْم الْقِيَامَة أم من يكون عَلَيْهِم وَكيلا﴾ يَعْنِي: من الَّذِي يتَوَلَّى أَمرهم، ويذب عَنْهُم يَوْم الْقِيَامَة؟
﴿إِلَّا من أَمر بِصَدقَة﴾ قيل: أَرَادَ بِهِ إِلَّا نجوى من أَمر بِصَدقَة، وَقيل: هُوَ اسْتثِْنَاء مُنْقَطع، يعْنى: لَكِن من أَمر بِصَدقَة ﴿أَو مَعْرُوف﴾ وَهُوَ كل مَا عرفه الشَّرْع {أَو
وروى: أَن رَسُول الله قَالَ لأبى أَيُّوب الْأنْصَارِيّ: " أَلا أدلك على صَدَقَة هِيَ خير لَك من حمر النعم - أَي: من الصَّدَقَة بحمر النعم؟ - قَالَ: بلَى يَا رَسُول الله، فَقَالَ: أَن تصلح بَين النَّاس إِذا تفاسدوا، وَأَن تقرب بَينهم إِذا تباعدوا ".
﴿وَمن يفعل ذَلِك ابْتِغَاء مرضات الله فَسَوف نؤتيه أجرا عَظِيما﴾.
قَالَ سعيد بن جُبَير: إِنَّه لما لحق بِمَكَّة سرق هُنَالك، فَوجدَ فِي نقب يسرق، فَقتل.
وَفِي بعض الْقَصَص: أَنه حِين لحق بِمَكَّة نزل على الْحجَّاج بن غلاط الْأَسْلَمِيّ، فَقَامَ فِي بعض اللَّيْل يسرق، فأحسوا بِهِ، فَأَخَذُوهُ واجتمعوا عَلَيْهِ، وَقَالُوا: إِنَّه ضيف، وتركوه؛ فلحق بحرة بني سليم، وَكَانَ يعبد الْأَصْنَام، وَمَات عَلَيْهِ؛ فَفِيهِ نزلت الْآيَة ﴿وَمن يُشَاقق الرَّسُول من بعد مَا تبين لَهُ الْهدى وَيتبع غير سَبِيل الْمُؤمنِينَ﴾ لِأَنَّهُ لما ارْتَدَّ، فقد اتبع غير سَبِيل الْمُؤمنِينَ.
وَاسْتدلَّ أهل الْعلم بِهَذِهِ الْآيَة على أَن الْإِجْمَاع حجَّة.
قَوْله: ﴿نوله مَا تولى﴾ أَي: نوله مَا اخْتَارَهُ، وَقيل: نكله إِلَى (من) تولاه ﴿ونصله جَهَنَّم وَسَاءَتْ مصيرا﴾.
قَالَ الضَّحَّاك: أَرَادَ بِهِ: الْمَلَائِكَة، وَكَانُوا يَقُولُونَ: الْمَلَائِكَة إناث، وَكَانَ بَعضهم
(إِذا أكلت سمكًا وفرضا | ذهبت طولا وَذَهَبت عرضا) |
(قد تخللت مَسْلَك الرّوح منى | وبذا سمى الْخَلِيل خَلِيلًا) |
(وَإِن أَتَاهُ خَلِيل يَوْم مَسْأَلَة | فَقَالَ لَا غَائِب مَالِي وَلَا حرم) |
(وَكنت داينت بِهِ حسانا | مَخَافَة الإفلاس والليانا) |
وَالثَّانِي وَهُوَ قَول أَكثر الْمُفَسّرين أَنه خطاب للشُّهُود، واللي مِنْهُم: تَحْرِيف الشَّهَادَة " والإعراض: كتمان الشَّهَادَة وَالْأول: قَول ابْن عَبَّاس، وَأما الْقِرَاءَة الثَّانِيَة: " وَإِن تلوا " فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَن أَصله: " وَإِن تلووا " فإدخلت إِحْدَى الواوين
وَقَالَ مُجَاهِد: هُوَ خطاب لِلْمُنَافِقين، وَمَعْنَاهُ: يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا بِاللِّسَانِ آمنُوا بِالْقَلْبِ، وَقَالَ الضَّحَّاك وَهُوَ رِوَايَة الْكَلْبِيّ عَن ابْن عَبَّاس: هُوَ خطاب لأهل الْكتاب، وَمَعْنَاهُ: يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا بمُوسَى وَعِيسَى آمنُوا بِمُحَمد ﴿وَالْكتاب الَّذِي نزل على رَسُوله﴾ يَعْنِي: الْقُرْآن ﴿وَالْكتاب الَّذِي أنزل من قبل﴾ يَعْنِي: الْكتب الْمنزلَة من قبل الْقُرْآن.
﴿وَمن يكفر بِاللَّه وَمَلَائِكَته وَكتبه وَرُسُله وَالْيَوْم الآخر فقد ضل ضلالا بَعيدا﴾ أَي: بَعيدا عَن الْحق.
وَمثل هَذَا هَل تقبل تَوْبَته؟
قَالَ عَليّ: لَا تقبل تَوْبَته؛ فَإِنَّهُ إِذا آمن، ثمَّ كفر، ثمَّ آمن، ثمَّ كفر، فَلَو أَرَادَ أَن يُؤمن
وَأكْثر أهل الْعلم على أَنه: تقبل تَوْبَته، وَيحْتَمل أَن تكون الْآيَة فِي الْمُنَافِقين، وَقوم من أهل الْكتاب، كَانُوا يُؤمنُونَ بِاللِّسَانِ، ثمَّ يرجعُونَ إِلَى الْكفْر، ثمَّ يأْتونَ، فيؤمنون، ثمَّ يرجعُونَ إِلَى الْكفْر.
﴿لم يكن الله ليغفر لَهُم﴾ فَإِن قيل: أيش معنى قَوْله - تَعَالَى -: ﴿لم يكن الله ليغفر لَهُم﴾، وَمَعْلُوم أَن الله لَا يغْفر الْكفْر؟ قيل: أجَاب النقاش فِي تَفْسِيره أَن مَعْنَاهُ: أَن الْكَافِر إِذا أسلم، يغْفر لَهُ كفره السَّابِق، فَهَذَا الَّذِي أسلم، ثمَّ كفر ثمَّ أسلم، ثمَّ كفر، لَا يغْفر كفره السَّابِق الَّذِي كَانَ يغْفر لَو ثَبت على الْإِسْلَام ﴿وَلَا يهْدِيهم سَبِيلا﴾ أَي: طَرِيقا إِلَى الْحق.
يعْنى: وضعت السَّوْط مَعَ التَّحِيَّة، قَالَ الشَّاعِر:
(وخيل قد دلفت بهَا لخيل | تَحِيَّة بَينهم ضرب وجيع) |
(النازلين بِكُل معترك | والطيبون [معاقد] الأزر) |
فَإِن قَالَ قَائِل: لم قدم ذكر عِيسَى، وَهُوَ مُتَأَخّر؟ قيل: " الْوَاو " لَا توجب التَّرْتِيب، وَإِنَّمَا هِيَ للْجمع، وَقيل: ذكره اهتماما بأَمْره، وَكَانَ أَمر عِيسَى أهم ﴿وآتينا دَاوُد زبورا﴾ قَرَأَ حَمْزَة: " زبورا " - بِضَم الزَّاي - فالزبور: فعول بِمَعْنى الْمَفْعُول، وَهُوَ الْكتاب الَّذِي أنزل الله - تَعَالَى - على دَاوُد، فِيهِ التَّحْمِيد، والتمجيد، وثناء الله - تَعَالَى -، وَالزَّبُور: الْكِتَابَة، والزبرة قِطْعَة الْحَدِيد، وَيُقَال: مَا لَهُ زبر أَي: مَا لَهُ عقل، وَأما الزبُور: جمع الزبر.
قَالَ الْفراء، وثعلب: إِن الْعَرَب تسمى مَا توصل إِلَى الْإِنْسَان: كلَاما، بِأَيّ طَرِيق وصل إِلَيْهِ، وَلَكِن لَا تحَققه بِالْمَصْدَرِ، فَإِذا حقق الْكَلَام بِالْمَصْدَرِ، لم تكن إِلَّا حَقِيقَة الْكَلَام، وَهَذَا كالإرادة، يُقَال: أَرَادَ فلَان إِرَادَة، فَيكون حَقِيقَة الْإِرَادَة، وَلَا يُقَال: أَرَادَ الْجِدَار أَن يسْقط إِرَادَة، وَإِنَّمَا يُقَال: أَرَادَ الْجِدَار، من غير ذكر الْمصدر؛ لِأَنَّهُ مجَاز، فَلَمَّا حقق الله كَلَامه مُوسَى بالتكليم، عرف أَنه حَقِيقَة الْكَلَام من غير وَاسِطَة، قَالَ ثَعْلَب: وَهَذَا دَلِيل من قَول الْفراء أَنه مَا كَانَ يَقُول بِخلق الْقُرْآن.
فَإِن قَالَ قَائِل: بِأَيّ شئ عرف مُوسَى أَنه كَلَام الله؟ قيل: بتعريف الله - تَعَالَى - إِيَّاه، وإنزال آيَة عرف مُوسَى بِتِلْكَ الْآيَة أَنه كَلَام الله - تَعَالَى -، وَهَذَا مَذْهَب أهل السّنة أَنه سمع كَلَام الله حَقِيقَة، بِلَا كَيفَ، وَقَالَ وَائِل بن دَاوُد: معنى قَوْله: ﴿وكلم الله مُوسَى تكليما﴾ أَي: مرَارًا، كلَاما بعد كَلَام.
﴿وَكَانَ الله عَزِيزًا﴾ أَي: مقتدرا على معاونة الْخلق (حكيما) ببعث الرُّسُل. وَفِي حَدِيث أبي الدَّرْدَاء أَنه قَالَ: " سَأَلت رَسُول الله عَن عدد الْأَنْبِيَاء فَقَالَ: مائَة وَأَرْبَعَة وَعِشْرُونَ ألفا، فَقلت: كم الرُّسُل مِنْهُم؟ قَالَ: ثلثمِائة وَخَمْسَة عشر [جما غفيرا] ".
﴿وَالْمَلَائِكَة يشْهدُونَ وَكفى بِاللَّه شَهِيدا﴾ فَإِن قيل: إِذا شهد الله لَهُ بالرسالة، فَأَي حَاجَة إِلَى شَهَادَة الْمَلَائِكَة؟ قيل: لِأَن الَّذين حَضَرُوا عِنْد النَّبِي، كَانَ عِنْدهم أَنهم عُلَمَاء الأَرْض؛ فَقَالُوا: نَحن عُلَمَاء الأَرْض، وَنحن ننكر رِسَالَتك، فَقَالَ الله تَعَالَى: إِن أنكرهُ عُلَمَاء الأَرْض، يشْهد بِهِ عُلَمَاء السَّمَاء، وهم الْمَلَائِكَة، على مُقَابلَة زعمهم وظنهم؛ لَا للْحَاجة إِلَى شَهَادَتهم؛ فَإِنَّهُ قَالَ: ﴿وَكفى بِاللَّه شَهِيدا﴾.
وَقيل: ذكره تَأْكِيدًا ﴿لم يكن الله ليغفر لَهُم﴾ فِي هَذَا إِشَارَة إِلَى أَن الله - تَعَالَى - لَو غفر للْكَافِرِينَ أجمع، كَانَ يسع ذَلِك رَحمته، لكنه قطع القَوْل بِأَن لَا يغْفر لَهُم،
﴿وَلَا ليهديهم طَرِيقا﴾ يعْنى: الْإِسْلَام
الغلو غير مَحْمُود فِي الدّين، روى ابْن عَبَّاس عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " إيَّاكُمْ والغلو فِي الدّين؛ فَإِنَّمَا هلك من كَانَ قبلكُمْ بالغلو ".
﴿وَلَا تَقولُوا على الله إِلَّا الْحق إِنَّمَا الْمَسِيح عِيسَى ابْن مَرْيَم رَسُول الله وكلمته﴾ وَقد بَينا أَقْوَال الْعلمَاء فِي كَونه " كلمة " وَجُمْلَته ثَلَاثَة أقاويل: أَحدهَا: أَنه بكلمته، وَهِي قَوْله: كن، فَكَانَ، وَالثَّانِي: أَنه يَهْتَدِي بِهِ، كَمَا يَهْتَدِي بِكَلِمَة الله، الثَّالِث: كَلمته: بشارته الَّتِي بشر بهَا فِي الْكتب " يكون عِيسَى " فَهَذَا معنى قَوْله: ( ﴿وكلمته﴾ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَم وروح مِنْهُ) وَفِي تَسْمِيَته " روحا " ثَلَاثَة أقاويل:
وَالثَّانِي: أَنه تحيا بِهِ الْقُلُوب، كَمَا تحيا الْأَبدَان بِالروحِ.
الثَّالِث: أَن الرّوح: هُوَ النفخ الَّذِي نفخ فِي مَرْيَم جِبْرِيل بِإِذن الله؛ فَسمى ذَلِك النفخ روحا.
(فآمنوا بِاللَّه وَرُسُله وَلَا تَقولُوا ثَلَاثَة) وَكَانَت النَّصَارَى يَقُولُونَ بِالثَّلَاثَةِ، كَانُوا يَقُولُونَ: ابْن، وآب، وروح الْقُدس، وَهَذَا معنى قَوْله - تَعَالَى -: ﴿لقد كفر الَّذين قَالُوا إِن الله ثَالِث ثَلَاثَة﴾ وَقَوله: ﴿انْتَهوا خيرا لكم﴾ تَقْدِيره: يكن الِانْتِهَاء خيرا لكم.
﴿إِنَّمَا الله إِلَه وَاحِد سُبْحَانَهُ أَن يكون لَهُ ولد﴾ وَاعْلَم أَن الله - تَعَالَى - كَمَا لَا يجوز لَهُ أَن يتَّخذ ولدا، لَا يجوز عَلَيْهِ التبني؛ فَإِن التبني إِنَّمَا يكون حَيْثُ يكون بِهِ الْوَلَد، فَإِذا لم يتَصَوَّر لله ولد وَلم يجز عَلَيْهِ التبني ﴿لَهُ مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الأَرْض وَكفى بِاللَّه وَكيلا﴾.
وَقَوله: ﴿وَمن يستنكف عَن عِبَادَته ويستكبر فسيحشرهم إِلَيْهِ جَمِيعًا﴾ الْفرق بَين الاستنكاف والاستكبار: أَن الاستنكاف هُوَ التكبر مَعَ الأنفة، والاستكبار: هُوَ الغلو، والتكبر من غير أَنَفَة.
وَقيل: هُوَ الشَّفَاعَة، وَفِي الحَدِيث: " يشفع الصالحون يَوْم الْقِيَامَة لمن يعْرفُونَ ".
﴿وَأما الَّذين استنكفوا واستكبروا فيعذبهم عذَابا أَلِيمًا وَلَا يَجدونَ لَهُم من دون الله وليا وَلَا نَصِيرًا﴾.
والبرهان فِي اللُّغَة: هُوَ الْحجَّة ﴿وأنزلنا إِلَيْكُم نورا مُبينًا﴾ هُوَ الْقُرْآن.
وَسبب نزُول الْآيَة مَا روى: " أَن النَّبِي دخل على جَابر وَهُوَ مَرِيض، وَكَانَ قد أغمى عَلَيْهِ، فَدَعَا بِمَاء وَتَوَضَّأ، ثمَّ رشه عَلَيْهِ، فأفاق، فَقَالَ جَابر: يَا رَسُول الله، مَاذَا أصنع فِي مَالِي، وَإِنَّمَا ترثني كَلَالَة؟ فَنزلت الْآيَة "، وَقد سبق الْكَلَام فِي الْكَلَالَة.
وَتلك الْآيَة فِي تَوْرِيث الاخوة وَالْأَخَوَات من الْأُم، وَهَذِه الْآيَة فِي تَوْرِيث الاخوة وَالْأَخَوَات من الْأَب وَالأُم، وَمن الْأَب ﴿إِن امْرُؤ هلك لَيْسَ لَهُ ولد﴾ تَقْدِيره: لَيْسَ لَهُ ولد، وَلَا وَالِد، وعَلى هَذَا أَكثر الْعلمَاء، أَن الْكَلَالَة: هَذَا، وَأَن الْأُخوة وَالْأَخَوَات لَا يَرِثُونَ مَعَ الْأَب، إِلَّا مَا يحْكى عَن عمر - رضى الله عَنهُ -: أَنه ورثهم مَعَ الْأَب، وَقد سبق.
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿لَيْسَ لَهُ ولد﴾ أَرَادَ بِهِ: الذّكر، وعَلى هَذَا أَكثر الْعلمَاء: أَن الاخوة وَالْأَخَوَات إِنَّمَا لَا يَرِثُونَ مَعَ الابْن، ويرثون مَعَ الْبِنْت، وَحكى عَن ابْن عَبَّاس، وَبِه قَالَ دَاوُد وَأهل الظَّاهِر -: أَن الْإِخْوَة وَالْأَخَوَات لَا يَرِثُونَ مَعَ الْبِنْت، تمسكا بِظَاهِر الْآيَة، وَقد بَينا أَن المُرَاد بِهِ: الابْن، وَالْآيَة فِي نفي الْفَرْض مَعَ الْوَلَد وَعِنْدنَا: إِنَّمَا يَرِثُونَ بِالتَّعْصِيبِ، فَإِن الْأَخَوَات مَعَ الْبَنَات عصبَة.
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿وَله أُخْت فلهَا نصف مَا ترك وَهُوَ يَرِثهَا إِن لم يكن لَهَا ولد فَإِن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا ترك وَإِن كَانُوا اخوة رجَالًا وَنسَاء فللذكر مثل حَظّ الْأُنْثَيَيْنِ يبين الله لكم أَن تضلوا﴾.
قَالَ الْفراء: مَعْنَاهُ: يبين الله لكم أَن لَا تضلوا، وَهُوَ قَول أبي عبيده، قَالَ أَبُو عبيده: وَذكر الْكسَائي حَدِيثا فِي مَعْنَاهُ؛ فأعجبه ذَلِك، وَذَلِكَ مَا روى عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " لَا يدعونَ أحدكُم على ابْنه أَن يُوَافق قدرا " أَي: أَن لَا يُوَافق قدرا.
وَقَالَ البصريون: مَعْنَاهُ: يبين الله لكم كَرَاهِيَة أَن تضلوا ﴿وَالله بِكُل شئ عليم﴾.
وَالله أعلم، صدق الله وَصدق رَسُول الله وعَلى آله أَجْمَعِينَ.
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
﴿يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا أَوْفوا بِالْعُقُودِ أحلّت لكم بَهِيمَة الْأَنْعَام إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُم غير﴾تَفْسِير سُورَة الْمَائِدَة
القَوْل فِي تَفْسِير سُورَة الْمَائِدَة قَالَ الشَّيْخ الإِمَام - رَضِي الله عَنهُ - سُورَة الْمَائِدَة مَدَنِيَّة كلهَا إِلَّا قَوْله تَعَالَى: ﴿الْيَوْم أكملت لكم دينكُمْ وَأَتْمَمْت عَلَيْكُم نعمتي ورضيت لكم الْإِسْلَام دينا﴾ فَإِنَّهُ نزل بِعَرَفَات على مَا سنبين، وَقَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ: كلهَا محكمَة لم ينْسَخ مِنْهَا شَيْء. وَقَالَ الشّعبِيّ: لم ننسخ مِنْهَا شَيْء. إِلَّا قَوْله - تَعَالَى -: ﴿يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تحلوا شَعَائِر الله﴾ على مَا سنبين.
وروى عَن أبي ميسرَة أَنه قَالَ: أنزل الله - تَعَالَى - فِي هَذِه السُّورَة ثَمَانِيَة عشر حكما لم ينزلها فِي سَائِر الْقُرْآن.
سورة النساء
تُعَدُّ سورةُ (النِّساء) إحدى السُّوَر الطِّوال التي مَن أخذها عدَّه الصحابةُ حَبْرًا، وقد دلَّ اسمُ السورة على مقصدِها الأعظم؛ وهو إيضاحُ كثير من الأحكام التي تتعلَّقُ بالمرأة، وقد أعْلَتْ هذه السورةُ من شأنِ المرأة في الإسلام وكرَّمتها، وأوضَحتْ ما لها وما عليها؛ لذلك كانت تُسمَّى بسورة (النِّساء الكبرى). وقد اشتمَلتْ أيضًا على آياتٍ أصَّلتْ لعلم الفرائض، الذي به يُعلَم تقسيمُ الميراث، وجاءت ببيانِ تشريع معاملات الأقرباء وحقوقِهم، وأوضَحتْ علاقةَ المسلمين بالكفار، متعرِّضةً لصفةِ صلاة الخوف، وما يَتبَع ذلك من أحكامٍ؛ فمَن أخَذها فقد أخذ علمًا وافرًا.
ترتيبها المصحفي
4نوعها
مدنيةألفاظها
3763ترتيب نزولها
92العد المدني الأول
175العد المدني الأخير
175العد البصري
175العد الكوفي
176العد الشامي
177* قوله تعالى: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُواْ فِي اْلْيَتَٰمَىٰ فَاْنكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ اْلنِّسَآءِ مَثْنَىٰ وَثُلَٰثَ وَرُبَٰعَۖ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُواْ فَوَٰحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَٰنُكُمْۚ ذَٰلِكَ أَدْنَىٰٓ أَلَّا تَعُولُواْ﴾ [النساء: 3]:
صحَّ عن عائشةَ أمِّ المؤمنين رضي الله عنها: «أنَّ رجُلًا كانت له يتيمةٌ، فنكَحَها، وكان لها عَذْقٌ، وكان يُمسِكُها عليه، ولم يكُنْ لها مِن نفسِهِ شيءٌ؛ فنزَلتْ فيه: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُواْ فِي اْلْيَتَٰمَىٰ﴾، أحسَبُه قال: كانت شريكتَه في ذلك العَذْقِ، وفي مالِه». أخرجه البخاري (٤٥٧٣).
* قوله تعالى: ﴿يُوصِيكُمُ اْللَّهُ فِيٓ أَوْلَٰدِكُمْۖ﴾ [النساء: 11]:
عن جابرِ بن عبدِ اللهِ رضي الله عنهما، قال: «عادَني النبيُّ ﷺ وأبو بكرٍ في بني سَلِمةَ ماشيَينِ، فوجَدَني النبيُّ ﷺ لا أعقِلُ شيئًا، فدعَا بماءٍ، فتوضَّأَ منه، ثم رَشَّ عليَّ، فأفَقْتُ، فقلتُ: ما تأمُرُني أن أصنَعَ في مالي يا رسولَ اللهِ؟ فنزَلتْ: ﴿يُوصِيكُمُ اْللَّهُ فِيٓ أَوْلَٰدِكُمْۖ﴾». أخرجه البخاري (٤٥٧٧).
* قوله تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا اْلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ اْلنِّسَآءَ كَرْهٗاۖ﴾ [النساء: 19]:
عن ابنِ عباسٍ رضي الله عنهما، قال: «كانوا إذا ماتَ الرَّجُلُ كان أولياؤُه أحَقَّ بامرأتِه: إن شاءَ بعضُهم تزوَّجَها، وإن شاؤوا زوَّجوها، وإن شاؤوا لم يُزوِّجوها؛ فهم أحَقُّ بها مِن أهلِها؛ فنزَلتْ هذه الآيةُ في ذلك». أخرجه البخاري (٦٩٤٨).
* قوله تعالى: ﴿أَطِيعُواْ اْللَّهَ وَأَطِيعُواْ اْلرَّسُولَ وَأُوْلِي اْلْأَمْرِ مِنكُمْۖ﴾ [النساء: 59]:
عن عبدِ اللهِ بن عباسٍ رضي الله عنهما، قال: «نزَلتْ في عبدِ اللهِ بنِ حُذَافةَ بنِ قيسِ بنِ عَدِيٍّ إذ بعَثَه النبيُّ ﷺ في سَرِيَّةٍ». أخرجه البخاري (٤٥٨٤).
* قوله تعالى: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ﴾ [النساء: 65]:
عن عُرْوةَ بن الزُّبَيرِ، قال: «خاصَمَ الزُّبَيرُ رجُلًا مِن الأنصارِ في شَرِيجٍ مِن الحَرَّةِ، فقال النبيُّ ﷺ: «اسقِ يا زُبَيرُ، ثم أرسِلِ الماءَ إلى جارِك»، فقال الأنصاريُّ: يا رسولَ اللهِ، أَنْ كان ابنَ عَمَّتِكَ؟! فتلوَّنَ وجهُ رسولِ اللهِ ﷺ، ثم قال: «اسقِ يا زُبَيرُ، ثم احبِسِ الماءَ حتى يَرجِعَ إلى الجَدْرِ، ثم أرسِلِ الماءَ إلى جارِك»، واستوعى النبيُّ ﷺ للزُّبَيرِ حقَّه في صريحِ الحُكْمِ حين أحفَظَه الأنصاريُّ، كان أشارَ عليهما بأمرٍ لهما فيه سَعةٌ، قال الزُّبَيرُ: فما أحسَبُ هذه الآياتِ إلا نزَلتْ في ذلك: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ﴾». أخرجه البخاري (٤٥٨٥).
* قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى اْلَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوٓاْ أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ اْلصَّلَوٰةَ﴾ [النساء: 77]:
عن عبدِ اللهِ بن عباسٍ رضي الله عنهما: «أنَّ عبدَ الرحمنِ بنَ عوفٍ وأصحابًا له أتَوُا النبيَّ ﷺ بمكَّةَ، فقالوا: يا رسولَ اللهِ، إنَّا كنَّا في عِزٍّ ونحن مشركون، فلمَّا آمَنَّا صِرْنا أذلَّةً، فقال: «إنِّي أُمِرْتُ بالعفوِ؛ فلا تُقاتِلوا»، فلمَّا حوَّلَنا اللهُ إلى المدينةِ، أمَرَنا بالقتالِ، فكَفُّوا؛ فأنزَلَ اللهُ عز وجل: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى اْلَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوٓاْ أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ اْلصَّلَوٰةَ﴾». أخرجه النسائي (٣٠٨٦).
* قوله تعالى: ﴿وَلَا تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَىٰٓ إِلَيْكُمُ اْلسَّلَٰمَ لَسْتَ مُؤْمِنٗا﴾ [النساء: 94]:
عن عطاءٍ، عن ابنِ عباسٍ رضي الله عنهما، قال: «كان رجُلٌ في غُنَيمةٍ له، فلَحِقَه المسلمون، فقال: السَّلامُ عليكم، فقتَلوه، وأخَذوا غُنَيمتَه؛ فأنزَلَ اللهُ في ذلك إلى قولِه: ﴿تَبْتَغُونَ عَرَضَ اْلْحَيَوٰةِ اْلدُّنْيَا﴾ [النساء: 94]؛ تلك الغُنَيمةُ»، قال: «قرَأ ابنُ عباسٍ: السَّلَامَ». أخرجه البخاري (٤٥٩١).
* قوله تعالى: ﴿لَّا يَسْتَوِي اْلْقَٰعِدُونَ مِنَ اْلْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي اْلضَّرَرِ وَاْلْمُجَٰهِدُونَ فِي سَبِيلِ اْللَّهِ﴾ [النساء: 95]:
عن البراءِ بن عازبٍ رضي الله عنهما، قال: «لمَّا نزَلتْ: ﴿لَّا يَسْتَوِي اْلْقَٰعِدُونَ مِنَ اْلْمُؤْمِنِينَ﴾ ﴿وَاْلْمُجَٰهِدُونَ فِي سَبِيلِ اْللَّهِ﴾، قال النبيُّ ﷺ: «ادعُ لي زيدًا، وَلْيَجِئْ باللَّوْحِ والدَّواةِ والكَتِفِ - أو الكَتِفِ والدَّواةِ -، ثم قال: «اكتُبْ ﴿لَّا يَسْتَوِي اْلْقَٰعِدُونَ﴾»، وخَلْفَ ظَهْرِ النبيِّ ﷺ عمرُو بنُ أمِّ مكتومٍ الأعمى، قال: يا رسولَ اللهِ، فما تأمُرُني؛ فإنِّي رجُلٌ ضريرُ البصَرِ؟ فنزَلتْ مكانَها: ﴿لَّا يَسْتَوِي اْلْقَٰعِدُونَ مِنَ اْلْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي اْلضَّرَرِ وَاْلْمُجَٰهِدُونَ فِي سَبِيلِ اْللَّهِ﴾». أخرجه البخاري (٤٩٩٠).
* قوله تعالى: ﴿إِنَّ اْلَّذِينَ تَوَفَّىٰهُمُ اْلْمَلَٰٓئِكَةُ ظَالِمِيٓ أَنفُسِهِمْ﴾ [النساء: 97]:
عن محمَّدِ بن عبدِ الرحمنِ أبي الأسوَدِ، قال: «قُطِعَ على أهلِ المدينةِ بَعْثٌ، فاكتُتِبْتُ فيه، فلَقِيتُ عِكْرمةَ مولَى ابنِ عباسٍ، فأخبَرْتُه، فنهاني عن ذلك أشَدَّ النَّهْيِ، ثم قال: أخبَرَني ابنُ عباسٍ: أنَّ ناسًا مِن المسلمين كانوا مع المشركين يُكثِّرون سوادَ المشركين على عهدِ رسولِ اللهِ ﷺ، يأتي السَّهْمُ فيُرمَى به فيُصِيبُ أحدَهم فيقتُلُه، أو يُضرَبُ فيُقتَلُ؛ فأنزَلَ اللهُ: {إِنَّ اْلَّذِينَ تَوَفَّىٰهُمُ اْلْمَلَٰٓئِكَةُ ظَالِمِيٓ أَنفُسِهِمْ} الآيةَ». أخرجه البخاري (4596).
سُمِّيتْ سورةُ (النِّساء) أيضًا بسورة (النِّساء الكُبْرى)، أو (الطُّولى):
للحديثِ الوارد عن عبدِ اللهِ بن مسعودٍ رضي الله عنه، قال: «نزَلتْ سُورةُ النِّساءِ القُصْرى بعد الطُّولى». أخرجه البخاري (٤٥٣٢).
وسورةُ (النِّساء الصُّغْرى أو القُصْرى) هي سورةُ (الطَّلاق).
وإنما سُمِّيتْ سورة (النِّساء) بسورة (النِّساء الكُبْرى)؛ لكثرةِ ما فيها من أحكامٍ تتعلق بالنِّساء.
* أنَّ رسولَ الله ﷺ بكى لسماعها:
فقد صحَّ عن عبدِ اللهِ بن مسعودٍ رضي الله عنه أنَّه قال: «قالَ لي النبيُّ ﷺ: «اقرَأْ عَلَيَّ»، قلتُ: يا رسولَ اللهِ، آقرَأُ عليك وعليك أُنزِلَ؟! قال: «نَعم»، فقرَأْتُ سورةَ النِّساءِ حتى أتَيْتُ إلى هذه الآيةِ: ﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةِۭ بِشَهِيدٖ وَجِئْنَا بِكَ عَلَىٰ هَٰٓؤُلَآءِ شَهِيدٗا﴾ [النساء: 41]، قال: «حَسْبُك الآنَ»، فالتفَتُّ إليه فإذا عَيْناهُ تَذرِفانِ». أخرجه البخاري (5055).
* مَن أخَذ سورةَ (النِّساءِ) عُدَّ حَبْرًا:
فعن عائشةَ رضي الله عنها، عن رسولِ اللهِ ﷺ، قال: «مَن أخَذَ السَّبْعَ الأُولَ مِن القرآنِ، فهو حَبْرٌ». أخرجه أحمد (24575).
ثبَتتْ قراءتُه ﷺ لسورةِ (النِّساء) في قيامِه بالليل:
جاء عن حُذَيفةَ بن اليمانِ رضي الله عنهما أنه قال: «صلَّيْتُ مع النبيِّ ﷺ ذاتَ ليلةٍ، فافتتَحَ البقرةَ، فقلتُ: يَركَعُ عند المائةِ، ثم مضى، فقلتُ: يُصلِّي بها في ركعةٍ، فمضى، فقلتُ: يَركَعُ بها، ثم افتتَحَ النِّساءَ فقرَأها، ثم افتتَحَ آلَ عِمْرانَ فقرَأها، يَقرأُ مُترسِّلًا». أخرجه مسلم (772).
اشتَملتِ السُّورةُ على عِدَّةِ موضوعات، جاءت على الترتيبِ الآتي:
أصل البشرية، وخالقها واحد؛ فلا عدوانَ على المال والنسل (١-١٨).
تكريم المرأة وحقها كزوجة (١٩-٢٨).
استقلال المرأة بنفسها ومالها (١٩-٢١).
المُحرَّمات من النساء (٢٢-٢٤).
نكاح الإماء (٢٥).
تعقيب وموعظة (٢٦-٢٨).
حُرْمة الأموال، والقوامة المالية في الأسرة (٢٩-٤٣).
دور اليهود التخريبي، أمر الله يقوم على العدل (٤٤-٥٨).
أساس الدِّين، وطاعة الله والرسول (٥٩-٧٠).
قتال أعداء الحقِّ ضروريٌّ لتحرير المستضعَفِين وحماية الحق (٧١-٩٤).
علاقة الهجرة بالتحرير والقتال (٩٥-١٠٤).
حُكْمُ الله عدلٌ مطلق، وجزاؤه حقٌّ وعدل (١٠٥-١٣٥).
وَلاية الكافرين نفاق (١٣٦-١٤٩).
انحرافات أهل الكتاب الاعتقادية والسلوكية (١٥٠-١٦٢).
الوحيُ لتحرير الناس لم ينقطع من بداية البشرية إلى البعثة (١٦٣-١٧٠).
الغلوُّ عند أهل الكتاب أخرَجهم من الإيمان (١٧١-١٧٣).
القرآن دليلٌ قاطع، وحُجَّةٌ واضحة (١٧٤-١٧٦).
ينظر: "التفسير الموضوعي للقرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (2 /40).
يدور محورُ هذه السُّورةِ حول بيانِ تشريع معاملات الأقرباء وحقوقهم، وأحكام المعاملات بين جماعة المسلمين في الأموال والدِّماء، وأحكامِ القتل عمدًا وخطأً، وتأصيلِ الحُكْمِ الشرعي بين المسلمين في الحقوق، والدفاعِ عن المعتدَى عليه، والتحذيرِ من اتِّباع الهوى، والأمرِ بالبِرِّ، والمواساة، وأداء الأمانات، والتمهيدِ لتحريم شُرْبِ الخمر. ينظر: "التحرير والتنوير" لابن عاشور (4 /213).