ﰡ
﴿ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا ﴾ يعني حواء، قال ابن عباس، ومجاهد، والحسن خلقت من ضلع آدم، وقيل الأيسر، ولذلك قيل للمرأة : ضلع أعوج.
﴿ وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثيراً وَنِسَاءً ﴾ روي عن النبي ﷺ أنه قال عند نزولها عليه :« خُلِقَتِ الْمَرْأَةُ مِنَ الرَّجُلِ فَهَمَّهَا فِي الرَّجُلُ مِنَ التَّرابِ فَهَمُّهُ فِي التُّرابِ
». ﴿ وَاتَّقُواْ اللهَ الَّذِي تَسَآءَلُونَ بِهِ والأَرْحَامَ ﴾ ومعنى قوله تساءلون به، هو قولهم أسألك بالله وبالرحم، وهذا قول مجاهد وإبراهيم، وقرأ حمزة والأرحام بالكسر على هذا المعنى.
وفي الأرحام قولٌ آخر : أنه أراد صِلُوها ولا تقطعوها، وهو قول قتادة، والسدي، لأن الله تعالى قصد بأول السورة حين أخبرهم أنهم من نفس واحدة أن يتواصلواْ ويعلمواْ أنهم إخوة وإن بعدواْ.
﴿ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيكُمْ رَقِيباً ﴾ فيه تأويلان :
أحدهما : حفيظاً، وهو قول مجاهد.
والثاني : عليماً، وهو قول ابن زيد.
أحدها : الحرام بالحلال، وهو قول مجاهد.
والثاني : هو أن يجعل الزائف بدل الجيد، والمهزول بدل السمين ويقول درهم بدرهم، وشاة بشاة، وهو ابن المسيب والزهري والضحاك والسدي.
والثالث : هو استعجال أكل الحرام قبل إتيان الحلال، وهو معنى قول مجاهد.
والرابع : أن أهل الجاهلية كانواْ لا يورثون الصغار والنساء ويأخذه الرجل الأكبر، فكان يستبدل الخبيث بالطيب لأن نصيبه من الميراث طيب، وأخذه الكل خبيث، وهو قول ابن زيد.
﴿ وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ ﴾ أي مع أموالكم، وهو أن يخلطوها بأموالهم لتصير في ذمتهم فيأكلوا ربحها.
﴿ إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً ﴾ والحُوب : الإثم، ومنه قولهم تحوّب فلانٌ من كذا، إذا توقى، قال الشاعر :
فإن مهاجرين تكنفاهُ | غداة إذٍ لقد خطئنا وحَابَا |
﴿ وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ الْنِّسَآءِ ﴾ فيه أربع تأويلات :
أحدها : يعني إن خفتم ألا تعدلواْ في نكاح اليتامى، فانكحوا ما حَلَّ لكم من غيرهن من النساء، وهو قول عائشة رضي الله عنها.
والثاني : أنهم كانواْ يخافون ألاّ يعدلوا في أموال اليتامى، ولا يخافون أن لا يعدلواْ في النساء، فأنزل الله تعالى هذه الآية، يريد كما خفتم ألاّ تعدلواْ في أموال اليتامى، فهكذا خافوا ألا تعدلوا في النساء، وهذا قول سعيد بن جبير، والسدي، وقتادة.
والثالث : أنهم كانوا يتوقَّون أموال اليتامى ولا يتوقَّون الزنى، فقال كما خفتم في أموال اليتامى، فخافواْ الزنى، وانحكوا ما طاب لكم من النساء، وهذا قول مجاهد.
والرابع : إن سبب نزولها، أن قريشاً في الجاهلية كانت تكثر التزويج بغير عدد محصور، فإذا كثر على الواحد منهم مؤن زوجاته، وقَلَّ مالُه، مدّ يده إلى ما عنده من أموال الأيتام، فأنزل الله تعالى :﴿ وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ الْنِّسَاءِ ﴾.
وفي قوله تعالى :﴿ مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ الْنِّسَاءِ ﴾ قولان :
أحدهما : أن ذلك عائد إلى النساء وتقديره فانحكوا من النساء ما حلَّ. وهذا قول الفراء.
والثاني : أن ذلك عائد إلى النكاح وتقديره فانحكوا النساء نكاحاً طيباً. وهذا قول مجاهد.
﴿ مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ ﴾ معدول به عن اثنين وثلاث وأربع، وكذلك أُحاد وموحد، وثناء ومثنى، وثلاث ومثلث، ورباع ومربع، وهو اسم للعدد معرفة، وقد جاء الشعر بمثل ذلك، قال تميم بن أبي مقبل :
ترى العثرات الزُّرْق تحت لَبَانِه | أُحاد ومثْنى أضعفتها كواهِله |
قتلنا به من بين مَثْنى وموحد | بأربعة منكم وآخر خامس |
فلم يَسْتَرِيَثُوكَ حتى رَمِدْ | ت فوق الرجال خِصالاً عشاراً |
ضربت خماس ضربة عبشمي | أدار سداس ألاَّ يستقيما |
﴿ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ﴾ يعني في الإماء.
﴿ ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُواْ ﴾ فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أَلاَّ يكثر مَنْ تعولون، وهو قول الشافعي.
والثاني : معناه ألاّ تضلواْ، وهو قول ابن إسحاق، ورواه عن مجاهد.
والثالث : ألا تميلوا عن الحق وتجوروا وهو قول ابن عباس، وقتادة، وعكرمة.
وأصل العول الخروج عن الحد ومنه عول الفرائض لخروجها عن حد السهام المسمّاة، وأنشد عكرمة بيتاً لأبي طالب :
بميزان قسط لا يَخيسُ شعيرةً | ووازن صِدْقٍ وزنهُ غير عائل |
وكتب عثمان بن عفان إلى أهل الكوفة في شيء عاتبوه فيه : إني لست بميزان قسطٍ لا أعول.
قوله تعالى :﴿ وءَآتُواْ النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ... ﴾ اختلف فِيمَنْ توجَّه إليه هذا الخطاب على قولين :
أحدهما : أنه متوجه إلى الأزواج، وهو قول الأكثرين.
والثاني : أنه متوجه إلى الأولياء، لأنهم كانواْ يتملكون في الجاهلية صداق المرأة، فأمر الله بدفع صدقاتهن إليهن، وهو قول أبي صالح.
وأما النَّحلة فهي العطية من غير بدل، وسمي الدين نِحْلَةَ، لنه عطية من الله، وفي تسميه النّحْل بذلك قولان :
أحدهما : أنه سمي نحلاً لما يعطي من العسل.
والثاني : لأن الله تعالى نَحَلهُ عباده.
وفي المراد بالنَّحلة في الصداق أربعة تأويلات :
أحدها : يعني فريضة مُسَمَّاة، وهو قول قتادة، وابن جريج.
والثاني : أنه نحلة من الله تعالى لهن بعد أن كان ملكاً للأولياء، وهو قول أبي صالحٍ.
والثالث : انه نهى لِما كانوا عليه من خِطْبة الشغار، والنكاح بغير صداق، وهو قول سليمان بن جعفر بن أبي المعتمر.
والرابع : انه أراد أن يطيبوا نفساً بدفعه، كما يطيبون نفساً بالنحل والهبة، وهو قول بعض المتأخرين.
﴿ فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْساً ﴾ يعني الزوجات إن طبن نفساً عن شيء من صداقهن لأزواجهن في قول من جعله خطاباً للأزواج، ولأوليائهن في قول من جعله خطاباً للأولياء.
﴿ فَكُلُوهُ هُنِيئاً مَّرِيئاً ﴾ الهنيء ما أعقب نفعاً وشفاء، ومنه هنأ البعير للشفاء، قال الشاعر :
متبدلاً تَبْدُو مَحاسنه | يَضَعُ الهناءَ مَواضِعَ النُّقبِ |
مهلاً بني عمنا مهلاً موالينا | لا تنشبواْ بيننا ما كان مَدْفوناً |
وفي المراد بهذه المعاقدة وبالنصيب المستحق خمسة أقاويل :
أحدها : أن حلفهم في الجاهلية كانوا يتوارثون به في الإسلام ثم نسخ ذلك بقوله تعالى في الأنفال :﴿ وَأُولُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ ﴾ [ الأنفال : ٧٥ ] وهذا قول ابن عباس، وعكرمة، وقتادة.
والثاني : أنها نزلت في الذين آخى بينهم النبي ﷺ، من المهاجرين والأنصار، فكان بعضهم يرث بعضاً بتلك المؤاخاة بهذه الآية، ثم نسخها ما تقدم من قوله تعالى :﴿ وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الوَالِدَانَ والأَقْرَبُونَ ﴾ [ النساء : ٣٣ ]، وهذا قول سعيد بن جبير، عن ابن عباس، وابن زيد.
والثالث : أنها نزلت في أهل العقد بالحلف ولكنهم أُمِرُوا أن يؤتوا بعضهم بعضاً من النصرة والنصيحة والمشورة والوصية دون الميت، وهذا قول مجاهد، وعطاء، والسدي. وقال رسول الله ﷺ وقد سأله قيس بن عاصم عن الحِلف فقال :« لاَ حِلْفَ في الإْسلاَمِ، وَمَا كَانَ مِنْ حِلفِ الجاهِلِيَّةِ فَلَمْ يُزِدْهُ الإِسْلاَمُ الإَِّ شِدَّةً
». والرابع : أنها نزلت في الذين يتبنون أبناء غيرهم في الجاهلية، فَأُمِرُوا في الإِسلام أن يوصوا لهم عند الموت بوصية، وهذا قول سعيد بن المسيب.
والخامس : أنها نزلت في قوم جعل لهم نصيب من الوصية، ثم هلكوا فذهب نصيبهم بهلاكهم، فَأُمِرُوا أن يدفعوا نصيبهم إلى ورثتهم، وهذا قول الحسن البصري.
﴿ بِمَا فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ ﴾ يعني في العقل والرأي.
﴿ وَبِمَآ أَنفَقُواْ مِنْ أِمْوَالِهِمْ ﴾ يعني به الصداق والقيام بالكفاية. وقد روى جرير بن حازم عن الحسن أن سبب ذلك أن رجلاً من الأنصار لطم امرأته فجاءت تلتمس القصاص، فجعل النبي ﷺ بينهما القصاص فنزلت :﴿ وَلاَ تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَي إِلَيْكَ وَحْيُهُ ﴾ [ طه : ١١٤ ] ونزلت ﴿ الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَآءِ بِمَا فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ ﴾، وكان الزهري يقول : ليس بين الرجل وامرأته قصاص فيما دون النفس.
﴿ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللهُ ﴾ يعني المستقيمات الدين العاملات بالخير، والقانتات يعني المطيعات لله ولأزواجهن.
﴿ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ ﴾ يعني حافظات لأنفسهن عند غيبة أزواجهن، ولما أوجبه الله من حقه عليهن.
﴿ بِمَا حَفِظَ اللهُ ﴾ فيه قولان :
أحدهما : يعني يحفظ الله لهن إذ صيّرهن كذلك، وهو قول عطاء.
والثاني : بما أوجبه الله على أزواجهن من مهورهن ونفقتهن حتى صرن بها محفوظات، وهذا قول الزجاج.
وقد روى ابن المبارك، سعيد بن أبي سعيد أبي هريرة قال : قال رسول الله ﷺ :« خَيْرُ النَّساءِ امْرَأَةً إِذا نَظَرْتَ إِلَيهَا سَرَّتْكَ، وَإِذَا أَمَرْتَهَا أَطَاعَتْكَ، وَإِذَا غِبْتَ عَنْهَا حَفِظَتْكَ في مالِهَا ونَفْسِهَا » قال ثم قرأ رسول الله ﷺ :﴿ الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَآءِ ﴾ إلى آخر الآية.
﴿ وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ ﴾ في ﴿ تَخَافُونَ ﴾ تأويلان :
أحدهما : أنه العلم، فعبر عنه بالخوف، كما قال الشاعر :
ولا تدفنيني بالفلاة فإنني | أخافُ إذا ما مِتُّ أن لا اذُوقَها |
أتاني عن نصر كلام يقوله | وما خفت يا سلامُ أنك عائبي |
والنشوز : هو معصية الزوج والامتناع من طاعته بغضاً وكراهة - وأصل النشوز : الارتفاع، ومنه قيل للمكان المرتفع من الأرض نُشز، فسميت الممتنعة عن زوجها ناشزاً لبعدها منه وارتفاعها عنه.
﴿ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ ﴾ أما وعظها فهو أن يأمرها بتقوى الله وطاعته، ويخوفها استحقاق الوعيد في معصيته وما أباحه الله تعالى من ضربها عند مخالفته، وفي المراد بقوله :﴿ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ ﴾ خمسة أقاويل :
أحدها : ألا يجامعها، وهو قول ابن عباس، وسعيد بن جبير.
والثاني : أن لا يكلمها ويوليها ظهره في المضجع، وهو قول الضحاك، والسدي. والثالث : أن يهجر فراشها ومضاجعتها وهو قول الضحاك، والسدي.
والرابع : يعني وقولوا لهن في المضاجع هُجراً، وهو الإغلاظ في القول، وهذا قول عكرمة، والحسن.
والخامس : هو أن يربطها بالهجار وهو حبل يربط به البعير ليقرها على الجماع، وهو قول أبي جعفر الطبري.
وأصل الهجر : الترك على قلى، والهُجر : القبيح من القول لأنه مهجور.
﴿ وَآضْرِبُوهُنَّ ﴾ فجعل الله تعالى معاقبتها على النشوز ثلاثة أشياء : وَعْظُها وهَجْرُها وضَرْبُها. وفي ترتبيها إذا نشزت قولان :
أحدهما : أنه إذا خاف نشوزها وعظها وهجرها، فإن أقامت عليه ضربها.
والثاني : أنه إذا خاف نشوزها وعظها، فإذا أبدت المشوز هجرها، فإن أقامت عليه ضربها، وهو الأظهر من قول الشافعي.
والذي أبيح له من الضرب ما كان تأديباً يزجرها به عن النشوز غير مبرح ولا منهك، روى بشر عن عكرمة قال : قال رسول الله ﷺ :« اضْرِبُوهُنَّ إِذَا عَصَينَكُمْ فِي المَعْرُوفِ ضَرْباً غير مُبَرِّحٍ
». ﴿ فَإِن أَطَعْنَكُم فَلاَ تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً ﴾ يعني أطعنكم في المضجع والمباشرة. ﴿ فلا تبغوا عليهن سبيلاً ﴾ فيه تأويلان :
أحدهما : لا تطلبواْ لهن الأذى.
والثاني : هو أن يقول لها لست تحبينني وأنت تعصيني، فيصيّرها على ذلك وإن كانت مطيعة : قال سفيان : إذا فعلت ذلك لا يكلفها أن تحبه لأن قلبها ليس في يدها.
﴿ فَابْعَثْواْ حَكَماً مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا ﴾ وفي المأمور بإيفاد الحكمين ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه السلطان إذا تراجع إليه الزوجان، وهو قول سعيد بن جبير، والضحاك.
والثاني : الزوجان، وهو قول السدي.
والثالث : أحد الزوجين وإن لم يجتمعا.
﴿ إِن يُرِيدَآ إِصْلاَحاً ﴾ يعني الحَكَمَين.
﴿ يُوَفِقِ اللهُ بَيْنَهُمَا ﴾ يحتمل وجهين :
أحدهما : يوفق الله بين الحكمين في الصلاح بين الزوجين.
والثاني : يوفق الله بينهما بين الزوجين بإصلاح الحَكَمَين، والحكمين للإصلاح.
وفي الفُرْقَةِ إذا رأياها صلاحاً من غير إذن الزوجين قولان :
أحدهما : ليس ذلك إليها لأن الطلاق إلى الزوج.
والثاني : لهما ذلك لأن الحَكَم مشتق من الحُكم فصار كالحاكم بما يراه صلاحاً.
﴿ وَبِذِي الْقُرْبَى ﴾ هم قرابة النسب من ذوي الأرحام.
﴿ وَالْيَتَامَى ﴾ جمع يتيم وهو من مات أبوه لم يبلغ الحلم.
﴿ وَالْمَسَاكِينِ ﴾ جمع مسكين وهو الذي قد ركبه ذل الفاقة والحاجة فيتمسكن لذلك.
﴿ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى ﴾ فيه قولان :
أحدهما : بمعنى ذي القرابة والرحم وهم الذين بينك وبينهم قرابة نسب، وهذا قول ابن عباس، ومجاهد.
والثاني : يعني الجار ذي القربى بالإسلام.
﴿ وَالْجَارِ الْجُنُبِ ﴾ فيه قولان :
أحدهما : الجار البعيد في نسبه الذي ليس بينك وبينه قرابة، وهو قول ابن عباس ومجاهد.
والثاني : أنه المشرك البعيد في دينه.
والجنب في كلام العرب هو البعيد، ومنه سُمي الجنب لاعتزاله الصلاة حتى يغتسل، قال الأعشى بن قيس بن ثعلبة :
أتيت حُريثاً زائراً عن جنابةٍ | فكان حريث في عطائي جامداً |
أحدها : أنه الرفيق في السفر، وهو قول ابن عباس، ومجاهد، وقتادة.
والثاني : أنها زوجة الرجل التي تكون في جنبه، وهو قول ابن مسعود.
والثالث : أنه الذي يلزمك ويصحبك رجاء نفعك، وهو قول ابن زيد.
وروي عن رسول الله ﷺ أنه قال :« كُلُّ صَاحبٍ يَصْحَبُ صَاحِباً مَسْئُولٌ عَنْ صَحَابَتِهِ وَلَوْ سَاعةً مِن نَّهَارٍ ». وروى عبد الله بن عمر عن النبي ﷺ أنه قال :« خَيرُ الأَصْحَابِ عِندَ اللَّهِ خَيرُهُمْ لِصَاحِبِهِ، وَخَيرُ الجيرانِ عِندَ اللَّهِ خَيرُهُمْ لِجَارِهِ ». ﴿ وَابْنِ السَّبِيلِ ﴾ فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه المسافر المجتاز مَارّاً، وهذا قول مجاهد، وقتادة، والربيع.
والثاني : هو الذي يريد سفراً ولا يجد نفقة، وهذا قول الشافعي.
والثالث : أنه الضعيف، وهو قول الضحاك.
والسبيل الطريق، ثم قيل لصاحب الطريق ابن السبيل، كما قيل لطير الماء ابن ماء. قال الشاعر :
وردت اعتسافاً والثريا كأنها | على قمة الرأس ابن ماءٍ مُلحقُ |
﴿ إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً ﴾ المختال : من كان ذا خيلاء، مفتعل من قولك : خالَ الرجل يَخُول خُيلاء، وخالاً، قال العجاج :
والخال ثوب من ثياب الجهال | ( والدهْرُ فيه غَفْلةٌ للغفال ) |
أحدهما : أنها نزلت في اليهود، بخلوا بما عندهم من التوراة من نبوة محمد ﷺ وكتموه وأمرواْ الناس بكتمه. ﴿ وَيَكْتُمُونَ مَآ ءَاتَاهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ ﴾ يعني نبوة محمد ﷺ، وهذا قول مجاهد، وقتادة، والسدي.
والثاني : يبخلون بالإنفاق في طاعة الله تعالى ويأمرون الناس بذلك، وهو قول طاووس، والبخل أن يبخل بما في يديه، والشح أن يشح على ما في أيدي الناس يحب أن يكون له.
قوله تعالى :﴿ وَالَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآْخِرِ ﴾ فيهم قولان :
أحدهما : أنهم اليهود، وهو قول مجاهد.
والثاني : هم المنافقون، وهو قول الزجاج.
﴿ وَمَن يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِيناً فَسَآءَ قَرِيناً ﴾ القرين هو الصاحب الموافق، كما قال عدي بن زيد :
عن المرءِ لا تسأل وأبصر قرينه | فإن القرين بالمقارن مُقتدي |
وفي المراد يكون قريناً للشيطان قولان :
أحدهما : أنه مصاحبِهُ في أفعاله.
والثاني : أن الشيطان يقترن به في النار.
قوله تعالى :﴿ فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ ﴾ وشهيد كل أمة نبيُّها، وفي المراد بشهادته عليها قولان :
أحدهما : أن يشهد على كل أمّته بأنه بلغها ما تقوم به الحجة عليها، وهو قول ابن مسعود وابن جريج، والسدي.
والثاني : أن يشهد عليها بعملها، وهو قول بعض البصريين.
﴿ وَجِئْنَا بِكَ على هَؤُلاءِ شَهِيداً ﴾ يعني رسول الله ﷺ في الشهادة على أُمته، روى ابن مسعود أنه قرأ على رسول الله :﴿ فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ على هَؤُلاءِ شَهِيداً ﴾ ففاضت عيناه ﷺ.
قوله تعالى :﴿ يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ ﴾ فيه قولان :
أحدهما : أن الذين تمنوه من تسوية الأرض بهم، أن يجعلهم مثلها، كما قال تعالى في موضع أخر ﴿ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَاباً ﴾ [ النبأ : ٤٠ ].
والثاني : أنهم تمنواْ لو انفتحت لهم الأرض فصاروا في بطنها.
أحدهما : سكارى من الخمر، وهو قول ابن عباس، وقتادة، وقد روى عطاء ابن السائب عن عبد الله بن حبيب : أن عبد الرحمن بن عوف صنع طعاماً وشراباً ودعا نفراً من أصحاب النبي ﷺ فأكلوا وشربوا حتى ثملوا، ثم قدّموا عمر فصلى بهم المغرب فقرأ :﴿ قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ ﴾ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَأَنْتُم عَابِدُونَ مَا أَعْبُد وَأَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ } لَكُمْ دِينُكُم وَلِيَ دِينٌ } فأنزل الله تعالى هذه الآية ﴿ لاَ تَقْربُواْ الصَّلاَةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ ﴾.
والقول الثاني : وأنتم سكارى من النوم، وهو قول الضحاك، وأصل السُكر : السَكْر، وهو سد مجرى الماء، فالسُّكر من الشراب يسد طريق المعرفة.
فإن قيل فكيف يجوز نهي السكران، ففيه جوابان :
أحدهما : أنه قد يكون سكران من غير أن يخرج إلى حد لا يحتمل معه الأمر.
والثاني : أنه نهي عن التعرض للسكر وعليه صلاة.
﴿ وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُواْ ﴾ فيه قولان :
أحدهما : أراد سبيل المسافر إذا كان جنباً لا يصلي حتى يتيمم، وهذا قول ابن عباس في رواية أبي مجلز عنه، ومجاهد، والحكم، وابن زيد.
والثاني : لا يقرب الجنب مواضع الصلاة من المساجد إلا مارّاً مجتازاً، وهذا قول ابن عباس في رواية الضحاك، وابن يسار عنه، وهو قول جابر، والحسن، والزهري، والنخعي.
﴿ وَإِن كُنتُم مَّرْضَى ﴾ فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : ما انطلق عليه اسم المرض من مستضرٍّ بالماء وغير مستضرٍّ، وهذا قول داود بن علي.
الثاني : ما استضر فيه باستعمال الماء دون ما لم يستضر، وهذا قول مالك، وأحد قولي الشافعي.
والثالث ما خيف من استعمال الماء فيه التلف دن ما لم يُخفْ، وهو القول الثاني من قولي الشافعي.
﴿ أَوْ عَلَى سَفَرٍ ﴾ فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : ما انطلق عليه اسم السفر من قليل وكثير، وهو قول داود.
والثاني : مسافة يوم وليلة فصاعداً، وهو قول مالك، والشافعي رحمهما الله.
والثالث : مسافة ثلاثة أيام، وهو مذهب أبي حنيفة.
﴿ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِّنكُم مِّنَ الغآئِطِ ﴾ هو الموضع المطمئن من الأرض كان الإنسان يأتيه لحاجته، فكنى به عن الخارج مجازاً، ثم كثر استعماله حتى صار كالحقيقة، والدليل على أن الغائط حقيقة في اسم المكان دون الخارج، قول الشاعر :
أما أتاك عني الحديث | إذ أنا بالغائط أستغيث |
والأخرى :﴿ لاَمَسْتُمُ ﴾، وهي قراءة الباقين.
وفي هذه الملامسة قولان :
أحدهما : الجماع، وهو قول عليّ، وابن عباس، والحسن، وقتادة، ومجاهد.
وفي اختلاف القراءتين في ﴿ لَمَسْتُمْ ﴾ أو ﴿ لاَمَسْتُمُ ﴾ قولان :
أحدهما : أن ﴿ لاَمَسْتُمُ ﴾ أبلغ من ﴿ لَمِسْتُمُ ﴾.
والثاني : أن ﴿ لاَمَسْتُمُ ﴾ يقتضي وجوب الوضوء على اللامس والملموس.
﴿ وَلَمَسْتُمُ ﴾ يقتضي وجوبه على اللامس دون الملموس.
﴿ فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً فَتَيَمَّمُواْ ﴾ فيه قولان :
أحدهما : أنه التعبد والتحري، وهو قول سفيان.
والثاني : أنه القصد، وذكر أنها في قراءة ابن مسعود : فأتوا صعيداً طيباً. وفي الصعيد أربعة أقاويل :
أحدها : أنها الأرض الملساء التي لا نبات فيها ولا غِراس، وهو قول قتادة.
والثاني : أنها الأرض المستوية، وهو قول ابن زيد.
والثالث : هو التراب، وهو قول عليّ، وابن مسعود، والشافعي.
والرابع : أنه وجه الأرض ذات التراب والغبار، ومنه قول ذي الرُّمة :
كأنه بالضحى ترمي الصعيدَ به | دَبّابةٌ في عظام الرأس خُرْطوم |
أحدها : حلالاً، وهو قول سفيان.
والثاني : طاهراً، وهو قول أبي جعفر الطبري.
والثالث : تراب الحرث، وهو قول ابن عباس.
والرابع : أنه مكان حَدِرٌ غير بَطِحٍ، وهو قول ابن جريج.
﴿ فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ ﴾. فالوجه الممسوح في التيمم هو المحدود في غسل الوضوء.
فأما مسح اليدين ففيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : الكفان إلى الزندين دون الذراعين، وهو قول عمار بن ياسر، ومكحول، وبه قال مالك في أحد قوليه، والشافعي في القديم.
والثاني : الذراعان مع المرفقين، وهو قول ابن عمر، والحسن، والشعبي، وسالم بن عبد الله، والشافعي في الجديد.
والثالث : إلى المنكبين والإبطين، وهو قول الزهري، وحكي نحوه عن أبي بكر.
واختلفوا في جواز التيمم في الجنابة على قولين :
أحدهما : يجوز، وهو قول الجمهور.
والثاني : لا يجوز وهو قول عمر، وابن مسعود، والنخعي.
واختلفوا في سبب نزول هذه الآية على قولين :
أحدهما : نزلت في قوم من الصحابة أصابتهم جراح، وهذا قول النخعي.
والثاني : أنها نزلت في إعواز الماء في السفر، وهو قول عائشة رضي الله عنها.
أحدها : أنهم قد صاروا لجحودهم صفة رسول الله ﷺ كمشتري الضلالة بالهدى.
والثاني : أنهم كانوا يعطون أحبارهم أموالهم على ما كانواْ يصنعونه من التكذيب بالرسول ﷺ.
والثالث : أنهم كانوا يأخذون الرشا، وقد روى ثابت البناني عن أنس بن مالك : أن النبي ﷺ لعن الراشي، والمرتشي، والرائش، وهو المتوسط بينهما.
قوله تعالى :﴿... وَاسْمَعَ غَيْرَ مُسْمَعٍ ﴾ فيه قولان :
إحداهما : معناه : اسمع لا سمعت، وهو قول ابن عباس، وابن زيد.
والثاني : أنه غير مقبول منك، وهو قول الحسن، ومجاهد.
﴿ وَرَاعِنَا لَيَّاً بِأَلْسِنَتِهِم ﴾ فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أن هذه الكلمة كانت سَبّاً في لغتهم، فأطلع الله نبيّه عليها فنهاهم عنها.
والثاني : أنها كانت تجري مجرى الهُزْءِ.
والثالث : إنها كانت تخرج مخرج الكِبْر.
﴿ ءَامِنُواْ بِمَا نَزَّلْنَا ﴾ يعني القرآن.
﴿ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ ﴾ يعني كتبكم.
﴿ مِّن قَبْلِ أَن نِّطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهآ ﴾ فيه قولان :
أحدهما : أن طمس الوجوه هو محو آثارها حتى تصير كالأقفاء ونجعل عيونها في أقفائها حتى تمشي القهقرى، وهو قول ابن عباس، وقتادة.
والثاني : أن نطمسها عن الهدى فنردها على أدبارها، أي في ضلالها ذمّاً لها بأنها لا تصلح أبداً، وهذا قول الحسن، والضحاك، ومجاهد، وابن أبي نجيح، والسدي.
﴿ أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّآ أَصْحَابَ السَّبْتِ ﴾ أي نمسخهم قردة، وهو قول الحسن، وقتادة، والسدي.
أحدها : قولهم نحن أبناء الله وأحباؤه، وهذا قول قتادة، والحسن.
والثاني : تقديمهم أطفالهم لإمامتهم زعماً منهم أنه لا ذنوب لهم، وهذا قول مجاهد، وعكرمة.
والثالث : هو قولهم إن أبناءنا يستغفرون لنا ويزكوننا، وهذا قول ابن عباس.
والرابع : هو تزكية بعضهم لبعض لينالوا به شيئاً من الدنيا، وهذا قول ابن مسعود.
﴿ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً ﴾ فيه قولان :
أحدهما : أي الفتيل الذي شق النواة، وهو قول عطاء، وقتادة، ومجاهد، والحسن، وأحد قولي ابن عباس. قال الحسن : الفتيل ما في بطن النواة، والنقير ما في ظهرها، والقطمير قشرها.
والثاني : أنه ما انفتل بين الأصابع من الوسخ، وهذا قول السدي، وأحد قولي ابن عباس.
قوله تعالى :﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ ﴾ فيه خمسة أقاويل :
أحدها : أنهما صنمان كان المشركون يعبدونهما، وهذا قول عكرمة.
والثاني : أن الجبت : الأصنام، والطاغوت : تراجمة الأصنام، وهذا قول ابن عباس.
والثالث : أن الجبت السحر، والطاغوت : الشيطان، وهذا قول عمر، ومجاهد.
والرابع : أن الجبت الساحر، والطاغوت الكاهن، وهذا قول سعيد بن جبير.
والخامس : أن الجبت حُيي بن أخطب، والطاغوت كعب بن الأشرف، وهو قول الضحاك.
أحدها : أنه الذي يكون في ظهر النواة، وهذا قول ابن عباس، وعطاء، والضحاك.
والثاني : أنه الذي يكون في وسط النواة، وهو قول مجاهد.
والثالث : أنه نقر الرجل الشيء بطرفِ إبهامه، وهو رواية أبي العالية عن ابن عباس.
قوله تعالى :﴿ أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَاءاتَاهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ ﴾ يعني اليهود.
وفي الناس الذين عناهم ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنهم العرب، وهو قول قتادة.
والثاني : أنه محمد ﷺ خاصة، وهو قول ابن عباس، ومجاهد، والضحاك، والسدي، وعكرمة.
والثالث : أنهم النبي ﷺ وأصحابه، وهو قول بعض المتأخرين. وفي الفضل المحسود عليه قولان :
أحدهما : النبوة، حسدواْ العرب على أن كانت فيهم، وهو قول الحسن، وقتادة.
والثاني : أنه إباحته للنبي ﷺ نكاح من شاء من النساء من غير عدد، وهو قول ابن عباس، والضحاك، والسدي.
﴿ فَقَدْ ءَاتَيْنَا ءَالَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَءَاتَيْنَاهُم مُّلْكاً عَظِيماً ﴾ في الملك العظيم أربعة أقاويل :
أحدها : أنه ملك سليمان بن داود، وهو قول ابن عباس.
والثاني : النبوة، وهو قول مجاهد.
والثالث : ما أُيِّدُوا به من الملائكة والجنود، وهو قول همام بن الحارث.
والرابع : من أباحه الله لداود وسليمان من النساء من غير عدد، حتى نكح داود تسعاً وتسعين امرأة، ونكح سليمان مائة امرأة، وهذا قول السدي.
وقد أجاب أهل العلمِ عنه بثلاثة أجوبة :
أحدها : أن ألم العذاب إنما يصل إلى الإنسان الذي هو غير الجلد واللحم، وإنما يحرق الجلد ليصل إلى الإنسان ألم العذاب، فأما الجلد واللحم فلا يألمان فسواء أعيد على الكافر جلده الذي كان عليه وجلدٌ غَيْرُهُ.
والجواب الثاني : أنه تُعَادُ تلك الجلود الأولى جديدة [ غير ] محترقة.
والجواب الثالث : أن الجلود المُعادَةَ إنما هي سرابيلهم من قبل أن جعلت لهم لباساً، فسماها الله جلوداً، وأنكر قائل هذا القول أن تكون الجلود تحترق وتعاد غير محترقة، لأن في حال احتراقها إلى حال إعادتها فناءَها، وفي فنائها راحتها، وقد أخبر الله تعالى : أنهم لا يموتون ولا يخفف عنهم العذاب.
أحدها : أنه عَنَى وُلاَةَ أمور المسلمين، وهذا قول شهر بن حَوْشَبٍ، ومكحول، وزيد بن أسلم.
والثاني : أنه أمر السلطان أن يعظ النساء، وهذا قول ابن عباس.
والثالث : أنه خُوْطِبَ بذلك النبي ﷺ في عثمان بن أبي طلحة، أن يرد عليه مفاتيح الكعبة، وهذا قول ابن جريج.
والرابع : أنه في كل مَؤْتَمنٍ على شيء، وهذا قول أُبَيّ بن كعب، والحسن، وقتادة. وقد روى قتادة عن الحسن أن النبي ﷺ قال :« أَدِّ الأَمَانَةَ إلى مَنِ ائْتَمَنَكَ وَلاَ تَخُنْ مَنْ خَانَك
».
روى الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ﷺ :« مَنْ أَطَاَعنِي فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ عَصَا اللهَ، وَمَنْ عَصَا أَمِيرِي فَقَدْ عَصَانِي
». وفي طاعة الرسول قولان : أحدهما : اتباع سنته، وهو قال عطاء.
والثاني : وأطيعوا الرسول إن كان حياً، وهو قول ابن زيد.
وفي أولي الأمر أربعة أقاويل :
أحدها : هم الأمراء، وهو قول ابن عباس، وأبي هريرة، والسدي، وابن زيد.
وقد روى هشام عن عروة عن أبي صالح عن أبي هريرة أن النبي ﷺ قال :« سَيَلِيكُم بَعْدِي وُلاَةٌ، فَيَلِيكُمُ البَرُّ بِبِرِّهِ، وَبَلِيكُمُ الفَاجِرُ بِفجُورِهِ، فَاسْمَعُوا لَهُم وَأَطِيعُوا فِي كُلِّ مَا وَافَقَ الحَقَّ، وَصَلُّوا وَرَاءَهُم، فإِن أَحْسَنٌواْ فَلَكُم وَلَهُم، وإنْ أَساءُوا فَلَكُم وَعَليهُم
». واختلف قائلو هذا القول في سبب نزولها في الأمراء، فقال ابن عباس : نزلت في عبد الله بن حذافة بن قيس السهمي إذ بعثه رسول الله ﷺ في سرية. وقال السدي : نزلت في عمار بن ياسر، وخالد بن الوليد حين بعثهما رسول الله ﷺ في سرية.
والقول الثاني : هم العلماء والفقهاء، وهو قول جابر بن عبد الله، والحسن، وعطاء، وأبي العالية.
والثالث : هم أصحاب رسول الله ﷺ، وهو قول مجاهد.
والرابع : هم أبو بكر وعمر، وهو قول عكرمة.
وطاعة وَلاَةِ الأمر تلزم في طاعة الله دون معصيته، وهي طاعة يجوز أن تزول، لجواز معصيتهم، ولا يجوز أن تزول طاعة رسول الله ﷺ، لامتناع معصيته.
وقد روى نافع عن عبد الله عن النبي ﷺ قال :« عَلَى المرَءِ المُسْلِمِ الطَّاعةُ فِيمَا أَحبَّ أو كَرِهَ إلاََّ أَنْ يُؤْمَرَ بِمَعْصِيةٍ فَلاَ طَاعَةَ
». قوله تعالى :﴿ فَإِن تَنَازَعْتُم فِي شَيءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ ﴾ قال مجاهد، وقتادة : يعني إلى كتاب الله وسنة رسوله.
﴿ إِن كُنتُم تُؤُمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَومِ الآَخِرِ ذَلِكَ خَيرٌ وَأَحسَنُ تَأْوِيلاً ﴾ فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : أَحْمَدُ عَاقِبَةً، وهذا قول قتادة، والسدي، وابن زيد.
والثاني : أَظَهَرُ حَقاً وأَبْيَنُ صَواباً، وهو معنى قول مجاهد.
والثالث : أحسن من تأويلكم الذي لا يرجع إلى أصل ولا يفضي إلى حق، وهذا قول الزجاج.
أحدهما : أنها نزلت في رجل من المنافقين ورجل من اليهود كان بينهما خصومة، فقال اليهودي : أحاكمك إلى أهل دينك لأني أعلم أنهم لا يقبلون الرشوة، وقال المنافق : أحاكمك إلى اليهود منهم كعب بن الأشرف، لأنه علم أنهم يقبلون الرشوة، فاصطلحا أن يتحاكما إلى كاهن من جهينة، فأنزل الله فيهما هذه الآية ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ ءَامَنُواْ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ ﴾ يعني المنافق ﴿ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ ﴾ يعني اليهودي. ﴿ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ ﴾ يعني الكاهن، وهذا قول الشعبي ومجاهد.
والثاني : أنها نزلت في رجلين من بني النضير وبني قريظة، وكانت بنو قريظة في الجاهلية إذا قتلت رجلاً من بني النضير أقادوا من القاتل، وكانت بنو النضير في الجاهلية إذا قتلت رجلاً من بني قريظة لم تَقُد من القاتل وأعطوا ديته ستين وَسْقاً من تمر، فلما أسلم ناس من بني قريظة وبني النضير، قتل رجل من بني النضير رجلاً من بني قريظة فتحاكمواْ إلى النبي ﷺ، فقال النَّضِيِرِيُّ لرسول الله : إنا كنَّا في الجاهلية نعطيهم الدية ستين وَسَقاً من تمر، فنحن نعطيهم اليوم ذلك، وقالت بنو قريظة : نحن إخوان في النسب والدين وإنما كان ذلك عليه الجاهلية وقد جاء الإسلام، فأنزل الله تعالى يعيِّرهم بما فعلواْ ﴿ وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ ﴾ [ المائدة : ٤٥ ]، ثم ذكر قول بني النضير ﴿ أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ ﴾ [ المائدة : ٥٠ ] ثم أَخَذَ النَّضِيرِيَّ فقتله بالقرظي، فتفاخرت النضير وقريظة ودخلواْ المدينة، فتحاكموا إلى أبي بردة الأسلمي الكاهن، فأنزل الله في ذلك ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُم ءَامَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيكَ ﴾ [ النساء : ٦٠ ] يعني في الحال، ﴿ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ ﴾ يعني حين كانوا يهوداً. ﴿ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ ﴾ يعني أبا بردة الأسلمي الكاهن، وهذا قول السدي.
قوله تعالى :﴿ فَكَيفَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةُ.. ﴾ الآية في سبب نزولها قولان :
أحدهما : أن عمر قتل منافقاً لم يرض بحكم رسول الله ﷺ، فجاء إخوانه من المنافقين يطالبون بدمه، وحلفواْ بالله أننا ما أردنا في المطالبة بدمه إلا إحساناً إلى النساء، وما يوافق الحق في أمرنا.
والثاني : أن المنافقين بعد القَوَدِ من صاحبهم اعتذرواْ إلى رسول الله ﷺ في محاكمتهم إلى غيره بان قالواْ ما أردنا في عدولنا عنك إلا توفيقاً بين الخصوم وإحساناً بالتقريب في الحكم دون الحمل على مُرّ الحق، فنزلت هذه الآية.
قوله تعالى :﴿ أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللهُ مَا فِي قُلُوبِهِم ﴾ يعني من النفاق الذي يضمرونه.
﴿ فَأَعْرِضْ عَنهُم وَعِظْهُم ﴾ وفي الجمع بين الإعراض والوعظ مع تنافي اجتماعهما في الظاهر - ثلاثة أوجه :
أحدها : أعرض عنهم بالعداوة لهم وعِظهم فيما بدا منهم.
والثاني : أعرض عن عقابهم وعظهم.
والثالث : أعرض عن قبول الأعذار منهم وعظهم.
﴿ وَقُل لَّهُم فِي أَنْفُسِهِم قَوْلاً بَلِيغاً ﴾ فيه قولان :
أحدهما : أن يقول لهم : إن أظهرتم ما في قلوبكم قتلكم، فإنه يبلغ من نفوسهم كل مبلغ، وهذا قول الحسن.
والثاني : أن يزجرهم عما هم عليه بأبلغ الزواجر.
﴿ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيتَ ﴾ وفي الحرج تأويلان :
أحدهما : يعني شكّاً وهو قول مجاهد.
والثاني : يعني إثماً، وهو قول الضحاك.
واختلف في سبب نزولها على قولين.
أحدهما : أنها نزلت في المنافق واليهودي اللَّذين احتكما إلى الطاغوت، وهذا قول مجاهد، والشعبي.
والثاني : أنها نزلت في الزبير ورجل من الأنصار قد شهد بدراً، تخاصما إلى رسول الله ﷺ في شراج من الحرّة كانا يسقيان به نخلاً، فقال رسول الله ﷺ « اسْقِ يا زُبَيرُ ثُمَّ أَرسِل المَاءَ إلَى جَارِكَ » فغضب الأنصاري وقال : يا رسول الله آن كان ابن عمتك، فَتَلَوِّنَ وجه رسول الله ﷺ حتى عرف أن قد ساءه، ثم قال يا زبير :« احْبسِ المَاءَ إلَى الجُدُرِ أو الكَعْبَينِ ثَمَّ خَلِّ سَبِيلَ المَاءِ » فنزلت هذه الآية، وهذا قول عبد الله بن الزبير، وعروة، وأم سلمة.
وفي تسمية الصديق قولان :
أحدهما : أنه فِعِّيل من الصِّدْقِ.
والثاني : أنه فِعّيل من الصَدَقَة. وأما الشهداء فجمع شهيد، وهو المقتول في سبيل اللَّه تعالى.
وفي تسمية الشهيد قولان :
أحدهما : لقيامه بشهادة الحق، حتى قتل في سبيل الله.
والثاني : لأنه يشهد كرامة الله تعالى. في الآخرة. ويشهد على العباد بأعمالهم يوم القيامة إذا ختم له بالقتل في سبيل الله.
وأما الصالحون فجمع صالح وفيه قولان :
أحدهما : أنه كل من صلح عمله.
والثاني : هو كل من صلحت سريرته وعلانيته.
وأما الرفيق ففيه قولان :
أحدهما : أنه مأخوذ من الرفق في العمل.
والثاني : أنه مأخوذ من الرفق في السير.
وسبب نزول هذه الآية على ما حكاه الحسن وسعيد بن جبير وقتادة والربيع والسدي أنَّ ناساً توهموا أنهم لا يرون الأنبياء في الجنة لأنهم في أعلى عليين، وحزنوا وسألوا النبي ﷺ فنزلت هذه الآية.
أحدهما : يعني احذرواْ عَدُوَّكم.
والثاني : معناه خذواْ سلاحكم فسماه حذراً لأنه به يتقي الحذر.
﴿ فَانفِرُواْ ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرو جَمِيعاً ﴾ والثُّبات : جمع ثُبة، والثُبةُ العُصْبة، ومنه قول زهير :
لقد أغدو على ثُبةٍ كرام...... نشاوَى واجدين لما نشاء
فيكون معنى لآية فانفروا عُصَباً وفِرقاً أو جميعاً.
قوله تعالى :﴿ فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَياةَ الْدُّنْيَا بِالأَخِرةِ ﴾ يعني يبيعون الحياة الدنيا بالآخرة، فعبر عن البيع بالشراء.
﴿ وَمَن يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً ﴾ فإن قيل فالوعد من الله تعالى على القتال فكيف جعل على القتل أو الغلبة؟ قيل لأن القتال يفضي غالباً إلى القتل فصار الوعد على القتال وعداً على من يفضي إليه، والقتال على ما يستحقه من الوعد إذا أفضى إلى القتل والغلبة أعظم، وهكذا أخبر.
أحدها : أنها نزلت في ناس من الصحابة استأذنوا النبي ﷺ بمكة في قتال المشركين فلم يأذن لهم، فلما كُتِبَ عليهم القتال وهم بالمدينة قال فريق منهم ما ذكره الله عنهم، وهذا قول ابن عباس، وعكرمة، وقتادة، والسدي.
والثاني : أنها نزلت في المنافقين، وهو قول بعض البصريين.
والثالث : أنها نزلت في اليهود.
والرابع : أنها من صفة المؤمن لما طُبعَ عليه البشر من المخافة، وهذا قول الحسن.
﴿ أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ ﴾ في البروج ها هنا ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنها القصور، وهو قول مجاهد، وابن جريج.
والثاني : أنها قصور في السماء بأعيانها تسمى بهذا الاسم، وهو قول السدي، والربيع.
والثالث : أنها البيوت التي في الحصون وهو قول بعض البصريين.
وأصل البروج الظهور، ومنه تبرج المرأة إذا أظهرت نفسها.
وفي المُشّيَّدَةِ ثلاثة أقاويل :
أحدها : المجصصة، والشيد الجص، وهذا قول بعض البصريين.
والثاني : أن المُشّيَّدَ المطول في الارتفاع، يقال شاد الرجل بناءه وأشاده إذا رفعه، ومنه أَشدت بذِكِرْ الرجل إذا رَفَعْتَ منه، وهذا قول الزجاج.
والثالث : أن المُشّيَّد، بالتشديد : المُطَّول، وبالتخفيف : المجصَّص.
قوله تعالى :﴿ وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنةٌ يَقُولُواْ هَذِهِ مِنْ عِندِ اللهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هَذِهِ مِنْ عِندِكَ ﴾ في القائلين ذلك قولان :
أحدهما : أنهم المنافقون، وهو قول الحسن.
والثاني : اليهود، وهو قول الزجاج.
وفي الحسنة والسيئة ها هنا ثلاثة تأويلات :
أحدها : البؤس والرخاء.
والثاني : الخصب والجدب، وهو قول ابن عباس، وقتادة.
والثالث : النصر والهزيمة، وهو قول الحسن، وابن زيد.
وفي قوله :﴿ مِنْ عِندِكَ ﴾ تأويلان :
أحدهما : أي بسوء تدبيرك، وهو قول ابن زيد.
والثاني : يعنون بالشؤم الذي لحقنا منك على جهة التطُّير به، وهذا قول الزجاج، ومثله قوله تعالى :﴿ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُواْ بِمُوسَى وَمَن مَّعَهُ ﴾ [ الأعراف : ١٣١ ].
قوله تعالى :
﴿ مَا أَصَابَكَ مِن حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَمَآ أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِك ﴾ اختلف في المراد بهذا الخطاب على ثلاثة أقاويل.
أحدها : أن الخطاب متوجه إلى النبي ﷺ وهو المراد به.
والثاني : أنه متوجه إلى النبي ﷺ والمراد به غيره، وهو قول الزجاج.
والثالث : أنه متوجه إلى الإنسان، وتقديره : ما أصابك أيها الإنسان من حسنة فمن الله، وهذا قول قتادة.
وفي الحسنة والسيئة ها هنا ثلاثة أقاويل :
أحدها : أن الحسنة النعمة في الدين والدنيا، والسيئة المصيبة في الدين والدنيا، وهذا قول بعض البصريين.
والثاني : أن الحسنة ما أصابه يوم بدر، والسيئة ما أصابه يوم أحد من شج رأسه وكسر رباعيته، وهو قول ابن عباس، والحسن.
والثالث : أن الحسنة الطاعة، والسيئة المعصية، وهذا قول أبي العالية. قوله تعالى :﴿ فَمِن نَّفْسِكَ ﴾ قولان :
أحدهما : يعني فبذنبك.
والثاني : فبفعلك.
﴿ وَمَن تَوَلَّى فَمَآ أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً ﴾ فيه تأويلان :
أحدهما : يعني حافظاً لهم من المعاصي حتى لا تقع منهم.
والثاني : حافظاً لأعمالهم التي يقع الجزاء عليها فتخاف ألاّ تقوم بها، فإن الله تعالى هو المجازي عليها.
﴿ وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ ﴾ يعني المنافقين، أي أمرنا طاعة.
﴿ فَإِذَا بَرَزُواْ مِنْ عِندِكَ بَيَّتَ طَآئِفَةٌ مِّنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ ﴾ والتبييت كل عمل دُبِّر ليلاً، قال عبيد بن همام :
أتوني فلم أرض ما بيّتوا | وكانواْ أتوْني بأمرٍ نُكُر |
لأُنْكِحَ أَيِّمَهُمْ منذراً | وهل يُنْكِحُ الْعَبْدُ حُرٌّ لحُرْ؟ |
أحدهما : لأن الليل وقت المبيت.
والثاني : لأنه وقت البيوت.
وفي المراد بقوله تعالى :﴿ بَيَّتَ طَآئِفَةٌ مِّنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ ﴾ قولان :
أحدهما : أنها غيّرت ما أضمرت من الخلاف فيما أمرتهم به أو نهيتهم عنه، وهذا قول ابن عباس، وقتادة، والسدي.
والثاني : معناه فدبَّرت غير الذي تقول على جهة التكذيب، وهذا قول الحسن.
﴿ وَاللهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ ﴾ فيه قولان :
أحدهما : يكتبه في اللوح المحفوظ ليجازيهم عليه.
والثاني : يكتبه بأن ينزله إليك في الكتاب، وهذا قول الزجاج.
﴿ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً ﴾ في الاختلاف ها هنا ثلاثة أقاويل :
أحدها : تناقض من جهة حق وباطل، وهذا قول قتادة، وابن زيد.
والثاني : من جهة بليغ ومرذول، وهو قول بعض البصريين.
والثالث : يعني اختلافاً في الأخبار عما يُسِرُّونَ، وهذا قول الزجاج.
قوله تعالى :﴿ وَإِذَا جَآءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ ﴾ في المعني بهذا قولان :
أحدهما : المنافقون، وهو قول ابن زيد والضحاك.
والثاني : أنهم ضعفة المسلمين، وهو قول الحسن، والزجاج.
﴿ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ ﴾ وفيهم ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنهم الأمراء، وهذا قول ابن زيد، والسدي.
والثاني : هم أمراء السرايا.
والثالث : هم أهل العلم والفقه، وهذا قول الحسن، وقتادة، وابن جريج، وابن نجيح، والزجاج.
﴿ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ ﴾ فيهم قولان :
أحدهما : أنهم أولو الأمر.
والثاني : أنهم المنافقون أو ضعفة المسلمين المقصودون بأول الآية، ومعنى يستنبطونه : أي يستخرجونه، مأخوذ من استنباط الماء، ومنه سُمِّي النبط لاستنباطهم العيون.
﴿ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لآتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً ﴾ في فضل الله ها هنا ثلاثة أقاويل :
أحدها : يعني النبي ﷺ.
والثاني : القرآن.
والثالث : اللطف والتوفيق.
وفي قوله تعالى :﴿ لآتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً ﴾ أربعة أقاويل :
أحدها : يعني لاتبعتم الشيطان إلا قليلاً منكم فإنه لم يكن يتبع الشيطان.
والثاني : لعلمه الذين يستنبطون إلا قليلاً منكم وهذا قول الحسن وقتادة.
والثالث : أذاعوا به إلا قليلاً، وهذا قول ابن عباس، وابن زيد.
والرابع : لاتبعتم الشيطان إلا قليلاً مع الاتباع.
أحدهما : أنه مسألة الإنسان في صاحبه أن يناله خير بمسألته أو شر بمسألته، وهذا قول الحسن، ومجاهد، وابن زيد.
والثاني : أن الشفاعة الحسنة الدعاء للمؤمنين، والشفاعة السيئة الدعاء عليهم، لأن اليهود كانت تفعل ذلك فتوعَّدَهُم الله عليه. وفي الكِفْلِ تأويلان :
أحدها : أنه الوِزر والإثم، وهو قول الحسن، وقتادة.
والثاني : أنه النصيب، كما قال تعالى :﴿ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ ﴾ [ الحديد : ٢٨ ] وهو قول السدي، والربيع، وابن زيد.
﴿ وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقِيتاً ﴾ فيه خمسة تأويلات :
أحدها : يعني مقتدراً، وهو قول السدي، وابن زيد.
والثاني : حفيظاً، وهو قول ابن عباس، والزجاج.
والثالث : شهيداً، وهو قول مجاهد.
والرابع : حسيباً، وهو قول ابن الحجاج، ويحكى عن مجاهد أيضاً.
والخامس : مجازياً، وأصل المقيت القوت، فَسُمِّي به المقتدر لأنه قادر على إعطاء القوت، ثم صار اسماً في كل مقتدر على كل شيءٍ من قوت غيره، كما قال الزبير ابن عبد المطلب :
وذي ضَغَنٍ كَففْتُ النَّفْسَ عنه | وكنتُ على مَسَاءَتِهِ مُقِيتاً |
أحدهما : أنه الدعاء بطول الحياة.
والثاني : السلام تطوع مستحب، ورده فرض، وفيه قولان :
أحدهما : أن فرض رّدِّهِ عَامٌّ في المسلم والكافر، وهذا قول ابن عباس، وقتادة، وابن زيد.
والثاني : أنه خاص في المسلمين دون الكافر، وهذا قول عطاء.
وقوله تعالى :﴿ بِأَحْسَنَ مِنْهَآ ﴾ يعني الزيادة في الدعاء.
﴿ أَوْ رُدُّوهَا ﴾ يعني بمثلها، وروى الحسن أن رجلاً سلَّم على رسول الله ﷺ فقال : السلام عليكم فقال رسول الله ﷺ :« وَعَلَيْكُمُ السَّلاَمُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ » ثم جاء آخر فقال : السلام عليكم ورحمة الله، فقال النبي ﷺ :« وَعَلَيْكُمُ السَّلاَمُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وًبَرَكاَتُهُ » ثم جاء آخر فقال :« السلام عليكم ورحمة الله وبركاته فقال النبي ﷺ :» وَعَلَيْكُم « فقيل : يا رسول الله رددت على الأول والثاني وقلت للثالث وعليكم، فقال :» إِنَّ الأَوَّلَ سَلّمَ وَأَبْقَى مِنَ التَّحِيَّةِ شَيئاً، فَرَدَدْتُ عَلَيهِ بِأَحْسَنَ مِمَّا جَاءَ بِهِ، كَذَلِكَ الثَّانِي، وإنَّ الثَّالِثَ جَاءَ بِالتَّحِيَّةِ كُلِّهَا، فَرَدَدْتُ عَلَيهِ مِثْلَ ذَلِكَ
«. وقد قال ابن عباس : ترد بأحسن منها على أهل الإِسلام، أو مثلها على أهل الكفر، وروي عن النبي ﷺ أنه قال :» لا تَبْدَأُواْ اليَهُودُ بِالسَّلاَمِ فَإِنْ بَدَأُوكُم فَقُولُواْ : عَلَيكُم
«. ﴿ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً ﴾ فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : يعني حفيظاً، وهو قول مجاهد.
والثاني : محاسباً على العمل للجزاء عليه، وهو قول بعض المتكلمين.
والثالث : كافياً، وهو قول البلخي.
قوله تعالى :﴿ الله لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَومِ الْقِيَامَةِ ﴾ وفي تسمية القيامة قولان :
أحدهما : لأن الناس يقومون فيه من قبورهم.
والثاني : لأنهم يقومون فيه للحساب.
أحدها : أنها نزلت في الذين تخلَّفُواْ عن رسول الله ﷺ يوم أحد، وقالواْ : لو نعلم قتالاً لاتبعناكم، وهذا قول زيد بن ثابت.
والثاني : أنها نزلت في قوم قَدِمُواْ المدينة فأظهروا الإسلام، ثم رجعواْ إلى مكة فأظهروا الشرك، وهذا قول الحسن، ومجاهد.
والثالث : أنها نزلت في قوم أظهرواْ الإِسلام بمكة وكانواْ يعينون المشركين على المسلمين، وهذا قول ابن عباس، وقتادة.
والرابع : أنها نزلت في قوم من أهل المدينة أرادوا الخروج عنها نفاقاً، وهذا قول السدي.
والخامس : أنها نزلت في قوم من أهل الإفك، وهذا قول ابن زيد.
وفي قوله تعالى :﴿ وَاللهُ أَرْكَسَهُم بِمَا كَسَبُوا ﴾ خمسة تأويلات :
أحدها : معناه ردهم، وهذا قول ابن عباس.
والثاني : أوقعهم، وهذا مروي عن ابن عباس أيضاً.
والثالث : أهلكهم، وهذا قول قتادة.
والرابع : أَضَلَّهم، وهذا قول السدي.
والخامس : نكسهم، وهذا قول الزجاج.
﴿ أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُواْ مَنْ أَضَلَّ اللهُ ﴾ فيه قولان :
أحدهما : أن تُسَمُّوهم بالهُدى وقد سمّاهم الله بالضلال عقوبة لهم.
والثاني : تهدوهم إلى الثواب بمدحهم والله قد أَضَلَّهم بذمهم.
﴿.... إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ ﴾ أي يدخلون في قوم بينكم وبينهم أمان فلهم منه مثل ما لكم.
قال عكرمة : نزلت في الهلال بن عويمر الأسلمي، وسراقة بن مالك بن جُعْثَم، وخزيمة بن عامر بن عبد مناف.
قال الحسن : هؤلاء بنو مُدْلِج كان بينهم وبين قريش عهد، وبين رسول الله ﷺ [ وقريش ] عهد، فحرم الله من بني مُدْلِجِ ما حرّم من قريش.
﴿ أَوْ جَآؤُكُمْ حَصِرتْ صُدُورُهُمْ أَن يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُواْ قَوْمَهُمْ ﴾ معنى حصرت أي ضاقت، ومنه حُصِرَ العدو وهو الضيق، ومنه حصر العداة لأنهم قد ضاقت عليهم مذاهبهم.
ثم فيه قولان :
أحدهما : أنه إخبارٌ من الله عنهم بأن صدورهم حَصِرتْ.
والثاني : أنه دعاء من الله عليهم بأن تُحصَرَ صدورهم، وهذا قول أبي العباس.
﴿ وَلَوْ شَآءَ اللهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ ﴾ وفي تسليطهم قولان :
أحدهما : بتقوية قلوبهم.
والثاني : بالإذن في القتال ليدافعواْ عن أنفسهم.
﴿ فَإِن اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ ﴾ فيه قولان :
أحدهما : الصلح، وهو قول الربيع.
والثاني : الإِسلام، وهو قول الحسن.
﴿ فَمَا جَعَلَ اللهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً ﴾ قال الحسن، وقتادة، وعكرمة : هي منسوخة بقوله تعالى :﴿ فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ﴾ [ التوبة : ٥ ].
قوله تعالى :﴿ سَتَجِدُونَ ءَاخَرِينَ يُرِيدُونَ أَن يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُواْ قَوْمَهُمْ ﴾ هم قوم يُظْهِرُونَ لقومهم الموافقة ليأمنوهم، وللمسلمين الإسلام ليأمنوهم، وفيهم أربعة أقاويل :
أحدها : أنهم أهل مكة، وهذا قول مجاهد.
والثاني : أنهم من أهل تهامة، وهذا قول قتادة.
والثالث : قوم من المنافقين، وهذا قول الحسن.
والرابع : أنه نعيم بن مسعود الأشجعي، وهذا قول السدي.
﴿ كُلَّ مَا ردُوُّاْ إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُواْ فِيهَا ﴾ أي كلما رُدُّوا إلى المحنة في إظهار الكفر رجعواْ فيه.
أحدهما : أنها نزلت في عياش بن أبي ربيعة المخزومي وكان أخا أبي جهل لأمه قتل الحارث بن زيد من بني عامر بن لؤي، لأنه كان يعذب عياشاً مع أبي جهل واختلف أين قتله، فقال عكرمة ومجاهد : قتله بالحرّة بعد هجرته إلى المدينة وهو لا يعلم بإسلامه، وقال السدي : قتله يوم الفتح وقد خرج من مكة وهو لا يعلم بإسلامه.
والقول الثاني : أنها نزلت في أبي الدرداء حين قتل رجلاً بالشعب فحمل عليه بالسيف، فقال : لا إله إلا الله، فبدر فضربه ثم وجد في نفسه فأتى رسول الله ﷺ فذكر له، فقال رسول الله ﷺ :« أّلاَ شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ
» وهذا قول ابن زيد. فأنزل الله تعالى :﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَأً ﴾ يعني وما أّذِنَ الله لمؤمن أن يقتل مؤمناً.
ثم قال :﴿ إلاَّ خَطَأ ﴾ يعني أن المؤمن قد يقتل المؤمن خطأ وليس مما جعله الله له، وهذا من الاستثناء الذي يسميه أهل العربية : الاستثناء المنقطع، ومنه قول جرير :
من البيض لم تظعن بعيداً ولم تطأ | على الأرض إلاّ ريْط بُردٍ مرحّلِ |
﴿ وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ ﴾ وفيها قولان :
أحدهما : أنها لا يجزىء عتقها في الكفارة إلا أن تكون مؤمنة بالغة قد صلت وصامت، وهذا قول ابن عباس، والشعبي، والحسن، وقتادة، وإبراهيم.
والقول الثاني : أن الصغيرة المولودة من أبوين مسلمين تكون مؤمنة تجزىء في الكفارة، وهذا قول عطاء، والشافعي.
﴿ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ ﴾ في الدية وجهان :
أحدهما : أنها مجملة أخذ بيانها من رسول الله ﷺ.
والثاني : أنها معهودة تقدم العمل بها ثم توجه الخطاب إليها فجعل الله الرقبة تكفيراً للقاتل في ماله والدية بدلاً من نفس المقتول على عاقلته.
﴿ فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ ﴾ فيه قولان :
أحدهما : أي إن كان قومه كفاراً وهو مؤمن ففي قتله تحرير رقبة مؤمنة وليس فيه ديةُ، وهو قول ابن عباس، والحسن، وقتادة، وابن زيد. قال ابن زيد : لا تؤدى إليهم لأنهم يَتَقوُّونَ بها.
والثاني : معناه فإن كان من قومٍ عدو لكم يعني أهل حرب إذا كان فيهم مؤمن فَقُتِلَ من غير علم بإيمانه ففيه الكفارة دون الدية سواء كان وارثه مسلماً أو كافراً وهذا قول الشافعي، ويكون معنى قوله :﴿ من قوم إلى قوم ﴾، وعلى القول الأول هي مستعملة على حقيقتها.
أحدها : هم أهل الذمة من أهل الكتاب، وهو قول ابن عباس، يجب في قتلهم الدية والكفارة.
والثاني : هم أهل عهد رسول الله ﷺ من العرب خاصة، وهذا قول الحسن.
والثالث : هم كل من له أمان بذمة أو عهد فيجب في قتله الدية والكفارة، وهو قول الشافعي.
ثم قال تعالى :﴿ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ ﴾ فيه قولان :
أحدهما : أن الصوم بدل من الرقبة وحدها إذا عدمها دون الدية، وهذا قول الجمهور.
والثاني : أنه بدل من الرقبة والدية جميعاً عند عدمها، وهذا قول مسروقٍ.
قوله تعالى :﴿ وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا ﴾ قال ابن جريج : نزلت في مقيس بن صبابة، وقد كان رجل من بني فهر قتل أخاه، فأعطاه النبي ﷺ الدية وضربها علي بني النجار، فقبلها، ثم بعث رسول الله ﷺ مقيس بن صبابة ومعه الفهري في حاجة فاحتمل مقيس الفهريَّ وكان أَيِّدا فضرب به الأرض ورضخ رأسه بين حجرين ثم ألقى يغني :
قتلت به فِهراً وحملت عقله | سراة بني النجار أرباب فارع |
». وروى سالم بن أبي الجعد عن ابن عباس عن رسول الله ﷺ :« وَمَن يَقْتُلْ مَؤْمِناً مُّتَعمِدّاً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ... » الآية، فقيل له : وإن تاب وآمن وعمل صالحاً. قال وأنَّى له التوبة. قال زيد بن ثابت. فنزلت الشديدة بعد الهدنة بستة أشهر، يعني قوله تعالى :﴿ وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا ﴾ بعد قوله :﴿ وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلَهاً ءَاخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهَ إِلاَّ بِالْحَقِّ ﴾ [ الفرقان : ٦٨ ].
الآية. قيل إنها نزلت في رجل كانت معه غُنَيْمَاتُ لقيته سريَّة لرسول الله صلى الله عليهم وسلم، فقال لهم : السلام عليكم لا إله إلا الله محمد رسول الله، فبدر إليه بعضهم فقتله، فلما أتى رسول الله ﷺ قال له :« لِمَ قَتَلْتَهُ وَقَدْ أَسْلَمَ » قال إنما قالها تعوذاً، قال :« هَلاَّ شَقَقْتَ عَن قَلْبِهِ » ثم حمل رسول الله ﷺ ديته إلى أهله وردّ عليهم غنمه.
واختلف في قاتله على خمسة أقاويل :
أحدها : أنه أسامة بن زيد، وهو قول السدي.
والثاني : أنه المقداد، وهو قول سعيد ابن جبير.
والثالث : أبو الدرداء، وهو قول ابن زيد.
والرابع : عامر بن الأضبط الأشجعي، وهو قول ابن عمر.
والخامس : هو محلِّم بن جثامة الليثي. ويقال إن القاتل لفظته الأرض ثلاث مرات، فقال رسول الله ﷺ :« إنَّ الأَرْضَ لَتَقْبَلُ مَنْ هُوَ شَرٌ مِّنهُ وَلَكنَّ اللَّهَ جَعَلهُ لَكُم عِبْرَةً، ثُمَّ أَمَرَ بِأَن تُلْقْى عَلَيهِ الحِجَاَرةُ
». ﴿ كَذَلِكَ كنتُم مِّن قَبْلُ ﴾ أي كفاراً مثلهم.
﴿ فَمَنَّ اللهُ عَلَيْكُمْ ﴾ يعني بالإسلام.
في المراغم خمسة تأويلات :
أحدها : أنه المتحوَّل من أرض إلى أرض، وهذا قول ابن عباس والضحاك. ومنه قول نابغة بني جعدة :
كطْودٍ يُلاذ بأركانه... | عزيز المراغم والمطلب |
إلى بلدٍ غير داني المحل... | بَعيد المُراغم والمطلب |
والرابع : يعني بالمراغم مندوحة عما يكره.
والخامس : أن يجد ما يرغمهم به، لأن كل من شخص عن قومه رغبة عنهم فقد أرغمهم، وهذا قول بعض البصريين.
وأصل ذلك الرغم وهو الذل. والرّغام : التراب لأنه ذليل، والرُّغام بضم الراء ما يسيل من الأنف.
وفي قوله تعالى :﴿ وَسَعَةً ﴾ ثلاث تأويلات :
أحدها : سعة في الرزق وهو قول ابن عباس.
والثاني : يعني من الضلالة إلى الهدى ومن العيلة إلى الغنى، وهو قول قتادة.
والثالث : سعة في إظهار الدين.
﴿ فَلَيسَ عَلَيكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِن الصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾ اختلف في هذا القصر المشروط بالخوف على قولين :
أحدهما : أنه قَصَرَ أركانها إذا خاف، مع استيفاء أعدادها فيصلي عند المسايفة والتحام القتال كيف أمكنه قائماً وقاعداً ومومياً، وهي مثل قوله :﴿ فَإِنْ خِفْتُمْ فِرجَالاً أَوْ رُكْبَاناً ﴾ [ البقرة : ٢٣٩ ] وهذا قول ابن عباس.
والثاني : أنه قصر أعدادها من أربع إلى ما دونها، وفيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أن هذا مشروط بالخوف من أربع إلى ركعتين، فإن كان آمناً مقيماً لم يقصر، وهذا قول سعد بن أبي وقاص، وداود بن علي.
والثاني : أنه قَصْران، فقصر الأمَنْ، من الأربع إلى ركعتين، وقصر الخوف من ركعتين إلى ركعة، وهذا قول جابر بن عبد الله والحسن. وقد روى مجاهد عن ابن عباس قال : فرض الله تعالى على لسان نبيكم ﷺ في الحضر أربعاً وفي السفر ركعتين، وفي الخوف ركعة.
والثالث : أنه يقصر في سفر خائفاً وآمناً من أربع إلى ركعتين لا غير.
روي عن أبي أيوب عن علي عليه السلام قال : سأل قوم من التجار رسول الله ﷺ قالوا : يا رسول إنا نضرب في الأرض فكيف نصلي؟ فأنزل الله تعالى :﴿ وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِن الصَّلاَةِ ﴾ ثم انقطع الوحي، فلما كان بعد ذلك بحول غزا النبي ﷺ فصلى الظهر، فقال المشركون : لقد أمكنكم محمد وأصحابه من ظهورهم هلاّ شددتم عليهم؟ فقال قائل منهم : إن لهم أُخرى مثلها في أثرها، فأنزل الله تعالى بين الصلاتين ﴿ إِن خِفْتُم أَن يَفْتِنَكُم الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُواْ لَكُم عَدُوّاً مُبِيْناً ﴾ إلى قوله :﴿ عَذَاباً مُّهِيناً ﴾ فنزلت صلاة الخوف.
أحدهما : أنه خاص له وليس لغيره من أمته أن يصلي في الخوف كصلاته، لأن المشركين عزموا على الإيقاع بالمسلمين إذا اشتغلوا بصلاتهم، فاطلع الله نبيه على سرائرهم وأمره بالتحرز منهم، فكان ذلك سبب إسلام خالد بن الوليد، فلذلك صار هذا خاصاً للنبي ﷺ، وهذا القول محكي عن أبي يوسف.
والقول الثاني : أن ذلك عام للنبي ﷺ ولغيره من أمته إذا كان على مثل حاله في خوفه، لأن ذكر السبب الذي هو الخوف يوجب حمله عليه متى وجد كما فعل الصحابة بعده حين خافوا وهو قول الجمهور.
وقوله تعالى :﴿ فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ ﴾ يعني مع النبي ﷺ في الصلاة، وطائفة بإزاء العدو.
ثم قال تعالى :﴿ وَلْيَأْخُذُواْ أَسْلِحَتَهُمْ ﴾ فيه قولان :
أحدهما : أن المأمورين بأخذ السلاح هم الذين مع رسول الله ﷺ، وهذا قول الشافعي.
والثاني : هم الذين بإزاء العدو يحرسون، وهذا قول ابن عباس.
ثم قال تعالى :﴿ فَإِذَا سَجَدُواْ ﴾ يعني فإذا سجدت الطائفة التي معك في الصلاة.
﴿ فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَآئِكُمْ ﴾ يعني بإزاء العدو.
واختلفوا في قوله تعالى :﴿ مِن وَرَآئِكُمْ ﴾ هل ذلك بعد فراغهم من الصلاة وتمامها بالركعة التي أدركوها معه؟ على قولين :
أحدهما : قد تمت بالركعة حتى يصلوا معها بعد فراغ الإمام ركعة أخرى، وهذا قول من أوجب عليه الخوف ركعتين.
ومن قال بهذا اختلفوا هل يتمون الركعة الباقية عليهم قبل وقوفهم بإزاء العدو أو بعده؟ على قولين :
أحدهما : قبل وقوفهم بإزاء العدو، وهو قول الشافعي.
والثاني : بعده وهو قول أبي حنيفة.
ثم قال تعالى :﴿ وَلْتَأْتِ طَآئِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّواْ فَلْيُصَلُّواْ مَعَك ﴾ يريد الطائفة التي بإزاء العدو تأتي فتصلي مع رسول الله ﷺ الركعة التي بقيت عليه، وتمضي الطائفة التي صلّت فتقف موضعها بإزاء العدو. وإذا صلت مع النبي ﷺ الركعة الباقية عليه ففيه قولان :
أحدهما : أن ذلك فرضها وتسلم بسلامه، وهذا قول من جعل فرضه في الخوف ركعة.
والقول الثاني : أن عليها ركعة أخرى، وهذا قول من جعل فرضه في الخوف ركعتين كالأمن، فعلى هذا متى تفارقه؟ فعلى قولين :
أحدهما : قبل تشهده.
والثاني : بعده، وقد روى القولين معاً سهل بن أبي حَثمة عن النبي ﷺ.
وهل تتم ركعتها الباقية وقوفها بإزاء العدو؟ على قولين :
أحدهما : تتمها قبل الوقوف بإزائه، وهو قول الشافعي.
والثاني : تقف بإزائه قبل إتمامها حتى إذا أتمت الطائفة الأولى ركعتها عادت فوقفت بإزاء العدو، ثم خرجت هذه فأتمت ركعتها، وهذا قول أبي حنيفة.
وهذه الصلاة هي نحو صلاة النبي ﷺ بذات الرقاع.
﴿ فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ ﴾ فيه تأويلان :
أحدهما : يعني فإذا أقمتم بعد السفر فأتموا الصلاة من غير قصر، وهذا قول الحسن، وقتادة، ومجاهد.
والثاني : معناه فإذا أمِنْتم بعد خوفكم فأتموا الركوع والسجود من غير إيماء ولا مشي، وهذا قول السدي.
﴿ إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَّوْقُوتاً ﴾ فيه تأويلان :
أحدهما : أي فرضاً واجباً، وهو قول ابن عباس، والحسن.
والثاني : يعني مؤقتة في أوقاتها ونجومها، كلما مضى نجم جاء نجم، وهو قول ابن مسعود، وزيد بن أسلم.
﴿ وَلاَ تَهِنُواْ فِي ابْتِغَاءِ الْقَومِ ﴾ أي لا تضعفواْ في طلبهم لحربهم.
﴿ إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ ﴾ أي ما أصابهم منكم فإنهم يألمون به كما تألمون بما أصابكم منهم.
ثم قال تعالى :﴿ وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ مَا لاَ يَرْجُونَ ﴾ أي هذه زيادة لكم عليهم وفضيلة خُصِصْتُم بها دونهم مع التساوي في الألم.
وفي هذا الرجاء اثنان من التأويلات :
أحدهما : معناه أنكم ترجون من نصر الله ما لا يرجون.
والثاني : تخافون من الله لا يخافون، ومنه قوله تعالى :﴿ مَا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ للهِ وَقَاراً ﴾ [ نوح : ٣١ ] أي لا تخافون لله عظمة. ومنه قول الشاعر :
لا ترتجي حين تلاقي الذائدا | أسبعةً لاقت معاً أم واحداً |
يلوونني ديني النهار وأقتضى | ديني إذا وقذ النعاس الرُّقدا |
أحدها : يا أيها الذين آمنواْ بمن قبل محمد من الأنبياء آمنواْ بالله ورسوله ويكون ذلك خطاباً ليهود والنصارى.
الثاني : معناه يا أيها الذين آمنوا بأفواههم أمنواْ بقلوبكم، وتكون خطاباً للمنافقين.
والثالث : معناه يا أيها الذين آمنوا داومواْ على إيمانكم، ويكون هذا خطاباً للمؤمنين، وهذا قول الحسن.
أحدها : أنهم آمنواْ بموسى ثم كفرواْ بعبادة العجل، ثم آمنوا بموسى بعد عوده ثم كفرواْ بعيسى، ثم ازدادوا كفراً بمحمد صلى الله عليهم وسلم، وهذا قول قتادة.
والثاني : أنهم المنافقون آمنوا ثم ارتدواْ، ثم آمنوا ثم ارتدواْ، ثم ماتواْ على كفرهم، وهذا قول مجاهد.
والثالث : أنهم قوم من أهل الكتاب قصدواْ تشكيك المؤمنين فكانواْ يظهرون الإيمان ثم الكفر ثم ازدادواْ كفراً بثبوتهم عليه، وهذا قول الحسن. واختلف لمكان هذه الآية في استتابة المرتد على قولين :
أحدهما : أن المرتد يستتاب ثلاث مرات بدلالة الآية، فإن ارتد بعد الثلاث قتل من غير استتابة، وهذا قول علي.
والثاني : يستتاب كلما ارتد، وهو قول الشافعي والجمهور.
﴿ فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِّنَ اللهِ قَالُواْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ ﴾ أي فأعطونا من الغنيمة.
﴿ وَإِن كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُواْ أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ ﴾ فيه ثلاث تأويلات :
أحدها : معناه ألم نستول عليكم بالمعونة والنصرة ونمنعكم من المؤمنين بالتخذيل عنكم.
والثاني : معناه ألم نبين لكم أننا على دينكم، وهذا قول ابن جريج.
والثالث : معناه ألم نغلب عليكم، وهو قول السدي. وأصل الاستحواذ الغلبة، ومنه قوله تعالى :﴿ اسْتَحْوَذَ عَلَيهُمُ الشَّيْطَانُ ﴾ يعني غلب عليهم.
وفي قوله تعالى :﴿ وَلَن يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيْلاً ﴾ فيه قولان :
أحدهما : يعني حُجّة، وهذا قول السدي.
والثاني : سبيلاً في الآخرة، وهذا قول عليّ، وابن عباس.
﴿ وَهُوَ خَادِعُهُمْ ﴾ يعني الله تعالى، وفيه ثلاثة أوجه :
أحدها : يعني يعاقبهم على خداعهم، فسمى الجزاء على الفعل باسمه.
والثاني : أنه أمر فيهم بأمر المُخْتَدِع لهم بما أمر به من قبول إيمانهم وإن علم ما يبطنون من كفرهم.
والثالث : ما يعطيهم في الآخرة من النور الذي يمشون به مع المؤمنين، فإذا جاؤواْ إلى الصراط طفىء نورهم، فتلك خديعة الله إياهم.
﴿ وَإِذَا قَاموا إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى ﴾ يحتمل قولين :
أحدهما : متثاقلين.
والثاني : مقصَّرين.
﴿ يُرَآؤُونَ النَّاسَ ﴾ يعني أنهم يقصدون بما يفعلونه من البر رياء الناس دون طاعة الله تعالى.
﴿ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللهَ إِلاَّ قَلِيلاً ﴾ فيه قولان :
أحدهما : الرياء، لأنه لا يكون إلا ذِكراً حقيراً، وهو قول قتادة.
والثاني : يسيراً لاقتصاره على ما يظهر من التكبير دون ما يخفي من القراءة والتسبيح، وإنما قّلَّ من أجل اعتقادهم لا من قلة ذكرهم. قال الحسن : لأنه كان لغير الله تعالى.
أحدها : يعني إلا أن يكون مظلوماً فيدعو على من ظلمه، وهذا قول ابن عباس.
والثاني : إلا أن يكون مظلوماً فيجهر بظلم من ظلمه، وهذا قول مجاهد.
والثالث : إلا من ظلم فانتصر من ظالمه، وهذا قول الحسن، والسدي.
والرابع : إلا أن يكون ضيفاً، فينزل على رجل فلا يحسن ضيافته، فلا بأس أن يجهر بذمه، وهذه رواية ابن أبي نجيح عن مجاهد.
ثم قال بعد أن أباح بالسوء من القول لمن كان مظلوماً :﴿ إِن تُبْدُواْ خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُواْ عَن سُوءٍ ﴾ يعني خيراً بدلاً من السوء، أو تخفوا السوء، وإن لم تبدوا خيراً اعفوا عن السوء، كان أولى وأزكى، وإن كان غير العفو مباحاً.
أحدها : أن اليهود سألوا محمداً ﷺ، أن ينزل عليهم كتاباً من السماء مكتوباً، كما نزل على موسى الألواح، والتوراة مكتوبة من السماء، وهذا قول السدي، ومحمد بن كعب.
والثاني : أنهم سألوه نزول ذلك عليهم خاصة، تحكماً في طلب الآيات، وهذا قول الحسن، وقتادة.
والثالث : أنهم سألوه أن ينزِّل على طائفة من رؤسائهم كتاباً من السماء بتصديقه، وهذا قول ابن جريج.
﴿ فَقَدْ سَأَلُواْ مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذَلِكَ فَقَالُواْ أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً ﴾ يحتمل وجهين :
أحدهما : أن الله تعالى بيَّن بذلك أن سؤالهم للإعْنَاتِ لا للاستبصار كما أنهم سألوا موسى أن يريهم الله جهرة، ثم كفروا بعبادة العجل.
والثاني : أنه بيَّن بذلك أنهم سألوا ما ليس لهم، كما أنهم سألوا موسى من ذلك ما ليس لهم.
﴿ فَقَالُواْ أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً ﴾ فيه قولان :
أحدهما : أنهم سألوه رؤيته جهرة، أي معاينة.
والثاني : أنهم قالوا : جهرة من القول أّرِنا الله، فيكون على التقديم والتأخير، وهذا قول ابن عباس.
﴿ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ﴾ فيه قولان :
أحدهما : بظلمهم لأنفسهم.
والثاني : بظلمهم في سؤالهم.
قوله تعالى :﴿ وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمْ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِم ﴾ يعني : بالعهد الذي أخذ عليهم بعد تصديقهم بالتوراة ان يعملوا بما فيها، فخالفوا بعبادة العجل ونقضوه، فرفع الله عليهم الطور، ليتوبوا، وإلاَّ سقط عليهم فتابوا حينئذ.
﴿ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً ﴾ فيه قولان :
أحدهما : أنه باب الموضع الذي عبدوا فيه العجل، وهو من أبواب بيت المقدس، وهذا قول قتادة.
والثاني : باب حِطَّة فأمروا بدخوله ساجدين لله تعالى.
﴿ وَقُلْنَا لَهُمْ لاَ تَعْدُواْ فِي السَّبْتِ ﴾ قرأ ورش عن نافع ﴿ تَعَدُّوا ﴾ بفتح العين وتشديد الدال، من الاعتداء، وقرأ الباقون بالتخفيف من عَدَوت. وعدوهم فيه تجاوزهم حقوقه، فيكون تعديهم فيه - على تأويل القراءة الثانية- ترك واجباته.
﴿ وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَاقاً غَلِيظاً ﴾ وهو ميثاق آخر بعد رفع الطور عليهم، غير الميثاق الأول.
وفي قوله تعالى :﴿ غَلِيظاً ﴾ قولان :
أحدهما : أنه العهد بعد اليمين.
والثاني : أن بعض اليمين ميثاق غليظ.
أحدهما : أنها محجوبة عن فهم الإعجاز ودلائل التصديق، كالمحجوب في غلافة، وهذا قول بعض البصريين.
والثاني : يعني أنها أوعية للعلم وهي لا تفهم احتجاجك ولا تعرف إعجازك، وهذا قول الزجاج، فيكون ذلك منهم على التأويل الأول إعراضاً، وعلى التأويل الثاني إبطالاً.
﴿ بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ ﴾ فيه تأويلان :
أحدهما : أنه جعل فيها علامة تدل الملائكة على كفرهم كعلامة المطبوع، وهو قول بعض البصريين.
الثاني : ذمهم بأن قلوبهم كالمطبوع عليها التي لا تفهم أبداً ولا تطيع مرشداً، وهذا قول الزجاج.
﴿ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً ﴾ فيه تأويلان :
أحدهما : أن القليل منهم يؤمن بالله.
الثاني : لا يؤمنون إلا بقليل، وهو إيمانهم ببعض الأنبياء دون جميعهم.
قوله تعالى :﴿ وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللهِ ﴾، أما قولهم :﴿ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ ﴾ فهو من قول اليهود، أخبر الله به عنهم.
أما ﴿ رَسُولَ اللهِ ﴾ ففيه قولان :
أحدهما : أنه من قول اليهود بمعنى رسول الله في زعمه.
والثاني : أنه من قول الله تعالى لا على وجه الإخبار عنهم، وتقديره : الذي هو رسولي.
﴿ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ ﴾ فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : أنهم كانوا يعرفونه فألقى شبهه على غيره، فظنوه المسيح فقتلوه، وهذا قول الحسن، وقتادة، ومجاهد، ووهب، والسدي.
والثاني : أنهم ما كانوا يعرفونه بعينه، وإن كان مشهوراً فيهم بالذكر، فارتشى منهم يهودي ثلاثين درهماً، ودلهم على غيره مُوهِماً لهم أنه المسيح، فشُبِّهَ عليهم.
والثالث : أنهم كانوا يعرفونه، فخاف رؤساؤهم فتنة عوامِّهم، فإن الله منعهم عنه، فعمدوا إلى غيره، فقتلوه وصلبوه، ومَوَّهُوا على العامة أنه المسيح، ليزول افتتانهم به.
﴿ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ ﴾ فيه قولان :
أحدهما : أنهم اختلفوا فيه قبل قتله، فقال بعضهم : هو إله، وقال بعضهم : هو ولد، وقال بعضهم : هو ساحر، فشكوا ﴿ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاَع الظَّنِّ ﴾ الشك الذي حدث فيهم بالاختلاف.
والثاني : ما لهم بحاله من علم - هل كان رسولاً أو غير رسول؟ - إلا اتباع الظن.
﴿ وَمَا قَتَلُوهُ يَقْيناً ﴾ فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : وما قتلوا ظنَّهم يقيناً كقول القائل : ما قتلته علماً، وهذا قول ابن عباس، وجويبر.
والثاني : وما قتلوا أمره يقيناً أن الرجل هو المسيح أو غيره، وهذا قول السدي.
والثالث : وما قتلوه حقاً، وهو قول الحسن.
﴿ بَل رَّفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ ﴾ فيه قولان :
أحدهما : أنه رفعه إلى موضع لا يجري عليه حكم أحد من العباد، فصار رفعه إلى حيث لا يجري عليه حكم العباد رفعاً إليه، وهذا قول بعض البصريين.
قوله تعالى :﴿ وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ ﴾ فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : إلا ليؤمنن بالمسيح قبل موت المسيح، إذا نزل من السماء، وهذا قول ابن عباس، وأبي مالك، وقتادة، وابن زيد.
والثاني : إلا ليؤمنن بالمسيح قبل موت الكتابي عند المعاينة، فيؤمن بما أنزل الله من الحق وبالمسيح عيسى ابن مريم، وهذا قول الحسن، ومجاهد، والضحاك، وابن سيرين، وجويبر.
والثالث : إلا ليؤمنن بمحمد ﷺ قبل موت الكتابي، وهذا قول عكرمة.
﴿ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ﴾ يعني المسيح، وفيه قولان :
أحدهما : أنه يكون شهيداً بتكذيب من كذبه وتصديق من صدقه من أهل عصره.
والثاني : يكون شهيداً أنه بلَّغ رسالة ربه، وأقر بالعبودية على نفسه، وهذا قول قتادة، وابن جريج.
أحدهما : أنه خطاب للنصارى خاصة.
والثاني : أنه خطاب لليهود والنصارى، لأن الفريقين غلوا في المسيح، فقالت النصارى : هو الرب، وقالت اليهود : هو لغير رشدة، وهذا قول الحسن.
والغلو : مجاوزة الحد، ومنه غلاء السعر، إذا جاوز الحد في الزيادة، وغلا في الدين، إذا فرط في مجاوزة الحق.
﴿ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللهِ إِلاَّ الْحَقَّ ﴾ يعني في غلوهم في المسيح.
﴿ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ ﴾ رداً على مَنْ جعله إلهاً، أو لغير رشدة [ أو ] ساحراً.
﴿ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَآ إِلَى مَرْيَمَ ﴾ في كلمته ثلاثة أقاويل :
أحدها : لأن الله كَلَّمَه حين قال له كن، وهذا قول الحسن، وقتادة.
الثاني : لأنه بشارة الله التي بشر بها، فصار بذلك كلمة الله.
والثالث : لأنه يهتدى به كما يُهْتَدَى بكلام الله.
﴿ وَرُوحٌ مِّنْهُ ﴾ فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : سُمِّي بذلك لأنه رُوح من الأرواح، وأضافه الله إلى نفسه تشريفاً له.
والثاني : أنه سُمِّي روحاً؛ لأنه يحيا به الناس كما يُحْيَون بالأرواح.
والثالث : أنه سُمِّي بذلك لنفخ جبريل عليه السلام، لأنه كان ينفخ فيه الروح بإذن الله، والنفخ يُسَمَّى في اللغة روحاً، فكان عن النفخ فسمي به...
﴿ فَئآمِنُواْ بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُواْ : ثَلاَثَةٌ، انتَهُواْ خَيْراً لَّكُمْ ﴾ في الثلاثة قولان :
أحدهما : هو قول النصارى أب وابن وروح القدس، وهذا قول بعض البصريين.
والثاني : هو قول من قال : آلهتنا ثلاثة، وهو قول الزجاج.
﴿ وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكُمْ نُوراً مُّبِيناً ﴾ يعني القرآن سُمِّي نوراً لأنه يظهر به الحق، كما تظهر المرئيات بالنور.
قوله تعالى :﴿ فَأَمَّا الَّذِينَ ءَامَنُوا بِاللهِ وَاعْتَصَمُواْ بِهِ ﴾ فيه قولان :
أحدهما : اعتصموا بالقرآن، وهذا قول ابن جريج.
والثاني : اعتصموا بالله من زيغ الشيطان وهوى الإنسان.
﴿ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِّنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً ﴾ في الهداية قولان :
أحدهما : أن يعطيهم في الدنيا ما يؤديهم إلى نعيم الآخرة، وهذا قول الحسن.
والثاني : هو الأخذ بهم في الآخرة إلى طريق الجنة، وهو قول بعض المفسرين البصريين.
وقال جابر بن عبد الله : نزلت هذه الآية فيَّ، وقد سألتُ رسول الله ﷺ حين عادني في مرضي، ولِيَ تسع أخوات، كيف أصنع بمالي؟ فلم يجبني بشيء، حتى نزلت ﴿ يَسْتَفْتُونَكَ ﴾ إلى آخر السورة.
وقال ابن سيرين : نزلت هذه الآية على النبي ﷺ وهو في مسيرة، وإلى جنبه حذيفة بن اليمان، فبلغها رسولُ الله ﷺ حذيفة بن اليمان، وبلَّغَها حذيفةُ عمرَ بن الخطاب، وهو يسير خلفه.
سورة النساء
تُعَدُّ سورةُ (النِّساء) إحدى السُّوَر الطِّوال التي مَن أخذها عدَّه الصحابةُ حَبْرًا، وقد دلَّ اسمُ السورة على مقصدِها الأعظم؛ وهو إيضاحُ كثير من الأحكام التي تتعلَّقُ بالمرأة، وقد أعْلَتْ هذه السورةُ من شأنِ المرأة في الإسلام وكرَّمتها، وأوضَحتْ ما لها وما عليها؛ لذلك كانت تُسمَّى بسورة (النِّساء الكبرى). وقد اشتمَلتْ أيضًا على آياتٍ أصَّلتْ لعلم الفرائض، الذي به يُعلَم تقسيمُ الميراث، وجاءت ببيانِ تشريع معاملات الأقرباء وحقوقِهم، وأوضَحتْ علاقةَ المسلمين بالكفار، متعرِّضةً لصفةِ صلاة الخوف، وما يَتبَع ذلك من أحكامٍ؛ فمَن أخَذها فقد أخذ علمًا وافرًا.
ترتيبها المصحفي
4نوعها
مدنيةألفاظها
3763ترتيب نزولها
92العد المدني الأول
175العد المدني الأخير
175العد البصري
175العد الكوفي
176العد الشامي
177* قوله تعالى: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُواْ فِي اْلْيَتَٰمَىٰ فَاْنكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ اْلنِّسَآءِ مَثْنَىٰ وَثُلَٰثَ وَرُبَٰعَۖ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُواْ فَوَٰحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَٰنُكُمْۚ ذَٰلِكَ أَدْنَىٰٓ أَلَّا تَعُولُواْ﴾ [النساء: 3]:
صحَّ عن عائشةَ أمِّ المؤمنين رضي الله عنها: «أنَّ رجُلًا كانت له يتيمةٌ، فنكَحَها، وكان لها عَذْقٌ، وكان يُمسِكُها عليه، ولم يكُنْ لها مِن نفسِهِ شيءٌ؛ فنزَلتْ فيه: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُواْ فِي اْلْيَتَٰمَىٰ﴾، أحسَبُه قال: كانت شريكتَه في ذلك العَذْقِ، وفي مالِه». أخرجه البخاري (٤٥٧٣).
* قوله تعالى: ﴿يُوصِيكُمُ اْللَّهُ فِيٓ أَوْلَٰدِكُمْۖ﴾ [النساء: 11]:
عن جابرِ بن عبدِ اللهِ رضي الله عنهما، قال: «عادَني النبيُّ ﷺ وأبو بكرٍ في بني سَلِمةَ ماشيَينِ، فوجَدَني النبيُّ ﷺ لا أعقِلُ شيئًا، فدعَا بماءٍ، فتوضَّأَ منه، ثم رَشَّ عليَّ، فأفَقْتُ، فقلتُ: ما تأمُرُني أن أصنَعَ في مالي يا رسولَ اللهِ؟ فنزَلتْ: ﴿يُوصِيكُمُ اْللَّهُ فِيٓ أَوْلَٰدِكُمْۖ﴾». أخرجه البخاري (٤٥٧٧).
* قوله تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا اْلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ اْلنِّسَآءَ كَرْهٗاۖ﴾ [النساء: 19]:
عن ابنِ عباسٍ رضي الله عنهما، قال: «كانوا إذا ماتَ الرَّجُلُ كان أولياؤُه أحَقَّ بامرأتِه: إن شاءَ بعضُهم تزوَّجَها، وإن شاؤوا زوَّجوها، وإن شاؤوا لم يُزوِّجوها؛ فهم أحَقُّ بها مِن أهلِها؛ فنزَلتْ هذه الآيةُ في ذلك». أخرجه البخاري (٦٩٤٨).
* قوله تعالى: ﴿أَطِيعُواْ اْللَّهَ وَأَطِيعُواْ اْلرَّسُولَ وَأُوْلِي اْلْأَمْرِ مِنكُمْۖ﴾ [النساء: 59]:
عن عبدِ اللهِ بن عباسٍ رضي الله عنهما، قال: «نزَلتْ في عبدِ اللهِ بنِ حُذَافةَ بنِ قيسِ بنِ عَدِيٍّ إذ بعَثَه النبيُّ ﷺ في سَرِيَّةٍ». أخرجه البخاري (٤٥٨٤).
* قوله تعالى: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ﴾ [النساء: 65]:
عن عُرْوةَ بن الزُّبَيرِ، قال: «خاصَمَ الزُّبَيرُ رجُلًا مِن الأنصارِ في شَرِيجٍ مِن الحَرَّةِ، فقال النبيُّ ﷺ: «اسقِ يا زُبَيرُ، ثم أرسِلِ الماءَ إلى جارِك»، فقال الأنصاريُّ: يا رسولَ اللهِ، أَنْ كان ابنَ عَمَّتِكَ؟! فتلوَّنَ وجهُ رسولِ اللهِ ﷺ، ثم قال: «اسقِ يا زُبَيرُ، ثم احبِسِ الماءَ حتى يَرجِعَ إلى الجَدْرِ، ثم أرسِلِ الماءَ إلى جارِك»، واستوعى النبيُّ ﷺ للزُّبَيرِ حقَّه في صريحِ الحُكْمِ حين أحفَظَه الأنصاريُّ، كان أشارَ عليهما بأمرٍ لهما فيه سَعةٌ، قال الزُّبَيرُ: فما أحسَبُ هذه الآياتِ إلا نزَلتْ في ذلك: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ﴾». أخرجه البخاري (٤٥٨٥).
* قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى اْلَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوٓاْ أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ اْلصَّلَوٰةَ﴾ [النساء: 77]:
عن عبدِ اللهِ بن عباسٍ رضي الله عنهما: «أنَّ عبدَ الرحمنِ بنَ عوفٍ وأصحابًا له أتَوُا النبيَّ ﷺ بمكَّةَ، فقالوا: يا رسولَ اللهِ، إنَّا كنَّا في عِزٍّ ونحن مشركون، فلمَّا آمَنَّا صِرْنا أذلَّةً، فقال: «إنِّي أُمِرْتُ بالعفوِ؛ فلا تُقاتِلوا»، فلمَّا حوَّلَنا اللهُ إلى المدينةِ، أمَرَنا بالقتالِ، فكَفُّوا؛ فأنزَلَ اللهُ عز وجل: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى اْلَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوٓاْ أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ اْلصَّلَوٰةَ﴾». أخرجه النسائي (٣٠٨٦).
* قوله تعالى: ﴿وَلَا تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَىٰٓ إِلَيْكُمُ اْلسَّلَٰمَ لَسْتَ مُؤْمِنٗا﴾ [النساء: 94]:
عن عطاءٍ، عن ابنِ عباسٍ رضي الله عنهما، قال: «كان رجُلٌ في غُنَيمةٍ له، فلَحِقَه المسلمون، فقال: السَّلامُ عليكم، فقتَلوه، وأخَذوا غُنَيمتَه؛ فأنزَلَ اللهُ في ذلك إلى قولِه: ﴿تَبْتَغُونَ عَرَضَ اْلْحَيَوٰةِ اْلدُّنْيَا﴾ [النساء: 94]؛ تلك الغُنَيمةُ»، قال: «قرَأ ابنُ عباسٍ: السَّلَامَ». أخرجه البخاري (٤٥٩١).
* قوله تعالى: ﴿لَّا يَسْتَوِي اْلْقَٰعِدُونَ مِنَ اْلْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي اْلضَّرَرِ وَاْلْمُجَٰهِدُونَ فِي سَبِيلِ اْللَّهِ﴾ [النساء: 95]:
عن البراءِ بن عازبٍ رضي الله عنهما، قال: «لمَّا نزَلتْ: ﴿لَّا يَسْتَوِي اْلْقَٰعِدُونَ مِنَ اْلْمُؤْمِنِينَ﴾ ﴿وَاْلْمُجَٰهِدُونَ فِي سَبِيلِ اْللَّهِ﴾، قال النبيُّ ﷺ: «ادعُ لي زيدًا، وَلْيَجِئْ باللَّوْحِ والدَّواةِ والكَتِفِ - أو الكَتِفِ والدَّواةِ -، ثم قال: «اكتُبْ ﴿لَّا يَسْتَوِي اْلْقَٰعِدُونَ﴾»، وخَلْفَ ظَهْرِ النبيِّ ﷺ عمرُو بنُ أمِّ مكتومٍ الأعمى، قال: يا رسولَ اللهِ، فما تأمُرُني؛ فإنِّي رجُلٌ ضريرُ البصَرِ؟ فنزَلتْ مكانَها: ﴿لَّا يَسْتَوِي اْلْقَٰعِدُونَ مِنَ اْلْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي اْلضَّرَرِ وَاْلْمُجَٰهِدُونَ فِي سَبِيلِ اْللَّهِ﴾». أخرجه البخاري (٤٩٩٠).
* قوله تعالى: ﴿إِنَّ اْلَّذِينَ تَوَفَّىٰهُمُ اْلْمَلَٰٓئِكَةُ ظَالِمِيٓ أَنفُسِهِمْ﴾ [النساء: 97]:
عن محمَّدِ بن عبدِ الرحمنِ أبي الأسوَدِ، قال: «قُطِعَ على أهلِ المدينةِ بَعْثٌ، فاكتُتِبْتُ فيه، فلَقِيتُ عِكْرمةَ مولَى ابنِ عباسٍ، فأخبَرْتُه، فنهاني عن ذلك أشَدَّ النَّهْيِ، ثم قال: أخبَرَني ابنُ عباسٍ: أنَّ ناسًا مِن المسلمين كانوا مع المشركين يُكثِّرون سوادَ المشركين على عهدِ رسولِ اللهِ ﷺ، يأتي السَّهْمُ فيُرمَى به فيُصِيبُ أحدَهم فيقتُلُه، أو يُضرَبُ فيُقتَلُ؛ فأنزَلَ اللهُ: {إِنَّ اْلَّذِينَ تَوَفَّىٰهُمُ اْلْمَلَٰٓئِكَةُ ظَالِمِيٓ أَنفُسِهِمْ} الآيةَ». أخرجه البخاري (4596).
سُمِّيتْ سورةُ (النِّساء) أيضًا بسورة (النِّساء الكُبْرى)، أو (الطُّولى):
للحديثِ الوارد عن عبدِ اللهِ بن مسعودٍ رضي الله عنه، قال: «نزَلتْ سُورةُ النِّساءِ القُصْرى بعد الطُّولى». أخرجه البخاري (٤٥٣٢).
وسورةُ (النِّساء الصُّغْرى أو القُصْرى) هي سورةُ (الطَّلاق).
وإنما سُمِّيتْ سورة (النِّساء) بسورة (النِّساء الكُبْرى)؛ لكثرةِ ما فيها من أحكامٍ تتعلق بالنِّساء.
* أنَّ رسولَ الله ﷺ بكى لسماعها:
فقد صحَّ عن عبدِ اللهِ بن مسعودٍ رضي الله عنه أنَّه قال: «قالَ لي النبيُّ ﷺ: «اقرَأْ عَلَيَّ»، قلتُ: يا رسولَ اللهِ، آقرَأُ عليك وعليك أُنزِلَ؟! قال: «نَعم»، فقرَأْتُ سورةَ النِّساءِ حتى أتَيْتُ إلى هذه الآيةِ: ﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةِۭ بِشَهِيدٖ وَجِئْنَا بِكَ عَلَىٰ هَٰٓؤُلَآءِ شَهِيدٗا﴾ [النساء: 41]، قال: «حَسْبُك الآنَ»، فالتفَتُّ إليه فإذا عَيْناهُ تَذرِفانِ». أخرجه البخاري (5055).
* مَن أخَذ سورةَ (النِّساءِ) عُدَّ حَبْرًا:
فعن عائشةَ رضي الله عنها، عن رسولِ اللهِ ﷺ، قال: «مَن أخَذَ السَّبْعَ الأُولَ مِن القرآنِ، فهو حَبْرٌ». أخرجه أحمد (24575).
ثبَتتْ قراءتُه ﷺ لسورةِ (النِّساء) في قيامِه بالليل:
جاء عن حُذَيفةَ بن اليمانِ رضي الله عنهما أنه قال: «صلَّيْتُ مع النبيِّ ﷺ ذاتَ ليلةٍ، فافتتَحَ البقرةَ، فقلتُ: يَركَعُ عند المائةِ، ثم مضى، فقلتُ: يُصلِّي بها في ركعةٍ، فمضى، فقلتُ: يَركَعُ بها، ثم افتتَحَ النِّساءَ فقرَأها، ثم افتتَحَ آلَ عِمْرانَ فقرَأها، يَقرأُ مُترسِّلًا». أخرجه مسلم (772).
اشتَملتِ السُّورةُ على عِدَّةِ موضوعات، جاءت على الترتيبِ الآتي:
أصل البشرية، وخالقها واحد؛ فلا عدوانَ على المال والنسل (١-١٨).
تكريم المرأة وحقها كزوجة (١٩-٢٨).
استقلال المرأة بنفسها ومالها (١٩-٢١).
المُحرَّمات من النساء (٢٢-٢٤).
نكاح الإماء (٢٥).
تعقيب وموعظة (٢٦-٢٨).
حُرْمة الأموال، والقوامة المالية في الأسرة (٢٩-٤٣).
دور اليهود التخريبي، أمر الله يقوم على العدل (٤٤-٥٨).
أساس الدِّين، وطاعة الله والرسول (٥٩-٧٠).
قتال أعداء الحقِّ ضروريٌّ لتحرير المستضعَفِين وحماية الحق (٧١-٩٤).
علاقة الهجرة بالتحرير والقتال (٩٥-١٠٤).
حُكْمُ الله عدلٌ مطلق، وجزاؤه حقٌّ وعدل (١٠٥-١٣٥).
وَلاية الكافرين نفاق (١٣٦-١٤٩).
انحرافات أهل الكتاب الاعتقادية والسلوكية (١٥٠-١٦٢).
الوحيُ لتحرير الناس لم ينقطع من بداية البشرية إلى البعثة (١٦٣-١٧٠).
الغلوُّ عند أهل الكتاب أخرَجهم من الإيمان (١٧١-١٧٣).
القرآن دليلٌ قاطع، وحُجَّةٌ واضحة (١٧٤-١٧٦).
ينظر: "التفسير الموضوعي للقرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (2 /40).
يدور محورُ هذه السُّورةِ حول بيانِ تشريع معاملات الأقرباء وحقوقهم، وأحكام المعاملات بين جماعة المسلمين في الأموال والدِّماء، وأحكامِ القتل عمدًا وخطأً، وتأصيلِ الحُكْمِ الشرعي بين المسلمين في الحقوق، والدفاعِ عن المعتدَى عليه، والتحذيرِ من اتِّباع الهوى، والأمرِ بالبِرِّ، والمواساة، وأداء الأمانات، والتمهيدِ لتحريم شُرْبِ الخمر. ينظر: "التحرير والتنوير" لابن عاشور (4 /213).