ﰡ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قال تعالى: «المص ١» قال أهل المعرفة ما من سورة ابتدئت بالم إلا وتشتمل على ثلاثة أمور: ١- الخلق وكيفيته وهو البداية، ٢- والمعاد وما فيه وهو النهاية، ٣- والوسط وما يتعلق به وهو المعاش وفيه اشارة إلى مخارج الحروف الثلاثة، الحلق واللسان والشفتين، وزيد في هذه السورة حرف الصاد إعلاما بما فيها من قصص الأنبياء وغيرهم هذا «كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ» يا سيد الرسل «فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ» ضيق وضجر «مِنْهُ» بسبب إبلاغه وتأدية ما أرسلت به منه إلى قومك ولا تنقبض من شكهم فيه وبإنزاله عليك وتكذيبهم لك وجحدهم نبوتك «لِتُنْذِرَ» متعلق بأنزل «به» أي الكتاب قومك وغيرهم من أهل الأرض «وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ ٢» به المصدقين بك وبربك، وإنذار للمكذبين المنكرين فقل يا أيها الناس «اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ» في هذا الكتاب الذي أتلوه عليكم «وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ» كرؤوس الكفرة والشياطين الذين يدعونكم إلى الشرك بالله ويريدونكم على عبادة الأوثان والأهواء الفاسدة المبتدعة «قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ ٣» بعظة الله(فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ) الآية ١٧٧ من الصافات في ج ٢، وأهلك قوم شعيب ضحى، ونزول العذاب وقت الغفلة أشد وقعا في النفس من غيره وأفظع هولا، وفي هذه الآية تخويف لقريش وتنبية بعدم اغترارهم بما هم فيه من الحذر، لأن الله إذا أراد إنزال عذابه بهم أنزله عليهم دفعة واحدة حال غفلتهم، كما فعل بغيرهم وهؤلاء المعذبون حينما يقع بهم العذاب «فَما كانَ دَعْواهُمْ» احتجاجهم وتضرعهم ودعاؤهم «إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا» واتصل بهم عذابنا «إِلَّا أَنْ قالُوا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ ٥» أنفسنا لعدم امتثالنا أمر رسلنا، وإصرارنا على مخالفتهم، وانكبابنا على الشرك، وبعد اعتراف هؤلاء باستحقاقهم العذاب «فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ» يوم القيامة بالموقف العظيم على ملأ الأشهاد وليبينوا ما أجابوا به رسلنا حين دعوهم للإيمان بنا وحدنا «وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ ٦» أيضا في ذلك المشهد هل بلغوا رسالتنا كما أمرناهم أم لا، وهذا السؤال من الله عز وجل بمثابة الجواب للقائلين (ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ) الآية ١٨ من المائدة في ج ٣ وفي معناها كثير في القرآن، مع أن الله تعالى لم يترك أمة بلا رسول، راجع الآية ٢٤ من فاطر الآتية، وهو أعلم بما يقولون لأجل الاستشهاد على إنكارهم وتوبيخهم وتقريعهم على رءوس الأشهاد، قال تعالى «فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ» ما وقع منهم كله «بِعِلْمٍ» ويقين ليتحققوا أنا كنا حاضرين عملهم «وَما كُنَّا غائِبِينَ ٧» عنهم حينما بلغهم الرسل أو أمرنا راجع تفسير الآية ٣٠ من آل عمران في ج ٣، وفائدة هذا القصص إخزاء المنكرين عند ما يظهر كذبهم بالموقف بشهادة رسلهم عليهم، لا لأجل الاستثبات
مطلب وزن الأحمال وحادث البطاقة:
واختلف في وصف الميزان وكيفية الوزن، والإيمان بهما على ظاهرهما واجب، وأصح ما قيل فيهما أن الميزان له لسان وكفتان عظيم الحجم، والوزن هو صحائف الأعمال، بدليل ما رواه عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال:
ان الله عز وجل سيخلص رجلا من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة، فينشر له تسعة وتسعين سجلا، كل سجل مد البصر، ثم يقول له أتنكر شيئا من هذا؟
أظلمك كتبتي الحافظون؟ فيقول لا يا رب، فيقول ألك عذر؟ فيقول لا يا رب، فيقول تبارك وتعالى: بل إن لك عندنا حسنة، فإنه لا ظلم عليك اليوم، فيخرج الله له بطاقة فيها أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله، فيقول احضر وزنك، فيقول يا رب ما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟ فيقال له انه لا ظلم عليك اليوم، فتوضع السجلات في كفة والبطاقة في كفة، فطاشت السجلات وثقلت البطاقة ولا يثقل مع اسمه شيء. أخرجه الترمذي واحمد بن حنبل. إن هذا يثبت ما قلناه في الميزان والحكمة من إظهار العدل للناس وتعريفهم ما لهم وعليهم، وعلامة السعادة والشقاوة، وبيان أنّ الله لا يظلم عباده، وانه امتحنهم بالإيمان في الدنيا وأقام عليهم الحجة في العقبى وليتيقنوا استحقاقهم العذاب وان الله لم يحف عليهم راجع الآية ٢٦ من ص المارة، قال تعالى «فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ» بحسناته وطاشت سيئاته «فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ٨» الفائزون بثواب الله الناجحون في ذلك اليوم «وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ» بسيئاته وطاشت حسناته «فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ» فيه وعوقبوا بحرمانهم من ثواب الله وكرامته «بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ ٩» أنفسهم في الدنيا بجحدهم آياتنا وتكذيبهم رسلنا،
«وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ» أيها الناس من نطفة وخلقنا أباكم من تراب «ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ» في الأرحام على صورة أبيكم الذي صورناه على الأرض «ثُمَّ» أعلمناكم على لسان رسولنا بأنا «قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ» عند تمام خلقه «اسْجُدُوا لِآدَمَ» «هذا الذي خلقته بيدي» «فَسَجَدُوا» له كلهم إذعانا لأمرنا «إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ ١١» له استكبارا عليه وأنفة منه ومخالفة لنا «قالَ» تعالى يا إبليس «ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ» مع الملائكة ومن قال لك لا تسجد! ولا هنا ليست بزائدة لعدم جواز وجود زائد في القرآن ولا يقال إنها لا معنى لها لأن كل حرف في كتاب الله له معنى وهنا جيء بها للتأكيد أي أي شيء منعك أن تسجد، يؤيد هذا الآية في سورة ص، وهي ما منعك أن تسجد بدون لا، وقد سبق أن ذكرنا ما يتعلق بمثلها أول سورة القيمة وسورة البلد المارتين فراجعهما وسنأتي على تفنيد الاستناد الى الآيات المحتج بها على قولهم بأن لا فيها زائدة عند تفسيرها بحالها إن شاء الله «إِذْ أَمَرْتُكَ» بالسجود الأمر هنا للوجوب والسؤال للتوبيخ ولإظهار عناده وكفره وافتخاره بأصله وبيان حسده لآدم وتحقير أصله المبين بقوله «قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ ١٢» حجة قاصرة تقدم تفنيدها في الآية ٧٦ من ص المارة إذ من المعلوم ان جوهر الطين الرزانة والهناءة والصبر والحلم والحياء والتثبت والمودة، وهذا ما دعا آدم وذريته إلى التوبة والندم والاستغفار، وجوهر النار الخفة والطيش والارتفاع والاضطراب والعجلة.
وهذا ما حمل إبليس على العناد والاستكبار والافتخار، والطين عدة المسالك ومظنة الأمانة والإنماء، والنار عدة المهالك وخطة الخيانة والإفناء، والطين يطفىء النار ويتلفها وهي تصلحه وتقويه، فقد غفل اللعين عن هذه الفضائل وزل بفاسد المقاييس فأخطأ وهو أول من قاس فأخطأ، قال ابن سيرين ما عبدت الشمس والقمر إلا بالمقاييس، على ان الأفضلية ليست بفضيلة الأصول والجوهر بل لمن يجعله الله فضلا، لأن المؤمن الحبشي خير من الكافر القرشي، وان آدم اختصه الله فجعله صفيه وخلقه بيده ونفخ فيه من روحه وأسجد له ملائكته وعلمه اسماء الأشياء كلها وأورثه الاجتباء والتوبة والهداية، والاستثناء في هذه الآية منقطع لأن إبليس ليس من جنس الملائكة وانما استثناه منهم لأمره بالسجود معهم ولما لم يسجد أخبر الله عنه انه لم يكن من الساجدين لا انه من الملائكة وقد ثبت انه من الجان.
قال تعالى: (كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ) الآية ٥٠ من الكهف في ج ٢ وانه خلق من النار والملائكة من النور. قال تعالى «فَاهْبِطْ» أيها اللعين المتخلف عن أمرنا «مِنْها» أي الجنة «فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها» وتتجبر لأنها لم تخلق للمتكبرين ولا ينبغي أن يسكنها متجبر «فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ ١٣» الأذلاء المهانين المحقّرين لعدم امتثالك أمري. وان التعظيم في الأصل لله لا لآدم.
قال ظافر الاسكندري:
أنت المراد بنظم كل قصيدة | بنيت على الأفهام في تبجيله |
كسجود أملاك السماء لآدم | وسجودهم لله في تأويله |
مطلب مناظرة إبليس وقول سيف الدولة:
أخرج النسائي عن سيرة ابن ابي الفاكهة قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول:
إن الشيطان قعد لابن آدم بأطرقه، قعد له في طريق الإسلام فقال: تسلم وتذر دين آبائك وآباء آبائك؟ فعصاه وأسلم، وقعد له بطريق الهجرة فقال:
تهاجر وتذر أرضك وسماءك، وإنما مثل المهاجر كمثل الفرس في الطول (أي محجر عليه) فعصاه وهاجر، وقعد له بطريق الجهاد فقال: تجاهد فهو جهد النفس والمال فتقاتل فتقتل، فتنكح المرأة ويقسم المال، فعصاه فجاهد. قال: فمن فعل ذلك كان حقا على الله أن يدخله الجنة، وإن غرق كان عليه أن يدخله الجنة، أو وقصته (رفسته) دابته كان حقا على الله أن يدخله الجنة. قال شقيق البلخي ما من صباح إلا ويأتيني الشيطان من الجهات الأربع، أما من بين يدي فيقول لا تخف فإن الله غفور رحيم، فأقرأ قوله تعالى: (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى) الآية ١٨ من سورة طه الآتية، وأما من خلفي فيخوفني وقوع أولادي
٢- ما الفائدة في التكليف مع أنه لا نفع له به ولا ضرر وكل ما يعود إلى المكلفين فهو قادر على تحصيله لهم من غير واسطة التكليف.
٣- هب أنه كلّفني بمعرفته وطاعته فلماذا كلّفني بالسجود لآدم مع علمه أني أمتنع.
٤- لما عصيته فلم لعنني وأوجب عقابي مع عدم الفائدة له ولغيره ولي فيه الضرر العظيم.
٥- إنه لما فعل ذلك لم سلطني ومكنني من إغواء الخلق.
٦- لما استمهلته لم أمهلني ويعلم أن العالم إذا كان خاليا من الشر فهو أحسن؟
قال شارح الأناجيل فأوحى الله من سرادق عظمته وكبريائه يا إبليس أنت ما عرفتني ولو عرفتني لعلمت أن لا اعتراض عليّ في شيء، فإني أنا الله لا إله إلا أنا لا أسأل عما أفعل. هذا، وان هذه الشبهات ليصعب على القائلين بالحسن والقبيح العقليين الجواب عنها. قال الإمام: لو اجتمع الأولون والآخرون وحكموا بتحسين العقل وتقبيحه لم يجدوا من هذه الشبهات مخلصا، ولهذا تجد أكثر أهل الزيف يسألون أسئلة من هذا القبيل اقتداء بسيدهم إبليس، ولو عرفوا أنه تعالى علاه لا يسأل لما سألوا. ويحكى أن سيف الدولة قال لجماعته علمت بيتا ما أحسب أن أحدا يعمل له ثانيا، فقال أبو فراس ما هو؟ قال:
لك جسمي تعلّه... فدمي لم تطلّه
فابتدره أبو فراس قائلا:
أنا إن كنت مالكا... فلي الأمر كله
رحم الله الاثنين. وعليه فمن عرف أن الأمر كله لله وعرف أن الله لا يسأل عما
فقد نهاهما عن جنس الشجرة، ولم يعينها لهما، فليس لنا أن نعينها، إذ لا طائل تحتها، لأن القصد امتثال الأمر بكف المأمور عما نهي عنه، لذلك حصل الاختلاف في نوعها، فمن قائل أنها الحنطة، ومن قائل أنها التين أو التفاح، والله أعلم بمراده فيها «فَتَكُونا» إذا أكلتما منها «مِنَ الظَّالِمِينَ ١٩» أنفسهم وتكونا قد فعلتما فعلا مخالفا لأمري مما هو خلاف الأولى والأفضل ولا شك أن هذا كان قبل النبوة وسيأتي أيضا ج هذه القضية في الآية ١١٥ من طه الآتية «فَوَسْوَسَ لَهُمَا» له ولزوجته حواء «الشَّيْطانُ» بحديث مكرر مهموس ومطلي مزخرف ألقاه في قلبهما بقوة من الله تعالى يقذفها في قلب الموسوس له مثل الهواجس والخواطر التي تقضي إلى ما يقضي عنه في بني آدم، يؤيد هذا ما جاء في قوله صلّى الله عليه وسلم (إن الشيطان يجري من أحدكم مجرى الدم) وهو محمول عن مزيد سلطانه عليهم وانقيادهم له، وهذا أحسن ما قيل في معنى إيصال الوسوسة من إبليس لآدم، مع إنه هبط إلى الأرض وآدم في الجنة، وما قيل إنه دخل جوف الجنة فأدخلته وقال لهما ما قال مما ذكره القصاص والأخباريون، فلا قيمة له. كما أن ما قيل إنه قام على بابها فكلمهما أو تمثل لهما بصورة دابة أو أرسل أتباعه إليهما وأتاهما بصورة طاووس من الجنة فكلمها أقاويل مجردة عن الدليل، وكذلك ما قيل إنه منع من دخول الجنة على جهة التقريب والتكريم لا على جهة الوسوسة ابتلاء لآدم وزوجته لا عبرة به أيضا وإنما تحرش بهما «لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما» ليكشف ما غطى وستر «مِنْ سَوْآتِهِما» سمي الفرج سوأة لاستياء الإنسان بظهوره.
الحكم الشرعي في كشف العورة حرام وهي جميع بدن الحرة عدا وجهها وكفيها وباطن قدميها، ومن الرجل والأمة، ما فوق الركبة وتحت السرة والظهر والبطن من الأمة وبدوّها من كل يبطل الصلاة، هذا، وانهما لم يصغيا اولا لوسوسته إلا أنه لما حلف لهما أن هذه الشجرة ليست التي نهيتما عنها «وَقالَ ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ» من الملائكة المقربين خاليين من كل عناء «أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ ٢٠» الذين لا يموتون، أي أن علة النهي وسببه عدم جعلكما من الملائكة وعدم خلودكما في الجنة لأن في الأكل طلب الخلد قال في سورة طه (هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى) الآية ١١٢ الآتية، فلهذا ولعلم آدم أن للملائكة منزلة عظمى عند الله وقربا من عرشه وأن الخلد مما يطمع به أيضا فقد حمله الطمع الذي هو من طبيعة البشر على الاستشراف بذلك محبة للعيش مع الملائكة وطول العمر بالتخليد في الجنة
«وَقاسَمَهُما» حلف لهما فوق ذلك فائلا:
«إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ ٢١» فيما ذكرته لكما، وأكد حلفه بأن واللام التأكيدتين ووقع القسم منه على صيغة المفاعلة، لأن إبليس يحلف وآدام وحواء يصدقان فصار كأنه قسم من اثنين فصدقاه لظنهما أن أحدا لا يحلف بالله كاذبا.
قال قتادة حلف لهما حتى خدعهما وقد يخدع المؤمن بالله. ونقل بعض العلماء عن ابن عمر: من خادعنا بالله خدعنا له. وقد استزلهما بذلك كله فمالا إلى قوله «فَدَلَّاهُما بِغُرُورٍ» على الشجرة المنهي عنها- من الدلالة أو من دلى الدلو في البئر- اي حطهما عن درجة الطاعة وازلهما إلى درك المعصية، وقيل من الدالة وعليه قوله:
أظن الحلم دل علي قومي | وقد يستجهل الرجل الحليم |
وقال ابن مسعود إنها (سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك، لا إله إلا أنت، ظلمت نفسي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت). والأول أولى
قال قتادة: قال آدم يا رب، أرأيت إن تبت إليك واستغفرتك؟ قال إذن أدخلك الجنة، وأما إبليس فسأل الإنظار بما يدل على أن امتناعه من السجود كان تجبرا، فأعطى الله كلا ما سأل. هذا، ولم يعتذر آدم بإغواء إبليس له، لأنه أقدم على تناول الشجرة مختارا وفيه إيذان بإبطال مذهب الجبرية، تأمل ترشد وراجع الآية ٢٢ من سورة إبراهيم في ج ٢، «قالَ اهْبِطُوا» خطابا لآدم وحواء وإبليس، وكرر له الأمر لعنه الله إشارة إلى عدم انفكاكه عنهما وملازمته لهما في الدنيا أما ما قاله الطبري والسدي من أن الخطاب لهم وللحية فلم أر ما يؤيده وقد سبق تضعيف القول بأن الحية أدخلت إبليس الجنة حتى تمكن من إغواء آدم وزوجته، ولم يسبق في القرآن ذكر للحية. وقيل إن الخطاب لآدم وحواء فقط لأن إبليس أهبط إلى الأرض قبلهما، ومن شمل إبليس في هذا الخطاب قال إنه أهبط أولا من الجنة إلى السماء وفي هذا الأمر من السماء إلى الأرض معهما وهو وجيه، ومن لم يشمله قال بأن الجمع هو ما فوق الواحد، وعليه قاعدة المنطقيين استدلالا بقوله تعالى: (فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ) الآية ٤٥ من سورة النمل الآتية وفيها ما يدلك على غيرها، على أن لغات الأجانب كلها لا تثنية فيها لأنهم يعبرون بالجمع على ما فوق الواحد «بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ» متعادين في الأرض كما تعاديتم في السماء «وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ» تمكثون فيها منها «وَمَتاعٌ» تتمتعون به فيها «إِلى حِينٍ ٢٤» انقضاء آجالكم «قالَ فِيها تَحْيَوْنَ» لمدة المقدرة لكم «وَفِيها تَمُوتُونَ» فتدفنون إلى أجل معلوم تبقون في برزخكم
مطلب تواصي الله لخلقه والتزين للصلاة وغيرها:
وكل ما أعطاه الله لعبده فقد أنزله عليه من غير أن يكون هناك علو أو سفل كما تقول رفعت حاجتي إلى الأمير فليس فيه نقل من سفل إلى علو «لِباساً» لما كان المطر سبب النبات وكان النبات سبب اللباس، لأنه يكون من النبات ومن الحيوان الذي يأكل النبات، جعله نازلا باعتبار ما يؤول إليه «يُوارِي» يستر ويغطي «سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً» تتزينون به من الأثاث والمتاع، تقول العرب تريش الرجل إذا تمول، أي كل ما نحتاجونه في دينكم، إلا أن هناك شيئا هو أعظم نفعا لكم إذا تزينتم به «و» هو «لِباسُ التَّقْوى»
الذي يتحلى به الإنسان بامتثال أوامر ربه واجتناب نواهيه «ذلِكَ» لباس التقوى وقد أشار إليه بلفظ البعد تعظيما لشأنه لأن نفعه يؤول إلى الآخرة الباقية فهو حتما «خَيْرٌ» من اللباس والرياش المختصين بالدنيا لأن غايتهما دفع الحر والقر والتنعم في هذه الدنيا الفانية إلى حين، أما لباس التقوى فإنه يقي من عذاب الله ويورث الدار الآخرة الباقية والنعيم الدائم قال:
إذا أنت لم تلبس ثيابا من النقي | عريت وان وارى القميص قميص |
بل بالعفة والستر والصلاح وكل ما هو من شأن التقوى «أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ» أيها الكفرة «ما لا تَعْلَمُونَ ٢٨» حقيقة استفهام انكار جيء به للتوبيخ والتقريع «قُلْ» يا رسولي «أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ» العدل وكل ما هو مستقيم حسن طاهر فكيف تسندون له الأمر بالفحشاء ثم قال جل شأنه على طريق عطف الأمر على الخير وهو جملة «قُلْ أَمَرَ رَبِّي» أي «و» قل لهم «أَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ» لأن الكلام فيه حذف وإضمار وأمثاله في القرآن كثير وهو إيجاز غير مخل وحاشا كلام الله من الخلل والنقص والزيادة الكائنة في كلام البشر بسبب الإيجاز والإطناب. وإنما يزيده براعة وبلاغة أي توجهوا اليه «عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ» تقصدون فيه عبادة ربكم «وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ» لا لغيره بالاستقامة الكاملة واعلموا أيها الناس أنه تعالى «كَما بَدَأَكُمْ» من العدم أول مرة فعدتم أحياء في هذه الدنيا «تَعُودُونَ ٢٩» اليه يوم القيامة أحياء كاملي الخلق لأنه تعالى يعيد لكم ما طرأ عليكم من النقص في الدنيا ويجمع كل أجزائكم المتفرقة بعد الموت وتحشرون اليه المؤمن مؤمنا والكافر كافرا، يؤيد هذا قوله تعالى «فَرِيقاً هَدى» وهم الذين خلقوا في الأزل مؤمنين لاتباعهم طريق الحق الذي خلقوا اليه «وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ» وهم الكافرون في سابق علمه وذلك «إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ» باختيارهم
ورضاهم وإيثارهم عليها «وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ ٣٠» بفعلهم ذلك مع ما هم عليه من الضلال، كلا ان زعمهم هذا باطل روى مسلم عن جابر عن النبي صلّى الله عليه وسلم (السعيد من سعد في بطن أمه والشقي من شقي في بطن أمه) وقوله (اعملوا فكل ميسر لما خلق له) فالمخلوقون للجنة لا بد وأن يختم لهم بصالح العمل وان فعلوا ما فعلوا من الشر بتوفيق الله والمخلوقون للنار لا بد وأن يختم لهم بسيئة وان عملوا ما عملوا من الخير يخذلان الله ايّاهم.
قال تعالى «يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ» من اللباس النظيف الحسن والطيب والدهن وترجيل الشعر وتنظيف البراجم والأسنان لأن الصلاة مناجاة للرب فيستحب لمن يقف أمام ربه
اليوم يبدو كله أو بعضه | وما بدا منه فلا أحله |
قال تعالى: «وَكُلُوا وَاشْرَبُوا» مما أحل لكم من أنواع الطعام وأجناسه والشراب وأصنافه، قال الكلبي كانت بنو عامر في ايام حجهم لا تأكل دسما تعظيما، فقال المسلمون نحن أحق بتعظيم الله وبيته منهم يا رسول الله فأولى أن لا نأكل، فأنزل الله هذه الآية. فلما أباح الله لهم ذلك نهاهم عما من شأنه أن يكون منهم فقال: «وَلا تُسْرِفُوا» فيما أحله الله لكم من طيبات الأطعمة والأشربة بأن تتجاوزوا حدّ الشبع وتفرطوا في تعدد أوقاته وأنواعه، فإن الأكل في اليوم مرتين من الإسراف المذموم المنهي عنه شرعا، ومن الإسراف بل والشره أن يأكل كلما يشتهي، اخرج ابو نعيم عن عمر بن الخطاب قال إياكم والبطنة من الطعام والشراب فأنهما مفسدة للجسد مورثة للسقم مكسلة عن الصلاة وعليكم بالقصد فيهما فانه أصلح للجسد وابعد من السرف وان الله يبغض الحبر السمين (لأنه لو كان يتعظ فيما علم لأضعفه الخوف من الله) ولهذا قالوا ان القاضي إذا سمن بعد توليه القضاء فهو دليل على عدم اهتمامه بأمور الناس، وان الرجل لن يهلك حتى يؤثر شهوته على دينه ومن وصايا أطباء اليابان لا تأكل اللحم إلا مرة في اليوم ولا تشرب مسكرا ولا تدخن واكتف بقليل من القهوة والشاي واستحم يوميا بالماء الساخن وارتد الصوف الخفيف صيفا وشتاء ونم باكرا وأفق باكرا لتنعش بالهواء الطلق ودع غرفتك مفتوحة ليلا واجتنب المؤثرات العقلية واحرص على الراحة يوما في الأسبوع وتزوج البكر وخالط العلماء. وأخرج ابن ماجه والبيهقي عن أنس قال قال صلّى الله عليه وسلم ان من الإسراف أن تأكل كل ما اشتهيت. واخرج البيهقي عن عائشة قالت رآني صلّى الله عليه وسلم وقد أكلت في اليوم مرتين، فقال يا عائشة أما تحبين ان يكون لك شغل إلا في جوفك، الأكل في اليوم مرتين من الإسراف. وعليه فيكون الأكل الشرعي مرة في الصباح ومرة في المساء، قال تعالى: من حق اهل الجنة (وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا) الآية ٦٢ من سورة مريم الآتية فإذا أكل نهارا مرتين وأكل مساء اخرى كان مسرفا، ولا شك ان الاكل يختلف
النصراني: والله ما ترك كتابكم ولا نبيكم لجالينوس طبا. - من الكشاف- قال ومن النصائح الطبية ما قاله الحارث بن كلدة من حكماء العرب الأقدمين: لا تتزوج من النساء إلا شابة، ولا تأكل الفاكهة إلا في أوان نضجها، ولا يتعالج المريض ما احتمل بدنه الداء. هذا وقال تعالى «إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ٣١» في الأكل والشرب واللبس وغيره، والذي لا يحبه الله يبغضه فعلينا ان نجتنب ما يكرهه ربنا. واعلم ان هذه الآية والتي قبلها لا تتعارضان مع الآية ٦ من سورة التكاثر المارة لأنه ليس كل شيء يسأل عنه المرء يوم القيمة يعاقب عليه فضلا عن تلك وردت عامة وهاتين جاءتا بمعرض الرد على الكفار الذين يحللون ويحرمون من تلقاء أنفسهم. الا فلينتبه العاقل ويجتنب الإسراف المنافي لرضاء الله والويل كل الويل لمن لا يرضي الله. ويا سيد الرسل «قُلْ» لهؤلاء المتعجرفين عما أحل الله لهم من الطيبات الزاعمين تحريمها او كراهتها في بعض الأوقات والأمكنة والأحوال «مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ» من الأرض وأنزلها من السماء لنفعهم من حيوان ونبات ومعدن وما يعمل ويحصل منها «وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ» الذي يستلذ به الإنسان، وفي هذه الآية دليل على ان جميع المطعومات والمشروبات
جبلت على كدر وأنت تريدها | صفوا من الأقذاء والأكدار |
مطلب معنى الإثم والبغي:
وأما ما جرى عليه بعض المفسرين من أن الإثم هو الخمر فلا دليل عليه، بل لا يصح لأن العرب لم تسمها بهذا الاسم في الجاهلية ولا في الإسلام. نعم هي داخلة تحت الإثم لأنها سببه، ولأن مرتكبها آثم، إلا أن هذا لا يصرف معنى الإثم إليها فتفسيرها بالخمر خطأ بين بل غلط واضح، وليعلم أن الخمر حرمت بالمدينة بعد واقعة أحد ولم يقل أحد بأن هذه الآية مدنية لينصرف معناها إليه ولو كان مراد الله في هذه تحريم الخمر لما وردت الآيات بعدها بالتحريم تدريجيا باسمه الصريح المتعارف، إذ لو كان المراد بكلمة الإثم لكان المنهي عنه صريحا وكان بتا، ولا داعي حينئذ لتحريمه بعد ورود الآيات متتابعة أولا في النهي عن تعاطيه تعريضا في الآية ٦٧ من النحل في ج ٢، ثم النهي عن تعاطيه في الآية ٢١٩ من البقرة بسبب نفعيته وائمه، ثم في الصلاة في الآية ٤٢ من النساء ج ٣، ثم في الكف عنه جزما في جميع الأحوال في الآية ٩٠ من المائدة أيضا في ج ٣، وهذا من مقاصد اقدامي على هذا التفسير بالنمط الذي سرت فيه ليعلم غير العالم هذا وشبهه مما هو مقدم أو مؤخر، مطلق أو مقيد، عام أو خاص، ناسخ أو منسوخ بالمعنى المراد فيهما والله الهادي الى سواء السبيل. هذا، وما استدل به بعض المفسرين من قول القائل:
نهانا رسول الله أن نقرب الزنى | وأن نشرب الإثم الذي يوجب الوزرا |
شربت الإثم حتى ضل عقلي | كذاك الإثم يذهب بالعقول |
وقالوا شربت الإثم كلا وإنما | شربت التي في تركها عندي الإثم |
إذا شاب الغراب أتيت أهلي | وصار القار كاللبن الحليب |
ثم بين حالتهم في النار بقوله «لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ» فراش تحتهم «وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ» أغطية منها ونظير هذه الآية قوله «مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ» الآية ١٦ ص الزمر في ج ٢ يعني أن النار محيطة بهم «كَذلِكَ» مثل هذا الجزاء الشديد «نَجْزِي الظَّالِمِينَ ٤١» أنفسهم في الدنيا بالعذاب الشنيع في الآخرة وحرمانهم من الجنة «وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ» في دنياهم لهم ما يشاءون في الآخرة لا يضيّق عليهم فيها أبدا لأنا «لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها» بما يسهل عليها ويكون في طوقها ممّا لا حرج فيه عليها من الأعمال وهذه جملة اعتراضية بين المبتدأ وهو الموصول والخبر وهو «أُولئِكَ» أي المؤمنون بالله العاملون صالحا هم «أَصْحابُ الْجَنَّةِ» في الآخرة الدائمة و «هُمْ فِيها خالِدُونَ ٤٢» أبدا، والذي أحسن وقوعها مناسبتها للمعنى لأنه لما ذكر العمل ت (٢٣)
دخل أهل الجنة الجنة نادى مناد إن لكم أن تحيوا ولا تموتوا أبدا، وإن لكم تصحوا ولا تسقموا أبدا، وإن لكم أن تشبوا ولا تهرموا أبدا، وإن لكم
دخول الناس في الجنّات فضل | من الرحمن يا أهل الأمالي |
مطلب خطأ قول القدرية:
قال الشيخ أبو منصور إن المعتزلة خالفوا الله فيما أخبروا وأبا البشر الثاني نوحا عليه السلام وأهل الجنة وأهل النار وإبليس أيضا. فالله تعالى قال: (يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) الآية ٢٩ من سورة الرعد في ج ٣. وقال نوح وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ) الآية ٣٤ من سورة هود في ج ٢. وقال أهل الجنة (وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدانَا اللَّهُ) الآية المارة. وقال أهل النار (لَوْ هَدانَا اللَّهُ لَهَدَيْناكُمْ) الآية ٢١ من سورة ابراهيم في ج ٢. وقال إبليس (فَبِما أَغْوَيْتَنِي) الآية ١٥ المارة فدونك أعرض قول المعتزلة على هذه وانظر قول
مطلب في اصحاب الأعراف:
«وَعَلَى الْأَعْرافِ» أعالي الحجاب وهو السور المذكور «رِجالٌ» من آخر المسلمين دخولا في الجنة لقصور أعمالهم وهم المرجون لأمر الله المذكورون في الآية ١٠٦ من سورة التوبة في ج ٣ فإنهم يحبسون عليه فيقضون على شرفه البارزة ويقال لكل مرتفع عرف، ويبقون عليه بين الجنة والنار إلى أن يأذن الله لهم بدخول الجنة والانصراف عن النار وهؤلاء الرجال «يَعْرِفُونَ كُلًّا» من الفريقين المذكورين «بِسِيماهُمْ» علامات لهم فيهم أو بسيماهم التي صاروا إليها وهي بياض وجه المؤمن ونضارته وسواد وجه الكافر وزرقة عيونه «وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ» إذا عرضوا لهم ورأوا ما هم عليه من السرور فيقولون لهم «أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ» يهنونهم في هذه التحية بالسلامة من هول الآخرة وحصول الأمن لهم بدخول الجنة وهؤلاء المسلمون «لَمْ يَدْخُلُوها» أي الجنة بعد لأنهم ينتظرون أمر الله فيهم «وَهُمْ يَطْمَعُونَ ٤٦» بدخولها لوثوق أملهم بربهم ورجاء لطفه بهم وعطفه عليهم بعدم زجهم في النار، بسبب قلة حسناتهم عن سيئاتهم ولعدم وجود دار في الآخرة غير الجنة أو النار، ولأن من نجا من النار طمع
فراعنة الأنبياء السالفين ينادونهم جماعة منهم الذين يعرفونهم.
ثم خاطبوهم ثانيا مشيرين إلى طائفة من أهل الجنة كانوا فقراء في الدنيا يسخرون منهم ويستهزئون بهم ويضحكون عليهم قائلين «هؤُلاءِ» صهيب وسلمان وخباب وغيرهم من فقراء أمة محمد وأصحاب العفة الذين كنتم تأنفون مجالستهم في الدنيا حتى أنكم طلبتم من حضرة الرسول أن يعين لهم مجلسا على حدة لئلا يحضروا معكم تباعدا عن أوساخهم ورثاثة لباسهم «الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ» حالة كونكم في الدنيا بأنه «لا يَنالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ» نراهم قد نالوها وقد قال لهم ربهم الذي كنتم تجحدونه «ادْخُلُوا الْجَنَّةَ» فدخلوها وأنتم الآن في النار تعذبون وهم ينعمون وقد زادهم فضلا بقوله لهم «لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ» الآن مما يخافه غيركم «وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ ٤٩» على ما فتكم من نعم الدنيا ولا مما يلاقي هؤلاء إذ لا يهمكم شأنهم الآن كما كانوا في الدنيا لا يهتمون بكم، وكذلك الذين من هذا القبيل من أتباع الرسل المتقدمة، لأن الآيات كلها عامة، وان تخصيصها بأناس لا ينفي عمومها عن شمول غيرهم،
«الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ» في الدنيا فجعلوه «لَهْواً وَلَعِباً» فحرموا ما شاءوا وأحلوا ما أرادوا وعبدوا ما زين لهم الشيطان وعملوا ما هوته أنفسهم «وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا» بزخارفها الفانية وخدعهم أملهم فيها فلم يلتفتوا إلى صانعهم الحقيقي وكتابه المنزل ولم يكترثوا برسله بل أهانوهم وكذبوهم «فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ» من رحمتنا فنهملهم ولا نعتد بهم ولا نسمع دعاءهم «كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا» وأهملوه فلم يعملوا صالحا لأجله ولم يعتدوا به لذلك فإني أعرض عنهم كما أعرضوا عن آياتي ورسلي «وَما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ ٥١» يكذبون بها وبالذين جاءوهم بها، وسمى الله جزاء نسيانهم نسيانا على طريق المجاز، وهو عبارة عن تركهم في العذاب وعدم الالتفات إليهم وقد تعبر العرب بالنسيان عن الترك وإلا فإن الله تعالى لا ينسى شيئا، والمعنى أنا نعاملهم معاملة الناسين عبيدهم من خيرهم لأنهم لم يعترفوا بوحدانيتنا في الدنيا وأشركوا معنا من لا يستحق العبادة ولا ينفع نفسه. هذا ما قصه الله على نبيه من حال آدم وإبليس وأحوال الذين عبدوا غيره، والذين حللوا وحرموا حسب أهوائهم، وحال أهل النار وأهل الجنة وأهل الأعراف، هم التفت إلى نبيه صلّى الله عليه وسلم وقال مقسما «وَلَقَدْ جِئْناهُمْ» أي قومك يا محمد «بِكِتابٍ» عظيم جليل أنزلناه عليك وقد «فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ» منا بوجه تفصيله ووضحنا حلاله وحرامه ومواعظه وأخباره وقصصه وأمثاله وجعلناه «هُدىً» لمن اهتدى به «وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ٥٢» به فلماذا لا يؤمن هؤلاء الكفرة كي يقتبسوا من أنواره وينتفعوا بنوّاره كغيرهم ممن ذاق حلاوته، «هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ» أي أيتوقعون ما أوعدوا به من العذاب فيه، وما يؤول إليه أمرهم
مطلب في السموات والأرض والعرش وآيات الصفات:
قال تعالى ردا على هؤلاء المغترّين «إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ» قدمنا ما يتعلق في هذا في الآية ٣٦. من سورة ق المارة إذ لم يكن زمن خلق السموات شمس ولا قمر ليعرف الزمن، وهذا على حد قوله تعالى: (لَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا» الآية ٦١ من سورة مريم الآتية، أي بمقدارها في الدنيا بالنسبة لنا حسبما نعرفه لأن الجنه لا ليل فيها ولا نهار، ولهذا البحث صلة في الآية ٩ من سورة فصلت في ج ٢ فراجعه تعرف هذا وبدأ الأيام وآخرها وما خلق فيها، والمراد بالاستواء الاستيلاء وعليه قوله:
قد استوى بشر على العراق | من غير سيف ودم مهراق |
إذا ما بنوا مروان ثلث عروشهم | وأودت كما أودت إياد وحمير |
أن يقتلوك فقد ثلث عروشهم | بعيينة بن الحارث بن شهاب |
كأنا وضوء الصبح يستعجل الدجى | نطير غرابا ذا قوادم جوّن |
وكأن الشوق باب للدجى | ماله خوف هجوم الصبح فتح |
مطلب التناكح المعنوي:
وقد ذكر الله الغشيان هنا والإيلاج في الآية ٢٧ من آل عمران وغيرها لأنها مكررة كثيرا والمراد بهما التناكح المعنوي وجعله ساريا في جميع الموجودات الملمع إليها في قوله تعالى: (وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) الآية ٣ من سورة الرعد في ج ٣ وقبل توسع علم النبات ما كان أحد يعلم بازدواج النبات ووجود ذكر وأنثى في كل زهرة غير الله أنظر، كم من غيوب يكشفها الله لنا في هذا القرآن العظيم ونحن عنه غافلون وهذا أمر صحيح وان صح ذلك فما أصح قولهم في ضرب المثل للأمور المتوقعة (الليلة حبلى وستلد العجائب) هذا وأمر الحث عليه ظاهر لمن ذاق عسيلة النكاح والحاصل من هذا الغشيان على قولهم ما في العالم من معدن ونبات وحيوان وهو المواليد الثلاثة أو في جميع الحوادث على الإطلاق ومنه قوله:
أشاب الصغير وأفنى الكبير | كر الغداة ومر العشي |
«أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ» فرق بينهما ليعلم خلقه أن كلامه غير مخلوق لأن المخلوق لا يقوم بمخلوق مثله ولهذا قال سفيان بن عيينة من جعل الأمر الذي هو كلامه
وما القرآن مخلوقا تعالى | كلام الرب عن جنس المقال |
لا حول ولا قوة الا بالله العلى العظيم.
مطلب آداب الدعاء والقراءة:
وقال تعالى في الآية ٣ من سورة مريم الآتية «إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا» أي بما يسمع نفسه وهذا الحد كان في الدعاء كنفس الداع أما إذا كان الناس
مطلب في الرحمة واكتساب التأنيث والتذكير والمطر:
ومعنى الرحمة بالنسبة إلينا رقة في القلب تقتضي الإحسان إلى المرحوم، وبالنسبة لله إنعام وإفضال على من يشاء من عباده وإيصال الخير إليهم، وجاء لفظ قريب بالتذكير لأنه مضاف إلى مذكر والمضاف قد يكتسب التذكير من المضاف إليه كما في قوله:
إنارة القلب مكسوف بطوع هوى | وقلب عاصي الهوى يزداد تنويرا |
وما حب الديار شغفن قلبي | ولكن حب من سكن الديارا |
منهم مطلب قصة سيدنا نوح عليه السلام:
«فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ» وحده واتركوا هذه الأصنام فإنها ليس بآلهة «ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ» فلا تشركوا به شيئا «إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ إن أصررتم على ما أنتم عليه «عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ٩٥» في الدنيا، يريد به الطوفان الذي أعلمه الله به وفي الآخرة التعذيب بالنار، قال عليه السلام إني أخاف مع أنه على يقين من ذلك إذ أوحى له به ربه، إلا أنه لا يعلم وقت نزوله أيعاجلها به أم يتأخر «قالَ الْمَلَأُ» الأشراف أولو الحل والعقد «مِنْ قَوْمِهِ» يا نوح «إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ» عن طريق الصواب لأنك تدعونا إلى شيء لم نعرفه نحن ولا آباؤنا فزيفك هذا «مُبِينٍ ٦٠» واضح لا خفاء فيه ردا على نصحه لهم وانما قالوا ذلك لأنه لما خوفهم بالطوفان رأوه يصنع السفينة في أرض لا ماء فيها، أي
لهذا رد عليهم «قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ ٦١» إليكم لأرشدكم و «أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي» أوامره ونواهيه مما يعود لنفعكم «وَأَنْصَحُ لَكُمْ» فأرغبكم بفعل طاعته ليثيبكم عليها دار النعيم الدائم وأحذركم من معصيته لئلا يحل بكم عذابه الدنيوي ثم ترجعوا إلى عذابه في الآخرة، وهذا معنى النصح أما معنى الرسالة فهو عبارة عن تبليغ الرسول ما يوحى إليه من الذي أرسله إلى المرسل إليهم وتعريفه لهم وبيان ما يترتب عليه فعله وتركه وفعل نصح يتعدى باللام كما هنا وبغيره كقوله:
نصحت بني عوف فلم يتقبّلوا | نصحي ولم تنجح لديهم رسائلي |
وأعلم علم اليوم والأمس قبله | ولكنني عن علم ما في غد عمي |
الرسالة من الله إلينا وأن العذاب سينزل علينا ان لم نصدقك ونؤمن بربك
«قالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ» رجز أي عذاب عظيم أبدلت الزاي سينا فيه وأصل الرجس الاضطراب ثم شاع في معنى العذاب لاضطراب من يحل، به وقال بن زيد، الرجس بمعنى العذاب في كل القرآن مأخوذ من الارتجاس وهو الارتجاز «وَغَضَبٌ» سخط
مطلب قصة هود عليه السلام:
وخلاصة القصة أن قوم هود تبسطوا في الأرض وعتو عتوا شديدا بما أعطوه من القوة والمال والكثرة، وكان لهم ثلاثة أصنام الصداء والصمود والهباء، وقد تغالوا في عبادتها وكان هود عليه السلام اعتزلهم إلى أن أرسله الله إليهم فأبدى لهم نصحه وخوّفهم وحذرهم مرفضوا الإصغاء إليه فأمسك الله عنهم القطر ثلاث سنين، وكانت عادتهم إذا نزل بهم بلاء فزعوا الى بيت الله الحرام يطلبون الفرج منه عند بيته، ولما طال عليهم الأمر أوفدوا سبعين رجلا من خيارهم الى بيت الله برئاسته قيل بن عنتر ونعيم بن هزال ومرثد بن سعد وكان مؤمنا يكتم إيمانه
ألا يا قيل ويحك قم وهينم | لعل الله يسقينا غماما |
فيسقي أرض عاد إن عادا | قد امسوا لا يبينون الكلاما |
من العطش الشديد فليس ترجو | به الشيخ الكبير ولا الغلاما |
وقد كانت نساؤهم بخير | فقد أمست نساؤهم أيامى |
وان الوحش تأتيهم جهارا | ولا تخشى لعاديّ سهاما |
وأنتم هاهنا فيما أتيتم | نهاركم وليلكم تماما |
فقبّح وفدكم من وفد قوم | ولا لاقوا التحية والسلاما |
عصت عاد رسولهم فأمسوا | عطاشا ما تبلهم السماء |
لهم صنم يقال لهم صمود | يقابله صداء والهباء |
فبصرنا الرسول سبيل رشد | وأبصرنا الهدى وجلي العماء |
وإن إله هود هو إلهي | على الله التوكل والرجاء |
فقد حكم الإله وليس جورا | وحكم الله ان غلب الهواء |
على عاد وعاد شر قوم | فقد هلكوا وليس لهم بقاء |
واني لن أفارق دين هود | طوال الدهر أو يأتي الفناء |
الا يا سعد إنك من قبيل | ذوي كرم وانك من ثمود |
فإنا لا نطيعك ما بقينا | ولسنا فاعلين لما تريد |
أتأمرنا لنترك دين قوم | ورمل والصداء مع العمود |
ونترك دين آباء كرام | وذي رأي ونتبع دين هود |
لا أبالي لا حاجة لي بالبقاء بعدهم، فأجاب الله لكل دعوته. هذا، وليعلم أن قلوب الكفرة لا تزال متشابهة قال تعالى (تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ) الآية ١١٨ من البقرة في ج ٣ لأن ردّ الكافرين لأنبيائهم قديما متشابه وحتى الآن «وقد كانت عندي خادمة من الأرمن من الذين اضطرهم الأتراك للهجرة وصاروا يأخذون منهم طائفة طائفه الى الجزيرة فتعدمهم وجئت يوما للدار فرأيت الخادمة تهيىء نفسها للسفر مع طائفتها، فقلت لها إن ذهبت قتلت وأنا أقدر على إبقائك عندي، فقالت لا عيش لي بعد قومي، فذهبت وقتلت معهم» ولما خرجوا من مكة ووصلوا الى خوصهم هلكوا معهم جميعا إذ ظهرت عليهم سحابات ثلاث حمراء وبيضاء وسوداء، فاختار قيل السوداء لزعمه أكثر ماء واستبشر بها وقد أخبر الله عنهم في الآية ٢٤ من سورة الأحقاف في ج ٢ بقوله «هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا» فجاءهم ريح عقيم استمرت سبع ليال وثمانية أيام، فأهلكتهم جميعا وارتحل مرثد مع جملة المؤمنين صحبة نبيهم هود
الفقراء مالا ورجالا «لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ» به عليه السلام من المستضعفين وهذه الجملة جاءت بدلا من الجملة قبلها على طريق الاستفهام الإنكاري «أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ» استهزاء بهم لأنهم يعلمون أنهم عالمون بذلك ومعتقدون به، ولذلك لم يجيبوهم على مقتضى الظاهر، إذ لم يقولوا لهم، نعم بل «قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ ٧٥» مصدقون وهذا الجواب من الأسلوب الحكيم فكأنهم قالوا لهم نعلم بإرساله. وبما أرسل به ولا نشك بما جاء به ونخبركم انا مؤمنون به لأن الإيمان به واجب فهل تؤمنون به مثلنا فأجابوهم أيضا بمثل جوابهم بمقتضى الظاهر فبذل ان يقولوا لهم انا بما أرسل به مؤمنون «قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا» لأولئك المستضعفين «إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ ٧٦» وفائدة هذا الرد على ما قاله. المؤمنون من جعلهم إياه معلوما ومعلما عندهم، أي أن الذي فلتموه ليس معلوما عندنا ولا مسلما، وبما أن جواب المؤمنين لم يزدهم إلا عتوا اتفقوا على مخالفة رسولهم «فَعَقَرُوا النَّاقَةَ» التي هي آيته أي قطعوا عروقها وهم قد ذبحوها ذبحا وسمي النحر عقرا لأن الناحر يعقر البعير
أولا ثم ينحره أي أنهم عقروها ثم ذبحوها «وَعَتَوْا» ازداد استكبارهم «عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقالُوا يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا» به من العذاب الذي تهددنا به «إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ٧٧» من قبل الله كما تزعم فدعا ربه «فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ» خفقان القلب من أثر الزلزلة الشديدة الناشئة من الصيحة إذ جاء في ٤٣ من سورة الذاريات في ج ٢ الآية وكذلك في سورة المؤمنين الآية ٤١ «فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ» والصيحة الشديدة يحصل منها الخفقان من شدة الخوف لأنها خارقة للعادة كيف لا وهي من السيد جبريل عليه السلام الذي وصفه الله بالقوة فلا بدع أن تزلزل الأرض منها ويضطرب من عليها «فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ ٧٨» على ركبهم ميتين وهم قعود، والجثوم للناس والطير ولبقية الحيوانات البروك «فَتَوَلَّى» صالح «عَنْهُمْ» لما رأى ما حل بهم وصار يخاطبهم آسفا على عدم ايمانهم به وهو مدبر عنهم وهذا كما فعل رسول الله محمد صلّى الله عليه وسلم مع أهل القليب، راجع الآية ٨ من سورة الأنفال في ج ٣
مطلب قصة صالح عليه السلام:
وخلاصة القصة أن قبيلة ثمود لما ملكت الأرض بعد عاد كثروا وعمروا كثيرا فعكفوا على عبادة الأصنام، وأفسدوا في الأرض، فأرسل الله لهم صالحا فصار يدعوهم الى طريقه السوي ويأمرهم بترك الإفساد فلم يقبلوا ولم يؤمن منهم الا قليل من فقرائهم، وقد كبر سنه عليه السلام وألح على قومه بترك عبادة الأوثان والإفساد فطلبوا منه آية على صدقه بأن يخرج لهم من صخرة كبيرة عند الحجر تسمى الكائية ناقة عشراء جوفاء وبراء مخرجه تشاكل البخت من الإبل، ذات السنامين ويؤمنوا به، فقبل منهم وأخد عليهم العهود والمواثيق على ذلك فصلّى ودعا ربه، وهم أخرجوا أوثانهم وسألوها أن لا يستجاب له فأجاب الله دعاءه وخيّبهم وأوثانهم، وأخرج له ناقة كما طلبوا تشاكل البخت من الإبل ذات السنامين ويؤمنوا به، فقبل منهم وأخذا عليهم العهود والمواثيق على ذلك. فصلّى ودعا ربه، وهم أخرجوا أوثانهم وسألوها أن لا يستجاب له، فأجاب الله دعاءه او خيبهم وأوثانهم، وأخرج له ناقة كما طلبوا تشاكل البخت من الإبل رجعلها الله معجزة عظيمة له وهي نفسها معجزة أيضا، لأن ثمود لهم ماء يشربون منه هم وحيواناتهم يوما وهي تشرب بقدر ما يشربون جميعا، وكانوا يحلبونها يوم شربها فيكفيهم حليبها كلهم وكانت تمنع الحيوانات عن شرب الماء في نوبتها وهذه الخصال دلت بأنها من أعظم المعجزات وأكبر الآيات فآمن به قليل من قومه وازداد الآخرون عتوا، وبما أنهم الأكثر قر رأيهم على ذبحها فذبحوها بداعي أنها تقاسمهم الماء وكأن الحليب الذي يأخذونه منها لا يكفيهم عنه قاتلهم الله. روى البخاري ومسلم عن عيد بن زمعة رضي الله عنه أنه سمع النبي صلّى الله عليه وسلم يخطب وذكر الناقة والذي عقرها فقال صلّى الله عليه وسلم «إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها» أي قام بسرعة لها رجل عزيز عادم «أي خبيث شرير» منيع «أي ممتنع طويل لا يقدر عليه من أراده» في رهطه مثل أبي زمعة وتقدم ما فيه، في الآية ١١ من سورة والشمس المارة. قال الأخباريون والقصاص إن إهلاكهم كان يوم الأربعاء وان عاقرها قدار بن سالف اغرته عنيزة بنت غانم
لأن منهم من لم تخلق فيهم الشهوة فكانت هنا للتبعيض ثم وبخهم بالاستفهام
«بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ ٨١» متجاوزون الحلال إلى الحرام ولذلك آثرتم الدبر على الفرج، وإنما ذمهم الله لأن القصد من وضع الشهوة في الإنسان طلب الولد وبقاء النوع الإنساني وتكاثره لعمران الدنيا إلى أجل أراده الله، فإذا عدل عن هذا القصد تعطل الكون وكانت تلك الشهوة بهيميّة محضة، ولهذا خصهم الله بالإسراف لأنه وضع الشيء بغير محله «وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ» تجاه تعنيفه لهم على قبح فعلهم ونصحه لهم بتركه «إِلَّا أَنْ قالُوا» بعضهم لبعض «أَخْرِجُوهُمْ» أي لوطا ومن آمن به «مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ ٨٢» من صنيعكم ويتنزهون مما أنتم عليه. قال ابن عباس عابوهم بما يمدح به قال تعالى «فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ» لأنها لم تؤمن به وكانت تخبر قومها بمن يأتيه من الضيفان وتحرضهم عليهم لذلك «كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ ٨٣» الباقين مع المعذبين من قومها ولم يقل من الغابرات، لأنها هلكت مع الرجال المغلّب ذكرهم على النساء، والغبر البقاء يقال غبر في داره إذا بقي «وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً» عظيما مهولا لأنه مطر عذاب لا مطر رحمة، والننوين يدل على شدة فظاعته، وقلّ أن يأتي المطر بمعنى الغيث بل قد لا يوجد في القرآن إلا بمعنى العذاب، وأمطر بمعنى أرسل، ومطر بمعنى أصاب، فيكون مطر الرحمة وأمطر للعذاب «فَانْظُرْ» أيها العاقل المفكر «كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ ٨٤» فهي شيء عظيم لا تتصوره العقول، هذا ما قصه الله علينا من خبر لوط عليه السلام مع قومه.
مطلب قصة قوم لوط عليه السلام:
وقال الأخباريون كانت المؤتفكة خمس مدائن بين الشام والمدينة مخصبة ذات زروع وثمار، فآذاهم الناس بالأخذ منها فعرض لهم إبليس وقال لهم إذا فعلتم بهم كذا (ودعاهم إلى نفسه فلاطوا به علّمهم لعنه الله هذه الفعلة الخبيثة ابتداعا من حيث لم تخطر ببالهم، فهو أول من ليط به لأنه كان يظهر لهم على صورة البشر)
الحكم الشرعي: الحرمة القطعية ويكفر مستحله. قال في التتارخانية نقلا عن السراجية: اللواطة بمملوكه ومملوكته حرام، وكذا امرأته، إلا أنه لا يكفر مستحلّه، وهذا بخلاف اللواطة بالأجنبية والأجنبي فإنه يكفر مستحلّه قولا واحدا، قال الإمام الأعظم لا حدّ بوطء الدبر مطلقا وفيه التعزير ويقتل من تكرر منه على المفتى به كما في الأشباه. وقال الإمامان: إن فعل بالأجانب حدّ كحد الزنى، وإن في عبده وأمته وزوجته بنكاح صحيح أو فاسد فلا حدّ اجماعا، كما في الكافي وغيره بل يعزّر في ذلك كله ويقتل من اعتاده، وروي عن علي كرم الله وجهه أنه رجم لوطيا وهو أشبه بما قص الله تعالى من إهلاك قوم لوط بإمطار الحجارة عليهم، وقد أخرجه البيهقي وصححه الحاكم وعليه فيكون حدّه الرجم. هذا، وقد جاء عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال: (لعن الله سبعة من خلقه فوق سبع سموات فردد لعنته على واحد منها ثلاثا ولعن بعد كل واحدة لعنة لعنة، فقال ملعون ملعون ملعون من عمل عمل قوم لوط) الحديث. وجاء أيضا (أربعة يصبحون في غضب الله ويمسون في سخطه) وعدّ منهم من يأتي الرجل-. وزعم علي بن الوليد المعتزلي أنه لا يمتنع أن تجعل اللواطة في الجنة لزوال المفسدة، ولأنها من جملة
مطلب رد أبي يوسف على المعتزلي:
وانكار قبح اللواطة مكابرة، وكانت الجاهلية مع ارتكابهم كافة المفاسد تعيّر بها فيقولون فلان معفر استه بمعرض الذم، وإذا كنت يا ابن الوليد ترضى به اليوم فهل ترضى به غدا في الجنة، وذلك لأنه كان مأبونا قد ألف ذلك واعتاده والعياذ بالله، فجرّه اعتياده إلى الجرأة على القول بأن هذه الفاحشة الخبيثة من ملاذ الجنة المطهرة من الأرجاس، قبحه الله وقبح فاعليها ومحبذيها. وقد صحح العلماء الأعلام أنها لا تكون في الجنة قطعا لأن الله سماها فاحشة هنا وخبثا في الآية ٧٣ من سورة الأنبياء في ج ٢، والجنة منزهة عن الفواحش والخبائث، قال بعض العارفين والله الذي لا إله إلا هو لو لم يذكر الله عمل قوم لوط في كتابه ما خطر ببالي كونه واقعا أو يقع، وذلك لطهارة سريرته وكماله، لأن الكامل لا يرى النقص، وألحق بعض العلماء السّحاق باللواطة، وبدأ أيضا في قوم لوط، لأن رجالهم لما استغني بعضهم ببعض بعد أن ألفوا اللواطة تركوا نساءهم، فصارت المرأة منهم تأتي الأخرى. جاء عن حذيفة رضي الله عنه قال: إنما حق القول على قوم لوط حين استغنى الرجال بالرجال والنساء بالنساء وعن أبي عمرة قال: قلت لمحمد بن علي، عذب الله نساء قوم لوط بعمل رجالهم، فقال له: الله أعدل من ذلك، استغنى الرجال بالرجال والنساء بالنساء، فعذبهن كما عذبهم جزاء وفاقا.
وعن علي كرم الله وجهه قال على المنبر سلوني، فقال ابن الكواء هل تؤتى النساء في أعجازهن؟ فقال سفلت وسفّه الله بك، ألم تسمع قوله تعالى (أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ) هذا وإن العلماء صرحوا بأن حرمة اللواطة أشدّ من الزنى عقلا وطبعا وشرعا،
هذا، وإن بعض السفهاء والفسقة خبيثي النفوس نجسي العقيدة كابن الوليد المذكور أخزاهم الله جميعا وأذلهم، يفتخرون بمثل هذه الفعلة الفظيعة ومنهم يفعلها انتقاما انتقم الله منه في الدنيا والآخرة، ومن المفعول بهم من اتخذها مهنة، أهانه الله، ومنهم من يقدم نفسه لبعض الخبثاء أمثالهم من الموظفين ومن هو واسطة لهم لعنهم الله وأزال نعمه عنهم ليوظفه أضافه الله لإخوانه قوم لوط، وفضحهم في الدنيا وعذبهم في الآخرة، ومنهم من ابتلي بها والعياذ بالله حتى أنهم ليعطون مالا لمن يفعل بهم وهم كثيرون في زماننا، ولا حول ولا قوة إلا بالله، اللهم عليك بهم فإنهم لا يعجزونك، لأنهم تقوا بنعمتك على معصيتك. قال تعالى «وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً» بن ثوبب بن مدين بن إبراهيم عليهما السلام، أي أرسله إلى قومه ولد مدين ومدين صارا اسما للقبيلة، وكان عليه السلام يسمى خطيب الأنبياء لحسن مراجعته قومه، وكانوا كافرين ينقصون الكيل ويبخسون الميزان، فبادر بنصحهم وتحذيرهم عاقبة أمرهم «قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ» موعظة «مِنْ رَبِّكُمْ» فاتعظوا بها، ولم تذكر لسيدنا شعيب معجزة في القرآن والقول بأنه لم يكن له معجزة غلط لأن الفاء في قوله جل قوله «فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ» أتت لترتيب الأمر على مجيء البينة، والقول بأنها عاطفة على (اعْبُدُوا) بعيد لا يكاد يقوله عارف، وعدم ذكرها في القرآن لا يدل على عدم تخصيصه بشيء من المعجزات التي لا بد لكل نبي منها دلالة على صدق دعوته مما من شأنه أن يعجز البشر على مثله، ومن المعلوم أن ليس كل آيات الأنبياء مذكورة في القرآن العظيم وما من عموم إلا وقد خصص، وروي أنه لما كان موسى عليه السلام عنده
مطلب في عمى شعيب عليه السلام:
وهنا مسألة وهي أن العلماء نصّوا على أن الأنبياء سالمون من كل عيب ونقص حسي أو معنوي، ولا شك أن العمى نقص حسي، ومما هو شائع أن سيدنا شعيب كان أعمى، فإذا صح ذلك فيكون هذا طارئا عليه بعد النبوة كبلاء أيوب وعمى يعقوب عليهم السلام، إلا أن بلاء أيوب وعمى يعقوب زالا بحياتهما بنص القرآن لأنه من جملة ما ابتلى به أصفياءه ليختبرهم أي ليظهر للناس حالهم معه مع وجود البلاء وإلا فهو عالم بهم قبل، فلو كان عمى شعيب من هذا أقيل لذكره الله في القرآن كما ذكر بلاء غيره، وإذ لم يذكره فلا محل للقول بعماه، ولهذا البحث صلة في تفسير الآية ٨٤ من سورة يوسف في ج ٢ والآية ٢٥ من سورة القصص الآتية، فظهر من هذا أنه لو كان أعمى حقيقة لما أغفله القرآن، وعليه فإن القول بعماه غير صحيح، قال تعالى «وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ: أَشْياءَهُمْ» حقوقهم في الكيل والوزن والذرع وغيره أي لا تقصوها، أدوها كاملة وافية فإنه أبرأ الذمة.
وأمرأ للقلب «وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ» بأن تسلبوا أو تقتلوا أو تؤذوا المارة والقارّة من العباد «بَعْدَ إِصْلاحِها» ببعثة الرسل الذين أقاموا فيها العدل بين الناس وحاربوا الفساد والظلم، بل اسلكوا طريقهم أيها الناس في الإصلاح النافع
فإن لم تك الأيام تحسن مرة | اليّ فقد عادت لهن ذنوب |
ألا أبلغ بني عصم رسولا | فإني عن فتح حكم غنيّ |
«فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ ٩١» تقدم تفسيره آنفا في الآية ٧٨ المارة قال تعالى «الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا» أي ذهبوا وكأنهم لم يوجدوا في الدنيا دهرا طويلا برغادة عيش وهذا معنى غنى وضده الفقر قال حاتم..
غنينا زمانا بالتصعلك والغنى | فكلا سقاناه بكأسهما الدهر |
فما زادنا بغيا على ذي قرابة | غنانا ولا أزرى بأحسابنا الفقر |
إذا الأحوال دبّرها شباب... فإن مصيرها صاح الرزايا
متى تصل العطاش الى ارتواء... إذا استقت البحار من الركايا
ومن يثني الأصاغر عن مراد... وقد جلس الأكابر في الزوايا
وانّ ترفّع الوضعاء يوما... على الرفعاء من بعض البلايا
إذا استوت الأسافل والأعالي... فقد طابت منادمة المنايا
مطلب قصه سيدنا شعيب عليه السلام:
هذا ما قصه الله علينا في أمر شعيب وقومه وكيفية إهلاكهم، اما ما ذكره القصاص فخلاصته أنه عليه السلام أرسله الله الى اصحاب الأيكة فلم يؤمنوا فأرسل عليهم حرا شديدا أخذ بانفاسهم وحبس الريح عليهم سبعة أيام ولم يجدوا ما يقيهم منه حيث لا واقي من أمر الله فهربوا إلى البرية فأظلتهم سحابة فيها ريح طيبة وهي الظلة المذكورة في الآية ١٨٩ من سورة الشعراء الآية، فاجتمعوا تحتها كلهم فالهبها الله نارا عليهم ورجفت بهم الأرض، فاحترقوا جميعا، ثم أرسله إلى أهل مدين الذين كان ملوكهم أبجد وهوز وحطي وكلمن وسعفص وقرشت، وكان ملكهم حين إهلاك الظلة، كلمن، فلما دعاهم الى الإيمان ولم يؤمنوا أيضا أرسل عليهم جبريل عليه السلام فصاح بهم صيحة أخذتهم الرجفة من هولها فأهلكوا جميعا كما جاء في الآية ٣٧ من سورة العنكبوت ج ٢ وقالوا ان كلمن رثته بنته عند نزول العذاب بهم بقولها:
كلمن قد هدّد كن... هلكه وسط المحلة
سيد القوم أتاه... الحتف نار تحت ظلة
جعلت نارا عليهم... دارهم كالمضمحلة
أبت ما لي أرى الناس ينامون ولا أراك تنام؟ قال يا بنتاه إن أباك يخاف البيات، أراد الآية المارة، رحمه الله
قال تعالى «تِلْكَ الْقُرى» التي بينا لأهلها طريقي الخير والشر كقوم نوح وعاد وصالح وهود ولوط وشعيب الذين ختمنا على قلوبهم لعلمنا بخبثها فلم ندعها تقبل نصح رسلهم وأهلكناهم ببغيهم «نَقُصُّ عَلَيْكَ» يا محمد «مِنْ أَنْبائِها» أخبار أهلها وأمر رسلهم معهم لتعلم ماهية مقاومتهم للرسل وعاقبة أمرهم معهم وتتيقن أنا ناصروك على قومك كما نصرناهم، ومهلكو من لم يؤمن بك كما أهلكنا من لم يؤمن بهم «وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ» مثلما جئنهم بالمعجزات «فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا» بعد رؤية ما أظهروه لهم من المعجزات «بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ» قبل مجيء الرسل إليهم ورؤية آياتهم، بل استمروا على كفرهم وأصروا على عنادهم، وفاجأوا رسلهم بالتكذيب، ولم يلتفتوا إلى معجزاتهم، فكانت حالتهم بعد مجيء الرسل كحالتهم قبلها كأن لم يبعث إليهم أحد ولم يؤمروا ولم ينهوا وهذه الآية قريبة في المعنى من قوله تعالى: (وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ) الآية ٢٨ من سورة الأنعام في ج ٢، أي لو أحييناهم بعد معاينة العذاب لم يؤمنوا «كَذلِكَ» مثل هذا الطبع المحكم «يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ ١٠١» الذين
مطلب في تفاوت حروف الجرّ.. وألقاب الملوك:
وجيء، بمن، هنا للتأكيد والإحكام كما نوهنا به في الآية ٨٠ المارة ولا يعبّر عن مثل هذا بسيف خطيب أن زائدة لأنه قول زائد، إذ لا نزاع بأن قولك ما جاءني من أحد أبلغ من قولك ما جاءني أحد، وعليه يكون وجودها له معنى بليغ في النفوس والأسماع لا يكون بغيرها، وبني كلام الله على البلاغة لأنها من معجزاته وانظر لهذا الجناس التام المماثل بين قوله وما وجدنا وبين قوله «وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ ٢٠١» خارجين عن طاعتنا ناكثين ميثاقنا الذي أخذناه عليهم حين أخرجنا ذراريهم من ظهور أبيهم آدم عليه السلام المبين في الآية ١٧٠ الآتية، قال ابن عباس إنما أهلك الله أهل القرى لأنهم لم يحفظوا ما وصاهم به، وإن في صدر هذه الآية مخففة من الثقيلة وخبرها ضمير الشأن واللام، في لفاسقين اللام الفارقة بين أن النافية والمخففة حيث أوجبوا وجود اللام بعد أن المخففة، لئلا تلتبس بالنافية التي لا يأتي اللام بعدها، والمعنى أنه أي الحال والشان وجدنا أكثرهم فاسقين راجع الآية ٤٥ المرة، وقال بعض المفسرين إنّ إن بمعنى ما واللام بمعنى إلّا، أي ما وجدنا أكثرهم إلّا فاسقين وهو وجيه وفيه من البلاغة ما لا يوجد في التفسير الأول، وسياق صدر هذه الآية بواتي المعنى إلا أن مجيء اللام بمعنى إلّا شاذّ، لهذا قدمنا الأول مع اختيارنا للثاني لولا ذلك المانع، قال تعالى «ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ» «مُوسى» بن عمران بآياتنا التسع الآتية بعد في هذه السورة «إِلى فِرْعَوْنَ» الوليد بن مصعب بن الريان ملك مصر المبالغ في الكبرياء والجبروت والإفراط حتى ادعى الإلهية وكلمة فرعون علم لكل من يملك القبط، كما أن النجاشي لمن يملك الحبشة
كذبتم وبيت الله حتى تعالجوا | قوادم حرب لا تلين ولا تمري |
وتلحق خيل لا هوادة بينها | وتشقى الرماح بالضياطرة الحمرى |
٢- تكون على حد ان ما لزمك فقد لزمته أي فلما كان قول الحق حقيق عليه
مطلب كيفية معجزة موسى وأنواعها:
قالَ فرعون يا موسى «إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ» تدل على رسالتك وصدقك «فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ١٠٦» بقولك لتثبت دعواك عندنا ونتبعك «فَأَلْقى عَصاهُ» بين أيديهم «فَإِذا هِيَ» بلا معالجة واستعمال أسباب وأدوات واعية للتبدل كما يفعله السحرة «ثُعْبانٌ مُبِينٌ ١٠٧» ذكر واضح من الحيات الكبار، واعلم أن لا معارضة بين هذه الآية والآية ٣١ من القصص الآتية لأنها بمجرد إلقائها صارت في عظم الجثة كالثعبان في الجسم، لهذا وصفها هنا به، وفي صفه الحركة كانت كالحية الصغيرة لذلك وصفها هناك بالجان، أي الحية الصغيرة، قال ابن عباس والسديّ لما ألقى موسى عصاه وصارت حية عظيمة خضراء شقراء فاغرة فاها، ما بين لحييها ثمانون ذراعا، وقامت على ذنبها مرتفعة عن الأرض بقدر
والبلاغة في زمن محمد عليه الصلاة والسلام، ولا يعارض هذه الآية ما جاء في سورة الشعراء الآتية انها من قول فرعون لملائه لأن الكلام متبادل بينهم فتارة هو يقول لملائه كما في الآية ٣٤ منها وأخرى هم يقولون له كما في هذه الآية لما بهرهم مما رآوا، وهذا من باب اتحاد الرأي وتوارد الخاطر في الكلام، ولإعلام العامة أن هذا سحر ليس كما يقول موسى معجزة «يُرِيدُ» هذا الساحر موسى «أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ» أيها القبط وطن آبائكم «فَماذا تَأْمُرُونَ ١١٠» به من الرأي، أشيروا عليّ بما يجب أن أعمله لحفظ كيانكم وبلادكم وعلو كلمتكم لأن هذا يريد سلب ملككم ونعمتكم ويستعيدكم كما استعبدنا قومه
«قالُوا» لما رأوا فرعون هم بقتله وتوقف على أخذ رأيهم «أَرْجِهْ وَأَخاهُ» هرون، لأنه كان معه إلا أنه لم يتول شيئا ولم يتكلم لأن الله أرسله مصدقا لأخيه وعونا له ونائبا عنه بغيابه
وجاء في الآية ٢٧ من الشعراء سحّار بالمبالغة وهو الذي يدوم سحره ويعلّم الناس السحر، والساحر من يكون سحره منقطعا وقتا دون وقت، قال ابن عباس والسدي وابن اسحق: لما رأى فرعون من سلطان الله وقدرته في العصا واليد قال لا نقاتل موسى إلا بمن هو أشد منه سحرا فبعث غلمانا من بني إسرائيل إلى مدينة الغوصاء ليعلموهم السحر، وضرب لموسى موعدا للمباراة بعد أن تعلموا جاءوا ومعلموهم، فقال فرعون للمعلم: ما صنعته؟ قال علمتهم سحرا لا يطيقه أهل الأرض إلا أن يكون أمرا من السماء فلا طاقة لهم به ثم بعث من مماليكه حسبما أشار عليه ملؤه، فلم يترك ساحرا إلا أتى به، قال مقاتل، جمع اثنين من القبط وسبعين من بني إسرائيل، ثم قال الملأ لفرعون إن غلبوا موسى علمنا والناس أجمع أنه ساحر وإذ ذاك إذا قتلتهما فلا لوم عليك لما في بقائهما من الفساد والإفساد، وإن غلبهم صدقناه واتبعناه، فلم يرد على كلامهم لأن الشق الأخير منه لم يعجبه لأنه
مطلب ما وقع بين موسى والسحرة:
«وَجاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قالُوا» يا فرعون أ «إِنَّ لَنا لَأَجْراً» عندكم تعطونا إياه «إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ ١١٣» لموسى وأخيه ولا يقال هنا إن حق الكلام أن يقال (فقالوا) لأن الكلام فيه حذف وإيجاز وهو من محسنات البديع في الكلام والتقدير كأن سائلا سئل ما قالوا إذ جاءوا إليه فأجيب بقوله قالوا ومثله كثير في القرآن وهذه جرأة من القائل راجع الآية ٦٧ من يونس في ج ٢ وما ترشدك إليه «قال» فرعون بحضور ملأه لأن القول الفصل له وإنما لملائه إبداء الرأي فقط، وهكذا يكون الوزراء مع الملوك راجع الآية ٣٢ من سورة النمل الآتية «نَعَمْ» إن لكم عندنا لأجرا وتكرمة «وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ١١٤» عندنا رفعة ومكانة إذا غلبتم موسى، وأخذهم لأرض الميعاد وجاء موسى وأخوه وتفاوض مع السحرة وأبدى لهم نصحه، وأخبرهم أن ما جاء به ليس بسحر، بل هو من عند الله، وأكد لهم ذلك، وأرشدهم للكف عما جاءوا به، فلم ينجع بهم لما يؤملونه من فرعون وهم لم يروا بعد من موسى شيئا «قالُوا» كف عنا ما تقول «يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ» عصاك أو غيرها مما عندك من أنواع السحر «وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ ١١٥» ما عندنا من أصناف السحر، وإما هنا بكسر الهمزة لأنها للتخيير وهكذا تكون مكسورة في الشرط والشك أيضا، ومفتوحة في الأمر والنهي والخبر، وإنما قدموه وجعلوا له الخيار في التقديم للإلقاء تأدبا معه لما علموا منه أثناء المفاوضة أنه على علم عظيم ومناظرة مفحمة، حتى أنهم لولا الخوف من فرعون لما ناظروه إذ حصل لهم شبه اليقين أنه ليس بساحر ولذلك منّ الله عليهم بالإيمان والهداية، مكافأة لاحترامهم نبيه موسى وتأدبهم معه، وإنما أمرهم أن يتقدموا عليه بالإلقاء بإلهام من الله لظهور معجزته وبيان غلبه «قالَ أَلْقُوا» ما عندكم إن كنتم
لم يظهر أن الغلب له ولقال الناس أنهم لم يقدروا عليه فقط، فلم يظهر غلبه للعامة بمثل هذه الكيفية العظيمة الباهرة، قال تعالى «وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ» فألقاها حالا «فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ ١١٧» أي تبلع ما زوّروه بأعين الناس وخيّلوا لهم به قلبه عن حقيقته فعاد الحبل حبلا والعصى عصى والخشب خشبا كما كانت وتمثلت عصى موسى بالصورة المارة في الآية ١٠٧ فظهر حق موسى وبطل السحرة «فَوَقَعَ الْحَقُّ» من الله على يد رسوله «وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ ١١٨» من السحر، واتضح أمر السحرة بين الناس وظهر لهم كذبهم وتمويههم وتخييلهم وعجزهم عن مناواة موسى «فَغُلِبُوا هُنالِكَ» في ذلك المشهد العظيم وقهروا وخسئوا «وَانْقَلَبُوا صاغِرِينَ ١١٩» أي فرعون وجماعته باندحار السحرة، وذلوا بأعين الناس لظهور عجزهم عن مقابلة موسى وأخيه، ولما عرف السحرة أن ما جاء به موسى ليس من عنده ولا هو من نوع السحر الذين هم أعلم بطرقه، وما هو إلا من عند الله سحبتهم العناية الإلهية والألطاف الربانية المقدرة لهم في علمه الأزلي على هذه الحادثة تابوا من كفرهم توبة نصوحا وآمنوا بموسى، قال تعالى «وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ ١٢٠» لله تعالى استغفروا من ذنوبهم بمقابلة رسوله الذي تحقق لديهم صدقه، إذ لو كان ما جاء به سحر لبقيت حبالهم وعصيهم وأخشابهم على حالها ولا يضرهم أن يأتي موسى بمثلها أو أعظم منها ولكان غاية ما في الأمر أن يقول الناس جاء كل من الفريقين بسحر عظيم ولهذا حلت الهداية قلوبهم عند ما عاينوا قدرة الله في عصي موسى الباهرة مما هو ليس في طوق البشر
ثم «قالُوا» بأعلى صوتهم على مسمع من فرعون وملاءه والناس أجمعين «آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ ١٢١» ليعلم الناس كلهم حقيقة غلبة موسى واندحارهم، وأن موسى صادق وهم كاذبون وأنهم لم يخشوا فرعون ولا غيره بقول الحق، فقال لهم فرعون تعنوني قالوا لا وإنما
ساق لهم هذا الوعيد والتهديد بطريق الإجمال للتهويل وهو من بديع الكلام، ثم عقبه بالتفسير تفصيلا فقال وعزتي «لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ» اليد اليمنى مع الرجل اليسرى أو بالعكس «ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ ١٢٤» أنتم وموسى وهرون، تشهيرا بكم وتنكيلا لأمثالكم. قال ابن عباس: أول من صلب وأول من قطع الأيدي والأرجل مخالفة هو فرعون «قالُوا إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ ١٢٥» عائدون إليه إذا فعلت ذلك بنا أو لم تفعله، وإنا لا نبالي بما تفعله بعد علمنا بأنا صائرون إلى الآخرة، وأن مردنا إلى الله، فلأن نأته مقتولين في سبيله أولى من أن نأتيه ميتين حتف أنفنا باقين على كفرنا. بارك الله فيهم فكأن قائلهم يقول:
ولست أبالي حين أقتل مسلما | على أي شق كان في الله مضجعي |
ومن لم يمت بالسيف مات بغيره | تنوعت الأسباب والموت واحد |
إلى ديان يوم العرض نمضي | وعند الله تجتمع الخصوم |
وهذه الآية تشير إلى ما أشارت اليه آية القصص الأنفة الذكر من أنه لم يسلط على السحرة لأن الله لم يقدره أن يفعل بهم شيئا فضلا عن موسى وأخيه وأن الله ت (٢٦)
ألم أك جاركم ويكون ببني | وبينكم المودة والإخاء |
دعاني من نجد فإن سنينه | لعبن بنا شيبا وشيّبننا مردا |
وأحيت السنة الشهباء دعوته | حتى حكت غرة بالأعصر الدهم |
وهذه أول آية أوقعها الله فيهم وفيها إعلام بأنه لم يمهل فرعون وقومه بعد أن صمّموا على تنفيذ خطتهم القديمة وهو أكرم من ذلك، والآية الثانية قوله «وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ» من زروعهم وأشجارهم إذ أوقع عليها آفات أفسدتها قال قتادة السنون لأهل البوادي ونقص الثمرات لأهل المدن «لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ١٣٠» أن ذلك بسبب إصرارهم على الكفر وظلمهم لبني إسرائيل علهم يرجعون عما صمموا عليه، لأن الشدة ترقق القلوب وترغب فيما عند الله فيلجأون إليه،
قال تعالى حاكيا ما وقع منهم بقوله «فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ» في خصب وسعة وصحة «قالُوا لَنا هذِهِ» استحقاقا ولم يردوها إلى الله ولم يروها منه «وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ» من جدب وضيق ومرض «يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ» من بني إسرائيل فيقولون ما أصابنا بلاء إلا حين رأيناهم تشاؤهما بهم، وهذا دليل على أنهم لم يتعظوا ولم ينتبهوا بما صب عليهم من العذاب، أدخل جل شأنه على الحسنة لأن وقوعها كالكائن، ولأن جواب إذا يكون حقيقة غالبا، وإن على السيئة المنكرة لندرة وقوع جوابها إذ قد يكون شكا. قال سعيد بن جبير: عاش فرعون ستمائة وعشرين سنة ملك منها أربعمائة سنة لم ير فيها مكروها قط في بدنه ولا في ماله وملكه فلو جعل له وجع يوم أو حمى ليلة أو جوع ساعة لما ادعى الربوبية، قال تعالى ردا عليهم «أَلا» أداة تنبيه على أن شؤمهم ليس من موسى وأصحابه «إِنَّما طائِرُهُمْ»
وإنك مهما تعط بطنك سؤله | وفرجك نالا منتهى الذم أجمعا |
والمواثيق، وغلظوا له الأيمان بأنه إذا كشفه عنهم يؤمنون ويرسلون معه بني إسرائيل، ولا يعودون الى الكفر فدعى فكشفه عنهم حتى لم تر واحدة منها فقالوا هذا سحر مثل القمل فأين ذهبت هذه الضفادع لو كانت حقيقية؟ ولم ينتبهوا أن الذي أحدثها عليهم بلحظة واحدة قادر على إزالتها عنهم بمثلها، ولكنهم لا يعقلون بقلوبهم ولا يتذكرون ذلك، ونكثوا ونقضوا أيضا، فاشتد غضب موسى عليهم ودعا الله ربه، فأرسل عليهم عذابا تاسعا إذا عد القحط ونقص الثمرات اثنين أما أذاعوا واحدا كما قال قتادة في الآية ٣٠ المارة آنفا فتكون هذه الآية ثامنة وبينها بقوله «وَالدَّمَ» الرعاف كما قاله زيد اني اسلم وقال غيره سال النّيل عليهم دما عبيطا وانقلبت مياه الآبار والعيون وغيرها كذلك على القبط خاصة، حتى أن القبطي والاسرائيلي إذا اجتمعا على ماء واحد فيكون من جهة القبطي دما وما يلي الاسرائيلي ماء، وهكذا إذا تناول القبطي من أمام الاسرائيلي ماء انقلب دما وإذا تناول الاسرائيلي دما من القبطي انقلب ماء، ومع هذا كله لم يعتبروا ولم يجزموا أنه من عند الله، ولكنهم لما يرونه ملازما لهم يراجعون فرعون أولا فيقول لهم سحركم موسى بضروب السحر وقوي عليكم، فيقولوا، له من أين سحرنا
هذا ولما رأو ما حل بهم نسوا فرعون والسحر وعجوا واقعين على الأقدام «قالُوا يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ» وأوصاك به من النبوة والمرحمة،
مطلب جواب الله ورسوله عمّا يقال:
هذا هو جواب الله إلى هذا المعترض وجواب لرسول. هو قوله تعالى: (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ) يفعل ما يشاء ربكم ما يريد، وهذا جواب أهل السنة والجماعة، أما جواب المعتزلة القائلين برعاية الأصلح إن الله علم من قوم فرعون أن بعضهم يؤمن بتوالي المعجزات وظهورها فلذلك والاها عليهم والله أعلم بمراده وهو قول وجيه لو لم يقترن برعاية الأصلح أي أن فعل الأصلح للعبد واجب على الله عندهم ومذهب أهل السنة والجماعة بخلافه. قال صاحب الجوهرة:
وما قيل إن الصلاح واجب | عليه زور ما عليه واجب |
وما أن فعل أصلح ذو افتراض | على الهادي المقدس ذي التعالي |
واخرج ابن عساكر عن حمزة ابن ربيعة قال: سمعت أنه لم يبعث نبي إلا من الشام فإن لم يكن منها اسرى به إليها. وهذا مؤيد بإسراء حضرة الرسول محمد صلّى الله عليه وسلم ومهاجرة ابراهيم ولوط عليهما الصلاة السلام، لانهم ليسوا منها.
مطلب ما جاء في مدح الشام:
واخرج احمد عن عبد الله بن خولة الأزدي أنه قال يا رسول الله خر لي بلدا أكون فيه، قال عليك بالشام فإنه خيرة الله تعالى من أرضه يجتبي إليه خيرته من عباده. واخرج ابن عساكر عن واثلة ابن الأصقع قال: سمعت رسول الله يقول عليكم بالشام فإنها صفوة بلاد الله يسكنها خيرته من عباده. وأخرج الحاكم وصححه عن عبد الله ابن عمر رضي الله عنهما قال: يأتي على الناس زمان لا يبقى فيه مؤمن إلا لحق بالشام. وجاء من حديث أحمد والترمذي والبيهقي وابن حبان والحاكم أيضا عن زيد بن ثابت أنه صلّى الله عليه وسلم قال: طوبى، للشام، فقيل له ولم؟ قال إن ملائكة الرحمن باسطة أجنحتها عليها. هذا، والأحاديث في فضل الشام كثيرة، إلا أن فيها مقالا فمنها الضعيف والمنكر والموضوع، وسبب وضع بعضها ما كان يتملّق به بعض المنافقين زمن الأمويين، والشام اسم للاقليم المعروف من حدود الحجاز إلى الترك، ومن مصر إلى العراق، قال في القاموس الشام بلاد عن مشأمة القبلة وسميت بذلك لأن قوما من بني كنعان تشاءموا أي تياسروا إليها ولأنها مساكن سام بن نوح وأن السين تقرأ بالعبرية شينا. أخرج ابن ابي لحاتم عن ابي الأعمش وكان قد أدرك أصحاب رسول الله أنه سئل عما بورك من الشام، أي مبلغ حده فقال: أول حدوده
دمشق غدت جنة للورى... زها وصفا العيش في ظلها
وفيها لدى النفس ما تشتهي... ولا عيب فيها سوى أهلها
وقال آخر:
تجنب دمشق ولا تأتها... وإن شاقك الجامع الجامع
فسوق الفسوق بها نافق... وفجر الفجور بها ساطع
وهذا القائل تشابه قلبه مع قلب من حرّف ما كتب على معرض دمشق عام ١٩٣٤ عبارة معرض دمشق وسوقها بعبارة: معرص دمشق وفسوقها، وهكذا قلوب المنافقين تتشابه كقلوب الكافرين ألا تراهم على وتيرة واحدة في أفكارهم ومداهنتهم راجع الآية ١١٨ من البقرة في ج ٣. وقال آخر:
قيل ما يقول في الشام حبر... شام من بارق الهنا ما شامه
قلت ماذا أقول فى وصف أرض... هي في وجنة المحاسن شامه
وفي الحقيقة هي الآن قبة الإسلام ومعهد العلوم وباب التقوى ومعدن حلق الذكر وتداول كتاب الله ومركز أهل الفضل والصلاح وكنانة الله في أرضه وملاك الخيرات. أما ما يتفوه به بعضهم فله نوع من الصحة لأنها بلدة عظيمة فيها الغث والسمين، وكل يعمل على شاكلته:
(لكل امرئ في دهره ما تعودا)... (وكل إناء بالذي فيه ينضح)
والطيور على أشكالها تقع، فنسأل الله أن يولي الأمور خيارها ويوفقهم وسائر المسلمين لإزالة ما وصمهم به عدوهم، قال تعالى «وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى» التي هي النصر على العدو وانجاز الوعد بتمكينهم في الأرض واستخلافهم فيها وتلك منّة جلّى «عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ» من الله إذ ذاك، أما الآن فنسأله بحرمته أن يدمرهم ويذيقهم أشد ما لاقاه آباؤهم ويطهر الأرض المقدسة منهم ويولي عليهم من يعيد لهم زمن فرعون إنه على ما يشاء قدير وبالإجابة جدير، لأنهم لم يقدروا
ثم شرع يعدد عليهم نعمه فقال «وَإِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ» يولونكم ويكلفونكم ويبغونكم «سُوءَ الْعَذابِ» أشده وأقساه ثم بينه بقوله «يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ» العذاب المهين محنة فظيعة «بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ ١٤١» لا أعظم منه في الدنيا فهو غاية الذل ونهاية الخزي والعار، فالرب الذي أنجاكم من وأهلك عدوكم وملككم أرضه وماله، أليق بكم أن تشتغلوا بعبادته طلبا لرضاه وشكرا لما أولاكم وأجدر أن لا تشركوا معه شيئا أبدا، لا أن تقولوا اجعل لنا إلها من أحجار وأخشاب ومعادن جامدة أو من حيوان عاجز، انتهوا عن هذا واستغفروا لئلا يحل بكم غضبه، قال تعالى «وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً» للتشرف بمناجاتنا وهو شهر ذي القعدة «وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ» من ذي الحجة «فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ
مع يوم العيد الذي هو يوم الوعد، وذلك أنه عليه السلام بعد أن نجى الله قومه وعبر بهم البحر وزجرهم على ما وقع منهم، وكان وعد قومه بأنه إذا أهلك الله عدوهم يأتيهم بكتاب من عند ربه فيه ما يأتون وما يذرون.
ولما تمّ له ذلك طالبه قومه به، فسأل ربه انجاز وعده، فأمره أن يصوم ذا القعدة ثلاثين يوما فصامها، وأنكر خلوف فمه، فأوحى الله إليه أما علمت أن خلوف فم الصائم عندي أطيب من ريح المسك، ثم أمره أن يصوم عشرة أيام من أول ذي الحجة ويحضر لمناجاته وإنزال الكتاب عليه، فصامها وتوجه إلى المحل الذي أمره أن يحضر فيه «وَقالَ... لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي» مدة ذهابي لمناجاة ربي «وَأَصْلِحْ» أمورهم واحسن خلافتي فيك وفيهم وراقبهم في حركاتهم وسكناتهم «وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ ١٤٢» منهم، وقد أعطى هذه الأوامر أخاه وهو يعلم أنه يصلح ولا يسلك سبيل من أفسد منهم ولكنه من قبيل التوكيد لشدة حرصه عليهم، ولعلمه بصغر عقولهم، ولأنهم قوم ترّبوا على الذل والصغار لا يأمن أن يستميلهم الأشرار، وتوصية لهرون الذي لا يتصور منه وقوع ما أوصاه به، وحذره عنه، على حد قول سيدنا إبراهيم (لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) الآية ٢٦٠ من البقرة في ج ٣، وعلى حد قوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا) الآية ١٣٤ من سورة النساء، أي اثبتوا على إيمانكم وداوموا عليه، فكأنه يقول لأخيه دم على أخلاقك وإصلاحك شأنهم كما كنت أنا وأنت دائبين عليه، وكأنه عليه السلام نفث في روعه أنهم سيزيغون عن عبادة الله بما يسوله لهم شرارهم فأوصى أخاه بما أوصاه لأن الأنبياء ملهمون، وسبب وصيته هذه أن الرئاسة كانت لموسى دون هرون، وقال الشيخ محي الدين العربي الأكبر في فتوحاته ما معناه إن هرون نبي أصالة ورسول بحكم التبعية فلعل هذا الاستخلاف من آثار تلك التبعية، وقيل إن هذا كان كما يقوله أحد المأمورين بمصلحة واحدة إذا أراد الذهاب لحاجة كن عوضا عني، أي ابذل جهدك ووسعك بحيث يكون عملك عمل اثنين، وهو وصية لأن هرون مثل موسى مرسل لبني إسرائيل أيضا.
قال تعالى «وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا» الذي عينّاه له في طور سيناء «وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ» من غير واسطة ولا كيفية. وقد ذهب الحنابلة ومن تابعهم إلى أن كلام الله تعالى حروف وأصوات متقطعة وأنه قديم، وذهب المتكلمون إلى أنه صفة مغايرة لهذه الحروف والأصوات وهي صفة أزلية قديمة، وعليه فإن القائلين بهذا القول قالوا إن موسى سمع تلك الصفة القديمة الأزلية حقيقة وقالوا:
فكما أنه لا تبعد رؤية ذاته وليست جسما ولا عرضا، فكذلك لا يبعد سماع كلامه مع أنه ليس بصوت ولا حرف، ومع هذا فإنه لا يشبه كلام المخلوقين ولا محذور من ذلك، أما من قال إن تكليمه تعالى عبارة عن خلق الكلام منطوقا به في بعض الأجرام كما خلقه محفوظا في الألواح، وهو ما ذهب إليه الزمخشري ومن على طريقته من المعتزلة فهو قول باطل، لانه يقضي بأن تقول الشجرة التي كلمه منها أو الجرم الذي كلمه عليه إنني أنا الله، وإن هذه الشجرة أو ذلك الجرم لا يقول ذلك فظهر فساد مذهبهم في هذا. وإن مذهب أهل السنة والجماعة الذي عليه جمهور العلماء وبعض من المتكلمين سلفا وخلفا، هو أن الله تعالى متكلم بكلام قديم وسكتوا عن الخوض في تأويله، والحقيقة أن الله تعالى كلم موسى بلا واسطة ولا كيفية، وأسمعه كلامه ومناجاته، فاستحلى ما سمع وطمع في رؤيته لغلبة شوقه إليه «قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ» سأل عليه السلام ربه أن يريه ذاته المقدسة مع علمه بأن الله لا يرى في الدنيا بسائق ما هاج به من الغرام في لذة المناجاة وما فاض عليه من الجلال حتى استغرق في بحر محبّته، فسأل الرؤية، ولعل هذه أيضا من جملة ما ألهم بأنه سيأتي نبي بعده يرى ربه بأم عينه فطمع بذلك وطلبها، أو أنه طلب التمكن من الرؤية مطلقا بالتجلي والظهور وهما مقدمان على النظر ومسببان له، ففي الكلام ذكر الملزوم وإرادة اللازم فيكون المعنى: مكني من رؤيتك أو تجلّ علي فأنظر إليك وأراك، ولم يرد إيجاد الرؤية لعلمه باستحالتها في الدنيا فأجابه ربه بالمنع «قالَ لَنْ تَرانِي» وأنت على ما أنت عليه لأن البشر لا يطيق
(أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ) الآية ٤٦ من سورة هود في ج ٢، ولا يقال أن محمدا من البشر وكيف رأى ربه وقوي على رؤيته، لأن الله تعالى أودع فيه قوة على ذلك مكنته من الرؤية لأنها من خصوصياته صلّى الله عليه وسلم كما خص موسى بالتكليم وقواه على سماع كلامه مشافهة دون غيره، فلا مناقشة في هذا وما عموم إلا خصص.
هذا، ومن قال انّ (لن) للتأييد والدوام واستدل على عدم جواز الرؤية حتى في الآخرة فقد أخطأ إذ لا شاهد له بالعربية على قوله، ولا دليل له في الكتاب والسنة وأن الدلائل لإثبات الرؤية في الآخرة صريحة في قوله تعالى (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) الآية ٢٤ من سورة القيامة المارة، وجاء في الصحيحين أن المؤمنين يرون ربهم يوم القيامة، ومما ينقض قوله أنّ لن للنفي ألا يرى قوله تعالى في نعت اليهود (وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً) الآية ٩٥ من البقرة في ج ٣، مع أنهم يتمنونه يوم القيامة في قوله تعالى (وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ) الآية ٧٧ من الزخرف في ج ٢، وقوله (يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ) الآية ١٧ من سورة الحاقة في ج ٢، وقوله في الآية ٢٥ من سورة مريم الآتية (يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا) ت (٢٧)
اخترتك وميزتك «عَلَى النَّاسِ» الموجودين على الأرض في زمنك «بِرِسالاتِي» التي أرسلتك بها لتبلغها لعبادي وهي الصحف التي أنزلتها إليك قبل أسفار التوراة التي أنزلها عليك الآن «وَبِكَلامِي» لك دون واسطة «فَخُذْ ما آتَيْتُكَ» من هذه الفضائل التي خصصتك بها وحدك ولم تكن لأحد قبلك فاقبلها واعمل بها «وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ ١٤٤» نعمائي من تشريفك بالرسالة وتتويجك بالتكليم، ولا يضق صدرك من منعي لك الرؤية لأنها لم تقدر لك في أزلي، فرضي موسى، وشكر ربه، قال تعالى «وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ» المسطور عليها التوراة «مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ» يحتاج إليه هو وقومه من أمر ونهي وحلال وحرام وحدود وأحكام «فَخُذْها بِقُوَّةٍ» بجد وعزم وحزم «وَأْمُرْ قَوْمَكَ» يا رسولي «يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها» عند وقوع شيء له جهتان، كالعفو فإنه أحسن من القصاص، والصبر فإنه خير من الانتقام والضجر، والكظم فهو أولى من الانتصار، والصلة فهي أحسن من القطيعة، وهذه موافقة لشريعتنا قال تعالى (وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) الآية ٥٥ من سورة الزمر في ج ٢، والقرآن كله حسن وإنما الفرق بين الحسن والأحسن كثرة الثواب، ويستدل من هذه الآية أن التكليف كان على موسى أشد منه على
قومه إذ لم يرخص له ما رخص لهم من الأخذ بالأحسن بل خصصه بالحزم، وهو من أولي العزم إذ يقول له (فَخُذْها بِقُوَّةٍ) وكذلك كلف صلّى الله عليه وسلم بأكثر مما كلفت أمته فكلف بقيام الليل على سبيل الفرض ومنع من تطليق نسائه ومن الزواج عليهنّ، إلى غير ذلك.
مطلب أعمال الكفرة ورؤية موسى ربه:
هذا، وقد أمره ربه في مناجاته هذه بعد أن أقر عينه بالاصطفاء أن يمرّن قومه على الأخلاق الفاضلة لعلمه بما يصدر عنهم بخلافها لتكون عليهم الحجة ولهذا نبههم بقوله «سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ ١٤٥» الخارجين عن الطاعة الذين يؤثرون الأخلاق السافلة على العالية، فليعتبر قومك يا محمد بالأمم الماضية كيف دمرناها لما
مطلب إشارات القوم في الرؤية:
وقد اختلف المفسرون والعلماء بأن موسى عليه السلام هل رأى ربه بعد هذا الطلب أم لا؟ فذهب الأكثر إلى عدم الرؤية لا قبل الصعق ولا بعده، وقال الشيخ الأكبر إنه رآه بعد الصعق، لأنه كان موتا، أخذا من قوله تعالى:
(فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) الآية ٦٨ من سورة الزمر في ج ٢، أي أنه حين صعق مات فرأى ربه وسأله عما جاء في الآية وأجابه بما جاء فيها، ووافقه على هذا، القطب الرازي. أخرج الحاكم والترمذي في نوادر الأصول وأبو نعيم في الحلية عن ابن عباس قال: تلا رسول الله صلّى الله عليه وسلم هذه الآية (رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ) فقال: قال الله يا موسى إنه لن يراني حيّ إلا مات ولا يابس إلا تدهده، ولا رطب إلا تفرق، وإنما يراني أهل الجنة الذين لا تموت أعينهم ولا تبلى أجسامهم. وجاء في الخبر الذي رواه أبو الشيخ عن ابن عباس: يا موسى إنه لا يراني أحد فيحيا، قال موسى رب ان أراك ثم أموت أحب إلي من ألا أراك ثم أحيا. وجاء في باب الإشارات: (قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ) قال هيهات ذلك وأين الثريا من الثرى ومن يد المتناول أنت بعد في بعد الاثنينية وحجاب جبل الانانية، فإذا أردت ذلك فخل نفسك وأتني، فهان عليه الفناء في جانب الرؤية للمحبوب ولم يعز لديه كل شيء إذا رأى عزة المطلوب، فبذل وجوده وأعطاه موجوده، فتجلى ربه لجبل أنانيته ثم منّ عليه برؤيته، وكان وما كان وأشرقت الأرض بنور ربها وطغى المصباح إذ طلع الصباح وصدح هزار الانس في رياض القدس (ينعم)
ولقد خلوت مع الحبيب وبيننا | سر أرقّ من النسيم إذا سرى |
وأباح طرفي نظرة أمّلتها | فغدوت معروفا وكنت منكرا |
فدهشت بين جماله وجلاله | وغدا لسان الحال عني مخبرا |
وأرى أن لا يعترض عليهم في ذلك كما لا يعترض على ما جاء في كتبهم من عبارات قصر الفهم عن إدراك معناها ووقف العقل عن تناول مغزاها.
مطلب الصعق وتحريم النظر في كتب القوم لغيرهم:
فقد جاء في ص ٢٩٤ في الجزء الثالث من حاشية الدر المختار لابن عابدين ما نصه:
(نحن قوم يحرم النظر في كتبنا) وذلك لأنهم تواطأوا على ألفاظ اصطلحوا عليها فيما بينهم وأرادوا بها غير معناها المتعارف، فمن حملها على معناها الظاهر فقد كفر.
وقد سئل بعضهم عن هذا فأجابه بما نصه: (الغيرة على أن يدعي طريقنا من لا يحسنه ويدخل فيه من ليس من أهله) وقد سئل العلامة عز الدين بن عبد السلام عن ابن العربي وكان يطعن فيه ويقول هو زنديق، فقال هو القطب، فقال لم تطعن فيه، فقال لا أخون ظاهر الشرع، أي أنه كان يرى منه ما يخالف الشرع ظاهرا فيطعن فيه من هذه الجهة. راجع تفسير الآية ٤٢ من سورة والنجم، ومن هذا القبيل كان اعتراض موسى عليه السلام على الخضر. راجع الآية ٦٥ فما بعدها من سورة الكهف في ج ٢، ولهذا البحث صلة في تفسير الآية ٢٧ من سورة الزمر في ج ٢. هذا، وقد ذهب الشيخ ابراهيم الكوراني إلى أنه عليه السلام رأى ربه سبحانه حقيقة قبل الصعق فصعق لذلك كما دكّ الجبل عند التجلي، واستدل بما أخرج أبو الشيخ عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: لما تجلى الله لموسى عليه السلام كان يبصر دبيب النمل على الصفا في الليلة الظلماء من مسيرة عشرة فراسخ،
بأن الرؤية التي أعطاها لنبينا صلّى الله عليه وسلم هي الرؤية مع الثبات والبقاء من غير صعق، كما أن الكلام الذي إعطاء لموسى كذلك بخلاف رؤية موسى فإنها لم تجتمع له مع البقاء، وعلى هذا فمعنى قوله عليه الصلاة والسلام في حديث الدجال أنه لن يرى أحدكم ربه حتى يموت، هو أن أحدا لا يراه في الدنيا مع البقاء ولا يجمع له في الدنيا بينهما، ولهذا قال عيسى عليه السلام: لن يلج ملكوت السموات من لم يولد مرتين، أي بعد أن يصل إلى درجة الأبرار فتموت نفسه فتنقل إلى رتبة المقربين فتحيا بها فيرى أن ما كان منه في الدرجة الأولى خطأ ينبغي الاستغفار منه والتوبة عن مثله، لما هو من العمل الذي ولد عليه في رتبة المقربين. ولهذا قالوا حسنات الأبرار سيئات المقربين، هذا والله أعلم. واعلم أن الذاهبين إلى عدم الرؤية مطلقا، وهو ما ذهبت إليه يجيبون عما ذكر في حديث أبي هريرة وخبر أبي معشر المارين آنفا، بأن الثاني ليس فيه أكثر من اثبات سطوع نور الله تعالى على وجه موسى وليس في ذلك إثبات الرؤية لجواز أن يشرق نور منه تعالى على وجهه عليه السلام في غير رؤية، إذ لا تلازم بين الرؤية وإشراق النور، وبأن الأول ليس نصا في ثبوت الرؤية المطلوبة له عليه السلام، لأنها كما قال غير واحد عبارة عن التجلي الذاتي ولله تجليات شتى غير ذلك، فلعل التجلي الذي أشار إليه الحديث على تقدير صحته واحد منها وقد يقطع بذلك، فإنه سبحانه تجلى عليه بكلامه واصطفائه وقرب منه على الوجه الخاص اللائق به، ولا يبعد أن يكون هذا سببا لذلك الابصار، وهذا أولى مما قيل إن اللام في لموسى للتعليل، ومتعلق تجلى محذوف، أي لما تجلى الله للجبل لأجل إرشاد موسى كان عليه السلام يبصر بسبب إشراق بعض أنواره تعالى عليه حين التجلي للجبل ما يبصر، وهذا الحق الذي لا محيص عنه. أما الزمحشري فقد بالغ في عدم إمكان الرؤية وأصر على أنّ لن للتأييد ولدوام النفي وتأكيده،
وجماعة سموا هواهم سنة | وجماعة حمر لعمري مؤكفه |
قد شبهوه بخلقه فتخوفوا | شنع الورى فتستروا بالبلكفه |
عجبا لقوم ظالمين تلقبوا | بالعدل ما فيهم لعمري معرفة |
قد جاءهم من حيث لا يدرونه | تعطيل ذات الله مع نفي الصفة |
وتلقّبوا عدلية قلنا نعم | عدلوا بربهم فحسبهم سفه |
يراه المؤمنون بغير كيف | وإدراك وضرب من مثال |
فينسون النعيم إذا رأوه | فيا خسران أهل الاعتزال |
مطلب أصوات الحيوانات وقصة العجل:
حيث يسمى خوارا، كالثغاء للغنم، واليعار للمعز، والينيب للنيس، والنباح للكلب، والسحيل. والنهيق للحمار، والزئير للأسد، والعواء والوعوعة للذئب، والضباح
إذا المرء لم يخلق سعيدا تحيرت | عقول مربيه وخاب المؤمل |
فموسى الذي رباه جبريل كافر | وموسى الذي رباه فرعون مرسل |
إذا العجوز غضبت فطلق | ولا ترضّاها ولا تملق |
واعمد لأخرى ذات دلّ مونق | ليّنة اللمس كمس الخرنق |
لم يقل يا ابن أبي أو يا أخي مع أن أباهما واحد أيضا طلبا لترقيقه عليه ولأن أمه هي التي قاست بتربيته ما قاست من أجله، فلعله أن يرحمه بسائق رحمة أمه له، لهذا استعطفه بذلك ليرق قلبه عليه ثم أوضح له معذرته وسبب الإقامة معهم وعدم لحوقه ليخبره بصنيعهم بقوله «إِنَّ الْقَوْمَ» بعد ذهابك يا ابن أمي قد «اسْتَضْعَفُونِي» فلم يلتفتوا لقولي ولم يصغوا إلي «وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي» حينما شددت عليهم بالمنع من عبادة العجل «فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ» بما
توقعه بي فتسرهم بما ينالني من مكروه (والشماتة الفرح ببلية العدو) «وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ٢٥٠» أنفسهم بعبادة العجل والتشويق لعبادته، ولا تؤاخذني بعدم إخبارك لأني لما أردت ذلك هددوني بالقتل ولم أقدر أن أنفكّ عنهم،
ولما سمع موسى من أخيه معذرته وعلم أنه تعدى عليه «قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي» ما فعلناه بأخي لأنه من أجلك وتبين لي أنه لم يستوجب جزاء ما «وَلِأَخِي» اغفر أيضا لعدم قدرته على منعهم وعدم تقصير في نصحهم وعدم تركهم له لإخباري «وَأَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ» الواسعة لمثل ما وقع منا وأعظم «وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ٢٥١» فاشملنا برحمتك يا إلهنا واغمرنا بعفوك الضافي، ثم قال تعالى مخاطبا لأولئك الظالمين اعلم يا موسى «إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ» وعبدوه من دوني «سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ» في الآخرة إن لم يتوبوا وتقبل توبتهم «وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا أيضا بأن يعترفوا بخطيئاتهم ذليلين حقيرين، يعلوهم الصغار بإسلام أنفسهم للقتل «وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ ١٥٢» علينا، وهذا مما أخبر الله به موسى أثناء
ومما يؤيد ما اخترناه لتفسير هذه الآية على الوجه المار ذكره، قوله تعالى «وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ١٥٣» لأن حكمها عام يدخل فيه عبدة العجل وغيرهم مهما عظمت جنايتهم، وهي من أعظم البشارة للمذنبين التائبين، لأن الذنوب مهما عظمت فعفو الله أعظم وما أحسن ما قيل:
أنا مذنب أنا مسرف أنا عاصي | هو غافر هو راحم هو عافي |
قابلتهن ثلاثة بثلاثة | وستغلبن أوصافه أوصافي |
يا رب إن عظمت ذنوبي كثرة | فلقد علمت بان عفوك أعظم |
إن كان لا يرجوك إلا محسن | فبمن يلوذ ويستجير المجرم |
إذا كنت بالميزان أوعدت من عصى | فوعدك بالغفران ليس له خلف |
لئن كنت ذا بطش شديد وقوة | فمن جودك الإحسان والمن واللطف |
ركبنا خطايانا وعفوك مسبل | وهلا لشيء أنت ساتره كشف |
إذا نحن لم نهفو وتعفو تكرما | فمن غيرنا يهفو وغيرك من يعفو |
ولما قسا قلبي وضاقت مذاهبي | جعلت الرجا مني لعفوك سلّما |
تعاظمني ذنبي فلما قرنته | بعفوك ربي كان عفوك أعظما |
يخافون من شدة عذابه، قالوا انها لم تتكسر حين ألقاها أولا حال الغضب، إذ لم يوجد حديث صحيح أو خبر صادق يمكن الاحتجاج به على تكسيرها، والقول بأنها تكسرت ثم عادت في لوحين بعد أن كانت في سبعة الواح، وبعد أن صام أربعين يوما، ننقله على علاته، إذ لم نقف على ما يؤيده، وكذلك القول، بأنها تكسرت ولم تعد، وأن النسخ في الآية من شذاذها المكسرة، وأحسن هذه الأقوال القول ببقائها نفسها لم يطرأ عليها شيء حين الإلقاء، وبليه القول بانها عادت بعد التكسير لحالتها الأولى لموافقته ظاهر القرآن إذ يقول الله تعالى (أَخَذَ الْأَلْواحَ) بلام التعريف بما يدل على أنها هي نفسها لأن المعرفة إذا أعيدت تكون غير الأولى، بخلاف النكرة كما بيناه في سورة الانشراح المارة والمراد بنسختها ما نسخ في اللوح المحفوظ منها وكتب فيها، فالفعلة هنا بمعنى المفعول كالخطبة ومن قال انها تكسرت استند لهذه الآية إذ قال في آية أخذ الألواح المارة عدد ١٤٥ (وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ) وفي هذه الآية الكائنة بعد الإلقاء قال وفي نسختها هدى ورحمة فقط ولهذا قالوا إنها كانت سبعة أسباع، واحد فيه الأحكام والحدود المعبر عنها بالرحمة والهدى للخلق لتعلقها في مصالحم وهي الباقية، والستة التي فيها تفصيل كل شيء من بداية الخلق لنهايته تكسرت ووضع رذاذها في التابوت، وإليه الإشارة في الآية ٢٤٦ من سورة البقرة في ج ٣، وعلى هذا فالعلوم التي أوحاها الله لسيدنا محمد صلّى الله عليه وسلم مما هو خاص بنفسه لم يبثها، أما الذي هو خاص بالبشر فبلغه إليهم والله أعلم. ثم إن بني إسرائيل لما رجعوا وتابوا لم يعرف عليه السلام مناط قبول توبتهم وكيفيتها فلهذه الغاية ولقبول اعتذار هارون عليه السلام ومن كان معه الذين لم يحولوا بين العجل وعابديه ولم يخبروا موسى بالأمر.
مطلب الميقات الثاني الذي وقته الله لموسى:
أوحى الله إلى موسى ما ذكره بقوله «وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا
فيها حذف الجار واتصال الفعل بالمجرور، والأصل من قومه وهذا من باب الحذف والإيصال، وعليه قول الفرزدق:
منا الذي اختير الرجال سماحة | وجودا إذا هبّ الرياح الزعازع |
إني امرؤ مما جنيت هائد | ربي اغفر إني إليك عائد |
مطلب تخصيص الأمة المحمدية بالرحمة والأمور الشاقة على أهل الكتابين:
ثم أكد وصفه بقوله «الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ» سأبين تعريفه وما يتعلق به في الآية ١٠٤ من سورة آل عمران في ج ٣ ليعملوا به «وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ» ليجتنبوه وسيأتي تفسير هناك أيضا «وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ» من كل ما استطابته النفس عدا ما نص على تحريمه، وهو عام في كل طيب، والمراد هنا لحوم الإبل وشحوم الغنم والمعز والبقر لأهل الكتاب، والبحيرة والسائبة والوصيلة والحام للعرب، وتشمل كل ما حرموه على أنفسهم مما هو في التوراة والإنجيل وما هو من عندياتهم ومفترياتهم وسيأتي تفصيل هذا في الآية ١٣٦ من سورة الأنعام في ج ٢ والآية ١٠٢ من المائدة والآية ٩٣ من آل عمران في ج ٣ «وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ» كالميتة والد ولحم الخنزير وما أهلّ به لغير الله والربا والرشوة والخمر والميسر، وكل ما خبث
أما اللاحقون زمانه في هاتين الأمتين فلا تكتب لهم هذه الرحمة إلّا باتباعه بأن يؤمنوا به وينصروه ويعظموه ويتبعوا ما جاء به، وقد وصفه الله بأنه الرسول أي الواسطة بينه وبين خلفه لتبليغ أوامره ونواهيه وشرائعه، وبأنه النبي المخبر عن الله وهو من أعلى المراتب وأشرفها وصفا، وأنه الأمي الذي لا يقرأ ولا يكتب، وهذا من أسنى التعظيم وصفا لإتيانه بالقرآن العظيم بأفصح اللغات، ومن أكبر البراهين على رسالته لأنه لو كان يقرأ ويكتب لاتهم بأنه تعلمه من الغير وكتبه عنهم وقرأه عليهم، وهذه النسبة أحسن من النسبة لأم القرى أو إلى الأم بحيث لم يخرج عما ولدته عليه أمه لقوله صلّى الله عليه وسلم: نحن أمة أمّية لا نكتب ولا نحسب.
واعلم أن الأمّية كمال مادي يعود نفعه على المعاش وليست بكمال روحي، ولهذا فإنها بحق الرسول كمال لتنزهه عن الصنايع العملية التي هي من أسباب المعاش، أما بحقنا فنقص لاحتياجنا لذلك، ولهذا البحث صلة في الآية ٤٧ من سورة العنكبوت في ج ٢ فراجعها تجد تفصيله بصورة أوسع. روى البخاري عن عطاء بن يسار قال:
لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص فقلت أخبرني عن صفات رسول الله في التوراة، فقال أجل إنه موصوف في التوراة ببعض صفته بالقرآن: يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وحرزا للأميين، أنت عبدي ورسولي، سميتك المتوكل، ليس بفظ ولا غليظ ولا سخّاب (كثير الصياح) في الأسواق، ولا يدفع بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويغفر، ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء (الكافرة لأن الاعوجاج ضدّ الاستقامة) بأن تقول لا إله إلا الله، ويفتح به أعينا عمياء، وآذانا صما وقلوبا غفلا، (لا يصل إليها شىء ينفعها، كأنها في غلاف عن سماع الحق) ومثله في رواية البخاري وغيره. وجاء من حديث أخرجه ابن مسعود وابن عساكر من طريق موسى بن يعقوب الربعي عن سهيل مولى خيثمة قال:
قرأت في الإنجيل نعت محمد صلّى الله عليه وسلم، أنه لا قصير ولا طويل، أبيض، ذو ضفيرتين، بين كتفيه خاتم، لا يقبل الصدقة، ويركب الحمار والبعير، ويحلب الشاة، ويلبس
قال تعالى «قُلْ» يا أكمل الرسل لقومك وللخلق أجمع «يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ» وحده «وَرَسُولِهِ» محمد «النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِماتِهِ» مما نزل عليه منها ومما نزل على الأنبياء قبله من أسفار وصحف وكتب، وقرأ بعضهم (كلمته) وأراد بأنها عيسى بن مريم تعريضا باليهود، وتنبيها على أن من لم يؤمن به ويعتقد بأنه من روح الله وأمه صدّيقة طاهرة عذراء لا يعتبر إيمانه، بل هو كافر لأن من لم يؤمن به على هذه الصفة لم يؤمن بالقرآن ومحمد صلّى الله عليه وسلم، وان جاحدهما لا شك بكفره. وهذه القراءة جائزة لأنها من حيث الرسم موافقة، وغاية ما فيها قصر الميم، والقراءة إذا لم يكن فيها نقص حرف أو زيادته لا بأس بها «وَاتَّبِعُوهُ» جميعكم عربكم وعجمكم يهودكم ونصاراكم مجوسكم وصابئتكم، على اختلاف مللكم ونحلكم وأجناسكم وألوانكم والسنتكم «لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ١٥٨» بهديه إلى طريق الصواب. تشير هذه الآية بوضوح لا مزيد عليه بأن محمدا صلّى الله عليه وسلم رسول من الله مرسل إلى البشر كافة رسالة عامة، لعموم اللفظ المخاطب به، والأمر فيها للوجوب، مما يدل على صحة دعواه عموم الرسالة للإنس والجن أيضا، راجع تفسير أول الفرقان الآتية والآية ٢٨ من سورة سبأ في ج ٢ والآيتين ١٥ و ٦٩ من سورة المائدة في ج ٣ تعلم بأنه مرسل لمن على الأرض على الإطلاق، لا خصوص العرب كما يقوله بعض أهل الكتاب والمبتدعة والزنادقة وغيرهم ممن لا نصيب لهم في معرفة كتاب الله ولا حظ لهم في الآخرة، وتعلن أيضا بأن الذي أرسله هو مالك الملك والكون ومدبره الإله الواحد الذي لا شريك له القادر على الإحياء والإماتة، ومؤكدة لزوم الإيمان به أولا لأنه الأصل ثم برسوله الموصوف بوصف يميزه عن غيره، ويخصصه بأنه محمد بن عبد الله لا غيره، لأن الإيمان به فرع عن الإيمان بالله، وملزمة عامة الخلق باتباعه فيما يأمر
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي، كان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى كل أحمر وأسود، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد من الأنبياء قبلي، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، فأيما رجل أدركته الصلاة صلى حيث كان، ونصرت بالرعب على العدو بين يدي مسيرة شهر، وأعطيت الشفاعة. وفي رواية وبعثت إلى الناس عامة بدلا من كل أحمر وأسود. والمراد بالأحمر العجم وبالأسود العرب أو الإنس والجن. وروى مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: فضلت على الأنبياء بسته أعطيت جوامع الكلم، ونصرت بالرعب، وأحلت لي الغنائم، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، وأرسلت إلى الخلق كافة، وختم بي النبيون. وعليه فقد ثبت عموم رسالته بالقرآن والحديث قال تعالى «وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ» جماعة عظيمة وطائفة طاهرة مؤمنة «يَهْدُونَ» الناس «بِالْحَقِّ وَبِهِ» أي الحق «يَعْدِلُونَ ١٥٩» بين الناس في أحكامهم.
مطلب ما قضى به صلّى الله عليه وسلم والمراد من قوم موسى:
وهؤلاء الذين نزلت فيهم هذه الآية إمّا قوم متمسكون بدين موسى قبل تبديله وتغييره وماتوا عليه، وإما أن تكون بحق من أسلم منهم وحسن إسلامه على عهد محمد صلّى الله عليه وسلم كعبد الله بن سلام وأصحابه، وعلى هذا تكون هذه الآية من قبيل الآيات المغيبة أي إخبار حضرة الرسول بغيب لم يقع قبل وقوعه، لأن وقت نزول هذه الآية لم يكن عبد الله ولا غيره مسلما من اليهود، والأول أوجه لشموله كل من مات قبل بعثة محمد على دين موسى وعيسى الحقيقيين، والله أعلم، لأن لفظ الآية يدل على الكثرة، وعبد الله وأصحابه فليلون، وما قيل بجواز إطلاق
قال تعالى «وَقَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً» قبيلة من اثنى عشر ولدا وهم أولاد يعقوب عليه السلام المبينين في تفسير الآية ٩ من سورة يوسف في ج ٢، والسبط ابن الولد ويقال له حفيد كما في الآية ٧٢ من سورة النحل في ج ٢ ولم تتكرر في القرآن، والسبط جاء في سورة البقرة أيضا فقط، والاستعمال الجاري بين الناس أن الحفيد ابن الابن والسبط ابن البنت «أمما» جماعات وطوائف وهو بدل من اثنى عشر والمميز ماعدا العشرة يكون مفردا فعلى القاعدة النحوية يقتضي أن يكون سبطا ولكنه لما كان بمعنى القبيلة وهو المراد هنا والقبيلة أسباط لا سبط واحد وضع أسباط موضع القبيلة «وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ» بالتيه لأنهم عطشوا وليس لديهم ماء وفسر الإيحاء بقوله «أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ
فضربه عليه السلام «فَانْبَجَسَتْ» ترشحت عن ماء قليل وهو معنى الانبجاس ولم تكرر هذه في القرآن أيضا، وجاء في الآية ٦٠ من البقرة في ج ٣ (انفجرت) أي خرج منها ماء كثير، قال يعبر بالانبجاس اعتبارا بأول الخروج، وبالانفجار اعتبارا بنهايته «منه» أي الحجر المضروب «اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً» لكل سبط عين «قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ» منها على حدة لئلا يدخل سبط على الآخر فيأخذ من سقائه فيختلفوا والله أكرم من أن يجعل على عباده عذابين، عذاب التيه وعذاب الاختلاف، ثم شكوا إلى موسى بعد أن أمن لهم شربهم عدم وجود ما يظلهم من الشمس فدعا الله ربه فأجابه بقوله: «وَظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الْغَمامَ» بحيث صار يسير معهم إذا ساروا ويسكن إذا وقفوا ثم شكوا إليه الجوع إذ نفد ما عندهم فدعا ربه فأجابه بقوله «وَأَنْزَلْنا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى» المنّ معروف شيء حلو لزج يضرب إلى البياض، والسلوى نوع من الطير يسمى الآن السمن أميز من العصفور، جلّت قدرته هو الذي شردهم جزاء مخالفتهم، وهو الذي تلطف بهم وتعطف عليهم وقال لهم «كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ» من الماء العذب والمن الحلو والسلوى الدسم والظل الوافر طيلة مدة تيهكم «و» هؤلاء لما كفروا بهذه النعم الجليلة التي تأتيهم دون تعب وقالوا قد سئمنا منها، كما سيأتي في الآية ٦١ من البقرة من ج ٣ «ما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ١٦٠» بتضجرهم وعدم صبرهم كأن لهم علينا منّة ويتطلبون ما تهوى أنفسهم، ولم يعلموا أنا إنما نعاقبهم لسوء أعمالهم. ونرحمهم لعلهم يرجعون إلينا تائبين، لأن المكلف إذا مر بشيء فعدل إلى غيره كان هو الجاني على نفسه، وهو الظالم لها، لأنه أوردها للشرّ، فيكون وبال ظلمه عليه لا على غيره.
مطلب أسباب تشرد بني إسرائيل والآيات المدنيات:
ثم شرع جل شأنه يقص علينا أسباب تشردهم وعملهم الذي أوجبه فقال (وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ) بواسطة نبيهم عليه السلام «اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ» بيت المقدس
يا أكمل الرسل يريد اليهود الموجودين معه في المدينة «عَنِ الْقَرْيَةِ» هي طبرية وقيل مدينة بين مدين والطور أو مصر والمدينة أو بين مدين وعيوني على الساحل «الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ» قريبة منه على ساحله والحاضرة المدينة الكبيرة المرتبط بها غيرها من القرى والقصبات، ويقال لساكنها حضريّ ضد البادية فالمخيم بها بدويّ «إِذْ يَعْدُونَ» يتعدون حدود الله ويتجاوزون أوامره التي سنّها لهم وأوجبها عليهم «فِي السَّبْتِ» الذي حرم عليهم العمل فيه ثم بين تعديهم بمناسبة ذكرى مخالفتهم المذكورة آنفا فقال «إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً» ظاهرة متتابعة على وجه الماء «وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ» وهذا من قبيل الإلهام لهذه الحيوانات كأنها تعلم أن أحدا لا يعارضها يوم السبت فتظهر
مطلب الرضى بالمعصية معصية
: فقال الساكتون للناجين «لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ» في هذه الدنيا جزاء عملهم القبيح «أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً» في الآخرة على ذلك ولم تتركوهم وشأنهم (قالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ) غدا في الآخرة إذا سئلنا عن ذلك، لئلا نكون قد
(إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) أما في شريعة موسى عليه السلام فالنسيان مؤاخذ عليه، وكذلك الخطأ، كما مرّ في تفسير الآية ١٥٧، وقوله صلّى الله عليه وسلم رفع، يدل على عدم العذاب في شريعتنا على الثلاثة الواردة في الحديث والعقاب على من قبلنا عليها وإلا لم يقل رفع، تأمل، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: يقول الله (أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا) فلا أدري ما فعل الله بالفرقة الثالثة الساكتة وجعل يبكي، فقال عكرمة جعلني الله
نجت الناهية فقط فمستبعد هذا على شريعتنا، أما على شريعة موسى فلا وعلى كل فالله تعالى أكبر وأكرم قال تعالى «فَلَمَّا عَتَوْا» أبوا الرجوع «عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ» تكبرا وأنفة «قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ ١٦٦» أذلاء صاغرين منسوخين فكانوا كذلك.
مطلب في خزي اليهود ورفع عيسى عليه السلام:
قال تعالى «وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ» أعلم وفيه معنى التوعد والتهديد لافترانه بالقسم الدالّ عليه وجود لامه في قوله «لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ» أي اليهود، لأنهم بدلوا وغيروا أحكام التوراة وأجروا أحكام ما بقي منها على الضعيف دون القوي، وحرّفوا كثيرا منها، وكذلك فعل النصارى في الإنجيل لما رأوا أن حضرة الرسول يخبر عما فيهما، وكانوا قبلا يحورون ما يتعلق بالأحكام فقط، فلما ظهر الرسول صاروا يرفعون منها ما يتعلق بأوصافه صلّى الله عليه وسلم قصد نهي اتباعهم له والإيمان به، مع أن الواجب عليهم إبقاؤها والإيمان بما جاء فيها مصدقا للقرآن أخزاهم الله، ولهذا أقسم الله جل شأنه على الجزم بأنه ليرسلنّ عليهم «إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ» يكلفهم على الدوام «سُوءَ الْعَذابِ» أقساه وأشده مما لا رحمة فيه «إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ» إذا شاء عقاب أمثال هؤلاء في الدنيا فضلا عن عذاب الآخرة «وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ١٦٧» لمن آمن ورجع عن كفره ودخل بالإسلام فلم يعاقبه ولم يسأله عما فعل لعظيم مغفرته وكبر عفوه، لأن الإسلام يجبّ ما قبله.
ومن جملة إذلال اليهود وإصغارهم أنهم صاروا يؤدون الجزية إلى المجوس لما سلّط الله عليهم بختنصر وسنجاريب وملوك الروم، فساموهم وأهانوهم، ولم يزالوا كذلك محتقرين إلى زمن محمد صلّى الله عليه وسلم، فقبل من أسلم منهم ومن لم يسلم قبل منه الجزية
السلام، والذين أدركوا عيسى وآمنوا به وبقوا على إيمانهم حتى بعثة محمد صلّى الله عليه وسلم وماتوا على ذلك، والذين أدركوا محمدا وآمنوا به وماتوا على إيمانهم فهم صالحون من أهل الجنة، لأن الله تعالى لا يظلم حق أحد والقرآن كلام الله لم يغمط حق أحد أيضا ولا يغفل ذكره كيف وهو القائل في كتابه (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ) الآية ٣٨ من سورة الأنعام في ج ٢ «وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ» فسقة ومخطئون، لأنهم خالفوا بعض الأوامر وامتثلوا بعضها وماتوا قبل بعثة عيسى
لنا القوم الأولى إليك وخلفنا | لأولنا في طاعة الله تابع |
ذهب الذين يعاش في أكنافهم | وبقيت في خلف كجلد الأجرب |
ثم ندّد في بني إسرائيل السابق ذكرهم بمناسبة ذكر الصالحين منهم فقال «وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ» الطور أو جبلا غيره، وهذه الجملة عطف على جملة وإذ قيل لهم المارة في الآية ١٦١ المكية وكلمة نتقنا لم تكرر في القرآن وسيأتي في الآيتين ٦٣، ٩٣ من سورة البقرة في ج ٣ ما يتعلق بهذا، أي رفعناه وصيرناه «فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ» خيمة كبيرة ت (٢٩)
مطلب كيفية أخذ العهد على الذرية:
قال تعالى «وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ» وبين كيفية الإشهاد بقوله «أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ» مربّيكم ومالك أمركم وليس لأحد دخل في شأنكم غيري «قالُوا بَلى شَهِدْنا» على أنفسنا بذلك، وهنا يحسن الوقف لأنه من تتمة كلام الذرية، ومن استحسن الوقف على بلى قال إن شهدنا من كلام الملائكة، أي قال لهم اشهدوا على خلقي هؤلاء قالوا شهدنا، والأول أولى بالنظر لسياق الآية وعدم ذكر الملائكة قبلها يؤيده قوله تعالى «أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ» حين نسألكم عن هذا العهد «إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا» الميثاق «غافِلِينَ ١٧٢» أي لم ننتبه إليه حين أخذه علينا «أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ» زماننا هذا وقد سنّوا لنا الشرك بالتاء على الخطاب للذرية وهي القراءة المختارة في المصاحف، أما القراءة بالياء على الغيبة فيتجه ولكنه
فقال يا رسول الله ففيم العمل؟ فقال صلّى الله عليه وسلم: إن الله سبحانه وتعالى إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة، فيدخل الجنة، وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار حتى يموت على عمل أهل النار، فيدخل النار- أخرجه مالك في الموطأ وأبو داود وقال حديث حسن، وأخرج الطبري نحوه عن أبي هريرة، وأخرجه الترمذي أيضا وقال حديث حسن صحيح ولا منافاة بين الآية والحديث من حيث أن الحديث يقول من ظهر آدم والآية تتضمن من ظهر ذريته لما مر تفصيله في تفسيرها آنفا، وقد بين الله تعالى سبب أخذ العهد آخر الآية وخاطبهم بإيجاب الاعتراف بربوبيته عليهم على طريق الاستفهام التقريري وإجابته بأسرها بالإيجاب، وأوجب على الرسل تذكير أقوامهم ومن أرسلوا إليهم بهذا العهد، وان الرسل لا شك نبهوهم له وأرشدوهم للمحافظة عليه، لئلا يبقى لهم عذر، فمن أنكر كان معاندا ناقضا عهده لا عذر له البتة، قال تعالى
هذا، وبعد أن ذكر الله تعالى رسوله بتذكير قومه في هذا العهد العظيم وبين كيفيته ذكّره بقضية أخرى ليذكرها لقومه على سبيل الاتعاظ والانتباه والتحذير فقال عز قوله «وَاتْلُ» يا أكرم الرسل «عَلَيْهِمْ» أي قومك. وقال بعض المفسرين على اليهود، وهو غير سديد، لأن الآية مكية ولا مخاطبة بينه وبين اليهود بمكة، على أن لا مانع من شمولها اليهود وغيرهم لأنها جاءت بلفظ عام ولأنه مرسل إلى الخلق كافة ولا سيما أنه تلاها عليهم عند وصوله إلى المدينة بعد هجرته من مكة لا عند نزول الآية، فالقول باختصاصهم بها لاصحة له. أي أخبرهم «نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا» من علماء بني إسرائيل.
مطلب قصة بلعام ابن باعوراء وسببها:
قيل إنه من الكنعانيين من بلد الجبارين، أو من مدينة البلقاء، واسمه بلعام أو بلعم بن باعوراء أو باعراء أو ابن امرئ، اوتي علما ببعض كتب الله المنزلة على الرسل قبله وفي زمانه فكفر بها ونبذها وراء ظهره «فَانْسَلَخَ مِنْها» انسلاخ الجلد عن الشاة، ويقال لكل من فارق شيئا على أتم وجه انسلخ منه.
وفي هذه الآية دلالة على أن العلم لا ينزع من الرجل لقوله جل شأنه انسلخ لا انسلخت منه، يؤيده ما جاء في الحديث الصحيح: (إن الله لا ينزع العلم انتزاعا من قلوب الرجال، وإنما يكون بفقد العلم بموت العلماء). والقرآن يفسر ببعضه وبالسنة تدبر قوله جل قوله «فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ» لحقه وأدركه، وفيه تلميح المبالغة باللحوق إذ جعل كأنه أمام الشيطان والشيطان مبالغ في اتباعه وهو من الذم بمكان على حد قوله:
وكان فتى من جند إبليس فارتقى | به الحال حتى صار إبليس من جنده |
كل عيش وإن تطاول دهرا | صائر مرة إلى أن يزولا |
ليتني قبل ما قد بدا لي | في خلال الجبال أرعى الوعولا |
إن يوم الحساب يوم عظيم | شاب فيه الصغير يوما ثقيلا |
مليك على عرش السماء مهيمن... لعزته تعنو الوجوه وتسجد
من قصيدة طويلة أتت على آخرها ثم قالت أيضا:
وقف الناس للحساب جميعا... فشقىّ معذب وسعيد
حتى أتت على آخرها ثم قالت أيضا:
عند ذي العرش يعرضون عليه... يعلم الجهر والخفاء الخفيّا
يوم يأت الرحمن وهو رحيم... إنه كان وعده مأتيا
رب إن تعف فالمعافاة ظني... أو تعاقب فلم تعاقب بريّا
فقال صلّى الله عليه وسلم: إن أخاك آمن شعره وكفر قلبه.
مطلب قصتي النعمان والبسوس:
وقيل إنها نزلت في النعمان بن صيفي الراهب، كما روي عن ابن أبي حاتم بأنه رجل ترهب في الجاهلية وقدم المدينة على حضرة الرسول، فسأله عن دينه فقال صلّى الله عليه وسلم الحنيفية ديني ودين جدّي إبراهيم عليه السلام، فقال له أنا عليها، فقال صلّى الله عليه وسلم:
لكنك أدخلت فيها ما ليس منها فلست عليها، فقال له: أمات الله الكاذب منا طريدا وحيدا، وخرج إلى الشام واستنفر المنافقين، وطلب من قيصر النجدة لمحاربة الرسول صلّى الله عليه وسلم، فلم يجبه ولم يوفق لمطلبه وبقي مقهورا حتى مات بالشام طريدا وحيدا.
إلا أن هذه لا تصح أن تكون سببا للنزول، لأن الآية مكية والحادثة هذه وقعت في المدينة، وإنما تنطبق في المعنى على هذا وأضرابه من كل من آثر دنياه على آخرته كما تقدم في تفسيرها، ولأن بين نزول هذه الآية وحادثة النعمان هذا الذي سلب الله نعمته وأهلكه بحكمه على نفسه سنين كثيرة راجع تفسير الآية ١٠٧ من سورة التوبة في ج ٣. وقيل إنها نزلت في البسوس، وهي رواية عن ابن عباس، وخلاصة القصة أنه كان رجلا له زوجة وثلاثة أولاد وقد أعطي ثلاث دعوات مستجابات، فقالت له زوجته اجعل لي منها واحدة ففعل، فقالت أدع
المستجير بعمر وعند كربته | كالمستجير من الرمضاء بالنار |
له ملك ينادي كل يوم | لدوا للموت وابنوا للخراب |
لا عبرة به، لأنه عدول عن الظاهر، ولأن اللام واقعة في جواب القسم كما ذكرنا، والآية الأخرى والبيت المستشهد به لا قسم فيهما. على أن هذه الآية نفسها حجة واضحة لمذهب أهل السنة القائلين: إن الله تعالى خالق أعمال العباد جميعها خيرها وشرها بصريح اللفظ قال تعالى: (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) الآية ٩٧ من الصافات في ج ٢، ولا زيادة على بيان الله، ثم وصف هؤلاء المخلوقين لجهنم بقوله عز قوله «لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها» لأن معنى الفقه الفهم والعلم ثم جعل علما على علم الدين، وهؤلاء لا يفهمون المراد من خلقهم ولا يعلمون ما يصيرون إليه «وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها» طريق الهدى والرشد ولا ينظرون بها آيات الله وأدلة توحيده في سمائه وأرضه «وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها» المواعظ سماع قبول لأنهم صمّ فإنهم للشر أسمع من الخير، ولكنهم قوم صرفوا حواسهم كلها إلى الدنيا وأعرضوا عن الآخرة، لذلك حرموا نعم تلك الحواس فيما يؤول به إلى خيرهم فلم ينتفعوا فيها قال الشاعر:
وعوراء الكلام صممت عنها | وإني إذ أشاء لها سميع |
إذا نظرت ليلى فكلي أعين | وإن نطقت ليلى فكلي مسامع |
مطلب في أسماء الله الحسنى:
«وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى» تأنيث الأحسن اسم تفضيل، لأنها أحسن أسمائه وكل أسمائه حسنة، إلا أن هذه تدل على معاني حسنه من تحميد وتمجيد وتقديس وتنبىء عن معاني كثيرة ومغازي شريفة لا تدل عليها غيرها. قال مقاتل: إن رجلا من أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلم دعا الله ودعا الرحمن، فقال أبو جهل قبحه ولعنه الله:
يزعمون أنهم يعبدون ربا واحدا فما لهذا يدعو إلهين؟ جهلا منه بصفات الله، فنزلت هذه الآية. أما ما قيل من أنها نزلت حينما قرأ رجل في صلاته (قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ) الآية قبل الأخيرة من سورة الإسراء الآتية، فغير وجيه لأنها لم تنزل، بعد وسنأتي على معاني أسماء الله الحسنى في أوائل سورة طه الآتية إن شاء الله. روى البخاري ومسلم عن ابي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم:
(إن لله تسعة وتسعين اسما من حفظها دخل الجنة، والله وتر يحب الوتر) وفي رواية، من أحصاها. وفي رواية أخرى إن لله تسعة وتسعين اسما مائة إلا واحدا لا يحفظها أحد إلا دخل الجنة وهو وتر يحب الوتر، وهي معلومة محصورة في نوعين الأول عدم افتقاره إلى غيره والثاني افتقار غيره إليه «فَادْعُوهُ بِها» أيها الناس لا بغيرها من الأسماء، وفي هذه الجملة دليل على أن أسماء الله تعالى توقيفية لا اصطلاحية، ويؤكده عدم جواز قولك الله سخي بدل جواد، وعاقل بدل عالم، وطبيب بدل حكيم، وعارف بدل خبير، وعدم جواز الدعاء بغيرها لقوله جل قوله «وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ» لا تقلدوهم بما يقولون واتركوهم وشأنهم إذا لم يمتثلوا أمركم بالميل عن الإلحاد الذي هو عدول عن القصد والاستقامة إذ لا يجوز أن تطلق أسماء غيره عليه ولا أسماءه على غيره ولا نسميه بما لم يسم به نفسه مما لم يرد في قرآن أو سنة، فلا يجوز أن تقول يا ضار يا مانع يا خالق القردة
قال تعالى «وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ» جماعة إلى الجنة وهذا بمقابل (وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ) في الآية السابقة ونظيرتها الآية ١٥٩ المارة، وهذه الطائفة المباركة هم الذين دأبهم أنهم «يَهْدُونَ بِالْحَقِّ» ويرشدون الناس إلى طريقه «وَبِهِ يَعْدِلُونَ ١٨٠» بأحكامهم على أنفسهم وعلى غيرهم لا يفرقون في الحق بين قريب وغريب وعدو وصديق وحقير وشريف. قال ابن عباس يريد بهذه الآية أمة محمد صلّى الله عليه وسلم. روى البخاري ومسلم عن معاوية قال وهو يخطب:
سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: (لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك). وفي الآية هذه والحديث هذا إشارة إلى أنه لا يخلو زمان من قائم بالحق يعمل به ويهدي إليه، قال تعالى «وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا» من أي أمة كانت لأن الصيغة للعموم فتتناول الكل إلا ما دل الدليل على استثنائه فهؤلاء «سَنَسْتَدْرِجُهُمْ» شيئا فشيئا إلى الهلاك «مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ ١٨١» ما يراد بهم ولا يشعرون بمصيرهم ولا يحسون
وفي كل شيء له آية... تدل على أنه واحد
أي لماذا لم يتذكر الناس فيما برأه ربهم في هذين الهيكلين العظيمين وما خلقه لهم فيهم «وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ» فيموتوا على كفرهم فيخسروا آخرتهم كما خسروا دنياهم، فيا سيد الرسل إذا لم يؤمنوا بك وأنت الذي لا نبيّ ولا كتاب بعدك «فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ ١٨٤» لأنك خاتم الأنبياء وكتابك خاتم الكتب، أي أنهم لا يؤمنون البتة لأن اعراضهم هذا لسابق ضلالهم وأنهم في علم الله خبثاء لا يتوقع منهم الهدى لأن «مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هادِيَ لَهُ» أبدا إذ طبع الله على قلوبهم فمالوا عن الحق إلى الضلال وقد أعماهم عن سلوكه لأنه يريدهم إلى ما قدره إليهم في أزله «وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ ١٨٥» لا يدركون شيئا في بصيرتهم كما لا يرونه بأبصارهم فهم دائما متحيرون لا يهتدون إلى صواب:
إلى الماء يسعى من يغص بلقمة... إلى أين يسعى من يغص بماء
مطلب في الساعة ومعنى احفوا الشارب:
ثم إن من كفرة قريش من سأل حضرة الرسول عن الساعة التي يخوفهم بها لأنهم ينكرونها فيقولون له متي تكون فأنزل الله «يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ» سؤال سخرية واستهزاء لأنهم لا يصدقون بها لهذا يقولون لك هؤلاء الكفرة «أَيَّانَ مُرْساها» يريدون متى تأتي، لأن الإرساء هو الوقوف والإثبات، فإذا جاءت فكأنها ثبتت أمامهم فأنزل الله «قُلْ» يا سيد الرسل أنا لا أعلم وقت مجيئها «إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي» وحده لا يعلمها غيره، فكما أنه أخفى عليكم أجل موتكم فقد أخفاها عليّ وعلى الناس أجمع ليكونوا كلهم على حذر دائم من وقوعها، فإخفاؤها أدعى لملازمة الطاعة والمثابرة عليها والمبادرة إلى التوبة والمباعدة عن المعاصي «لا يُجَلِّيها» ليظهرها ويكشف أمرها «لِوَقْتِها» المقدر لها كي يراها الناس «إِلَّا هُوَ» وحده، واعلموا أيها الناس إن الساعة قد «ثَقُلَتْ» عظمت وكبرت وقيل
روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: لتقومنّ الساعة وقد نشر الرجلان ثوبهما بينهما فلا يتبايعانه ولا يطويانه، ولتقومن الساعة وقد انصرف الرجل بلبن لقحته (الناقة الوالدة حديثا) فلا يطعمه، ولتقومن الساعة وهو يليط (يطين ويصلح) حوضه فلا يسقى فيه، ولنقومن الساعة وقد رفع أكلته (بضم الهمزة اللقمة) إلى فيه فلا يطعمها. ومن هنا قال بعضهم إن الساعة تؤلف ولا تؤلفان لأن حروف بغتة بحساب الجمل ألف وثمانمائة واثنان والصحيح انها وأربعمائة واثنان، لأن التاء مكررة فيها والمكرر لا يحسب عادة ولكن تضاف حروف الكلمة لها فتكون ١٤٠٦، ونحوها قوله تعالى (لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلَّا قَلِيلًا) الآية ٧٦ من الإسراء الآتية، فإن حروفها عدا المكرر ١٣٩٩ وحروفها ١١ فتكون ١٤١٠ تدبر. وأعلم أن هذا لطريق الاستنباط لا غير، وفي الحقيقة لا يعلم مداها إلا هو «يَسْئَلُونَكَ» يا سيد الرسل «كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها» بليغ في علمها شديد السؤال عنها، أي. يسألونك عنها كأنك حفي بها ففيه حذف والإحفاء هو الاستقصاء بالشيء ومنه حديث احفوا الشارب المار ذكره في الآية ٩٥ أي استقصوا في قصه حتى يكون كالحاجب بأن تكون له حواف، أي تبدو منه حواف شفته. وقد أخطأ صنعا من زين شاربه استدلالا بهذا الحديث لزعمه أن معنى الإحفاء هو ذاك، مع أنه مع بقاء اللحية مثلة، وحاشا رسول الله أن يأمر بها، ألم يعلم هذا المتحفف أن رسول الله لم يزّين شاربه بالموسى ولا بالمقصّ بل كان يأخذ منه مازاد على الشفة، وأنه لا يأمر بما لا يفعل، وأن الاقتداء به هدى والمخالفة له ضلال.
قرأ ابن مسعود (حفيّ بها) أي كأنك عالم بها مراعاة لمعنى الباء المؤدية لمعنى ت (٣٠)
فإن تسألوا عني فيا رب سائل | حفي عن الأعشى به حيث أصعدا |
ويزعم أن محمدا واقف على وقت وقوعها فيسأل جهلا، وبعضهم يزعم أن العلم بها من مقتضيات الرسالة فيتخذ السؤال ذريعة إلى القدح فيها بأن يقول كيف يدعي الرسالة ويخوفنا القيامة ولا يعرف متى تقوم، وبعضهم واقف على جلية الحال ويسأل امتحانا فهو ملحق بالجاهلين لعدم علمه بعمله وعمله بعلمه. هذا، ولما سأل أهل مكة محمدا صلّى الله عليه وسلم ألا يخبرك ربك بالأسعار لنتيقن ونتحقق الربح، وبالجدب والخصب لنأمن على أنفسنا وحيواناتنا من الجوع والعطش، أنزل الله «قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا» لأني بشر مثلكم فلا أقدر على دفع الضر وجلب الخير «إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ» لي من ذلك أن أملكه بتمليكه إياي، وهذا غاية في إظهار العبودية ونهاية في التبري عن خصائص الإلهية ومبالغة في إظهار العجز، وبما أن ذلك من العلم بالغيب أتبع هذا التبرّي بقوله «وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ» كما تظنون «لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ» الذي يمكن التقصي عنه بالتوقي من موجباته ولم أكن مغلوبا لكم في بعض الأحوال، وهذا قبل أن يطلعه الله على بعض مغيباته ولما أطلعه أخبره، قال تعالى: (فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ
الآيتان ٢٦ و ٢٧ من سورة الجن الآتية، ثم أكد نفي ذلك بقوله «إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ» للكافرين أمثالكم من أن يلحقهم غضب الله إن لم يرجعوا عن كفرهم «وَبَشِيرٌ» بالثواب العظيم من الله «لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ١٨٧» بي ويصدقون رسالتي، ثم ذكرهم بأصل خلقهم بقوله عز قوله «هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ» هي نفس آدم عليه السلام «وَجَعَلَ مِنْها» من نفسها زوجها» حواء لأنها خلقت من نفس آدم، لذلك قال منها أي من جنسها، وقد جاء في الخبر أن الله تعالى خلق حواء من ضلع آدم اليسرى، ونظير هذه الآية من حيث المعنى الآية الأولى من سورة النساء في ج ٣ والآية ٩٧ من سورة الأنعام في ج ٢، أما كيفية خلقها فعلى ما هو عند الله تعالى مما هو مجهول عندنا، والله لا يعجزه شيء وقال تعالى في الآية ٧٢ من سورة النحل في ج ٢ (جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً) وعليه ينبغي أن تكون من هنا ابتدائية، ويكون المعنى من جنسكم أيضا، ويحتمل أن تكون تبعيضية، فيصير المعنى من جسدكم، فالمعنى الأول ينطبق على آدم وسائر البشر، وعلى الأخير لا ينطبق إلا على آدم، وسنأتي على تفصيل كل من هذه الآيات في محله إن شاء الله «لِيَسْكُنَ إِلَيْها» يأوي ويأنس بها واللام للعلة الغائبة، أي يطمئن إليها.
مطلب أدب التعبير وحمل حواء الأول:
وقد ذكّر الضمير في ليسكن ولم يؤنثه باعتبار النفس كما هو الظاهر لأن المراد منها آدم، ولو أنث الضمير على الظاهر لتوهم نسبة السكون للأنثى وهو خلاف المقصود من قوله «فَلَمَّا تَغَشَّاها» والغشي منسوب للذكر قولا واحدا وهو أحسن كناية عن الجماع وأكثر أدبا فيه، لأن الغشيان إتيان الرجل المرأة، وفي هذا تنبيه لحفظ اللسان من الكلام البذيء ولو كان لا بأس به، ولهذا قال صلّى الله عليه وسلم: تأدبوا بآداب الله كي ينزه الإنسان دائما لسانه عن ذكر ما فيه فحش ولو حلالا، وهذا من جملة آداب القرآن، ويقال له أدب التعبير في علم البلاغة «حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفاً» بادىء بدء لأنه عبارة عن نطفة فلا يحس بها ثم يتدرج إلى علقة فمضغة وهكذا إلى
أما ما نقل عن ابن عباس أنه قرأ استمرت ففيها زيادة حرف وتبديل حرف فلا يجوز قراءتها «فَلَمَّا أَثْقَلَتْ» بكمال الحمل وارتفاع البطن وصارت تتألم لضرب الولادة «دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُما» تضرعا وإخباتا لأنهما رأيا شيئا عجيبا لم يصرفا مصيره وخافا عاقبة الأمر واهتما بحال خروج الولد، فتوجها إلى مالك أمرهما وطلبا منه حسن العاقبة فقالا «لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً» بشرا سويا مثلنا سالما من النقص والزيادة «لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ ١٨٨» لنعمائك دائبين عليه، وذلك لأنهما لم يريا أحدا من جنسهما ولم يكن إذ ذاك غير الجن والحيوان والوحش والطير، فخافا أن يكون من جنس أحدهما فرغبا إلى ربهما أن يكون على شكلهما ولونهما «فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً» كما أرادا «جعلا» أي نسلهما وأولاده على حذف مضاف مثل قولك سال الوادي وتريد ماءه، ومثل قوله تعالى: (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) يريد أهلها، وحذف المضاف متعارف عند العرب واتخذا «له» للإله الواحد «شُرَكاءَ» من الملائكة والبشر والحيوان والجماد وغيرها من مخلوقاته وأشركوها بعبادته «فِيما آتاهُما» أي أولادهما وأنفسهما من النسل إذ أضافوا ذلك إليهما، وإنما ثني الضمير باعتبار أن الذي أتاهما ذكر وأنثى، وعبر بما بدل من لأن هذين الصنفين عند ولادتهما ملحقان بما لا يعقل وإنما أسند الجعل للنسل كله مع أن البعض لم يجعل لنلبسه بمحض الإيمان لأنهم الأكثر على حد قولهم (بنو تميم قتلوا فلانا) والقاتل واحد، وقوله تعالى: (وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا ما مِتُّ) الآية ٦٧ من سورة مريم الآتية وليس كل إنسان يقول ذلك «فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ١٨٩» معه من لا يستحق العبادة، وجمع الضمير على عوده للنسل الذي أشرك، وفيه تغليب
وقتلتم نفسا. الآيات ٥١ و ٩٢ و ٧٢ من سورة البقرة في ج ٣ إذ خاطب فيها اليهود الذين على زمن محمد صلّى الله عليه وسلم بما فعل آباؤهم زمن موسى عليه السلام وهذا أحسن الأقوال في تفسير هذه الآية. ولا يقال إن هذا من قبيل الرأي وتفسير على خلاف الظاهر، لما ذكرنا في المقدمة من لزوم اتباع الظاهر حسب المستطاع، إذ لا استطاعة هنا ولا مخلص إلا بالأخذ على خلاف الظاهر، لأنه أليق بالمقام وأوفق للمعنى، ولأنه إذا تعذرت الحقيقة وجب الجنوح إلى المجاز، ولأن إعمال الكلام ولو تأويلا عند جواز المعنى أولى من إهماله. وبلي هذا القول قول من قال إن الضمير في خلقكم يعود إلى قريش آل قصي، إذ لا يجوز عوده لآدم عليه السلام، لأن إسناد الشرك إليه محال، كيف وهو نبي معصوم! واستدل بضمير الجمع في (يُشْرِكُونَ) لأنهم خلقوا من جنس قصي وزوجته القرشية بنت سيد مكة من خزاعة، وقد سميا أولادهما عبد مناف وعبد العزى وعبد شمس وعبد الدار، بدلا من عبد الله وعبد الرحمن مثلا، فيكون المراد بهذه الآية هما وأعقابهما الذين اقتدوا فيهما بالشرك، وأيد قوله هذا بقول أم معبد:
فيا لقصي ما روى الله عنكم | به من فخار لا يبارى وسؤدد |
أما ما قاله بعض المفسرين من أن الإشراك بالتسمية فقط وهو لا يعد شركا وجوزوا إطلاقه على آدم عليه السلام وزوجته، واستدلّوا بما قاله عكرمة ما أشرك آدم ولا حواء ولكن كان لا يعيش لهما ولد، فأتاهما الشيطان وقال لهما، إن سركما أن
قال صلّى الله عليه وسلم: لما ولدت حواء طاف إبليس وكانت لا يعيش لها ولد، فقال لها سميه عبد الحارث فإنه يعيش فسمته، قال القطب: لا بعد هذا شركا لأن أسماء الأعلام لا تفيد مفهوماتها اللغوية، ولكن أطلق عليها لفظ الشرك تغليظا وإيذانا بأن ما عليه أولئك السائلون أمر عظيم. وقال الطيبي: هذا أحسن الأقوال لأنه مقتبس من مشكاة النبوة. وقال غيرهم إنه موافق لسياق الآية المنزلة بحسب الظاهر، ولا يصار لغيره إلا بدليل، أقول نعم لو كان هذا الحديث مسلما بصحته أما لا فلا:
لأن في سنده عمر بن ابراهيم المصري، قال أبو حاتم الرازي لا يحتج به متروك وفضلا عن هذا فإنه ليس مرفوعا بل هو موقوف على سمرة، والموقوف على الصحابي فيه ما فيه، والدليل إذا طرقه الاحتمال سقط الاستدلال به، وقد جاءت روايات أخرى عن معمر عن الحسن، وعن ابن جرير عن الحسن، وعن قتادة عن الحسن كلها مختلفة باللفظ متضاربة بالمعنى، وإن هكذا روايات لا تخلو عن الدس من أهل الكتاب، لأنه لو ثبت عن الحسن ما نقلوه عنه لما فسرت هذه الآية على غير ما روي عنه، وهناك رواية أن الآية نزلت في تسمية آدم وحواء ولديهما بعبد الحارث خرجها ابن جرير عن الخبر، بما يدل على أن هذه وتلك منقولة عن أهل الكتاب لما قيل إنها نزلت في اليهود والنصارى، لأنهم هوّدوا ونصّروا أولادهم إلى غير ذلك من الأقوال التي لا ترتكز على ما يطمئن له الضمير ويركن إليه العقل، وشكّ أن الآية من المشكلات وقد تضاربت فيها آراء المفسرين، وأحسن شي ما أثبتناه في تفسيرها وهو ما اعتمده جهابذة المفسرين، ولو كان هناك حديث صحيح لا غبار عليه يفهم منه تفسيرها على غير ما جرينا عليه لاتبعناه، قال الشافعي رحمه
«أَيُشْرِكُونَ» بي وأنا خالقهم «ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً» من الأشياء أصلا، ومن حق المعبود أن يكون خالقا وهؤلاء «وَهُمْ يُخْلَقُونَ ١٩١» بصنع أيدي مخلوقي وجاء ضمير الجمع على صفة من يعقل بناء على اعتقاد الكفار بأن الأصنام تعقل وتنفع وتضر، فأجراها مجرى من يعقل، وفي قوله «وَلا يَسْتَطِيعُونَ» أولئك الأوثان المتخذة شركاء لي «هم» لعابديهم عند حاجتهم لهم «نَصْراً» مما يحل بهم من أمر مهم أو خطب ملمّ «وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ ١٩٢» أيضا إذا وقع عليهم تعد من كسر واهانة «وَإِنْ تَدْعُوهُمْ» أيها الكفرة «إِلَى الْهُدى لا يَتَّبِعُوكُمْ» هذا بيان لعجزهم عما هو أدنى من النصر المنفي عنهم بالنص، والهدى مجرد الدلالة على البغية والإرشاد إلى طريق حصولها من غير أن تجعل للطالب، راجع تفسير الآية ١٧ من سورة فصلت في ج ٢ «سَواءٌ عَلَيْكُمْ» أيها المشركون بهم «أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ
وهذا مثل ضربه الله تعالى في عدم الإفادة منهم في الدعاء وعدمه، أي أن دعاءكم لهم في عدم الإفادة وسكوتكم عنهم سيان، فلا يتغير حالكم في الحالتين كما لا يتغير حالهم في الحالين، لأنها جماد والجماد يستوي فيه الحالان، وقال بعض المفسرين إن ضمير تدعوهم يعود لحضرة الرسول على سبيل التعظيم، أو له وللمؤمنين وضمير المفعولين في (تدعوهم) و (أدعوتموهم) للمشركين والمراد بالهدى دين الحق، أي إن تدعو المشركين إلى الإسلام لا يتبعوكم. إلا أن سياق النظم الكريم وسياقه لا يساعد هذا البتة كما ترى، لأنه لو كان كذلك لقال عليهم مكان عليكم كما في قوله تعالى: (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) الآية ١٠ من سورة يس الآتية، لأن استواء الدعاء وعدمه إنما هو بالنسبة للمشركين لا بالنسبة للداعين فإنهم فائزون بفضل الدعوة، وإن من نقل هذا القول عن الحسن لم يتثبت بنقله ولم يترو بصحته. أما من نقله عن الطبرسي فإن صح فليس بشيء لأنه رحمه الله لم يحقق ما ينقله حتى قيل عنه إنه (حاطب ليل) ومما يقرر ما جرينا عليه ويؤكده قوله تعالى «إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ» وتسمونهم آلهة ليسوا بآلهة إنما هم «عِبادٌ أَمْثالُكُمْ» مسخّرون مذلّلون لله ومن جملة مملوكيه قرأ ابن سعيد بتخفيف (إن) ونصب عباد على حد قول القائل:
إن هو مستوليا على أحد | إلا على أضعف المجانين |
إذا اسودّ جنح الليل فلتأت ولتكن | خطاك خفافا إن حراسنا أسدا |
مطلب: في مكارم الأخلاق التي يأمر بها الله رسوله:
قال تعالى «خُذِ الْعَفْوَ» الميسور من أخلاق الناس مما يسهل عليهم ولا تستقص عليهم فينفروا منك، وهذا كقوله صلّى الله عليه وسلم: يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا، أي لا تكلفهم بما يشق عليهم واقبل منهم ما تيسر وعليه قوله:
خذي العفو مني تستديمي مودتي | ولا تنطقي في ثورتي حين أغضب |
ويجوز أن يكون المراد اعف عن المذنبين من أصحابك، وعاملهم بالعفو، وهو أولى لموافقة الظاهر وما يوافق الظاهر أظهر. روى البخاري عن عبد الله بن الزبير قال: ما نزلت هذه الآية إلا في أخلاق الناس، ومعنى العفو لغة الفاضل الزائد على قدر الحاجة من المال، ولذلك قال ابن عباس: معناها هنا خذ ما عفا من أموال الناس مما آتوك به لا تكلفهم غيره. وهذا قبل نزول آية الصدقات عدد ٢٦٦ من سورة البقرة في ج ٣، وأخرج أبو الشيخ عن الجوهري أنه قال: لما نزلت هذه الآية كان الرجل يمسك من ماله ما يكفيه ويتصدق بالفاضل، إلى أن نزلت آية الزكاة «وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ» المستحسن من الأفعال والأقوال فإنه أقرب إلى قول الناس، لأن الأمر بالجميل من الأقوال والأفعال وكل ما يرتضيه العقل والشرع من الخصال إذا كان بالمعروف يتلقى بالقبول، وجاء في باب التأويل: وأمر بكل ما يأمرك الله به وعرفته من الوحي وهو كما ترى «وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ ١٩٩»
مطلب في النسخ والنزغ ومعناه.
وأساس هذا كله المحبة للحق، ومن دواعي المحبة وملاكها هذه المعاملة المبيّنة أعلاه والمعاشرة التي هي أساس كل خير وخلاصته، وإذا علم أن للقرآن العظيم مادة عامة ومادة خاصة وان استعمال كل في موقعه من الحكمة التي ينبغي أن يتحلى بها كل حكيم محاكم لأمره ناظر عاقبته أيقن أن لا نسخ في هذه الآية وأشباهها مما أشرنا إليه قبلا سنشير به بعد، وقد علم كل أناس مشربهم ولكل وجهة، فالسعيد من لا يتعدى بوجهته ظاهر كلام الله ما وجد له محملّا خشية أن يقع بما لا يرضيه، وفقنا الله لرضاه. هذا. وما أحسن وقع هذه الآية الجليلة بعد تعداد أباطيل المشركين وقبائحهم بما لا يطاق حمله: قال ابن زيد لما نزلت هذه الآية قال صلّى الله عليه وسلم: كيف بالغضب يا رب؟ فأنزل الله جل انزاله «وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ» أي نخس بوسوسة يروم إبقاءها في قلبك الشريف على خلاف ما أمرت به في هذه الآية وما قبلها مما أنزل عليك من الوحي فلا تمل إليه ولا تركن لما ينخسك به ولا
قال تعالى «إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا» ربهم ورسخت التقوى بقلوبهم واتصفوا بها «إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ» لمّة ألمت به «مِنَ الشَّيْطانِ» لأن الطائف ما يطوف بالإنسان ويلم به وقرىء «طيف» وهو مثله بالمعنى ويفيد الوسوسة أو تسمى طيفا أو طائفا
قال تعالى «وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ» معجزة باهرة ظاهرة «قالُوا» لك المشركون
مطلب الناس على ثلاث مراتب:
ومن هنا يعلم أن الناس على ثلاث مراتب: فالذين بلغوا غاية علم التوحيد حتى صار لهم كالمشاهدهم أصحاب عين اليقين فهم السابقون المقربون، فالقرآن في حق هؤلاء بصائر، والذين بلغوا درجة الاستدلال والنظر هم أصحاب علم اليقين فهم أصحاب اليمين، فالقرآن في حقهم هدّى، والذين ليسوا من الطريقين وهم عامة المسلمين فهم أصحاب اليقين وهم المقلدون لأهل العلم الماشون على طريقهم، فالقرآن في حقهم رحمة والذين دون هؤلاء إذا ماتوا على الإيمان فهم ناجون لأن من زحزح عن النار فقد فاز، وإلا فالعياذ بالله هم الخاسرون في الدنيا والآخرة مع إخوانهم الكافرين إخوان الشياطين.
وهكذا كما يتفاوت الناس في العلم والعمل والمكانة في الدنيا يتفاوتون في الآخرة بالمنازل والدرجات في الجنة، وكما أن الجنة درجات فكذلك النار دركات، وقد ألمعنا لما يتعلق في هذا البحث في سورة التكاثر المارة.
قال تعالى «وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ» أيها الناس بتفكر وتدبر وأصفوا له بكليتكم لتفهموا معانيه وتعوا مواعظه «وَأَنْصِتُوا» عند قراءته ليقر في قلوبكم وتلهموا مبانيه لأن الكلام عند سماعه لا يجوز إذ يضيع المغزى المراد منه لذلك أمركم ربكم بالسكوت، وهذان أمران ظاهرهما الوجوب، فيكون الاستماع والسكوت واجبين عليكم أيها المؤمنون عند قراءة القرآن بدليل هذه الآية، وكلمة أنصتوا لم تكرر إلا في الآية ٢٩ من سورة الأحقاف ج ٢، قال الحسن وأهل الظاهر (إذا قرىء القرآن في أي وقت وموضع يجب على كل واحد الاستماع والسكوت لعموم الأمر، ولذلك قال عروة ابن الزبير والقاسم بن محمد إن المأموم يقرأ إذا أسرّ الإمام ولا يقرأ إذا جهر وهو رواية عن ابن عمرو، هذا بالنسبة للتفسير أحسن من رواية من رأى وجوبها في حالتي الإسرار والجهر إذ قال به الأوزاعي وذهب إليه الشافعي رضي الله عنه وهو مروي عن عمر وعثمان وعلي وابن مسعود ومعاذ، وحجتهم أن الآية نزلت على وجوب قراءة الفاتحة خلف الإمام ولم يفرق بين السرية والجهرية، ويستدلون بالأخبار الواردة بقراءة الفاتحة، وأحسن من روايته من رأى عدم القراءة في الحالتين وهو مروي عن جابر وإليه ذهب أصحاب الرأي، وقال الحسن وأبو حنيفة رحمهما الله وحجتهم ظاهر هذه الآية لأنه لا يعدل عن الظاهر إلّا بمسوغ أقوى ولا يوجد، وإن القول الأول هو الحالة الوسطى وخير الأمور أوساطها، لأن الآية تدل على الأمر بالاستماع لقراءة القرآن، ودلّت السنة على وجوب القراءة خلف الإمام، فحملنا مدلول الآية على صلاة الجهر ومدلول السنة على صلاة السرّ جمعا بين دلائل الكتاب والسنة، وإذا أنعم النظر وأمعن الفكر وجد هذا القول أحسن الأقوال، فاتبعوه «لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ٢٠٤» باقتضاء ما أمرتم به وابتعاد ما نهيتم عنه، وإن وجوب الاستماع هو سبب نزول هذه الآية لمناسبة السباق وموافقة السياق، وقيل نزلت في تحريم الكلام في الصلاة إذ كانوا يتكلمون فيها فمنعوا، وقيل إنها نزلت في ترك الجهر خلف الإمام إذ كانوا
مطلب في الذكر السري وحالة الخوف والرجاء:
«وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ» سرالا تسمع به غيرك، وهذا خطاب لخاصة الرسول وعامة المؤمنين، لأن انتفاع الإنسان بالذكر إنما يكمل إذا وقع على هذه الصفة لقربها من الإخلاص وبعدها من الرياء، لا سيما إذا كان الذاكر استحضر في قلبه عظمة المذكور لما فيه من الإشعار بقرب العبد من ربه عز وجل.
ومن هذه الآية الكريمة أخذ السادة الصوفية بارك الله فيهم الذكر السري وجعلوه من أورادهم وهو دليل واضح لهم لا يحتاج إلى تعليل مؤيد لقوله صلّى الله عليه وسلم: خير الذكر الخفي وخير المال ما يكفي- أخرجه أحمد- فمن تقول بعد هذا النص القاطع بأن الذكر الخفي لا أجر فيه لذاكره فقد أخطأ وهو لا أجر له على اجتهاده هذا بل يأثم، والله أعلم إذ لا اجتهاد في مورد النص وإنما يجتهد في المشكلات والمتشابهات مما لا نص قطعي فيها ففي مثلها إذا أخطأ يكون له أجر وإذا أصاب أجران ت (٣١)
الدنيا والآخرة ودخل في جملة من مدحهم الله وهنيئا لمن كان في عدادهم ثم أخبر الله عباده أهل السماء ليقتدوا بهم فقال «إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ» من الملائكة المقربين مكانة ومنزلة لأقرب مكان ومنزل، فهم مع علو مراتبهم ورفعة شأنهم وقربهم من ربهم بالزلفى والرقى «لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ» ولا يلتفتون لغيره بل يتذللون لعظمته ويخضعون لهيبته، فيؤدون العبادة له حسبما أمروا بها أمام كبريائه لأنهم عبيد طائعون منقادون لسلطانه وقد قال في وصفهم لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون (الآية ٧ من سورة التحريم ج ٣) طوعا واختيارا وحبا بقربهم منه طلبا لمرضاته وليتصف عباده أهل الأرض بصفة عباده أهل السماء «وَيُسَبِّحُونَهُ»
مطلب ما قاله بعض الأكابر في هذه الآية:
قال بعض الأكابر إن قوله واذكر ربك في نفسك تضرعا وخفية إشارة إلى أعلى المراتب وهي صفة الواصلين المشاهدين، وقوله سبحانه (ودون الجهر) رمز إلى المرتبة الوسطى وهي نصيب السائرين إلى مقام المشاهدة وقوله جل قوله (وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ) ايماء الى مرتبة النازلين من السالكين وقال مشيرا إلى كلمة (خيفة) :
أشتاقه فإذا بدا... اطرقت من إجلاله
لا خيفة بل هيبة... وصيانة لجماله
وقوله عز قوله: (إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ) هم المقربون من الملائكة والمفنون أنفسهم به من البشر الباقون به سبحانه وهم أرباب الاستقامة أهل المقام العظيم (لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ) لعدم احتجابهم بالأنانية وانمحاقهم بالكيفية والكمية (ويسبحونه) بنفيها (وله يسجدون) بالفناء التام وطمس البقية الباقية من مهجهم، وهذه السجدة من عزائم السجود واجبة على القارئ والمستمع كما نوهنا به آخر سورة والنجم المارة وقد بينا فيها وفي سورة العلق كيفية السجود وما يقرأ فيه بصورة مفصلة. روى البخاري ومسلم عن عبد الله ابن عمر أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان يقرأ القرآن فقرأ سورة فيها سجدة فسجد وسجدنا معه حتى ما يجد بعضنا موضعا لمكان جبهته في غير وقت الصلاة. وروى مسلم عن ابي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد اعتزل الشيطان يبكي يقول يا ويله أمر ابن آدم في السجود فسجد فله الجنة، وأمرت بالسجود فأببت فلي النار. ولا يوجد في القرآن سورة مختومة بهذه اللفظة، هذا، وأستغفر الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين والتابعين ومن تبعهم بإحسان صلاة وسلاما دائمين متلازمين إلى يوم الدين.
سورة الأعراف
افتُتِحت هذه السُّورة بالتنويه بعظمةِ هذا الكتاب، موضِّحةً مهمةَ القرآن ووجوبَ اتِّباعه، محذِّرةً من الشَّيطان وفتنتِه، كما وصَفتْ هذه السُّورةُ العظيمة أهوالَ يومِ القيامةِ، وخطابَ أهل النَّار لأهل الجنَّة، وحالَ الأعراف، واصفةً ما يَتبَع تلك الأحداثَ، وكذلك اشتملت على كثيرٍ من قصص الأنبياء؛ للدَّلالة على عظمةِ الله وقوَّته، وقهرِه وقُدْرته، وبيَّنتْ حُكْمَ من أطاع واتَّبَع، وحُكْمَ من عصى وابتدع؛ داعيةً للرجوع إلى الله؛ للفوز بالجنَّة، والنَّجاة من النار، وقد أُثِر عن النبيِّ ﷺ قراءتُه لها في صلاة المغرب.
ترتيبها المصحفي
7نوعها
مكيةألفاظها
3343ترتيب نزولها
39العد المدني الأول
206العد المدني الأخير
206العد البصري
205العد الكوفي
206العد الشامي
205* قوله تعالى: ﴿خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٖ وَكُلُواْ وَاْشْرَبُواْ﴾ [الأعراف: 31]:
عن عبدِ اللهِ بن عباسٍ رضي الله عنهما، قال: «كانت المرأةُ تطُوفُ بالبيتِ وهي عُرْيانةٌ، فتقولُ: مَن يُعِيرُني تِطْوافًا؟ تَجعَلُهُ على فَرْجِها، وتقولُ:
اليَوْمَ يَبْدُو بَعْضُهُ أَوْ كُلُّهُ***فَمَا بَدَا مِنْهُ فَلَا أُحِلُّهُ
فنزَلتْ هذه الآيةُ: ﴿خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٖ﴾ [الأعراف: 31]». أخرجه مسلم (٣٠٢٨).
* (الأعراف):
سُمِّيتْ بذلك؛ لأنَّ فيها ذِكْرَ (الأعراف).
* (طُولَى الطُّولَيَينِ):
لِما جاء عن مَرْوانَ بن الحكَمِ، قال: قال لي زيدُ بن ثابتٍ: «ما لك تَقرَأُ في المغربِ بقِصَارٍ وقد سَمِعْتُ النبيَّ ﷺ يَقرَأُ بطُولَى الطُّولَيَيْنِ؟!». أخرجه البخاري (764).
ولعلَّ الإطلاقَ الوارد في السورة من بابِ الوصف، لا من باب التسمية؛ وهذا أقرب.
انظر: "أسماء سور القرآن الكريم وفضائلها" لمنيرة الدوسري (ص196).
* مَن أخَذها عُدَّ حَبْرًا:
فعن عائشةَ رضي الله عنها، عن رسولِ الله ﷺ، قال: «مَن أخَذَ السَّبْعَ الأُوَلَ مِن القرآنِ، فهو حَبْرٌ». أخرجه أحمد (24575).
* ومِن عظيم فضلها أنها تقابِلُ التَّوْراةَ مع بقيةِ السُّوَر الطِّوال:
فعن واثلةَ بن الأسقَعِ رضي الله عنه، قال: قال رسولُ الله ﷺ: «أُعطِيتُ مكانَ التَّوْراةِ السَّبْعَ الطِّوالَ». أخرجه أحمد (17023).
أُثِر عن النبيِّ ﷺ قراءتُه لسورة (الأعراف) في صلاةِ المغرب:
فعن مَرْوانَ بن الحكَمِ: أنَّ زيدَ بنَ ثابتٍ قال: «ما لي أراكَ تَقرأُ في المغربِ بقِصارِ السُّوَرِ وقد رأيتُ رسولَ اللهِ يَقرأُ فيها بأطوَلِ الطُّوليَينِ؟! قلتُ: يا أبا عبدِ اللهِ، ما أطوَلُ الطُّوليَينِ؟ قالَ: الأعرافُ». أخرجه النسائي (٩٨٩).
اشتمَلتْ سورةُ (الأعراف) على عِدَّة موضوعاتٍ؛ وهي على الترتيب:
مهمَّة القرآن ووجوبُ اتباعه (١-٩).
خَلْقُ آدم وعداوةُ الشيطان له (١٠-٢٥).
تحذير الناس من فتنة الشيطان (٢٦-٣٠).
إباحةُ الطيِّبات، وتحريم الفواحش (٣١-٣٤).
إرسال الرسول، وعاقبة التكذيب (٣٥-٤١).
بين أصحاب الجنَّة وأصحاب النار (٤٢-٤٥).
أصحاب الأعراف (٤٦-٥٣).
مظاهر قدرة الله تعالى (٥٤-٥٨).
قصة نوح عليه السلام (٥٩-٦٤).
قصة هود عليه السلام (٦٥-٧٢).
قصة صالح عليه السلام (٧٣-٧٩).
قصة لوط عليه السلام (٨٠-٨٤).
قصة شُعَيب عليه السلام (٨٥-٩٣).
أقوام الأنبياء وموقفُهم من الدعوة (٥٩-٩٣).
سُنَّة الله في المكذِّبين (٩٤-١٠٢).
قصة موسى عليه السلام (١٠٣-١٧١).
موقف فِرْعونَ من دعوة موسى (١٠٣-١٢٦).
البِطانة الفاسدة (١٢٧-١٢٩).
عاقبة الكفار، وحُسْنُ عاقبة المؤمنين (١٣٠-١٣٧).
بنو إسرائيل وعبادة الأصنام (١٣٨-١٤١).
مجيء موسى للميقات (١٤٢-١٤٧).
بنو إسرائيل وعبادة العِجل (١٤٨-١٥٩).
مخالفات بني إسرائيل وانحرافاتهم (١٦٠-١٧١).
أخذُ الميثاق على بني آدم (١٧٢-١٧٨).
أهل النار أضَلُّ من الأنعام (١٧٩-١٨٦).
السؤال عن الساعة (١٨٧-١٨٨).
الناس مخلوقون من نفسٍ واحدة (١٨٩-١٩٥).
أولياء الرحمن (١٩٦-٢٠٦).
ينظر: "التفسير الموضوعي" لمجموعة من العلماء (3 /9).
اشتملت السُّورةُ على جملةٍ من المقاصدِ العظيمة، ذكَرها ابنُ عاشور رحمه الله؛ وهي:
«التنويهُ بالقرآن، والوعد بتيسيره على النبي ﷺ ليُبلِّغَه.
النهيُ عن اتخاذ الشركاء من دون الله، وإنذارُ المشركين عن سُوءِ عاقبة الشرك في الدنيا والآخرة، ووصفُ حال المشركين وما حَلَّ بهم.
تذكيرُ الناس بنعمة خَلْق الأرض، وتحذيرُهم من التلبُّس ببقايا مكرِ الشيطان.
وصفُ أهوالِ يوم الجزاء للمجرمين، وكراماتِه للمتَّقين.
التذكير بالبعث، وتقريبُ دليله.
النهيُ عن الفساد في الأرض التي أصلَحها اللهُ لفائدة الإنسان.
التذكير ببديعِ ما أوجَده الله لإصلاحِها وإحيائها.
التذكير بما أودَع اللهُ في فطرة الإنسان من وقتِ تكوين أصله أن يَقبَلوا دعوةَ رُسُلِ الله إلى التقوى والإصلاح».
"التحرير والتنوير" لابن عاشور (8/8).