ﰡ
القول في تأويل قوله جل ثناؤه وتقدَّست أسماؤه ﴿المص (١) ﴾
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل قول الله تعالى ذكره: (المص).
فقال بعضهم: معناه: أنا الله أفضل.
* ذكر من قال ذلك:
١٤٣١٠- حدثنا سفيان قال، حدثنا أبي، عن شريك، عن عطاء بن السائب، عن أبي الضحى، عن ابن عباس: (المص)، أنا الله أفضل.
١٤٣١١- حدثني الحارث قال، حدثنا القاسم بن سلام قال، حدثنا عمار بن محمد، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير في قوله: (المص)، أنا الله أفضل.
* * *
وقال آخرون: هو هجاء حروف اسم الله تبارك وتعالى الذي هو"المصوّر".
* ذكر من قال ذلك:
١٤٣١٢- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (المص)، قال: هي هجاء"المصوّر".
* * *
وقال آخرون: هي اسم من أسماء الله، أقسم ربنا به.
* ذكر من قال ذلك:
* * *
وقال آخرون: هو اسم من أسماء القرآن.
ذكر من قال ذلك:
١٤٣١٤- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: (المص)، قال: اسم من أسماء القرآن.
١٤٣١٥- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة، مثله.
* * *
وقال آخرون: هي حروف هجاء مقطّعة.
* * *
وقال آخرون: هي من حساب الجمَّل.
* * *
وقال آخرون: هي حروف تحوي معاني كثيرة، دلّ الله بها خلقه على مراده من ذلك.
* * *
وقال آخرون: هي حروف اسم الله الأعظم.
* * *
وقد ذكرنا كل ذلك بالرواية فيه، وتعليل كلّ فريق قال فيه قولا. وما الصواب من القول عندنا في ذلك، بشواهده وأدلته فيما مضى، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (١)
* * *
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره: هذا القرآن، يا محمد، كتاب أنزله الله إليك.
* * *
ورفع"الكتاب" بتأويل: هذا كتابٌ.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ﴾
قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: فلا يضق صدرك، يا محمد، من الإنذار به مَنْ أرسلتك لإنذاره به، وإبلاغه مَنْ أمرتك بإبلاغه إياه، ولا تشك في أنه من عندي، واصبر للمضيّ لأمر الله واتباع طاعته فيما كلفك وحملك من عبء أثقال النبوة، (١) كما صبر أولو العزم من الرسل، فإن الله معك.
* * *
و"الحرج"، هو الضيق، في كلام العرب، وقد بينا معنى ذلك بشواهده وأدلته في قوله: (ضَيِّقًا حَرَجًا) [سورة الأنعام: ١٢٥]، بما أغنى عن إعادته. (٢)
* * *
وقال أهل التأويل في ذلك ما:-
١٤٣١٦- حدثني به محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس في قوله: (فلا يكن في صدرك حرج منه)، قال: لا تكن في شك منه.
(٢) انظر ما سلف ص: ١٠٣ - ١٠٧.
١٤٣١٨- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
١٤٣١٩- حدثنا ابن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور قال، حدثنا معمر، عن قتادة: (فلا يكن في صدرك حرج منه)، شك منه.
١٤٣٢٠- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، مثله.
١٤٣٢١- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (فلا يكن في صدرك حرج منه)، قال: أما"الحرج"، فشك.
١٤٣٢٢- حدثنا الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا أبو سعد المدني قال، سمعت مجاهدًا في قوله: (فلا يكن في صدرك حرج منه)، قال: شك من القرآن.
* * *
قال أبو جعفر: وهذا الذي ذكرته من التأويل عن أهل التأويل، هو معنى ما قلنا في"الحرج"، لأن الشك فيه لا يكون إلا من ضيق الصدر به، وقلة الاتساع لتوجيهه وجهته التي هي وجهته الصحيحة. وإنما اخترنا العبارة عنه بمعنى"الضيق"، لأن ذلك هو الغالب عليه من معناه في كلام العرب، كما قد بيناه قبل.
* * *
قال أبو جعفر: يعني بذلك تعالى ذكره: هذا كتاب أنزلناه إليك، يا محمد، لتنذر به من أمرتك بإنذاره، (وذكرى للمؤمنين) = وهو من المؤخر الذي معناه التقديم. ومعناه: "كتاب أنزل إليك لتنذر به"، و"ذكرى للمؤمنين"،"فلا يكن في صدرك حرج منه".
وإذا كان ذلك معناه، كان موضع قوله: (وذكرى) نصبًا، بمعنى: أنزلنا إليك هذا الكتاب لتنذر به، وتذكر به المؤمنين.
* * *
ولو قيل معنى ذلك: هذا كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه، أن تنذر به، وتذكّر به المؤمنين = كان قولا غير مدفوعة صحته.
وإذا وُجِّه معنى الكلام إلى هذا الوجه، كان في قوله: (وذكرى) من الإعراب وجهان:
أحدهما: النصب بالردّ على موضع"لتنذر به".
والآخر: الرفع، عطفًا على"الكتاب"، كأنه قيل:"المص كتاب أنزل إليك"، و"ذكرى للمؤمنين". (١)
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿اتَّبِعُوا مَا أُنزلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلا مَا تَذَكَّرُونَ (٣) ﴾
قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل، يا محمد، لهؤلاء المشركين من قومك الذين يعبدون الأوثان والأصنام: اتبعوا، أيها
* * *
فإن قال قائل: وكيف قلت:"معنى الكلام: قل اتبعوا"، وليس في الكلام موجودًا ذكرُ القول؟
قيل: إنه وإن لم يكن مذكورًا صريحًا، فإن في الكلام دلالة عليه، وذلك قوله: (فلا يكن في صدرك حرج منه لتنذر به)، ففي قوله:"لتنذر به"، الأمر بالإنذار، وفي الأمر بالإنذار، الأمرُ بالقول، لأن الإنذار قول. فكأن معنى الكلام: أنذر القومَ وقل لهم: اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم.
ولو قيل معناه: لتنذر به وتذكر به المؤمنين فتقول لهم: اتبعوا ما أنزل إليكم = كان غير مدفوع.
* * *
وقد كان بعض أهل العربية يقول: قوله: (اتبعوا)، خطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم، ومعناه: كتاب أنزل إليك، فلا يكن في صدرك حرج منه، اتبع ما أنزل إليك من ربك = ويرى أن ذلك نظير قول الله: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ) [سورة الطلاق: ١]، إذ ابتدأ خطابَ النبي صلى الله عليه وسلم، ثم جعل الفعل للجميع، إذ كان أمر الله نبيه بأمرٍ، أمرًا منه لجميع أمته، كما يقال للرجل يُفْرَد بالخطاب والمراد به هو وجماعة أتباعه أو عشيرته وقبيلته:"أما تتقون الله، أما تستحيون من الله! "، ونحو ذلك من الكلام. (١)
وذلك وإن كان وجهًا غير مدفوع، فالقولُ الذي اخترناه أولى بمعنى الكلام،
* * *
وقوله: (قليلا ما تذكرون)، يقول: قليلا ما تتعظون وتعتبرون فتراجعون الحق. (١)
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ (٤) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: حذّر هؤلاء العابدين غيري، والعادلين بي الآلهة والأوثان، سَخَطي لا أُحِلّ بهم عقوبتي فأهلكهم، (٢) كما أهلكت من سلك سبيلهم من الأمم قبلهم، فكثيرًا ما أهلكت قبلهم من أهل قرى عصوني وكذَّبوا رسلي وعبدوا غيري (٣) = (فجاءها بأسنا بياتًا)، يقول: فجاءتهم عقوبتنا ونقمتنا ليلا قبل أن يصبحوا (٤) = أو جاءتهم"قائلين"، يعني: نهارًا في وقت القائلة.
* * *
وقيل:"وكم" لأن المراد بالكلام ما وصفت من الخبر عن كثرة ما قد أصاب الأمم السالفة من المَثُلاث، بتكذيبهم رسلَه وخلافهم عليه. وكذلك تفعل العرب إذا أرادوا الخبر عن كثرة العدد، كما قال الفرزدق:
(٢) في المطبوعة والمخطوطة: ((لأحل بهم عقوبتي))، والسياق يقتضي ما أثبت.
(٣) انظر تفسير ((كم)) فيما سلف ٥: ٣٥٢:
= تفسير ((القرية)) فيما سلف ٨: ٥٤٣.
= وتفسير ((الإهلاك)) فيما سلف: ١١: ٣١٦، تعليق: ١، والمراجع هناك.
= وتفسير ((البأس)) فيما سلف ص: ٢٠٧، تعليق ٢، والمراجع هناك.
(٤) انظر تفسير ((البيات)) فيما سلف ٨: ٥٦٢، ٥٦٣ /٩: ١٩١، ١٩٢.
كَمْ عَمةٍ لَكَ يا جَرِيرُ وَخَالَةٍ | فَدْعَاءَ قَدْ حَلَبَتْ عَلَيَّ عِشَارِي (١) |
فإن قال قائل: فإن الله تعالى ذكره إنما أخبر أنه"أهلك قرًى"، فما في خبره عن إهلاكه"القرى" من الدليل على إهلاكه أهلها؟
قيل: إن"القرى" لا تسمى"قرى" ولا"القرية""قرية"، إلا وفيها مساكن لأهلها وسكان منهم، ففي إهلاكها إهلاك مَنْ فيها من أهلها.
* * *
وقد كان بعض أهل العربية يرى أن الكلام خرج مخرج الخبر عن"القرية"، والمراد به أهلها.
* * *
قال أبو جعفر: والذي قلنا في ذلك أولى بالحق، لموافقته ظاهر التنزيل المتلوّ.
* * *
فإن قال قائل: وكيف قيل: (وكم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا بياتًا أو هم قائلون) ؟ وهل هلكت قرية إلا بمجيء بأس الله وحلول نقمته وسَخَطه بها؟ فكيف قيل: "أهلكناها فجاءها"؟ وإن كان مجيء بأس الله إياها بعد هلاكها، فما وجه مجيء ذلك قومًا قد هلكوا وبادوا، ولا يشعرون بما ينزل بهم ولا بمساكنهم؟
قيل: إن لذلك من التأويل وجهين، كلاهما صحيح واضح منهجه:
أحدهما: أن يكون معناه:"وكم من قرية أهلكناها"، بخذلاننا إياها عن اتباع ما أنزلنا إليها من البينات والهدى، واختيارها اتباع أمر أوليائها المُغْوِيتِهَا عن طاعة ربها (٢) = "فجاءها بأسنا" إذ فعلت ذلك ="بياتا أو هم قائلون"، فيكون"إهلاك الله إياها"، خذلانه لها عن طاعته، ويكون"مجيء بأس الله إياهم"، جزاء لمعصيتهم ربهم بخذلانه إياهم.
(٢) في المطبوعة: ((المغويها))، وأثبت ما في المخطوطة.
وإذا كان ذلك كذلك، كان سواء عند العرب، بُدئ بالإهلاك ثم عطف عليه بالبأس، أو بدئ بالبأس ثم عطف عليه بالإهلاك. وذلك كقولهم:"زرتني فأكرمتني"، إذ كانت "الزيارة" هي"الكرامة"، فسواء عندهم قدم"الزيارة" وأخر"الكرامة"، أو قدم"الكرامة" وأخر"الزيارة" فقال:"أكرمتني فزرتني". (١)
* * *
وكان بعض أهل العربية يزعم أن في الكلام محذوفًا، لولا ذلك لم يكن الكلام صحيحًا = وأن معنى ذلك: وكم من قرية أهلكناها، فكان مجيء بأسنا إياها قبل إهلاكنا. (٢) وهذا قول لا دلالة على صحته من ظاهر التنزيل، ولا من خبر يجب التسليم له. وإذا خلا القولُ من دلالة على صحته من بعض الوجوه التي يجبُ التسليم لها، كان بيّنًا فساده.
* * *
وقال آخر منهم أيضًا: معنى"الفاء" في هذا الموضع معنى"الواو". وقال: تأويل الكلام: وكم من قرية أهلكناها، وجاءها بأسنا بياتًا. وهذا قول لا معنى له، إذ كان لـ"الفاء" عند العرب من الحكم ما ليس للواو في الكلام، فصرفها إلى الأغلب من معناها عندهم، ما وجد إلى ذلك سبيل، أولى من صرفها إلى غيره.
* * *
فإن قال: وكيف قيل: (فجاءها بأسنا بياتًا أو هم قائلون)، وقد علمت أن الأغلب من شأن"أو" في الكلام، اجتلابُ الشك، وغير جائز أن يكون في خبر الله شك؟
(٢) هذه مقالة الفراء في معاني القرآن ١: ٣٧١، قال: ((وإن شئت كان المعنى: وكم من قرية أهلكناها، فكان مجيء البأس قبل الإهلاك، فأضمرت كان.)).
وقيل:"فجاءها بأسنا" خبرًا عن"القرية" أن البأس أتاها، وأجرى الكلام على ما ابتدئ به في أول الآية. ولو قيل:"فجاءهم بأسنا بياتًا"، لكان صحيحًا فصيحًا، ردًّا للكلام إلى معناه، إذ كان البأس إنما قصد به سكان القرية دون بنيانها، وإن كان قد نال بنيانها ومساكنها من البأس بالخراب، نحوٌ من الذي نال سكانها. وقد رجع في قوله: (أو هم قائلون)، إلى خصوص الخبر عن سكانها دون مساكنها، لما وصفنا من أن المقصود بالبأس كان السكان، وإن كان في هلاكهم هلاك مساكنهم وخرابها. (٢)
ولو قيل:"أو هي قائلة"، كان صحيحًا، إذ كان السامعون قد فهموا المراد من الكلام.
* * *
فإن قال قائل: أو ليس قوله: (أو هم قائلون)، خبرًا عن الوقت الذي أتاهم فيه بأس الله من النهار؟
قيل: بلى!
(٢) انظر معاني القرآن للفراء ١: ٣٧١.
قيل: إن ذلك، وإن كان كذلك، فإنهم قد يحذفون من مثل هذا الموضع، استثقالا للجمع بين حرفي عطف، إذ كان"أو" عندهم من حروف العطف، (١) وكذلك"الواو"، فيقولون:"لقيتني مملقًا أو أنا مسافر"، بمعنى: أو وأنا مسافر، فيحذفون"الواو" وهم مريدوها في الكلام، لما وصفت. (٢)
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (٥) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فلم يكن دعوى أهل القرية التي أهلكناها، إذ جاءهم بأسنا وسطوتُنا بياتًا أو هم قائلون، إلا اعترافهم على أنفسهم بأنهم كانوا إلى أنفسهم مسيئين، وبربهم آثمين، ولأمره ونهيه مخالفين. (٣)
* * *
وعنى بقوله جل ثناؤه: (دعواهم)، في هذا الموضع دعاءَهم.
* * *
ولـ"الدعوى"، في كلام العرب، وجهان: أحدهما: الدعاء، والآخر: الادعاء للحق.
ومن"الدعوى" التي معناها الدعاء، قول الله تبارك وتعالى: (فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ) [سورة الأنبياء: ١٥]، ومنه قول الشاعر: (٤)
(٢) انظر معاني القرآن للفراء ١: ٣٧٢.
(٣) انظر بيان قول ((بربهم آثمين)) فيما سلف ص: ١٧١، تعليق: ١، والمراجع هناك.
(٤) كثير عزة.
وَإِنْ مَذِلَتْ رِجْلِي دَعَوْتُكِ أَشْتَفِي | بِدَعْوَاكِ مِنْ مَذْلٍ بِهَا فَيَهُونُ (١) |
وقد بينا فيما مضى قبل أن"البأس" و"البأساء" الشدة، بشواهد ذلك الدالة على صحته، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (٢)
* * *
وفي هذه الآية الدلالةُ الواضحة على صحة ما جاءت به الرواية عن رسول الله ﷺ من قوله:"ما هلك قوم حتى يُعْذِروا من أنفسهم".
* * *
وقد تأوّل ذلك كذلك بعضهم.
١٤٣٢٣- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن أبي سنان، عن عبد الملك بن ميسرة الزرَّاد قال، قال عبد الله بن مسعود: قال رسول الله: ما هلك قوم حتى يُعْذِروا من أنفسهم - قال قلت لعبد الملك: كيف يكون ذلك؟ قال: فقرأ هذه الآية: (فما كان دعواهم إذ جاءهم بأسنا)، الآية (٣).
* * *
فإن قال قائل: وكيف قيل: (فما كان دعواهم إذ جاءهم بأسنا إلا أن قالوا إنا كنا ظالمين) ؟ وكيف أمكنتهم الدعوى بذلك، وقد جاءهم بأس الله بالهلاك؟ أقالوا ذلك قبل الهلاك؟ فإن كانوا قالوه قبل الهلاك، فإنهم قالوا قبل
((مذلت رجله (بفتح وسكون) ومذلا (بفتحتين) : خدرت، كانوا يزعمون أن المرء إذا خدرت رجله ثم دعا باسم مَنْ أحب، زال خدرها.
(٢) انظر تفسير ((البأس)) فيما سلف ص: ٢٩٩، تعليق: ٣، والمراجع هناك.
(٣) الأثر: ١٤٣٢٣ - ((عبد الملك بن ميسرة الهلالي الزراد))، ثقة، روى له الجماعة، مضى برقم: ٥٠٣، ٥٠٤، ١٣٢٦، مات في العشر الثاني من المئة الثانية. لم يدرك ابن مسعود ولا غيره من الصحابة. فإسناده منقطع.
وهذا الخبر ذكره ابن كثير في تفسيره ٣: ٤٤٨، عن الطبري ولم يخرجه. وخرجه السيوطي في الدر المنثور ٣: ٦٧، ولم ينسبه إلى غير ابن أبي حاتم.
((أعذر من نفسه))، إذا أمكن معاقبة بذنبه منها. يعني: أنهم لا يهلكون حتى تكثر ذنوبهم وعيوبهم، فيعذروا من أنفسهم، ويستوجبوا العقوبة، ويكون لمن يعذبهم عذر في إلحاق العذاب بهم.
قيل: ليس كل الأمم كان هلاكها في لحظة ليس بين أوّله وآخره مَهَلٌ، بل كان منهم من غرق بالطوفان. فكان بين أوّل ظهور السبب الذي علموا أنهم به هالكون، وبين آخره الذي عمَّ جميعهم هلاكُه، المدة التي لا خفاء بها على ذي عقل. ومنهم من مُتِّع بالحياة بعد ظهور علامة الهلاك لأعينهم أيامًا ثلاثة، كقوم صالح وأشباههم. فحينئذ لما عاينوا أوائل بأس الله الذي كانت رسل الله تتوعدهم به، وأيقنوا حقيقة نزول سطوة الله بهم، دعوا: (يا ويلنا إنا كنا ظالمين)، فلم يك ينفعهم إيمانهم مع مجيء وعيد الله وحلول نقمته بساحتهم. فحذّر ربنا جل ثناؤه الذين أرسل إليهم نبيه محمدًا ﷺ من سطوته وعقابه على كفرهم به وتكذيبهم رسوله، ما حلَّ بمن كان قبلهم من الأمم إذ عصوا رُسله، واتبعوا أمر كل جبار عنيد.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (٦) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: لنسألن الأمم الذين أرسلت إليهم رسلي: ماذا عملت فيما جاءتهم به الرسل من عندي من أمري ونهيي؟ هل عملوا بما أمرتهم به، وانتهوا عما نهيتهم عنه، وأطاعوا أمري، أم عصوني فخالفوا ذلك؟ = (ولنسألن
* * *
وكذلك كان أهل التأويل يتأولونه.
* ذكر من قال ذلك:
١٤٣٢٤- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: (فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين)، قال: يسأل الله الناس عما أجابوا المرسلين، ويسأل المرسلين عما بلغوا.
١٤٣٢٥- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: (فلنسألن الذين أرسل إليهم) إلى قوله: (غائبين)، قال: يوضع الكتاب يوم القيامة، فيتكلم بما كانوا يعملون.
١٤٣٢٦- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (فلنسألنّ الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين)، يقول فلنسألن الأمم: ما عملوا فيما جاءت به الرسل؟ ولنسألن الرسل: هل بلغوا ما أرسلوا به؟
١٤٣٢٧- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا أبو سعد المدني قال، قال مجاهد: (فلنسألن الذين أرسل إليهم)، الأمم = ولنسألن الذين أرسلنا إليهم عما ائتمناهم عليه: هل بلغوا؟ (١)
* * *
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فلنخبرن الرسل ومَنْ أرسلتهم إليه بيقين علمٍ بما عملوا في الدنيا فيما كنت أمرتهم به، وما كنت نهيتهم عنه (١) ="وما كنا غائبين"، عنهم وعن أفعالهم التي كانوا يفعلونها.
* * *
فإن قال قائل: وكيف يسأل الرسلَ، والمرسل إليهم، وهو يخبر أنه يقصّ عليهم بعلم بأعمالهم وأفعالهم في ذلك؟
قيل: إن ذلك منه تعالى ذكره ليس بمسألة استرشاد، ولا مسألة تعرّف منهم ما هو به غير عالم، وإنما هو مسألة توبيخ وتقرير معناها الخبر، كما يقول الرجل للرجل:"ألم أحسن إليك فأسأت؟ "، و"ألم أصلك فقطعت؟ ". فكذلك مسألة الله المرسلَ إليهم، بأن يقول لهم:"ألم يأتكم رسلي بالبينات؟ ألم أبعث إليكم النذر فتنذركم عذابي وعقابي في هذا اليوم من كفر بي وعبد غيري"؟ كما أخبر جل ثناؤه أنه قائل لهم يومئذ: (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ)،
[سورة يس: ٦٠-٦١]، ونحو ذلك من القول الذي ظاهره ظاهر مسألة، ومعناه الخبر والقصص، وهو بعدُ توبيخ وتقرير.
وأما مسألة الرسل الذي هو قصص وخبر، فإن الأمم المشركة لما سئلت في القيامة قيل لها: (ألم يأتكم رُسل منكم يتلون عليكم آيات ربكم) ؟ أنكر ذلك كثير منهم وقالوا:"ما جاءنا من بشير ولا نذير". فقيل للرسل:"هل بلغتم ما أرسلتم به"؟ أو قيل لهم:"ألم تبلغوا إلى هؤلاء ما أرسلتم به؟ "، كما جاء الخبر
فأما الذي هو عن الله منفيٌّ من مسألته خلقه، فالمسألة التي هي مسألة استرشاد واستثبات فيما لا يعلمه السائل عنها ويعلمه المسؤول، ليعلم السائل علم ذلك من قِبَله، فذلك غير جائز أن يوصف الله به، لأنه العالم بالأشياء قبل كونها وفي حال كونها وبعد كونها، وهي المسألة التي نفاها جل ثناؤه عن نفسه بقوله: (فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ)، [سورة الرحمن: ٣٩]، وبقوله: (وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ)، [سورة القصص: ٧٨]، يعني: لا يسأل عن ذلك أحدًا منهم مستثبت، (١) ليعلم علم ذلك من قبل مَنْ سأل منه، لأنه العالم بذلك كله وبكل شيء غيره.
* * *
وقد ذكرنا ما روي في معنى ذلك من الخبر في غير هذا الموضع، فكرهنا إعادته. (٢)
* * *
وقد روي عن ابن عباس أنه كان يقول في معنى قوله: (فلنقصن عليهم بعلم)، أنه ينطق لهم كتاب عملهم عليهم بأعمالهم.
هذا قولٌ غيرُ بعيد من الحق، غير أن الصحيح من الخبر عن رسول الله ﷺ أنه قال: ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه يوم القيامة ليس بينه وبينه تَرْجُمان، فيقول له:"أتذكر يوم فعلت كذا وفعلت كذا"؟ حتى
(٢) انظر ما سلف ٣: ١٤٥ - ١٥٤.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٨) ﴾
قال أبو جعفر:"الوزن" مصدر من قول القائل:"وزنت كذا وكذا أزِنه وَزْنًا وزِنَةً"، مثل:"وَعدته أعده وعدًا وعدة".
وهو مرفوع بـ"الحق"، و"الحق" به. (٢)
* * *
ومعنى الكلام: والوزن يوم نسأل الذين أرسل إليهم والمرسلين، الحق = ويعني بـ"الحق"، العدلَ.
* * *
وكان مجاهد يقول:"الوزن"، في هذا الموضع، القضاء.
١٤٣٢٨- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"والوزن يومئذ"، القضاء.
* * *
وأما الأخبار بمعنى هذا الخبر، فقد جاءت بالأسانيد الصحاح. رواه الترمذي بهذا اللفظ في أبواب صفة القيامة، من حديث عدي بن حاتم، وقال: ((هذا حديث حسن صحيح)).
(٢) انظر معاني القرآن للفراء ١: ٣٧٣.
* ذكر الرواية بذلك:
١٤٣٢٩- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير، عن الأعمش، عن مجاهد: (والوزن يومئذ الحق)، قال: العدل.
* * *
وقال آخرون: معنى قوله: (والوزن يومئذ الحق)، وزن الأعمال.
* ذكر من قال ذلك:
١٤٣٣٠- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي، قوله: (والوزن يومئذ الحق)، توزن الأعمال.
١٤٣٣١- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: (والوزن يومئذ الحق)، قال: قال عبيد بن عمير: يؤتى بالرجل العظيم الطويل الأكول الشَّروب، فلا يزن جناح بَعُوضة.
١٤٣٣٢- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (والوزن يومئذ الحق)، قال: قال عبيد بن عمير: يؤتى بالرجل الطويل العظيم فلا يزن جناح بعوضة.
١٤٣٣٣- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا يوسف بن صهيب، عن موسى، عن بلال بن يحيى، عن حذيفة قال: صاحب الموازين يوم القيامة جبريل عليه السلام، قال: يا جبريل، زِن بينهم! فردَّ من بعضٍ على بعض. قال: وليس ثم ذهبٌ ولا فضة. قال: فإن كان للظالم حسنات، أخذ من حسناته فترد على المظلوم، (١) وإن لم يكن له حسنات حُمِل عليه من
* * *
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله: (فمن ثقلت موازينه).
فقال بعضهم: معناه: فمن كثرت حسناته.
* ذكر من قال ذلك:
١٤٣٣٤- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير، عن الأعمش، عن مجاهد: (فمن ثقلت موازينه)، قال: حسناته.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: فمن ثقلت موازينه التي توزن بها حسناته وسيئاته. قالوا: وذلك هو"الميزان" الذي يعرفه الناس، له لسان وكِفَّتان.
* ذكر من قال ذلك:
١٤٣٣٥- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج، قال لي عمرو بن دينار قوله: (والوزن يومئذ الحق)، قال: إنا نرى ميزانًا وكفتين، سمعت عبيد بن عمير يقول: يُجْعَل الرجل العظيم الطويل في الميزان، ثم لا يقوم بجناح ذباب.
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي، القول الذي ذكرناه عن عمرو بن دينار، من أن ذلك هو"الميزان" المعروف الذي يوزن به،
و ((عبد العزيز))، هو ((عبد العزيز بن أبان الأموي))، كذاب خبيث يضع الأحاديث، مضى ذكره مرارًا، رقم: ١٠٢٩٥، ١٠٣١٥، ١٠٣٦٠، ١٠٥٥٣.
((يوسف بن صهيب الكندي))، ثقة. مترجم في التهذيب، والكبير ٤ /٢ /٣٨٠، وابن أبي حاتم ٤ /٢ /٢٢٤. و ((موسى)) كثير، ولم أستطع أن أعينه.
و ((بلال بن يحي العبسي))، يروي عن حذيفة. ثقة، مترجم في التهذيب، والكبير ١ /٢ /١٠٨، وابن أبي حاتم ١ /١ / ٣٩٦.
* * *
فإن أنكر ذلك جاهل بتوجيه معنى خبر الله عن الميزان وخبر رسوله ﷺ عنه، وِجْهَته، وقال: أوَ بالله حاجة إلى وزن الأشياء، وهو العالم بمقدار كل شيء قبل خلقه إياه وبعده، وفي كل حال؟ = أو قال: وكيف توزن الأعمال، والأعمال ليست بأجسام توصف بالثقل والخفة، وإنما توزن الأشياء ليعرف ثقلها من خفتها، وكثرتها من قلتها، وذلك لا يجوز إلا على الأشياء التي توصف بالثقل والخفة، والكثرة والقلة؟
قيل له في قوله:"وما وجه وزن الله الأعمالَ، وهو العالم بمقاديرها قبل كونها": وزن ذلك، نظيرُ إثباته إياه في أمِّ الكتاب واستنساخه ذلك في الكتب، من غير حاجة به إليه، ومن غير خوف من نسيانه، وهو العالم بكل ذلك في كل حال ووقت قبل كونه وبعد وجوده، بل ليكون ذلك حجة على خلقه، كما قال جل ثناؤه في تنزيله: (كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ. هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ) [سورة الجاثية: ٢٨-٢٩] الآية. فكذلك
(٢) روى الترمذي في سننه في كتاب ((البر والصلة)) باب ((ما جاء في حسن الخلق))، عن أبي الدرداء، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ما من شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من خلق خسن، فإن الله تعالى يبغض الفاحش البذيء))، ثم قال: ((وفي الباب عن عائشة، وأبي هريرة، وأنس، وأسامة بن شريك. هذا حديث حسن صحيح)). وقال السيوطي في الدر المنثور ٣: ٧١ ((وأخرجه أبو داود والترمذي وصححه وابن حبان واللالكائي، عن أبي الدرداء)).
* * *
وأمّا وجه جواز ذلك، فإنه كما:
١٤٣٣٦- حدثني موسى بن عبد الرحمن المسروقي قال، حدثنا جعفر بن عون قال، حدثنا عبد الرحمن بن زياد الإفريقي، عن عبد الله بن يزيد، عن عبد الله بن عمرو، قال: يُؤْتى بالرجل يوم القيامة إلى الميزان، فيوضع في الكِفّة، فيخرج له تسعة وتسعون سِجِلا فيها خطاياه وذنوبه. قال: ثم يخرج له كتاب مثل الأنْمُلة، فيها شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم. قال: فتوضع في الكِفّة، فترجح بخطاياه وذنوبه. (٢)
* * *
(٢) الأثر: ١٤٣٣٦ - ((موسى بن عبد الرحمن المسروق)) شيخ أبي جعفر، مضى مرارًا، آخرها رقم: ٨٩٠٦.
و ((جعفر بن عون بن عمرو بن حريث المخزومي))، ثقة، مضى برقم: ٩٥٠٦، ١٤٢٤٤.
و ((عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الإفريقي المعافري))، هو ((ابن أنعم))، ثقة. مضى برقم: ٢١٩٥، ١٠١٨٠، ١١٣٣٧.
و ((عبد الله بن يزيد المعافري)) أبو عبد الرحمن الحبلي المصري، ثقة، مضى برقم: ٦٦٥٧، ٩٤٨٣، ١١٩١٧.
وكان في المطبوعة: ((عن عبد الله بن عمر))، وهو خطأ، صوابه من المخطوطة. وهذا خبر صحيح الإسناد.
ورواه أحمد في مسنده بغير هذا اللفظ مطولا، في مسند عبد الله بن عمرو رقم: ٦٩٩٤ من طريق الليث بن سعد، عن عامر بن يحيى، عن أبي عبد الرحمن الحبلى = ثم رواه أيضًا رقم: ٧٠٦٦ من طريق ابن لهيعة، عن عمرو بن يحيى (عامر بن يحيى)، عن أبي عبد الرحمن الحبلى. ورواه من الطريق الأولي عند أحمد ابن ماجه في سننه ص: ١٤٣٧.
ورواه الحاكم في المستدرك ١: ٦ من طريق يونس بن محمد، عن الليث بن سعد، عن عامر بن يحيى، عن أبي عبد الرحمن المعافري وقال: ((هذا حديث صحيح، لم يخرج في الصحيحين، وهو صحيح على شرط مسلم))، ووافقه الذهبي. ثم عاد فرواه في المستدرك أيضًا ١: ٥٢٩ من طريق يحيى بن عبد الله بن بكير، عن الليث، مثل إسناده وقال: ((هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه)) ووافقه الذهبي.
ويُسأل مَن أنكر ذلك فيقال له: إن الله أخبرنا تعالى ذكره أنه يثقل موازين قوم في القيامة، ويخفف موازين آخرين، وتظاهرت الأخبار عن رسول الله ﷺ بتحقيق ذلك، فما الذي أوجب لك إنكار الميزان أن يكون هو الميزان الذي وصفنا صفته، الذي يتعارفه الناس؟ أحجة عقل تُبْعِد أن يُنال وجه صحته من جهة العقل؟ (١) وليس في وزن الله جل ثناؤه خلقَه وكتبَ أعمالهم لتعريفهم أثقل القسمين منها بالميزان، خروجٌ من حكمة، ولا دخول في جور في قضية، فما الذي أحال ذلك عندك من حجةِ عقلٍ أو خبر؟ (٢) إذ كان لا سبيل إلى حقيقة القول بإفساد ما لا يدفعه العقل إلا من أحد الوجهين اللذين ذكرتُ، ولا سبيل إلى ذلك. وفي عدم البرهان على صحة دعواه من هذين الوجهين، وضوحُ فساد قوله، وصحة ما قاله أهل الحق في ذلك.
وليس هذا الموضع من مواضع الإكثار في هذا المعنى على من أنكر الميزان الذي وصفنا صفته، إذ كان قصدُنا في هذا الكتاب: البيانَ عن تأويل القرآن دون غيره. ولولا ذلك لقرنَّا إلى ما ذكرنا نظائره، وفي الذي ذكرنا من ذلك كفاية لمن وُفِّق لفهمه إن شاء الله.
(٢) في المطبوعة: ((فما الذي أحال عندك من حجة أعقل أو خبر))، وهو فاسد، وفي المخطوطة: ((... من حجة أو عقل أو خبر))، بزيادة ((أو))، وبحذفها يستقيم الكلام.
قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه: ومن خفت موازين أعماله الصالحة، فلم تثقل بإقراره بتوحيد الله، والإيمان به وبرسوله، واتباع أمره ونهيه، فأولئك الذين غَبَنوا أنفسهم حظوظها من جزيل ثواب الله وكرامته (١) = (بما كانوا بآياتنا يظلمون)، يقول: بما كانوا بحجج الله وأدلته يجحدون، فلا يقرّون بصحتها، ولا يوقنون بحقيقتها، (٢) كالذي:-
١٤٣٣٧- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير، عن الأعمش، عن مجاهد: (ومن خفت موازينه)، قال: حسناته.
* * *
وقيل:"فأولئك"، و"من" في لفظ الواحد، لأن معناه الجمع. ولو جاء موحَدًا كان صوابًا فصيحًا. (٣)
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلا مَا تَشْكُرُونَ (١٠) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ولقد وطَّأْنا لكم، أيها الناس، في الأرض، (٤) وجعلناها لكم قرارًا تستقرُّون فيها، ومهادًا تمتهدونها، وفراشًا تفترشونها (٥) = (
(٢) انظر تفسير ((الظلم)) فيما سلف من فهارس اللغة (ظلم).
(٣) انظر معاني القرآن للفراء ١: ٣٧٣.
(٤) في المطبوعة: ((ولقد وطنا لكم أيها الناس))، والصواب من المخطوطة.
(٥) انظر تفسير ((مكن)) فيما سلف ١١: ٢٦٣.
* *
والمعايش: جمع "معيشة".
* * *
واختلفت القرأة في قراءتها.
فقرأ ذلك عامة قرأة الأمصار: (مَعَايِشَ) بغير همز.
* * *
وقرأه عبد الرحمن الأعرج:"مَعَائِشَ" بالهمز.
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القراءة في ذلك عندنا: (مَعَايِشَ) بغير همز، لأنها"مفاعل" من قول القائل"عشتَ تعيش"، فالميم فيها زائدة، والياء في الحكم متحركة، لأن واحدها "مَفْعلة"،"مَعْيشة"، متحركة الياء، نقلت حركة الياء منها إلى"العين" في واحدها. فلما جُمعت، رُدّت حركتها إليها لسكون ما قبلها وتحركها. وكذلك تفعل العرب بالياء والواو إذا سكن ما قبلهما وتحركتا، في نظائر ما وصفنا من الجمع الذي يأتي على مثال "مفاعل"، وذلك مخالف لما جاء من الجمع على مثال"فعائل" التي تكون الياء فيها زائدة ليست بأصل. فإن ما جاء من الجمع على هذا المثال، فالعرب تهمزه، كقولهم:"هذه مدائن" و"صحائف" ونظائرهما، (١) لأن"مدائن" جمع"مدينة"، و"المدينة"،"فعيلة" من قولهم:"مدنت المدينة"، وكذلك،"صحائف" جمع"صحيفة"، و"الصحيفة"،"فعيلة" من قولك:"صحفت الصحيفة"، فالياء في واحدها زائدة ساكنة، فإذا جمعت همزت، لخلافها في الجمع الياء التي كانت في واحدها، وذلك أنها كانت
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (١١) ﴾
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.
فقال بعضهم: تأويل ذلك: (ولقد خلقناكم)، في ظهر آدم، أيها الناس = (ثم صورناكم)، في أرحام النساء. خلقًا مخلوقًا ومثالا ممثلا في صورة آدم.
* ذكر من قال ذلك:
١٤٣٣٩- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: (ولقد خلقناكم ثم صورناكم) الآية، قال: أمّا"خلقناكم"، فآدم. وأمّا"صورناكم"، فذرية آدم من بعده.
١٤٣٤٠- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن أبي جعفر، عن الربيع: (ولقد خلقناكم)، يعني: آدم = (ثم صورناكم)، يعني: في الأرحام.
١٤٣٤١- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرحمن بن سعد قال، أخبرنا أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس في قوله: (ولقد خلقناكم ثم صورناكم)، يقول: خلقناكم خلق آدم، ثم صَوَّرناكم في بطون أمهاتكم.
١٤٣٤٢- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (ولقد خلقناكم ثم صورناكم)، يقول: خلقنا آدم، ثم صورنا الذرية في الأرحام.
١٤٣٤٣- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (ولقد خلقناكم ثم صورناكم)، قال: خلق الله آدم من طين ="ثم صورناكم"، في بطون أمهاتكم خلقًا من بعد خلق: علقة، ثم مضغة، ثم عظامًا، ثم كسا العظام لحمًا، ثم أنشأناه خلقًا آخر. (١)
١٤٣٤٤- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن
١٤٣٤٥- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عمر بن هارون، عن نصر بن مُشارس، عن الضحاك: (خلقناكم ثم صورناكم)، قال: ذريته. (١)
١٤٣٤٦- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول، أخبرنا عبيد بن سليمان، عن الضحاك، قوله: (ولقد خلقناكم)، يعني آدم = (ثم صورناكم)، يعني: ذريته.
* * *
وقال آخرون: بل معنى ذلك:"ولقد خلقناكم"، في أصلاب آبائكم ="ثم صورناكم"، في بطون أمهاتكم.
* ذكر من قال ذلك:
١٤٣٤٧- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن شريك، عن سماك، عن عكرمة: (ولقد خلقناكم ثم صورناكم)، قال: خلقناكم في أصلاب الرجال، وصوّرناكم في أرحام النساء.
١٤٣٤٨- حدثني المثنى قال، حدثنا الحمانى قال، حدثنا شريك، عن سماك، عن عكرمة، مثله.
١٤٣٤٩- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا مؤمل قال، حدثنا سفيان قال، سمعت الأعمش يقرأ: (ولقد خلقناكم ثم صورناكم)، قال: خلقناكم في أصلاب الرجال، ثم صورناكم في أرحام النساء.
* * *
وقال آخرون: بل معنى ذلك: (خلقناكم)، يعني آدم = (ثم صورناكم)، يعني = في ظهره.
و ((نصر بن مشاري)) أو ((نصر بن مشيرس))، هو ((أبو مصلح الخراساني)) مشهور بكنيته، وكذلك مضى في الأثر رقم: ١٢٣٨٩.
وكان في المطبوعة: ((مشاوش))، وفي المخطوطة: ((مشاوس)) والصواب ما أثبته.
١٤٣٥٠- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله: (ولقد خلقناكم)، قال: آدم = (ثم صورناكم)، قال: في ظهر آدم.
١٤٣٥١- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (ولقد خلقناكم ثم صورناكم)، في ظهر آدم.
١٤٣٥٢- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قوله: (ولقد خلقناكم ثم صورناكم)، قال: صورناكم في ظهر آدم.
١٤٣٥٣- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا أبو سعد المدني قال، سمعت مجاهدًا في قوله: (ولقد خلقناكم ثم صورناكم)، قال: في ظهر آدم، لما تصيرون إليه من الثواب في الآخرة.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك:"ولقد خلقناكم"، في بطون أمهاتكم ="ثم صورناكم"، فيها.
* ذكر من قال ذلك:
١٤٣٥٤- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عمن ذكره قال: (خلقناكم ثم صورناكم)، قال: خلق الله الإنسان في الرحم، ثم صوّره، فشقَّ سمعه وبصره وأصابعه.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال بالصواب قول من قال: تأويله: (ولقد خلقناكم)، ولقد خلقنا آدم = (ثم صورناكم)، بتصويرنا آدم، كما قد بينا
وإنما قلنا هذا القول أولى الأقوال في ذلك بالصواب، لأن الذي يتلو ذلك قوله: (ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم)، ومعلوم أن الله تبارك وتعالى قد أمر الملائكة بالسجود لآدم، قبل أن يصوِّر ذريته في بطون أمهاتهم، بل قبل أن يخلُق أمهاتهم.
و"ثم" في كلام العرب لا تأتي إلا بإيذان انقطاع ما بعدها عما قبلها، (٢) وذلك كقول القائل:"قمت ثم قعدت"، لا يكون"القعود" إذ عطف به بـ"ثم" على قوله:"قمت" إلا بعد القيام، (٣) وكذلك ذلك في جميع الكلام. ولو كان العطف في ذلك بالواو، جاز أن يكون الذي بعدها قد كان قبل الذي قبلها، وذلك كقول القائل:"قمت وقعدت"، فجائز أن يكون"القعود" في هذا الكلام قد كان قبل"القيام"، لأن الواو تدخل في الكلام إذا كانت عطفًا، لتوجب للذي بعدها من المعنى ما وجب للذي قبلها، من غير دلالة منها بنفسها على أن ذلك كان في وقت واحد أو وقتين مختلفين، أو إن كانا في وقتين، أيهما
(٢) انظر القول في ((ثم)) فيما سلف ص: ٢٣٣.
(٣) كان في هذه الجملة في المخطوطة تكرار، ووضع الناسخ في الهامش (كذا)، والصواب ما في المطبوعة.
فإن ظن ظانّ أن العربَ، إذ كانت ربما نطقت بـ"ثم" في موضع"الواو" في ضرورة شعره، كما قال بعضهم:
سَأَلْتُ رَبِيعَةَ: مَنْ خَيْرُهَا... أَبًا ثُمَّ أُمًّا؟ فَقَالَتْ: لِمَهْ؟ (١)
بمعنى: أبًا وأمًّا، فإن ذلك جائز أن يكون نظيره= فإن ذلك بخلاف ما ظن. وذلك أن كتاب الله جل ثناؤه نزل بأفصح لغات العرب، وغير جائز توجيه شيء منه إلى الشاذّ من لغاتها، وله في الأفصح الأشهر معنى مفهومٌ ووجه معروف.
* * *
وقد وجَّه بعض من ضعفت معرفته بكلام العرب ذلك إلى أنه من المؤخر الذي معناه التقديم، وزعم أن معنى ذلك: ولقد خلقناكم، ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم، ثم صورناكم. وذلك غير جائز في كلام العرب، لأنها لا تدخل"ثم" في الكلام وهي مرادٌ بها التقديم على ما قبلها من الخبر، وإن كانوا قد يقدِّمونها في الكلام، (٢) إذا كان فيه دليل على أن معناها التأخير، وذلك كقولهم:"قام ثم عبد الله عمرو"، فأما إذا قيل:"قام عبد الله ثم قعد عمرو"، فغير جائز أن يكون قعود عمرو كان إلا بعد قيام عبد الله، إذا كان الخبر صدقًا، فقول الله تبارك وتعالى: (ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا)، نظير قول القائل:"قام عبد الله ثم قعد عمرو"، في أنه غير جائز أن يكون أمرُ الله الملائكةَ بالسجود لآدم كان إلا بعد الخلق والتصوير، لما وصفنا قبل.
* * *
وأما قوله للملائكة: (اسجدوا لآدم)، فإنه يقول جل ثناؤه: فلما صوّرنا
(٢) في المخطوطة: ((وإن كان يعبر فنرنها في الكلام))، فلم استبن لقراءتها وجهًا أرضاه، فتركت ما في المطبوعة على حاله، لأنه مستقيم المعنى إن شاء الله.
* * *
وقد بينا فيما مضى، المعنى الذي من أجله امتحن جَلّ جلاله ملائكته بالسجود لآدم، وأمْرَ إبليس وقصصه، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (١)
* * *
قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله تعالى ذكره عن قيله لإبليس، إذ عصاه فلم يسجد لآدم إذ أمره بالسجود له. يقول: قال الله لإبليس: = (ما منعك)، أيّ شيء منعك = (ألا تسجد)، أن تدع السجود لآدم = (إذ أمرتك)، أن تسجد ="قال أنا خير منه"، يقول: قال إبليس: أنا خير من آدم ="خلقتني من نار وخلقته من طين".
* * *
فإن قال قائل: أخبرنا عن إبليس، ألحقته الملامة على السجود، أم على ترك السجود؟ فإن تكن لحقته الملامة على ترك السجود، فكيف قيل له: (ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك) ؟ وإن كان النكير على السجود، فذلك خلافُ ما جاء به التنزيل في سائر القرآن، وخلاف ما يعرفه المسلمون!
غير أن في تأويل قوله: (ما منعك أن لا تسجد إذ أمرتك)، بين أهل المعرفة بكلام العرب اختلافًا، أبدأ بذكر ما قالوا، ثم أذكر الذي هو أولى ذلك بالصواب.
فقال بعض نحويي البصرة: معنى ذلك: ما منعك أن تسجد = و"لا" ها هنا زائدة، كما قال الشاعر: (١)
أبَى جُودُهُ لا البُخْلَ، وَاسْتَعْجَلَتْ بِهِ | نَعَمْ، مِنْ فَتًى لا يَمْنَعُ الجُوعَ قَاتِلهْ (٢) |
* * *
وقال بعض نحويي الكوفة نحو القول الذي ذكرناه عن البصريين في معناه وتأويله، غير أنه زعم أن العلة في دخول"لا" في قوله: (أن لا تسجد)، أن في أول الكلام جحدا = يعني بذلك قوله: (لم يكن من الساجدين)، فإن العرب ربما أعادوا في الكلام الذي فيه جحد، الجحدَ، كالاستيثاق والتوكيد له. قال: وذلك كقولهم: (٣)
(٢) اللسان (نعم)، أمالي ابن الشجري ٢: ٢٢٨، ٢٣١، شرح شواهد المغنى ٢١٧، وكان في المخطوطة والمطبوعة: ((لا يمنع الجوع))، كما أثبته، وكذلك ورد عن الفارسي في اللسان. وأما في المراجع الأخرى فروايته: ((لا يمنع الجود)).
(٣) لم يعرف قائله.
مَا إنْ رَأَيْنَا مِثْلَهُنَّ لِمَعْشَرٍ | سُودِ الرُّؤُوسِ، فَوَالِجٌ وَفُيُولُ (١) |
* * *
وقال آخر منهم: ليست"لا"، بحشو في هذا الموضع ولا صلة، (٢) ولكن"المنع" هاهنا بمعنى"القول"، وإنما تأويل الكلام: مَنْ قال لك لا تسجد إذ أمرتك بالسجود = ولكن دخل في الكلام"أن"، إذ كان"المنع" بمعنى"القول"، لا في لفظه، كما يُفعل ذلك في سائر الكلام الذي يضارع القول، وهو له في اللفظ مخالف، كقولهم:"ناديت أن لا تقم"، و"حلفت أن لا تجلس"، وما أشبه ذلك من الكلام. وقال: خفض"البخل" من روى:"أبى جوده لا البخل"، (٣) بمعنى: كلمة البخل، لأن"لا" هي كلمة البخل، فكأنه قال: كلمة البخل.
* * *
وقال بعضهم: معنى"المنع"، الحول بين المرء وما يريده. قال: والممنوع مضطّر به إلى خلاف ما منع منه، كالممنوع من القيام وهو يريده، فهو مضطر من الفعل إلى ما كان خلافًا للقيام، إذ كان المختار للفعل هو الذي له السبيل إليه وإلى خلافه، فيوثر أحدهما على الآخر فيفعله. قال: فلما كانت صفة"المنع" ذلك، فخوطب إبليس بالمنع فقيل له: (ما منعك ألا تسجد)، كان معناه كأنه قيل له: أيّ شيء اضطرك إلى أن لا تسجد؟
* * *
قال أبو جعفر: والصواب عندي من القول في ذلك أن يقال: إن في الكلام محذوفًا قد كفى دليلُ الظاهر منه، وهو أن معناه: ما منعك من السجود
(٢) ((الصلة)) : الزيادة، كما سلف، انظر فهارس المصطلحات.
(٣) في المطبوعة: ((وقال بعض من روى: أبي جود لا البخل))، فغير ما في المخطوطة، وأفسد الكلام إفسادًا.
وإنما قلنا إن هذا القول أولى بالصواب، لما قد مضى من دلالتنا قبل على أنه غير جائز أن يكون في كتاب الله شيء لا معنى له، وأن لكل كلمة معنًى صحيحًا، فتبين بذلك فسادُ قول من قال:"لا" في الكلام حشو لا معنى لها.
وأما قول من قال: معنى"المنع" ههنا"القول"، فلذلك دخلت"لا" مع"أن" = فإن"المنعَ" وإن كان قد يكون قولا وفعلا فليس المعروف في الناس استعمالُ"المنع"، في الأمر بترك الشيء، لأن المأمور بترك الفعل إذا كان قادرًا على فعله وتركه ففعله، لا يقال:"فعله"، وهو ممنوع من فعله، إلا على استكراه للكلام. وذلك أن المنع من الفعل حَوْلٌ بينه وبينه، فغير جائز أن يكون وهو مَحُولٌ بينه وبينه فاعلا له، لأنه إن جاز ذلك، وجب أن يكون مَحُولا بينه وبينه لا محولا وممنوعًا لا ممنوعًا. (٢)
وبعدُ، فإن إبليس لم يأتمر لأمر الله تعالى ذكره بالسجود لآدم كبرًا، فكيف كان يأتمر لغيره في ترك أمر الله وطاعته بترك السجود لآدم، فيجوز أن يقال له:"أي شيء قال لك: لا تسجد لآدم إذ أمرتك بالسجود له؟ ولكن معناه إن شاء الله ما قلت: "ما منعك من السجود له فأحوجك، أو: فأخرجك، أو: فاضطرك إلى أن لا تسجد له"، على ما بيَّنت.
* * *
وأما قوله: (أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين)، فإنه خبرٌ من الله جل ثناؤه عن جواب إبليس إياه إذ سأله: ما الذي منعه من السجود لآدم،
(٢) يعني أنه يجمع الصفتين معًا ((محول بينه وبينه، وغير محول = وممنوع، وغير ممنوع))، وهو تناقض.
١٤٣٥٥- حدثني عمرو بن مالك قال، حدثنا يحيى بن سليم الطائفي، عن هشام، عن ابن سيرين قال: أوّل من قاس إبليس، وما عُبِدت الشمس والقمر إلا بالمقاييس. (٥)
١٤٣٥٦- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا محمد بن كثير، عن ابن شوذب، عن مطر الورّاق، عن الحسن قوله: (خلقتني من نار وخلقته من طين)، قال: قاس إبليس وهو أول من قاس.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
١٤٣٥٧- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد قال، حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك عن ابن عباس قال: لما خلق الله آدم قال للملائكة الذين كانوا مع إبليس خاصة، دون الملائكة الذين في السموات:"اسجدوا لآدم"، فسجدوا كلهم أجمعون إلا إبليس استكبر، لما كان حدَّث نفسه، من كبره واغتراره، فقال:"لا أسجد له، وأنا خير منه، وأكبر سنًّا، وأقوى خلقًا، خلقتني من نار وخلقته من طين! " يقول: إنّ النار أقوى من الطين.
١٤٣٥٨- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قوله: (خلقتني من نار)، قال: ثم جعل ذريته من ماء.
* * *
(٢) في المطبوعة: ((من الذي خلق منه آدم))، زاد ((من))، والمخطوطة سقط منها حرف الجر المتعلق بفضل الجنس، والصواب ما أُبت.
(٣) في المطبوعة: ((وذلك الذي في جوهره... )) حذف ((هو))، وفي المخطوطة: ((وذلك الذي هو من جوهره من ذلك))، وصوابها ((في جوهره))، وإنما هو خطأ من الناسخ.
(٤) في المطبوعة: ((بأنه خلقه من نار))، واليد ما في المخطوطة.
(٥) الأثر: ١٤٣٥٥ - ((عمرو بن مالك الراسبي الغبري))، أبو عثمان البصري، شيخ الطبري. قال ابن عدي: ((منكر الحديث عن الثقات، ويسرق الحديث))، وقال ابن أبي حاتم: ((ترك أبي التحديث عنه)). مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم ٣ /١ / ٢٥٩.
و ((يحيى بن سليم الطائفي))، ثقة، روى له الجماعة، مضى برقم: ٤٨٩٤، ٧٨٣١.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (١٣) ﴾
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: قال الله لإبليس عند ذلك: (فاهبط منها).
وقد بيَّنا معنى"الهبوط" فيما مضى قبل، بما أغنى عن إعادته. (٢)
* * *
= (فما يكون لك أن تتكبر فيها)، يقول تعالى ذكره: فقال الله له:"اهبط منها"، يعني: من الجنة ="فما يكون لك"، يقول: فليس لك أن تستكبر في الجنة عن طاعتي وأمري.
* * *
فإن قال قائل: هل لأحد أن يتكبر في الجنة؟ قيل: إن معنى ذلك بخلاف ما إليه ذهبتَ، وإنما معنى ذلك: فاهبط من الجنة، فإنه لا يسكن الجنة متكبر عن أمر الله، فأما غيرها، فإنه قد يسكنها المستكبر عن أمر الله، والمستكين لطاعته.
* * *
(٢) انظر تفسير ((الهبوط)) فيما سلف ١: ٥٣٤، ٥٤٨ /٢: ١٣٢، ٢٣٩.
* * *
يقال منه:"صَغِرَ يَصْغَرُ صَغَرًا وصَغارًا وصُغْرَانًا"، وقد قيل:"صغُرَ يَصْغُرُ صَغارًا وصَغارَة". (١)
* * *
وبنحو ذلك قال السدي. (٢)
١٤٣٥٩- حدثنا موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (فاخرج إنك من الصاغرين)، و"الصغار"، هو الذل.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١٤) قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (١٥) ﴾
قال أبو جعفر: وهذه أيضًا جَهْلة أخرى من جَهَلاته الخبيثة. سأل ربه ما قد علم أنه لا سبيل لأحد من خلق الله إليه. وذلك أنه سأل النَّظِرة إلى قيام الساعة، وذلك هو يوم يبعث فيه الخلق. ولو أعطي ما سأل من النَّظِرة، كان قد أعطي الخلودَ وبقاءً لا فناء معه، وذلك أنه لا موت بعد البعث. فقال جل ثناؤه له: (إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ) [سورة الحجر: ٣٧-٣٨ / سورة ص: ٨٠، ٨١]، وذلك إلى اليوم الذي قد كتب الله عليه فيه الهلاك والموت والفناء، لأنه لا شيء يبقى فلا يفنى، غير ربِّنا الحيِّ الذي لا يموت. يقول الله تعالى
(٢) في المطبوعة: ((وبنحو الذي قلنا قال السدي))، وأثبت ما في المخطوطة.
* * *
و"الإنظار" في كلام العرب، التأخير. يقال منه:"أنظرته بحقي عليه أنظره به إنظارًا. (١)
* * *
فإن قال قائل: فإن الله قد قال له إذ سأله الإنظار إلى يوم يبعثون: (إنك من المنظرين) في هذا الموضع، فقد أجابه إلى ما سأل؟
قيل له: ليس الأمر كذلك، وإنما كان مجيبًا له إلى ما سأل لو كان قال له:"إنك من المنظرين إلى الوقت الذي سألت = أو: إلى يوم البعث = أو إلى يوم يبعثون"، أو ما أشبه ذلك، مما يدل على إجابته إلى ما سأل من النظرة. وأما قوله: (إنك من المنظرين)، فلا دليل فيه لولا الآية الأخرى التي قد بيَّن فيها مدة إنظاره إياه إليها، وذلك قوله: (فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ)، [سورة الحجر: ٣٧، ٣٨ / سورة ص: ٨٠، ٨١]، كم المدة التي أنظره إليها، (٢) لأنه إذا أنظره يومًا واحدًا أو أقل منه أو أكثر، فقد دخل في عداد المنظرين، وتمَّ فيه وعد الله الصادق، ولكنه قد بيَّن قدر مدة ذلك بالذي ذكرناه، فعلم بذلك الوقت الذي أُنظِر إليه.
* * *
وبنحو ذلك كان السدي يقول.
١٤٣٦٠- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ. قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ. إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ) [سورة الحجر: ٣٦-٣٨ / سورة ص: ٨٠، ٨١]، فلم ينظره إلى يوم البعث، ولكن أنظره إلى يوم الوقت المعلوم، وهو يوم ينفخ
(٢) في المطبوعة: ((على المدة))، وأثبت ما في المخطوطة.
* * *
قال أبو جعفر: فتأويل الكلام: قال إبليس لربه:"أنظرني"، أي أخّرني وأجّلني، وأنسئْ في أجلي، ولا تمتني ="إلى يوم يبعثون"، يقول: إلى يوم يبعث الخلق. فقال تعالى ذكره: (إنك من المنظرين)، إلى يوم ينفخ في الصور، فيصعق من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله.
* * *
فإن قال قائل: فهل أحَدٌ مُنْظرٌ إلى ذلك اليوم سوى إبليس، فيقال له:"إنك منهم"؟
قيل: نعم، مَنْ لم يقبض الله روحه من خلقه إلى ذلك اليوم، ممن تقوم عليه الساعة، فهم من المنظرين بآجالهم إليه. ولذلك قيل لإبليس: (إنك من المنظرين)، بمعنى: إنك ممن لا يميته الله إلا ذلك اليوم.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (١٦) ﴾
قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه: قال إبليس لربه: (فبما أغويتني)، يقول: فبما أضللتني، كما:-
١٤٣٦١- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: (فبما أغويتني)، يقول: أضللتني.
١٤٣٦٢- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في
* * *
وكان بعضهم يتأول قوله: (فبما أغويتني)، بما أهلكتني، من قولهم:"غَوِيَ الفصيل يَغوَى غَوًى"، وذلك إذا فقد اللبن فمات، من قول الشاعر: (١)
مُعَطَّفَةُ الأَثْنَاءِ لَيْسَ فَصِيلُهَا | بِرَازِئِهَا دَرًّا وَلا مَيِّتٍ غَوَى (٢) |
وأصل الإغواء في كلام العرب: تزيين الرجل للرجل الشيء حتى يحسّنه عنده، غارًّا له. (٣)
وقد حكي عن بعض قبائل طيئ، أنها تقول:"أصبح فلان غاويًا"، أي: أصبح مريضًا. (٤)
* * *
وكان بعضهم يتأوّل ذلك أنه بمعنى القسم، كأن معناه عنده: فبإغوائك إياي، لأقعدن لهم صراطك المستقيم، كما يقال:"بالله لأفعلن كذا".
* * *
وكان بعضهم يتأول ذلك بمعنى المجازاة، كأن معناه عنده: فلأنك أغويتني = أو: فبأنك أغويتني = لأقعدن لهم صراطك المستقيم.
* * *
(٢) المعاني الكبير: ١٠٤٧، المخصص ٧: ٤١، ١٨٠، تهذيب إصلاح المنطق ٢: ٥٤، اللسان (غوى). يصف قوسًا. قال التبريزي في شرحه: ((أثناؤها))، أطرفها المتلئبة. و ((فصيلها))، السهم، و ((رزائها)) أي: أخذ منها شيئًا. يقول: ليس فصيل هذه القوس يشرب إذا فقد اللبن.
(٣) انظر تفسير ((الغي)) و ((الإغواء)) فيما سلف ٥: ٤١٦.
(٤) هذا النص ينبغي إثباته في كتب اللغة، فلم يذكر فيها فيما علمت.
* * *
وكذلك قال محمد بن كعب القرظي، فيما:-
١٤٣٦٣- حدثني موسى بن عبد الرحمن المسروقي قال، حدثنا زيد بن الحباب قال، حدثنا أبو مودود، سمعت محمد بن كعب القرظي يقول: قاتل الله القدريّة، لإبليس أعلمُ بالله منهم!
* * *
وأما قوله: (لأقعدن لهم صراطك المستقيم)، فإنه يقول: لأجلسن لبني آدم"صراطك المستقيم"، يعني: طريقك القويم، وذلك دين الله الحق، وهو الإسلام وشرائعه. (٣) وإنما معنى الكلام: لأصدَّن بني آدم عن عبادتك وطاعتك، ولأغوينهم كما أغويتني، ولأضلنهم كما أضللتني.
وذلك كما روي عن سبرة بن أبي الفاكه:- (٤)
١٤٣٦٤- أنه سمع النبي ﷺ يقول: إن الشيطان قعد لابن آدم
(٢) ((التفويض))، رد الأسباب إليه، وانظر بيان ذلك فيما سلف ١: ١٦٢، تعليق: ٣ /١١: ٣٤٠، /١٢: ٩٢، وهو مقالة المعتزلة وأشباههم.
(٣) انظر تفسير ((الصراط المستقيم))، فيما سلف ص: ٢٨٢، تعليق: ١، والمراجع هناك.
(٤) في المطبوعة: ((سبرة بن الفاكه))، وأثبت ما في المخطوطة، وهو صواب. انظر التعليق التالي ص ٣٣٥، تعليق: ٢:
* * *
وروي عن عون بن عبد الله في ذلك ما:-
١٤٣٦٥- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا حَبّويه أبو يزيد، عن عبد الله بن بكير، عن محمد بن سوقة، عن عون بن عبد الله: (لأقعدن لهم صراطك المستقيم)، قال: طريق مكة. (٤)
* * *
(٢) ((الطول)) (بكسر الطاء وفتح الواو) : وهو الحبل الطويل، يشد أحد طرفيه في وتد أو في غيره، والآخر في يد الفرس، فيدور فيه ويرعى، ولا يذهب لوجهه. ويعني بذلك: أن الهجرة تحبسه عن التصرف والضرب في الأرض، والعودة إلى أرضه وسمائه، والهجرة أمرها شديد كما تعلم.
(٣) الأثر: ١٤٣٦٤ - هذا خبر رواه الأئمة، ذكره أبو جعفر بغير إسناده. و ((سبرة بن أبي الفاكهة))، و ((سبرة بن أبي الفاكهة))، صحابي نزل الكوفة. مترجم في التهذيب، وأسد الغابة ٢: ٢٦٠، والإصابة، في اسمه والكبير للبخاري ٢ /٢ / ١٨٨، وابن أبي حاتم ٢ /١ / ٢٩٥.
وهذا الخبر، رواه أحمد في مسنده مطولا ٣: ٤٨٣، والنسائي ٦: ٢١، ٢٢، والبخاري في التاريخ ٢ /٢ / ١٨٨، ١٨٩، وابن الأثير في أسد الغابة ٢: ٢٦٠، قال الحافظ ابن حجر في الإصابة في ترجمته: ((له حديث عند النسائي، بإسناد حسن، إلا أن في إسناده اختلافًا))، ثم قال: ((وصححه ابن حبان)).
(٤) الأثر: ١٤٣٦٥ - ((حبويه أبو يزيد)) هكذا في المخطوطة، ولكنه غير منقوط، وكان في المطبوعة: ((حيوة أبو يزيد))، تغير بلا دليل.
و ((حبويه))، أبو يزيد، هو: ((إسحاق بن إسماعيل الرازي))، روى عن نافع بن عمر الجمحي، وعمرو بن أبي قيس، ونعيم بن ميسرة. روى عنه محمد بن سعيد الأصفهاني، وعثمان وأبو بكر ابنا شيبة، وإبراهيم بن موسى. قال يحيى بن معين: ((أرجو أن يكون صدوقًا)). مترجم في الجرح والتعديل ١ /١ / ٢١٢، وعبد الغني بن سعيد في المؤتلف والمختلف: ٤٣، ((حبويه)) بالباء المشددة بعد الحاء.
وسيأتي أيضًا في الإسناد رقم: ١٤٥٥٠.
و ((عبد الله بن بكير الغنوي الكوفي))، روى عن ((محمد بن سوقة))، وهو ليس بقوي، وإن كان من أهل الصدق، وذكر له ابن عدي مناكير. مترجم في لسان الميزان، وابن أبي حاتم ٢ /٢ / ١٦، وميزان الاعتدال ٢: ٢٦.
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل في معنى"المستقيم"، في هذا الموضع.
* ذكر من قال ذلك:
١٤٣٦٦- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (صراطك المستقيم)، قال: الحق.
١٤٣٦٧- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
١٤٣٦٨- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا أبو سعد المدني قال، سمعت مجاهدًا يقول: (لأقعدنَّ لهم صراطك المستقيم)، قال: سبيل الحق، فلأضلنَّهم إلا قليلا.
* * *
قال أبو جعفر: واختلف أهل العربية في ذلك.
فقال بعض نحويي البصرة: معناه: لأقعدن لهم على صراطك المستقيم، كما
كَأَنِّي إذْ أَسْعَى لأظْفَرَ طَائِرًا | مَعَ النَّجْمِ مِنْ جَوِّ السَّمَاءِ يَصُوبُ (٢) |
* * *
وقال بعض نحويي الكوفة، المعنى، والله أعلم: لأقعدن لهم على طريقهم، وفي طريقهم. قال: وإلقاء الصفة من هذا جائز، (٣) كما تقول:"قعدت لك وجهَ الطريق" و"على وجه الطريق"، لأن الطريق صفة في المعنى، (٤) فاحتمل ما يحتمله"اليوم" و"الليلة" و"العام"، (٥) إذا قيل:"آتيك غدًا"، و"آتيك في غد".
* * *
قال أبو جعفر: وهذا القول هو أولى القولين في ذلك عندي بالصواب، لأن "القعود" مقتضٍ مكانًا يقعد فيه، فكما يقال:"قعدت في مكانك"، يقال:"قعدت على صراطك"، و"في صراطك"، كما قال الشاعر: (٦)
لَدْنٌ بِهَزِّ الْكَفِّ يَعْسِلُ مَتْنُهُ | فِيهِ، كَمَا عَسَلَ الطَّرِيقَ الثَّعْلَبُ (٧) |
(٢) لم أجد البيت في غير هذا المكان.
(٣) ((الصفة)) هنا حرف الجر، انظر فهارس المصطلحات فيما سلف، ستأتي بعد قليل بمعنى ((الظرف)). انظر التعليق التالي.
(٤) ((الصفة)) هنا، هي ((الظرف))، وكذلك يسميه الكوفيون.
(٥) في المطبوعة: ((يحتمل ما يحتمله))، وفي المخطوطة سقط، كتب: ((في المعنى ما يحتمله)) ولكني أثبت ما في معاني القرآن للفراء ١: ٣٧٥، فهذا نص كلامه.
(٦) هو ساعدة بن جؤية الهذلي.
(٧) ديوان الهذليين ١: ١٩٠، سيبويه ١: ١٦، ١٠٩، الخزانة ١: ٤٧٤، وغيرها كثير من قصيدة طويلة، وصف في آخرها رمحه، وهذا البيت في صفة رمح من الرماح الخطية. ورواية الديوان ((لذا))، أي تلذ الكف بهزه. و ((يعسل))، أي يضطرب. وقوله. ((فيه)) : أي في الهز. وقوله: ((عسل الطريق الثعلب))، أي: عسل في الطريق الثعلب واضطربت مشيته. شبه اهتزاز الرمح في يد الذي يهزه ليضرب به، باهتزاز الثعلب في عدوه في الطريق.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (١٧) ﴾
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.
فقال بعضهم: معنى قوله: (لآتينهم من بين أيديهم)، من قبل الآخرة = (ومن خلفهم)، من قبل الدنيا = (وعن أيمانهم)، من قِبَل الحق = (وعن شمائلهم)، من قبل الباطل.
* ذكر من قال ذلك:
١٤٣٦٩- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: (ثم لآتينهم من بين أيديهم)، يقول: أشككهم في آخرتهم = (ومن خلفهم)، أرغبهم في دنياهم = (وعن أيمانهم)، أشبِّه عليهم أمرَ دينهم = (وعن شمائلهم)، أشَهِّي لهم المعاصي.
* * *
وقد روي عن ابن عباس بهذا الإسناد في تأويل ذلك خلاف هذا التأويل، وذلك ما:-
١٤٣٧٠- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: (ثم لآتينهم من بين أيديهم)،
* * *
وتحقق هذه الرواية، الأخرى التي:
١٤٣٧١- حدثني بها محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: (ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم)، قال: أما بين "أيديهم"، فمن قبلهم، وأما"من خلفهم"، فأمر آخرتهم، وأما"عن أيمانهم"، فمن قبل حسناتهم، وأما"عن شمائلهم"، فمن قبل سيئاتهم.
١٤٣٧٢- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (ثم لآتينهم من بين أيديهم) الآية، أتاهم من بين أيديهم فأخبرهم أنه لا بعث ولا جنة ولا نار="ومن خلفهم"، من أمر الدنيا، فزيَّنها لهم ودعاهم إليها ="وعن أيمانهم"، من قبل حسناتهم بطَّأهم عنها ="وعن شمائلهم"، زين لهم السيئات والمعاصي، ودعاهم إليها، وأمرهم بها. أتاك يابن آدم من كل وجه، غير أنه لم يأتك من فوقك، لم يستطع أن يحول بينك وبين رحمة الله!
* * *
وقال آخرون: بل معنى قوله: (من بين أيديهم)، من قبل دنياهم = (ومن خلفهم)، من قبل آخرتهم.
* ذكر من قال ذلك:
١٤٣٧٣- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا مؤمل قال، حدثنا سفيان، عن منصور، عن إبراهيم في قوله: (ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم)، قال: (من بين أيديهم)، من قبل دنياهم = (ومن خلفهم)، من قبل آخرتهم = (وعن أيمانهم) من قبل حسناتهم = (وعن شمائلهم)، من قبل سيئاتهم.
١٤٣٧٤- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن منصور،
١٤٣٧٥- حدثنا سفيان قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن الحكم: (ثم لآتينهم من بين أيديهم)، قال: من قبل الدنيا يزيِّنها لهم = (ومن خلفهم) من قبل الآخرة يبطّئهم عنها = (وعن أيمانهم)، من قبل الحق يصدّهم عنه = (وعن شمائلهم)، من قبل الباطل يرغّبهم فيه ويزينه لهم.
١٤٣٧٦- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم)، أما (من بين أيديهم)، فالدنيا، أدعوهم إليها وأرغبهم فيها = (ومن خلفهم)، فمن الآخرة أشككهم فيها وأباعدها عليهم (١) = (وعن أيمانهم)، يعني الحق فأشككهم فيه = (وعن شمائلهم)، يعني الباطل أخفّفه عليهم وأرغّبهم فيه.
١٤٣٧٧- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج قوله: (من بين أيديهم)، من دنياهم، أرغّبهم فيها = (ومن خلفهم)، آخرتهم، أكفّرهم بها وأزهِّدهم فيها = (وعن أيمانهم)، حسناتهم أزهدهم فيها = (وعن شمائلهم)، مساوئ أعمالهم، أحسِّنها إليهم.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: من حيث يبصرون ومن حيث لا يبصرون.
* ذكر من قال ذلك:
١٤٣٧٨- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قول الله: (من بين أيديهم وعن
١٤٣٧٩- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
١٤٣٨٠- حدثنا ابن وكيع وابن حميد قالا حدثنا جرير، عن منصور قال، تذاكرنا عند مجاهد قوله: (ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم)، فقال مجاهد: هو كما قال، يأتيهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم = زاد ابن حميد، قال:"يأتيهم من ثَمَّ".
١٤٣٨١- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا أبو سعد المدني قال، قال مجاهد، فذكر نحو حديث محمد بن عمرو، عن أبي عاصم.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب، قولُ من قال: معناه: ثم لآتينهم من جميع وجوه الحقّ والباطل، فأصدّهم عن الحق، وأحسِّن لهم الباطل. وذلك أن ذلك عَقِيب قوله: (لأقعدن لهم صراطك المستقيم)، فاخبر أنه يقعد لبني آدم على الطريق الذي أمرَهم الله أن يسلكوه، وهو ما وصفنا من دين الله دينِ الحق، فيأتيهم في ذلك من كل وجوهه، من الوجه الذي أمرهم الله به، فيصدّهم عنه، وذلك"من بين أيديهم وعن أيمانهم" = ومن الوجه الذي نهاهم الله عنه، فيزيّنه لهم ويدعوهم إليه، وذلك"من خلفهم وعن شمائلهم".
* * *
وقيل: ولم يقل:"من فوقهم"، لأن رحمة الله تنزل على عباده من فوقهم.
* ذكر من قال ذلك:
١٤٣٨٢- حدثنا سعد بن عبد الله بن عبد الحكم المصري قال، حدثنا حفص بن عمر قال، حدثنا الحكم بن أبان، عن عكرمة، عن ابن عباس في قوله: (ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم)، ولم يقل:
* * *
وأما قوله: (ولا تجد أكثرهم شاكرين). فإنه يقول: ولا تجد، ربِّ، أكثر بني آدم شاكرين لك نعمتَك التي أنعمت عليهم، كتكرمتك أباهم آدم بما أكرمته به، من إسجادك له ملائكتك، وتفضيلك إياه عليَّ = و"شكرهم إياه"، طاعتهم له بالإقرار بتوحيده، واتّباع أمره ونهيه.
* * *
وكان ابن عباس يقول في ذلك بما:-
١٤٣٨٣- حدثني به المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: (ولا تجد أكثرهم شاكرين)، يقول: موحِّدين.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا﴾
قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله تعالى ذكره عن إحلاله بالخبيث عدوِّ الله ما أحلّ به من نقمته ولعنته، وطرده إياه عن جنته، إذ عصاه وخالف أمره، وراجعه من الجواب بما لم يكن له مراجعته به. يقول: قال الله له عند ذلك: (اخرج منها)، أي من الجنة = (مذؤُومًا مدحورًا)، يقول: مَعِيبًا.
* * *
و"الذأم"، العيب. يقال منه:"ذأمَه يذأمه ذأمًا فهو مذؤوم"، ويتركون الهمز فيقولون: ذِمْته أذيمه ذيمًا وذامًا"، و"الذأم" و"الذيم"، أبلغ في العيب من"الذمّ"، وقد أنشد بعضهم هذا البيت: (١)
صَحِبْتُكَ إذْ عَيْنِي عَلَيْهَا غِشَاوَةٌ | فَلَمَّا انْجَلَتْ قَطَّعْتُ نَفْسِي أَذِيمُهَا (١) |
* * *
وأما المدحور: فهو المُقْصَى، يقال:"دحره يدحَرُه دَحْرًا ودُحُورًا"، إذا أقصاه وأخرجه، ومنه قولهم:"ادحَرْ عنكَ الشيطان". (٢)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
١٤٣٨٤- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (اخرج منها مذؤومًا مدحورًا)، يقول: اخرج منها لعينًا منفيًّا.
١٤٣٨٥- حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس:"مذؤومًا" ممقوتًا.
١٤٣٨٦- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبى قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: (قال اخرج منها مذؤومًا)، يقول: صغيرًا منفيًّا.
١٤٣٨٧- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله: (اخرج منها مذؤومًا مدحورًا)، أما"مذؤومًا"، فمنفيًّا، وأما"مدحورا"، فمطرودًا.
١٤٣٨٨- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (مذؤومًا)، قال: منفيًّا = (مدحورًا)، قال: مطرودًا.
١٤٣٨٩- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي
(٢) انظر مجاز القرآن لأبي عبيدة ١: ٢١٢.
١٤٣٩٠- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال: ، حدثنا عبد الله بن الزبير، عن ابن عيينة، عن يونس وإسرائيل، عن أبي إسحاق، عن التميمي، عن ابن عباس: (اخرج منها مذؤومًا)، قال: منفيًّا.
١٤٣٩١- حدثني أبو عمرو القرقساني عثمان بن يحيى قال، حدثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن التميمي، سأل ابن عباس: ما (اخرج منها مذؤومًا مدحورًا)، قال: مقيتًا. (١)
١٤٣٩٢- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (اخرج منها مذؤومًا مدحورًا)، فقال: ما نعرف"المذؤوم" و"المذموم" إلا واحدًا، ولكن تكون حروف منتقصة، وقد قال الشاعر لعامر: يا"عام"، ولحارث:"يا حار"، (٢) وإنما أنزل القرآن على كلام العرب.
* * *
(٢) في المطبوعة: ((ولكن يكون منتقصة، وقال العرب لعامر... ))، وبين الكلام بياض. وفي المخطوطة: ((ولكن تكون ف منتقصة. وقد قال الشاعر... )) بياض بين الكلام، فغير ناشر المطبوعة ما في المخطوطة بلا أمانة. وفي المخطوطة فوق البياض ((كذا)) وفي الهامش حرف (ط) للدلالة على الخطأ. ودلتني لافاء بعد البياض أن صواب هذا الذي بيض له ناسخ المخطوطة هو ((حروف))، فاستقام الكلام.
ومثال الترخيم في ((عامر)) قول الحطيئة لعامر بن الطفيل: يَا عَامِ، قد كُنْتَ ذَا بَاعٍ وَمَكْرُمَةٍ... لَوْ أَنَّ مَسْعَاةَ مَنْ جَارَيْتَهُ أَمَمُ
ومثال الترخيم في ((الحارث)) قول زهير: يَا حارِ، لا أُرْمَيَنْ مِنْكُمْ بِدَاهِيَةٍ... لَم يَلْقَهَا سُوقَةٌ قَبْلِي وَلا مَلِكُ
قال أبو جعفر: وهذا قسم من الله جل ثناؤه. أقسم أن مَنْ اتبع من بني آدم عدوَّ الله إبليس وأطاعه وصَدَّق ظنه عليه، أن يملأ من جميعهم = يعني: من كفرة بني آدم تُبّاع إبليس، ومن إبليس وذريته = جهنم. فرحم الله امرأً كذّب ظن عدوِّ الله في نفسه، وخيَّب فيها أمله وأمنيته، ولم يمكّن من طمعَ طمعٍ فيها عدوَّه، (١) واستغشَّه ولم يستنصحه، فإن الله تعالى ذكره إنما نبّه بهذه الآيات عباده على قِدَم عداوة عدوِّه وعدوهم إبليس لهم، وسالف ما سلف من حسده لأبيهم، وبغيه عليه وعليهم، وعرّفهم مواقع نعمه عليهم قديمًا في أنفسهم ووالدهم ليدّبروا آياته، وليتذكر أولو الألباب، فينزجروا عن طاعة عدوه وعدوهم إلى طاعته ويُنيبوا إليها.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (١٩) ﴾
قال أبو جعفر: يقول الله تعالى ذكره: وقال الله لآدم: (يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة فكلا من حيث شئتما). فأسكن جل ثناؤه آدم وزوجته الجنة
* * *
وقد ذكرنا اختلاف أهل التأويل في ذلك، وما نرى من القول فيه صوابًا، في غير هذا الموضع، فكرهنا إعادته. (١)
* * *
= (فتكونا من الظالمين)، يقول: فتكونا ممن خالف أمر ربِّه، وفعل ما ليس له فعله.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا﴾
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: (فوسوس لهما)، فوسوس إليهما، وتلك "الوسوسة" كانت قوله لهما: (ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين)، وإقسامه لهما على ذلك.
* * *
وقيل:"وسوس لهما"، والمعنى ما ذكرت، كما قيل:"غَرِضت إليه"، بمعنى: اشتقْتُ إليه، وإنما تعني: غَرضت من هؤلاء إليه. (٢) فكذلك معنى ذلك.
(٢) في المطبوعة: ((كما قيل: عرضت له، بمعنى: استبنت إليه))، غير ما في المخطوطة تغييرًا تامًا، فأتانا بلغو مبتذل لا معنى له. وكان في المخطوطة: ((كما قيل: عرضت إليه بمعنى: اشتقت إليه))، هكذا، وصواب قراءتها ما أثبت.
وقوله: ((غرضت إليه)) بمعنى: اشتقت إليه، ((إنما تعني: غرضت من هؤلاء إليه))، هذا كأنه نص قول الأخفش في تفسير قول ابن هرمة:
مَنْ ذَا رَسُولٌ ناصِحٌ فَمُبَلِّغٌ | عَنِّي عُلَيَّةَ غَيْرَ قَوْلِ الكاذِبِ ؟ |
أَنِّي غَرِضْتُ إلَى تَنَاصُفِ وَجْهِهَا | غَرَضَ المُحِبِّ إلى الحَبِيبِ الغائِبِ |
وموضع الاستشهاد أن ((الوسوسة)) الصوت الخفي من حديث النفس، فنقل إبليس ما حاك في نفسه إليهما، فلذلك أدخل على ((الوسوسة)) ((اللام)) و ((إلى)). ولكن أبا جعفر أدمج الكلام ههنا إدماجًا.
* وَسْوَسَ يَدْعُو مُخْلِصًا رَبَّ الفَلَقْ * (١)
* * *
ومعنى الكلام: فجذب إبليس إلى آدم حوّاء، وألقى إليهما: ما نهاكما ربكما عن أكل ثمر هذه الشجرة، إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين = ليبدي لهما ما واراه الله عنهما من عوراتهما فغطاه بستره الذي ستره عليهما.
* * *
وكان وهب بن منبه يقول في الستر الذي كان الله سترهما به، ما:-
١٤٣٩٣- حدثني به حوثرة بن محمد المنقري قال، حدثنا سفيان بن عيينة، عن عمرو، عن ابن منبه، في قوله: (فبدت لهما سوءاتهما)، قال: كان عليهما نور، لا ترى سوءاتهما. (٢)
* * *
(٢) الأثر: ١٤٣٩٣ - ((حوثرة بن محمد بن قديد المنقري))، أبو الأزهر الوراق روى عنه ابن ماجه، وابن خزيمة، وابن صاعد، وغيرهم. ذكره ابن حبان في الثقات. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم ١ /٢ / ٢٨٣.
قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه: وقال الشيطان لآدم وزوجته حواء: ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة أن تأكلا ثمرَها، إلا لئلا تكونا ملكين.
* * *
= وأسقطت"لا" من الكلام، لدلالة ما ظهر عليها، كما أسقطت من قوله: (يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا)، [سورة النساء: ١٧٦]. والمعنى: يبين الله لكم أن لا تضلوا.
* * *
وكان بعض أهل العربية من أهل البصرة يزعم أن معنى الكلام: ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا كراهة أن تكونا ملكين، كما يقال:"إياك أن تفعل" كراهيةَ أن تفعل.
* * *
="أو تكونا من الخالدين"، في الجنة، الماكثين فيها أبدًا، فلا تموتا. (١)
* * *
والقراءة على فتح"اللام"، بمعنى: ملكين من الملائكة.
* * *
وروي عن ابن عباس، ما:-
١٤٣٩٤- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي حماد قال، حدثنا عيسى الأعمى، عن السدّي قال: كان ابن عباس يقرأ:"إلا أَنْ تَكُونَا مَلِكَيْنِ"، بكسر "اللام".
* * *
وعن يحيى بن أبي كثير، ما:-
* * *
وكأنَّ ابن عباس ويحيى وجَّها تأويل الكلام إلى أن الشيطان قال لهما: ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين من الملوك = وأنهما تأوّلا في ذلك قول الله في موضع آخر: (قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى)، [سورة طه: ١٢٠].
* * *
قال أبو جعفر: والقراءة التي لا أستجيز القراءة في ذلك بغيرها، القراءةُ التي عليها قرأة الأمصار وهي، فتح"اللام" من: "مَلَكَيْنِ"، بمعنى: ملكين، من الملائكة، لما قد تقدم من بياننا في أن كل ما كان مستفيضًا في قرأة الإسلام من القراءة، فهو الصواب الذي لا يجوزُ خلافه.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ (٢١) ﴾
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: (وقاسمهما)، وحلف لهما، كما قال في موضع آخر: (تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ)، [سورة النمل: ٤٩]، بمعنى تحالفوا بالله، وكما قال خالد بن زهير [ابن] عمّ أبي ذويب: (١)
وَقَاسَمَهَا بِاللهِ جَهْدًا لأَنْتُمُ | ألَذُّ مِنَ السَّلْوَى إِذَا مَا نَشُورُهَا (١) |
رَضِيعَيْ لِبَانٍ، ثَدْيَ أُمٍّ تَقَاسَمَا | بِأَسْحَمَ دَاجٍ عَوْضُ لا نَتَفَرَّقُ (٢) |
* * *
تُرِيدينَ كَيْمَا تَجْمَعِينِي وَخَالِدًا! | وَهَلْ يُجْمَعُ السَّيْفَان وَيْحَكِ فِي غِمْدِ! |
أَخَالِدُ، مَا رَاعَيْتَ من ذِي قَرَابَةٍ | فَتَحْفَظَنِي بِالْغَيْبِ، أوْ بَعْضَ مَا تُبْدِي |
دَعَاكَ إلَيْهَا مُقْلَتَاها وَجِيدُهَا | فَمِلْتَ كَمَا مَالَ المُحِبُّ عَلَى عَمْدِ |
رَعَي خَالِدٌ سِرِّي، لَيَالِيَ نَفْسُهُ | تَوَالَى على قَصْدِ السَّبِيلِ أُمُورُهَا |
فَلَمَّا تَرَامَاهُ الشَّبَابُ وَغَيُّهُ، | وَفي النَّفْسِ مِنْهُ فِتْنَةٌ وَفُجُورُهَا |
لَوَى رَأْسَهُ عَنِّي، ومَالَ بِوُدِّه | أَغَانِيجُ خَوْدٍ كَانَ قِدْمًا يَزُورُهَا |
فَلا تَجْزَعَنْ مِنْ سُنَّةٍ أَنْتَ سِرْتَها | وَأَوَّلُ رَاضٍ سُنَّةً مَنْ يَسِيرُهَا |
فَإنَّ الَّتِي فِينَا زَعَمْتَ، ومِثْلُهَا | لَفِيكَ، وَلَكِنِّي أَرَاكَ تَجُورُهَا |
تَنَقَّذْتَهَا مِنْ عَبْدِ عَمْرو بن مَالِكٍ | وأَنْتَ صَفِيُّ النَّفْسِ مِنْهُ وَخِيرُها |
يُطِيلُ ثَوَاءً عِنْدَها لِيَرُدَّهَا | وَهَيْهَاتَ مِنْهُ دُورُهَا وقُصُورها |
(٢) ديوانه: ١٥٠، اللسان (عوض) (سحم) من قصيدة مضت منها أبيات كثيرة. وقد ذكرت هذا البيت في شرح بيت سالف ١٠: ٤٥١، تعليق: ١ = و ((الأسحم))، الضارب إلى السواد، و ((عوض)) لما يستقبل من الزمان بمعنى: ((أبدًا)). واختلفوا في معنى ((بأسحم داج))، وإقسامه به. فقالوا: أراد الليل. وقالوا: أراد سواد حلمة سدي أمه. وقيل أراد الرحم وظلمته. قيل: أراد الدم، لسواده، تغمس فيه اليد عند التحالف.
١٤٣٩٦- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين)، فحلف لهما بالله حتى خدعهما، وقد يُخْدع المؤمن بالله، فقال: إني خلقت قبلكما، وأنا أعلم منكما، فاتبعاني أرشدكما. وكان بعض أهل العلم يقول:"من خادَعنا بالله خُدِعْنا".
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿فَدَلاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ﴾
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: (فدلاهما بغرور)، فخدعهما بغرور.
* * *
يقال منه:"ما زال فلان يدلّي فلانًا بغرور"، بمعنى: ما زال يخدعه بغرور، ويكلمه بزخرف من القول باطل. (١)
* * *
= (فلما ذاقا الشجرة)، يقول: فلما ذاق آدم وحواء ثمر الشجرة، يقول: طعماه (٢) = (بدت لهما سوءاتهما)، يقول: انكشفت لهما سوءاتهما، لأن الله
(٢) انظر تفسير ((ذاق)) فيما سلف ص: ٢٠٩، تعليق: ١، والمراجع.
١٤٣٩٧- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع، عن إسرائيل، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس: (وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة)، قال: جعلا يأخذان من ورق الجنة، فيجعلان على سوءاتهما.
١٤٣٩٨- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن أبي بكر، عن الحسن، عن أبي بن كعب قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كان آدم كأنه نخلةٌ سَحُوق، (٢) كثيرُ شعر الرأس، فلما وقع بالخطيئة بدت له عورته، وكان لا يراها، فانطلق فارًّا، فتعرضت له شجرة فحبسته بشعره، فقال لها: أرسليني! فقالت: لست بمرسلتك! فناداه ربه: يا آدم، أمنِّي تفرّ؟ قال: لا ولكني استحييتك. (٣)
١٤٣٩٩- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا سفيان بن عيينة وابن مبارك، عن الحسن، عن عمارة، عن المنهال بن عمرو، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال، كانت الشجرة التي نهى الله عنها آدم وزوجته، السنبلة. فلما أكلا منها بدت لهما سوءاتهما، وكان الذي وَارى
= وتفسير ((السوأة)) فيما سلف ١٠: ٢٢٩، وما سيأتي ص: ٣٦١، تعليق: ٣.
(٢) ((نخلة سحوق)) هي الطويلة المفرطة التي تبعد ثمرها على المجتنى.
(٣) الأثر: ١٤٣٩٨ - ((الحجاج)) هو: ((الحجاج بن المنهال))، مضى مرارًا.
و ((أبو بكر)) هو ((أبو بكر الهذلي))، مضى برقم: ٥٩٧، ٨٣٧٦، ١٣٠٥٤، وهو ضعيف ليس بثقة.
وهذا الخبر، ذكره، ذكره ابن كثير في تفسيره ٣: ٤٥٨، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن الحسن، عن أبي بن كعب موقوفًا غير مرفوع. ثم قال ابن كثير: ((وقد رواه ابن جرير وابن مردويه، من طرق، عن الحسن عن أبي كعب مرفوعًا، والموقوف أصح إسنادًا)). وهو كما قال. وسيأتي برقم: ١٤٤٠٣، من طريق سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، موقوفًا.
١٤٤٠٠- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: (يخصفان)، قال: يرقعان، كهيئة الثوب.
١٤٤٠١- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: يخصفان عليهما من الورق كهيئة الثوب.
١٤٤٠٢- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوءاتهما)، وكانا قبل ذلك
وكان في المطبوعة: ((عن الحسن عن عمارة))، وهو خطأ محض، صوابه ما أثبت من المخطوطة، وابن كثير في تفسيره ٣: ٤٥٩.
وفي المطبوعة وابن كثير: ((فلم يبلغه، حتى بلغ... )) كل ذلك بالغين المعجمة، والذي في المخطوطة مهمل، وظني أنه الصواب المطابق للسياق.
١٤٤٠٣-.... قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال، حدثنا الحسن، عن أبي بن كعب: أن آدم عليه السلام كان رجلا طُوالا كأنه نخلة سَحُوق، كثير شعر الرأس. فلما وقع بما وقع به من الخطيئة، بدت له عورته عند ذلك، وكان لا يراها. فانطلق هاربًا في الجنة، فعلقت برأسه شجرة من شجر الجنة، فقال لها: أرسليني! قالت: إني غير مرسلتك! فناداه ربه: يا آدم، أمنّي تفرّ؟ قال: رب إني استحييتك. (١)
١٤٤٠٤- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جعفر بن عون، عن سفيان الثوري، عن ابن أبي ليلى، عن المنهال بن عمرو، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: (وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة)، قال: ورق التين.
١٤٤٠٥- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن آدم، عن شريك، عن ابن أبي ليلى، عن المنهال، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: (وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة)، قال: ورق التين.
١٤٤٠٦- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن حسام بن مِصَكّ، عن قتادة = وأبي بكر، عن غير قتادة = قال: كان لباس آدم في الجنة ظُفُرًا كله، فلما وقع بالذنب، كُشِط عنه وبدت سوءته = قال أبو بكر: قال غير قتادة: (فطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة)، قال: ورق التين. (٢)
١٤٤٠٧- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا
(٢) الأثر: ١٤٤٠٦ - ((حسام بن مصك بن ظالم بن شيطان الأزدي))، ضعيف فاحش الخطأ والوهم. مضى برقم: ١١٧٢٠. وكان في المطبوعة: ((حسام بن معبد)) لم يحسن قراءة المخطوطة.
و ((أبو بكر))، هو (أبو بكر الهذلي))، ضعيف أيضًا، مضى قريبًا برقم: ١٤٣٩٨.
١٤٤٠٨- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن الزبير، عن ابن عيينة قال، حدثنا عمرو قال، سمعت وهب بن منبه يقول: (يَنزعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا)، [سورة الأعراف: ٢٧]. قال: كان لباس آدم وحواء عليهما السلام نورًا على فروجهما، لا يرى هذا عورة هذه، ولا هذه عورة هذا. فلما أصابا الخطيئة بدت لهما سوءاتهما. (١)
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ (٢٢) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ونادى آدمَ وحواءَ ربُّهما: ألم أنهكما عن أكل ثمرة الشجرة التي أكلتما ثمرها، وأعلمكما أن إبليس لكما عدو مبين = يقول: قد أبان عداوته لكما، بترك السجود لآدم حسدًا وبغيًا، (٢) كما:-
١٤٤٠٩- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن أبي معشر، عن محمد بن قيس قوله: (وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين)، لم أكلتها وقد نهيتك عنها؟ قال: يا رب، أطعمتني حواء! قال لحواء: لم أطعمته؟ قالت: أمرتني الحية! قال للحية: لم أمرتها؟ قالت: أمرني إبليس! قال: ملعون مدحور! أما أنت يا حواء
(٢) انظر تفسير ((مبين)) فيما سلف من فهارس اللغة (بين).
١٤٤١٠- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا عباد بن العوّام، عن سفيان بن حسين، عن يعلى بن مسلم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: لما أكل آدم من الشجرة قيل له: لم أكلت من الشجرة التي نهيتك عنها؟ قال: حواء أمرتني! قال: فإني قد أعقبتها أن لا تحمل إلا كَرْهًا، ولا تضع إلا كرها. قال: فرنَّت حواء عند ذلك، فقيل لها: الرنّة عليك وعلى ولدك. (٢)
* * *
(٢) ((رنت المرأة ترن رنينًا)) : أي صوتت وصاحت من الحزن والجزع. و ((الرنة)) : الصيحة الحزينة عند البكاء.
قال أبو جعفر: وهذا خبرٌ من الله جل ثناؤه عن آدم وحواء فيما أجاباه به، واعترافِهما على أنفسهما بالذنب، ومسألتهما إياه المغفرة منه والرحمة، خلاف جواب اللعين إبليس إياه.
ومعنى قوله: (قالا ربنا ظلمنا أنفسنا)، قال: آدم وحواء لربهما: يا ربنا، فعلنا بأنفسنا من الإساءة إليها بمعصيتك وخلاف أمرك، (١) وبطاعتنا عدوَّنا وعدوَّك، فيما لم يكن لنا أن نطيعه فيه، من أكل الشجرة التي نهيتنا عن أكلها = (وإن لم تغفر لنا)، يقول: وإن أنت لم تستر علينا ذنبنا فتغطيه علينا، وتترك فضيحتنا به
* * *
وقد بيَّنا معنى"الخاسر" فيما مضى بشواهده، والرواية فيه، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (٣)
* * *
١٤٤١١- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة قال: قال آدم عليه السلام: يا رب، أرأيتَ إن تبتُ واستغفرتك؟ قال: إذًا أدخلك الجنة. وأما إبليس فلم يسأله التوبة، وسأل النَّظِرة، فأعطى كلَّ واحد منهما ما سأل.
١٤٤١٢- حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم، عن جويبر، عن الضحاك في قوله: (ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا)، الآية، قال: هي الكلمات التي تلقَّاها آدم من ربه.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (٢٤) ﴾
قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله تعالى ذكره عن فعله بإبليس وذريته، وآدم وولده، والحية.
يقول تعالى ذكره لآدم وحواء وإبليس والحية: اهبطوا من السماء إلى الأرض، بعضكم لبعض عدوّ، كما:-
(٢) انظر تفسير ((الرحمة)) فيما سلف من فهارس اللغة (رحم).
(٣) انظر تفسير ((الخسارة)) فيما سلف ص: ٣١٥، تعليق: ١، والمراجع هناك.
١٤٤١٤- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أسامة، عن أبي عوانة، عن إسماعيل بن سالم، عن أبي صالح: (اهبطوا بعضكم لبعض عدو)، قال: آدم، وحواء، والحية. (٢)
* * *
وقوله: (ولكم في الأرض مستقر)، (٣) يقول: ولكم، يا آدم وحواء، وإبليس والحية = في الأرض قرارٌ تستقرونه، وفراش تمتهدونه، (٤) كما:-
١٤٤١٥- حدثني المثنى قال، حدثنا آدم العسقلاني قال، حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية في قوله: (ولكم في الأرض مستقر)، قال: هو قوله: (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ فِرَاشًا)، [سورة البقرة: ٢٢]. (٥)
* * *
وروي عن ابن عباس في ذلك، ما:-
١٤٤١٦- حدثت عن عبيد الله، عن إسرائيل، عن السدي، عمن حدثه، عن ابن عباس قوله: (ولكم في الأرض مستقر)، قال: القبور. (٦)
* * *
(٢) الأثر: ١٤٤١٤ - مضى برقم: ٧٥٤.
(٣) انظر تفسير نظيرة هذه الآية فيما سلف ١: ٥٣٥ - ٥٤١.
(٤) انظر تفسير ((مستقر)) فيما سلف ١: ٥٣٩ /١١: ٤٣٤، ٥٦٢ - ٥٧٢.
(٥) الأثر: ١٤٤١٥ - مضى برقم: ٧٦٥. وكان في المطبوعة والمخطوطة هنا: ((هو الذي جعل... ))، بزيادة ((هو))، وهو سبق قلم من الناسخ.
(٦) الأثر: ١٤٤١٦ - انظر ما سلف رقم: ٧٦٧، بغير هذا الإسناد.
* * *
وأما قوله: (ومتاع إلى حين)، فإنه يقول جل ثناؤه:"ولكم فيها متاع"، تستمتعون به إلى انقطاع الدنيا، (١) وذلك هو الحين الذي ذكره، كما:-
١٤٤١٧- حدثت عن عبيد الله بن موسى قال، أخبرنا إسرائيل، عن السدي، عمن حدثه، عن ابن عباس: (ومتاع إلى حين)، قال: إلى يوم القيامة وإلى انقطاع الدنيا.
* * *
و"الحين" نفسه: الوقت، غير أنه مجهول القدر (٢)، يدل على ذلك قول الشاعر: (٣)
وَمَا مِرَاحُكَ بَعْدَ الْحِلْمِ وَالدِّينِ | وَقَدْ عَلاكَ مَشِيبٌ حِينَ لا حِينِ (٤) |
(٢) انظر تفسير ((الحين)) فيما سلف ١: ٥٤٠، ولم يذكر هذا هناك في تفسير نظيرة هذه الآية.
(٣) هو جرير.
(٤) ديوانه: ٥٨٦، وسيبويه ١: ٣٥٨، ومجاز القرآن لأبي عبيدة ١: ٢١٢، والخزانة ٢: ٩٤، وغيرها. مطلع قصيدة في هجاء الفرزدق، ورواية الديوان، وسيبويه: * ما بالُ جَهْلِكَ بَعْدَ الْحِلْمِ والدِّينِ *
وبعده:
لِلْغَانِيَاتِ وِصَالٌ لَسْتُ قَاطِعَهُ | عَلَى مَوَعدِهَ مِنْ خُلْفٍ وَتَلْوِينِ |
وأنشده سيبويه شاهدًا على إلغاء ((لا)) وإضافة ((حين)) الأولى إلى ((حين)) الثانية، قال: فإنما هو حين حين، و ((لا)) بمنزلة ((ما)) إذا ألغيت.
وهذا الذي ذكر أبو جعفر هو أبي عبيدة في مجاز القرآن ١: ٢١٢، وجاء بالبيت كما رواه هنا، وان كان في مطبوعة مجاز القرآن: ((وما مزاحك)) بالزاي، وهو خطأ مطبعي فيما أظن.
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: قال الله للذين أهبطهم من سمواته إلى أرضه: (فيها تحيون)، يقول: في الأرض تحيون، يقول: تكونون فيها أيام حياتكم = (وفيها تموتون)، يقول في الأرض تكون وفاتكم، (ومنها تخرجون)، يقول: ومن الأرض يخرجكم ربكم ويحشركم إليه لبعث القيامة أحياء.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سوءاتكمْ﴾
قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه للجهلة من العرب الذين كانوا يتعرَّون للطواف، اتباعًا منهم أمرَ الشيطان، وتركًا منهم طاعةَ الله، فعرفهم انخداعهم بغروره لهم، حتى تمكن منهم فسلبهم من ستر الله الذي أنعمَ به عليهم، حتى
* * *
= واحدتها"سوءة"، وهي"فعلة" من"السوء"، وإنما سميت"سوءة"، لأنه يسوء صاحبها انكشافُها من جسده، (٣) كما قال الشاعر: (٤)
خَرَقُوا جَيْبَ فَتَاتِهِمُ | لَمْ يُبَالُوا سَوْءَةَ الرَّجُلَهْ (٥) |
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
١٤٤١٨- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله: (لباسًا يواري سوءاتكم)، قال: كان ناس من العرب يطوفون بالبيت عراةً، ولا يلبس أحدهم ثوبًا طاف فيه.
١٤٤١٩- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
(٢) انظر تفسير (وارى)) فيما سلف ١٠: ٢٢٩.
(٣) انظر تفسير ((السوءة)) فيما سلف ١٠: ٢٢٩ / وهذا الجزء ص: ٣٥٢.
(٤) لم أعرف قائله.
(٥) الكامل ١: ١٦٥، وشرح الحماسة ١: ١١٧، واللسان (رجل)، وغيرهما، وقبل البيت:
كُلُّ جَارٍ ظَلَّ مُغْتَبِطًا | غَيْرَ جِيرَانِي بَنِي جَبَلَهْ |
١٤٤٢٠- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا أبو سعد المدني قال، سمعت مجاهدًا يقول في قوله: (يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسًا يواري سوءاتكم وريشًا)، قال: أربع آيات نزلت في قريش. كانوا في الجاهلية لا يطوفون بالبيت إلا عراة.
١٤٤٢١- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أسامة، عن عوف قال: سمعت معبدًا الجهني يقول في قوله: (يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسًا يواري سوءاتكم وريشًا)، قال: اللباس الذي تلبسون.
١٤٤٢٢- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد: (يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسًا يواري سوءاتكم)، قال: كانت قريش تطوف عراة، لا يلبس أحدهم ثوبًا طاف فيه. وقد كان ناس من العرب يطوفون بالبيت عراة.
١٤٤٢٣- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا محمد بن جعفر وسهل بن يوسف، عن عوف، عن معبد الجهني: (يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسًا يواري سوءاتكم)، قال: اللباس الذي يواري سوءاتكم: وهو لَبُوسكم هذه. (١)
١٤٤٢٤- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (لباسًا يواري سوءاتكم)، قال: هي الثياب.
١٤٤٢٥- حدثنا الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا أبو سعد قال، حدثني مَنْ سمع عروة بن الزبير يقول، اللباس: الثياب.
١٤٤٢٦- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿وَرِيشًا﴾
قال أبو جعفر: اختلفت القرأة في قراءة ذلك.
فقرأته عامة قرأة الأمصار: (وَرِيشًا)، بغير"ألف".
* * *
وذكر عن زر بن حبيش والحسن البصري: أنهما كانا يقرآنه:"وَرِياشًا".
١٤٤٢٧- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث، عن أبان العطار قال، حدثنا عاصم: أن زر بن حبيش قرأها:"وَرِياشًا".
* * *
قال أبو جعفر: والصوابُ من القراءة في ذلك، قراءة من قرأ: (وَرِيشًا) بغير"ألف"، لإجماع الحجة من القرأة عليها.
وقد رُوي عن النبي ﷺ خبرٌ في إسناده نظر: أنه قرأه:"وَرِياشًا". (١)
فمن قرأ ذلك:"وَرِياشًا" فإنه محتمل أن يكون أراد به جمع"الريش"، كما تجمع"الذئب"،"ذئابًا"، و"البئر""بئارًا".
ويحتمل أن يكون أراد به مصدرًا، من قول القائل:"راشه الله يَريشه رياشًا ورِيشًا"، (٢) كما يقال:"لَبِسه يلبسه لباسًا ولِبْسًا"، وقد أنشد بعضهم: (٣)
(٢) أراد هنا أن يجعل ((ريشا)) مصدرًا بكسر ((الراء))، كما هو بين في معاني القرآن للفراء ١: ٣٧٥، ولذلك ضبطتها كذلك، والذي نص عليه أهل اللغة أن المصدر (ريشا)) بفتح فسكون.
(٣) هو حميد بن ثور الهلالي.
بكسر"اللام" من"اللبس".
و"الرياش"، في كلام العرب، الأثاث، وما ظهر من الثياب من المتاع مما يلبس أو يُحْشى من فراش أو دِثَار.
و"الريش" إنما هو المتاع والأموال عندهم. وربما استعملوه في الثياب والكسوة دون سائر المال. يقولون:"أعطاه سرجًا بريشه"، و"رحْلا بريشه"، أي بكسوته وجهازه. ويقولون:"إنه لحسن ريش الثياب"، وقد يستعمل"الرياش" في الخصب ورَفاهة العيش.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال:"الرياش"، المال:
١٤٤٢٨- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية،
ثم قال بعد رقم: ٤٠. تَخَالُ خِلالَ الرَّقْم لَمَّا سَدَلْنَهُ... حِصَانًا تَهَادَى سَامِيَ الطَّرْفِ مُلْجَمَا
وقال قبل البيت (وهما في ترتيب الديوان: ٣٢، ٣٣) : فَزَيَّنَّهُ بِالعِهْنِ حَتَّى لَوَ انَّهُ... يُقَالُ لَهُ: هَابٍ، هَلُمَّ! لأَقْدَمَا
جعل الهودج قد صار كأنه فرس عليه زينته وجلاله وسرجه. وقوله: (فلما كشفن اللبس عنه))، يعني الهودج. و ((مسحنه)) يعني الجواري اللواتي صنعه وزوقنه وزينه. و ((الطفل) (بفتح فسكون) هو البنان الناعم، وأراد: مسحنه بأطراف بنان طفل، فجعل ((طفلا)) بدلا من ((البنان)) و ((الغيل)) (بفتح فسكون) الساعد الريان الممتلئ. و ((الموشم))، عليه الوشم، وكان زينة للجاهلية أبطلها الإسلام، ولعن الله متخذها، رجلا كان أو امرأة.
١٤٤٢٩- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (وريشًا)، قال: المال.
١٤٤٣٠- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
١٤٤٣١- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"ورياشًا"، قال: أما"رياشًا"، فرياش المال. (١)
١٤٤٣٢- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا أبو سعد المدني قال، حدثني من سمع عروة بن الزبير يقول:"الرياش"، المال.
١٤٤٣٣- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان، عن الضحاك قوله:"ورياشًا"، يعني، المال.
* ذكر من قال: هو اللباس ورفاهة العيش.
١٤٤٣٤- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"ورياشًا"، قال:"الرياش"، اللباس والعيش والنَّعيم.
١٤٤٣٥- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا محمد بن جعفر وسهل بن يوسف، عن عوف، عن معبد الجهني:"ورياشًا"، قال:"الرياش"، المعاش.
١٤٤٣٦- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية قال، أخبرنا عوف قال، قال معبد الجهني:"ورياشًا"، قال: هو المعاش.
* * *
* ذكر من قال ذلك:
١٤٤٣٧- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"ورياشًا"، قال:"الريش"، الجمال.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ﴾
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.
فقال بعضهم:"لباس التقوى"، هو الإيمان.
* ذكر من قال ذلك:
١٤٤٣٨- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (ولباس التقوى)، هو الإيمان.
١٤٤٣٩- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (ولباس التقوى)، الإيمان.
١٤٤٤٠- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، أخبرني حجاج، عن ابن جريج: (ولباس التقوى)، الإيمان.
* * *
وقال آخرون: هو الحياء.
* ذكر من قال ذلك:
١٤٤٤١- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا محمد بن جعفر وسهل بن يوسف، عن عوف، عن معبد الجهني في قوله: (ولباس التقوى)، الذي ذكر الله في القرآن، هو الحياء.
١٤٤٤٢- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية قال، أخبرنا
١٤٤٤٣- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أسامة، عن عوف، عن معبد، بنحوه.
* * *
وقال آخرون: هو العمل الصالح.
* ذكر من قال ذلك:
١٤٤٤٤- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: (ولباس التقوى ذلك خير)، قال: لباس التقوى: العمل الصالح.
* * *
وقال آخرون: بل ذلك هو السَّمْت الحسن.
* ذكر من قال ذلك:
١٤٤٤٥- حدثني زكريا بن يحيى بن أبي زائدة قال، حدثنا عبد الله بن داود، عن محمد بن موسى، عن.... بن عمرو، عن ابن عباس: (ولباس التقوى)، قال: السمت الحسن في الوجه. (١)
١٤٤٤٦- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق بن الحجاج قال، حدثنا إسحاق بن إسماعيل، عن سليمان بن أرقم، عن الحسن قال: رأيت عثمان بن عفان على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، عليه قميصٌ قُوهيّ محلول الزرّ، (٢) وسمعته يأمر بقتل الكلاب، وينهى عن اللعب بالحمام، ثم قال: يا أيها الناس، اتقوا الله ف
((محمد بن موسى))، لم أستطع أن أحدد من يكون.
(٢) ((القميص القوهي))، منسوب إلى ((قوهستان))، وهي أرض متصلة بنواحي هراة ونيسابور، ينسب إليها ضرب من الثياب.
* * *
وقال آخرون: هو خشية الله.
* ذكر من قال ذلك:
١٤٤٤٧- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا أبو سعد المدنى قال، حدثني من سمع عروة بن الزبير يقول: (لباس التقوى)، خشية الله.
* * *
وقال آخرون: (لباس التقوى)، في هذه المواضع، ستر العورة.
* ذكر من قال ذلك:
١٤٤٤٨- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (ولباس التقوى)، يتقي الله، فيواري عورته، ذلك"لباس التقوى".
* * *
(٢) الأثر: ١٤٤٤٦ - ((إسحاق بن الحجاج الرازي الطاحوني))، مضى برقم: ٢٣٠، ١٦١٤، ١٠٣١٤. و ((إسحاق بن إسماعيل)) لعله ((إسحاق بن لإسماعيل الرازي))، أبو يزيد، حبويه. مترجم في ابن أبي حاتم ١ /١ / ٢١٢.
و ((سليمان بن أرقم))، أبو معاذ. ضعف جدًا، متروك الحديث، مضى برقم: ٤٩٢٣. فمن أجل ضعف ((سليمان بن أرقم))، قال أبو جعفر فيما سلف ص: ٣٦٣، تعليق: ١، أن في إسناد هذا الخبر نظرًا.
وهذا الخبر رواه ابن كثير في تفسيره ٣: ٤٦٢، ٤٦٣، وضعفه، ثم قال: ((وقد روى الأئمة، الشافعي وأحمد والبخاري في كتاب الأدب صحيحة، عن الحسن: أنه سمع أمير المؤمنين عثمان بن عفان يأمر بقتل الكلاب وذبح الحمام يوم الجمعة على المنبر)). قلت: وخبر أحمد في المسند رقم: ٥٢١، وخبر البخاري في الأدب المفرد ص: ٣٣٢، ٣٣٣ برقم: ١٣٠١.
فقرأته عامة قرأة المكيين والكوفيين والبصريين: (وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ)، برفع"ولباس".
* * *
وقرأ ذلك عامة قرأة المدينة:"وَلِبَاسَ التَّقْوَى"، بنصب"اللباس"، وهي قراءة بعض قرأة الكوفيين.
* * *
فمن نصب:"ولباس"، فإنه نصبه عطفًا على"الريش"، بمعنى: قد أنزلنا عليكم لباسًا يواري سوءاتكم وريشًا، وأنزلنا لباسَ التقوى.
* * *
وأما الرفع، فإن أهل العربية مختلفون في المعنى الذي ارتفع به"اللباس".
فكان بعض نحويي البصرة يقول: هو مرفوع على الابتداء، وخبره في قوله: (ذلك خير). وقد استخطأه بعض أهل العربية في ذلك وقال: هذا غلط، لأنه لم يعد على"اللباس" في الجملة عائد، فيكون"اللباس" إذا رفع على الابتداء وجعل"ذلك خير" خبرًا.
* * *
وقال بعض نحويي الكوفة: (ولباس)، يرفع بقوله: ولباس التقوى خير، ويجعل"ذلك" من نعته. (١)
* * *
قال أبو جعفر: وهذا القول عندي أولى بالصواب في رافع"اللباس"، لأنه لا وجه للرفع إلا أن يكون مرفوعًا بـ"خير"، وإذا رفع بـ "خير" لم يكن في ذلك وجه إلا أن يجعل"اللباس" نعتًا، لا أنه عائد على"اللباس" من ذكره في قوله: (ذلك خير)، فيكون خير مرفوعًا بـ"ذلك"، و"ذلك"، به.
* * *
وأما تأويل مَنْ قرأه نصبًا، فإنه:"يا بنى آدم قد أنزلنا عليكم لباسًا يواري سوءاتكم وريشًا ولباس التقوى"، هذا الذي أنزلنا عليكم من اللباس الذي يواري سوءاتكم، والريش، ولباس التقوى خير لكم من التعرِّي والتجرد من الثياب في طوافكم بالبيت، فاتقوا الله والبسوا ما رزقكم الله من الرياش، ولا تطيعوا الشيطان بالتجرد والتعرِّي من الثياب، فإن ذلك سخرية منه بكم وخدعة، كما فعل بأبويكم آدم وحواء، فخدعهما حتى جرّدهما من لباس الله الذي كان ألبسهما بطاعتهما له، في أكل ما كان الله نهاهما عن أكله من ثمر الشجرة التي عصَياه بأكلها.
* * *
قال أبو جعفر: وهذه القراءة أولى القراءتين في ذلك عندي بالصواب، أعني نصب قوله:"وَلِبَاسَ التَّقْوَى"، لصحة معناه في التأويل على ما بيّنت، وأن الله إنما ابتدأ الخبر عن إنزاله اللباس الذي يواري سوءاتنا والرياش، توبيخًا للمشركين الذين كانوا يتجرّدون في حال طوافهم بالبيت، ويأمرهم بأخذ ثيابهم والاستتار بها في كل حال، مع الإيمان به واتباع طاعته = ويعلمهم أن كلّ ذلك خير من كلّ ما هم عليه مقيمون من كفرهم بالله، وتعرِّيهم، لا أنه أعلمهم أن بعض ما أنزل إليهم خيرٌ من بعض.
وما يدل على صحة ما قلنا في ذلك، الآيات التي بعد هذه الآية، وذلك قوله: (يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة ينزعُ عنهما لباسهما ليريهما سوءاتهما) وما بعد ذلك من الآيات إلى قوله: (وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون)، فإنه جل ثناؤه يأمر في كل ذلك بأخذ الزينة من الثياب، واستعمال اللباس وترك التجرّد والتعرّي، وبالإيمان به، واتباع أمره والعمل بطاعته،
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال بالصحة في تأويل قوله:"ولباس التقوى"، استشعار النفوس تقوى الله، في الانتهاء عما نهى الله عنه من معاصيه، والعمل بما أمر به من طاعته، وذلك يجمع الإيمان، والعمل الصالح، والحياء، وخشية الله، والسمتَ الحسن، لأن مَنْ اتقى الله كان به مؤمنًا، وبما أمره به عاملا ومنه خائفًا، وله مراقبًا، ومن أن يُرَى عند ما يكرهه من عباده مستحييًا. ومَنْ كان كذلك ظهرت آثار الخير فيه، فحسن سَمْته وهَدْيه، ورُئِيَتْ عليه بهجة الإيمان ونوره.
وإنما قلنا: عنى بـ"لباس التقوى"، استشعارَ النفس والقلب ذلك = لأن"اللباس"، إنما هو ادِّراع ما يلبس، واجتياب ما يكتسى، (١) أو تغطية بدنه أو بعضه به. فكل من ادَّرع شيئًا واجتابهُ حتى يُرَى عَيْنه أو أثرُه عليه، (٢) فهو له"لابس". ولذلك جعل جل ثناؤه الرجال للنساء لباسًا، وهن لهم لباسًا،
فَبِتِلْكَ إذْ رَقَصَ اللَّوَامِعُ بِالضُّحَى | وَاجْتَابَ أَرْدِيَةَ السَّرَابِ إكَامُها |
أَقْضِي اللُّبَانَةَ لا أُفَرِّطُ رِيبَةً | أَوْ أَنْ يَلُومَ بِحَاجَةٍ لَوَّامُها |
* * *
* ذكر من تأول ذلك بالمعنى الذي ذكرنا من تأويله، إذا قرئ قوله: (وَلِبَاسُ التَّقْوَى)، رفعًا.
١٤٤٤٩- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (ولباس التقوى)، الإيمان = (ذلك خير)، يقول: ذلك خير من الرياش واللباس يواري سوءاتكم.
١٤٤٥٠- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (ولباس التقوى)، قال: لباس التقوى خير، وهو الإيمان.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (٢٦) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ذلك الذي ذكرت لكم أنّي أنزلته إليكم، أيها الناس، من اللباس والرياش، من حجج الله وأدلته التي يعلم بها مَنْ كفر صحة توحيد الله، وخطأ ما هم عليه مقيمون من الضلالة = (لعلهم يذكرون)، يقول جل ثناؤه: جعلت ذلك لهم دليلا على ما وصفت، ليذكروا فيعتبروا وينيبوا إلى الحق وترك الباطل، رحمة مني بعبادي. (٢)
* * *
(٢) انظر تفسير ((آية)) فيما سلف من فهارس اللغة (أيي).
= وتفسير ((يذكر)) فيما سلف منها (ذكر).
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: يا بني آدم، لا يخدعنكم الشيطان فيبدي سوءاتكم للناس بطاعتكم إياه عند اختباره لكم، كما فعل بأبويكم آدم وحواء عند اختباره إياهما فأطاعاه وعصيا ربهما، فأخرجهما بما سبَّب لهما من مكره وخدعه، من الجنة، ونزع عنهما ما كان ألبسهما من اللباس، ليريهما سوءاتهما بكشف عورتهما، وإظهارها لأعينهما بعد أن كانت مستترةً.
* * *
وقد بينا فيما مضى أن معنى"الفتنة"، الاختبار والابتلاء، بما أغنى عن إعادته. (١)
* * *
وقد اختلف أهل التأويل في صفة"اللباس" الذي أخبر الله جل ثناؤه أنه نزعه عن أبوينا، وما كان.
فقال بعضهم: كان ذلك أظفارًا.
* ذكر من لم يذكر قوله فيما مضى من كتابنا هذا في ذلك:
١٤٤٥١- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن آدم، عن شريك، عن عكرمة: (ينزع عنهما لباسهما)، قال: لباس كل دابة منها، ولباس الإنسان الظُّفر، فأدركت آدم التوبة عند ظُفُره = أو قال: أظفاره.
١٤٤٥٢- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبد الحميد الحماني، عن نضر
١٤٤٥٣- حدثني أحمد بن الوليد القرشي قال، حدثنا إبراهيم بن أبي الوزير قال، أخيرنا مخلد بن الحسين، عن عمرو بن مالك، عن أبي الجوزاء، عن ابن عباس في قوله: (ينزع عنهما لباسهما)، قال: كان لباسهما الظفر، فلما أصابا الخطيئة نزع عنهما، وتركت الأظفار تذكرة وزينة.
١٤٤٥٤- حدثني المثنى قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا شريك، عن سماك، عن عكرمة في قوله: (ينزع عنهما لباسهما)، قال: كان لباسه الظفر، فانتهت توبته إلى أظفاره.
* * *
وقال آخرون: كان لباسهما نورًا.
* ذكر من قال ذلك:
١٤٤٥٥- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن عيينة، عن عمرو، عن وهب بن منبه: (ينزع عنهما لباسهما)، النور.
١٤٤٥٦- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن الزبير، عن ابن عيينة قال، حدثنا عمرو قال، سمعت وهب بن منبه يقول في قوله: (ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوءاتهما)، قال: كان لباس آدم وحواء نورًا على فروجهما، لا يرى هذا عورة هذه، ولا هذه عورة هذا.
* * *
و ((نضر، أبو عمر)) هو ((النضر بن عبد الرحمن))، أبو عمر الخراز، مضى أيضًا برقم ٧١٨، ١٠٣٧٣، وكان في المطبوعة: ((نصر بن عمر))، غير ما في المخطوطة، وهو فيها: ((نصر أبي عمر))، غير منقوطة.
* ذكر من قال ذلك:
١٤٤٥٧- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا مطلب بن زياد، عن ليث، عن مجاهد: (ينزع عنهما لباسهما)، قال: التقوى. (١)
١٤٤٥٨- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن آدم، عن شريك، عن ليث، عن مجاهد: (ينزع عنهما لباسهما)، قال: التقوى.
١٤٤٥٩- حدثني المثنى قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا شريك، عن ليث، عن مجاهد، مثله.
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في تأويل ذلك عندي أن يقال: إن الله تعالى حذر عباده أن يفتنهم الشيطان كما فتن أبويهم آدم وحواء، وأن يجرِّدهم من لباس الله الذي أنزله إليهم، كما نزع عن أبويهم لباسهما."اللباس" المطلق من الكلام بغير إضافة إلى شيء في متعارف الناس، وهو ما اجتابَ فيه اللابس من أنواع الكُسي، (٢) أو غطى بدنه أو بعضه.
وإذ كان ذلك كذلك، فالحق أن يقال: إن الذي أخبر الله عن آدم وحواء من لباسهما الذي نزعه عنهما الشيطان، هو بعض ما كانا يواريان به أبدانهما وعوْرَتهما.
(٢) في المطبوعة: ((هو ما اختار فيه اللابس من أنواع الكساء))، ولم يحسن قراءة المخطوطة، فغير كما سلف قريبًا، فرددتها إلى أصلها.
وقوله: ((اجتاب فيه اللابس))، أدخل ((فيه)) مع ((اجتاب))، وهو صحيح في قياس العربية، لأنهم قالوا: ((اجتاب الثوب والظلام))، إذا دخل فيهما، فأعطى ((اجتاب)) معنى ((دخل))، فألحق بها حرف الجر، لمعنى الدخول.
* * *
وأضاف جل ثناؤه إلى إبليس إخراجَ آدم وحواء من الجنة، ونزعَ ما كان عليهما من اللباس عنهما، وإن كان الله جل ثناؤه هو الفاعل ذلك بهما عقوبة على معصيتهما إياه، إذ كان الذي كان منهما في ذلك عن تسْنيةِ ذلك لهما بمكره وخداعه، (١) فأضيف إليه أحيانًا بذلك المعنى، وإلى الله أحيانًا بفعله ذلك بهما.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (٢٧) ﴾
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بذلك: إن الشيطان يراكم هو= و"الهاء" في"إنه" عائدة على الشيطان = و"قبيله"، يعني: وصنفه وجنسه الذي هو منه واحدٌ جمع جيلا (٢) وهم الجن، كما:-
١٤٤٦٠- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، قوله: (إنه يراكم هو وقبيله)، قال: الجن والشياطين.
(٢) في المطبوعة: ((الذي هو منه واحد جمعه قبل))، غير ما في المخطوطة، وفي المخطوطة كما كتبتها، إلا انه كتب ((صلا)) و ((الجيم)) بين القاف والجيم غير المنقوطة. واستظهرت هذا من نص أبي عبيدة في مجاز القرآن ١: ٢١٣، وهو: ((أي: وجيله الذي هو منه))، ومن نص صاحب لسان العرب: ((ويقال لكل جمع من شيء واحد، قبيل)). و ((الجيل)) كل صنف من الناس، أو الأمة. يقال: ((الترك جيل، والصين جيل، والعرب جيل، والروم جيل))، وهم كل قوم يختصون بلغة، وتنشأ من جمعهم أمة وصنف من الناس موصوف معروف.
* * *
وقوله: (من حيث لا ترونهم)، يقول: من حيث لا ترون أنتم، أيها الناس، الشيطان وقبيله = (إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون)، يقول: جعلنا الشياطين نُصراء الكفار الذين لا يوحِّدون الله ولا يصدقون رسله. (١)
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ (٢٨) ﴾
قال أبو جعفر: ذكر أن معنى"الفاحشة"، في هذا الموضع، (٢) ما:-
١٤٤٦٢- حدثني علي بن سعيد بن مسروق الكندي قال، حدثنا أبو محياة، عن منصور، عن مجاهد: (وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها)، قال: كانوا يطوفون بالبيت عراة، يقولون:"نطوف كما ولدتنا أمهاتنا"، فتضع المرأة على قُبُلها النِّسعة أو الشيء، (٣) فتقول:
الْيَوْمَ يَبْدُو بَعْضُهُ أَوْ كُلُّهُ | فَمَا بَدَا مِنْهُ فَلا أُحِلُّهُ (٤) |
(٢) انظر تفسير ((الفاحشة))، و ((الفحشاء)) فيما سلف: ص: ٢١٨، تعليق: ١، والمراجع هناك.
(٣) ((القبل)) (بضمتين) : فرج المرأة والرجل. و ((النسعة)) : قطعة من الجلد مضفورة عريضة، تجعل على صدر البعير.
(٤) الأثر: ١٤٤٦٢ - ((أبو محياة))، هو ((يحيى بن يعلي بن حرملة التيمي))، ثقة. مترجم في التهذيب، والكبير ٤ /٢ / ٣١١، وابن أبي حاتم ٤ / ٢ / ١٩٦.
ةسيأتي تخريج الخبر في تخريج الآثار: ١٤٥٠٣ - ١٤٥٠٦.
١٤٤٦٤- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أسامة، عن مفضل، عن منصور، عن مجاهد، مثله.
١٤٤٦٤- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عمران بن عيينة، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير والشعبي: (وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا)، قال: كانوا يطوفون بالبيت عراة.
١٤٤٦٥- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها)، قال: كان قبيلة من العرب من أهل اليمن يطوفون بالبيت عراة، فإذا قيل: لم تفعلون ذلك؟ قالوا: وجدنا عليها آباءنا، والله أمرنا بها.
١٤٤٦٦- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا إسرائيل، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: (وإذا فعلوا فاحشة)، قال: طوافهم بالبيت عراة.
١٤٤٦٧- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا أبو سعد، عن مجاهد (وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا)، قال: في طواف الحُمْس في الثياب، وغيرهم عراة. (١)
١٤٤٦٨- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، قوله: (وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا)،
* * *
قال أبو جعفر: فتأويل الكلام إذًا: وإذا فعل الذين لا يؤمنون بالله، الذين جعل الله الشياطين لهم أولياء، قبيحًا من الفعل، وهو"الفاحشة"، وذلك تعرِّيهم للطواف بالبيت وتجردهم له، فعُذِلوا على ما أتوا من قبيح فعلهم وعوتبوا عليه، قالوا:"وجدنا على مثل ما نفعل آباءنا، فنحن نفعل مثل ما كانوا يفعلون، ونقتدي بهديهم، ونستنّ بسنتهم، والله أمرنا به، فنحن نتبع أمره فيه".
يقول الله جل ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم:"قل"، يا محمد، لهم:"إن الله لا يأمر بالفحشاء"، يقول: لا يأمر خلقه بقبائح الأفعال ومساويها ="أتقولون"، أيها الناس،"على الله ما لا تعلمون"، يقول: أتروون على الله أنه أمركم بالتعرِّي والتجرد من الثياب واللباس للطواف، (١) وأنتم لا تعلمون أنه أمركم بذلك؟
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه: (قل)، يا محمد، لهؤلاء الذين يزعمون أن الله أمرهم بالفحشاء كذبًا على الله: ما أمر ربي بما تقولون، بل (أمر ربي بالقسط)، يعني: بالعدل، (٢) كما:-
١٤٤٦٩- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
(٢) انظر تفسير ((القسط)) فيما سلف ص: ٢٢٤، تعليق: ٤، والمراجع هناك.
١٤٤٧٠- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (قل أمر ربي بالقسط)، والقسط: العدل.
* * *
وأما قوله: (وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد)، فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله. فقال بعضهم: معناه: وجِّهوا وجوهكم حيث كنتم في الصلاة إلى الكعبة.
* ذكر من قال ذلك:
١٤٤٧١- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله: (وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد)، إلى الكعبة حيثما صليتم، في الكنيسة وغيرها.
١٤٤٧٢- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: (وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد)، قال: إذا صليتم فاستقبلوا الكعبة، في كنائسكم وغيرها.
١٤٤٧٣- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد)، هو"المسجد"، الكعبة.
١٤٤٧٤- حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا خالد بن عبد الرحمن، عن عمر بن ذر، عن مجاهد في قوله: (وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد)، قال: الكعبة، حيثما كنت.
١٤٤٧٥- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد)، قال: أقيموها للقبلة، هذه القبلة التي أمركم الله بها.
* * *
* ذكر من قال ذلك.
١٤٤٧٦- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله: (وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد)، قال: في الإخلاص، أن لا تدعوا غيره، وأن تخلصوا له الدين.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى هذين التأويلين بتأويل الآية، ما قاله الربيع: وهو أن القوم أُمِروا أن يتوجهوا بصلاتهم إلى ربهم، لا إلى ما سواه من الأوثان والأصنام، وأن يجعلوا دعاءهم لله خالصًا، لا مُكاءً ولا تصدية. (١)
وإنما قلنا ذلك أولى التأويلين بالآية، لأن الله إنما خاطب بهذه الآية قومًا من مشركي العرب، لم يكونوا أهل كنائس وبيع، وإنما كانت الكنائس والبِيَع لأهل الكتابين. فغير معقول أن يقال لمن لا يصلي في كنيسة ولا بِيعة:"وجِّه وجهك إلى الكعبة في كنيسة أو بِيعةٍ".
* * *
وأما قوله: (وادعوه مخلصين له الدين)، فإنه يقول: واعملوا لربكم مخلصين له الدين والطاعة، لا تخلطوا ذلك بشرك، ولا تجعلوا في شيء مما تعملون له شريكًا، (٢) كما:-
١٤٤٧٧- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: (وادعوه مخلصين له الدين)، قال: أن تخلصوا له الدين والدعوة والعمل، ثم توجِّهون إلى البيت الحرام.
* * *
(٢) انظر تفسير ((الدعاء))، و ((الإخلاص)) فيما سلف من فهارس اللغة (دعا) و (خلص).
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: (كما بدأكم تعودون).
فقال بعضهم: تأويله: كما بدأكم أشقياء وسُعَداء، كذلك تبعثون يوم القيامة.
* ذكر من قال ذلك:
١٤٤٧٨- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قوله: (كما بدأكم تعودون فريقًا هدى وفريقًا حق عليهم الضلالة)، قال: إن الله سبحانه بدأ خلق ابن آدم مؤمنًا وكافرًا، كما قال جل ثناؤه: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ)، [سورة التغابن: ٢]، ثم يعيدهم يوم القيامة كما بدأ خلقهم، مؤمنًا وكافرًا.
١٤٤٧٩- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن منصور قال، حدثنا أصحابنا، عن ابن عباس: (كما بدأكم تعودون)، قال: يبعث المؤمن مؤمنًا، والكافر كافرًا.
١٤٤٨٠- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا يحيى بن الضريس، عن أبي جعفر، عن الربيع، عن رجل، عن جابر قال: يبعثون على ما كانوا عليه، المؤمن على إيمانه، والمنافق على نفاقه. (١)
١٤٤٨١- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن أبي جعفر الرازي، عن الربيع، عن أبي العالية قال: عادوا إلى علمه فيهم، ألم تسمع إلى قول الله فيهم: (كما بدأكم تعودون) ؟ ألم تسمع قوله: (فريقًا هدى وفريقًا حق عليهم الضلالة) ؟.
١٤٤٨٣- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو همام الأهوازي قال، حدثنا موسى بن عبيدة، عن محمد بن كعب في قوله: (كما بدأكم تعودون)، قال: من ابتدأ الله خلقه على الشِّقوة صار إلى ما ابتدأ الله خلقه عليه، وإن عمل بأعمال أهل السعادة، كما أن إبليس عمل بأعمال أهل السعادة، ثم صار إلى ما ابتدئ عليه خلقه. ومن ابتدئ خلقه على السعادة، صار إلى ما ابتدئ عليه خلقه، وإن عمل بأعمال أهل الشقاء، كما أن السحرة عملت بأعمال أهل الشقاء، (١) ثم صاروا إلى ما ابتدئ عليه خلقهم.
١٤٤٨٤- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن وِقَاء بن إياس أبي يزيد، عن مجاهد: (كما بدأكم تعودون)، قال: يبعث المسلم مسلمًا، والكافر كافرًا. (٢)
١٤٤٨٥- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو دكين قال، حدثنا سفيان، عن أبي يزيد، عن مجاهد: (كما بدأكم تعودون)، قال: يبعث المسلم مسلمًا، والكافر كافرًا. (٣)
١٤٤٨٦- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا محمد بن أبي الوضاح، عن سالم الأفطس، عن سعيد بن جبير: (كما بدأكم تعودون)، قال: كما كتب عليكم تكونون.
(٢) الأثر: ١٤٤٨٤ - ((وقاء بن إياس الأسدي الوالبي))، أبو يزيد، ثقة، متكلم فيه، قال يحيى بن سعيد: ((ما كان بالذي يعتمد عليه)). مترجم في التهذيب، والكبير ٤ /٢ / ١٨٨، ولم يذكر فيه جرحًا، وابن أبي حاتم ٤ / ٢ / ٤٩. وكان في المخطوطة: ((ورقاء بن إياس))، والصواب ما في المطبوعة.
(٣) الأثر: ١٤٤٨٥ - ((أبو يزيد))، هو ((وقاء بن إياس))، المترجم في التعليق السالف.
١٤٤٨٨- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (كما بدأكم تعودون فريقًا هدى وفريقًا حق عليهم الضلالة)، يقول: كما بدأكم تعودون، كما خلقناكم، فريق مهتدون، وفريق ضال، كذلك تعودون وتخرجون من بطون أمهاتكم.
١٤٤٨٩- حدثنا ابن بشار، قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا أبي سفيان، عن الأعمش، عن سفيان، عن جابر، أن النبي ﷺ قال: تُبعث كل نفس على ما كانت عليه. (١)
١٤٤٩٠- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو داود الحفري، عن شريك، عن سالم، عن سعيد بن جبير: (كما بدأكم تعودون)، قال: كما كتب عليكم تكونون.
١٤٤٩١- حدثني المثنى قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا حماد بن زيد، عن ليث، عن مجاهد قال، يبعث المؤمن مؤمنًا، والكافر كافرًا.
١٤٤٩٢- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (كما بدأكم تعودون)، شقيًّا وسعيدًا.
١٤٤٩٣- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك قراءة عن مجاهد، مثله.
* * *
وهذا خبر صحيح الإسناد. رواه مسلم في صحيحه ١٧: ٢١٠، من طريقين عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر، ولفظه: ((يبعث كل عبد على ما مات عليه)).
رواه ابن ماجه في سننه ١٤١٤، رقم: ٤٢٣٠، من طريق شريك، عن الأعمش، ولفظه: ((يحشر الناس على نياتهم)).
* ذكر من قال ذلك:
١٤٤٩٤- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا غندر، عن عوف، عن الحسن: (كما بدأكم تعودون)، قال: كما بدأكم ولم تكونوا شيئًا فأحياكم، كذلك يميتكم، ثم يحييكم يوم القيامة.
١٤٤٩٥- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبد الأعلى، عن عوف، عن الحسن: (كما بدأكم تعودون)، قال: كما بدأكم في الدنيا، كذلك تعودون يوم القيامة أحياء.
١٤٤٩٦- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: (كما بدأكم تعودون)، قال: بدأ خلقهم ولم يكونوا شيئًا، ثم ذهبوا، ثم يعيدهم.
١٤٤٩٧- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: (كما بدأكم تعودون فريقًا هدى)، يقول: كما خلقناكم أول مرة، كذلك تعودون.
١٤٤٩٨- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: (كما بدأكم تعودون)، يحييكم بعد موتكم.
١٤٤٩٩- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (كما بدأكم تعودون)، قال: كما خلقهم أولا كذلك يعيدهم آخرًا.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في تأويل ذلك بالصواب، القولُ الذي قاله من قال: معناه: كما بدأكم الله خلقًا بعد أن لم تكونوا شيئًا، تعودون بعد فنائكم خلقًا مثله، يحشركم إلى يوم القيامة = لأن الله تعالى ذكره: أمر نبيه صلى الله
وإذ كان ذلك كذلك، فلا وجه لأن يؤمر بدعاء مَنْ كان جاحدًا النشورَ بعد الممات، إلى الإقرار بالصفة التي عليها ينشر مَنْ نُشِر، وإنما يؤمر بالدعاء إلى ذلك مَنْ كان بالبعث مصدّقًا، فأما مَنْ كان له جاحدًا، فإنما يدعى إلى الإقرار به، ثم يعرَّف كيف شرائط البعث. على أن في الخبر الذي رُوي عن رسول الله ﷺ الذي:-
١٤٥٠٠- حدثناه محمد بن بشار قال، حدثنا يحيى بن سعيد قال، حدثنا سفيان قال، حدثني المغيرة بن النعمان، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس عن النبي ﷺ قال: يُحْشر الناس عُراة غُرْلا وأوّل مَنْ يكسى إبراهيم صلى الله عليه وسلم. ثم قرأ: (كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ)، [سورة الأنبياء: ١٠٤]
١٤٥٠١- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا إسحاق بن يوسف قال، حدثنا سفيان، عن المغيرة بن النعمان، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم، بنحوه.
١٤٥٠٢- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن المغيرة بن النعمان، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: قام فينا رسول الله ﷺ بموعظة، فقال: يا أيها الناس، إنكم تحشرون
* * *
= (٢) ما يبيِّن صحة القول الذي قلنا في ذلك، من أن معناه: أن الخلقَ يعودون إلى الله يوم القيامة خلقًا أحياء، كما بدأهم في الدنيا خلقًا أحياء.
* * *
يقال منه:"بدأ الله الخلق يبدؤهم = وأبدأَهُم يُبْدِئهم إبداءً"، بمعنى خلقهم، لغتان فصيحتان.
* * *
ثم ابتدأ الخبر جل ثناؤه عما سبق من علمه في خلقه، وجرى به فيهم قضاؤه، فقال: هدى الله منهم فريقًا فوفّقهم لصالح الأعمال فهم مهتدون، وحقَّ على فريق منهم الضلالة عن الهدى والرشاد، باتخاذهم الشيطان من دون الله وليًّا.
* * *
وإذا كان التأويل هذا، كان"الفريق" الأول منصوبًا بإعمال"هدى" فيه، و"الفريق"، الثاني بوقوع قوله:"حق" على عائد ذكره في"عليهم"، كما قال جل ثناؤه: (يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا)، (٣) [سورة الإنسان: ٣١]
* * *
وهذا الخبر رواه البخاري من طريق شعبة، عن المغيرة في صحيحه (الفتح ٨: ٣٣٢ / ١١: ٣٣١) مطولا، ورواه مسلم في صحيحه مطولا: ١٧: ١٩٣، ١٩٤ من طريق شعبة أيضًا. ورواه أحمد في المسند مطولا ومختصرًا رقم: ١٩٥٠، ٢٠٢٧، من طريق سفيان الثوري مختصرًا، كما رواه الطبري. ثم رواه مطولا من طريق شعبة رقم: ٢٠٩٦، ٢٢٨١، ٢٢٨٢. ورواه النسائي في سننه ٤: ١١٧.
وسيرويه أبو جعفر بأسانيده هذه فيما يلي، في تفسير ((سورة الأنبياء)) ١٧: ٨٠ (بولاق).
و ((الغرل)) جمع ((أغرل))، هو الأقلف الذي لم يختن.
(٢) هذا تمام الكلام الأول، والسياق:
((على أن في الخبر الذي روى عن رسول الله | ما يبيّن صحة القول)). |
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (٣٠) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: إن الفريق الذي حق عليهم الضلالة، إنما ضلوا عن سبيل الله وجارُوا عن قصد المحجة، باتخاذهم الشياطين نُصراء من دون الله، وظُهراء، (٢) جهلا منهم بخطأ ما هم عليه من ذلك، بل فعلوا ذلك وهم يظنون أنهم على هدى وحق، وأن الصواب ما أتوه وركبوا.
وهذا من أبين الدلالة على خطأ قول من زعمَ أن الله لا يعذِّب أحدًا على معصية ركبها أو ضلالة اعتقدها، إلا أن يأتيها بعد علم منه بصواب وجهها، فيركبها عنادًا منه لربه فيها. لأن ذلك لو كان كذلك، لم يكن بين فريق الضلالة الذي ضلّ وهو يحسَبُ أنه هادٍ. وفريق الهدى، (٣) فَرْقٌ. وقد فرَّق الله بين أسمائهما وأحكامهما في هذه الآية.
* * *
(٢) انظر تفسير ((ولي)) فيما سلف من فهارس اللغة (ولي).
(٣) انظر تفسير ((حسب)) فيما سلف ١٠: ٤٧٨، تعليق: ١، والمراجع هناك.
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لهؤلاء الذين يتعرَّون عند طوافهم ببيته الحرام، ويبدون عوراتهم هنالك من مشركي العرب، والمحرِّمين منهم أكل ما لم يحرِّمه الله عليهم من حلال رزقه، تبرُّرًا عند نفسه لربه: (يا بني آدم خذوا زينتكم)، من الكساء واللباس = (عند كل مسجد وكلوا)، من طيبات ما رزقتكم، وحللته لكم = (واشربوا)، من حلال الأشربة، ولا تحرِّموا إلا ما حَرَّمْتُ عليكم في كتابي أو على لسان رسولي محمد صلى الله عليه وسلم.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
١٤٥٠٣- حدثنا يحيى بن حبيب بن عربي قال، حدثنا خالد بن الحارث قال، حدثنا شعبة، عن سلمة، عن مسلم البطين، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: أن النساء كنّ يطفن بالبيت عراة = وقال في موضع آخر: بغير ثياب = إلا أن تجعل المرأة على فرجها خِرقة، فيما وُصِف إن شاء الله، وتقول:
الْيَوْمَ يَبْدُو بَعْضُهُ أَوْ كُلُّهُ | فَمَا بَدَا مِنْهُ فَلا أُحِلُّهُ |
((يحيى بن حبيب بن عربي الشيباني))، أبو زكرياء، ثقة، مضى برقم: ٧٨١٨، مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم ٤ / ٢ / ١٣٧.
((خالد بن الحارث بن عبيد الهجيمي))، ثقة ثبت إمام. مضى برقم: ٧٥٠٧، ٧٨١٨، ٩٨٧٨.
و ((سلمة))، هو ((سلمة بن كهيل))، مضى مرارًا.
و ((مسلم البطين)) هو ((مسلم بن عمران))، ثقة روى له الجماعة.
وهذا الخبر، رواه مسلم في صحيحه ١٨: ١٦٢، من طريق غندر، عن شعبة (وهو الآتي رقم: ١٤٥٠٦).
ورواه الحاكم في المستدرك ٢: ٣١٩، ٣٢٠ من طريق أبي داود الطيالسي، عن شعبة، بنحوه، ولكن قال: ((نزلت هذه الآية: قل من حرم زينة الله))، ثم قال الحاكم: ((حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه))، ووافقه الذهبي.
الْيَوْمَ يَبْدُو بَعْضُهُ أَوْ كُلُّهُ | فَمَا بَدَا مِنْهُ فَلا أُحِلُّهُ |
١٤٥٠٥- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن عيينة، عن عمرو، عن ابن عباس: (خذوا زينتكم عند كل مسجد)، قال: الثياب.
١٤٥٠٦- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا غندر ووهب بن جرير، عن شعبة، عن سلمة بن كهيل قال: سمعت مسلمًا البطين يحدث، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: كانت المرأة تطوف بالبيت عريانة = قال غندر: وهي عريانة = قال، وهب: كانت المرأة تطوف بالبيت وقد أخرجت صدرَها وما هنالك = قال غندر: وتقول:"مَنْ يعيرني تِطْوافًا"، (٢) تجعله على فرْجها وتقول:
الْيَوْمَ يَبْدُو بَعْضُهُ أَوْ كُلُّهُ | فَمَا بَدَا مِنْهُ فَلا أُحِلُّهُ |
١٤٥٠٧- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: (يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد)، قال: كانوا يطوفون بالبيت عراة، فأمرهم الله أن يلبسوا ثيابهم ولا يتعرَّوا.
١٤٥٠٨- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: (خذوا زينتكم عند كل مسجد) الآية" قال: كان رجال يطوفون بالبيت عراة، فأمرهم الله بالزينة = و"الزينة"، اللباس، وهو ما يواري السوءة، وما سوى ذلك من جيِّد البزِّ والمتاع = فأمروا أن يأخذوا زينتهم عند كل مسجد.
١٤٥٠٩- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا المحاربي وابن فضيل، عن عبد الملك، عن عطاء: (خذوا زينتكم)، قال: كانوا يطوفون بالبيت عراة، فأمروا أن يلبسوا ثيابهم.
١٤٥١٠- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم، عن عبد الملك، عن عطاء، بنحوه.
١٤٥١١- حدثني عمرو قال، حدثنا يحيى قال، حدثنا عبد الملك، عن عطاء في قوله: (خذوا زينتكم عند كل مسجد)، البسوا ثيابكم.
١٤٥١٢- حدثنا يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا مغيرة، عن إبراهيم في قوله: (خذوا زينتكم عند كل مسجد)، قال: كان ناس يطوفون بالبيت عراة، فنهوا عن ذلك.
١٤٥١٣- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن إبراهيم: (خذوا زينتكم عند كل مسجد)، قال: كانوا يطوفون بالبيت عراة، فأمروا أن يلبسوا الثياب.
(٢) ((تطواف)) (بكسر التاء) : ثوب كانوا يتخذونه للطواف، قال النووي: ((وكان أهل الجاهلية يطوفون عراة، ويرمون ثيابهم ويتركونها ملقاة على الأرض، ولا يأخذونها أبدًا، ويتركونها تداس بالأرجل حتى تبلى، ويسمى: اللقاء - حتى جاء الإسلام، فأمر الله بستر العورة فقال: خذوا زينتكم عند كل مسجد، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا يطوف بالبيت عريان)) وروى ((تطواف)) (بفتح التاء)، وفسروه بأنه ((ذا تطواف))، على حذف المضاف.
(٣) الأثر: ١٤٥٠٦ - مكرر الأثرين السالفين: ١٤٥٠٣، ١٤٥٠٤، سلف تخريجه في أولهما. وهذا نص حديث مسلم.
١٤٥١٥- حدثنا عمرو قال: حدثنا يحيى بن سعيد، وأبو عاصم، وعبد الله بن داود، عن عثمان بن الأسود، عن مجاهد في قوله: (خذوا زينتكم عند كل مسجد)، قال: ما يواري عورتك، ولو عباءة.
١٤٥١٦- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: (خذوا زينتكم عند كل مسجد)، في قريش، لتركهم الثياب في الطواف.
١٤٥١٧- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، بنحوه.
١٤٥١٨- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي قال، حدثنا سفيان، عن سالم، عن سعيد بن جبير: (خذوا زينتكم عند كل مسجد)، قال: الثياب.
١٤٥١٩- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا زيد بن حباب، عن إبراهيم، عن نافع، عن ابن طاوس، عن أبيه: (خذوا زينتكم عند كل مسجد)، قال: الشَّمْلة من الزينة. (١)
١٤٥٢٠- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن عيينة، عن عمرو، عن طاوس: (خذوا زينتكم عند كل مسجد)، قال: الثياب.
١٤٥٢١- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا سويد وأبو أسامة، عن حماد بن زيد، عن أيوب، عن سعيد بن جبير قال: كانوا يطوفون بالبيت عراة،
الْيَوْمَ يَبْدُو بَعْضُهُ أَوْ كُلُّهُ | فَمَا بَدَا مِنْهُ فَلا أُحِلُّهُ |
١٤٥٢٣- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: قال الله: (يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد) يقول: ما يواري العورة عند كل مسجد.
١٤٥٢٤- حدثني محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن الزهري: أن العرب كانت تطوف بالبيت عراة، إلا الحُمْس، قريش وأحلافهم. فمن جاء من غيرهم وضع ثيابه وطاف في ثياب أحمس، فإنه لا يحل له أن يلبس ثيابه. فإن لم يجد من يعيره من الحمس، فإنه يلقي ثيابه ويطوف عريانًا. وإن طاف في ثياب نفسه، ألقاها إذا قضى طوافه، يحرِّمها، فيجعلها حرامًا عليه. فلذلك قال الله: (خذوا زينتكم عند كل مسجد). (٢)
١٤٥٢٥- وبه عن معمر قال، قال ابن طاوس، عن أبيه: الشَّملة، من الزينة. (٣)
١٤٥٢٦- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا
(٢) انظر تفسير ((الحمس)) فيما سلف ص: ٣٧٨، تعليق: ١.
(٣) الأثر: ١٤٥٢٥ - انظر الأثر رقم: ١٤٥١٩.
١٤٥٢٧- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: (خذوا زينتكم)، قال: زينتهم، ثيابهم التي كانوا يطرحونها عند البيت ويتعرّون.
١٤٥٢٨- وحدثني به مرة أخرى بإسناده، عن ابن زيد في قوله: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ)، قال: كانوا إذا جاءوا البيت فطافوا به، حرمت عليهم ثيابهم التي طافوا فيها. فإن وجدوا مَنْ يُعيرهم ثيابًا، وإلا طافوا بالبيت عراة. فقال: (من حرم زينة الله)، قال: ثياب الله التي أخرج لعباده، الآية.
* * *
وكالذي قلنا أيضًا قالوا في تأويل قوله: (وكلوا واشربوا ولا تسر فوا).
* ذكر من قال ذلك:
١٤٥٢٩- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس قال: أحل الله الأكل والشرب، ما لم يكن سَرَفًا أو مَخِيلة. (١)
١٤٥٣٠- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس قوله: (وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين)، في الطعام والشراب.
١٤٥٣١- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال،
١٤٥٣٢- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا أبو سعد قال، سمعت مجاهدًا يقول في قوله: (وكلوا واشربوا ولا تسرفوا)، قال: أمرهم أن يأكلوا ويشربوا مما رزقهم الله.
١٤٥٣٣- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (ولا تسرفوا)، لا تأكلوا حرامًا، ذلك الإسراف.
* * *
وقوله (إنه لا يحب المسرفين)، يقول: إن الله لا يحب المتعدِّين حدَّه في حلال أو حرام، الغالين فيما أحلّ الله أو حرم، بإحلال الحرام وبتحريم الحلال، (٢) ولكنه يحبّ أن يحلَّل ما أحل ويحرَّم ما حرم، وذلك العدل الذي أمر به.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل، يا محمد، لهؤلاء الجهلة من العرب الذين يتعرّون عند طوافهم بالبيت، ويحرمون على أنفسهم ما أحللت لهم من طيبات الرزق: من حرَّم، أيها القوم، عليكم زينة الله التي خلقها لعباده أن تتزيَّنوا بها وتتجملوا بلباسها، والحلال من رزق الله
(٢) انظر تفسير ((الإسراف)) فيما سلف: ص: ١٧٦، تعليق: ١، والمراجع هناك.
* * *
واختلف أهل التأويل في المعنيّ: بـ"الطيبات من الرزق"، بعد إجماعهم على أن"الزينة" ما قلنا.
فقال بعضهم:"الطيبات من الرزق" في هذا الموضع، اللحم. وذلك أنهم كانوا لا يأكلونه في حال إحرامهم.
* ذكر من قال ذلك منهم:
١٤٥٣٤- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي في قوله: (قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق)، وهو الودَك. (٢)
١٤٥٣٥- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق)، الذي حرموا على أنفسهم. قال: كانوا إذا حجُّوا أو اعتمروا، حرموا الشاة عليهم وما يخرج منها.
١٤٥٣٦- وحدثني به يونس مرة أخرى قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (قل من حرم زينة الله) إلى آخر الآية، قال: كان قوم يحرِّمون ما يخرج من الشاة، لبنها وسمنها ولحمها، فقال الله: (قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق)، قال: والزينة من الثياب.
١٤٥٣٧- حدثني المثنى قال، حدثنا حبان بن موسى قال، أخبرنا ابن المبارك، عن سفيان، عن رجل، عن الحسن قال: لما بعث محمدًا فقال:
= وتفسير ((الطيبات)) فيما سلف من فهارس اللغة (طيب).
(٢) ((الودك)) سلف تفسيره في ص: ٣٩٥، تعليق: ١.
* * *
وقال آخرون: بل عنى بذلك ما كانت الجاهلية تحرم من البحائر والسوائب.
(٢) ((الحجبة)) جمع ((حاجب))، وهو الذي يحول بين الناس والملك أن يدخلوا عليه.
(٣) في المطبوعة: ((ولم يغد عليه بالجبار))، علق عليها أنه في نسخة ((بالجباب))، وفي المخطوطة: ((بالجبان)) غير منقوطة، وهي خطأ، وصواب قراءتها ما أثبت، كما وردت على الصواب في حلية الأولياء لأبي نعيم ٢: ١٥٣.
و ((الجفان)) جمع ((جفنة))، وهي قصعة الطعام العظيمة. ونص أبي نعيم: ((أما والله ما كان يغدي عليه بالجفان ولا يراح))، وهو أجود.
(٤) في المطبوعة: ((ويردف عبده))، غير ما في المخطوطة، وفي أبي نعيم: ((ويردف خلفه))، وهو بمعنى ما رواه الطبري. أي: يردف خلفه على الدابة رديفًا.
(٥) في المطبوعة والمخطوطة: ((ثم علوجًا)) بإسقاط ((إن))، والصواب من حلية الأولياء. و ((الغلول)) : هو الخيانة في المغنم، والسرقة من الغنيمة.
(٦) يعني قد جعل الآية بما تأولها به، لعبًا يلعب بتأويله، ليفتح الباب لكل شهوة من شهوات بطنه وفرجه.
(٧) الأثر: ١٤٥٣٧ - الذي لم يحفظه سفيان، حفظه غيره، رواه أبو نعيم في حلية الأولياء ٢: ١٥٣، ١٥٤ من طريق محمد بن محمد، عن الحسن بن أحمد بن محمد، عن أبي زرعة، عن مالك بن إسماعيل، عن مسلمة بن جعفر، عن الحسن، بنحو هذا اللفظ، وهي صفة تحفظ، وموعظة تهدى إلى طغاتنا في زماننا، من الناطقين بغير معرفة ولا علم في فتوى الناس بالباطل الذي زخرفته لهم شياطينهم
١٤٥٣٨- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (قل من حرم زينة الله التي أكل لعباده والطيبات من الرزق)، وهو ما حرم أهل الجاهلية عليهم من أموالهم: البحيرة، والسائبة، والوصيلة، والحام.
١٤٥٣٩- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي، عن ابن عباس قوله: (قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق)، قال: إن الجاهلية كانوا يحرمون أشياءَ أحلها الله من الثياب وغيرها، وهو قول الله: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنزلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلالا)، [سورة يونس: ٥٩]، وهو هذا، فأنزل الله: (قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق)
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾
قال أبو جعفر: يقول الله تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل، يا محمد = لهؤلاء الذين أمرتك أن تقول لهم: (من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق)، إذ عَيُّوا بالجواب، (١) فلم يدروا ما يجيبونك =: زينة الله التي أخرج لعباده، وطيبات رزقه، للذين صدّقوا الله ورسوله، واتبعوا ما أنزل إليك من ربك، في الدنيا، وقد شركهم في ذلك فيها من كفر بالله ورسوله وخالف
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
١٤٥٤٠- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: (قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة)، يقول: شارك المسلمون الكفار في الطيبات، فأكلوا من طيبات طعامها، ولبسوا من خِيار ثيابها، ونكحوا من صالح نسائها، وخلصوا بها يوم القيامة.
١٤٥٤١- وحدثني به المثنى مرة أخرى بهذا الإسناد بعينه، عن ابن عباس فقال: (قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا)، يعني: يشارك المسلمون المشركين في الطيبات في الحياة الدنيا، ثم يُخْلص الله الطيبات في الآخرة للذين آمنوا، وليس للمشركين فيها شيء.
١٤٥٤٢- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قال: قال الله لمحمد صلى الله عليه وسلم: (قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة)، يقول: قل هي في الآخرة خالصة لمن آمن بي في الدنيا، لا يشركهم فيها أحدٌ في الآخرة. (٢) وذلك أن الزينة في الدنيا لكل بني آدم، فجعلها الله خالصة لأوليائه في الآخرة.
١٤٥٤٣- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سلمة بن نبيط، عن
(٢) أسقطت المطبوعة: ((في الآخرة)) من آخر هذه الجملة.
١٤٥٤٤- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن الحسن: (قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة)، خالصةً للمؤمنين في الآخرة، لا يشاركهم فيها الكفار. فأما في الدنيا فقد شاركوهم.
١٤٥٤٥- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة)، مَنْ عمل بالإيمان في الدنيا خلصت له كرامة الله يوم القيامة، ومَنْ ترك الإيمان في الدنيا قَدِم على ربّه لا عذرَ له.
١٤٥٤٦- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السديّ: (قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا)، يشترك فيها معهم المشركون = (خالصة يوم القيامة)، للذين آمنوا.
١٤٥٤٧- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: (قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة)، يقول: المشركون يشاركون المؤمنين في الدنيا في اللباس والطعام والشراب، ويوم القيامة يَخْلُص اللباس والطعام والشراب للمؤمنين، وليس للمشركين في شيء من ذلك نصيبٌ.
١٤٥٤٨- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: الدنيا يصيب منها المؤمن والكافر، ويخلص خيرُ الآخرة للمؤمنين، وليس للكافر فيها نصيب.
١٤٥٤٩- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: (قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة)، قال: هذه يوم
* * *
وقال سعيد بن جبير في ذلك بما:-
١٤٥٥٠- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا إسماعيل بن أبان، وحبويه الرازي أبو يزيد، عن يعقوب القمي، عن سعيد بن جبير: (قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة)، قال: ينتفعون بها في الدنيا، ولا يتبعهم إثمها. (١)
* * *
واختلفت القرأة في قراءة قوله:"خالصة".
فقرأ ذلك بعض قرأة المدينة:"خَالِصَةٌ"، برفعها، بمعنى: قل هي خالصة للذين آمنوا.
* * *
وقرأه سائر قرأة الأمصار: (خَالِصَةً)، بنصبها على الحال من"لهم"، وقد ترك ذكرها من الكلام اكتفاءً منها بدلالة الظاهر عليها، على ما قد وصفت في تأويل الكلام أن معنى الكلام: قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا مشتركة، وهي لهم في الآخرة خالصة. ومن قال ذلك بالنصب، جعل خبر"هي" في قوله: (للذين آمنوا) (٢)
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القراءتين عندي بالصحة، قراءة من قرأ نصبًا، لإيثار العرب النصبَ في الفعل إذا تأخر بعد الاسم والصفة، (٣) وإن كان الرفع جائزًا، غير أن ذلك أكثر في كلامهم.
* * *
و ((حبويه الرازي))، أبو يزيد، مضت ترجمته برقم: ١٤٣٦٥.
(٢) انظر معاني القرآن للفراء ١: ٣٧٦، ٣٧٧.
(٣) ((الفعل))، يعني المصدر. و ((الاسم))، هو المشتق. و ((الصفة))، حرف الجر والظرف. انظر فهارس المصطلحات. وقد أسلف أبو جعفر في ٢: ٣٦٥ أن ((خالصة)) مصدر مثل ((العافية))
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: كما بينت لكم الواجب عليكم في اللباس والزينة، والحلال من المطاعم والمشارب والحرام منها، وميزت بين ذلك لكم، أيها الناس، كذلك أبيِّن جميع أدلتي وحججي، وأعلامَ حلالي وحرامي وأحكامي، (١) لقوم يعلمون ما يُبَيَّن لهم، ويفقهون ما يُمَيَّز لهم.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد: قل، يا محمد، لهؤلاء المشركين الذين يتجرّدون من ثيابهم للطواف بالبيت، ويحرمون أكل طيبات ما أحل الله لهم من رزقه: أيها القوم، إن الله لم يحرم ما تحرمونه، بل أحل ذلك لعباده المؤمنين وطيَّبه لهم، وإنما حرم ربِّي القبائح من الأشياء = وهي"الفواحش" (٢) ="ما ظهر منها"، فكان علانية ="وما بطن"، منها فكان سرًّا في خفاء. (٣)
* * *
وقد روي عن مجاهد في ذلك ما:-
١٤٥٥١- حدثني الحارث قال، حدثني عبد العزيز قال، حدثنا أبو سعد
= وتفسير ((آية)) فيما سلف من فهرس اللغة (أيي).
(٢) انظر تفسير ((الفاحشة)) فيما سلف ص: ٣٧٧، تعليق: ٢، والمراجع هناك.
(٣) انظر تفسير ((ظهر)) و ((يظن)) فيما سلف ص: ٢١٨، تعليق: ٢، والمراجع هناك.
* * *
وقد ذكرت اختلاف أهل التأويل في تأويل ذلك بالروايات فيما مضى، فكرهت إعادته. (١)
* * *
وأما"الإثم"، فإنه المعصية ="والبغي"، الاستطالة على الناس. (٢)
* * *
يقول تعالى ذكره: إنما حرم ربي الفواحش مع الإثم والبغي على الناس.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
١٤٥٥٢- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (والإثم والبغي)، أما"الإثم" فالمعصية = و"البغي"، أن يبغي على الناس بغير الحق.
١٤٥٥٣- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا أبو سعد قال، سمعت مجاهدًا في قوله: (ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي)، قال: نهى عن"الإثم"، وهي المعاصي كلها = وأخبر أن الباغيَ بَغْيُه كائنٌ على نفسه. (٣)
* * *
(٢) انظر تفسير ((الإثم)) فيما سلف من فهارس اللغة (أثم).
= وتفسير ((البغي)) فيما سلف ٢: ٣٤٢ /٣: ٣٢٢ / ٤: ٢٨١ / ٦: ٢٧٦.
(٣) في المخطوطة: ((أن اكتفى بغيه على نفسه))، وهو شيء لا يقرأ، والذي في المطبوعة أشبه بالصواب.
قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه: إنما حرم ربي الفواحش والشرك به، أن تعبدوا مع الله إلهًا غيره = (ما لم ينزل به سلطانًا)، يقول: حرم ربكم عليكم أن تجعلوا معه في عبادته شِرْكًا لشيء لم يجعل لكم في إشراككم إياه في عبادته حجة ولا برهانًا، وهو"السلطان" (١) = (وأن تقولوا على الله ما لا تعملون)، يقول: وأن تقولوا إن الله أمركم بالتعرِّي والتجرُّد للطواف بالبيت، وحرم عليكم أكل هذه الأنعام التي حرمتموها وسيَّبتموها وجعلتموها وصائل وحوامي، وغير ذلك مما لا تعلمون أن الله حرّمه، أو أمر به، أو أباحه، فتضيفوا إلى الله تحريمه وحَظْره والأمر به، فإن ذلك هو الذي حرمه الله عليكم دون ما تزعمون أن الله حرمه، أو تقولون إن الله أمركم به، جهلا منكم بحقيقة ما تقولون وتضيفونه إلى الله.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (٣٤) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره تهدُّدًا للمشركين الذين أخبر جل ثناؤه عنهم أنهم كانوا إذا فعلوا فاحشة قالوا:"وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها" (٢) = ووعيدًا منه لهم على كذبهم عليه، وعلى إصرارهم على الشرك به والمقام على كفرهم = ومذكرًا لهم ما أحلّ بأمثالهم من الأمم الذين كانوا قبلهم=: (ولكل أمة أجل)،
(٢) في المطبوعة: ((مهددًا للمشركين))، وأثبت ما في المخطوطة، وهو ألصق بالسياق.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٣٥) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره معرِّفًا خلقه ما أعدَّ لحزبه وأهل طاعته والإيمان به وبرسوله، وما أعدّ لحزب الشيطان وأوليائه والكافرين به وبرسله: (يا بني آدم إما يأتينكم رسل منكم)، يقول: إن يجئكم رسلي الذين أرسلهم إليكم بدعائكم إلى طاعتي، والانتهاء إلى أمري ونهيي ="منكم"، يعني: من أنفسكم، ومن عشائركم وقبائلكم = (يقصون عليكم آياتي)، يقول: يتلون عليكم آيات كتابي، ويعرّفونكم أدلتي وأعلامي على صدق ما جاؤوكم به من عندي، وحقيقة
(٢) انظر تفسير ((الأجل)) فيما سلف ص: ١١٧، تعليق: ١ والمراجع هناك.
(٣) في المطبوعة: ((يتمتعون))، والصواب من المخطوطة.
١٤٥٥٤- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا هشام أبو عبد الله قال، حدثنا هياج قال، حدثنا عبد الرحمن بن زياد، عن أبي سيّار السُّلَمي قال، إن الله جعل آدم وذريته في كفّه فقال: (يا بني آدم إما يأتينكم رسل منكم يقصون عليهم آياتي فمن اتقى وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون)، ثم نظر إلى الرسل فقال: (يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ. وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ)، [سورة المؤمنون: ٥١-٥٢]، ثم بَثَّهم. (٤)
* * *
فإن قال قائل: ما جواب قوله: (إما يأتينكم رسل منكم) ؟
= وتفسير ((آية)) فيما سلف من فهارس اللغة (أيي).
(٢) ((تحوب من إثمه))، أي: تأثيم منه، أي: ترك الإثم وتوقاه.
= وانظر تفسير ((أصلح)) فيما سلف من فهارس اللغة (صلح).
(٣) انظر تفسير ((لا خوف عليهم ولا هم يحزنون)) في نظائرها فيما سلف (خوف) (حزن) من فهارس اللغة.
(٤) الأثر: ١٤٥٥٤ - هذا إسناد مبهم لم أستطع تفسيره.
((أبو سيار السلمي)) لم أعرف من يكون، فمن أجل ذلك لم أستطع أن أميز من يكون: ((عبد الرحمن بن زياد))، ولا ((هياج)).
والأثر، ذكره السيوطي في الدر المنثور ٣: ٨٢، ولم ينسبه لغير ابن جرير.
فقال بعضهم في ذلك: الجوابُ مضمرٌ، يدل عليه ما ظهر من الكلام، وذلك قوله: (فمن اتقى وأصلح). وذلك لأنه حين قال: (فمن اتقى وأصلح)، كأنه قال: فأطيعوهم.
* * *
وقال آخرون منهم: الجواب:"فمن اتقى"، لأن معناه: فمن اتقى منكم وأصلح. قال: ويدل على أنّ ذلك كذلك، تبعيضه الكلام، فكان في التبعيض اكتفاء من ذكر"منكم".
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (٣٦) ﴾
قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه: وأما من كذّب بإيتاء رسلي التي أرسلتها إليه، وجحد توحيدي، وكفر بما جاء به رسلي، واستكبر عن تصديق حُجَجي وأدلّتي = (فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون)، يقول: هم في نار جهنم ماكثون، لا يخرجون منها أبدًا. (١)
* * *
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فمن أخطأ فعلا وأجهلُ قولا وأبعد ذهابًا عن الحق والصواب (١) = (ممن افترى على الله كذبًا)، يقول: ممن اختلق على الله زُورًا من القول، فقال إذا فعل فاحشة: إن الله أمرنا بها (٢) = (أو كذب بآياته)، يقول: أو كذب بأدلته وأعلامه الدّالة على وحدانيته ونبوّة أنبيائه، فجحد حقيقتها ودافع صحتها = (أولئك) يقول: مَنْ فعل ذلك، فافترى على الله الكذب وكذب بآياته = (أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب)، يقول: يصل إليهم حظهم مما كتب الله لهم في اللوح المحفوظ. (٣)
* * *
ثم اختلف أهل التأويل في صفة ذلك"النصيب"، الذي لهم في"الكتاب"، وما هو؟
فقال بعضهم: هو عذاب الله الذي أعدَّه لأهل الكفر به.
* ذكر من قال ذلك.
١٤٥٥٥- حدثنا يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا مروان، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي صالح قوله: (أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب)، أي من العذاب.
١٤٥٥٦- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أسامة، عن إسماعيل، عن أبي صالح، مثله.
(٢) انظر تفسير ((افترى)) فيما سلف ص: ١٨٩، تعليق: ٢، والمراجع هناك.
(٣) انظر تفسير ((نال)) فيما سلف ٣: ٢٠ /٦: ٥٨٧.
= وتفسير ((نصيب)) فيما سلف ص: ١٣١، تعليق: ٢، والمراجع هناك.
١٤٥٥٨- حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم، عن جويبر، عن كثير بن زياد، عن الحسن في قوله: (أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب)، قال: من العذاب.
١٤٥٥٩- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو معاوية، عن جويبر، عن أبي سهل، عن الحسن، قال: من العذاب.
١٤٥٦٠- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا المحاربي، عن جويبر، عن رجل، عن الحسن، قال: من العذاب.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: أولئك ينالهم نصيبهم مما سبق لهم من الشقاء والسعادة.
* ذكر من قال ذلك:
١٤٥٦١- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن آدم، عن شريك، عن سعيد: (أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب)، قال: من الشِّقوة والسعادة.
١٤٥٦٢- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عنبسة، عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن القاسم بن أبي بزة، عن مجاهد: (أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب)، كشقي وسعيد. (١)
١٤٥٦٣- حدثنا واصل بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن فضيل، عن الحسن ابن عمرو الفقيمي، عن الحكم قال: سمعت مجاهدًا يقول: (أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب)، قال: هو ما سبق.
١٤٥٦٤- حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
١٤٥٦٥- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (ينالهم نصيبهم من الكتاب)، ما كتب عليهم من الشقاوة والسعادة، كشقي وسعيد.
١٤٥٦٦-.... قال، حدثنا ابن المبارك، عن شريك، عن جابر، عن مجاهد، عن ابن عباس: (أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب)، من الشقاوة والسعادة.
١٤٥٦٧- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن نمير وابن إدريس، عن الحسن بن عمرو، عن الحكم، عن مجاهد: (أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب)، قال: ما قد سبق من الكتاب.
١٤٥٦٨- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا حميد بن عبد الرحمن، عن فضيل بن مرزوق، عن عطية: (أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب)، قال: ما سبق لهم في الكتاب.
١٤٥٦٩-.... قال، حدثنا سويد بن عمرو ويحيى بن آدم، عن شريك، عن سالم، عن سعيد: (أولئك ينالهم نصيبهم)، قال: من الشقاوة والسعادة.
١٤٥٧٠-.... قال: حدثنا أبو معاوية، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: ما قُضي أو قُدِّر عليهم.
١٤٥٧١- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: قال ابن عباس: (ينالهم نصيبهم من الكتاب)، ينالهم الذي كتب عليهم من الأعمال.
١٤٥٧٢- حدثنا عمرو بن عبد الحميد قال، حدثنا مروان بن معاوية، عن إسماعيل بن سميع، عن بكر الطويل، عن مجاهد في قول الله: (أولئك
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك، أولئك ينالهم نصيبهم من كتابهم الذي كتب لهم أو عليهم، بأعمالهم التي عملوها في الدنيا من خير وشر.
* ذكر من قال ذلك:
١٤٥٧٣- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس: (أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب)، يقول: نصيبهم من الأعمال، من عمل خيرًا جُزي به، ومن عمل شرًّا جزي به.
١٤٥٧٤- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله: (أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب) قال: من أحكام الكتاب، على قدر أعمالهم.
١٤٥٧٥- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: (أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب)، قال: ينالهم نصيبهم في الآخرة من أعمالهم التي عملوا وأسْلَفوا.
١٤٥٧٦- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد، عن سعيد، عن قتادة قوله: (أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب)، أي: أعمالهم، أعمال السوء التي عملوها وأسلفوها.
١٤٥٧٧- حدثني أحمد بن المقدام قال، حدثنا المعتمر قال، قال أبي: (أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب)، زعم قتادة: من أعمالهم التي عملوا.
١٤٥٧٨- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول، حدثنا عبيد بن سليمان، عن الضحاك قوله: (أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب)،
و ((بكر الطويل)) كأنه هو ((بكر بن يزيد الطويل الحمصي))، روى عن أبي هريرة الحمصي، روى عنه أبو سعيد الشج، مترجم في ابن أبي حاتم ١ / ١ / ٣٩٤.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: ينالهم نصيبهم مما وُعِدوا في الكتاب من خير أو شر.
* ذكر من قال ذلك:
١٤٥٧٩- حدثنا علي بن سهل قال، حدثنا زيد بن أبي الزرقاء، عن سفيان، عن جابر، عن مجاهد، عن ابن عباس في هذه الآية: (أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب)، قال: من الخير والشر.
١٤٥٨٠-... قال حدثنا زيد، عن سفيان، عن منصور، عن مجاهد قال: ما وُعدوا.
١٤٥٨١- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن منصور، عن مجاهد: (أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب)، قال: ما وعدوا.
١٤٥٨٢- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن منصور، عن مجاهد: (أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب)، قال: ما وعدوا فيه من خير أو شر.
١٤٥٨٣-.... قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن جابر، عن مجاهد، عن ليث، عن ابن عباس: (أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب)، قال: ما وُعِدوا مثله.
١٤٥٨٤- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا المحاربي، عن جويبر، عن الضحاك قال: ما وُعِدوا فيه من خير أو شر.
١٤٥٨٥- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو نعيم، قال، حدثنا سفيان، عن منصور، عن مجاهد: (أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب)، قال: ما وُعِدوا فيه.
١٤٥٨٧- حدثنا عمرو بن عبد الحميد قال، حدثنا مروان بن معاوية، عن الحسن بن عمرو، عن الحكم، عن مجاهد في قول الله: (أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب)، قال: ينالهم ما سبق لهم من الكتاب.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب الذي كتبه الله على من افترى عليه.
* ذكر من قال ذلك:
١٤٥٨٨- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: (أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب)، يقول: ينالهم ما كتب عليهم. يقول: قد كتب لمن يفتري على الله أنّ وجهه مسوَدٌّ.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: أولئك ينالهم نصيبهم مما كتب لهم من الرزق والعمر والعمل.
* ذكر من قال ذلك:
١٤٥٨٩- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرحمن بن سعد قال، حدثنا أبو جعفر، عن الربيع بن أنس: (أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب)، مما كتب لهم من الرزق.
١٤٥٩٠-.... قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا محمد بن حرب، عن ابن لهيعة، عن أبي صخر، عن القرظي: (أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب)، قال: عمله ورزقه وعمره.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب، قولُ من قال: معنى ذلك: أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب، مما كتب لهم من خير وشر في الدنيا، ورزق وعمل وأجل. وذلك أن الله جل ثناؤه أتبع ذلك قوله: (حتى إذا جاءتهم رسلنا يتوفونهم قالوا أين ما كنتم تدعون من دون الله)، فأبان بإتباعه ذلك قولَه: (أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب)، أن الذي ينالهم من ذلك إنما هو ما كان مقضيًّا عليهم في الدنيا أن ينالهم، لأنه قد أخبر أن ذلك ينالهم إلى وقت مجيئهم رسلَه لتقبض أرواحهم. ولو كان ذلك نصيبهم من الكتاب، أو مما قد أعدّ لهم في الآخرة، لم يكن محدودًا بأنه ينالهم إلى مجيء رسل الله لوفاتهم، لأن رسل الله لا تجيئهم للوفاة في الآخرة، وأن عذابهم في الآخرة لا آخر له ولا انقضاء، فإن الله قد قضى عليهم بالخلود فيه. فبيِّنٌ بذلك أن معناه ما اخترنا من القول فيه.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (٣٧) ﴾
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: (حتى إذا جاءتهم رسلنا)، إلى أن جاءتهم رسلنا. يقول جل ثناؤه: وهؤلاء الذين افتروا على الله الكذب، أو كذبوا بآيات ربهم، ينالهم حظوظهم التي كتب الله لهم، وسبق في علمه لهم
* * *
(٢) انظر تفسير ((الضلال)) فيما سلف من فهارس اللغة (ضلل).
قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله جل ثناؤه عن قيله لهؤلاء المفترين عليه، المكذبين آياته يوم القيامة. يقول تعالى ذكره: قال لهم حين وردوا عليه يوم القيامة، ادخلوا، أيها المفترون على ربكم، المكذبون رسله، في جماعات من ضُرَبائكم (١) = (قد خلت من قبلكم)، يقول: قد سلفت من قبلكم (٢) ="من الجن والإنس في النار"، ومعنى ذلك: ادخلوا في أمم هي في النار، قد خلت
(٢) انظر تفسير ((خلا)) فيما سلف ٣: ١٠٠، ١٢٨ / ٤: ٢٨٩ / ٧: ٢٢٨.
وإنما عنى بـ"الأخت"، الأخوة في الدين والملة، وقيل:"أختها"، ولم يقل:"أخاها"، لأنه عنى بها"أمة" وجماعة أخرى، كأنه قيل: كلما دخلت أمة لعنت أمة أخرى من أهل ملتها ودينها. (٢)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
١٤٥٩٢- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (كلما دخلت أمة لعنت أختها)، يقول: كلما دخل أهل ملة لعنوا أصحابهم على ذلك الدين، (٣) يلعن المشركون المشركين، واليهودُ اليهودَ، والنصارى النصارى، والصابئون الصابئين، والمجوسُ المجوسَ، تلعن الآخرةُ الأولى.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: حتى إذا تداركت الأمم في النار جميعًا، يعني اجتمعت فيها.
* * *
(٢) انظر معاني القرآن للفراء ١: ٣٧٨.
(٣) في المطبوعة والمخطوطة: ((كلما دخلت أهل ملة))، والصواب ما أثبت.
* * *
يقول: اجتمع فيها الأوَّلون من أهل الملل الكافرة والآخِرون منهم.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لا تَعْلَمُونَ (٣٨) ﴾
قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله جل ثناؤه عن محاورة الأحزاب من أهل الملل الكافرة في النار يوم القيامة. يقول الله تعالى ذكره: فإذا اجتمع أهل الملل الكافرة في النار فادّاركوا، قالت أخرى أهل كل ملة دخلت النار = الذين كانوا في الدنيا بعد أولى منهم تَقَدَّمتها وكانت لها سلفًا وإمامًا في الضلالة والكفر = لأولاها الذين كانوا قبلهم في الدنيا: ربنا هؤلاء أضلونا عن سبيلك، ودعونا إلى عبادة غيرك، وزيَّنوا لنا طاعة الشيطان، فآتهم اليوم من عذابك الضعفَ على عذابنا، كما:-
١٤٥٩٣- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"قالت أخراهم"، الذين كانوا في آخر الزمان ="لأولاهم"، الذين شرعوا لهم ذلك الدين = (ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذابًا ضعفًا من النار)
* * *
وأما قوله: (قال لكل ضعف ولكن لا تعلمون)، فإنه خبر من الله عن جوابه لهم، يقول: قال الله للذين
* * *
و"ضعف الشيء"، مثله مرة.
* * *
وكان مجاهد يقول في ذلك ما:-
١٤٥٩٤- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: (عذابًا ضعفًا من النار قال لكل ضعف)، مضعّف.
١٤٥٩٥- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
١٤٥٩٦- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال الله: (لكل ضعف)، للأولى، وللآخرة ضعف.
١٤٥٩٧- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان قال، حدثني غير واحد، عن السدي، عن مرة، عن عبد الله: (ضعفًا من النار)، قال: أفاعي.
١٤٥٩٨- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا سفيان، عن السدي، عن مرة، عن عبد الله: (فآتهم عذابًا ضعفًا من النار)، قال: حيّات وأفاعي.
* * *
* * *
وقوله: (ولكن لا تعلمون)، يقول: ولكنكم، يا معشر أهل النار، لا تعلمون ما قدْرُ ما أعدّ الله لكم من العذاب، فلذلك تسأل الضعفَ منه الأمةُ الكافرةُ الأخرى لأختها الأولى.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿وَقَالَتْ أُولاهُمْ لأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (٣٩) ﴾
قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه: وقالت أولى كل أمة وملة سبقت في الدنيا، لأخراها الذين جاؤوا من بعدهم، وحَدَثوا بعد زمانهم فيها، فسلكوا سبيلهم واستنوا سنتهم: (فما كان لكم علينا من فضل)، وقد علمتم ما حل بنا من عقوبة الله جل ثناؤه بمعصيتنا إياه وكفرنا بآياته، بعدما جاءتنا وجاءتكم بذلك الرسل والنذر، (٢) فهل أنَبْتم إلى طاعة الله، (٣) وارتدعتم عن غوايتكم وضلالتكم؟ فانقضت حجة القوم وخُصِموا ولم يطيقوا جوابًا بأن يقولوا:"فضِّلنا عليكم إذ اعتبرنا بكم فآمنا بالله وصدقنا رسله"، (٤) قال الله لجميعهم: فذوقوا جميعكم، أيها الكفرة، عذابَ جهنم، (٥) بما كنتم في
(٢) في المطبوعة: ((وكفرنا به وجاءتنا وجاءتكم بذلك الرسل))، وفي المخطوطة: ((وكفرنا به ما جاءتنا وجاءتكم))، وهو غير مستقيم، صوابه إن شاء الله ما أثبت. وهو سياق الآيات قبلها. هكذا استظهرته من تفسير الآيات السالفة.
(٣) في المطبوعة: ((هل انتهيتم))، وفي المخطوطة: ((هل أسم))، وهذا صواب قراءتها، وزدت الفاء في أول ((هل))، لاقتضاء سياق الكلام إثباتها.
(٤) في المطبوعة: ((إنا اعتبرنا بكم)) وفي المخطوطة: ((إذا اعتبرنا بكم))، والصواب ما أثبت.
(٥) انظر تفسير: ((ذوقوا العذاب)) فيما سلف ١١: ٤٢٠، تعليق: ١، والمراجع هناك.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
١٤٥٩٩- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا المعتمر قال، سمعت عمران، عن أبي مجلز: (وقالت أولاهم لأخراهم فما كان لكم علينا من فضل فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون)، قال: يقول: فما فَضْلكم علينا، وقد بُيِّن لكم ما صنع بنا، وحُذِّرتم؟
١٤٦٠٠- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل، قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (وقالت أولاهم لأخراهم فما كان لكم علينا من فضل)، فقد ضللتم كما ضللنا.
* * *
وكان مجاهد يقول في هذا بما:-
١٤٦٠١- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن أبن أبي نجيح، عن مجاهد: (فما كان لكم علينا من فضل)، قال: من التخفيف من العذاب.
١٤٦٠٢- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (فما كان لكم علينا من فضل)، قال: من تخفيف.
* * *
وهذا القول الذي ذكرناه عن مجاهد، قولٌ لا معنى له لأن قول القائلين:
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: إن الذين كذبوا بحججنا وأدلتنا فلم يصدقوا بها، ولم يتبعوا رسلنا (١) = (واستكبروا عنها)، يقول: وتكبروا عن التصديق بها وأنفوا من اتباعها والانقياد لها تكبرًا (٢) ="لا تفتح لهم"، لأرواحهم إذا خرجت من أجسادهم ="أبواب السماء"، ولا يصعد لهم في حياتهم إلى الله قول ولا عمل، لأن أعمالهم خبيثة، وإنما يُرْفع الكلم الطيبُ والعملُ الصالح، كما قال جل ثناؤه: (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) [سورة فاطر: ١٠].
* * *
ثم اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: (لا تفتح لهم أبواب السماء).
فقال بعضهم: معناه: لا تفتح لأرواح هؤلاء الكفار أبواب السماء.
* ذكر من قال ذلك:
١٣٦٠٣- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يعلى، عن أبي سنان، عن الضحاك، عن ابن عباس: (لا تفتح لهم أبواب السماء)، قال: عنى بها الكفار،
(٢) انظر تفسير ((الاستكبار)) فيما سلف ١١: ٥٤٠.
١٤٦٠٤- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو معاوية، عن أبي سنان، عن الضحاك قال، قال ابن عباس: تُفتح السماء لروح المؤمن، ولا تفتح لروح الكافر.
١٤٦٠٥- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (لا تفتح لهم أبواب السماء)، قال: إن الكافر إذا أُخِذ روحُه، ضربته ملائكة الأرض حتى يرتفع إلى السماء، فإذا بلغ السماء الدنيا ضربته ملائكة السماء فهبط، فضربته ملائكة الأرض فارتفع، فإذا بلغ السماء الدنيا ضربته ملائكة السماء الدنيا فهبط إلى أسفل الأرضين. وإذا كان مؤمنًا نفخ روحه، (١) وفتحت له أبواب السماء، فلا يمرّ بملك إلا حيَّاه وسلم عليه، حتى ينتهي إلى الله، فيعطيه حاجته، ثم يقول الله: ردّوا روحَ عبدي فيه إلى الأرض، فإني قضيتُ من التراب خلقه، وإلى التراب يعود، ومنه يخرج.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك أنه لا يصعد لهم عمل صالح ولا دعاءٌ إلى الله.
* ذكر من قال ذلك:
١٤٦٠٦- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبيد الله، عن سفيان، عن ليث، عن عطاء، عن ابن عباس: (لا تفتح لهم أبواب السماء)، لا يصعد لهم قولٌ ولا عمل.
١٤٦٠٧- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: (إن الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها لا تفتح لهم أبواب السماء)، يعني: لا يصعد إلى الله من عملهم شيء.
١٤٦٠٨- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: (لا تفتح لهم أبواب السماء)، يقول: لا تفتح لخير يعملون.
١٤٦١٠- حدثنا مطر بن محمد الضبي قال، حدثنا عبد الله بن داود قال، حدثنا شريك، عن منصور، عن إبراهيم، في قوله: (لا تفتح لهم أبواب السماء)، قال: لا يرتفع لهم عمل ولا دعاء. (١)
١٤٦١١- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن آدم، عن شريك، عن سالم، عن سعيد: (لا تفتح لهم أبواب السماء)، قال: لا يرتفع لهم عمل ولا دعاء.
١٤٦١٢- حدثني المثنى قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا شريك، عن سعيد: (لا تفتح لهم أبواب السماء)، قال: لا يرفع لهم عملٌ صالح ولا دعاء.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: لا تفتح أبواب السماء لأرواحهم ولا لأعمالهم.
* ذكر من قال ذلك:
١٤٦١٣- حدثني القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج: (لا تفتح لهم أبواب السماء)، قال: لأرواحهم ولا لأعمالهم.
* * *
قال أبو جعفر: وإنما اخترنا في تأويل ذلك ما اخترنا من القول، لعموم خبر الله جل ثناؤه أن أبواب السماء لا تفتح لهم. ولم يخصص الخبر بأنه يفتح لهم في شيء، فذلك على ما عمّه خبر الله تعالى بأنها لا تفتح لهم في شيء، مع تأييد الخبر عن رسول الله ﷺ ما قلنا في ذلك، وذلك ما:-
١٤٦١٥- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن عبد الرحمن، عن ابن أبي ذئب، عن محمد بن عمرو بن عطاء، عن سعيد بن يسار، عن أبي هريرة: أن رسول الله ﷺ قال: الميت تحضره الملائكة، فإذا
و ((زاذان)) هو ((أبو عبد الله))، ويقال ((أبو عمر)) الكوفي الضرير. تابعي ثقة، مضى أيضًا برقم: ٩٥٠٨، ١٣٠١٧، ١٣٠١٨.
وهذا الخبر مختصرًا رواه أحمد مطولا ومختصرًا في مسنده ٤: ٢٨٧، ٢٨٨، من طريقتين، و ٢٩٧، كلها من طريق العمش، عن المنهال. ورواه أيضًا ٤: ٢٩٥، ٢٩٦، من طريقين. أحدهما من طريق عبد الرزاق، عن معمر، عن يونس بن خباب، عن المنهال، والآخر من طريق أبي الربيع، عن حماد بن زيد، عن يونس بن خباب.
ورواه أبو داود الطيالسي في مسنده ص: ١٠٢، مطولا من طريق أبي عوانة، عن الأعمش. ورواه أبو داود في سننه ٣: ٢٨٩، رقم: ٣٢١٢ مختصرًا، ورواه مطولا ٤: ٣٣٠ رقم: ٤٧٥٣.
ورواه الحاكم في المستدرك ١: ٣٧ - ٤٠، من طرق، وقال: ((هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، فقد احتجا بالمنهال بن عمرو، وزاذان بن عمرو، وزاذان أبي عمر الكندي. وفي هذا الحديث فوائد كثيرة لأهل السنة، وقمع للمبتدعة، ولم يخرجاه بطوله)).
وخرجه ابن كثير في تفسيره ٣: ٤٧٣، ٤٧٤، وقال: ((رواه أبو داود، والنسائي، وابن ماجه، من طرق عن المنهال بن عمرو به)) ثم ساق حديث أحمد في المسند.
وخره السيوطي في الدر المنثور ١: ٨٣، وزاد نسبته لابن أبي شيبة وهناد بن السري، وعبد بن حميد، وابن مردويه، والبيهقي في كتاب عذاب القبر.
١٤٦١٦- حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال، حدثنا ابن أبي فديك قال، حدثني ابن أبي ذئب، عن محمد بن عمرو بن عطاء، عن سعيد بن يسار، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، بنحوه.
* * *
(٢) في المطبوعة: ((لا تفتح لك أبواب السماء))، وفي المخطوطة: ((لم تفتح)) بغير ((لك))، وأثبت ما في تفسير ابن كثير. وفي ابن ماجه: ((لا تفتح لك)).
(٣) الأثر: ١٤٦١٥، ١٤٦١٦ - ((عبد الرحمن بن عثمان بن أمية الثقفي)) ((أبو بحر البكراوي))، ضعيف متكلم فيه، قال أبو حاتم: ((يكتب حديثه ولا يحتج به)). مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم ٢ / ٢ / ٢٦٤.
و ((ابن أبي ذئب)) هو ((محمد بن عبد الرحمن بن المغيرة بن الحارث بن أبي ذئب))، ثقة حافظ، مضى برقم: ٢٩٩٥.
و ((محمد بن عمرو بن عطاء القرشي العامري))، ثقة روى له الجماعة.
و ((سعيد بن يسار)) أبو الحباب المدني، تابعي ثقة لا يختلفون في توثيقه. روى له الجماعة.
وهذا خبر صحيح، رواه عن ابن أبي ذئب غير ((عبد الرحمن بن عثمان)). وسيأتي بإسناد ليس فيه ضعف، في الأثر التالي.
وهذا الخبر رواه ابن ماجه ص: ١٤٢٣ رقم: ٤٢٦٢.
وذكره ابن كثير في تفسيره ٣: ٤٧٥، ونسبة إلى أحمد، والنسائي وخرجه السيوطي في الدر المنثور ٣: ٨٣، وزاد إلى حبان، والحاكم وصححه، والبيهقي في البعث.
والأثر رقم: ١٤٦١٦. هو إسناد صحيح للخبر السالف.
((ابن أبي فديك))، هو ((محمد بن إسماعيل بن مسلم بن أبي فديك))، ثقة، روى له الجماعة. مضى برقم: ٤٣١٩، ٩٤٨٢، ٩٨٧٦.
فقرأته عامة قرأة الكوفة:"لا يُفَتَحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّمَاء"، بالياء من"يفتح"، وتخفيف"التاء" منها، بمعنى: لا يفتح لهم جميعها بمرة واحدةٍ وفتحةٍ واحدة.
* * *
وقرأ ذلك بعض المدنيين وبعض الكوفيين: (لا تُفَتَّحُ)، بالتاء وتشديد التاء الثانية، بمعنى: لا يفتح لهم باب بعد باب، وشيء بعد شيء.
* * *
قال أبو جعفر: والصواب في ذلك عندي من القول أن يقال: إنهما قراءتان مشهورتان صحيحتا المعنى. وذلك أن أرواح الكفار لا تفتح لها ولا لأعمالهم الخبيثة أبوابُ السماء بمرة واحدة، ولا مرة بعد مرة، وباب بعد باب. فكلا المعنيين في ذلك صحيح.
وكذلك"الياء"، و"التاء" في"يفتح"، و"تفتح"، لأن"الياء" بناء على فعل الواحد للتوحيد، و"التاء" لأن"الأبواب" جماعة، فيخبر عنها خبر الجماعة. (١)
* * *
قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه: ولا يدخل هؤلاء الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها، الجنة التي أعدّها الله لأوليائه المؤمنين أبدًا، كما لا يلج الجمل في سمِّ الخياط أبدًا، وذلك ثقب الإبرة.
* * *
وكل ثقب في عين أو أنف أو غير ذلك، فإن العرب تسميه"سَمًّا" وتجمعه"سمومًا"، و"السِّمام"، في جمع"السَّم" القاتل، أشهر وأفصح من"السموم". وهو في جمع"السَّم" الذي هو بمعنى الثقب أفصح. وكلاهما في العرب مستفيض. وقد يقال لواحد"السموم" التي هي الثقوب"سَمٌّ" و"سُمٌّ" بفتح السين وضمها، ومن"السَّم" الذي بمعنى الثقب قول الفرزدق:
فَنَفَّسْتُ عَنْ سَمَّيْهِ حَتَّى تَنَفَّسَا... وَقُلْتُ لَهُ: لا تَخْشَ شَيْئًا وَرَائِيا (١)
يعني بسمِّيه، ثقبي أنفه.
* * *
دَعَانِي ابْنُ حَمْرَاءِ العِجَانِ وَلَم يَجِدْ | لَهُ إذْ دَعَا، مُسْتأْخِرًا عَنْ دُعَائيا |
وكان في المطبوعة: ((شيئًا وراءنا))، لم يحسن قراءة المخطوطة.
وأما القرأة من جميع الأمصار، فإنها قرأت قوله: (فِي سَمِّ الْخِيَاطِ)، بفتح"السين"، وأجمعت على قراءة:"الجَمَلُ" بفتح"الجيم"، و"الميم" وتخفيف ذلك.
* * *
وأما ابن عباس وعكرمة وسعيد بن جبير، فإنه حكي عنهم أنهم كانوا يقرؤون ذلك:"الجُمَّلُ"، بضم"الجيم" وتشديد"الميم"، على اختلاف في ذلك عن سعيد وابن عباس.
* * *
فأما الذين قرؤوه بالفتح من الحرفين والتخفيف، فإنهم وجهوا تأويله إلى"الجمل" المعروف، وكذلك فسروه.
* ذكر من قال ذلك:
١٤٦١٧- حدثنا يحيى بن طلحة اليربوعي قال، حدثنا فضيل بن عياض، عن مغيرة، عن إبراهيم، عن عبد الله في قوله: (حتى يلج الجمل في سم الخياط)، قال: الجمل ابن الناقة، أو: زوج الناقة.
١٤٦١٨- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن أبي حصين، عن إبراهيم، عن عبد الله: (حتى يلج الجمل في سم الخياط)، قال:"الجمل"، زوج الناقة.
١٤٦١٩- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن أبي حصين، عن إبراهيم، عن عبد الله، مثله.
١٤٦٢٠- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن مهدي، عن هشيم، عن مغيرة، عن إبراهيم، عن عبد الله قال:"الجمل"، زوج الناقة.
١٤٦٢١- حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم، عن مغيرة، عن إبراهيم، عن عبد الله، مثله.
١٤٦٢٣- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن الحسن: (حتى يلج الجمل في سم الخياط)، قال: حتى يدخل البعير في خُرت الإبرة. (٢)
١٤٦٢٤- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن مهدي، عن هشيم، عن عباد بن راشد، عن الحسن قال: هو الجمل! فلما أكثروا عليه قال: هو الأشتر. (٣)
١٤٦٢٥- حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، حدثنا هشيم، عن عباد بن راشد، عن الحسن، مثله.
١٤٦٢٦- حدثنا المثنى قال، حدثنا الحجاج قال، حدثنا حماد، عن يحيى قال: كان الحسن يقرؤها: (حتى يلج الجمل في سم الخياط)، قال: فذهب بعضهم يستفهمه، قال: أشتر، أشتر. (٤)
١٤٦٢٧- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو النعمان عارم قال، حدثنا حماد بن زيد، عن شعيب بن الحبحاب، عن أبي العالية: (حتى يلج الجمل)، قال: الجمل الذي له أربع قوائم.
١٤٦٢٨- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن أبي حصين = أو: حصين =، عن إبراهيم، عن ابن مسعود في
(٢) ((خرت الإبرة)) (بضم الخاء أو فتحها، وسكون الراء) : هو ثقبها. وكان في المطبوعة: ((في خرق)) وهي صواب، والمخطوطة تشبه أن تقرأ هكذا وهكذا.
(٣) ((أشتر))، وهو الجمل، بالفارسية.
(٤) ((أشتر))، وهو الجمل، بالفارسية.
١٤٦٢٩- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا عبيد بن سليمان، عن الضحاك أنه كان يقرأ: (الجمل)، وهو الذي له أربع قوائم.
١٤٦٣٠- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو تميلة، عن عبيد، عن الضحاك: (حتى يلج الجمل)، الذي له أربع قوائم.
١٤٦٣١- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا زيد بن الحباب، عن قرة، عن الحسن: (حتى يلج الجمل)، قال: الذي بالمربد.
١٤٦٣٢- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن ابن مسعود أنه كان يقرأ:"حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ الأَصْفَرُ".
١٤٦٣٣- حدثنا نصر بن علي قال، حدثنا يحيى بن سليم قال، حدثنا عبد الكريم بن أبي المخارق، عن الحسن في قوله: (حتى يلج الجمل في سم الخياط)، قال: الجمل ابن الناقة = أو بَعْلُ الناقة.
* * *
وأما الذين خالفوا هذه القراءة فإنهم اختلفوا.
فروي عن ابن عباس في ذلك روايتان: إحداهما الموافقة لهذه القراءة وهذا التأويل.
* ذكر الرواية بذلك عنه:
١٤٦٣٤- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس: (حتى يلج الجمل في سم الخياط)، والجمل: ذو القوائم.
* * *
وذكر أن ابن مسعود قال ذلك.
* * *
والرواية الأخرى ما:-
١٤٦٣٦- حدثني يحيى بن طلحة اليربوعي قال، حدثنا فضيل بن عياض، عن منصور، عن مجاهد، عن ابن عباس في قوله:"حَتَّى يَلِجَ الْجُمَّلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ"، قال: هو قَلْس السفينة. (٢)
١٤٦٣٧- حدثني عبد الأعلى بن واصل قال، حدثنا أبو غسان مالك بن إسماعيل، عن خالد بن عبد الله الواسطي، عن حنظلة السدوسي، عن عكرمة، عن ابن عباس أنه كان يقرأ:"حَتَّى يَلِجَ الْجُمَّلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ"، يعني الحبل الغليظ = فذكرت ذلك للحسن فقال: (حتى يلجَ الجمَل)، قال عبد الأعلى: قال أبو غسان، قال خالد: يعني: البعير.
١٤٦٣٨- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أسامة، عن فضيل، عن مغيرة، عن مجاهد، عن ابن عباس أنه قرأ:"الجُمَّلُ"، مثقَّلة، وقال: هو حبل السفينة.
١٤٦٣٩- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن مهدي، عن هشيم، عن مغيرة، عن مجاهد، عن ابن عباس قال:"الجمَّل"، حبال السفن.
١٤٦٤٠- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن آدم، عن ابن مبارك، عن حنظلة، عن عكرمة، عن ابن عباس:"حَتَّى يَلِجَ الْجُمَّلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ"، قال: الحبل الغليظ.
(٢) ((القلس)) (بفتح فسكون) : هو حبل ضخم غليظ من ليف أو خوص، وهو من حبال السفن.
* * *
واختُلِف عن سعيد بن جبير أيضًا في ذلك، فروي عنه روايتان إحداهما مثل الذي ذكرنا عن ابن عباس: بضم"الجيم" وتثقيل"الميم".
* ذكر الرواية بذلك عنه:
١٤٦٤٢- حدثنا عمران بن موسى القزاز قال، حدثنا عبد الوارث بن سعيد قال، حدثنا حسين المعلم، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير: أنه قرأها:"حَتَّى يَلِجَ الْجُمَّلُ"، يعني قُلُوس السفن، يعني: الحبال الغلاظ. (١)
* * *
والأخرى منهما بضم"الجيم" وتخفيف"الميم".
* ذكر الرواية بذلك عنه:
١٤٦٤٣- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا عمرو، عن سالم بن عجلان الأفطس قال، قرأت على أبي:"حَتَّى يَلِجَ الْجُمَّلَ" فقال:"حَتَّى يَلِجَ الْجُمَلُ" خفيفة، هو حبل السفينة = هكذا أقرأنيها سعيد بن جبير.
* * *
وأما عكرمة، فإنه كان يقرأ ذلك:"الْجُمَّلُ"، بضم"الجيم" وتشديد"الميم"، وبتأوّله كما:-
١٤٦٤٤- حدثني ابن وكيع قال، حدثنا أبو تميلة، عن عيسى بن عبيد قال: سمعت عكرمة يقرأ: "الْجُمَّلُ" مثقلة، ويقول: هو الحبل الذي يصعد به إلى النخل.
١٤٦٤٦- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"حَتَّى يَلِجَ الْجُمَّلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ"، قال: حبل السفينة في سمّ الخياط.
١٤٦٤٧- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال عبد الله بن كثير: سمعت مجاهدًا يقول: الحبل من حبال السفن.
* * *
وكأنَّ من قرأ ذلك بتخفيف"الميم" وضم"الجيم"، على ما ذكرنا عن سعيد بن جبير، على مثال"الصُّرَد" و"الجُعَل"، وجهه إلى جماع"جملة" من الحبال جمعت"جُمَلا"، كما تجمع"الظلمة"،"ظُلَمًا"، و"الخُرْبة""خُرَبًا".
* * *
وكان بعض أهل العربية ينكر التشديد في"الميم" ويقول: إنما أراد الراوي"الجُمَل" بالتخفيف، فلم يفهم ذلك منه فشدّده.
* * *
١٤٦٤٨- وحدثت عن الفراء، عن الكسائي أنه قال: الذي رواه عن ابن عباس كان أعجميًّا.
* * *
وأما من شدد"الميم" وضم"الجيم" فإنه وجهه إلى أنه اسم واحد، وهو الحبل، أو الخيط الغليظ.
* * *
وكذلك ذلك في فتح"السين" من قوله: (سَمِّ الخياط).
* * *
وإذ كان الصواب من القراءة ذلك، فتأويل الكلام: ولا يدخلون الجنة حتى يلج = و"الولوج" الدخول، من قولهم:"ولج فلان الدار يلِجُ ولوجًا"، (١) بمعنى: دخل = الجملُ في سم الإبرة، وهو ثقبها
= (وكذلك نجزي المجرمين)، يقول: وكذلك نثيب الذين أجرَموا في الدنيا ما استحقوا به من الله العذاب الأليم في الآخرة. (٢)
* * *
وبمثل الذي قلنا في تأويل قوله: (سم الخياط)، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
١٤٦٤٩- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أسامة وابن مهدي وسويد الكلبي، عن حماد بن زيد، عن يحيى بن عتيق قال: سألت الحسن عن قوله: (حتى يلج الجمل في سم الخياط)، قال: ثقب الإبرة. (٣)
١٤٦٥٠- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا مسلم بن إبراهيم قال، حدثنا
(٢) انظر تفسير ((الجزاء))، و ((الإجرام)) فيما سلف من فهارس اللغة (جزى) (جرم).
(٣) الأثر: ١٤٦٤٩ - ((سويد الكلبي))، هو: ((كان يقلب السانيد، ويضع على الأسانيد الصحاح المتون الواهية)) !! ووثقه النسائي وابن معين والعجلي. مترجم في التهذيب، والكبير ٢ /٢ / ١٤٩، وابن أبي حاتم ٢ / ١ / ٢٣٩.
و ((يحيى بن عتيق الطفاوي البصري))، ثقة، وكان ورعًا متفنًا.
مترجم في التهذيب، والكبير ٤ / ٢ / ٢٩٥، وابن أبي حاتم ٤ / ٢ / ١٧٦.
١٤٦٥١- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن الحسن، مثله.
١٤٦٥٢- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (في سم الخياط)، قال: جُحْر الإبرة.
١٤٦٥٣- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس: (في سم الخياط)، يقول: جُحْر الإبرة.
١٤٦٥٤- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثني عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (في سم الخياط)، قال: في ثقبه.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (٤١) ﴾
قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه: لهؤلاء الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها = (من جهنم مهاد).
* * *
= وهو ما امتهدوه مما يقعد عليه ويضطجع، كالفراش الذي يفرش، والبساط الذي يبسط. (٢)
* * *
= (ومن فوقهم غواش).
* * *
(٢) انظر تفسير ((المهاد)) فيما سلف ٤: ٢٤٦ /٦: ٢٢٩ /٧: ٤٩٤.
* * *
وإنما معنى الكلام: لهم من جهنم مهاد من تحتهم فُرُش، ومن فوقهم منها لُحُف، وإنهم بين ذلك.
* * *
وبنحو ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
١٤٦٥٥- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن موسى بن عبيدة، عن محمد بن كعب: (لهم من جهنم مهاد)، قال: الفراش = (ومن فوقهم غواش)، قال: اللُّحُف
١٤٦٥٦- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا جابر بن نوح، عن أبي روق، عن الضحاك: (لهم من جهنم مهاد ومن فوقهم غواش)، قال:"المهاد"، الفُرُش، و"الغواشي"، اللحف.
١٤٦٥٧- حدثني محمد بن الحسين قال حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (لهم من جهنم مهاد ومن فوقهم غواش)، أما"المهاد" كهيئة الفراش = و"الغواشي"، تتغشاهم من فوقهم.
* * *
وأما قوله (وكذلك نجزي الظالمين)، فإنه يقول: وكذلك نثيب ونكافئ من ظلم نفسه، فأكسبها من غضب الله ما لا قبل لها به بكفره بربه، وتكذيبه أنبياءه. (١)
* * *
قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه: والذين صدّقوا الله ورسوله، وأقرُّوا بما جاءهم به من وحي الله وتنزيله وشرائع دينه، وعملوا ما أمرهم الله به فأطاعوه، وتجنبوا ما نهاهم عنه (١) = (لا نكلف نفسًا إلا وسعها)، يقول: لا نكلف نفسًا من الأعمال إلا ما يسعها فلا تحرج فيه (٢) = (أولئك)، يقول: هؤلاء الذين آمنوا وعملوا الصالحات = (أصحاب الجنة)، يقول: هم أهل الجنة الذين هم أهلها، دون غيرهم ممن كفر بالله، وعمل بسيئاتهم (٣) = (هم فيها خالدون)، يقول (٤) هم في الجنة ماكثون، دائمٌ فيها مكثهم، (٥) لا يخرجون منها، ولا يُسلبون نعيمها. (٦)
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿وَنزعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وأذهبنا من صدور هؤلاء الذين وَصَف صفتهم، وأخبر أنهم أصحاب الجنة، ما فيها من حقد وغِمْرٍ وعَداوة كان من
(٢) انظر تفسير ((التكليف)) و ((الوسع)) فيما سلف ص: ٢٢٥، تعليق: ١، والمراجع هناك.
(٣) انظر تفسير ((أصحاب الجنة)) فيما سلف من فهارس اللغة (صحب).
(٤) في المطبوعة والمخطوطة: ((فيها خالدون))، بغير ((هم))، وأثبت نص التلاوة.
(٥) انظر تفسير ((الخلود)) فيما سلف من فهارس اللغة (خلد).
(٦) في المطبوعة والمخطوطة: ((ولا يسلبون نعيمهم))، والسياق يقتضي ما أثبت.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
١٤٦٥٨- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو خالد الأحمر، عن جويبر، عن الضحاك: (ونزعنا ما في صدورهم من غل)، قال: العداوة.
١٤٦٥٩- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا حميد بن عبد الرحمن، عن سعيد بن بشير، عن قتادة: (ونزعنا ما في صدورهم من غل)، قال: هي الإحَن.
١٤٦٦٠ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا ابن المبارك، عن ابن عيينة، عن إسرائيل أبي موسى، عن الحسن، عن علي قال: فينا والله أهلَ بدر نزلت: (وَنزعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ) [سورة الحجر: ٤٧].
١٤٦٦١- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا ابن عيينة، عن إسرائيل قال: سمعته يقول: قال علي عليه السلام: فينا والله أهلَ بدر نزلت: (وَنزعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ)
١٤٦٦٢- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة قال: قال علي رضي الله عنه: إني لأرجو أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزبير، من الذين قال الله تعالى فيهم: (وَنزعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ)، رضوان الله عليهم.
١٤٦٦٣- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال،
١٤٦٦٤- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن الجريري، عن أبي نضرة قال، يحبس أهل الجنة دون الجنة حتى يقضى لبعضهم من بعض، حتى يدخلوا الجنة حين يدخلونها ولا يطلب أحدٌ منهم أحدًا بقلامة ظُفُرٍ ظلمها إياه. ويحبس أهل النار دون النار حتى يقضى لبعضهم من بعض، فيدخلون النار حين يدخلونها ولا يطلب أحدٌ منهم أحدًا بقُلامة ظفر ظلمها إياه. (١)
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وقال هؤلاء الذين وصف جل ثناؤه، وهم الذين آمنوا وعملوا الصالحات، حين أدخلوا الجنة، ورأوا ما أكرمهم الله به من كرامته، وما صرف عنهم من العذاب المهين الذي ابتلي به أهل النار بكفرهم بربهم، وتكذيبهم رُسله: (الحمد لله الذي هدانا لهذا)، يقول: الحمد لله الذي وفقنا للعمل الذي أكسبنا هذا الذي نحن فيه من كرامة الله وفضله، وصرف عذابه
١٤٦٦٥- حدثنا أبو هشام الرفاعي قال، حدثنا أبو بكر بن عياش قال، حدثنا الأعمش، عن أبي صالح، عن [أبي سعيد] قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كل أهل النار يرى منزله من الجنة، فيقولون:"لو هدانا الله"، فتكون عليهم حسرة. وكل أهل الجنة يرى منزله من النار، فيقولون:"لولا أن هدانا الله"! فهذا شكرهم. (١)
١٤٦٦٦- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة قال، سمعت أبا إسحاق يحدِّث عن عاصم بن ضمرة، عن علي قال، ذكر عمر = لشيء لا أحفظه =، ثم ذكر الجنة فقال: يدخلون، فإذا شجرة يخرج من تحت ساقها عينان. قال: فيغتسلون من إحداهما، فتجري عليهم نضرة النعيم، فلا تشعَث أشعارهم ولا تغبرُّ أبشارهم. ويشربون من الأخرى، فيخرج كل قذًى وقذر وبأس في بطونهم. (٢) قال، ثم يفتح لهم باب الجنة، فيقال لهم:
وكأنه خطأ لا شك فيه، فإني لم أجد الخبر في حديث أبي سعيد، ولأن هذا الخبر معروف في حديث أبي هريرة، وبذلك خرجه السيوطي في الدر المنثور ٣: ٨٥، فقال: ((أخرج النسائي، وابن أبي الدنيا، وابن جرير في ذكر الموت، وابن مردويه عن أبي هريرة))، وساق الخبر. وذكره ابن كثير في تفسيره ٣: ٤٧٧، فقال: ((روى النسائي وابن مردويه، واللفظ له، من حديث أبي بكر بن عياش، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة))، وساق الخبر. وخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد ١٠: ٣٩٩ فقال: ((عن أبي هريرة، قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم))، وساق الخبر بنحوه من طريقين، ثم قال: ((رواه كله أحمد، ورجال الرواية الولى رجال الصحيح))، ولم أعرف مكانه من المسند.
فهذا كله يوشك أن يقطع بأن ما في المطبوعة والمخطوطة من قوله: ((عن أبي سعيد))، خطأ، صوابه: ((عن أبي هريرة))، ولذلك وضعته بين القوسين.
(٢) في المطبوعة: ((قذى وقذر أو شيء في بطونهم))، وفي المخطوطة: ((أوس))، غير منقوطة وفوقها حرف (ط) دلالة على الشك والخطأ. وأثبت الصواب من حادي الأرواح لابن القيم، والدر المنثور.
* * *
(٢) ((أسكفة الباب)) (بضم الهمزة، وسكون السين، وضم الكاف، بعدها فاء مشددة مفتوحة) : عتبة الباب التي يوطأ عليها.
(٣) ((التمع الشيء)) اختلسه وذهب به. و ((التمع بصره)) باليناء بالمجهول، اختلس واختطف فلا يكاد يبصره. ويقال مثله ((التمع لونه))، ذهب وتغير.
(٤) الأثر: ١٤٦٦٦ - ((عاصم بن ضمرة السلولي))، وثقه ابن سعد وابن المديني، والعجلي، وقال النسائي: ((ليس به بأس)). ولكن الجوزجاني وابن عدي ضعفاه، وقال ابن أبي حاتم: ((كان رديء الحفظ، فاحش الخطأ، على أنه أحسن حالا - يعني الأعور)). مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم ٣ / ١ / ٣٤٥، وميزان الاعتدال ٢: ٣.
وهذا الخبر، ذكره ابن القيم في حادي الأرواح (إعلام الموقعين) ١: ٢٣٣ مطولا، فقال: ((وقال عدي بن الجعد في الجعديات: أنبأنا زهير بن معاوية، عن أبي إسحاق، عن عاصم بن ضمرة، عن علي قال)) وليس فيه ذكر ((عمر)).
ثم وجدت أبا جعفر قد رواه في تفسيره (٢٤: ٢٤، بولاق)، من طريق مجاهد بن موسى، عن يزيد، عن شريك بن عبد الله، عن أبي إسحاق، عن عاصم بن ضمرة، عن علي، بنحوه.
ثم رواه بعد من طريق أبي إسحاق، عن الحارث الأعور، عن علي، بنحوه.
وخرجه السيوطي في الدر المنثور ٥: ٣٤٢، ونسبه إلى ابن المبارك في الزهد، وعبد الرازق، وابن أبي شيبة، وابن راهويه، وعبد بن حميد، وابن أبي الدنيا في صفة الجنة، والبيهقي في البعث، والضياء في المختارة، ولم ينسبه لابن جرير. وساقه مطولا.
وساقه ابن كثير في تفسيره ٧: ٢٧٣، من تفسير ابن أبي حاتم، عن أبيه، عن أبي غسان مالك بن إسماعيل، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عاصم بن ضمرة، عن علي بن أبي طالب، بنحوه.
وليس في هذه جميعًا ذكر ((عمر))، فقوله: ((قال ذكر عمر، لشيء لا أحفظه)) غريب جدًا لم أعرف تأويله، ولا ما فيه من تحريف، إلا أن يكون: ((قال غندر، لشيء لا أحفظه)) و ((غندر)) هو ((محمد بن جعفر)) الراوي عن شعبة، فيكون قوله ((قال غندر)) من قول ((محمد بن المثنى))، والله أعلم.
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره مخبرًا عن هؤلاء الذين آمنوا وعملوا الصالحات أنهم يقولون عند دخولهم الجنة، ورؤيتهم كرامة الله التي أكرمهم بها، وهو أنّ أعداء الله في النار: والله لقد جاءتنا في الدنيا، وهؤلاء الذين في النار، رسل ربنا بالحق من الأخبار عن وعد الله أهلَ طاعته والإيمان به وبرسله، ووعيده أهلَ معاصيه والكفر به.
* * *
وأما قوله: (ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون)، فإن معناه: ونادى منادٍ هؤلاء الذين وصف الله صفتهم، وأخبر عما أعدّ لهم من كرامته: أنْ يا هؤلاء، هذه تلكم الجنة التي كانت رسلي في الدنيا تخبركم عنها، أورَثكموها الله عن الذين كذبوا رسله، لتصديقكم إياهم وطاعتكم ربكم. وذلك هو معنى قوله: (بما كنتم تعملون).
* * *
وبنحو ما قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
١٤٦٦٨- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عمرو بن سعد أبو داود الحفري، [عن سعيد بن بكير]، عن سفيان الثوري، عن أبي إسحاق، عن الأغرّ: (ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون)، قال: نودوا أنْ صِحُّوا فلا تسقموا، واخلُدوا فلا تموتوا، وانعموا فلا تَبْأسوا. (١)
١٤٦٦٩- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا قبيصة، عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن الأغر، عن أبي سعيد: (ونودوا أن تلكم الجنة)، الآية، قال: ينادي منادٍ: أن لكم أنْ تصحُّوا فلا تسقموا أبدًا. (٢)
* * *
واختلف أهل العربية في"أنْ" التي مع"تلكم".
وأما ((سعيد بن بكير))، فهو في المطبوعة ((سعد بن بكر))، وأثبت ما في المخطوطة. ولست أدري من يكون؟ أو عن أي شيء هو محرف.
و ((الأغر)) هو ((الأغر))، أبو مسلم المدني، روى عن أبي هريرة وأبي سعيد، وكانا اشتركا في عتقه. روى عنه أبو إسحاق السبيعي، تابعي ثقة. مترجم في التهذيب، والكبير ١ /٢ / ٤٤، وابن أبي حاتم ١ / ١ / ٣٠٨.
وهذا الخبر رواه مسلم في صحيحه ١٧: ١٧٤، من طريق عبد الرازق، عن الثوري، عن أبي إسحاق، عن الأغر، عن أبي سعيد الخدري، وأبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، مطولا، بنحوه. وسيأتي مختصرًا في الذي يليه.
(٢) الأثر: ١٤٦٦٩ - هذا مختصر حديث مسلم (١٧: ١٧٤) الذي خرجته في التعليق السالف.
فِي فِتْيَةٍ كَسُيُوفِ الهِنْد، قَدْ عَلِمُوا | أنْ هَالِكٌ كُلُّ مَنْ يَحْفَى وَيَنْتَعِلُ (٢) |
أُكَاشِرُهُ وَأَعْلَمُ أَنْ كِلانَا | عَلَى مَا سَاءَ صَاحِبَهُ حَرِيصُ (٤) |
(٢) ديوانه: ٤٥، سيبويه ١: ٢٨٢، ٤٤٠، ٤٨٠ /٢: ١٢٣، أمالي ابن الشجري ٢: ٢، الإنصاف: ٨٩، والخزانة ٣: ٥٤٧ / ٤: ٣٥٦، وشرح شواهد العيني (بهامش الخزانة) ٢: ٢٨٧، وغيرها.
وهذا البيت أنشده سيبويه، وتبعه النحاة في كتبهم، وهو بيت ملفق من بيتين، يقول الأعشى في قصيدته المشهورة:
إمَّا تَرَيْنَا حُفَاةً لا نِعَالَ لَنَا | إِنَّا كَذَلِكَ مَا تَحْفَى ونَنْتَعِلُ |
فَقَدْ أُخَالِسُ رَبَّ البَيْتِ غَفْلَتُهُ | وَقَدْ يُحَاذِرُ مِنِّي ثُمَّ مَا يَئِلُ |
وَقَدْ أَقُودُ الصِّبَا يَوْمًا فَيَتْبَعُنِي | وَقَدْ يُصَاحِبْنِي ذُو الشِّرَّةِ الغَزِلُ |
وَقَدْ غَدَوْتُ إلَى الحَانُوتِ يَتْبَعُنِي | شَاوٍ مِشَلٌ شَلُولٌ شُلْشُلٌ شَوِلُ |
فِي فِتْيَةٍ كَسُيُوفِ الهِنْد، قَدْ عَلِمُوا | أَنْ لَيْسَ يَدْفَعُ عَنْ ذِي الحِيلَة الحيَلُ |
نازَعْتُهُمْ قُضُبَ الرَّيْحَانِ مُتَّكِئًا | وَقَهْوَةً مُزَّةً رَواوُوقُها خَضِلُ |
لا يَسْتَفِيقُونَ مِنْهَا وَهْيَ رَاهِنَةٌ | إِلا بِهَاتِ، وَإنْ عَلُّوا وإنْ نَهِلُوا |
(٤) سيبويه ١: ٤٤٠، الإنصاف لابن الأنباري: ٨٩، ١٨٣، وأمالي ابن الشجري ١: ١٨٨، وغيرها وقوله: ((أكاشره)) : أضاحكه.
* * *
وأنكر ذلك من قوله هذا بعض أهل الكوفة، فقال: غير جائز أن يكون مع"أن" في هذا الموضع"هاء" مضمرة، لأن"أن" دخلت في الكلام لتَقِيَ ما بعدها. قال:"وأن" هذه التي مع"تلكم" هي الدائرة التي يقع فيها ما ضارع الحكاية، وليس بلفظ الحكاية، نحو:"ناديت أنك قائم،" و"أنْ زيد قائم" و"أنْ قمت"، فتلي كلَّ الكلام، وجعلت"أن" وقاية، لأن النداء يقع على ما بعده، وسلم ما بعد"أن" كما سلم ما بعد"القول". ألا ترى أنك تقول:"قلت: زيد قائم"، و"قلت: قام"، فتليها ما شئت من الكلام؟ فلما كان النداء بمعنى"الظن" وما أشبهه من"القول" سلم ما بعد"أن"، ودخلت"أن" وقاية. قال: وأما"أي"، فإنها لا تكون على"أن" لا يكون"أي" جواب الكلام، و"أن" تكفي من الاسم.
* * *
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ونادى أهلُ الجنة أهلَ النار بعد دخولهموها: يا أهل النار، قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقًّا في الدنيا على ألسن رسله، من الثواب على الإيمان به وبهم، وعلى طاعته، فهل وجدتم ما وعدنا ربكم على ألسنتهم على
١٤٦٧٠- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقًّا فهل وجدتم ما وعد ربكم حقًّا قالوا نعم)، قال: وجد أهل الجنة ما وُعدوا من ثواب، وأهل النار ما وُعدوا من عقاب.
١٤٦٧١- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقًّا فهل وجدتم ما وعد ربكم حقًّا)، وذلك أن الله وعد أهل الجنة النعيم والكرامة وكلَّ خير علمه الناس أو لم يعلموه، ووعدَ أهل النار كلَّ خزي وعذاب علمه الناس أو لم يعلموه، فذلك قوله: (وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ)، [سورة ص: ٥٨]. قال: فنادى أصحاب الجنة أصحابَ النار أنْ قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقًّا فهل وجدتم ما وعد ربكم حقًّا؟ قالوا: نعم. يقول: من الخزي والهوان والعذاب. قال أهل الجنة: فإنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقًّا من النعيم والكرامة = (فأذن مؤذن بينهم أن لعنة الله على الظالمين).
* * *
واختلفت القرأة في قراءة قوله: (قالوا نعم).
فقرأ ذلك عامة قرأة أهل المدينة والكوفة والبصرة: (قَالُوا نَعَمْ)، بفتح العين من"نعم".
* * *
ورُوِي عن بعض الكوفيين أنه قرأ:"قَالُوا نَعِمْ" بكسر"العين"، وقد أنشد بيتا لبني كلب:
نَعِمْ، إِذَا قالَهَا، مِنْهُ مُحَقَّقَةٌ | وَلاتَخِيبُ"عَسَى" مِنْهُ وَلا قَمنُ (١) |
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القراءة عندنا (نَعَمْ) بفتح"العين"، لأنها القراءة المستفيضة في قرأة الأمصار، واللغة المشهورة في العرب.
* * *
وأما قوله: (فأذن مؤذن بينهم)، يقول: فنادى مناد، وأعلم مُعْلِمٌ بينهم = (أن لعنة الله على الظالمين)، يقول: غضب الله وسخطه وعقوبته على مَنْ كفر به. (٢)
* * *
وقد بينا القول في"أنّ" إذا صحبت من الكلام ما ضارع الحكاية، وليس بصريح الحكاية، بأنها تشددها العرب أحيانًا، وتوقع الفعل عليها فتفتحها وتخففها أحيانًا، وتعمل الفعل فيها فتنصبها به، وتبطل عملها عن الاسم الذي يليها، فيما مضى بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (٣)
* * *
وإذ كان ذلك كذلك، فسواء شُدِّدت"أن" أو خُفِّفت في القراءة، إذ كان معنى الكلام بأيّ ذلك قرأ القارئ واحدًا، وكانتا قراءتين مشهورتين في قرأة الأمصار.
* * *
وكان في المطبوعة: ((ولا تجيء عسى))، غير ما في المخطوطة، وهو الصواب. لأنه قال إن العدة بنعم محققة، وبما أقل منها في الوعد محقق أيضًا لا يخيب معها سائله.
(٢) انظر تفسير ((اللعنة)) فيما سلف ص: ٤١٦، تعليق: ١، والمراجع هناك.
(٣) انظر ما سلف قريبًا ص ٤٤٣ - ٤٤٥.
قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه: إن المؤذن بين أهل الجنة والنار يقول:"أن لعنة الله على الظالمين"، الذين كفروا بالله وصدّوا عن سبيله (١) = (ويبغونها عوجًا)، يقول: حاولوا سبيل الله = وهو دينه (٢) ="أن يغيروه ويبدِّلوه عما جعله الله له من استقامته (٣) = (وهم بالآخرة كافرون)، يقول: وهم لقيام الساعة والبعث في الآخرة والثواب والعقاب فيها جاحدون.
* * *
والعرب تقول للميل في الدِّين والطريق: "عِوَج" بكسر"العين"، وفي ميل الرجل على الشيء والعطف عليه:"عاجَ إليه يَعُوج عِيَاجًا وعَوَجًا وعِوَجًا"، بالكسر من"العين" والفتح، (٤) كما قال الشاعر: (٥)
قِفَا نَسْأَلْ مَنَازِلَ آلِ لَيْلى | عَلَى عِوَجٍ إلَيْهَا وَانْثِنَاءِ (٦) |
* * *
(٢) انظر تفسير ((سبيل الله)) فيما سلف من فهارس اللغة (سبل).
(٣) انظر تفسير ((بغى)) فيما سلف ص: ٢٨٦، تعليق: ١، والمراجع هناك.
(٤) انظر تفسير ((العوج)) فيما سلف ٧: ٥٣، ٥٤، ومجاز القرآن أبي عبيدة ١: ٩٨.
(٥) لم أعرف قائله.
(٦) اللسان (عوج)، وروايته: * مَتَى عِوَجٌ إلَيْهَا وَانْثنَاءُ *
وفي المطبوعة: ((قفا نبكي))، وهو من سوء قراءة الناشر للمخطوطة، وصوابه ما أثبت كما في رواية اللسان أيضًا.
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: (وبينهما حجاب)، وبين الجنة والنار حجاب، يقول: حاجز، وهو: السور الذي ذكره الله تعالى فقال: (فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ)، [سورة الحديد: ١٣]. وهو"الأعراف" التي يقول الله فيها: (وعلى الأعراف رجال)، كذلك.
١٤٦٧١- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبد الله بن رجاء عن ابن جريج قال: بلغني عن مجاهد قال:"الأعراف"، حجاب بين الجنة والنار.
١٤٦٧٢- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (وبينهما حجاب)، وهو"السور"، وهو"الأعراف".
* * *
وأما قوله: (وعلى الأعراف رجال)، فإن"الأعراف" جمع، واحدها"عُرْف"، وكل مرتفع من الأرض عند العرب فهو"عُرْف"، وإنما قيل لعُرف الديك"عرف"، لارتفاعه على ما سواه من جسده، ومنه قول الشماخ بن ضرار:
وَظَلًّتْ بِأَعْرَافٍ تَغَالَى، كَأَنَّهَا | رِمَاحٌ نَحَاهَا وِجْهَةَ الرِّيحِ رَاكِزُ (١) |
مُحَامٍ على عَوْراتِهَا لا يَرُوعُها | خَيَالٌ، وَلا رَامِي الوُحُوشِ المنَاهِزُ |
وأصْبَحَ فَوْقَ النَّشْزِ، نَشْزِ حَمَامةٍ، | لَهُ مَرْكَضٌ فِي مُسْتَوَى الأَرْضِ بَارِزُ |
كُلُّ كِنَازٍ لَحْمُهُ نِيَافِ | كَالْعَلَمِ الْمُوفِي عَلَى الأعْرَافِ (٢) |
وكان السدي يقول: إنما سمي"الأعراف" أعرافًا، لأن أصحابه يعرفون الناس.
١٤٦٧٢- حدثني بذلك محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
١٤٦٧٣- حدثنا سفيان بن وكيع، قال: حدثنا ابن عيينة، عن عبيد الله بن أبي يزيد، سمع ابن عباس يقول:"الأعراف"، هو الشيء المشرف. (٣)
١٤٦٧٤- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا ابن عيينة، عن عبيد الله بن أبي يزيد قال: سمعت ابن عباس يقول، مثله. (٤)
١٤٦٧٥- حدثنا ابن وكيع قال، حدثني أبي، عن سفيان، عن جابر، عن مجاهد، عن ابن عباس قال:"الأعراف"، سور كعرف الديك.
١٤٦٧٦- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا سفيان، عن جابر، عن مجاهد، عن ابن عباس، مثله.
(٢) مجاز القرآن أبي عبيدة ١: ٢١٥، اللسان (نوف)، ((الكناز)) المجتمع اللحم القوية. و ((النياف))، الطويل، يصف جملا. و ((العلم)) الجبل.
(٣) الأثر: ١٤٦٧٣ - ((عبيد الله بن أبي يزيد المكي))، روى عن ابن عباس، مضى برقم: ٣٧٧٨. وكان في المطبوعة ((عبيد الله بن يزيد))، والصواب من المخطوطة.
(٤) الأثر: ١٤٦٧٤ - ((عبيد الله بن أبي يزيد))، المذكور آنفًا، في المطبوعة والمخطوطة هنا ((عبيد الله بن يزيد)).
١٤٦٧٨- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال:"الأعراف"، حجاب بين الجنة والنار، سور له باب.
١٤٦٧٩- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن حبيب بن أبي ثابت، عن عبد الله بن الحارث عن ابن عباس قال:"الأعراف"، سور بين الجنة والنار.
١٤٦٨٠- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثنا معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قال:"الأعراف"، سور بين الجنة والنار.
١٤٦٨١- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: (وعلى الأعراف رجال)، يعني بالأعراف: السور الذي ذكر الله في القرآن، (٢) وهو بين الجنة والنار.
وكان في المطبوعة هنا أيضًا (عبيد الله بن يزيد))، والصواب من المخطوطة. انظر التعليقين السالفين.
(٢) هو المذكور في آية سورة الحديد: ١٣، والمذكور آنفًا في الآثار السالفة.
١٤٦٨٣- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن إسرائيل، عن جابر، عن أبي جعفر قال:"الأعراف"، سور بين الجنة والنار.
١٤٦٨٤- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثني عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول:"الأعراف"، السور الذي بين الجنة والنار.
* * *
واختلف أهل التأويل في صفة الرجال الذين أخبر الله جل ثناؤه عنهم أنهم على الأعراف، وما السبب الذي من أجله صاروا هنالك.
فقال بعضهم: هم قوم من بني آدم، استوت حسناتهم وسيئاتهم، فجعلوا هنالك إلى أن يقضي الله فيهم ما يشاء، ثم يدخلهم الجنة بفضل رحمته إياهم.
* ذكر من قال ذلك:
١٤٦٨٥- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا يونس بن أبي إسحاق قال، قال الشعبي: أرسل إليّ عبد الحميد بن عبد الرحمن، وعنده أبو الزناد عبد الله بن ذكوان مولى قريش، وإذا هما قد ذكرَا من أصحاب الأعراف ذكرًا ليس كما ذَكَرا، فقلت لهما: إن شئتما أنبأتكما بما ذكر حذيفة، فقالا هات! فقلت: إن حذيفة ذكر أصحاب الأعراف فقال: هم قوم تجاوزت بهم حسناتهم النار، وقصرت بهم سيِّئاتهم عن الجنة، فإذا صُرفت أبصارُهم تلقاء أصحاب النار قالوا:"ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين". فبينا هم كذلك، اطّلع إليهم ربك تبارك وتعالى فقال: اذهبوا وادخلوا الجنة، فإني قد غفرت لكم. (١)
و ((أبو الزناد))، ((عبد الله بن ذكوان)) مولى على قريش))، مضى برقم: ١١٨١٣.
١٤٦٨٧- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير وعمران بن عيينة، عن حصين، عن عامر، عن حذيفة قال: أصحاب الأعراف، قومٌ كانت لهم ذنوب وحسنات، فقصرت بهم ذنوبهم عن الجنة، وتجاوزت بهم حسناتهم عن النار، فهم كذلك حتى يقضي الله بين خلقه، فينفذ فيهم أمره.
١٤٦٨٨- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن يمان، عن سفيان، عن جابر، عن الشعبي، عن حذيفة قال: أصحاب الأعراف، قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم، فيقول: ادخلوا الجنة بفضلي ومغفرتي، لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون.
١٤٦٨٩- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن يونس بن أبي إسحاق، عن عامر، عن حذيفة قال: أصحاب الأعراف، قوم تجاوزت بهم حسناتهم النار، وقصرت بهم سيئاتهم عن الجنة.
١٤٦٩٠- حدثنا المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك، عن أبي بكر الهذلي قال: قال سعيد بن جبير، وهو يحدّث ذلك عن ابن مسعود قال: يحاسب الناس يوم القيامة، فمن كانت حسناته أكثر من سيئاته بواحدة دخل الجنة، ومن كانت سيئاته أكثر من حسناته بواحدة دخل النار. ثم قرأ قول الله: (فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ)، [سورة الأعراف: ٨-٩]. ثم قال: إن الميزان يخفّ
١٤٦٩١- حدثنا أبو همام الوليد بن شجاع قال، أخبرني ابن وهب قال، أخبرني عيسى الحنّاط، عن الشعبي، عن حذيفة قال: أصحاب الأعراف، قوم كانت لهم أعمال أنجاهم الله بها من النار، وهم آخر من يدخل الجنة، قد عرَفوا أهل الجنة وأهل النار. (٣)
(٢) الأثر: ١٤٦٩٠ - ((أبو بكر الهذلي))، ليس بثقة، ولا يحتج بحديثه. وقال غندر: ((كان إمامنا، وكان يكذب)). مضى برقم: ٥٩٧، ٨٣٧٦، ١٣٠٥٤، ١٤٣٩٨
غندر: ((كان إمامنا، وكان يكذب)). مضى برقم: ٥٩٧، ٨٣٧٦، ١٣٠٥٤، ١٤٣٩٨.
و ((الوحدان)) بضم الواو، جمع ((واحد)). و ((واحد)). و ((الأعشار)) جمع ((عشر)).
(٣) الأثر: ١٤٦٩١ - ((الوليد بن شجاع بن الوليد السكوني))، ((أبو همام))، شيخ الطبري، تكلموا فيه، وقال ابن معين: ((لا بأس به، ليس هو ممن يكذب))، وقال أبو حاتم: ((يكتب حديثه ولا يحتج به)). مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم ٤ / ٢ / ٧.
و ((عيسى الحناط))، هو ((عيسى بن أبي عيسى الحناط الغفاري))، وهو ((عيسى بن ميسرة)) ضعيف مضطرب الحديث لا يكتب حديثه. وكان ((خباطًا))، ثم ترك ذلك وصار ((حناطًا))، ثم ترك ذلك وصار يبيع الخيط. قال ابن سعد: ((كان يقول: أنا خباط، حناط، خياط، كلا قد عالجت)). وكان في المطبوعة هنا ((الخياط))، وأثبت ما في المخطوطة، وإن كان صوابًا ما في المطبوعة.
مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم ٣ / ١ / ٢٨٩.
١٤٦٩٣- حدثنا ابن وكيع وابن حميد قالا حدثنا جرير، عن منصور، عن حبيب بن أبي ثابت، عن عبد الله بن الحارث، عن ابن عباس قال:"الأعراف"، سور بين الجنة والنار، وأصحاب الأعراف بذلك المكان، حتى إذا بَدَا لله أن يعافيهم، انْطُلِق بهم إلى نهر يقال له:"الحياة"، (١) حافتاه قَصَبُ الذهب، مكلَّل باللؤلؤ، ترابه المسك، فألقوا فيه حتى تصلح ألوانهم، ويبدو في نحورهم شامَةٌ بيضاء يعرفون بها، حتى إذا صلحت ألوانهم، أتى بهم الرحمنُ فقال: تمنوا ما شئتم! قال: فيتمنون، حتى إذا انقطعت أمنيتهم قال لهم: لكم الذي تمنيتم ومثله سبعين مرة! فيدخلون الجنة وفي نحورهم شامة بيضاء يعرفون بها، يسمَّون مساكين الجنة. (٢)
١٤٦٩٤- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن حبيب، عن مجاهد، عن عبد الله بن الحارث قال: أصحاب الأعراف، يؤمر بهم إلى نهر يقال له:"الحياة"، ترابه الوَرْس والزعفران، وحافتاه قَصَبُ اللؤلؤ = قال: وأحسبه قال: مكلل باللؤلؤ = وقال: فيغتسلون فيه، فتبدو في نحورهم شامة بيضاء، فيقال لهم: تمنوا! فيقال لهم: لكم ما تمنيتم وسبعون ضعفًا!
(٢) الأثر: ١٤٦٩٣ - سيرويه موقوفًا على عبد الله بن الحارث في الأثر التالي، قال ابن كثير بعد أن ذكر الخبرين: ((وعن عبد الله بن الحارث من قوله، وهذا أصح))، التفسير ٣: ٤٨٢.
١٤٦٩٥- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن حبيب بن أبي ثابت، عن مجاهد، عن عبد الله بن الحارث قال: أصحاب الأعراف، ينتهى بهم إلى نهر يقال له:"الحياة"، حافتاه قَصَب من ذهب = قال سفيان: أراه قال: مكلل باللؤلؤ = قال: فيغتسلون منه اغتسالةً فتبدو في نحورهم شامة بيضاء، ثم يعودون فيغتسلون، فيزدادون. فكلما اغتسلوا ازدادت بياضًا، فيقال لهم: تمنوا ما شئتم! فيتمنون ما شاءوا، فيقال لهم: لكم ما تمنيتم وسبعون ضعفًا! قال: فهم مساكين أهل الجنة.
١٤٦٩٦- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا ابن عيينة، عن حصين، عن الشعبي، عن حذيفة قال: أصحاب الأعراف، قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم، فهم على سور بين الجنة والنار: (لم يدخلوها وهم يطمعون).
١٤٦٩٧- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: كان ابن عباس يقول:"الأعراف"، بين الجنة والنار، حبس عليه أقوام بأعمالهم. وكان يقول: قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم، فلم تزد حسناتهم على سيئاتهم، ولا سيئاتهم على حسناتهم.
١٤٦٩٨- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة قال، قال ابن عباس: أهل الأعراف، قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم.
١٤٦٩٩- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو خالد، عن جويبر، عن الضحاك قال: أصحاب الأعراف، قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم.
١٤٧٠٠-.... وقال، حدثنا يحيى بن يمان، عن شريك، عن منصور،
١٤٧٠١- حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم، عن جويبر، عن الضحاك، عن ابن عباس قال: أصحاب الأعراف، قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم، فوُقِفوا هنالك على السور.
١٤٧٠٢- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن حبيب بن أبي ثابت، عن سفيع، أو سميع = قال أبو جعفر: كذا وجدت في كتاب سفيع (١) =، عن أبي علقمة قال: أصحاب الأعراف، قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم. (٢)
* * *
وقال آخرون: كانوا قتلوا في سبيل الله عصاة لآبائهم في الدنيا.
* ذكر من قال ذلك:
١٤٧٠٣- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن يمان، عن أبي مسعر، عن شرحبيل بن سعد قال: هم قوم خرجوا في الغزو بغير إذن آبائهم.
١٤٧٠٤ - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني الليث قال، حدثني خالد، عن سعيد، عن يحيى بن شبل: أن رجلا من بني النضير أخبره، عن رجل من بني هلال: أن أباه أخبره: أنه سأل رسول الله ﷺ عن أصحاب الأعراف فقال: هم قوم غزوا في سبيل الله عصاةً لآبائهم، فقتلوا، فأعتقهم الله من النار بقتلهم في سبيله، وحُبسوا عن الجنة بمعصية آبائهم، فهم آخر من يدخل الجنة. (٣)
(٢) الأثر: ١٤٧٠٢ - ((سفيع))، لم أجد من ذكره.
وأما ((سميع)) الراوي عن ابن عباس، فهو ((سميع الزيات)) ((أبو صالح))، ثقة مترجم في الكبير ٢ /٢ / ١٩٠، وابن أبي حاتم ٢ / ١ / ٣٠٥.
(٣) الأثر: ١٤٧٠٤ - ((يحيى بن شبل))، ((مولى بني هاشم)) لم أعرف حاله، ترجم له ابن أبي حاتم ٤ / ٢ / ١٥٧، ولم يذكر فيه جرحًا، والبخاري في الكبير ٤ / ٢ / ٢٨٢، وذكره في التهذيب إلحاقًا فقال: ((ولهم بن شبل شيخ آخر مدني، أقدم من هذا، يروي عنه أبو معشر حديثًا في أصحاب الأعراف))
واقتصر البخاري على أنه يروي عنه سعيد بن أبي هلال. وأما ابن أبي حاتم، فذكر أنه روى عن ((عمر بن عبد الرحمن المزني، وعن جده بن حسين (؟؟) عن علي رضي الله عنه)) ثم قال: ((روى عنه سعيد بن أبي هلال، وعبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة، وأبو معشر، وموسى بن عبيدة الربذي، وابن أبي سبرة)).
وزادنا أبو جعفر في الأثر التالي أنه ((مولى بني هاشم))، ولم أجد لذلك ذكرًا في الكتب التي بأيدينا.
وهذا خبر ضعيف، لما فيه من المجاهيل، ولأن ((أبا معشر)) نفسه، قد تكلموا فيه، وضعفوه. وانظر التعليق على الأثر التالي، ففيه التخريج.
* * *
وقال آخرون: بل هم قوم صالحون فقهاء علماء.
* ذكر من قال ذلك:
١٤٧٠٦- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن خصيف، عن مجاهد قال: أصحاب الأعراف، قوم صالحون فقهاء علماء.
* * *
و ((محمد بن عبد الرحمن المزني))، لم أجد له ترجمة مفردة، ويقال أيضًا ((عمر بن الرحمن المزني))، ويقال: ((عمرو بن عبد الرحمن))، إن صلح ما في ترجمة أبيه في أسد الغابة.
وأبوه ((عبد الرحمن المزني))، ويقال ((عبد الرحمن بن أبي عبد الرحمن))، وقال ابن عبد البر في الاستيعاب: ((وقد قيل: اسم أبيه محمد، وهو الصواب إن شاء الله)).
وترجم له ابن عبد البر في الاستيعاب: ٣٩٩، وابن الأثير في أسد الغابة في موضعين ٣: ٣٠٧، ٣٢٢، وابن حجر في الإصابة في موضعين: في ((عبد الرحمن بن أبي الهلالي)) وفي ((عبد الرحمن المزني))، ولم يشر إلى ذلك في واحدة من الترجمتين، وهو عجيب!! واختلفوا في تسمية ولده، فقال ابن حجر: ((والد عمر، ويقال: والد محمد))، وقال ابن عبد البر: ((وله ولد آخر يقال له: ((عبد الرحمن)). أما ابن الأثير، ففيه أن ولده ((عمرو))، وان كنية ((عبد الرحمن المزني)) هو ((أبو عمرو)).
وأما قوله في الأثر السالف: ((أن رجلا من بني النضير))، فهكذا جاء في المخطوطة والمطبوعة، وفي المراجع الأخرى: ((أن رجلا من بني نضر))، ولا أدري أهو بالضاد المعجمة أم الصاد المهملة. وأما ((عن رجل من بني هلال)) فكأنه يعني من ((بني هلال بن رئاب)) من ((بني عمرو بن أد))، وهم مزينة، ومن بني هلال بن رئاب ((إياس بن معاوية المزني)) القاضي المشهور. انظر جمهرة الأنساب لابن حزم: ١٩٢. ويدل على ذلك ان ابن حجر ترجم له في ((عبد الرحمن بن أبي عبد الرحمن الهلالي)) وفي ((عبد الرحمن المزني))، وذكر فيهما حديثه في الأعراف.
وهذا الخبر ذكروه جميعًا من طرق مختلفة، وكلها مضطرب، وقد جمع الكلام فيه الحافظ ابن حجر في الإصابة في الموضعين، ولكنه لم يستوفه.
ومهما يكن من شيء، فهو حديث ضعيف لضعف أبي معشر، ولما يحيط به من الجهالة كما أسلفت في التعليق على الأثر السالف.
* ذكر من قال ذلك:
١٤٧٠٧- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن أبي مجلز قوله: (وبينهما حجاب وعلى الأعراف رجال يعرفون كلا بسيماهم)، قال: هم رجال من الملائكة، يعرفون أهل الجنة وأهل النار، قال: (ونادوا أصحاب الجنة أن سلام عليكم)، إلى قوله: (ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين)، قال: فنادى أصحاب الأعراف رجالا في النار يعرفونهم بسيماهم: (ما أغنى عنكم جمعكم وما كنتم تستكبرون. أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة)، قال: فهذا حين دخل أهل الجنة الجنة: (ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون).
١٤٧٠٨- حدثنا ابن عبد الأعلى قال، حدثنا المعتمر قال، سمعت عمران قال: قلت لأبي مجلز: يقول الله: (وعلى الأعراف رجال)، وتزعم أنتَ أنهم الملائكة؟ قال فقال: إنهم ذكور، وليسوا بإناث.
١٤٧٠٩- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير، عن سليمان التيمي، عن أبي مجلز: (وعلى الأعراف رجال)، قال: رجال من الملائكة، يعرفون الفريقين جميعًا بسيماهم، أهل النار وأهل الجنة، وهذا قبل أن يدخل أهل الجنة الجنة.
١٤٧١١-.... وقال، حدثنا يحيى بن يمان، عن سفيان، عن التيمي، عن أبي مجلز قال: أصحاب الأعراف، الملائكة.
١٤٧١٢- حدثني المثنى قال، حدثنا يعلى بن أسد قال، حدثنا خالد قال، أخبرنا التيمي، عن أبي مجلز: (وعلى الأعراف رجال)، قال: هم الملائكة.
١٤٧١٣- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن عمران بن حدير، عن أبي مجلز: (وعلى الأعراف رجال)، قال: هم الملائكة. قلت: يا أبا مجلز، يقول الله تبارك وتعالى:"رجال"، وأنت تقول: ملائكة؟ قال: إنهم ذُكران ليسوا بإناث.
١٤٧١٤- حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج قال، حدثنا حماد، عن عمران بن حدير، عن أبي مجلز في قوله: (وعلى الأعراف رجال يعرفون كلا بسيماهم)، قال: الملائكة. قال قلت: يقول الله"رجال"؟ قال: الملائكة ذكور. (١)
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في أصحاب الأعراف أن يقال كما قال الله جل ثناؤه فيهم: هم رجال يعرفون كُلا من أهل الجنة وأهل النار بسيماهم، ولا خبر عن رسول الله ﷺ يصح سنده، ولا أنه متفق على تأويلها، ولا إجماع من الأمة على أنهم ملائكة.
فإذ كان ذلك كذلك، وكان ذلك لا يدرك قياسًا، وكان المتعارف بين أهل لسان العرب أن"الرجال" اسم يجمع ذكور بني آدم دون إناثهم ودون سائر
١٤٧١٥- حدثني القاسم قال، حدثني الحسين قال، حدثني جرير عن عمارة بن القعقاع، عن أبي زرعة بن عمرو بن جرير قال، سئل رسول الله ﷺ عن أصحاب الأعراف فقال:"هم آخر مَنْ يفصل بينهم من العباد، وإذا فرغ ربُّ العالمين من فصله بين العباد قال: أنتم قوم أخرجتكم حسناتكم من النار، ولم تدخلكم الجنة، وأنتم عُتَقائي، فارعوا من الجنة حيث شئتم. (١)
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿يَعْرِفُونَ كُلا بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ (٤٦) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وعلى الأعراف رجال يعرفون أهل الجنة بسيماهم، وذلك بياض وجوههم، ونضرةُ النعيم عليها = ويعرفون أهل النار كذلك بسيماهم، وذلك سواد وجوههم، وزرقة أعينهم، فإذا رأوا أهل الجنة نادوهم:"سلام عليكم".
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
و ((أبو زرعة بن عمرو بن جرير بن عبد الله البجلي))، ثقة، روى له الجماعة مضى كثيراص، آخرها أيضًا رقم: ١٤٢٠٣، ١٤٢٠٩. وكان في المطبوعة والمخطوطة: ((أبو زرعة، عن عمرو بن جرير))، وهو خطأ.
وهذا خبر مرسل حسن، خرجه السيوطي في الدر المنثور ٣: ٨٧، وزاد إلى ابن المنذر. ذكره ابن كثير في تفسيره ٣: ٤٨٢.
١٤٧١٦- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: (وعلى الأعراف رجال يعرفون كلا بسيماهم)، قال: يعرفون أهل النار بسواد الوجوه، وأهل الجنة ببياض الوجوه.
١٤٧١٧ - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: (وعلى الأعراف رجال يعرفون كلا بسيماهم)، قال: أنزلهم الله بتلك المنزلة، ليعرفوا من في الجنة والنار، وليعرفوا أهل النار بسواد الوجوه، ويتعوَّذوا بالله أن يجعلهم مع القوم الظالمين، وهم في ذلك يحيّون أهل الجنة بالسلام، لم يدخلوها، وهم يطمعون أن يدخلوها، وهم داخلوها إن شاء الله.
١٤٧١٨ - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (بسيماهم)، قال: بسواد الوجوه، وزُرقة العيون.
١٤٧١٩- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (وعلى الأعراف رجال يعرفون كلا بسيماهم)، الكفار بسواد الوجوه وزرقة العيون، وسيما أهل الجنة مبيَضَّة وجوههم.
١٤٧٢٠- حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، حدثنا هشيم، عن جويبر، عن الضحاك، عن ابن عباس قال: أصحاب الأعراف إذا رأوا أصحاب الجنة عرَفوهم ببياض الوجوه، وإذا رأوا أصحاب النار عرفوهم بسواد الوجوه.
١٤٧٢١- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك، عن جويبر، عن الضحاك، عن ابن عباس قال: إن أصحاب الأعراف رجال كانت لهم ذنوبٌ عِظام، وكان حَسْمُ أمرهم لله، فأقيموا ذلك المقام، إذا
١٤٧٢٢- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك في قوله: (وعلى الأعراف رجال يعرفون كلا بسيماهم)، زعموا أن أصحاب الأعراف رجال من أهل الذنوب، أصابوا ذنوبًا، وكان حَسْم أمرهم لله، فجعلهم الله على الأعراف. فإذا نظروا إلى أهل النار عرفوهم بسواد الوجوه، فتعوذوا بالله من النار. وإذا نظروا إلى أهل الجنة نادوهم:"أن سلام عليكم"، قال الله: (لم يدخلوها وهم يطمعون). قال: وهذا قول ابن عباس.
١٤٧٢٣- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (يعرفون كلا بسيماهم)، يعرفون الناس بسيماهم، يعرفون أهل النار بسواد وجوههم، وأهل الجنة ببياض وجوههم.
١٤٧٢٤- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (يعرفون كلا بسيماهم)، يعرفون أهل النار بسواد وجوههم، وأهل الجنة ببياض وجوههم.
١٤٧٢٥- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (وعلى الأعراف رجال يعرفون كلا بسيماهم)، قال: أهل الجنة بسيماهم. بيض الوجوه = وأهل النار بسيماهم، سود الوجوه. قال: وقوله (يعرفون كلا بسيماهم)، قال: أصحاب الجنة وأصحاب النار ="ونادوا أصحاب الجنة"، قال: حين رأوا وجوههم قد ابيضت.
١٤٧٢٦- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا المحاربي، عن جويبر، عن الضحاك: (يعرفون كلا بسيماهم)، قال: بسواد الوجوه.
١٤٧٢٧- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن يمان، عن مبارك، عن
* * *
و"السيماء"، العلامة الدالة على الشيء، في كلام العرب. وأصله من"السِّمَة"، نقلت واوها التي هي فاء الفعل، إلى موضع العين، كما يقال:"اضمحلّ" و"امضحلّ". وذكر سماعًا عن بعض بني عقيل:"هي أرض خامة"، يعني"وَخِمة". ومنه قولهم:"له جاه عند الناس"، بمعنى"وجه"، نقلت واوه إلى موضع عين الفعل. (١) وفيها لغات ثلاث:"سيما" مقصورة، و"سيماء"، ممدودة، و"سيمياء"، بزيادة ياء أخرى بعد الميم فيها، ومدها، على مثال"الكبرياء"، (٢) كما قال الشاعر: (٣)
غُلامٌ رَمَاهُ الله بِالحُسْنِ إذْ رَمَى | لَهُ سِيمِيَاءُ لا تَشُقُّ عَلَى البَصَرْ (٤) |
وأما قوله: (ونادوا أصحاب الجنة أن سلام عليكم لم يدخلوها وهم يطمعون)، أي: حلت عليهم أمنة الله من عقابه وأليم عذابه. (٥)
* * *
واختلف أهل التأويل في المعنيّ بقوله: (لم يدخلوها وهم يطمعون).
فقال بعضهم: هذا خبر من الله عن أهل الأعراف: أنهم قالوا لأهل الجنة ما قالوا قبل دخول أصحاب الأعراف، غير أنهم قالوه وهم يطمعون في دخولها.
* ذكر من قال ذلك:
١٤٧٢٨- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: أهل الأعراف يعرفون الناسَ، فإذا مرُّوا عليهم
(٢) انظر تفسير ((سيما)) فيما سلف ٥: ٥٩٤ - ٥٩٧ /٧: ١٨٩، ١٩٠.
(٣) هو أسيد بن عنقاء الفزاري.
(٤) سلف البيت وتخريجه فيما سلف ٥: ٥٩٥ /٧: ١٨٩.
(٥) انظر تفسير ((سلام)) فيما سلف ص: ١١٤، تعليق: ١، والمراجع هناك.
١٤٧٢٩- حدثني محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر قال، تلا الحسن: (لم يدخلوها وهم يطمعون)، قال: والله ما جعل ذلك الطمع في قلوبهم، إلا لكرامة يريدها بهم.
١٤٧٣٠- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (لم يدخلوها وهم يطمعون)، قال: أنبأكم الله بمكانهم من الطمع.
١٤٧٣١- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن أبي بكر الهذلي قال، قال سعيد بن جبير، وهو يحدث ذلك عن ابن مسعود قال: أما أصحاب الأعراف، فإن النور كان في أيديهم، فانتزع من أيديهم، (١) يقول الله: (لم يدخلوها وهم يطمعون)، قال: في دخولها. قال ابن عباس: فأدخل الله أصحاب الأعراف الجنة.
١٤٧٣٢- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا إسرائيل، عن جابر، عن عكرمة وعطاء: (لم يدخلوها وهم يطمعون)، قالا في دخولها.
* * *
وقال آخرون: إنما عني بذلك أهلَ الجنة، وأن أصحاب الأعراف يقولون لهم قبل أن يدخلوا الجنة:"سلام عليكم"، وأهل الجنة يطمعون أن يدخلوها، ولم يدخلوها بعدُ.
* ذكر من قال ذلك:
١٤٧٣٣- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا وكيع قال، حدثنا جرير، عن سليمان التيمي، عن أبي مجلز: (ونادوا أصحاب الجنة أن سلام عليكم لم يدخلوها وهم يطمعون)، قال: الملائكة، يعرفون الفريقين جميعًا بسيماهم. وهذا قبل أن
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٤٧) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وإذا صرفت أبصارُ أصحاب الأعراف تلقاء أصحاب النار = يعني: حِيالَهم ووِجاههم = فنظروا إلى تشويه الله لهم = (قالوا ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين)، الذين ظلموا أنفسهم، فأكسبوها من سخطك ما أورثهم من عذابك ما هم فيه.
١٤٧٣٤- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: وإذا مروا بهم = يعني بأصحاب الأعراف = بزمرة يُذهب بها إلى النار، قالوا: (ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين).
١٤٧٣٥- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن جويبر، عن الضحاك، عن ابن عباس قال: إن أصحاب الأعراف إذا نظروا إلى أهل النار وعرفوهم، قالوا: (ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين).
١٤٧٣٦- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن أبي مكين، عن أخيه، عن عكرمة: (وإذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار)، قال: تحرد وجوههم للنار، فإذا رأوا أهل الجنة ذهبَ ذلك عنهم. (١)
وأخوه، يعني وكيع: ((الحكم بن أبان العدني))، وهو يروي عن طاوس وعكرمة، ثقة مترجم في التهذيب، والكبير ١ / ٢ / ٣٣٤، وابن أبي حاتم ١ / ٢ /١١٣.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿وَنَادَى أَصْحَابُ الأعْرَافِ رِجَالا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (٤٨) ﴾
قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه: (ونادى أصحاب الأعراف رجالا)، من أهل الأرض = (يعرفونهم بسيماهم)، سيما أهل النار = (قالوا ما أغنى عنكم جمعكم)، ما كنتم تجمعون من الأموال والعَدَد في الدنيا = (وما كنتم تستكبرون)، يقول: وتكبُّركم الذي كنتم تتكبرون فيها، (١) كما:
١٤٧٣٨- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال، فمرّ بهم = يعني بأصحاب الأعراف = ناس من الجبَّارين عرفوهم بسيماهم. قال: يقول: قال أصحاب الأعراف: (ما أغنى عنكم جمعكم وما كنتم تستكبرون).
١٤٧٣٩- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: (ونادى أصحاب الأعراف رجالا)، قال: في النار = (يعرفونهم بسيماهم قالوا ما أغنى عنكم جمعكم
١٤٧٤٠- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير، عن سليمان التيمي، عن أبي مجلز: (ونادى أصحاب الأعراف رجالا يعرفونهم بسيماهم قالوا ما أغنى عنكم جمعكم وما كنتم تستكبرون)، قال: هذا حين دخل أهل الجنةِ الجنةَ، = (أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة)، الآية، قلت لأبي مجلز: عن ابن عباس؟ قال: لا بل عن غيره.
١٤٧٤١- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن سليمان التيمي، عن أبي مجلز: (ونادى أصحاب الأعراف رجالا يعرفونهم بسيماهم)، قال: نادت الملائكة رجالا في النار يعرفونهم بسيماهم = (ما أغنى عنكم جمعكم وما كنتم تستكبرون. أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة)، قال: هذا حين دخل أهل الجنةِ الجنةَ = (ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون).
١٤٧٤٢- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (ونادى أصحاب الأعراف رجالا يعرفونهم بسيماهم)، فالرجال، عظماء من أهل الدنيا. قال: فبهذه الصفة عرَف أهلُ الأعراف أهلَ الجنة من أهل النار. وإنما ذكر هذا حين يذهب رئيس أهل الخير ورئيس أهل الشر يوم القيامة = قال: وقال ابن زيد في قوله: (ما أغنى عنكم جمعكم وما كنتم تستكبرون)، قال: على أهل طاعة الله.
* * *
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في المعنيِّين بهذا الكلام.
فقال بعضهم: هذا قِيل الله لأهل النار، توبيخًا على ما كان من قِيلهم في الدنيا، لأهل الأعراف، عند إدخاله أصحابَ الأعراف الجنة.
* ذكر من قال ذلك:
١٤٧٤٣ - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قال:"أصحاب الأعراف"، رجال كانت لهم ذنوب عظام، وكان حَسْم أمرهم لله، يقومون على الأعراف، فإذا نظروا إلى أهل الجنة طمعوا أن يدخلوها. وإذا نظروا إلى أهل النار تعوَّذوا بالله منها، فأدخلوا الجنة. فذلك قوله تعالى:"أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة"، يعني أصحابَ الأعراف="ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون".
١٤٧٤٤ - حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن جويبر، عن الضحاك قال، قال ابن عباس: إن الله أدخل أصحابَ الأعراف الجنة لقوله:"ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون".
١٤٧٤٥ - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: قال الله لأهل التكبر والأموال:"أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة"، يعني أصحاب الأعراف="ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون".
١٤٧٤٦ - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"أهؤلاء"، الضعفاء="الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة
١٤٧٤٧ - حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك قال: إن الله أدخلهم بعد أصحاب الجنة، وهو قوله:"ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون"، يعني أصحاب الأعراف. وهذا قول ابن عباس.
* * *
قال أبو جعفر: فتأويل الكلام على هذا التأويل الذي ذكرنا عن ابن عباس، ومن ذكرنا قوله فيه=: قال الله لأهل التكبر عن الإقرار بوحدانية الله، والإذعان لطاعته وطاعة رسله، الجامعين في الدنيا الأموال مكاثرة ورياء: أيها الجبابرة
(٢) "كنه الشيء" قدره ونهايته وغايته وحقيقته، يريد: ما عملت ما يبلغ بي مرتبة الشفاعة لكم. وفي المطبوعة: "ما علمت"، وأثبت ما في المخطوطة. وفي تفسير ابن كثير، نقلا عن هذا الموضع من التفسير: "ما علمت كنهه ما أستطيع"، والصواب ما في مخطوطة الطبري.
(٣) في المطبوعة هنا أيضًا: "ما علمت"، وأثبت ما في المخطوطة. وفي المخطوطة: "ما عملت فيه ما أستطيع"، بإسقاط"كنه" سهوًا من الناسخ على الأرجح.
(٤) في المطبوعة: "ما علمت كنه ما أستطيع"، وأثبت ما في المخطوطة، كما ذكرت في التعليقين السالفين.
(٥) في المطبوعة: "نهر الحياة"، وأثبت ما في المخطوطة، وهو المطابق لما في تفسير ابن كثير.
(٦) "القصب" أنابيب مستطيلة مجوفة من الجوهر، أو الذهب أو الفضة. وكان في المطبوعة كما سلف آنفًا ص: ٤٥٥، تعليق: ١، "قضب" بالضاد، وأثبت ما في المخطوطة، وغيرها من المراجع
(٧) في المخطوطة: "وريح"، بإسقاط"أهل الجنة". وفي المطبوعة: "وريحهم"، وأثبت ما في تفسير ابن كثير ٣: ٤٨٥، نقلا عن هذا الموضع من تفسير الطبري.
* * *
وقال أبو مجلز: بل هذا القول خبر من الله عن قيل الملائكة لأهل النار، بعد ما دخلوا النار، تعييرًا منهم لهم على ما كانوا يقولون في الدنيا للمؤمنين الذين أدخلهم الله يوم القيامة جنته. وأما قوله:"ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون"، فخبر من الله عن أمره أهل الجنة بدخولها.
١٤٧٤٨ - حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن سليمان التيمي، عن أبي مجلز قال: نادت الملائكة رجالا في النار يعرفونهم بسيماهم:"ما أغنى عنكم جمعكم وما كنتم تستكبرون * أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة"، قال: فهذا حين يدخل أهل الجنة الجنةَ ="ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون".
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ (٥٠) ﴾
قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله تعالى ذكره عن استغاثة أهل النار بأهل الجنة، عند نزول عظيم البلاء بهم من شدة العطش والجوع، عقوبةً من الله لهم
يقول تعالى ذكره:"ونادى أصحاب النار"، بعد ما دخلوها="أصحاب الجنة"، بعد ما سكنوها="أن"، يا أهل الجنة="أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله"، أي: أطعمونا مما رزقكم الله من الطعام، كما:-
١٤٧٤٩ - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله"، قال: من الطعام.
١٤٧٥٠ - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله"، قال: يستطعمونهم ويستسقونهم.
* * *
= فأجابهم أهل الجنة، إن الله حرم الماء والطعام على الذين جحدوا توحيده، وكذبوا في الدنيا رسله.
* * *
و"الهاء والميم" في قوله:"إن الله حرّمهما"، عائدتان على"الماء" وعلى"ما" التي في قوله:"أو مما رزقكم الله".
* * *
وبنحو ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
١٤٧٥١ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن عثمان الثقفي، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس:"ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله"، قال: ينادي الرجلُ أخاه أو أباه،
١٤٧٥٢ - وحدثني المثنى قال، حدثنا ابن دكين قال، حدثنا سفيان، عن عثمان، عن سعيد بن جبير:"ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله"، قال: ينادي الرجل أخاه: يا أخي، قد احترقتُ فأغثني! فيقول:"إن الله حرمهما على الكافرين". (١)
١٤٧٥٣ - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"قالوا إن الله حرمهما على الكافرين"، قال: طعامُ أهل الجنة وشرابُها.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (٥١) ﴾
قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله عن قِيل أهل الجنة للكافرين.
يقول تعالى ذكره: فأجاب أهلُ الجنة أهلَ النار:"إن الله حرمهما على الكافرين" الذين كفروا بالله ورسله، الذين اتخذوا دينهم الذي أمرهم الله به لهوًا ولعبا، يقول: سخرية ولعبًا. (٢)
وروي عن ابن عباس في ذلك ما:-
(٢) انظر تفسير"اللهو" فيما سلف ١١: ٤٤١.
= وتفسير"اللعب" فيما سلف ١١: ٤٤١، تعليق: ٢، والمراجع هناك.
* * *
="وغرتهم الحياة الدنيا"، يقول: وخدعهم عاجلُ ما هم فيه من العيش والخفض والدَّعة، عن الأخذ بنصيبهم من الآخرة، حتى أتتهم المنية (١) = يقول الله جل ثناؤه:"فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا"، أي ففي هذا اليوم، وذلك يوم القيامة ="ننساهم"، يقول: نتركهم في العذاب المبين جياعًا عطاشًا بغير طعام ولا شراب، كما تركوا العمل للقاء يومهم هذا، ورفضوا الاستعداد له بإتعاب أبدانهم في طاعة الله.
* * *
وقد بينا معنى قوله:"ننساهم"، بشواهده فيما مضى، بما أغنى عن إعادته. (٢)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
١٤٧٥٥ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن جابر، عن مجاهد: "فاليوم ننساهم"، قال: نسوا في العذاب.
١٤٧٥٦ - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"فاليوم ننساهم"، قال: نتركهم كما تركوا لقاء يومهم هذا.
١٤٧٥٧ - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"ننساهم"، قال: نتركهم في النار.
(٢) انظر تفسير"النسيان" فيما سلف ١١: ٣٥٧، تعليق: ٣، والمراجع هناك.
١٤٧٥٩ - حدثنا محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا"، الآية، يقول: نسيهم الله من الخير، ولم ينسهم من الشرّ.
١٤٧٦٠ - حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا أبو سعد قال، سمعت مجاهدًا في قوله:"فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا"، قال: نؤخرهم في النار.
* * *
وأما قوله:"وما كانوا بآياتنا يجحدون"، فإن معناه:"اليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا"، وكما كانوا بآياتنا يجحدون.
* * *
فـ"ما" التي في قوله:"وما كانوا" معطوفة على"ما" التي في قوله:"كما نسوا".
* * *
قال أبو جعفر: وتأويل الكلام: فاليوم نتركهم في العذاب، كما تركوا العمل في الدنيا للقاء الله يوم القيامة، وكما كانوا بآيات الله يجحدون = وهي حججه التي احتج بها عليهم، من الأنبياء والرسل والكتب وغير ذلك (١)
="يجحدون"، يكذبون ولا يصدقون بشيء من ذلك. (٢)
* * *
(٢) انظر تفسير"الجحد" فيما سلف ١١: ٣٣٤.
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: أقسم، يا محمد، لقد جئنا هؤلاء الكفرة بكتاب = يعني القرآن الذي أنزله إليه. يقول: لقد أنزلنا إليهم هذا القرآن، مفصَّلا مبيَّنًا فيه الحق من الباطل ="على علم"، يقول: على علم منا بحقِّ ما فُصِّل فيه، من الباطل الذي مَيَّز فيه بينه وبين الحق (١) = "هدى ورحمة"، يقول: بيناه ليُهْدَى ويُرْحَم به قومٌ يصدقون به، وبما فيه من أمر الله ونهيه، وأخباره، ووعده ووعيده، فينقذهم به من الضلالة إلى الهدى.
وهذه الآية مردودة على قوله: (كِتَابٌ أُنزلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ) [سورة الأعراف ٢] ="ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم".
* * *
و"الهدى" في موضع نصب على القطع من"الهاء" التي في قوله:"فصلناه"، (٢) ولو نصب على فعل"فصلناه"، (٣) فيكون المعنى: فصلنا الكتاب كذلك = كان صحيحًا.
ولو قرئ:"هدى ورحمةٍ" كان في الإعراب فصيحًا، وكان خفض ذلك بالردِّ على"الكتاب". (٤)
* * *
(٢) "القطع"، الحال، وانظر فهارس المصطلحات.
(٣) نصبه على"الفعل"، أي: هو مفعول مطلق، من غير فعله، كأنه قال: فصلناه تفصيلا.
(٤) انظر معاني القرآن للفراء ١: ٣٨٠.
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره:"هل ينظرون إلا تأويله"، هل ينتظر هؤلاء المشركون الذين يكذبون بآيات الله ويجحدون لقاءه ="إلا تأويله"، يقول: إلا ما يؤول إليه أمرهم، من ورودهم على عذاب الله، وصِلِيِّهم جحيمه، وأشباه هذا مما أوعدهم الله به.
* * *
وقد بينا معنى"التأويل" فيما مضى بشواهده، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (١)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
١٤٧٦١ - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"هل ينظرون إلا تأويله"، أي: ثوابه ="يوم يأتي تأويله"، أي ثوابه.
١٤٧٦٢ - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور قال، حدثنا معمر، عن قتادة:"هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله"، قال:"تأويله"، عاقبته.
١٤٧٦٣ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أسامة، عن شبل، عن ابن
١٤٧٦٤ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن أبي زائدة، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
١٤٧٦٥ - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"هل ينظرون إلا تأويله"، أما"تأويله"، فعواقبه، مثل وقعة بدر، والقيامة، وما وعد فيها من موعد. (١)
١٤٧٦٦ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس في قوله:"هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق"، فلا يزال يقع من تأويله أمرٌ بعد أمر، حتى يتم تأويله يوم القيامة، ففي ذلك أنزل:"هل ينظرون إلا تأويله"، حيث أثابَ الله تبارك وتعالى أولياءَه وأعداءه ثواب أعمالهم. يقول يومئذ الذين نسوه من قبل:"قد جاءت رسل ربنا بالحق"، الآية.
١٤٧٦٧ - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله"، قال: يوم القيامة.
١٤٧٦٨ - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"يوم يأتي تأويله"، قال: يوم يأتي حقيقته، (٢) وقرأ قول الله تعالى: (هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ)، [سورة يوسف: ١٠٠]. قال: هذا تحقيقها. وقرأ قول الله: (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ)
، [سورة آل عمران: ٧]، قال: ما يعلم
(٢) في المطبوعة: "يوم يأتي تحقيقه" وأثبت ما في المخطوطة، وهو صواب محض.
* * *
وأما قوله:"يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل"، فإن معناه: يوم يجيء ما يؤول إليه أمرهم من عقاب الله ="يقول الذين نسوه من قبل"، أي: يقول الذين ضيَّعوا وتركوا ما أمروا به من العمل المنجيهم مما آل إليه أمرهم يومئذ من العذاب، من قبل ذلك في الدنيا ="لقد جاءت رسل ربنا بالحق"، أقسم المساكين حين عاينوا البلاءَ وحلّ بهم العقاب: أنّ رسل الله التي أتتهم بالنِّذارة وبلغتهم عن الله الرسالة، (١) قد كانت نصحت لهم وصَدَقتهم عن الله، وذلك حين لا ينفعهم التصديق. ولا ينجيهم من سَخَط الله وأليم عقابه كثرة القال والقيل.
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
١٤٧٦٩ - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق"، أما"الذين نسوه"، فتركوه، فلما رأوا ما وعدهم أنبياؤهم، استيقنوا فقالوا:"قد جاءت رسل ربنا بالحق".
١٤٧٧٠ - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"يقول الذين نسوه"، قال: أعرضوا عنه.
١٤٧٧١ - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
* * *
قال أبو جعفر: وهذا خبرٌ من الله تعالى ذكره عن هؤلاء المشركين الذين وصف صفتهم، أنهم يقولون عند حلول سَخَط الله بهم، وورودهم أليمَ عذابه، ومعاينتهم تأويل ما كانت رسلُ الله تعِدهم: هل لنا من أصدقاءَ وأولياء اليوم فيشفعوا لنا عند ربنا، فتنجينا شفاعتهم عنده مما قد حلّ بنا من سوء فعالنا في الدنيا (١) = أو نردّ إلى الدنيا مرة أخرى، فنعمل فيها بما يرضيه ويُعْتِبُه من أنفسنا؟ (٢) قال هذا القولَ المساكينُ هنالك، لأنهم كانوا عهدوا في الدنيا أنفسهم لها شفعاء تشفع لهم في حاجاتهم، فيذكروا ذلك في وقت لا خُلة فيه لهم ولا شفاعة.
يقول الله جل ثناؤه وتقدست أسماؤه:"قد خسروا أنفسهم"، (٣) يقول: غَبَنوا أنفسهم حظوظها، ببيعهم ما لا خطر له من نعيم الآخرة الدائم، بالخسيس من عَرَض الدنيا الزائل ="وضل عنهم ما كانوا يفترون"، يقول: وأسلمهم لعذاب الله، وحار عنهم أولياؤهم، (٤) الذين كانوا يعبدونهم من دون الله، (٥) ويزعمون كذبًا وافتراء أنهم أربابهم من دون الله. (٦)
١٤٧٧٢ - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله:"قد خسروا أنفسهم"، يقول: شروها بخسران.
* * *
(٢) "أعتبه من نفسه"، أعطاه العتبى - وهي الرضا - ورجع إلى مسرته.
(٣) انظر تفسير"الخسارة" فيما سلف ص: ٣٥٧، تعليق: ٣، والمراجع هناك.
(٤) في المطبوعة: "وحاد" بالدال، وأثبت ما في المخطوطة، وهو صواب.
(٥) انظر تفسير"الضلال" فيما سلف من فهارس اللغة (ضلل).
(٦) انظر تفسير"الافتراء" فيما سلف ص: ٤٠٨ تعليق: ٢، والمراجع هناك.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: إن سيدكم ومصلح أموركم، أيها الناس، هو المعبود الذي له العبادة من كل شيء (٢) ="الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام"، وذلك يوم الأحد، والاثنين، والثلاثاء، والأربعاء، والخميس، والجمعة، كما:-
١٤٧٧٣ - حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج بن المنهال قال، حدثنا أبو عوانة، عن أبي بشر، عن مجاهد قال: بدءُ الخلق العرشُ والماء والهواء، وخلقت الأرض من الماء، وكان بدء الخلق يوم الأحد، والاثنين، والثلاثاء، والأربعاء، والخميس، وجُمع الخلق في يوم الجمعة، وتهوَّدت اليهودُ يوم السبت. ويوم من الستة الأيام كألف سنة مما تعدّون.
* * *
="ثم استوى على العرش".
* * *
(٢) انظر تفسير"الرب" فيما سلف ١: ١٤٢- ١٤٣/ ١٢: ٢٨٦.
* * *
وأما قوله:"يغشي الليل النهار يطلبه حثيثًا"، فإنه يقول: يورد الليل على النهار فيلبسه إياه، حتى يذهب نضرته ونوره (٢) =" يطلبه"، يقول: يطلب الليل النهار ="حثيثًا"، يعني: سريعًا.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
١٤٧٧٤ - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"يطلبه حثيثًا"، يقول: سريعًا.
١٤٧٧٥ - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"يغشي الليل النهار يطلبه حثيثًا"، قال: يغشي الليل النهارَ بضوئه، ويطلبه سريعًا حتى يدركه.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (٥٤) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض والشمس والقمر والنجوم، كلّ ذلك بأمره، أمرهن الله فأطعن أمرَه، ألا لله
(٢) انظر تفسير"الغشاوة" فيما سلف ١: ٢٦٥، ٢٦٦.
١٤٧٧٦ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا هشام أبو عبد الرحمن قال، حدثنا بقية بن الوليد قال، حدثني عبد الغفار بن عبد العزيز الأنصاري، عن عبد العزيز الشامي، عن أبيه، وكانت له صحبة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَنْ لم يحمد الله على ما عمل من عمل صالح وحمد نفسه، قلَّ شكره، وحَبِط عمله. ومَنْ زعم أن الله جعل للعباد من الأمر شيئًا فقد كفر بما أنزل الله على أنبيائه، لقوله:"ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين". (٢)
* * *
= وتفسير"رب" فيما سلف قريبًا ص: ٤٨٢، تعليق: ٢ والمراجع هناك.
= وتفسير"العالمين" فيما سلف من فهارس اللغة (علم).
(٢) الأثر: ١٤٧٧٦ -"عبد الغفار بن عبد العزيز الأنصاري"، هكذا جاء هنا في المخطوطة والمطبوعة، وهكذا نقله الحافظ ابن حجر عن هذا الموضع من التفسير في ترجمة (أبو عبد العزيز) من الإصابة، وهكذا نقله ابن كثير في تفسيره ٣: ٤٨٩.
ولكن الذي أطبقت عليه كتب التراجم، والأسانيد الأخرى التي نقلها الحافظ ابن حجر، في موضع آخر من الإصابة أنه:
"عبد الغفور بن عبد العزيز"، وكنوه"أبو الصباح"، ونسبوه"الواسطي"، وهو مترجم في لسان الميزان ٤: ٤٣، ٤٤، وابن أبي حاتم ٣ / ١ / ٥٥، وميزان الاعتدال ٢: ١٤٢، وهو ضعيف منكر الحديث، وأخرجه البخاري في الضعفاء.
وأبوه هو: "عبد العزيز الشامي"، ولم أجد له ذكرًا، إلا في أثناء هذه الأسانيد.
وأبوه، الذي له صحبة يقال اسمه"سعيد الشامي"، وهو مترجم بذلك في الإصابة، وكنيته"أبو عبد العزيز"، وهو مترجم أيضًا في باب الكنى من الإصابة، وفي أسد الغابة ٥: ٢٤٧.
وهذا الخبر، رواه الحافظ ابن حجر في الموضعين من ترجمة"أبي عبد العزيز" و"سعيد"، وابن الأثير في أسد الغابة ٥: ٢٤٧، وابن كثير في تفسيره ٣: ٤٨٩، والسيوطي في الدر المنثور ٣: ٩٢.
وهو خبر ضعيف هالك الإسناد. و"بقية بن الوليد" كما قال ابن المبارك: ((كان صدوقًا، ولكنه يكتب عمن أقبل وأدبر)). وقال أحمد: "إذا حدث عن قوم ليسوا بمعروفين فلا تقبلوه". وقال يحيى بن معين: "كان يحدث عن الضعفاء بمئة حديث قبل أن يحدث عن الثقات". وقال أبو زرعة: "بقية عجب!! إذا روى عن الثقات فهو ثقة". وذكر قول ابن المبارك الذي تقدم، ثم قال: "وقد أصاب ابن المبارك. ثم قال: هذا في الثقات، فأما في المجهولين، فيحدث عن قوم لا يعرفون ولا يضبطون".
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ادعوا، أيها الناس، ربَّكم وحده، فأخلصوا له الدعاء، دون ما تدعون من دونه من الآلهة والأصنام ="تضرعًا"، يقول: تذلُّلا واستكانة لطاعته (١) ="وخفية"، يقول بخشوع قلوبكم، وصحة اليقين منكم بوحدانيته فيما بينكم وبينه، لا جهارًا ومراءاةً، وقلوبكم غير موقنة بوحدانيته وربوبيته، فعلَ أهل النفاق والخداع لله ولرسوله، (٢) كما:-
١٤٧٧٧ - حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك، عن المبارك بن فضالة، عن الحسن قال: إنْ كانَ الرجل لقد جمع القرآن، وما يشعرُ جارُه. وإن كان الرجل لقد فَقُه الفقهَ الكثير، وما يشعرُ به الناس. وإن كان الرجل ليصلي الصلاة الطويلة في بيته وعنده الزَّوْر، (٣) وما يشعرون به. ولقد أدركنا أقوامًا ما كان على الأرض من عمل يقدرون على أن يعملوه في السرّ فيكون علانية أبدًا! ولقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء، وما يُسمع لهم صوت، إن كان إلا همسًا بينهم وبين ربهم، وذلك أن الله يقول:"ادعوا ربكم تضرعًا وخفية"، وذلك أن الله ذكر عبدًا صالحًا فرضِي فعله فقال: (إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا)، [سورة مريم: ٣].
(٢) انظر تفسير"خفية" فيما سلف ١١: ٤١٤.
(٣) "الزور" (بفتح فسكون) جمع"زائر"، مثل"صاحب" و"صحب". وفي المخطوطة: "الزور" مضبوطة بالقلم بضم الزاي وتشديد الواو مفتوحة، وهو صواب أيضًا.
١٤٧٧٩ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس قوله:"ادعوا ربكم تضرعًا وخفية"، قال: السر.
* * *
وأما قوله:"إنه لا يحب المعتدين"، فإن معناه: إن ربكم لا يحب من اعتدى فتجاوز حدَّه الذي حدَّه لعباده في دعائه ومسألته ربَّه، ورفعه صوته فوق الحد الذي حدَّ لهم في دعائهم إياه، ومسألتهم، وفي غير ذلك من الأمور، (٣) كما:-
١٤٧٨٠ - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا معتمر بن سليمان قال، أنبأنا إسماعيل بن حماد بن أبي سليمان، عن عباد بن عباد، عن علقمة، عن أبي مجلز:"ادعوا ربكم تضرعًا وخفية إنه لا يحب المعتدين"، قال: لا يسأل منازلَ الأنبياء عليهم السلام.
١٤٧٨١ - حدثني القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس:"إنه لا يحب المعتدين"،
(٢) الأثر: ١٤٧٧٨- رواه البخاري في صحيحه (الفتح ٧: ٣٦٣)، ومسلم في صحيحه ١٧: ٢٥ من هذه الطريق، مطولا.
وقوله: "اربعوا على أنفسكم"، أي: ارفقوا بأنفسكم، واخفضوا أصواتكم. وفي المخطوطة: "سميعًا قريبًا أنا معكم" غير منقوطة، وأثبت ما في الصحيحين، وفي المطبوعة، حذف ما في المخطوطة، ولم يزد"وهو" التي زدتها.
(٣) انظر تفسير"الاعتداء" فيما سلف من فهارس اللغة (عدا).
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿وَلا تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٥٦) ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها"، لا تشركوا بالله في الأرض ولا تعصوه فيها، وذلك هو الفساد فيها.
* * *
وقد ذكرنا الرواية في ذلك فيما مضى، وبينا معناه بشواهده. (١)
* * *
="بعد إصلاحها" يقول: بعد إصلاح الله إياها لأهل طاعته، بابتعاثه فيهم الرسل دعاة إلى الحق، وإيضاحه حججه لهم (٢) ="وادعوه خوفًا وطمعًا"، يقول: وأخلصوا له الدعاء والعمل، ولا تشركوا في عملكم له شيئًا غيره من الآلهة والأصنام وغير ذلك، وليكن ما يكون منكم في ذلك خوفًا من عقابه، وطمعًا في ثوابه. وإنّ مَن كان دعاؤه إياه على غير ذلك، فهو بالآخرة من المكذبين، لأنّ من لم يخف عقابَ الله ولم يرجُ ثوابه، لم يبال ما ركب من أمر يسخَطه الله ولا يرضاه ="إن رحمة الله قريب من المحسنين"، يقول تعالى ذكره: إن ثواب الله الذي وعد المحسنين على إحسانهم في الدنيا، قريب منهم، وذلك هو رحمته، (٣)
(٢) انظر تفسير"الإصلاح" فيما سلف من فهارس اللغة (صلح).
(٣) انظر تفسير"الرحمة" فيما سلف من فهارس اللغة (رحم).
= وتفسير"الإحسان" فيما سلف من فهارس اللغة (حسن).
* * *
ولذلك من المعنى ذُكِّر قوله:"قريب"، وهو من خبر"الرحمة"، و"الرحمة" مؤنثة، لأنه أريد به القرب في الوقت لا في النَّسب، والأوقات بذلك المعنى إذا وقعت أخبارًا للأسماء، (١) أجرتها العرب مجرى الحال، فوحّدتها مع الواحد والاثنين والجميع، وذكَّرتها مع المؤنث، فقالوا:"كرامة الله بعيد من فلان"، و"هي قريب من فلان"، كما يقولون:"هند قريب منا"، و"الهندان منا قريب"، و"الهندات منا قريب"، لأن معنى ذلك: هي في مكان قريب منا. فإذا حذفوا المكان وجعلوا"القريب" خلفًا منه، ذكَّروه ووحَّدوه في الجمع، كما كان المكان مذكرًا وموحدًا في الجمع. وأما إذا أنثوه، أخرجوه مثنى مع الاثنين، ومجموعًا مع الجميع، فقالوا:"هي قريبة منا"، و"هما منّا قريبتان"، كما قال عروة [بن الورد] :(٢)
عَشِيَّةَ لا عَفْرَاءُ مِنْكَ قَرِيبَةٌ | فَتَدْنُو، وَلا عَفْرَاءُ مِنْكَ بَعِيدُ (٣) |
(٢) هكذا جاء في المخطوطة والمطبوعة، والصواب أنه"عروة بن حزام"، كما سترى في التخريج، وكأنه سهو من الناسخ وزيادة منه، فإن هذا كله تابع فيه أبو جعفر، الفراء في معاني القرآن، والفراء لم يذكر سوى"عروة"، فزاد الناسخ سهوًا"بن الورد".
(٣) معاني القرآن للفراء ١: ٣٨١، على ما ذكره أبو جعفر، وهو نقله عنه. والبيت في ديوان عروة بن حزام، وفي تزيين الأسواق ١: ٨٤، والبكري في شرح الأمالي: ٤٠١، من شعر له صواب إنشاده على الباء:
عَشِيَّة لا عَفْرَاءُ مِنْكَ بَعِيدَةٌ | فَتَسْلُو، وَلا عَفْرَاءُ مِنْكَ قَرِيبُ |
وَإنِّي لَتَغْشَانِي لِذِكْرَاكِ فَتْرَةٌ | لَهَا بَيْنَ جِلْدِي وَالْعِظَامِ دَبيبُ |
وَلا أَرْضَ أَبْقَلَ إِبْقَالَهَا (٥)
* * *
وقد أنكر ذلك من قِيله بعضُ أهل العربية، ورأى أنه يلزمه إن جاز أن يذكِّر"قريبًا"، توجيهًا منه للرحمة إلى معنى المطر، أن يقول:"هند قام"، توجيهًا منه لـ"هند" وهي امرأة، إلى معنى:"إنسان"، ورأى أن ما شبَّه به قوله:"إن رحمة الله قريب من المحسنين"، بقوله:"وإن كان طائفة منكم آمنوا"، غير مُشْبِهِه. وذلك أن"الطائفة" فيما زعم مصدر، بمعنى"الطيف"، كما"الصيحة" و"الصياح"، بمعنًى، ولذلك قيل: (وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ)، [سورة هود: ٦٧].
* * *
(٢) في المطبوعة: "وساحفة حديد"، وفي المخطوطة: "وماحقه جديد"، غير منقوطة والصواب ما أثبت، وهو المثل الذي ضرب في هذا الباب. قال ابن سيده: "ملحفة جديد، وجديدة"، وقال سيبويه: وقد قالوا ملحفة جديدة، وهو قليلة.
(٣) "شاة سديس": أتت عليها السنة السادسة.
(٤) عامر بن جوين الطائي.
(٥) مضى البيت وتخريجه فيما سلف ١: ٤٣٢، ونسيت أن أذكر هناك أنه سيأتي في هذا الموضع من التفسير، ثم في ١٨: ١١٨ (بولاق)، وصدر البيت: فَلا مُزْنَةٌ وَدَقَتْ وَدْقَهَا
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره، هو الذي يرسل الرياح نشرًا بين يدي رحمته. (١)
* * *
و"النشر" بفتح"النون" وسكون"الشين"، في كلام العرب، من الرياح، الطيبة اللينة الهبوب، التي تنشئ السحاب. وكذلك كل ريح طيبة عندهم فهي"نشر"، ومنه قول امرئ القيس:
كَأَنَّ المُدَامَ وَصَوْبَ الغَمَامِ | وَرِيحَ الخُزَامَى وَنَشْرَ القُطُرْ (٢) |
وبهذه القراءة قرأ ذلك عامة قرأة الكوفيين، خلا عاصم بن أبي النجود، فإنه كان يقرؤه:"بشرًا" على اختلاف عنه فيه.
* * *
(٢) ديوانه: ٧٩، واللسان (نشر) من قصيدة له طويلة، وهذا البيت في ذكر"هو" صاحبته وهذا البيت في صفة رائحة ثغرها عند الصباح، حين تتغير أفواه الناس، يقول بعده:
يُعَلُّ بِهِ بَرْدُ أَنْيَابِهَا | إذَا طَرَّبَ الطَّائِر المُسْتَحِرْ |
وبعضهم، بالباء وضمها وضم الشين.
وكان يتأوّل في قراءته ذلك كذلك قوله: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ) [سورة الروم: ٤٦]، تبشر بالمطر، وأنه جمع"بشير" يبشر بالمطر، جُمِع"بُشُرًا"، كما يجمع"النذير""نُذُرًا". (١)
* * *
وأما قرأة المدينة وعامة المكيين والبصريين، فإنهم قرؤوا ذلك: (وَهُوَ الَّذِي يُرْسِل الرِّيَاحَ نُشُرَا)، بضم"النون"، و"الشين" بمعنى جمع"نَشور" جمع"نشرًا"، كما يجمع"الصبور""صُبُرًا"، و"الشكور""شُكُرًا".
* * *
وكان بعض أهل العلم بكلام العرب يقول: معناها إذا قرئت كذلك: أنها الريح التي تهبّ من كل ناحية، وتجيء من كل وجه. (٢)
* * *
وكان بعضهم يقول: إذا قرئت بضم النون، فينبغي أن تسكن شينها، لأن ذلك لغة بمعنى"النَّشْر" بالفتح. وقال: العرب تضم النون من"النُّشْر" أحيانًا، وتفتح أحيانًا بمعنى واحد. قال: فاختلاف القرأة في ذلك على قدر اختلافها في لغتها فيه. وكان يقول: هو نظير"الخَسْف"،"والخُسْف"، بفتح الخاء وضمها.
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن قراءة من قرأ ذلك: (نَشْرًا) و (نُشُرًا)، بفتح"النون" وسكون"الشين"، وبضم"النون" و"الشين" قراءتان مشهورتان في قرأة الأمصار.
(٢) انظر مجاز القرآن لأبي عبيدة ١: ٢١٧.
فلا أحب القراءة بها، وإن كان لها معنى صحيح ووجه مفهوم في المعنى والإعراب، لما ذكرنا من العلة.
* * *
وأما قوله:"بين يدي رحمته"، فإنه يقول: قدام رحمته وأمامها.
* * *
والعرب كذلك تقول لكل شيء حدث قدام شيء وأمامه:"جاء بين يديه"، لأن ذلك من كلامهم جرى في أخبارهم عن بني آدم، وكثر استعماله فيهم، حتى قالوا ذلك في غير ابن آدم وما لا يَدَ له. (٢)
* * *
و"الرحمة" التي ذكرها جل ثناؤه في هذا الموضع، المطر.
* * *
فمعنى الكلام إذًا: والله الذي يرسل الرياح ليّنًا هبوبها، طيبًا نسيمها، أمام غيْثه الذي يسوقه بها إلى خلقه، فينشئ بها سحابًا ثقالا حتى إذا أقلتها = و"الإقلال" بها، حملها، كما يقال:"استقلّ البعير بحمله"، و"أقله"، إذا حمله فقام به = ساقه الله لإحياء بلد ميت، قد تعفَّت مزارعه، ودَرَست مشاربه، وأجدب أهلُه، (٣) فأنزل به المطر، وأخرج به من كل الثمرات.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
١٤٧٨٢ - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال،
(٢) انظر تفسير: " بين يديه " فيما سلف ٦: ١٦٠، ٤٣٨.
(٣) انظر تفسير"ميت" و"موت الأرض" فيما سلف ٣: ٢٧٤/ ٥: ٤٤٦.
* * *
وأما قوله:"كذلك نخرج الموتى لعلكم تذكرون"، فإنه يقول تعالى ذكره: كما نحيي هذا البلد الميت بما ننزل به من الماء الذي ننزله من السحاب، فنخرج به من الثمرات بعد موته وجدوبته وقُحُوط أهله، كذلك نخرج الموتى من قبورهم أحياءً بعد فنائهم ودروس آثارهم ="لعلكم تذكرون"، يقول تعالى ذكرُه للمشركين به من عبدة الأصنام، المكذبين بالبعث بعد الممات، المنكرين للثواب والعقاب: ضربتُ لكم، أيها القوم، هذا المثل الذي ذكرت لكم: من إحياء البلد الميت بقَطْر المطر الذي يأتي به السحاب الذي تنشره الرياح التي وصفت صفتها، لتعتبروا فتذكروا وتعلموا أن مَنْ كان ذلك من قدرته، فيسيرٌ في قدرته إحياء الموتى بعد فنائها، وإعادتها خلقًا سويًّا بعد دُرُوسها. (١)
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
١٤٧٨٣ - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله:"كذلك نخرج الموتى لعلكم تذكرون"، وكذلك تخرجون، وكذلك النشور، كما نخرج الزرع بالماء.
* * *
١٤٧٨٤ - وقال أبو هريرة: إن الناس إذا ماتوا في النفخة الأولى، أمطر
* * *
١٤٧٨٥ - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"كذلك نخرج الموتى"، قال: إذا أراد الله أن يخرج الموتى، أمطر السماء حتى تتشقق عنهم الأرض، ثم يرسل الأرواح، فتعود كل روح إلى جسدها، فكذلك يحيي الله الموتى بالمطر كإحيائه الأرض.
* * *
"قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما بين النفختين أربعون. قالوا: يا أبا هريرة: أربعون يومًا؟ قال: أَبَيْتُ. قالوا: أربعون شهرًا؟ قال: أبيتُ. قالوا: أربعون سنة؟ قال أبيتُ، ثم ينزل الله من السماء ماءً فيَنْبُتُون كما يَنْبُتُ البَقْل. وَليس من الإنسانِ شيء إلا يَبْلَى، إلا عظمًا واحدًا، وهو عَجْبُ الذنب، ومنه يُرَكَّبُ الخلقُ يوم القيامة".
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: والبلدُ الطيبة تربته، العذبةُ مشاربه، يخرج نباته إذا أنزل الله الغيث وأرسل عليه الحيا، بإذنه، طيبًا ثمرُه في حينه ووقته. والذي خَبُث فردؤت تربته، وملحت مشاربه، لا يخرج نباته إلا نكدًا =
= يقول: إلا عَسِرًا في شدة، كما قال الشاعر: (١)
لا تُنْجِزُ الوعْدَ، إِنْ وَعَدْتَ، وإن | أَعْطَيْتَ أَعْطَيْتَ تَافِهًا نَكِدَا (٢) |
وَأَعْطِ مَا أَعْطَيْتَهُ طَيِّبًا | لا خَيْرَ فِي المَنْكُودِ والنَّاكِدِ (٥) |
واختلفت القرأة في قراءة ذلك.
فقرأه بعض أهل المدينة: (إلا نَكَدًا)، بفتح الكاف.
* * *
(٢) مجاز القرآن لأبي عبيدة ١: ٢١٧ ولسان العرب (تفه).
(٣) "شفه الرجل" (بالبناء للمجهول)، إذا كثر سؤال الناس إياه فأعطى حتى نفد ما عنده فأفنى ماله."فهو مشفوه" ومثله"منكود، ومثمود، ومعروك، ومعجوز، ومصفوف، ومكثور عليه". ويقال: "ماء مشفوه"، كثير الشاربة، وكذلك الماء والطعام.
(٤) م أعرف قائله.
(٥) اللسان (نكد)، وقد ذكرت البيت آنفًا ١: ٤٤٢، تعليق: ١
* * *
وخالفهما بعد سائر القرأة في الأمصار، فقرؤوه: (إلا نَكِدًا)، بكسر الكاف.
* * *
كأن من قرأه:"نكَدًا" بنصب الكاف أراد المصدر.
وكأنّ من قرأه بسكون الكاف أراد كسرها، فسكنها على لغة من قال:"هذه فِخْذ وكِبْد"، وكان الذي يجب عليه إذا أراد ذلك أن يكسر"النون" من"نكد" حتى يكون قد أصاب القياس.
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القراءة في ذلك عندنا، قراءةُ من قرأهُ: (نَكِدًا)، بفتح"النون" وكسر"الكاف"، لإجماع الحجة من قرأة الأمصار عليه.
* * *
وقوله:"كذلك نصرف الآيات لقوم يشكرون"، يقول: كذلك: نُبين آية بعد آية، وندلي بحجة بعد حجة، ونضرب مثلا بعد مثل، (١) لقوم يشكرون الله على إنعامه عليهم بالهداية، وتبصيره إياهم سبيل أهل الضلالة، باتباعهم ما أمرَهم باتباعه، وتجنُّبهم ما أمرهم بتجنبه من سبل الضلالة. وهذا مثل ضرَبه الله للمؤمن والكافر، فالبلد الطيب الذي يخرج نباته بإذن ربه، مثل للمؤمن = والذي خَبُث فلا يخرج نباته إلا نكدًا، مثلٌ للكافر.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
١٤٧٨٦ - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي، عن ابن عباس قوله:"والبلد الطيب يخرج نباته
= وتفسير"الآية" فيما سلف من فهارس اللغة (أيي).
١٤٧٨٧ - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"والبلد الطيب"، و"الذي خبث" قال: كل ذلك من الأرض السِّباخ وغيرها، مثل آدم وذريته، فيهم طيب وخبيث.
١٤٧٨٨ - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، بنحوه.
١٤٧٨٩ - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة:"والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكدًا"، قال: هذا مثل ضربه الله في الكافر والمؤمن.
١٤٧٩٠ - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثني أحمد = يعني ابن المفضل = قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث"، هي السبخة لا يخرج نباتها إلا نكدًا = و"النكد"، الشيء القليل الذي لا ينفع. فكذلك القلوب لما نزل القرآن، فالقلب المؤمن لما دخله القرآن آمن به وثبت الإيمان فيه، والقلب الكافر لما دخله القرآن لم يتعلق منه بشيء ينفعه، ولم يثبت فيه من الإيمان شيء إلا ما لا ينفع، كما لم يُخْرِج هذا البلد إلا ما لا ينفع من النبات.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (٥٩) ﴾
قال أبو جعفر: أقسم ربنا جل ثناؤه للمخاطبين بهذه الآية: أنه أرسل نوحًا إلى قومه، منذرَهم بأسَه، ومخوِّفَهم سَخَطه، على عبادتهم غيره، فقال لمن كفر منهم: يا قوم، اعبدوا الله الذي له العبادة، وذِلُّوا له بالطاعة، واخضعوا له بالاستكانة، ودعوا عبادة ما سواه من الأنداد والآلهة، فإنه ليس لكم معبودٌ يستوجب عليكم العبادةَ غيرُه، فإني أخاف عليكم إن لم تفعلوا ذلك"عذابَ يوم عظيم"، يعني: عذابَ يوم يعظم فيه بلاؤكم بمجيئه إياكم بسخط ربِّكم.
* * *
وقد اختلفت القَرَأة في قراءة قوله:"غيره".
فقرأ ذلك بعض أهل المدينة والكوفة: (مَا لَكُمْ مِنْ إلَهٍ غَيْرِهِ)، بخفض"غير" على النعت لـ"إله".
* * *
وقرأه جماعة من أهل المدينة والبصرة والكوفة: (مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُه)،
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿قَالَ الْمَلأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٦٠) ﴾
قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله جل ثناؤه، عن جواب مشركي قوم نوح لنوح، وهم"الملأ" = و"الملأ"، الجماعة من الرجال، لا امرأة فيهم (٣) = أنهم قالوا له حين دعاهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له:"إنا لنراك"، يا نوح ="في ضلال مبين"، (٤) يعنون في أمر زائل عن الحق، مبين زوالهُ عن قصد الحقّ لمن تأمله. (٥)
* * *
(٢) هكذا جاءت العبارة في المطبوعة والمخطوطة، وفي الكلام سقط لا شك فيه، لم أستطع أن أرده إلى أصله، ولذلك وضعت هذه العبارة بين القوسين. والظاهر أن السقط طويل، لأن أبا جعفر خالف هنا في هذا السياق ما درج عليه من ذكر أولي القراءتين بالصواب عنده.
(٣) انظر تفسير"الملأ" فيما سلف ٥: ٢٩١، وقد فسره هناك بما فسرته كتب اللغة، أنهم وجوه القوم ورؤساؤهم وأشرافهم. وأما التفسير الذي هنا، فلم يرد فيها، وهو شيء ينبغي أن يقيد. وهذا نص الفراء في معاني القرآن ١: ٣٨٣.
(٤) انظر تفسير"الضلال" و"مبين" فيما سلف من فهارس اللغة (ضلل) و (بين).
(٥) في المطبوعة: "عن قصد الحد"، وهو لا معنى له، وهي في المخطوطة سيئة الكتابة، وهذا صواب قراءتها. وانظر تفسير الآية التالية.
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: قال نوح لقومه مجيبًا لهم: يا قوم، لم آمركم بما أمرتكم به من إخلاص التوحيد لله، وإفراده بالطاعة دون الأنداد والآلهة، زوالا مني عن محجة الحقّ، وضلالا لسبيل الصواب، وما بي ما تظنون من الضلال، ولكنّي رسول إليكم من رب العالمين بما أمرتكم به: من إفراده بالطاعة، والإقرار له بالوحدانية، والبراءة من الأنداد والآلهة.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ (٦٢) ﴾
قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله جل ثناؤه عن نبيه نوح عليه السلام أنه قال لقومه الذين كفروا بالله وكذبوه:"ولكني رسول من رب العالمين"، أرسلني إليكم، فأنا أبلغكم رسالات ربي، وأنصح لكم في تحذيري إياكم عقابَ الله على كفركم به، وتكذيبكم إياي، وردّكم نصيحتي ="وأعلم من الله ما لا تعلمون"، من أن عقابه لا يردُّ عن القوم المجرمين.
* * *
قال أبو جعفر: وهذا أيضًا خبر من الله عز ذكره عن قِيل نوح لقومه أنه قال لهم، إذ ردُّوا عليه النصيحة في الله، وأنكروا أن يكون الله بعثه نبيًّا، وقالوا له: (مَا نَرَاكَ إِلا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ)، [سورة هود: ٢٧] =:"أوعجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم"، يقول: أوعجبتم أن جاءكم تذكير من الله وعِظة، يذكركم بما أنزل ربكم ="على رجل منكم"، قيل: معنى قوله:"على رجل منكم"، مع رجل منكم (١) =" لينذركم"، يقول: لينذركم بأس الله ويخوِّفكم عقابه على كفركم به (٢) ="ولتتقوا"، يقول: وكي تتقوا عقابَ الله وبأسه، بتوحيده وإخلاص الإيمان به، والعمل بطاعته ="ولعلكم ترحمون"، يقول: وليرحمكم ربكم إن اتقيتم الله، وخفتموه وحَذِرتم بأسه.
* * *
وفتحت"الواو" من قوله:"أو عجبتم"، لأنها واو عطف، دخلت عليها ألف استفهام. (٣)
* * *
(٢) انظر تفسير"الإنذار" فيما سلف من فهارس اللغة (نذر).
(٣) انظر معاني القرآن للفراء ١: ٣٨٣.
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فكذب نوحًا قومه إذ أخبرهم أنه لله رسولٌ إليهم، يأمرهم بخلع الأنداد، والإقرار بوحدانية الله، والعمل بطاعته، وخالفوا أمر ربهم، ولجُّوا في طغيانهم يعمهون، فأنجاه الله في الفلك والذين معه من المؤمنين به، وكانوا بنوح عليه السلام أنفسًا عشرة، (١) فيما:-
١٤٧٩٢ - حدثني به ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: نوح، وبنوه الثلاثة سامٌ وحام ويافث، وأزواجهم، وستة أناسيّ ممن كان آمن به.
* * *
وكان حمل معه في الفلك من كل زوجين اثنين، كما قال تبارك وتعالى: (وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلا قَلِيلٌ) [سورة هود: ٤٠].
* * *
و"الفلك"، هو السفينة.
* * *
"وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا"، يقول: وأغرق الله الذين كذبوا بحججه، ولم يتبعوا رسله، ولم يقبلوا نصيحته إياهم في الله بالطوفان.
="إنهم كانوا قومًا عمين"، يقول: عمين عن الحق، كما:-
١٤٧٩٣ - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"عمين"، قال: عن الحق.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (٦٥) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ولقد أرسلنا إلى عاد أخاهم هودًا = ولذلك نصب"هودًا"، لأنه معطوف به على"نوح" عليهما السلام = قال هود: يا قوم، اعبدوا الله فأفردوا له العبادة، ولا تجعلوا معه إلهًا غيره، فإنه ليس لكم إله غيره ="أفلا تتقون"، ربكم فتحذرونه، وتخافون عقابه بعبادتكم غيره، وهو خالقكم ورازقكم دون كل ما سواه.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (٦٦) قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (٦٧) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: مخبرًا عما أجاب هودًا به قومُه الذين كفروا بالله:"قال الملأ الذين كفروا"، يعني: الذين جحدوا توحيد الله وأنكروا رسالة الله إليهم (٢)
="إنا لنراك"، يا هود"في سفاهة"، يعنون: في ضلالة عن الحق والصواب
(٢) انظر تفسير الملأ" فيما سلف قريبًا ص: ٤٩٩، تعليق: ٣، والمراجع هناك.
* * *
قال أبو جعفر: يعني بقوله:"أبلغكم رسالات ربّي"، أؤدي ذلك إليكم، أيها القوم (١) ="وأنا لكم ناصح"، يقول: وأنا لكم في أمري إياكم بعبادة الله دون ما سواه من الأنداد والآلهة، ودعائكم إلى تصديقي فيما جئتكم به من عند الله، ناصحٌ، فاقبلوا نصيحتي، فإني أمين على وحي الله، وعلى ما ائتمنني الله عليه من الرسالة، لا أكذب فيه ولا أزيد ولا أبدِّل، بل أبلغ ما أمرت كما أمرت ="أوعجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم"، يقول: أوعجبتم أن أنزل الله وحيه بتذكيركم وعظتكم على ما أنتم عليه مقيمون من الضلالة، على رجل منكم لينذركم بأس الله ويخوّفكم عقابه (٢) = "واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم
(٢) انظر تفسير نظيرة هذه الآية فيما سلف قريبًا: ص٥٠١.
* * *
وبنحو الذي قلنا في تأويل قوله:" واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح"، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
١٤٧٩٥ - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح"، يقول: ذهب بقوم نوح، واستخلفكم من بعدهم.
١٤٧٩٦ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق:"واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح"، أي: ساكني الأرض بعد قوم نوح.
* * *
(٢) انظر تفسير"البسطة" فيما سلف ٥: ٣١٣.
(٣) في المطبوعة: "وفي قوامكم على قوامهم"، وهو خطأ، صوابه ما في المخطوطة.
(٤) في المطبوعة أيضًا: "وقوامكم"، صوابه من المخطوطة.
(٥) انظر تفسير"الفلاح" فيما سلف ص: ٣١٢، تعليق: ١، والمراجع هناك.
* ذكر من قال ذلك:
١٤٧٩٧ - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وزادكم في الخلق بسطة"، قال: ما لقوّةِ قوم عاد. (١)
* * *
وأما"الآلاء"، فإنها جمع، واحدها:"إلًى" بكسر"الألف" في تقدير"مِعًى"، ويقال:"ألَى" في تقدير"قَفَا" بفتح"الألف". وقد حكي سماعًا من العرب:"إلْي" مثل"حِسْي". و"الآلاء"، النعم.
* * *
وكذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
١٤٧٩٨ - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"فاذكروا آلاء الله"، أي: نعم الله.
١٤٧٩٩ - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: أما"آلاء الله"، فنعم الله.
١٤٨٠٠ - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"فاذكروا آلاء الله"، قال: آلاؤه، نعمه.
* * *
قال أبو جعفر: و"عاد"، هؤلاء القوم الذين وصف الله صفتهم، وبعث إليهم هودًا يدعوهم إلى توحيد الله، واتّباع ما أتاهم به من عنده، هم، فيما:-
١٤٨٠١ - حدثنا به ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: ولد عاد بن إرم بن عوص بن سام بن نوح.
* * *
١٤٨٠٢ - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: أن عادًا قوم كانوا باليمن، بالأحقاف.
١٤٨٠٣ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثنا ابن إسحاق، عن محمد بن عبد الله بن أبي سعيد الخزاعي، عن أبي الطفيل عامر بن واثلة، قال: سمعت علي بن أبي طالب عليه السلام يقول لرجل من حضرموت: هل رأيت كثيبًا أحمر تخالطه مَدَرَةٌ حمراء، (١) ذا أرَاك وسِدْر كثير بناحية كذا وكذا من أرض حضرموت، (٢) هل رأيته؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين! والله إنك لتنعته نعتَ رجل قد رآه! قال: لا ولكني قد حُدِّثت عنه. فقال الحضرمي: وما شأنه يا أمير المؤمنين؟ قال: فيه قبرُ هود صلوات الله عليه. (٣)
١٤٨٠٤ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال كانت منازل عاد وجماعتهم، حين بعث الله فيهم هودًا، الأحقاف. قال: و"الأحقاف"، الرملُ، فيما بين عُمان إلى حضرموت، فاليمن كله. (٤) وكانوا مع ذلك قد فشوا في الأرض كلِّها، وقهروا أهلها بفضل قوّتهم التي آتاهم الله. وكانوا أصحاب أوثانٍ يعبدونها من دون الله: صنم يقال له"صُداء"، وصنم يقال له"صَمُود"، وصنم
(٢) "الأراك" و"السدر" نبتان.
(٣) الأثر: ١٤٨٠٣-"محمد بن عبد الله بن أبي سعيد الخزاعي"، ترجم له البخاري في الكبير ١/ ١/ ١٣٥، وساق الخبر، بنحوه، مطولا، ولم يذكر فيه جرحًا. وابن أبي حاتم ٣/ ٢/ ٢٩٧.
"أبو الطفيل"، "عامر بن واثلة الكناني"، رأى النبي صلى الله عليه وسلم، وهو شاب، ثبتت رؤيته رسول الله، ولم يثبت سماعه منه. قالوا: كان آخر من مات من الصحابة سنة مئة، أو ما بعدها.
(٤) في المطبوعة: "باليمن"، وأسقط"كله"، وأثبت ما في المخطوطة.
= قال ابن إسحاق: وكان البيت في ذلك الزمان معروفًا مكانه، (٢) والحرم قائم فيما يذكرون، وأهل مكة يومئذ العماليق = وإنما سموا"العماليق"، لأن
(٢) في المخطوطة: "وكان البيت في زمان معروفًا مكانه"، غير مستقيم، والذي في المطبوعة أقوم على السياق.
= فلما نزل وفد عاد على معاوية بن بكر، أقاموا عنده شهرًا يشربون الخمر، وتغنِّيهم الجرادَتان = قينتان لمعاوية بن بكر. وكان مسيرهم شهرًا، ومقامهم شهرًا. فلما رأى معاوية بن بكر طُول مقامهم، وقد بعثهم قومُهم يتعوَّذون بهم من البلاء الذي أصابهم، (٦) شقَّ ذلك عليه، فقال: هلك أخوالي وأصهاري! وهؤلاء مقيمون
(٢) في المطبوعة"بن عنز"، وفي المخطوطة: "عتر"، وفي التاريخ"عثر" وسيأتي بعد في التاريخ"عنز".
(٣) في المطبوعة: "من هذيل"، وأثبت ما في المخطوطة، وهو مطابق لما في تاريخ الطبري.
(٤) في المطبوعة: "وعقيل بن صد"، وأثبت ما في المخطوطة، مطابقًا لما في التاريخ، وإن الذي في التاريخ هكذا:
"وليقيم بن هزال بن هزيل بن عتيل بن ضد | " و"ضد" بالضاد في التاريخ، وأظن الصاد أصح. |
(٦) "يتغوثون" في المطبوعة والتاريخ، وفي المخطوطة: "يتعوذون"، غير منقوطة، وهي صحيحة، فأثبتها.
أَلا يَا قَيْلَ، ويْحَكَ! قُمْ فَهَيْنِمْ... لَعَلَّ اللهَ يُصْبِحُنَا غَمَامَا (٢) فَيَسْقِي أَرْضَ عَادٍ، إنَّ عَادًا... قَدَ امْسَوا لا يُبِينُونَ الكَلامَا
مِنَ الْعَطَشِ الشَّدِيدِ، فَلَيْسَ نَرْجُو | بِهِ الشَّيْخَ الكَبِيرَ وَلا الغُلامَا |
وَأنْتُمْ هَا هُنَا فِيمَا اشْتَهَيْتُمْ | نَهَارَكُمُ وَلَيْلَكُمُ التَّمَامَا |
فَقُبِّحَ وَفْدُكُمْ مِنْ وَفْدِ قَوْمٍ | وَلا لُقُّوا التَّحِيَّةَ وَالسَّلامَا |
(٢) الأبيات في التاريخ، وفي البداية والنهاية ١: ١٢٦. وفي التاريخ"يسقينا الغماما"، وكذلك كانت في المطبوعة، وأثبت ما في المخطوطة، وفي البداية والنهاية: "يمنحنا".
(٣) في المخطوطة: "نساؤهم عراما"، والصواب ما في التاريخ والمطبوعة، "أعام القوم" هلكت إبلهم فلم يجدوا لبنًا. و"العيمة" شدة شهوة اللبن. و"عام القوم" قلَّ لبنهم من القحط."رجل عمان، وامرأة عيمى"، والجمع"عيام" و"عيامى". وفي البداية والنهاية"نساؤهم أيامى"، جمع"أيم"، التي هلك زوجها.
(٤) في المخطوطة: "سعودون" غير منقوطة، وفي التاريخ والمطبوعة: "يتغوثون"، وانظر التعليق السالف ص: ٥٠٩، رقم: ٦.
أَبَا سَعْدٍ فَإِنَّكَ مِنْ قَبِيلٍ | ذَوِي كَرَمٍ وَأُمُّكَ مِنْ ثَمُودِ (١) |
فَإنَّا لَنْ نُطِيعَكَ مَا بقِينَا | وَلَسْنَا فَاعِلِينَ لِمَا تُرِيدُ (٢) |
(٢) في المطبوعة: "لا نطيعك"، وأثبت ما في المخطوطة، مطابقًا لما في التاريخ.
(٣) في المخطوطة: "أتأمرنا بالسرك"، غير منقوطة، وفوقها حرف (ط) دلالة على الشك والخطأ، والصواب ما في المطبوعة، مطابقًا لما في التاريخ. وفي المطبوعة: "دين وفد، ورمل والصداء مع الصمود"، غير ما في المخطوطة تغييرًا تامًا. والذي أثبته من المخطوطة، مطابق لما في التاريخ.
قال أبو جعفر في هذا الخبر، بعد هذه الأبيات في تاريخه: ((ورفد، ورمل، وضد، قبائل من عاد، والعبود منهم".
(٤) في المطبوعة: "فقال: لا أدعو الله بشيء مما خرجوا له"، زاد من عنده ما لا يحل له. وفي المخطوطة: "فقال أن يدعو الله بشيء مما خرجوا له"، والصواب من تاريخ الطبري.
= وساق الله السحابة السوداء، فيما يذكرون، التي اختارها قَيْل بن عنز بما فيها من النقمة إلى عاد، حتى خرجت عليهم من وادٍ يقال له:"المغيث". فلما رأوها استبشروا بها، وقالوا: (هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا)، يقول الله: (بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا) [سورة الأحقاف: ٢٤-٢٥]، أي: كلّ شيء أُمِرَتْ به. وكان أوّل من أبصر ما فيها وعرف أنها رِيح، فيما يذكرون، امرأة من عاد يقال لها"مَهْدَد". ، فلما تيقنت ما فيها صاحت، (٥) ثم صَعِقت. فلما أن أفاقت قالوا: ماذا رأيت يا مهدد؟ قالت: رأيتُ ريحًا فيها كشُهُب النار، أمامها رجالٌ يقودُونها! فسخَّرها الله عليهم سبع
(٢) في المطبوعة: "لا تبق"، وأثبت ما في المخطوطة والتاريخ.
(٣) "هامد، وهمد، وهميد"، ميت هالك."همد، همودا"، مات وهلك.
(٤) في التاريخ: "... هزال بن هزيل بن هزيلة بن بكر"، وكأنه الصواب.
(٥) في التاريخ"فلما تبينت"، وكأنها أرجح.
١٤٨٠٥ - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا أبو بكر بن عياش قال، حدثنا عاصم، عن الحارث بن حسّان البكري قال: قدمتُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمررت بامرأة بالرّبَذَة، (٧) فقالت: هل أنت حاملي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قلت: نعم! فحملتها حتى قدِمت المدينة، فدخلتُ المسجد، فإذا رسول الله ﷺ على المنبر، وإذا بلالٌ متقلِّدَ السيف، وإذا رايات سُودٌ. قال قلت: ما هذا؟ قالوا: عمرو بن العاص قدم من غزوته. فلما نزل رسول الله ﷺ من على منبره، أتيته فاستأذنتُ، فأذن لي، فقلت: يا رسول الله، إن بالباب امرأة من بني تميم، وقد سألتني أن أحملها إليك. قال:
(٢) في المطبوعة: "وتلتذ به"، زاد ما ليس في المخطوطة ولا التاريخ.
(٣) في المخطوطة والمطبوعة: "وابنه"، والصواب من التاريخ، ومن أول الخبر.
(٤) "المسي" (بضم فسكون)، المساء، كالصبح والصباح. وفي المطبوعة والتاريخ: "مساء ثالثة"، وأثبت ما في المخطوطة.
(٥) في المطبوعة: "هذيلة"، والصواب من المخطوطة والتاريخ.
(٦) الأثر: ١٤٨٠٤- هذا الخبر رواه الطبري في تاريخه، مختصرًا في أوله، مطولا بعد هذا في آخره ١: ١١١- ١١٣.
(٧) في المطبوعة: "على امرأة"، وأثبت ما في المخطوطة.
١٤٨٠٦ - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا زيد بن الحباب قال، حدثنا سلام أبو المنذر النحوي قال، حدثنا عاصم، عن أبي وائل، عن الحارث بن يزيد البكري قال: خرجت لأشكوَ العلاء بن الحضرميّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمررت بالربَذَة، فإذا عجوزٌ منقَطعٌ بها، (١٠) من بني تميم، فقالت: يا عبد الله، إنّ لي إلى رسول الله ﷺ حاجةً، فهل أنت مبلغي إليه؟ قال: فحملتها، فقدمت المدينة. قال: فإذا رايات، (١١) قلت: ما شأن الناس؟ قالوا: يريد أن يبعث بعمرو بن العاص وجهًا. (١٢) قال: فجلست حتى فرغ. قال: فدخل منزله = أو قال: رَحْله = فاستأذنت عليه، فأذن لي، فدخلت فقعدت، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل كان بينكم وبين
(٢) في المطبوعة: "فإلى أين يضطر مضطرك يا رسول الله"، تصرف تصرفًا معيبًا مشينًا وأساء غاية الإساءة. والصواب ما في المخطوطة."مضر" هو جذم العرب وهو"مضر بن نزار بن معد بن عدنان"، ومنه تفرعت، قريش وبنو تميم، ولذلك قالت المرأة من تميم لرسول الله"مضرك"، لأنه جده وجدها.
(٣) في المطبوعة: "مثلي مثل ما قال الأول: معزى حملت حتفها"، زاد من غير هذه الرواية، وهي إساءة شديدة، وجعل: "حتفًا"، "حتفها"، فأثبت ما طابق روايته في التاريخ
وقوله: "معزى حملت حتفًا"، أي حملت منيتها، مثل لمن يحمل ما فيه هلاكه. وهو غير موجود في كتب الأمثال.
(٤) "مهرة" (بفتح فسكون)، حي عظيم، وهو أبو قبيلة: "مهرة بن حيدان بن عمرو ابن الحاف بن قضاعة"، وبلاد مهرة، في ناحية الشحر من اليمن، ببلاد العنبر على ساحل البحر.
وكان في المطبوعة والمخطوطة: "ثم فصلوا من عنده حتى أتوا جبال مهرة"، وهذه جملة يختل بها سياق الخبر اختلالا شديدًا، وتختلف الضمائر، ولا يصبح للخبر رباط يمسكه، وكأنه عبث من الناسخ، فإن أبا جعفر روى هذا الخبر في التاريخ بإسناده ولفظه، فأثبت منه نص الخبر، إذ هو الذي يستقيم به الكلام.
(٥) في المطبوعة حذف"منها"، لغير علة ظاهرة.
(٦) في المطبوعة والمخطوطة: "فسمعهم وكلمهم"، والصواب من التاريخ.
(٧) في المطبوعة والمخطوطة: "الذين آتاهم"، والصواب من التاريخ.
(٨) في المطبوعة والمخطوطة: "وكلمهم"، والصواب من التاريخ.
(٩) الأثر: ١٤٨٠٥ -"أبو بكر بن عياش"، ثقة، كان من العباد الحفاظ المتقنين، إلا أنه لما كبر ساء حفظه، فكان يهم إذا روى. والخطأ والوهم شيئان لا ينفك عنهما البشر، فمن كان لا يكثر ذلك منه، فلا يستحق ترك حديثه، بعد تقد عدالته- هكذا قال ابن حبان، وصدق. مضى برقم: ٢١٥٠، ٣٠٠٠، ٥٧٢٥، ٨٠٩٨.
و"عاصم"، هو"عاصم ابن بهدلة"، "عاصم بن أبي النجود"، ثقة جليل مشهور، مضى مرارًا كثيرة.
وأما "الحارث بن حسان البكري"، فيقال فيه: "الحارث بن يزيد البكري"، ويقال اسمه: "حريث"، وصحح ابن عبد البر أنه اسمه"الحارث بن حسان"، فقال: "والأكثر يقولون الحارث بن حسان البكري، وهو الصحيح إن شاء الله"، ولكن العجيب أن الحافظ ابن حجر قال في التهذيب: "وصحح ابن عبد البر أن اسمه حريث"، فوهم وهمًا شديدًا، والذي نقلته نص ابن عبد البر في الاستيعاب!! فليصحح ما في التهذيب.
و"الحارث بن حسان البكري"، مترجم في ابن سعد ٦: ٢٢، والكبير للبخاري ١/ ٢/ ٢٥٩، والاستيعاب: ١٠٩، وابن أبي حاتم ١/ ٢/ ٧١، وأسد الغابة ١: ٣٢٣، والإصابة في ترجمته، والتهذيب. روى عنه أبو وائل، وسماك بن حرب.
وسيأتي خبر"الحارث البكري"، بإسناد آخر: "عن عاصم، عن أبي وائل، عن الحارث بن يزيد البكري".
وأما هذا الإسناد"عاصم، عن الحارث بن حسان البكري"، ليس بينهما"أبو وائل"، فقد قال ابن الأثير في أسد الغابة في ترجمة"الحارث": "ورواه أحمد بن حنبل أيضًا، وسعيد الأموي، ويحيى الحماني، وعبد الحميد بن صال، وأبو بكر بن شيبة، كلهم: عن أبي بكر بن عياش، عن عاصم، عن الحارث، ولم يذكر أبا وائل". قال الحافظ ابن حجر في التهذيب في ترجمة"الحارث": "وروى عنه عاصم ابن بهدلة"، والصحيح: عنه، عن أبي وائل، عن الحارث".
وقال ابن عبد البر في الاستيعاب: "واختلف في حديثه: منهم من يجعله عن عاصم ابن بهدلة، عن الحارث بن حسان، لا يذكر فيه أبا وائل، والصحيح فيه: عن عاصم، عن أبي وائل، عن الحارث بن حسان". وكذا قال غيرهما.
وهذا الخبر بهذا الإسناد، رواه أبو جعفر مرة أخرى في تاريخه ١: ١١٠، وروى صدره أحمد في مسنده ٣: ٤٨١، "عن أبي بكر بن عياش قال، حدثنا عاصم بن أبي الفزر (؟؟)، عن الحارث بن حسان البكري"، مختصرًا، وهو صدر الخبر. وأما ما جاء في مطبوعة المسند"عاصم بن أبي الفزر"، فأرجح أنه تحريف"عاصم بن أبي النجود"، فالحديث حديثه، ولم أعلم أنه يقال له: "عاصم بن أبي الفزر".
ورواه من هذه الطريق نفسها مختصرًا، ابن ماجه في سننه ص: ٩٤١، رقم: ٢٨١٦، بنحو لفظ أحمد.
وسيأتي تخريج خبر"الحارث" هذا، في الأثر التالي.
(١٠) "منقطع بها" (بضم الميم، وفتح القاف والطاء). يقال: "قطع بالرجل، فهو مقطوع به"، و"انقطع به، فهو منقطع به" (كله بالبناء للمجهول) : إذا كان مسافرًا، فعطبت راحلته، وذهب زاده وماله، أو أتاه أمر لا يقدر معه على أن يتحرك.
(١١) عند هذا الموضع قال أبو جعفر، في روايته في التاريخ: "قال أبو جعفر: أظنه قال: فإذا رايات سود".
(١٢) في المطبوعة: "عمرو بن العاص"، حذف الباء، وهي ثابتة في المخطوطة، وفي رواية الخبر في التاريخ.
١٤٨٠٧ - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وإلى عاد أخاهم هودًا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره"، أنّ عادًا أتاهم هود، فوعظهم وذكّرهم بما قَصّ الله في القرآن، فكذبوه وكفَروا، وسألوه أن يأتيهم بالعذاب، فقال لهم: (إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ) [سورة الأحقاف: ٢٣]. وإن عادًا أصابهم حين كفروا قُحُوطُ المطر، (١٢) حتى جُهِدوا لذلك جَهْدًا شديدًا. وذلك أن هودًا دَعَا عليهم، فبعث الله عليهم الريح العَقيم، وهي الريح التي لا تُلْقِح الشجرَ. فلما نظروا إليها قالوا: (هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا) [سورة الأحقاف: ٢٤]. فلما دنت منهم، نظروا إلى الإبل والرجال تطيرُ بهم الريحُ بين السماء والأرض. فلما رأوها تبادَروا إلى البيوت، (١٣) فلما دخلوا البيوت، دخلت عليهم فأهلكتهم فيها، ثم أخرجتهم
(٢) "حميت": غضبت، وأخذتها الحمية والأنفة والغيظ. و"استوفز الرجل في قعدته"، إذا قعد قعودًا منتصبًا غير مطمئن، ولم يستو قائمًا، كالمتهيئ للوثوب، وذلك عند الشر والخصام والجدال والمماحكة.
(٣) في المطبوعة: "فإلى أين يضطر مضطرك"، وهو تغير لما في المخطوطة وزيادة عما فيها، كما فعل فيما سلف ص: ٥١٤، تعليق: ٢.
(٤) في المطبوعة: "حتفها"، وهي مطابقة لرواية أحمد في مسنده، ولكن ما أثبته هو ما جاء في المخطوطة والتاريخ، إلا أن في التاريخ: "حيفا"، خطأ، صوابه ما أثبت. انظر ما سلف ص: ٥١٤، تعليق: ٣.
(٥) في المطبوعة والمخطوطة: "قال: على الخبير سقطت"، وأثبت ما في التاريخ.
(٦) "استطعمه الحديث"، أي أغراه أن يحدثه، كأنه يريد أن يذيقه طعم حديثه. يقال ذلك إذا استدرجه، وهو أعلم بالحديث منه، وجاء تفسيره في خبر أحمد في مسنده: "وهو أعلم بالحديث منه، ولكن يستطعمه". وشرح هذا اللفظ في كتب اللغة غير واف، فقيده هناك.
(٧) في المطبوعة: "وغنته جاريتان"، غير ما في المخطوطة، وهو مطابق لما في التفسير ومسند أحمد.
(٨) في المطبوعة وتاريخ الطبري: "اللهم أسق" وأثبت ما في المخطوطة. وبقية الجملة محولة من مكانها في المخطوطة، وذلك قوله: "ما كنت تسقيه"، وهي ثابتة في التاريخ، ولكن جعلها في المطبوعة والمخطوطة: "مسقيه"، كما في الأثر السالف، ولكن"تسقيه" هي رواية أبي جعفر في التاريخ، ورواية أحمد أيضًا.
(٩) بعد قوله"فنودي منها"، وضع"ما كنت مسقيه"، كما أسلفت في التعليق الماضي.
(١٠) في المطبوعة: "ففيما بلغني"، وأثبت ما في المخطوطة، وهو المطابق لرواية أبي جعفر في التاريخ، ورواية أحمد في المسند.
(١١) الأثر: - ١٤٨٠٦ - هذا إسناد آخر للأثر السالف، وهو الإسناد الذي أشرت إليه هناك أن فيه"أبا وائل" بين"عاصم ابن بهدلة" و"الحارث بن حسان البكري، وأنه هو الصحيح.
و"الحارث بن يزيد البكري"، هو"الحارث بن حسان البكري"، مختلف في ذلك، كما قلت في التعليق على رقم: ١٤٨٠٥.
و"سلام، أبو المنذر النحوي" هو"سلام بن سليمان المزني"، قال يحيى بن معين: "لا شيء"، وقال أبو حاتم: "صدوق، صالح الحديث". وقال الساجي: "صدوق، يهم، ليس بمتقن الحديث".
وقال ابن معين مرة أخرى: "يحتمل لصدقه". مترجم في التهذيب، والكبير ٢/ ٢/ ١٣٥، وابن أبي حاتم ٢/ ١/ ٢٥٩، وميزان الاعتدال ١: ٤٠٠.
وأما "أبو وائل"، فهو"شقيق بن سلمة الأسدي"، ثقة إمام، مضى مرارًا. أما المرأة المذكورة في هذا الخب، والخبر السالف، فهي:
"قيلة بنت مخرمة التميمية"، من بني العنبر بن عمرو بن تميم، ويذكر في بعض الكتب"الغنوية"، وهو تصحيف"العنبرية". وحديث"قيلة" حديث طويل، فيه غريب كثير، ذكره ابن حجر في ترجمتها في الإصابة.
وفي تحقيق خبرها، وخبر"الحارث بن حسان البكرير "أو" حريث بن حسان الشيباني"، وافد بكر بن وائل (كما في ترجمتها في ابن سعد ٨: ٢٢٨)، فضل كلام ليس هذا موضعه.
وهذا الخبر رواه أبو جعفر في تاريخه بهذا الإسناد نفسه. ورواه أحمد في مسنده ٣: ٤٨١، ٤٨٢، من طريقي: من طريق عفان، عن سلام أبي المنذر، عن عاصم = ثم رواه من طريق زيد بن الحباب، عن أبي المنذر سلام بن سليمان النحوي، عن عاصم بن أبي النجود، بنحوه.
ورواه ابن سعد في الطبقات ٦: ٢٢ من طريق عفان، عن سلام أبي المنذر، مختصرًا.
وروى البخاري صدره في الكبير ١/ ٢/٢٥٩.
ورواه ابن الأثير في ترجمة"الحارث" في أسد الغابة، وابن عبد البر في الاستيعاب مختصرًا، وابن حجر في الإصابة. ورواه ابن كثير في تفسيره ٣: ٥٠٢/ ٧: ٤٧٠، من طريق أحمد في مسنده. ورواه أيضًا في البداية والنهاية ١: ١٢٧، ١٢٨، وقال: "ورواه ابن جرير، عن أبي كريب، عن زيد بن حباب، به. ووقع عنده: عن الحارث بن يزيد البكري، فذكره. ورواه أيضًا، عن أبي كريب، عن أبي بكر بن عياش، عن عاصم، عن الحارث بن حسان البكري، فذكره. ولم أر في النسخة: أبا وائل، والله أعلم". قلت: يعني الأثر السالف، انظر التعليق هناك.
وقال ابن كثير أيضًا في البداية والنهاية: "رواه الترمذي، عن عبد بن حميد، عن زيد بن الحباب، به. ورواه النسائي من حديث سلام أبي المنذر، عن عاصم ابن بهدلة. ومن طريقه رواه ابن ماجه. وهكذا أورد هذا الحديث، وهذه القصة، عند تفسير هذه القصة غير واحد، من المفسرين، كابن جرير وغيره. وقد يكون هذا السياق للإهلاك عاد الآخرة، فما فيما ذكره ابن إسحاق وغيره ذكر لمكة، ولم تبن إلا بعد إبراهيم الخليل، حين أسكن فيها هاجر وابنه إسماعيل، فنزلت جرهم عندهم، كما سيأتي. وعاد الأولى قبل الخليل. وفيه ذكر"معاوية بن بكر" وشعره، وهو من الشعر المتأخر عن زمان عاد الأولى، لا يشبه كلام المتقدمين. وفيه: أن في تلك السحابة شرر نار، وعاد الأولى إنما أهلكوا بريح صرصر عاتية".
وهذا نقد جيد جدًا، لهذه الأخبار السالفة جميعًا، والخبر الآتي بعد هذا.
(١٢) في التاريخ: "قحط من المطر".
(١٣) في المطبوعة والمخطوطة: "تنادوا البيوت"، وهو لا معنى له، صوابه من التاريخ"تبادروا"، أسرعوا.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٧٠) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: قالت عاد له: (٥) أجئتنا تتوعَّدنا بالعقاب من الله على ما نحن عليه من الدين، كي نعبد الله وحده، وندين له بالطاعة
(٢) هذا تفسير الآيات، من"سورة القمر": ١٩، و"سورة الحاقة": ٧.
(٣) هذا تفسير آية"سورة الحاقة": ٧ ="كأنهم أعجاز نخل خاوية".
(٤) في المطبوعة: "أرسل إليهم"، والصواب من المخطوطة والتاريخ.
(٥) في المخطوطة: "قالت هود له"، وهو ظاهر الخطأ، صححه في المطبوعة: "قالت عاد لهود"، وأثبت ما دل عليه سهو الناسخ.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نزلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (٧١) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: قال هود لقومه: قد حَلَّ بكم عذَابٌ وغضبٌ من الله.
* * *
وكان أبو عمرو بن العلاء = فيما ذكر لنا عنه = يزعم أن"الرجز" و"الرجس" بمعنى واحد، وأنها مقلوبة، قلبت السين زايًا، كما قلبت"ستّ" وهي من"سداس" بسين، (٢) وكما قالوا"قَرَبُوس" و"قَرَبُوت" (٣) وكما قال الراجز: (٤)
(٢) في المطبوعة: "كما قلبت: شئز، وهي من: شئس"، لم يحسن قراءة المخطوطة، والصواب ما أثبت، يدل عليه شاهد الرجز الذي بعده.
(٣) في المطبوعة والمخطوطة: "وقربوز" بالزاي (وهي في المخطوطة غير منقوطة)، والصواب المحكي عنه بالتاء. و"القربوس" حنو السرج" وهو بقاف وراء مفتوحتان، بعدهما باء مضمومة.
(٤) هو علباء بن أرقم اليشكري.
أَلا لَحَى اللهُ بَنِي السِّعْلاتِ | عَمْرَو بْنَ يَرْبُوعٍ لِئَامَ النَّاتِ |
يريد" الناس"، و"أكياس"، فقلبت السين تاء، كما قال رؤبة:
كَمْ قَدْ رَأَيْنَا مِنْ عَدِيدٍ مُبْزِي | حَتَّى وَقَمْنَا كَيْدَهُ بالرِّجْزِ (٢) |
١٤٨٠٨-حدثني بذلك المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثنا معاوية، عن علي بن أبى طلحة، عن ابن عباس، قوله: (قد وقع عليكم من ربكم رجس) يقول: سَخَط.
أَلا لِلهِ ضَيْفُكِ، يَا أُمَامَا | ................... |
١٤٦. رَأَى بَرْقًا فَأَوْضَعَ فَوْقَ بَكْرٍ | فَلا، بِكِ، ما أسَالَ وما أَغَامَا. |
(٢) ديوانه: ٦٤، هكذا جاء البيت الأول في المخطوطة والمطبوعة. وهو لا يكاد يصح، ورواية الديوان. مَا رَامَنَا من ذي عَدِيدٍ مَبْزى
يقال: "أبزى فلان بفلان"، إذا غلبه وقهاه. و"وقم عدوه"، أذله وقهره.
(٣) في المطبوعة: "الرجز" مكان"الرجس"، وبين أن الصواب ما أثبت.
= وانظر تفسير"الرجس" فيما سلف ١٠: ٥٦٥/ ١٢: ١١١، ١١٢، ١٩٤.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ (٧٢) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فأنجينا نوحًا والذين معه من أتباعه على الإيمان به والتصديق به وبما دعَا إليه، من توحيد الله، وهجر الآلهة والأوثان= (برحمة منّا وقطعنا دابر الذين كذبوا بآياتنا) يقول: وأهلكنا الذين كذَّبوا من قوم هود بحججنا جميعًا عن آخرهم، فلم نبق منهم أحدًا، كما:-
(٢) انظر تفسير"سلطان" فيما سلف ص: ٤٠٤، تعليق: ١، والمراجع هناك.
(٣) في المطبوعة والمخطوطة: "فيعذر من عبده"، والسياق يقتضي ما أثبت.
* * *
وقد بينا فيما مضى معنى قوله: (فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا) [الأنعام: ٤٥]، بشواهده، بما أغنى عن إعادته. (١)
* * *
= (وما كانوا مؤمنين) يقول: لم يكونوا مصَدّقين بالله ولا برسوله هود.
القول في تأويل قوله: ﴿وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (٧٣) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ولقد أرسلنا إلى ثمود أخاهم صالحًا.
* * *
و"ثمود"، هو ثمود بن غاثر بن إرم بن سام بن نوح، وهو أخو جَدِيس بن غاثر، (٢) وكانت مساكنهما الحِجْر، بين الحجاز والشأم، إلى وادي القُرَى وما حوله.
* * *
ومعنى الكلام: وإلى بني ثمود أخاهم صالحًا.
* * *
(٢) في المطبوعة في الموضعين"ثمود بن عابر"، و"جديس بن عابر"، وأثبت ما في المخطوطة، وهو كذلك في تاريخ الطبري ١: ١٠٣"غاثر" بالغين والثاء، إلا أنه جاء في التاريخ ١: ١١٥"جاثر" بالجيم والثاء، وكأن الأول هو الأصل، وأن الآخر على القلب عن الغين، هذا إذا لم يكن خطأ.
* * *
(قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره)، يقول: قال صالح لثمود: يا قوم اعبدوا الله وحده لا شريك له، فما لكم إله يجوزُ لكم أن تعبدوه غيره، وقد جاءتكم حُجَّة وبرهان على صدق ما أقول، (١) وحقيقة ما إليه أدعو، من إخلاص التوحيد لله، وإفراده بالعبادة دون ما سواه، وتصديقي على أني له رسول. وبيِّنتي على ما أقول وحقيقة ما جئتكم به من عند ربي، وحجتي عليه، هذه الناقة التي أخرجها الله من هذه الهَضْبة، دليلا على نبوّتي وصدق مقالتي، فقد علمتم أن ذلك من المعجزات التي لا يقدر على مثلها أحدٌ إلا الله.
* * *
وإنما استشهد صالح، فيما بلغني، على صحة نبوّته عند قومه ثمود بالناقة، لأنهم سألُوه إياها آيةً ودلالة على حقيقةِ قوله.
* ذكر من قال ذلك، وذكر سبب قتل قوم صالح الناقة:
١٤٨١٠-حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا إسرائيل، عن عبد العزيز بن رفيع، عن أبي الطفيل قال، قالت ثمود لصالح: ائتنا بآية إن كنت من حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا إسرائيل، عن عبد العزيز بن رفيع، عن أبي الطفيل قال، قالت ثمود لصالح: ائتنا بآية إن كنت من الصادقين! قال: فقال لهم صالح: اخرجوا إلى هَضْبَةٍ من الأرض! فخرجوا، فإذا هي تَتَمَخَّض كما تتمخَّض الحامل، ثم إنها انفرجت فخرجت من وسَطها الناقة، فقال صالح: (هذه ناقة الله لكم آية فذروها تأكل في أرض الله ولا تمسُّوها بسوء فيأخذكم عذاب أليم (= (لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ)، [سورة الشعراء: ١٥٥]. فلما ملُّوها عقروها، فقال لهم: (تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ)، [سورة هود: ٦٥] قال عبد العزيز: وحدثني رجل آخر: أنّ صالحًا قال لهم: إن آية العذاب أن تصبحوا غدًا حُمْرًا، واليوم الثاني
١٤٨١٢-حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (وإلى ثمود أخاهم صالحًا)، قال: إن الله بعث صالحا إلى ثمود، فدعاهم فكذّبوه، فقال لهم ما ذكر الله في القرآن، فسألوه أن يأتيهم بآية، فجاءهم بالناقة، لها شِرْب ولهم شِرْبُ يومٍ معلوم. وقال: (ذروها تأكل في أرض الله ولا تمسوها بسوء). فأقرُّوا بها جميعًا، فذلك قوله: (فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى)، [سورة فصلت: ١٧]. وكانوا قد أقرُّوا به على وجه النفاق والتقيَّة، وكانت الناقة لها شِرْبٌ، فيومَ تشرب فيه الماء تمرّ بين جبلين فيرحمانها، (٢) ففيهما أثرُها حتى الساعة، ثم تأتي فتقف لهم حتى يحلبُوا اللبنَ، فيرويهم، إنما تصبُّ صبًّا، (٣) ويوم يشربون الماءَ لا تأتيهم. وكان معها فصيل لها، فقال لهم صالح: إنه يولدُ في شهركم هذا غلامٌ يكون هلاككم على يديه! فولد لتسعة منهم في ذلك الشهر، فذبحوا أبناءهم، ثم وُلد للعاشر فأبَى أن يذبح ابنه، وكان لم يولد له قبل ذلك شيء. فكان ابن العاشر أزْرَق أحمرَ، فنبت نباتًا سريعًا، فإذا مرَّ بالتسعة فرأوه قالوا: لو كان أبناؤنا أحياءَ كانوا مثل هذا! فغضب التِّسعة على صالح، لأنه أمرهم بذبح أبنائهم= (تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ)،
وقوله: "تحنطوا"، أي اتخذوا الحنوط، كما يفعلون بالميت: و"الحنوط"، هو ذريرة من مسك أوعنبر أو كافور أو صندل مدقوق، أو صبر، يتخذ للميت حتى لا يجيف ولا ينتن، أو لا تظهر رائحته للحي. وسقط من الترقيم: "١٤٨١١": سهوًا مني.
(٢) في المطبوعة:
"فيرجمونها، ففيها أثرها | "، والصواب من المخطوطة. |
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال، لما أهلك الله عادًا وتقضَّى أمرها، عَمِرتْ ثمود بعدَها واستُخْلِفوا في الأرض، (٤) فنزلوا فيها وانتشروا، ثم عتوا على الله. فلما ظهر فسادهم وعبدوا غيرَ الله، بعث إليهم صالحًا = وكانوا قومًا عَربًا، وهو من أوسطهم نسبًا وأفضلهم موضعًا = (٥) رسولا (٦) وكانت منازلهم الحِجر إلى قُرْح، (٧) وهو وادي القرى، وبين ذلك ثمانية عشر ميلا فيما بين الحجاز والشأم! فبعث الله إليهم غلامًا شابًا، فدعاهم إلى الله، حتى شَمِط وكبر، (٨) لا يتبعه منهم إلا قليل مستضعَفون، فلما ألحّ عليهم صالح بالدعاء، وأكثر لهم التحذير، وخوَّفهم من الله العذاب والنقمة، سألوه أن يُريهم آية تكون مِصداقًا لما يقول فيما يدعوهم إليه، فقال لهم: أيَّ آية تريدون؟ قالوا: تخرج معنا إلى عِيدِنا هذا = وكان لهم عيد يخرجون إليه بأصنامهم وما يعبدون من دون الله، في يوم معلوم من السنة = فتدعو إلهك وندْعُو آلهتنا، فإن
(٢) "عليك"، إغراء، بمعنى: خذه.
(٣) في المطبوعة والمخطوطة: "ثم دعا"، والصواب ما أثبت. من"رغاء الناقة"، وهو صوتها إذا ضجت.
(٤) "عمر يعمر" (نحو: فرح يفرح) و"عمر يعمر" (نحو: نصر ينصر) : عاش وبقي زمانًا طويلا.
(٥) في المطبوعة: "وكانوا قومًا عزبًا"، وفي المخطوطة: "وكانوا قومًا عربًا وهم من أوسطهم" والصواب ما أثبت.
(٦) السياق: "بعث إليهم صالحًا... رسولا".
(٧) "قرح" (بضم فسكون)، وهو سوق وادي القرى.
(٨) "شمط": ابيض شعره.
= فحدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن يعقوب بن عتبة بن المغيرة بن الأخنس، أنه حدَّث: أنَّهم نظروا إلى الهضبة، حين دعا الله صالح بما دعا به، تتمخَّض بالناقة تمخُّض النَّتُوج بولدها، (٣) فتحركت الهضبة، ثم انتفضت بالناقة، (٤) فانصدعت عن ناقة، كما وصَفوا، جوفاءَ وَبْرَاء نَتُوج، ما بين جنبيها لا يعلمه إلا الله عِظمًا، فآمن به جندع بن عمرو ومَنْ كان معه على أمره من رهطه، وأراد أشرافُ ثمود أن يؤمنوا به ويصدِّقوا، فنهاهم ذؤاب بن عمرو بن لبيد، والحباب صاحبُ أوثانهم، ورباب بن صمعر بن جلهس، وكانوا
(٢) شرح"المخترجة"، لم أجده في غير هذا الخب، وهو بمثله في قصص الأنبياء للثعلبي. و"البخت" من الإبل، جمال طوال الأعناق، وهي الإبل الخراسانية، تنتج من بين عربية وفالج.
(٣) "النتوج" (بفتح النون) : الحامل.
(٤) في المطبوعة: "ثم أسقطت الناقة" غير ما في المخطوطة، وفيها: "ثم استفصت الناقة" كل ذلك غير منقوطة، فرأيت صواب قرأتها ما أثبت.
وَكَانَتْ عُصْبَةٌ مِنْ آلِ عَمْروٍ... إِلَى دِينِ النَّبِيِّ دَعَوْا شِهَابَا (٢) عَزِيزَ ثَمُودَ كُلِّهِمُ جَمِيعًا... فَهَمَّ بِأَنْ يُجِيبَ وَلَوْ أَجَابَا
لأَصْبَحَ صَالِحٌ فِينَا عَزِيزًا | وَمَا عَدَلوا بصَاحِبِهم ذُؤَابَا |
وَلكِنَّ الغُوَاةَ مِن َآلِ حُجْرٍ | تَوَلَّوْا بَعْدَ رُشْدِهِمُ ذُبَابَا (٣) |
(٢) الأبيات في البداية والنهاية لابن كثير ١: ١٣٤، وقصص الأنبياء للثعلبي: ٥٧، ٥٨.
(٣) في المطبوعة: "ذئابًا"، وفي البداية والنهاية"ذآبا"، وكأن الصواب ما في قصص الأنبياء، وهو ما أثبته. والمخطوطة غير منقوطة.
(٤) هذا تفسير آية"سورة القمر": ٢٨.
(٥) "غبا" (بكسر الغين)، أي: ترد يومًا، وتدع يومًا، ثم ترد.
= وكانت امرأة من ثمودَ يقال لها:"عنيزة بنت غنم بن مجلز"، تكني بأم غنم، وهي من بني عبيد بن المهل، أخي رُميل بن المهل، (٥) وكانت امرأةَ ذؤاب بن عمرو، وكانت عجوزًا مسنة، وكانت ذات بناتٍ حسان، وكانت ذات مال من إبلٍ وبقر وغنم= وامرأة أخرى يقال لها:"صدوف بنت المحيا بن دهر بن المحيا"، (٦) سيد بني عبيد وصاحب أوثانهم في الزمن الأول، وكان الوادي يقال
(٢) "تفحجت"، باعدت بين رجليها.
(٣) في المطبوعة: "بظهر الوادي"، وأثبت ما في المخطوطة. و"الظهر" ما غلظ وارتفع من الوادي. و"البطن"، ما لان وسهل ورق واطمأن.
(٤) في المطبوعة: "مراتعها"، والصواب ما في المخطوطة.
(٥) في المطبوعة: "دميل"، وفي المخطوطة ما أثبته ظاهر"الراء". وقد مضى آنفًا في أنساب هذا الخبر"الدميل"، فلا أدري أهما واحد، أم هما اسمان مختلفان.
(٦) في المطبوعة: "بنت المحيا بن زهير"، وأثبت ما في المخطوطة، وفي قصص الأنبياء: "مهر".
=ثم إن صدوف وعُنيزة مَحَلَتا في عقر الناقة، (٥) للشقاء الذي نزل. فدعت صدوف رجلا من ثمود يقال له"الحباب" لعقر الناقة. وعرضت عليه نفسها بذلك إن هو فعل، فأبَى عليها. فدعت ابن عم لها يقال له:"مصدع بن مهرج بن المحيَّا"، وجعلت له نفسها، على أن يعقر الناقة، وكانت من أحسن الناسِ، وكانت غنية كثيرة المال، فأجابها إلى ذلك. =ودعت عنيزة بنت غنم،"قدارَ بن سالف بن جندع"، رجلا من أهل قُرْح. وكان قُدار رجلا أحمرَ أزرقَ قصيرًا، يزعمون أنه كان لزَنْيَةٍ، من رجل يقال له:" صهياد"، ولم يكن لأبيه"سالف" الذي يدعى إليه، ولكنه قد ولد على فراش"سالف"، وكان يدعى له وينسب إليه. فقالت: أعطيك أيَّ بناتي شئتَ على أن تعقر الناقة! وكانت عنيزة شريفة من نساء ثمود، وكان زوجها ذؤاب بن عمرو، من أشراف رجال ثمود. وكان قدار عزيزًا منيعًا في قومه. فانطلق قدار بن سالف، ومصدع بن مهرج، فاستنفرَا غُواةً من ثمود، فاتّبعهما سبعة نفر، فكانوا تسعة نفر، أحدُ النفر الذين اتبعوهما رجل يقال له:" هويل بن ميلغ" خال قدار بن سالف، أخو أمّه لأبيها وأمها، وكان عزيزًا من أهل حجر= و"دعير بن غنم بن داعر"، وهو من بني خلاوة بن المهل= و"دأب بن مهرج"، أخو مصدع بن مهرج، وخمسة لم تحفظ لنا أسماؤهم..... (٦) فرصدوا الناقة حين صدرت عن الماء، وقد كمن لها قُدار في أصل صخرة على طريقها، وكمن لها مصدع في أصل أخرى. فمرت على مصدع فرماها بسهم، فانتظمَ به
وقد مضى ذكر ذلك في الأجزاء السالفة ٥: ٤٤٨، تعليق: ٢ وص: ٥٥٧، تعليق: ١/ ٦: ٣٩٥، تعليق: ١/ ٧: ٨٧، تعليق: ٤.
(٢) في المطبوعة: "وكانتا تحبان أن تعقر... "، وأثبت ما في المخطوطة، وهو المطابق كما في قصص القرآن للثعلبي.
(٣) في المطبوعة: "وسبت ولده"، وهو عبث محض، وفي المخطوطة: "وسب له" غير منقوطة، وكأن صواب قراءتها ما أثبت."بيتت له،: فكرت في الأمر وخمرته ودبرته ليلا.
(٤) في المطبوعة: "بل أن أقول إلى بني مرداس"، لم يحسن قراءة المخطوطة، لسوء كتابتها، فأتى بكلام غث.
(٥) في المطبوعة: "تحيلا في عقر الناقة"، وهو كلام هالك، والصواب ما في المخطوطة ولكن الناشر لم يعرف معناه."محل به": كاده، واحتال في المكر به حتى يوقعه في الهلكة.
(٦) مكان النقط بياض في المخطوطة إلى آخر السطر، وفي الهامش حرف (ط)، دلالة على الشك والخطأ.
=فلما قال لهم صالح:"أبشروا بعذاب الله ونقمته"، قالوا له وهم يهزؤون به: ومتى ذلك يا صالح؟ وما آية ذلك؟ = وكانوا يسمون الأيام فيهم: الأحد"أول" والاثنين"أهون"، والثلاثاء"دبار"، والأربعاء"جبار"، والخميس"مؤنس"، والجمعة"العروبة"، والسبت"شيار"، وكانوا عقروا الناقة يوم الأربعاء= فقال لهم صالح حين قالوا ذلك: تصبحون غداة يوم مؤنس، يعني يوم الخميس،
(٢) "ذمرته": شجعته وحثته وحرضته.
(٣) في المطبوعة: "فكشف عرقوبها"، وأثبت ما في المخطوطة: "خشف رأسه بالحجر"، شدخه. وكل ما شدخ، فقد خشف. وقيل: "سيف خاشف، وخشيف، وخشوف"، ماض. و"فحسف"، هكذا غير منقوطة في المخطوطة.
(٤) هكذا في المخطوطة والمطبوعة: "رغاة واحدة"، ولم تذكره كتب اللغة، بل قالوا: المرة الواحدة من"الرغاء"، "رغوة" والذي في الطبري جائز مثله في العربية.
(٥) في المطبوعة: "منيعا"، وأثبت ما في المخطوطة."والمنيف" العالي.
(٦) في المطبوعة: "فرغا ولاذ بها"، وفي المخطوطة غير منقوطة، وأرجح أن صواب قراءتها هنا ما أثبت.
(٧) في المطبوعة: "صور"، أثبت ما في المخطوطة، وإن كنت في شك منه.
(٨) في المطبوعة، حذف"ثم"، وهي ثابتة في المخطوطة.
=فأصبحوا من تلك الليلة التي انصرفوا فيها عن صالح، وجوههم مصفرَّة، فأيقنوا بالعذاب، وعرفوا أن صالحًا قد صدَقهم، فطلبوه ليقتلوه. وخرج صالح هاربًا منهم، حتى لجأ إلى بطن من ثمود يقال لهم:" بنو غنم"، فنزل على سيِّدهم رجلٍ منهم يقال له:" نفيل"، يكنى بأبي هدب، وهو مشرِك، فغيَّبه، فلم يقدروا عليه. فغدوا على أصحاب صالح فعذّبوهم ليدلُّوهم عليه، فقال رجل من أصحاب صالح يقال له:" ميدع بن هرم": يا نبي الله إنهم ليعذبوننا لندلَّهم عليك، أفندلُّهم عليك؟ قال: نعم! فدلهم عليه"ميدع بن هرم"، فلما علموا بمكان صالح، أتوا أبا هُدْب فكلموه، فقال لهم: عندي صالح، وليس لكم إليه سبيل! فأعرضوا عنه وتركوه، وشغلهم عنه ما أنزل الله بهم من عذابه. فجعل
١٤٨١٢-حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، قال معمر، أخبرني من سمع الحسن يقول: لما عقرت ثمود الناقة، ذهبَ فصيلها حتى صعد تلا فقال: يا رب، أين أمي؟ ثم رغا رَغوةً، فنزلت الصيحةُ، فأخمدتهم.
و"السلق" (بكسر السين، وسكون اللام).
(٢) في المطبوعة: "حتى أتت حيا من الأحياء، فأخبرتهم"، غير ما في المخطوطة، مع أن الصواب هو الذي فيها. و"قرح" سوق وادي القرى، كما مر آنفًا.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: أن صالحًا قال لهم حين عقروا الناقة: تمتَّعوا ثلاثة أيام! وقال لهم: آية هلاككم أن تصبح وجوهكم مصفرَّة، ثم تصبح اليومَ الثاني محمرَّة، ثم تصبح اليوم الثالث مسودَّة، فأصبحت كذلك. فلما كان اليوم الثالث وأيقنوا بالهلاك، تكفَّنوا وتحنَّطوا، ثم أخذتهم الصيحة فأهمدتهم= قال قتادة: قال عاقر الناقة لهم: لا أقتلها حتى ترضوا أجمعين! فجعلوا يدخلون على المرأة في حِجْرها فيقولون: (١) أترضين؟ فتقول: نعم! والصبيّ، حتى رضوا أجمعين، فعقرها.
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله قال، لما مرّ النبي ﷺ بالحِجر قال: لا تسألوا الآيات، فقد سألها قومُ صالح، فكانت ترد من هذا الفجّ، (٢) وتصدر من هذا الفج، فعتوا عن أمر ربهم، فعقروها، وكانت تشرب ماءهم يومًا، ويشربون لبنها يومًا. فعقروها، فأخذتهم الصيحة: أهمد الله مَنْ تحت أديم السماء منهم، إلا رجلا واحدًا كان في حَرَم الله، قيل: من هو؟ قال: أبو رِغال، فلما خرج من الحرم أصابه ما أصاب قومه. (٣)
(٢) قوله: "وكانت ترد... "، يعني الناقة.
(٣) الأثر: ١٤٨١٧-"عبد الله بن عثمان بن خثيم" القارئ، تابعي ثقة. مضى برقم: ٤٣٤١، ٥٣٨٨، ٧٨٣١، ٩٦٤٢.
وهذا الخبر رواه أحمد في المسند ٣: ٢٩٦، من هذه الطريق نفسها بلفظه.
وذكره ابن كثير في تفسيره ٣: ٥٠٥، وفي البداية والنهاية ١: ١٣٧، وقال: "وهذا الحديث على شرط مسلم، وهو ليس في شيء من الكتب الستة".
وذكره الحافظ ابن حجر في الفتح (٦: ٢٧٠)، وقال: "وروى أحمد والحاكم بإسناد حسن، عن جابر"، وذكر الخب.
وسيأتي بإسناد آخر رقم: ١٤٨٢٠.
١٤٨١٤-... قال عبد الرزاق: قال: معمر: قال الزهري: أبو رِغال: أبو ثقيف.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن جابر قال، مرّ النبي ﷺ بالحجر= ثم ذكر نحوه، إلا أنه قال في حديثه: قالوا: من هو يا رسول
"إسماعيل بن أمية الأموي"، ثقة، مضى برقم: ٢٦١٥، ٨٤٥٨.
وهذا الخبر رواه أبو داود في سننه ٣: ٢٤٥ رقم: ٣٠٨٨، موصولا من حديث محمد بن إسحق، عن إسماعيل بن أمية، عن بجير بن أبي بجير، قال سمعت عبد الله بن عمرو يقول: سمعت رسول الله صلى الله وسلم يقول، حين خرجنا إلى الطائف، فمررنا بقبر".
وذكر ابن كثير في تفسيره ٣: ٥٠٨، والبداية ١: ١٣٧، حديث أبي داود هذا، ثم قال: "هكذا رواه أبو داود، عن يحيى بن معين، عن وهب بن جرير بن حازم، عن أبيه، عن ابن إسحاق، به. قال شيخنا أبو الحجاج المزي: وهو حديث حسن عزيز. قلت: تفرد بوصله بجير بن أبي بجير هذا، وهو شيخ لا يعرف إلا بهذا الحديث. قال يحيى بن معين: ولم أسمع أحدًا روى عنه غير إسماعيل بن أمية. قلت [القائل ابن كثير] : وعلى هذا فيخشى أن يكون وهم في رفع هذا الحديث، وإنما يكون من كلام عبد الله بن عمرو مما أخذه من الزاملتين. قال شيخنا أبو الحجاج، بعد أن عرضت عليه ذلك: وهذا محتمل، والله أعلم".
وسيأتي بإسناد آخر رقم: ١٤٨٢٣.
١٤٨١٥-حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا معاذ بن هشام قال، حدثنا أبي، عن قتادة قال، كان يقال إنّ أحمرَ ثمود الذي عقر الناقة، كان ولد زَنْية.
١٤٨١٦-حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام قال، حدثنا عنبسة، عن أبي إسحاق قال، قال أبو موسى: أتيت أرض ثمود، فذرعت مَصْدرَ الناقة، فوجدته ستين ذراعًا.
١٤٨١٧-حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، وأخبرني إسماعيل بن أمية بنحو هذا= يعني بنحو حديث عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن جابر = قال: ومرّ النبي ﷺ بقبر أبي رِغال، قالوا: ومن أبو رِغال؟ قال: أبو ثقيف، كان في الحرم لما أهلك الله قومه، منعه حرم الله من عذاب الله، فلما خرج أصابه ما أصاب قومه، فدفن ها هنا، ودفن معه غصن من ذهب. قال: فابتدره القوم يبحثون عنه، حتى استخرجوا ذلك الغصن.
=وقال الحسن: كان للناقة يوم ولهم يومٌ، فأضرَّ بهم. (٢)
حدثنا ابن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن الزهري قال: لما مرّ النبي ﷺ بالحجر قال: لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم إلا أن تكونوا باكين، أنْ يصيبكم مثل الذي أصابهم! ثم قال: هذا وادي النَّفَر! (٣) ثم قَنَّع رأسه وأسرع السير حتى أجاز الوادي. (٤)
* * *
(٢) الأثر: ١٤٨٢٣- هذا إسناد آخر للأثر رقم: ١٤٨١٨.
وأما كلمة الحسن البصري الأخيرة، فلا أدري من قائلها.
(٣) "وادي النفر"، كأنه يعني التسعة من ثمود الذين كانوا يفسدون في الأرض ولا يصلحون، والذين اجتمعوا على قتل صالح عليه السلام، فدمر الله عليهم.
(٤) الأثر: ١٤٨٢٣- حديث الزهري هذا، رواه البخاري في مواضع من صحيحه (الفتح ٦: ٢٧٠) من طريق محمد بن مقاتل، عن عبد الله بن المبارك، عن معمر، عن الزهري، عن سالم بن عبد الله، عن أبيه عبد الله بن عمر = ثم رواه بعد من طريق يونس، عن الزهري، عن سالم، عن ابن عمر. ثم رواه (الفتح ٨: ٩٥) من طريق عبد الرازق، عن معمر، عن الزهري، عن سالم، عن ابن عمر.
ورواه مسلم في صحيحه ١٨: ١١١، من طريق يونس، عن الزهري، عن سالم، عن ابن عمر.
وليس في روايتهما ذكر"وادي النفر".
وكان في المخطوطة والمطبوعة: "ثم رفع رأسه"، وهو تحريف بلا شك، والصواب ما أثبت من رواية البخاري (الفتح ٨: ٩٥). و"قنع رأسه"، غطاها بالقناع. وفي رواية البخاري الأخرى (الفتح ٦: ٢٧٠) :"ثم تقنع بردائه وهو على الرحل".
وقوله: "أجاز الوادي"، أي قطعه وخلفه وراءه.
* * *
(٢) انظر تفسير"أليم" فيما سلف من فهارس اللغة (ألم).
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره مخبرًا عن قيل صالح لقومه، واعظًا لهم: واذكروا، أيها القوم، نعمة الله عليكم= (إذ جعلكم خلفاء)، يقول: تخلفون عادًا في الأرض بعد هلاكها.
* * *
و"خلفاء" جمع"خليفة". وإنما جمع"خليفة""خلفاء"، و"فُعلاء"
* * *
وأما قوله: (وبوأكم في الأرض)، فإنه يقول: وأنزلكم في الأرض، وجعل لكم فيها مساكن وأزواجًا، (٢) = (تتخذون من سهولها قصورًا وتنحتون الجبال بيوتًا)، ذكر أنهم كانوا ينقُبون الصخر مساكن، كما:-
١٤٨٢٣-حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (وتنحتون الجبال بيوتًا)، كانوا ينقبون في الجبال البيوتَ.
* * *
وقوله: (فاذكروا آلاء الله)، يقول: فاذكروا نعمة الله التي أنعم بها عليكم (٣) = (ولا تعثوا في الأرض مفسدين).
* * *
وكان قتادة يقول في ذلك ما:-
١٤٨٢٤-حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد،
(٢) انظر تفسير"بوأ" فيما سلف ص٤: ١٦٤.
(٣) انظر تفسير"الآلاء" فيما سلف ص: ٥٠٦.
وكان في المطبوعة: "التي أنعمها"، وأثبت ما في المخطوطة، ولا أدري لم تصرف الناشر في مثل هذا!!.
* * *
وقد بينت معنى ذلك بشواهده واختلاف المختلفين فيه فيما مضى، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (١)
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (٧٥) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (٧٦) ﴾
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: (قال الملأ الذين استكبروا من قومه)، قال الجماعة الذين استكبروا من قوم صالح عن اتباع صالح والإيمان بالله وبه (٢) = (للذين استضعفوا)، يعني: لأهل المسكنة من تبَّاع صالح والمؤمنين به منهم، دون ذوي شرفهم وأهل السُّؤدد منهم= (أتعلمون أن صالحًا مرسل من ربه)، أرسله الله إلينا وإليكم، قال الذين آمنوا بصالح من المستضعفين منهم: إنا بما أرسل الله به صالحًا من الحقّ والهدى مؤمنون، يقول: مصدِّقون مقرّون أنه من عند الله، وأن الله أمر به، وعن أمر الله دعانا صالح إليه= (قال الذين استكبروا)، عن أمر الله وأمر رسوله صالح= (إنا)، أيها القوم (بالذي
= وتفسير"الفساد في الأرض" فيما سلف: ٤٨٧، تعليق: ١، والمراجع هناك.
(٢) انظر تفسير"الملأ" فيما سلف ٥: ٢٩١/ ١٢: ٤٩٩، ٥٠٣.
= وتفسير"الاستكبار" فيما سلف: ١١: ٥٤٠/ ١٢: ٤٢١، ٤٦٧.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (٧٧) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فعقرت ثمودُ الناقةَ التي جعلها الله لهم آية= (وعتوا عن أمر ربهم)، يقول: تكبروا وتجبروا عن اتباع الله، واستعلوا عن الحق، كما:-
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (وعتوا)، علوا عن الحق، لا يبصرون. (١)
١٤٨٢٥-حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال مجاهد: (عتوا عن أمر ربهم)، علوا في الباطل.
١٤٨٢٦-حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا أبو سعد، عن مجاهد في قوله: (وعتوا عن أمر ربهم)، قال: عتوا في الباطل وتركوا الحق.
١٤٨٢٧-حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله: (وعتوا عن أمر ربهم)، قال: علوا في الباطل.
* * *
وهو من قولهم:"جبّار عاتٍ"، إذا كان عاليًا في تجبُّره.
* * *
= (وقالوا يا صالح ائتنا بما تعدُنا)، يقول: قالوا: جئنا، يا صالح، بما تعدنا
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (٧٨) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فأخذت الذين عقروا الناقةَ من ثمود = (الرجفة)، وهي الصيحة.
* * *
و"الرجفة"،"الفعلة"، من قول القائل:"رجَف بفلان كذا يرجُفُ رجْفًا"، وذلك إذا حرَّكه وزعزعه، كما قال الأخطل:
إِمَّا تَرَيْنِي حَنَانِي الشَّيْبُ مِنْ كِبَرٍ | كَالنَّسْرِ أَرْجُفُ، وَالإنْسَانُ مَهْدُودُ (١) |
وَقَدْ يَكُونُ الصِّبَى مِنِّي بِمَنْزِلَةٍ | يَوْمًا، وتَقْتَادُنِي الهِيفُ الرَّعَادِيدُ |
يَا قَلَّ خَيْرُ الغَوَانِي، كيف رُغْنَ بِهِ | فَشُرْبُهُ وَشَلٌ فِيهِنَّ تَصْرِيدُ |
أَعْرَضْنَ مِنْ شَمَطٍ في الرَّأْسِ لاحَ بِهِ | فَهُنّ مِنْهُ، إِذَا أَبْصَرْنَهُ، حِيدُ |
قَدْ كُنَّ يَعْهَدْنَ مِنِّي مَضْحَكًا حَسَنًا | وَمَفْرِقًا حَسَرَتْ عَنْهُ العَنَاقِيدُ |
فَهُنَّ يَشْدُونَ مِنِّي بَعْضَ مَعْرِفَةٍ، | وَهُنَّ بالوُدِّ، لا بُخْلٌ ولا جُودُ |
قَدْ كَانَ عَهْدِي جَدِيدًا، فَاسْتُبِدَّ بِهِ، | وَالعَهْدُ مُتَّبَعٌ مَا فِيهِ، مَنشُودُ |
لا أَنْتَ بَعْلٌ يُسْتَقَادُ لَهُ، | وَلا الشَّبَابُ الَّذِي قَدْ فَاتَ مَرْدُودُ |
هَلْ لِلشَّبَابِ الذي قَدْ فَاتَ مرْدُودُ ؟ | أَمْ هَلْ دَوَاءٌ يَرُدُّ الشِّيبَ مَوْجُودُ ؟ |
لَنْ يَرْجِعَ الشِّيبُ شُبَّانًا، وَلَنْ يَجِدُوا | عِدْلَ الشَّبَابِ، مَا أَوْرَقَ العُودُ |
إِنَّ الشَّبَابَ لَمَحْمُودٌ بَشَاشَتُهُ | والشَّيْبُ مُنْصَرفٌ عَنْهُ وَمَصْدُودُ |
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
١٤٨٢٨-حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله:"الرجفة"، قال: الصيحة.
١٤٨٢٩-حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
١٤٨٣٠-حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (فأخذتهم الرجفة)، وهي الصيحة.
١٤٨٣١-حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا أبو سعد، عن مجاهد: (فأخذتهم الرجفة)، قال: الصيحة.
* * *
وقوله: (فأصبحوا في دارهم جاثمين)، يقول: فأصبح الذين أهلك الله من ثمود= (في دارهم)، يعني في أرضهم التي هلكوا فيها وبلدتهم.
* * *
ولذلك وحَّد"الدار" ولم يجمعها فيقول" في دورهم"= وقد يجوز أن يكون أريد بها الدور، ولكن وجَّه بالواحدة إلى الجميع، كما قيل: (وَالْعَصْرِ إِنَّ الإنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ) [العصر: ١-٢].
* * *
عَرَفْتُ المُنْتَأَى، وَعَرَفْتُ مِنْهَا | مَطَايَا القِدْرِ كَالحِدَإِ الجُثُومِ (١) |
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
١٤٨٣٢-حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد، في قوله: (فأصبحوا في دارهم جاثمين)، قال: ميتين.
القول في تأويل قوله: ﴿فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (٧٩) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فأدبر صالح عنهم حين استعجلوه العذاب وعقروا ناقة الله، خارجًا عن أرضهم من بين أظهُرهم، (٢) لأن الله تعالى ذكره أوحَى إليه: إنّي مهلكهم بعد ثالثة. (٣)
يقول قبله:
وَقَفْتُ عَلَى الدِّيَارِ، وَمَا ذَكَرْنَا | كَدَارٍ بَيْنَ تَلْعَةَ والنَّظِيم |
وكان في المخطوطة: "عرفت الصاى"، غير منقوطة، وخطأ، صوابه ما في المطبوعة.
(٢) انظر تفسير"تولى" فيما سلف ١٠: ٥٧٥، تعليق: ١، والمراجع هناك.
(٣) في المطبوعة: "بعد ثلاثة"، والصواب المحض ما أثبت من المخطوطة.
فأخبر الله جل ثناؤه عن خروج صالح من بين قومه الذين عتوا على ربهم حين أراد الله إحلال عقوبته بهم، فقال: (فتولى عنهم) صالح= وقال لقومه ثمود= (لقد أبلغتكم رسالة ربي)، وأدّيت إليكم ما أمرني بأدائه إليكم ربّي من أمره ونهيه (٢) = (ونصحت لكم)، في أدائي رسالة الله إليكم، في تحذيركم بأسه بإقامتكم على كفركم به وعبادتكم الأوثان= (ولكن لا تحبون الناصحين)، لكم في الله، الناهين لكم عن اتباع أهوائكم، الصادِّين لكم عن شهوات أنفسكم.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (٨٠) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ولقد أرسلنا لوطًا.
* * *
ولو قيل: معناه: واذكر لوطًا، يا محمد، (إذ قال لقومه) = إذ لم يكن في الكلام صلة"الرسالة" كما كان في ذكر عاد وثمود = كان مذهبًا.
* * *
وقوله: (إذ قال لقومه)، يقول: حين قال لقومه من سَدُوم، وإليهم كان أرسل لوط= (أتأتون الفاحشة)، وكانت فاحشتهم التي كانوا يأتونها، التي عاقبهم الله عليها، إتيان الذكور (٣) = (ما سبقكم بها من أحد من العالمين)، يقول: ما سبقكم بفعل هذه الفاحشة أحد من العالمين، وذلك كالذي:-
(٢) انظر تفسير"الإبلاغ" فيما سلف: ١٠: ٥٧٥/ ١١: ٩٥/ ١٢: ٥٠٤.
(٣) انظر تفسير"الفاحشة" فيما سلف: ص: ٤٠٢، تعليق: ٢، والمراجع هناك.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (٨١) ﴾
قال أبو جعفر: يخبر بذلك تعالى ذكره عن لوط أنه قال لقومه، توبيخًا منه لهم على فعلهم: إنكم، أيها القوم، لتأتون الرجال في أدبارهم، شهوة منكم لذلك، من دون الذي أباحه الله لكم وأحلَّه من النساء= (بل أنتم قوم مسرفون)، يقول: إنكم لقوم تأتون ما حرَّم الله عليكم، وتعصونه بفعلكم هذا.
* * *
وذلك هو"الإسراف"، في هذا الموضع. (١)
* * *
و"الشهوة"،"الفَعْلة"، وهي مصدر من قول القائل:"شَهَيتُ هذا الشيء أشهاه شهوة" ومن ذلك قول الشاعر: (٢)
وأَشْعَثَ يَشْهَى النَّوْمَ قُلْتُ لَهُ: ارْتَحِلْ!... إذَا مَا النُّجُومُ أَعْرَضَتْ وَاسْبَطَرَّتِ (٣) فَقَامَ يَجُرُّ البُرْدَ، لَوْ أَنَّ نَفْسَهُ... يُقَالُ لَهُ: خُذْهَا بِكَفَّيْكَ! خَرَّتِ (٤)
(٢) م أعرف قائله.
(٣) البيت الأول في اللسان (شهى)، ورواية اللسان: "واسْبَكَرَّتْ".
وقوله: "وأشعث"، يعني رفيقه في السفر، طال عليه السفر، فاغبر رأسه، وتفرق شعره من ترك الأدهان. و"اسبطرت النحوم"، امتدت واستقامت وأسرعت في مسبحها. و"اسبكرت"، مثلها.
(٤) "خرت"، أي سقطت وتقوضت وهوت، وكان في المطبوعة: "جرت" بالجيم، وهو خطأ صرف.
وهذا البيت الثاني، ورد مثله في شعر الأخطل، قال:
وَأَبْيَضَ لا نَكْسٍ وَلا وَاهِنِ القُوَى | سَقَيْنَا، إِذَا أُولَى العَصَافِيرِ صَرَّتِ |
حَبَسْتُ عَلَيْهِ الكَأْسَ غَيْرَ بَطِيئَةٍ | مِنَ اللَّيْلِ، حَتَّى هَرَّهَا وَأَهَرَّتِ |
فَقَامَ يَجُرُّ البُرْدَ، لَوْ أَنَّ نَفْسَهُ | بِكَفَّيْهِ مِنْ رَدِّ الحُمَيَّا لَخَرَّتِ |
اتَّقِ السَّيْفَ! لَمْ تُخَلْ | ذُؤَابَتُهُ مِنْ خَشْيَةٍ إِقْشَعَرَّتِ |
عَضَّ بِمَا أَبْقَى المَوَاسِي لَهُ | مِنْ أَمَةٍ فِي الزَّمَنِ الغَابِرِ (٤) |
(٢) انظر مجاز القرآن لأبي عبيدة ١: ٢١٨، ٢١٩.
(٣) قوله: "وغبرا"، ضبطته بفتح فسكون، ولم يرد هذا المصدر في شيء من كتب اللغة، اقتصروا على المصدر الأول.
(٤) ديوانه: ١٠٦، مجاز القرآن لأبي عبيدة ١: ٢١٩، من قصيدته التي هجا بها علقمة، ومدح عامرًا، كما أسلفت في تخريج أبيات مضت من القصيدة، وفي المطبوعة ومجاز القرآن"من أمه"، وأثبت ما في الديوان، قال أبو عبيدة، بعد البيت: "لم يختن فيما مضى، فبقي من الزمن الغابر، أي الباقي. ألا ترى أنه قال:
وَكُنَّ قَدْ أَبْقَيْنَ مِنْهَا أَذًى | عِنْدَ المَلاقِي وَافِيَ الشَّافِر |
(٥) هو يزيد بن الحكم بن أبي العاص الثقفي.
وَأَبِي الَّذِي فَتَحَ البِلادَ بِسِيْفِهِ | فَأَذَلَّها لِبَنِي أَبَانَ الغَابِرِ (١) |
* * *
فإن قال قائل: فكانت امرأة لوط ممن نجا من الهلاك الذي هلك به قوم لوط؟
قيل: لا بل كانت فيمن هلك.
فإن قال: فكيف قيل: (إلا امرأته كانت من الغابرين)، وقد قلت إن معنى"الغابر" الباقي؟ فقد وجب أن تكون قد بقيت؟
قيل: إن معنى ذلك غير الذي ذهبتَ إليه، وإنما عنى بذلك، إلا امرأته
وَأَبِي الَّذِي فَتَحَ البِلادَ بِسَيْفِه | فَأَذلَّهَا لِبَنِي أَبَانَ الغَابِرِ |
وَأَبِي الَّذِي سَلَبَ ابْنَ كِسْرَى رايةً | بيضاءَ تَخْفِقُ كالعُقَابِ الكَاسِرِ |
وِإذَا فَخَرْتُ فَخَرْتُ غَيْرَ مُكَذَّب | فَخْرًا أَدُقُّ بِهِ فَخَارَ الفَاخِرِ |
وَرِثْتُ جَدِّي مَجْدَهُ وَفَعَالَهُ | وَوَرِثْتَ جَدَّك أعْنُزًا بالطائفِ |
وروى صاحب الخزانة: "لبني الزمان الغابر"، وأما رواية جعفر"لبني أبان"، فإنه يعني عشيرته ورهطه، فإن جده هو"أبو العاص بن بشر بن عبد دهمان بن عبد الله بن همام بن أبان بن يسار الثقفي".
وقوله"وأبي الذي سلب ابن كسرى راية"، يعني أباه الحكم في فتح فارس، وإصطخر سنة ٢٣ من الهجرة. (انظر تاريخ الطبري ٥: ٦/ وفتوح البلدان: ٣٩٣، ٣٩٤).
* * *
وقيل: معنى ذلك: من الباقين في عذاب الله.
* ذكر من قال ذلك:
١٤٨٣٩-حدثني محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: (إِلا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ)، [سورةالشعراء: ١٧١ /سورة الصافات: ١٣٥]، في عذاب الله.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (٨٤) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وأمطرنا على قوم لوط الذين كذبوا لوطًا ولم يؤمنوا به، مطرًا من حجارة من سجّيل أهلكناهم به= (فانظر كيف كان عاقبه المجرمين)، يقول جل ثناؤه: فانظر، يا محمد، إلى عاقبة هؤلاء الذين كذبوا الله ورسوله من قوم لوط، فاجترموا معاصيَ الله، وركبوا الفواحش، واستحلوا ما حرم الله من أدبار الرجال، كيف كانت؟ وإلى أي شيء صارت؟ هل كانت إلا البوار والهلاك؟ فإن ذلك أو نظيرَه من العقوبة، عاقبةُ من كذَّبك واستكبر عن الإيمان بالله وتصديقك إن لم يتوبوا، من قومك.
* * *
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وأرسلنا إلى ولد مدين= و"مدين"، هم ولدُه مديان بن إبراهيم خليل الرحمن، (١) فيما:-
١٤٨٤٠-حدثنا به ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق.
* * *
فإن كان الأمر كما قال: فـ"مدين"، قبيلة كَتميم.
=وزعم أيضًا ابن إسحاق: أن شعيبًا الذي ذكر الله أنه أرسله إليهم، من ولد مدين هذا، وأنه"شعيب بن ميكيل بن يشجر"، قال: واسمه بالسريانية،"بثرون". (٢)
* * *
قال أبو جعفر: فتأويل الكلام= على ما قاله ابن إسحاق: ولقد أرسلنا إلى ولد مدين، أخاهم شعيب بن ميكيل، يدعوهم إلى طاعة الله، والانتهاء إلى أمره، وترك السعي في الأرض بالفساد، والصدِّ عن سبيله، فقال لهم شعيب: يا قوم، اعبدوا الله وحده لا شريك له، ما لكم من إله يستوجب عليكم العبادة
(٢) (٢) في المخطوطة: "يثروب"، غير منقوطة، بالباء، وهذه أسماء لا أستطيع الآن ضبطها، وانظر تاريخ الطبري ١: ١٦٧، والبداية والنهاية ١: ١٨٥.
=ومن ذلك قولهم:"تَحْسَبُها حَمْقَاءَ وهي بَاخِسَةٌ"، (٤) بمعنى: ظالمة = ومنه قول الله: (وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ)، [سورة يوسف: ٢٠]، يعني به: رديء.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
١٤٨٤١-حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي، قوله: (ولا تبخسوا الناس أشياءهم)، يقول: لا تظلموا الناس أشياءهم.
١٤٨٤٢-حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (ولا تبخسوا الناس أشياءهم)، : قال: لا تظلموا الناس أشياءهم.
* * *
قوله: (ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها)، يقول: ولا تعملوا في أرض
(٢) انظر تفسير"إيفاء الكيل والميزان" فيما سلف ص٢٢٤.
(٣) انظر تفسير"البخس" فيما سلف ٦: ٥٦.
(٤) هذا مثل، انظر مجاز القرآن لأبي عبيدة ١: ٨٣، ٢١٩، وأمثال الميداني ١: ١٠٨، وجمهرة الأمثال: ٦٨، واللسان (بخس)، وروايتهم: "وهي باخس"، بمعنى: ذات بخس، على النسب. يضرب المثل لمن يتباله وفيه دهاء. وذلك أن رجلا من بني العنبر بن عمرو بن تميم، حاورته امرأة فحسبها حمقاء، لا تعقل، ولا تحفظ مالها. فقال لها: ألا أخلط مالي ومالك؟ يريد أن يخلط ثم يقاسمها، فيأخذ الجيد ويدع لها الرديء. فلما فعل وجاء يقاسمها، نازعته، فلم يخلص منها حتى افتدى منها بما أرادت. فلما عوتب في اختداعه المرأة على ضعفها قال: "تحسبها حمقاء وهي باخس".
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلا فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (٨٦) ﴾
قال أبو جعفر: يعني بقوله: (ولا تقعدوا بكل صراط توعدون)، ولا تجلسوا بكل طريق = وهو"الصراط" = توعدون المؤمنين بالقتل. (٣)
* * *
وكانوا، فيما ذكر، يقعدون على طريق من قصد شعيبًا وأراده ليؤمن به، فيتوعَّدونه ويخوِّفونه، ويقولون: إنه كذاب!
* ذكر من قال ذلك:
١٤٨٤٣-حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد،
(٢) انظر تفسير"الإصلاح" فيما سلف من فهارس اللغة (صلح).
(٣) انظر تفسير"الصراط" فيما سلف ١: ١٧٠- ١٧٧، ثم فهارس اللغة (سرط).
١٤٨٤٤-حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: (ولا تقعدوا بكل صراط توعدون)، و"الصراط"، الطريق، يخوِّفون الناس أن يأتوا شعيبًا.
١٤٨٤٥-حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قوله: (ولا تقعدوا بكل صراط توعدون وتصدون عن سبيل الله)، قال: كانوا يجلسون في الطريق، فيخبرون مَنْ أتى عليهم: أن شعيبًا عليه السلام كذاب، فلا يفتنكم عن دينكم.
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله تعالى: (بكل صراط)، قال: طريق= (توعدون)، بكل سبيل حق. (١)
١٤٨٤٦-حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، نحوه.
١٤٨٤٧-حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (ولا تقعدوا بكل صراط توعدون)، كانوا يقعدون على كل طريق يوعدون المؤمنين.
١٤٨٤٨-حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا حميد بن عبد الرحمن، عن قيس، عن السدي: (ولا تقعدوا بكل صراط توعدون)، قال: العشَّارُون.
حدثنا علي بن سهل قال، حدثنا حجاج قال، حدثنا أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، عن أبي هريرة أو غيره= شك
* * *
وهذا الخبر الذي ذكرناه عن أبي هريرة، يدلّ على أن معناه كان عند أبي هريرة: أن نبي الله شعيبًا إنما نهى قومه بقوله: (ولا تقعدوا بكل صراط توعدون)، عن قطع الطريق، وأنهم كانوا قُطَّاع الطريق.
* * *
وقيل: (ولا تقعدوا بكل صراط توعدون)، ولو قيل في غير القرآن:"لا تقعدوا في كلّ صراط"، كان جائزًا فصيحًا في الكلام، وإنما جاز ذلك لأن الطريق ليس بالمكان المعلوم، فجاز ذلك كما جاز أن يقال:"قعد له بمكان كذا، وعلى مكان كذا، وفي مكان كذا".
* * *
وقال: (توعدون)، ولم يقل:"تَعِدُون"، لأن العرب كذلك تفعل فيما أبهمت ولم تفصح به من الوعيد. تقول:"أوعدته" بالألف،"وتقدَّم مني إليه
و"أبو جعفر الرازي" و"الربيع بن أنس"، و"أبو العالية"، ثقات جميعًا، ومضوا في مواضع مختلفة.
وهذا الخبر ذكره الهيثمي مطولا في مجمع الزوائد ١: ٦٧- ٧٢ وقال: "رواه البزار ورجاله موثقون، إلا أن الربيع بن أنس قال: عن أبي العالية أو غيره، فتابعيه مجهول".
ولكن نص أبي جعفر هنا وهناك، يدل على أن أبا جعفر الرازي شك في أنه عن أبي هريرة أو غيره من الصحابة، فلعل ما في رواية البزار مخالف لما في رواية أبي جعفر الطبري.
وخرجه السيوطي في الدر المنثور ٤: ١٤٤ مطولا، ونسبه إلى البزار، وأبي يعلي، وابن جرير، ومحمد بن نصر المروزي في كتاب الصلاة، وابن أبي حاتم، وابن عدي، وابن مردويه، والبيهقي في الدلائل.
* * *
وأما قوله: (وتصدون عن سبيل الله من آمن به)، فإنه يقول: وتردُّون عن طريق الله، وهو الردُّ عن الإيمان بالله والعمل بطاعته (٢) = (من آمن به)، يقول: تردُّون عن طريق الله مَنْ صدق بالله ووحّده= (وتبغونها عوجًا)، يقول: وتلتمسون لمن سلك سبيل الله وآمن به وعمل بطاعته (٣) = (عوجًا)، عن القصد والحق، إلى الزيغ والضلال، (٤) كما:-
١٤٨٤٩-حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (وتصدون عن سبيل الله)، قال: أهلها= (وتبغونها عوجًا)، تلتمسون لها الزيغ.
١٤٨٥٠-حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، بنحوه.
١٤٨٥١-حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: (وتبغونها عوجًا)، قال: تبغون السبيل عن الحق عوجًا.
١٤٨٥٢-حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (وتصدون عن سبيل الله)، عن الإسلام= تبغون السبيل= (عوجًا)، هلاكًا.
* * *
(٢) انظر تفسير"الصد" فيما سلف ص: ٤٤٨، تعليق: ١، والمراجع هناك.
(٣) انظر تفسير"بغى" فيما سلف ص: ٤٤٨، تعليق: ٣، والمراجع هناك.
(٤) انظر تفسير"العوج" فيما سلف ٧: ٥٤/ ١٢: ٤٤٨.
* * *
و"الإفساد"، في هذا الموضع، معناه: معصية الله. (٢)
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (٨٧) ﴾
قال أبو جعفر: يعني بقوله تعالى ذكره: (وإن كان طائفة منكم)، وإن كانت جماعة منكم وفرقة (٣) = (آمنوا)، يقول: صدّقوا بالذي أرسلتُ به من إخلاص العبادة لله، وترك معاصيه، وظلم الناس، وبخسهم في المكاييل والموازين، فاتّبعوني على ذلك= (وطائفة لم يؤمنوا)، يقول: وجماعة أخرى لم يصدِّقوا بذلك، ولم يتبعوني عليه= (فاصبروا حتى يحكم الله بيننا)، يقول: فاحتبسوا على قضاء
(٢) انظر تفسير"الإفساد" فيما سلف ص: ٥٥٦، تعليق ١، والمراجع هناك.
(٣) انظر تفسير"طائفة" فيما سلف ٦: ٥٠٠/ ٩: ١٤١/ ١٢: ٢٤٠.
* * *
= وتفسير"الحكم" فيما سلف ٩: ١٧٥، ٣٢٤، ٤٦٢/ ١١: ٤١٣.
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: (قال الملأ الذين استكبروا)، يعني بالملأ الجماعة من الرجال (١) = ويعني بالذين استكبروا، الذين تكبروا عن الإيمان بالله، والانتهاء إلى أمره، واتباع رسوله شعيب، لما حذرهم شعيبٌ بأسَ الله، على خلافهم أمرَ ربهم، وكفرهم به (٢) = (لنخرجنك يا شعيب)، ومن تبعك وصدقك وآمن بك، وبما جئت به معك= (من قريتنا أو لتعودن في ملتنا)، يقول: لترجعن أنت وهم في ديننا وما نحن عليه (٣) =قال شعيب مجيبًا لهم: (أولو كنا كارهين).
ومعنى الكلام: أن شعيبًا قال لقومه: أتخرجوننا من قريتكم، وتصدّوننا عن سبيل الله، ولو كنا كارهين لذلك؟ = ثم أدخلت"ألف" الاستفهام على"واو" "ولو".
* * *
(٢) انظر تفسير"استكبر" فيما سلف ص: ٥٤٢، تعليق: ٢، والمراجع هناك.
(٣) انظر تفسير"الملة" فيما سلف ص: ٢٨٢، تعليق: ٢، والمراجع هناك.
قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه: قال شعيب لقومه إذ دعوه إلى العود إلى ملتهم، والدخول فيها، وتوعَّدوه بطرده ومَنْ تبعه من قريتهم إن لم يفعل ذلك هو وهم: (قد افترينا على الله كذبًا)، يقول: قد اختلقنا على الله كذبًا، (١) وتخرّصنا عليه من القول باطلا= إن نحن عدنا في ملتكم، فرجعنا فيها بعد إذ أنقذنا الله منها، بأن بصَّرنا خطأها وصوابَ الهدى الذي نحن عليه= وما يكون لنا أن نرجع فيها فندين بها، ونترك الحق الذي نحن عليه= (إلا أن يشاء الله ربنا) إلا أن يكون سبق لنا في علم الله أنّا نعود فيها، فيمضي فينا حينئذ قضاء الله، فينفذ مشيئته علينا= (وسع ربنا كل شيء علما)، يقول: فإن علم ربنا وسع كل شيء فأحاط به، فلا يخفى عليه شيء كان، ولا شيء هو كائن. (٢) فإن يكن سبق لنا في علمه أنّا نعود في ملتكم، ولا يخفى عليه شيء كان ولا شيء هو كائن، (٣) فلا بد من أن يكون ما قد سبق في علمه، وإلا فإنا غير عائدين في ملّتكم.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
١٤٨٥٣-حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال،
(٢) انظر تفسير"وسع" فيما سلف ص: ٢٠٧، تعليق: ١، والمراجع هناك.
(٣) في المطبوعة: "فلا يخفى" بالفاء، ومثلها في المخطوطة غير منقوطة، والصواب بالواو.
* * *
وقوله: (على الله توكلنا)، يقول: على الله نعتمد في أمورنا وإليه نستند فيما تعِدوننا به من شرِّكم، أيها القوم، فإنه الكافي من توكَّل عليه. (١)
* * *
ثم فزع صلوات الله عليه إلى ربه بالدعاء على قومه= إذ أيس من فلاحهم، وانقطع رجاؤه من إذعانهم لله بالطاعة، والإقرار له بالرسالة، وخاف على نفسه وعلى من اتبعه من مؤمني قومه من فَسَقتهم العطبَ والهلكة= (٢) بتعجيل النقمة، فقال: (ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق)، يقول: احكم بيننا وبينهم بحكمك الحقّ الذي لا جور فيه ولا حَيْف ولا ظلم، ولكنه عدل وحق= (وأنت خير الفاتحين)، يعني: خير الحاكمين. (٣)
* * *
ذكر الفرَّاء أنّ أهلَ عُمان يسمون القاضي"الفاتح" و"الفتّاح". (٤)
وذكر غيره من أهل العلم بكلام العرب: أنه من لغة مراد، (٥) وأنشد لبعضهم بيتًا وهو: (٦)
(٢) السياق: "... بالدعاء على قومه... بتعجيل النقمة".
(٣) انظر تفسير"الفتح" فيما سلف ٢: ٢٥٤/ ١٠: ٤٠٥.
(٤) انظر معاني القرآن للفراء ١: ٣٨٥.
(٥) هو أبو عبيدة في مجاز القرآن ١: ٢٢٠، ٢٢١.
(٦) هو الأسعر الجعفي، أو محمد بن حمران بن أبي حمران.
أَلا أَبْلِغْ بَني عُصْمٍ رَسُولا | بِأَنِّي عَنْ فُتَاحَتِكُمْ غَنِيُّ (١) |
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
١٤٨٥٤-حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن مسعر، عن قتادة، عن ابن عباس قال: ما كنت أدري ما قوله: (ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق)، حتى سمعت ابنة ذي يزن تقول:"تعالَ أفاتحك"، تعني: أقاضيك.
١٤٨٥٥-حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قوله: (ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق)، يقول: اقض بيننا وبين قومنا.
١٤٨٥٦-حدثني المثنى قال، حدثنا ابن دكين قال، حدثنا مسعر قال، سمعت قتادة يقول: قال ابن عباس: ما كنت أدري ما قوله: (ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق)، حتى سمعت ابنةَ ذي يزن تقول:"تعالَ أفاتحك".
١٤٨٥٧-حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (افتح بيننا وبين قومنا بالحق)، أي: اقض بيننا وبين قومنا بالحق.
١٤٨٥٨-حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور قال، حدثنا معمر، عن قتادة: (افتح بيننا وبين قومنا بالحق)، : اقض بيننا وبين قومنا بالحق.
١٤٨٥٩-حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي، أما قوله: (افتح بيننا)، فيقول: احكم بيننا.
١٤٨٦١-حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال ابن عباس: "افتح"، اقض.
١٤٨٦٢-حدثنا ابن بشار قال، حدثنا أبو أحمد محمد بن عبد الله بن الزبير قال، حدثنا مسعر، عن قتادة، عن ابن عباس قال: لم أكن أدري ما (افتح بيننا وبين قومنا بالحق)، حتى سمعت ابنة ذي يزن تقول لزوجها:"انطلق أُفاتحك".
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿وَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (٩٠) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وقالت الجماعة من كفرة رجال قوم شعيب= وهم"الملأ" (١) = الذين جحدوا آيات الله، وكذبوا رسوله، وتمادوا في غيِّهم، لآخرين منهم: لئن أنتم اتبعتم شُعَيبًا على ما يقول، وأجبتموه إلى ما يدعوكم إليه من توحيد الله، والانتهاء إلى أمره ونهيه، وأقررتم بنبوَّته= (إنكم إذًا لخاسرون)، يقول: لمغبونون في فعلكم، وترككم ملتكم التي أنتم عليها مقيمون، إلى دينه الذي يدعوكم إليه= وهالِكُون بذلك من فعلكم. (٢)
* * *
(٢) انظر تفسير"الخسارة" فيما سلف ص: ٤٨١، تعليق: ٣، والمراجع هناك.
قال أبو جعفر: يقول: فأخذت الذين كفروا من قوم شعيب، الرجفة. وقد بيّنت معنى"الرجفة" قبل، وأنها الزلزلة المحركة لعذاب الله. (١)
* * *
(فأصبحوا في دارهم جاثمين)، على ركبهم، موتَى هلكى. (٢)
* * *
وكانت صفة العذاب الذي أهلكهم الله به، كما:-
١٤٨٦٣-حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (وإلى مدين أخاهم شعيبًا)، قال: إن الله بعث شعيبًا إلى مدين، وإلى أصحاب الأيكة = و"الأيكة"، هي الغيضة من الشجر = وكانوا مع كفرهم يبخَسون الكيل والميزان، فدعاهم فكذبوه، فقال لهم ما ذكر الله في القرآن، وما ردُّوا عليه. فلما عتوا وكذبوه، سألوه العذابَ، ففتح الله عليهم بابًا من أبواب جهنم، فأهلكهم الحرّ منه، فلم ينفعهم ظلٌ ولا ماء. ثم إنه بعثَ سحابةً فيها ريحٌ طيبة، فوجدوا بَرْدَ الرّيح وطيبِها، فتنادوا: الظُّلّةَ، عليكم بها"! فلما اجتمعوا تحت السحابة رجالهم ونساؤهم وصبيانهم، انطبقت عليهم فأهلكتهم، فهو قوله: (فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ)، [سورة الشعراء: ١٨٩].
١٤٨٦٤-حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال، كان من خبر قصة شعيب وخبر قومه ما ذكر الله في القرآن. كانوا أهلَ بخسٍ للناس في مكاييلهم وموازينهم، مع كفرهم بالله، وتكذيبهم نبيَّهم. وكان يدعوهم
(٢) انظر تفسير"الجثوم" فيما سلف: ص: ٥٤٥، ٥٤٦.
يَا قَوْم إنَّ شُعَيْبًا مُرْسَلٌ فَذَرُوا | عنكم سُمَيْرًا وَعِمْرَانَ بْنَ شَدَّادِ |
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني ابن إسحاق (٤) قال: فبلغني، والله أعلم، أنَّ الله سلط عليهم الحرّ حتى أنضجهم، ثم أنشأ لهم
و"الغبية" (بفتح فسكون) : الدفعة الشديدة من المطر، وقيل: هي المطرة ليست بالكثيرة. وأراد بها هنا سحابة ذات غبية. و"الصمانة". و"الصمان"، أرض صلبة ذات حجارة إلى جنب رمل.
(٢) في المطبوعة والمخطوطة: "وإنكم إن تروا"، والصواب ما أثبت، وفي قصص الأنبياء: "فإنه لن يرى فيها"، وفي الدر المنثور: "فإنه لا يرى". وكان في المطبوعة: "ما فيها إلا الرقيم... " زيادة مفسدة للوزن، ليست في المخطوطة، ولعلها من الطباعة. و"الأنجاد" جمع"نجد"، وهي الأرض المرتفعة. و"الضحاء" بفتح الضاد، ممدودًا، مثل"الضحى" (بضم الضاد)، وهو إذا امتد النهار وقارب أن ينتصف. وكان في المطبوعة: "ضحاة غد".
(٣) الأثر: ١٤٨٦٩- الدر المنثور ٣: ١٠٣، وقصص الأنبياء للثعلبي: ١٤٤.
(٤) في المطبوعة والمخطوطة: "أبو سحق"، وهو خطأ ظاهر.
١٤٨٦٥-حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني أبو عبد الله البجلي قال:"أبو جاد" و"هوّز" و"حُطّي" و"كلمون" و"سعفص" و"قرشت"، أسماء ملوك مدين، وكان ملكهم يوم الظلة في زمان شعيب"كلمون"، فقالت أخت كلمون تبكيه:
كَلَمُونٌ (١) هَدَّ رُكْنِي... هُلْكُهُ وَسْطَ المَحَلَّهْ
سَيِّدُ الْقَوْمِ أَتَاهُ الْـ... حَتْفُ نَارًا وَسْطَ ظُلَّةْ
جُعِلَتْ نَارًا عَلَيْهِمْ،... دَارُهُمْ كَالْمُضْمَحِلَّةْ (٢)
* * *
(٢) الأثر: ١٤٨٧١-"أبو عبد الله البجلي"، لم أجد من يكنى بها، ولكن روى أبو جعفر في تاريخه مثل هذا الخبر، في ذكر هلاء الملوك (١: ٩٩)، وإسناد يفسر هذا الإسناد قال:
"حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة بن الفضل، عن يحيى بن العلاء، عن القاسم بن سلمان، عن الشعبي قال: أبجد، وهوز، وحطي، وكلمن، وسعفص، وقرشت، كانوا ملوكًا جبابرة... "
و"يحيى بن العلاء البجلي"، كنيته"أبو سلمة"، ويقال"أبو عمرو". ولم أجد كنيته"أبو عبد الله"، ولكن ظاهر هذا الإسناد يرجح أن"أبا عبد الله البجلي"، هو نفسه"يحيى بن العلاء البجلي"، والله أعلم.
و"يحيى بن العلاء البجلي"، قال أحمد: "كذاب يضع الحديث. مترجم في التهذيب، والكبير ٤/ ٢ / ٢٩٧، وابن أبي حاتم ٤ ٢/ ١٧٩.
وهذا الخبر رواه البغوي (هامش تفسير ابن كثير ٣: ٥٢٠)، وقصص الأنبياء للثعلبي: ١٤٤، عن أبي عبد الله البجلي، وفيها جميعًا"كلمن"، وزدت منها ما بين القوسين، ولكني كتبته كأخواته في المخطوطة.
وروي في البغوي: "كلمن قد هد ركني"، وفي قصص الأنبياء: "كلمن أهدد ركني"، ولا أدري ما هذا!!
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فأهلك الذين كذبوا شعيبًا فلم يؤمنوا به، فأبادَهم، فصارت قريتهم منهم خاوية خلاءً= (كأن لم يغنوا فيها)، يقول: كأن لم ينزلوا قطّ ولم يعيشوا بها حين هلكوا.
* * *
يقال:"غَنِيَ فلان بمكان كذا، فهو يَغْنَى به غِنًى وغُنِيًّا"، (١) إذا نزل به وكان به، كما قال الشاعر. (٢)
وَلَقَدْ يَغْنَى بِهَا جِيرَانُكِ الْ | مُمْسِكُو مِنْكِ بِعَهْدٍ وَوِصَالِ (٣) |
(٢) هو عبيد بن الأبرص.
(٣) ديوانه: ٥٨، مختارات ابن الشجري ٢: ٣٧، والخصائص لابن جني ٢: ٢٤٥٥ والمنصف لابن جني ١: ٦٦، والخزانة ٣: ٢٣٧، وهي القصيدة الفاخرة التي لم يتجشم فيها إلا ما في نهضته ووسعه، عن غير اغتصاب واستكراه أجاءه إليه، فقاد القصيدة كلها على أن آخر مصراع كل بيت منها منته إلى (ال) التعريف، كما قال ابن جني في الخصائص، أولها:
يَا خَلِيلَيَّ اُرْبَعَا وَاُسْتَخْبِرَا الْـ | مَنْزِلَ الدَّارِسَ مِنْ أهْلِ الحِلالِ |
مِثْلَ سَحْقِ البُرْدِ عَفَّى بَعْدَكِ الْ | قَطْرُ مَغْنَاهُ، وَتَأَوِيبُ الشَّمَالِ |
وَلَقَدْ يَغْنَى بِه جِيرَانُكِ الْـ | مُمْسِكُو مِنْكِ بِأَسْبَابِ الوِصَالِ |
الْحَافِظُو عَوْرةَ العَشِيرَةِ لا | يَأْتِيهِمُ مِنْ وَرَائِنَا نَطَفُ |
أَبَنيِ كُلَيْبٍ، إِنْ عَمَّيَّ اللَّذَا | قَتَلا المُلُوكَ وَفَكَّكَا الأَغْلالا |
وَعَهْدُ مَغْنَى دِمْنَةٍ بِضَلْفَعَا (١)
إنما هو"مفعل" من"غني".
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
١٤٨٦٦-حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور قال، حدثنا معمر، عن قتادة. (كأن لم يغنوا فيها)، : كأن لم يعيشوا، كأن لم ينعموا.
١٤٨٦٧-حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس: (كأن لم يغنوا فيها)، يقول: كأن لم يعيشوا فيها.
١٤٨٦٨-حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (كأن لم يغنوا فيها)، كأن لم يكونوا فيها قطُّ.
* * *
وقوله: (الذين كذبوا شعيبًا كانوا هم الخاسرين)، يقول تعالى ذكره: لم يكن الذين اتَّبعوا شعيبًا الخاسرين، بل الذين كذّبوه كانوا هم الخاسرين الهالكين. (٢) لأنه أخبر عنهم جل ثناؤه: أن الذين كذبوا شعيبًا قالوا للذين أرادُوا اتباعه: (لئن اتبعتم شعيبًا إنكم إذًا لخاسرون)، فكذبهم الله بما أحلَّ بهم من عاجلِ نَكاله، ثم قال لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ما خسر تُبَّاع شعيب، بل كانَ الذين كذبوا شعيبًا لما جاءت عقوبة الله، هم الخاسرين، دون الذين صدّقوا وآمنوا به.
* * *
هَاجَتْ، وَمِثْلي نَوْلُهُ أَنْ يَرْبَعَا | حَمَامَةٌ هَاجَتْ حَمَامًا سُجَّعَا |
أَبْكَتْ أَبَا الشَّعْثَاءِ وَالسَّمَيْدَعَا | وعَهْدُ مَغْنَى دِمْنَةٍ بضَلْفَعَا |
و"أبو الشعثاء" يعني نفسه. و"ضلفع"، اسم موضع.
(٢) انظر تفسير"الخسران" فيما سلف ص: ٥٦٥، تعليق: ٢، والمراجع هناك.
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فأدبر شعيب عنهم، شاخصًا من بين أظهرهم حين أتاهم عذاب الله، (١) وقال لما أيقن بنزول نقمة الله بقومه الذين كذّبوه، حزنًا عليهم: (يا قوم لقد أبلغتكم رسالات ربي)، وأدّيت إليكم ما بعثني به إليكم، (٢) من تحذيركم غضبَه على إقامتكم على الكفر به، وظلم الناس أشياءهم= (ونصحت لكم)، بأمري إياكم بطاعة الله، ونهيكم عن معصيته- (فكيف آسى)، يقول: فكيف أحزن على قوم جَحَدوا وحدانية الله وكذبوا رسوله، وأتوجَّع لهلاكهم؟ (٣)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك.
١٤٨٦٩-حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قوله: (فكيف آسى)، يعني: فكيف أحزن؟
١٤٨٧٠-حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (فكيف آسى)، يقول: فكيف أحزن؟
١٤٨٧١-حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال:
(٢) انظر تفسير"البلاغ" فيما سلف ص: ٥٤٧ تعليق: ٢، والمراجع هناك.
(٣) انظر تفسير"الأسى" فيما سلف ١٠: ٢٠٠، ٤٧٥.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (٩٤) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم، معرِّفَه سنّته في الأمم التي قد خَلَت من قبل أمته، ومذكّرَ من كفر به من قريش، لينزجروا عما كانوا عليه مقيمين من الشرك بالله، والتكذيب لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: (وما أرسلنا في قرية من نبي)، قبلك= (إلا أخذنا أهلها بالبأساء والضراء)، وهو البؤس وشَظَف المعيشة وضِيقها= و"الضراء"، وهي الضُّرُ وسوء الحال في أسباب دُنياهم= (لعلهم يضرعون)، يقول: فعلنا ذلك ليتضرّعوا إلى ربهم، ويستكينوا إليه، وينيبوا، (١) بالإقلاع عن كفرهم، والتوبة من تكذيب أنبيائِهم.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك.
١٤٨٧٢-حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (أخذنا أهلها بالبأساء والضراء)، يقول: بالفقر والجوع.
* * *
* * *
وقيل:"يضرّعون"، والمعنى: يتضرعون، ولكن أدغمت"التاء" في"الضاد"، لتقارب مخرجهما.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٩٥) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: (ثم بدلنا) أهلَ القرية التي أخذنا أهلها بالبأساء والضراء= (مكان السيئة)، وهي البأساء والضراء. وإنما جعل ذلك"سيئة"، لأنه ممّا يسوء الناس= ولا تسوءهم"الحَسَنة"، وهي الرخاء والنعمة والسعة في المعيشة (٢) = (حتى عفوا)، يقول: حتى كَثرُوا.
* * *
وكذلك كل شيء كثر، فإنه يقال فيه:"قد عفا"، (٣) كما قال الشاعر: (٤)
ولَكِنَّا نُعِضُّ السَّيْفَ مِنْهَا | بِأَسْوُقِ عَافِيَاتِ الشَّحْمِ كُومِ (٥) |
= وتفسير"الضراء" فيما سلف ٣: ٣٤٩- ٣٥٣/ ٤: ٢٨٨/ ٧: ٢١٤/ ١١: ٣٥٥.
(٢) انظر تفسير"الضراء" فيما سلف قبل في التعليق السابق.
= وتفسير"السراء" فيما سلف ٧: ٢١٣.
= وتفسير"السيئة" و"الحسنة"، فيما سلف من فهارس اللغة (سوأ) (حسن).
= وتفسير"مس" فيما سلف ص: ٥٤٠، تعليق: ١، والمراجع هناك.
(٣) انظر تفسير"عفا" فيما سلف ٣: ٣٧٠/ ٤: ٣٤٣.
(٤) هو لبيد.
(٥) مضى البيت وتخريجه وشرحه فيما سلف ٤: ٣٤٣.
* ذكر من قال ذلك.
١٤٨٧٣-حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: (مكان السيئة الحسنة)، قال: مكان الشدة رخاء= (حتى عفوا).
١٤٨٧٤-حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله: (مكان السيئة الحسنة)، قال:"السيئة"، الشر، و"الحسنة"، الرخاء والمالُ والولد.
١٤٨٧٥-حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن أبن أبي نجيح، عن مجاهد: (مكان السيئة الحسنة)، قال:"السيئة"، الشر، و"الحسنة"، الخير.
١٤٨٧٦-حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قوله: (ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة)، يقول: مكان الشدة الرَّخاء.
١٤٨٧٧-حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة حتى عفوا)، قال: بدلنا مكان ما كرهوا ما أحبُّوا في الدنيا= (حتى عفوا)، من ذلك العذاب= (وقالوا قد مسّ آباءنا الضراء والسراء).
* * *
واختلفوا في تأويل قوله: (حتى عفوا).
فقال بعضهم نحو الذي قلنا فيه.
* ذكر من قال ذلك:
١٤٨٧٨-حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال ابن عباس: (حتى عفوا)، قال: جَمُّوا. (١)
١٤٨٧٩-حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (حتى عفوا)، قال: كثرت أموالهم وأولادهم.
١٤٨٨٠-حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
١٤٨٨١-حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (حتى عفوا)، حتى كثروا.
١٤٨٨٢-حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن إبراهيم: (حتى عفوا)، قال: حتى جَمُّوا وكثروا.
١٤٨٨٣-... قال، حدثنا جابر بن نوح، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس: (حتى عفوا)، قال: حتى جَمُّوا.
١٤٨٨٤-... قال، حدثنا المحاربي، عن جويبر، عن الضحاك: (حتى عفوا)، يعني: جَمُّوا وكثروا.
١٤٨٨٥-... قال، حدثنا عبد الله بن رجاء، عن ابن جريج، عن مجاهد: (حتى عفوا)، قال: حتى كثرت أموالهم وأولادهم.
حدثنا يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (حتى عفوا)، كثروا كما يكثر النّبات والرّيش، (٢) ثم أخذهم عند ذلك بغتة وهم لا يَشْعُرون.
* * *
(٢) "الريش" (بكسر الراء) : المتاع والأموال.
* ذكر من قال ذلك.
١٤٨٨٦-حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: (حتى عفوا)، يقول: حتى سُرُّوابذلك.
* * *
قال أبو جعفر: وهذا الذي قاله قتادة في معنى:"عفوا"، تأويلٌ لا وجه له في كلام العرب. لأنه لا يعرف"العفو" بمعنى السرور، في شيء من كلامها، إلا أن يكون أراد: حتى سُرُّوا بكثرتهم وكثرةِ أموالهم، فيكون ذلك وجهًا، وإن بَعُد.
* * *
وأما قوله: (وقالوا قد مس آباءنا الضراء والسراء)، فإنه خبرٌ من الله عن هؤلاء القوم الذين أبدلهم مكان الحسنة السيئة التي كانوا فيها، استدراجًا وابتلاء، أنهم قالوا إذ فعل ذلك بهم: هذه أحوال قد أصابتْ مَنْ قبلنا من آبائنا، ونالت أسلافَنا، ونحن لا نعدُو أن نكون أمثالَهم يصيبنا ما أصابهم من الشدة في المعايش والرخاء فيها= وهي"السراء"، لأنها تَسرُّ أهلها. (١)
وجهل المساكين شكرَ نعمة الله، وأغفلوا من جهلهم استدامةَ فضلهِ بالإنابة إلى طاعته، والمسارعة إلى الإقلاع عما يكرهه بالتوبة، حتى أتاهم أمره وهم لا يشعرون.
يقول جل جلاله: (فأخذناهم بغتة وهم لا يشعرون)، يقول: فأخذناهم بالهلاك والعذاب فجأة، أتاهم على غِرّة منهم بمجيئه، (٢) وهم لا يدرون ولا يعلمون أنّه يجيئهم، بل هُم بأنه آتيهم مكذّبون حتى يعاينوه ويَرَوه. (٣)
* * *
(٢) انظر تفسير"البغتة" فيما سلف ١١: ٣٢٥، ٣٦٠، ٣٦٨.
(٣) انظر تفسير"شعر" فيما سلف ص: ٩٣، تعليق: ١، والمراجع هناك.
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: أفأمن، يا محمد هؤلاء الذين يكذّبون الله ورسوله، ويجحدون آياته، استدراجَ الله إيّاهم بما أنعم به عليهم في دنياهم من صحّة الأبدان ورخاء العيش، كما استدرج الذين قصَّ عليهم قصصهم من الأمم قبلهم، (٢) فإنّ مكر الله لا يأمنه، يقول: لا يأمن ذلك أن يكون استدراجًا، مع مقامهم على كفرهم، وإصرارهم على معصيتهم= (إلا القوم الخاسرون) وهم الهالكون. (٣)
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (١٠٠) ﴾
قال أبو جعفر: يقول: أوَلم يَبن للّذين يُسْتخلفون في الأرض بعد هلاك آخرين قبلهم كانُوا أهلها، (٤) فساروا سيرتهم، وعملوا أعمالهم، وعتوا عن أمر ربهم= (أن لو نشاء أصبناهم بذنوبهم)، يقول: أن لو نشاء فعلنا بهم كما فعلنا بمن قبلهم، فأخذناهم بذنوبهم، وعجّلنا لهم بأسَنا كما عجلناه لمن كان قبلهم ممن ورثوا عنه الأرض، فأهلكناهم بذنوبهم= (ونطبع على قلوبهم)، (٥) يقول:
والظاهر أن هذا نقص قديم، لا أدري أهو من الطبري نفسه، أم من ناسخ النسخة العتيقة التي نقلت عنها نسختنا، أم من ناسخ نسختنا التي بين أيدينا.
والدليل على أنه خرم قديم، أني لم أجد أحدًا قط نقل شيئًا عن الطبري وأخباره في تفسير هذه الآية. لم يذكر ابن كثير شيئًا منسوبًا إلى ابن جرير، ولا السيوطي في الدر المنثور، ولا القرطبي، ولا أبو حيان، ولا أحد ممن هو مظنة أن ينقل عن أبي جعفر. فهذا يكاد يرجح أن جميع النسخ التي وقعت في أيديهم كان فيها هذا الخرم، ولكن لم ينبه أحد منهم إليه. ومن أجل ذلك وضعت الآيات وحدها، وتركت مكان الخرم بياضًا في هذه الصفحة والتي تليها.
(٢) انظر تفسير"المكر" فيما سلف ص: ٩٥، ٩٧ تعليق: ١، والمراجع هناك.
(٣) انظر تفسير"الخسران" فيما سلف ص: ٥٧٠ تعليق: ٢، والمراجع هناك.
(٤) انظر تفسير"هدى" فيما سلف من فهارس اللغة (هدى).
(٥) انظر تفسير"الطبع" فيما سلف ١: ٢٥٨- ٢٦١/ ٩: ٣٦٤.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك.
١٤٨٨٧-حدثنا محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (أو لم يهد)، قال: يبيَّن.
١٤٨٨٨-حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
١٤٨٨٩-... قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: (أولم يهد)، أولم يُبَيَّنْ.
١٤٨٩٠-حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: (أو لم يهد للذين يرثون الأرض من بعد أهلها)، يقول: أو لم يتبين لهم.
١٤٨٩١-حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (أولم يهد للذين يرثون الأرض من بعد أهلها)، يقول: أولم يتبين للذين يرثون الأرض من بعد أهلها= هم المشركون.
١٤٨٩٢- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (أولم يهد للذين يرثون الأرض من بعد أهلها)، أولم نُبَيِّنْ لهم= (أن لو نشاء أصبناهم بذنوبهم)، قال: و"الهدى"، البيان الذي بُعث هاديًا لهم، مبيِّنًا لهم حتى يعرفوا. لولا البيان لم يعرفُوا.
* * *
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: هذه القرى التي ذكرت لك، يا محمد، أمَرها وأمر أهلها= يعني: قوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط وشعيب= "نقص عليك من أنبائها" فنخبرك عنها وعن أخبار أهلها، وما كان من أمرهم وأمر رُسل الله التي أرسلت إليهم، (١) لتعلم أنا ننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا على أعدائنا وأهل الكفر بنا، ويعلم مكذبوك من قومك ما عاقبة أمر من كذَّب رسل الله، فيرتدعوا عن تكذيبك، وينيبوا إلى توحيد الله وطاعته= "ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات"، يقول: ولقد جاءت أهل القرى التي قصصت عليك نبأها،= "رسلهم بالبينات"، يعني بالحجج: البينات (٢) = "فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل".
* * *
[ثم] اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك. (٣).
فقال بعضهم: معناه: فما كان هؤلاء المشركون الذين أهلكناهم من أهل القرى ليؤمنوا عند إرسالنا إليهم بما كذبوا من قبل ذلك، (٤) وذلك يوم أخذِ ميثاقهم
(٢) انظر تفسير ((البينات)) فيما سلف من فهارس اللغة (بين).
(٣) الزيادة بين القوسين يقتضيها السياق.
(٤) في المطبوعة: ((بما كذبوا قبل ذلك))، وفي المخطوطة: ((بما يحدثوا قبل ذلك))، واستظهرت أن يكون الصواب ما أثبت، لقوله في الأثر الذي استدل به ((فآمنوا كرها)).
* ذكر من قال ذلك.
١٤٩٠١ - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: "فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل" قال: ذلك يوم أخذ منهم الميثاق فآمنوا كرهًا.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: فما كانوا ليؤمنوا عند مجيء الرسل، بما سبق في علم الله أنهم يكذبون به يوم أخرجهم من صُلب آدم عليه السلام.
* ذكر من قال ذلك:
١٤٩٠٢ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن أبي جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية، عن أبي بن كعب: "فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل: قال: كان في علمه يوم أقرُّوا له بالميثاق.
١٤٩٠٣ - حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس قال، يحق على العباد أن يأخذوا من العلم ما أبدى لهم ربهم والأنبياء، ويدعوا علمَ ما أخفى الله عليهم، (١) فإن علمه نافذٌ فيما كان وفيما يكون، وفي ذلك قال: "ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين"، قال: نفذ علمه فيهم، أيُّهم المطيع من العاصي حيث خلقهم في زمان آدم. وتصديق ذلك حيث قال لنوح: اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ، [هود: ٤٨]، وقال في ذلك: (وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ)، [الأنعام: ٢٨]، وفي ذلك قال: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا [الإسراء: ١٥]،
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: "فما كانوا " لو أحييناهم بعد هلاكهم ومعاينتهم ما عاينوا من عذاب الله، "ليؤمنوا بما كذبوا من قبل" هلاكهم، كما قال جل ثناؤه: (ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه).
* ذكر من قال ذلك:
١٤٩٠٤ - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله: "بما كذبوا من قبل"، قال: كقوله: (وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ).
قال أبو جعفر: وأشبه هذه الأقوال بتأويل الآية وأولاها بالصواب، القولُ الذي ذكرناه عن أبيّ بن كعب والربيع. وذلك أن من سبق في علم الله تبارك وتعالى أنه لا يؤمن به، فلن يؤمن أبدًا، وقد كان سبق في علم الله تبارك وتعالى لمن هلك من الأمم التي قص نبأهم في هذه السورة، أنه لا يؤمن أبدًا، فأخبر جل ثناؤه عنهم، أنهم لم يكونوا ليؤمنوا بما هم به مكذبون في سابق علمه، قبل مجيء الرسل وعند مجيئهم إليهم. ولو قيل: تأويله: فما كان هؤلاء الذين وَرِثوا الأرض، يا محمد، من مشركي قومك من بعد أهلها، الذين كانوا بها من عاد وثمود، ليؤمنوا بما كذب به الذين ورثوها عنهم من توحيد الله ووعده ووعيده= كان وجهًا ومذهبًا، غير أني لا أعلم قائلا قاله ممن يعتمد على علمه بتأويل القرآن.
* * *
وأما الذي قاله مجاهد من أن معناه: لو ردّوا ما كانوا ليؤمنوا= فتأويلٌ
* * *
وأما قوله: "كذلك يطيع الله على قلوب الكافرين"، فإنه يقول تعالى ذكره: كما طبع الله على قلوب هؤلاء الذين كفروا بربهم وعصوا رسله من هذه الأمم التي قصصنا عليك نبأهم، يا محمد، في هذه السورة، حتى جاءهم بأسُ الله فهلكوا به= "كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين"، الذين كتب عليهم أنهم لا يؤمنون أبدًا من قومك. (١).
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿وَمَا وَجَدْنَا لأكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ (١٠٢) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ولم نجد لأكثر أهل هذه القرى التي أهلكناها واقتصصنا عليك، يا محمد، نبأها= "من عهد"، يقول: من وفاء بما وصيناهم به، من توحيد الله، واتباع رسله، والعمل بطاعته، واجتناب معاصيه، وهجر عبادة الأوثان والأصنام.
* * *
و"العهد"، هو الوصية، قد بينا ذلك فيما مضى بما أغنى عن إعادته. (٢). = "وإن وجدنا أكثرهم"، يقول: وما وجدنا أكثرهم إلا فسقة عن طاعة ربهم، تاركين عهده ووصيته.
(٢) انظر تفسير ((العهد)) فيما سلف ١: ٤١٠، ٥٥٧ / ٢: ٢٧٩ / ٣: ٢٠ - ٢٤، ٣٤٩ / ٦: ٥٢٦.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
١٤٩٠٥ - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله تبارك وتعالى: "وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين" قال: القرون الماضية.
١٤٩٠٦ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، قوله: "وما وجدنا لأكثرهم من عهد"، الآية، قال: القرون الماضية. و"عهده"، الذي أخذه من بني آدم في ظهر آدم ولم يفوا به.
١٤٩٠٧ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن أبي جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية، عن أبي بن كعب: "وما وجدنا لأكثرهم من عهد" قال: في الميثاق الذي أخذه في ظهر آدم عليه السلام.
١٤٩٠٨ - حدثني محمد بن سعد، قال: حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: "وما وجدنا لأكثرهم من عهد وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين" وذلك أن الله إنما أهلك القرى لأنهم لم يكونوا حفظوا ما أوصاهم به.
* * *
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ثم بعثنا من بعد نوح وهود وصالح ولوط وشعيب، موسى بن عمران.
* * *
و"الهاء والميم" اللتان في قوله: "من بعدهم"، هي كناية ذكر الأنبياء عليهم السلام التي ذكرت من أول هذه السورة إلى هذا الموضع.
* * *
="بآياتنا" يقول: بحججنا وأدلتنا (١) "إلى فرعون وملئه"، يعني: إلى جماعة فرعون من الرجال (٢) = "فظلموا بها"، يقول: فكفروا بها. و"الهاء والألف" اللتان في قوله: "بها" عائدتان على "الآيات". ومعنى ذلك: فظلموا بآياتنا التي بعثنا بها موسى إليهم= وإنما جاز أن يقال: "فظلموا بها،" بمعنى: كفروا بها، لأن الظلم وَضْعُ الشيء في غير موضعه. وقد دللت فيما مضى على أن ذلك معناه، بما أغنى عن إعادته. (٣).
* * *
والكفر بآيات الله، وضع لها في غير موضعها، وصرف لها إلى غير وجهها الذي عُنِيت به= "فانظر كيف كان عاقبه المفسدين"، يقول جل ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: فانظر يا محمد، بعين قلبك، كيف كان عاقبة
(٢) انظر تفسير ((الملأ)) فيما سلف ١٢: ٥٦٥ تعليق: ٢، والمراجع هناك.
(٣) انظر تفسير ((الظلم)) فيما سلف من فهارس اللغة (ظلم).
القول في تأويل قوله: ﴿وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (١٠٤) ﴾
قال أبوجعفر: يقول جل ثناؤه: وقال موسى لفرعون: يا فرعون إنّي رسول من رب العالمين.
* * *
قال أبو جعفر: اختلفت القرأة في قراءة قوله: "حقيق على أن لا أقول على الله إلا الحق".
فقرأه جماعة من قراء المكيين والمدنيين والبصرة والكوفة: (حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لا أَقُولَ)، بإرسال "الياء" من "على"، وترك تشديدها، بمعنى: أنا حقيقٌ بأن لا أقول على الله إلا الحق= فوجهوا معنى "على" إلى معنى "الباء" كما يقال: "رميت بالقوس" و"على القوس"، و"جئت على حال حسنة" و"بحال حسنة". (١).
* * *
وقرأ ذلك جماعة من أهل المدينة: " حَقِيقٌ عَلَيَّ أَلا أَقُولَ"، بمعنى: واجب عليَّ أن لا أقول، وحق علي أن لا أقول.
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك أنهما قراءتان مشهورتان متقاربتا المعنى، قد قرأ بكل واحدة منهما أئمة من القرأة، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب في قراءته الصوابَ.
* * *
وقوله: "قد جئتكم ببينة من ربكم"، يقول: قال موسى لفرعون وملئه: قد جئتكم ببرهان من ربكم، يشهدُ، أيها القوم، على صحة ما أقول، (٢) وصدق ما أذكر لكم من إرسال الله إياي إليكم رَسولا فأرسل يا فرعون معي بني إسرائيل. فقال له فرعون: "إن كنت جئت بآية"، يقول: بحجة وعلامة شاهدة على صدق ما تقول (٣) = "فأت بها إن كنت من الصادقين".
* * *
(٢) انظر تفسير ((البينة)) فيما سلف ١٠: ٢٤٢، تعليق: ٢، والمراجع هناك.
(٣) تفسير ((آية)) فيما سلف من فهارس اللغة (أيى).
قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه: فألقى موسى عصاه= "فإذا هي ثعبان مبين"، يعني حية= "مبين" يقول: تتبين لمن يراها أنها حية. (١).
* * *
وبما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
١٤٩٠٩ - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: "فإذا هي ثعبان مبين" قال: تحولت حية عظيمة. وقال غيره: مثل المدينة.
١٤٩١٠ - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: "فإذا هي ثعبان مبين"، يقول: فإذا هي حية كاد يَتَسوَّره= يعني: كاد يَثبُ عليه. (٢).
١٤٩١١ - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: "فإذا هي ثعبان مبين"، "والثعبان": الذكر من الحيات، فاتحةً فاها، واضعة لحيها الأسفل في الأرض، والأعلى على سور القصر، (٣) ثم توجهت نحو فرعون لتأخذه، فلما رأها ذُعِر منها، ووثب فأحدث، ولم يكن
(٢) في المطبوعة: ((كادت)) بالتأنيث في الموضعين وأثبت ما في المخطوطة. وفي ((الحية)) ذكر وأنثى.
(٣) (اللحي)) بفتح اللام وسكون الحاء، وهما ((لحيان)) : وهما العظمان اللذان فيهما الأسنان من داخل الفم من كل ذي لحى.
١٤٩١٢ - حدثني عبد الكريم بن الهيثم قال، حدثنا إبراهيم بن بشار قال، حدثنا سفيان بن عيينة قال، حدثنا أبو سعد، عن عكرمة، عن ابن عباس: "فإذا هي ثعبان مبين" قال: ألقى العصا فصارت حية، فوضعت فُقْمًا لها أسفل القبة، وفُقْمًا لها أعلى القبة (١) = قال عبد الكريم، قال إبراهيم: وأشار سفيان بأصبعه الإبهام والسبابة هكذا: شِبْه الطاق (٢) = فلما أرادت أن تأخذه، قال فرعون: يا موسى خذها! فأخذها موسى بيده، فعادت عصا كما كانت أول مرة.
١٤٩١٣ - حدثنا العباس بن الوليد قال، حدثنا يزيد بن هارون قال، أخبرنا الأصبغ بن زيد، عن القاسم بن أبي أيوب قال، حدثني سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: ألقى عصاه فتحولت حيه عظيمة فاغرةً فاها، مسرعة إلى فرعون، فلما رأى فرعون أنها قاصدةٌ إليه، اقتحم عن سريره، (٣) فاستغاث بموسى أن يكفَّها عنه، ففعل.
١٤٩١٤ - حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: " ثعبان مبين" قال: الحية الذكر.
١٤٩١٥ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم قال، حدثني عبد الصمد بن معقل: أنه سمع وهب بن منبه يقول: لما دخل موسى على فرعون، قال له فرعون: (٤) أعرفك؟ قال: نعم! قال: أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا؟ [سورة الشعراء: ١٨]. قال: فرد إليه موسى الذي ردَّ،
(٢) ((الطاق)) هو عقد البناء، وهو ما عطف من الأبنية كأنه القوس.
(٣) ((اقتحم عن سريره))، رمي بنفسه وسقط عن سريره.
(٤) في المطبوعة والمخطوطة: ((قال له موسي: أعرفك))، وهو خطأ لا شك فيه، صوابه من تفسير ابن كثير ٣: ٥٢٧.
١٤٩١٦ - حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا أبو سعد قال، سمعت مجاهدًا يقول في قوله: فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى، [سورة طه: ٢٠]، (١) قال: ما بين لَحْيَيها أربعون ذراعًا.
١٤٩١٧ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبدة بن سليمان، عن جويبر، عن الضحاك: "فإذا هي ثعبان مبين"، قال: الحية الذكر.
* * *
قال أبو جعفر: وأما قوله: "ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين"، فإنه يقول: وأخرج يده، فإذا هي بيضاء تلوح لمن نظر إليها من الناس. (٢).
* * *
وكان موسى، فيما ذكر لنا، آدمَ، فجعل الله تحوُّل يده بيضاء من غير برص، له آية، وعلى صدق قوله: "إني رسول من رب العالمين"، حجة. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
١٤٩١٨ - حدثنا العباس قال، أخبرنا يزيد قال، حدثنا الأصبغ بن زيد، عن القاسم بن أبي أيوب، قال: حدثني سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال، أخرج يده من جيبه فرآها بيضاء من غير سوء = يعني: من غير برص= ثم أعادها إلى كمّه، فعادت إلى لونها الأول.
١٤٩١٩ - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني
(٢) انظر تفسير ((نزع)) فيما سلف ١٢: ٤٣٧.
١٤٩٢٠ - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله: "ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين"، قال: نزع يده من جيبه بيضاء من غير برص.
١٤٩٢١ - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
١٤٩٢٢ - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: "ونزع يده"، أخرجها من جيبه= "فإذا هي بيضاء للناظرين".
١٤٩٢٣ - حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا أبو سعد قال، سمعت مجاهدًا يقول في قوله: "ونزع يده" قال: نزع يده من جيبه= "فإذا هي بيضاء للناظرين"، وكان موسى رجلا آدم، فأخرج يده، فإذا هي بيضاء، أشد بياضا اللبن= "من غير سوء"، قال: من غير برص، آيةً لفرعون.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿قَالَ الْمَلأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (١٠٩) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (١١٠) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: قالت الجماعة من رجال قوم فرعون والأشراف منهم (١) = "إن هذا"، يعنون موسى صلوات الله عليه = "لساحر
وَسَاحِرَةِ العُيُونِ مِنَ المَوَامِي تَرقَّصُ في نَوَاشِرِهَا الأرُومُ (٣).
وقوله (عليم) يقول: ساحر عليم بالسحر (٤) = "يريد أن يخرجكم من
(٢) انظر تفسير ((السحر)) فيما سلف ٢: ٤٣٦ - ٤٤٢ / ١١: ٢٦٥.
(٣) ديوانه: ٥٩١، واللسان (أرم)، بهذه الرواية، أما رواية الديوان فهي:
وَسَاحِرَةِ السَّرَابِ مِنَ المَوَامِي | تَرَقَّصُ فِي عَسَاقِلِهَا الأُورُومُ |
تَمُوتُ قَطَا الفَلاةِ بِهَا أُوَامًا | وَيَهْلِكُ فِي جَوَانِبِهَا النَّسِيمُ |
بِهَا غُدُرٌ، وَلَيْسَ بِهَا بَلالٌ | وَأَشْبَاحٌ تَحُولُ وَلا تَرِيمُ |
(٤) انظر تفسير ((عليم)) فيما سلف من فهارس اللغة (علم).
* * *
وقيل: "فماذا تأمرون"، والخبر بذلك عن فرعون، ولم يذكر فرعون، وقلما يجيء مثل ذلك في الكلام، وذلك نظير قوله: (قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ)، [يوسف: ٥١-٥٢]. فقيل: "ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب"، من قول يوسف، ولم يذكر يوسف، ومن ذلك أن يقول: "قلت لزيد قم، فإنى قائم"، وهو يريد: "فقال زيد: إنّي قائم". (٢).
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (١١١) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره. قال الملأ من قوم فرعون لفرعون: أرجئه: أي أخِّره.
* * *
وقال بعضهم: معناه: احبس.
* * *
والإرجاء في كلام العرب التأخير. يقال منه: "أرجيت هذا الأمر"،
(٢) انظر تفصيل ذلك في معاني القرآن للفراء ١: ٣٨٧
* * *
واختلفت القرأة في قراءة ذلك.
فقرأته عامة قرأة المدينة وبعض العراقيين: "أَرْجِهِ" بغير الهمز وبجرّ الهاء.
وقرأه بعض قرأة الكوفيين: "أَرْجِهْ" بترك الهمز وتسكين "الهاء"، على لغة من يقف على الهاء في المكنيِّ في الوصل، (٢) إذا تحرك ما قبلها، كما قال الراجز: (٣)
أَنْحَى عَلَيَّ الدَّهْرُ رِجْلا وَيَدَا يُقْسِمُ لا يُصْلِحُ إلا أَفْسَدَا
فَيُصْلِحُ الْيَوْمَ وَيُفْسِدُهُ غَدَا (٤)
وقد يفعلون مثل هذا بهاء التأنيث، فيقولون: "هذه طلحَهْ قد أقبلت"، كما قال الراجز: (٥)
لَمَّا رأَى أنْ لا دَعَهْ وَلا شِبَعْ مَالَ إلَى أَرْطَأةِ حِقْفٍ فَاضْطَجَعْ (٦)
(٢) ((المكنى))، الضمير.
(٣) هو دويد بن زيد بن نهد القضاعى، وهو أحد المعمرين.
(٤) طبقات فحول الشعراء: ٢٨، والمعمرين: ٢٠، وأما لى الشريف ١: ١٣٧، والشعر والشعراء: ٥١ والمؤتلف والمختلف: ١١٤، وشرح شواهد الشافية: ٢٧٤؛ وغيرها كثير، وهو من قديم الشعر، كما قال ابن سلام. ورواية هذه الأبيات تختلف اختلافا كبيرا في المراجع جميعا كما أشرت إليه في شرح طبقات ابن سلام. وكان في المطبوعة ((ألحى على الدهر))، و ((فقسمه لا نصلح))، وهذا خطأ فاسد صوابه في المخطوطة، ومعاني القرآن للفراء.
(٥) يقال هو: منظور بن حبة الأسدي.
(٦) معاني القرآن للفراء ١: ٣٨٨، إصلاح المنطق: ١٠٨، وتهذيب إصلاح المنطق ١: ١٦٧، وشرح شواهد الشافية: ٢٧٤ - ٢٧٦، ٤٨٠، يصف ظبيا، ويقول قبله:
يَا رَبُّ أَبَّازٍ مِنَ العُفْرِ صَدَعْ | تَقَبَّضَ الذّئْبُ إِلَيْهِ وَاجْتَمَعْ |
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القراءات في ذلك بالصواب، أشهرها وأفصحها في كلام العرب، وذلك ترك الهمز وجرُّ "الهاء"، وإن كانت الأخرى جائزة، غير أن الذي اخترنا أفصح اللغات وأكثرها على ألسن فصحاء العرب.
* * *
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله: "أرجه"
فقال بعضهم: معناه: أخره.
* ذكر من قال ذلك:
١٤٩٢٤ - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، قال: قال ابن جريج: أخبرني عطاء الخراساني عن ابن عباس، قوله: "أرجه وأخاه" قال: أخِّره.
* * *
وقال آخرون. معناه احبسه.
* ذكر من قال ذلك:
١٤٩٢٥ - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: "أرجه وأخاه"، أي: أحبسه وأخاه.
* * *
* * *
وقيل: هم الشُّرَط.
* ذكر من قال ذلك:
١٤٩٢٦ - حدثني عباس بن أبي طالب قال، حدثنا مسلم بن إبراهيم قال، حدثنا الحكم بن ظهير، عن السدي، عن ابن عباس: "وأرسل في المدائن حاشرين"، قال: الشرط.
١٤٩٢٧ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن إسماعيل بن إبراهيم بن مهاجر، عن أبيه، عن مجاهد: "وأرسل في المدائن حاشرين"، قال: الشرط.
١٤٩٢٨ - قال: حدثنا حميد، عن قيس، عن السدي: "وأرسل في المدائن حاشرين"، قال: الشرط.
١٤٩٢٩ - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا إسماعيل بن إبراهيم بن مهاجر، عن أبيه، عن مجاهد، عن ابن عباس، في قوله: "في المدائن حاشرين"، قال: الشرط.
١٤٩٣٠ - حدثني عبد الكريم بن الهيثم قال، حدثنا إبراهيم بن بشار قال، حدثنا سفيان قال، حدثنا أبو سعد، عن عكرمة، عن ابن عباس: "وأرسل في المدائن حاشرين"، قال: الشرط.
* * *
قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله جل ثناؤه عن مشورة الملأ من قوم فرعون على فرعون، أن يرسل في المدائن حاشرين يحشرون كل ساحر عليم.
* * *
=وفي الكلام محذوف، اكتفى بدلالة الظاهر من إظهاره، وهو: فأرسل في المدائن حاشرين، يحشرون السحرة.
* * *
="فجاء السحرة فرعون قالوا إن لنا لأجرًا" يقول: إن لنا لثوابًا على غلبتنا موسى عندك (١) = "إن كنا"، يا فرعون، "نحن الغالبين".
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
١٤٩٣١ - حدثنا العباس قال، أخبرنا يزيد قال، أخبرنا الأصبغ بن زيد، عن القاسم بن أبي أيوب قال، حدثني سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: "فأرسل في المدائن حاشرين"، فحشر له كل ساحر متعالم، فلما أتوا فرعون قالوا: بم يعملُ هذا الساحر؟ (٢) قالوا: يعمل بالحيات. قالوا: والله ما في الأرض قوم يعملون بالسحر والحيات والحبال والعصي أعلم منا، فما أجرنا إن غلبنا؟ فقال لهم: أنتم قرابتي وحامَّتي، (٣) وأنا صانع إليكم كل شيء أحببتم.
١٤٩٣٢ - حدثني عبد الكريم بن الهيثم قال: حدثنا إبراهيم بن بشار قال، حدثنا سفيان،
(٢) في المطبوعة: ((بم يعمل)) وأثبت ما في المخطوطة، وهو صواب أيضاً.
(٣) في المطبوعة: ((وحاميتى))، والصواب في المخطوطة. و ((الحامة)) و ((الحميم)) خاصة الرجل من أهله وولده وذوى قرابته.
١٤٩٣٣ - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: فأرسل فرعون في المدائن حاشرين"، فحشروا عليه السحرة= "فلما جاء السحرة فرعون قالوا إنّ لنا لأجرًا إن كنا نحن الغالبين" يقول: عطية تعطينا= "إن كنا نحن الغالبين* قال نعم وإنكم لمن المقربين".
١٤٩٣٤ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: "أرجه وأخاه وأرسل في المدائن حاشرين* يأتوك بكل ساحر عليم"، أي كاثره بالسحرة، لعلك أن تجد في السحرة من يأتي بمثل ما جاء به. وقد كان موسى وهارون خرجا من عنده حين أراهم من سلطان الله ما أراهم. (٢) وبعث فرعون في مملكته، فلم يترك في سلطانه ساحرًا إلا أتي به. فذكر لي، والله أعلم، أنه جمع له خمسة عشر ألف ساحر، فلما اجتمعوا إليه، أمرهم أمره، وقال لهم: قد جاءنا ساحرٌ ما رأينا مثله قط، وإنكم إن غلبتموه أكرمتكم وفضلتكم، وقرَّبتكم على أهل مملكتي!
(٢) في المطبوعة: ((من سلطانه))، وكان في المخطوطة: ((من سلطان وبعث فرعون))، أسقط من الكلام ما أثبته من تاريخ الطبري ١: ٢١٠.
١٤٩٣٥ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا الحسين، عن يزيد، عن عكرمة قال: السحرة كانوا سبعين= قال أبو جعفر: أحسبه أنه قال: ألفًا. (٢)
١٤٩٣٦ - قال: حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا موسى بن عبيدة، عن ابن المنذر، قال: كان السحرة ثمانين ألفا.
١٤٩٣٧ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير، عن عبد العزيز بن رفيع، عن خيثمة، عن أبي سودة، عن كعب قال: كان سحرة فرعون اثني عشر ألفًا.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (١١٤) قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (١١٥) ﴾
قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه: قال فرعون للسحرة، إذ قالوا له: إن لنا عندك ثوابًا إن نحن غلبنا موسى؟ قال: نعم، لكم ذلك، وإنكم لممن أقرِّبه وأدْنيه مني= "قالوا يا موسى" يقول: قالت السحرة لموسى: يا موسى، اختر أن تلقي عصاك، أو نلقي نحن عصينا. ولذلك أدخلت "أن" مع "إما" في الكلام، لأنها في موضع أمر بالاختيار. ف"أن" إذًا في موضع نصب لما وصفت من المعنى، لأن معنى الكلام: اختر أن تلقي أنت، أو نلقي نحن، والكلام مع "إما" إذا كان على وجه الأمر، فلا بد
(٢) يعني "سبعين ألفًا.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (١١٦) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: قال موسى للسحرة: (ألقوا) ما أنتم ملقون! فألقت السحرة ما معهم، فلما ألقوا ذلك= "سحروا أعين الناس"، خيلوا إلى أعين الناس بما أحدثوا من التخييل والخُدَع أنها تسعى (٣) "واسترهبوهم"، يقول: واسترهبوا الناس بما سحروا في أعينهم، حتى خافوا من العصيّ والحبال، ظنًّا منهم أنها حيات= "وجاؤوا" كما قال الله، = "بسحر عظيم"، بتخييل عظيم كبير، من التخييل والخداع (٤). وذلك كالذي: -
١٤٩٣٨ - حدثنا موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: قال لهم موسى: ألقوا ما أنتم ملقون! فألقوا حبالهم وعصيهم!
(٢) انظر معاني القرآن ١: ٣٨٩، ٣٩٠، وهو فصل جيد جداً.
(٣) انظر تفسير ((السحر) ٩ فيما سلف ص: ١٩، تعليق ٢، والمراجع هناك.
(٤) انظر تفسير ((السحر) ٩ فيما سلف ص: ١٩، تعليق ٢، والمراجع هناك.
١٤٩٣٩ - حدثني عبد الكريم قال، حدثنا إبراهيم بن بشار قال، حدثنا سفيان قال: حدثنا أبو سعد، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: ألقوا حبالا غلاظًا طوالا وخشبًا طوالا قال: فأقبلت يخيَّل إليه من سحرهم أنها تسعى.
١٤٩٤٠ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال: صفّ خمسة عشر ألف ساحر، مع كل ساحر حباله وعصيه. وخرج موسى معه أخوه يتكئ على عصاه حتى أتى الجمعَ، وفرعونُ في مجلسه مع أشراف مملكته، ثم قالت السحرة: (يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى) [طه: ٦٥-٦٦]. (٢). فكان أوّل ما اختطفوا بسحرهم بصرَ موسى وبصرَ فرعون، ثم أبصارَ الناس بعدُ. ثم ألقى كل رجل منهم ما في يده من العصىّ والحبال، فإذا هي حيات كأمثال الجبال، (٣) قد ملأت الوادي يركبُ بعضها بعضًا= (فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى)، [طه: ٦٧]، وقال: والله إن كانت لعصيًّا في أيديهم، ولقد عادت حيات! وما تعدو عصايَ هذه! (٤) أو كما حدّث نفسه. (٥).
١٤٩٤١ - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن هشام الدستوائي قال، حدثنا القاسم بن أبي بزة قال: جمع فرعون سبعين ألف ساحر، وألقوا سبعينَ ألف حبل، وسبعين ألف عصًا، حتى جعل يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى.
(٢) في المطبوعة والمخطوطة: ((كأمثال الحبال)) بالحاء، والصواب من التاريخ.
(٣) في المطبوعة والمخطوطة: ((كأمثال الحبال)) بالحاء، والصواب من التاريخ.
(٤) في المطبوعة والمخطوطة: ((وما تعدوا هذه)) بإسقاط ((عصأي))، أثبتها من التاريخ.
(٥) الأثر: ١٤٩٤٠ - وهو جزء من أثر طويل رواه أبو جعفر في تاريخه ١: ٢١٠، ٢١١، وهو تابع للأثر السالف رقم ١٤٩٣٤، وبينهما فصل من كلام.
يقول تعالى ذكره: وأوحينا إلى موسى أن ألق عصاك، فألقاها فاذا هي تلقم وتبتلع ما يسحرون كذبًا وباطلا.
* * *
يقال منه: لقفت الشيء فأنا ألقُفُه لَقْفًا ولَقَفَانًا. (١).
* * *
=وذلك كالذي:-
١٤٩٤٢ - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: "وأوحينا إلى موسى أن ألق عصاك"، فألقى موسى عصاه، فتحولت حية، فأكلت سحرهم كله.
١٤٩٤٣ - حدثنا عبد الكريم بن الهيثم قال، حدثنا إبراهيم بن بشار قال، حدثنا سفيان قال، حدثنا أبو سعد، عن عكرمة، عن ابن عباس: فألقى عصاه فإذا هي حية تلقف ما يأفكون= لا تمر بشيء من حبالهم وخُشُبهم التي ألقوها إلا التقمته، فعرفت السحرة أن هذا أمرٌ من السماء، وليس هذا بسحر، فخرُّوا سجَّدًا وقالوا: آمنا بربّ العالمين* رب موسى وهارون. (٢).
(٢) هذا تضمين آية "سورة طه": ٧٠.
١٤٩٤٥ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال: أوحى الله إليه: أن ألق ما في يمينك! فألقى عصاه من يده، فاستعرضَت ما ألقوا من حبالهم وعصيهم، وهي حيات في عين فرعون وأعين الناس تسعى، فجعلت تلقفها، تبتلعها، حية حية، حتى ما يرى بالوادي قليل ولا كثير مما ألقوه. ثم أخذها موسى، فإذا هى عصاه في يده كما كانت، ووقع السحرة سجدًا قالوا: "آمنا برب العالمين رب موسى وهارون. لو كان هذا سحرا ما غلبنا"! (١).
١٤٩٤٦ - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن هشام الدستوائي قال، حدثنا القاسم بن أبي بزة قال: أوحى الله إليه: أن ألق عصاك! فألقى عصاه، فاذا هي ثعبان فاغرٌ فاه، فابتلع حبالهم وعصيهم. فألقي السحرة عند ذلك سجّدًا، فما رفعوا رؤوسهم حتى رأوا الجنة والنارَ وثوابَ هلهما. (٢).
١٤٩٤٧ - (٣) حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله: "يأفكون" قال: يكذبون.
١٤٩٤٨ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد: "فإذا هي تلقف ما يأفكون"، قال: يكذبون.
١٤٩٤٩ - حدثنا إبراهيم بن المستمر قال، حدثنا عثمان بن عمر قال، حدثنا قرة بن خالد السدوسي، عن الحسن: "تلفق ما يأفكون"، قال: حيالهم وعصيهم، تسترطها استراطا. (٤).
(٢) في المطبوعة والمخطوطة: ((وثواب أهلها))، والسياق يقتضي ما أثبت.
(٣) أخشى أن يكون سقط قبل هذه الآثار تفسير ((الإفك)) بمعنى الكذب، ولذلك فصلتها عن الآثار التي قبلها.
(٤) الأثر: ١٤٩٤٩ - ((إبراهيم بن المستمر الهذلى الناجى العروقى))، ثقة. روى عن أبيه ((المستمر))، وعن حيان بن هلال، وأبي داود الطيالسي، وأبي عاصم النبيل، وغيرهم. روى عنه الأربعة، وابن خزيمة، وأبو حاتم مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم ١/١/١٤٠. و ((عثمان بن عمر بن فارس بن لقيط العبدى)) مضى برقم ٥٤٥٨، ٨٣٣٢. و ((سرط الطعام))، و ((استرطه))، إذا ازدرده، وابتلعه ابتلاعاً سهلا سريعا ً لا غصة فيه.
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فظهر الحق وتبين لمن شهده وحضره في أمر موسى، وأنه لله رسول يدعو إلى الحق= "وبطل ما كانوا يعملون"، من إفك السحر وكذبه ومخايله.
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
١٤٩٥٠ - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: "فوقع الحق"، قال: ظهر.
١٤٩٥١ - حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا إسماعيل بن إبراهيم بن مهاجر، عن أبيه، عن مجاهد في قوله: "فوقع الحق وبطل ما كانوا يعلمون"، قال: ظهر الحق، وذهب الإفك الذي كانوا يعملون.
١٤٩٥٢ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، في قوله: "فوقع الحق"، قال: ظهر الحق.
١٤٩٥٣ - حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: "فوقع الحق"، ظهر موسى.
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فغلب موسى فرعون وجموعه= "هنالك"، عند ذلك= "وانقلبوا صاغرين"، يقول: وانصرفوا عن موطنهم ذلك بصغر مقهورين. (١). يقال منه: "صغِرَ الرجل يصْغَر صَغَرًا وصُغْرًا وصَغارًا. (٢)
القول في تأويل قوله: ﴿وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (١٢٠) ﴾
* * *
(٢) انظر تفسير ((صغر)) فيما سلف ١١٢: ٩٦، ٣٣٠.
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وألقي السحرة عندما عاينوا من عظيم قدرة الله، ساقطين على وجوههم سجَّدًا لربهم، (١) يقولون: "آمنا برب العالمين"، يقولون: صدقنا بما جاءنا به موسى، وأنّ الذي علينا عبادته، هو الذي يملك الجنّ والإنس وجميع الأشياء، وغير ذلك، (٢) ويدبر ذلك كله= "رب موسى وهارون"، لا فرعون، كالذي:-
١٤٩٥٤ - حدثني عبد الكريم قال، حدثنا إبراهيم بن بشار قال، حدثنا سفيان قال، حدثنا أبو سعد، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: لما رأت السحرة ما رأت، عرفت أن ذلك أمر من السماء وليس بسحر، فخروا سجدًا، (٣) وقالوا: "آمنا برب العالمين* رب موسى وهارون".
* * *
(٢) انظر تفسير ((العالمين)) فيما سلف من فهارس اللغة (علم).
(٣) في المطبوعة: ((خروا)) بغير فاء، وأثبت ما في المخطوطة.
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: قال فرعون للسحرة إذ آمنوا بالله= يعني صدّقوا رسوله موسى عليه السلام، لما عاينوا من عظيم قدرة الله وسلطانه: "آمنتم به"، يقول: أصدقتم بموسى وأقررتم بنبوّته= "قبل أن آذن لكم"، بالإيمان به= "إن هذا"، يقول: تصديقكم إياه، وإقراركم بنبوّته= "لمكر مكرتموه في المدينة"، يقول لخدعة خدعتم بها من في مدينتنا، (١) لتخرجوهم منها= "فسوف تعلمون"، ما أفعل بكم، وما تلقون من عقابي إياكم على صنيعكم هذا.
* * *
وكان مكرهم ذلك فيما:-
١٤٩٥٥ - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي، في حديث ذكره، عن أبي مالك= وعلي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، وعن مرة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: التقى موسى وأميرُ السحرة، فقال له موسى: أرأيتك إن غلبتك أتؤمن بي، وتشهد أنّ ما جئت به حق؟ قال الساحر: لآتين غدًا بسحر لا يغلبه سحر، فوالله لئن غلبتني لأومنن بك، ولأشهدن أنك حق! وفرعون ينظر إليهم، فهو قول فرعون: "إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة"، إذ التقيتما لتتظاهرا فتخرجا منها أهلها. (٢).
* * *
(٢) الأثر: ١٤٩٥٥ - هذا جزء من خبر طويل، رواه أبو جعفر في تاريخه ١: ٢١٣.
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره، مخبرًا عن قيل فرعون للسحرة إذ آمنوا بالله وصدقوا رسوله موسى: "لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف"، وذلك أن يقطع من أحدهم يده اليمنى ورجله اليسرى، أو يقطع يده اليسرى ورجله اليمنى، فيخالف بين العضوين في القَطْع، فمخالفته في ذلك بينهما هو "القطع من خلاف". (١).
* * *
ويقال: إن أوّل من سن هذا القطع فرعون= "ثم لأصلبنكم أجمعين"، وإنما قال هذا فرعون، لما رأى من خذلان الله إياه، وغلبة موسى عليه السلام وقهره له.
١٤٩٥٦ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو داود الحفري وحبوية الرازي، عن يعقوب القمي، عن جعفر بن أبي المغيرة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: "لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ثم لأصلبنكم أجمعين"، قال: أوّل من صلّب، وأول من قطع الأيدي والأرجل من خلاف، فرعون. (٢).
* * *
(٢) الأثر ١٤٩٥٦ - ((حبوية الرازي))، هو ((إسحق بن إسماعيل الرازي))، ((أبو يزيد))، مضى برقم: ١٤٣٦٥، ١٤٥٥٠.
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: قال السحرة مجيبة لفرعون، إذ توعَّدهم بقطع الأيدي والأرجل من خلاف، والصلب: "إنا إلى ربّنا منقلبون" يعني بالانقلاب إلى الله، الرجوع إليه والمصير (١) = وقوله: "وما تنقم منا إلا أن آمنا بآيات ربنا"، يقول: ما تنكر منا، يا فرعون، وما تجد علينا، إلا من أجل أن آمنا، أي = صدقنا (٢) "بآيات ربنا"، يقول: بحجج ربّنا وأعلامه وأدلته التي لا يقدر على مثلها أنت ولا أحد، سوى الله، الذي له ملك السموات والأرض. (٣). ثم فزعوا إلى الله بمسألته الصبرَ على عذاب فرعون، وقبض أرواحهم على الإسلام فقالوا: (ربنا أفرغ علينا صبرًا)، يعنون بقولهم: "أفرغ"، أنزل علينا حَبْسًا يحبسنا عن الكفر بك، (٤) عند تعذيب فرعون إيانا= (وتوفنا مسلمين)، يقول: واقبضنا إليك على الإسلام دين خليلك إبراهيم صلى الله عليه وسلم، لا على الشرك بك (٥).
١٤٩٥٧ - فحدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف)، فقتلهم
(٢) انظر تفسير ((نقم)) فيما سلف ١٠: ٤٣٣.
(٣) انظر تفسير ((الآية فيما سلف من فهارس اللغة (أيى).
(٤) انظر تفسير ((أفرغ علينا صبرًا)) فيما سلف ٥: ٣٥٤. وتفسير = ((الصبر)) فيما سلف ١٢: ٥٦١، تعليق: ١، والمراجع هناك.
(٥) انظر تفسير ((توفاه)) فيما سلف ١٢: ٤١٥، تعليق ١، والمراجع هناك.
١٤٩٥٨ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن إسرائيل، عن عبد العزيز بن رفيع، عن عبيد بن عمير قال: كانت السحرة أول النهار سحرة، وآخر النهار شهداء.
١٤٩٥٩ - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (وألقي السحرة ساجدين)، قال: ذكر لنا أنهم كانوا في أوّل النهار سحرة، وآخره شهداء.
١٤٩٦٠ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد: (ربنا أفرغ علينا صبرًا وتوفنا مسلمين)، قال: كانوا أوّل النهار سحرة، وآخره شهداء.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿وَقَالَ الْمَلأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ (١٢٧) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وقالت جماعة رجال من قوم فرعون لفرعون (١) أتدع موسى وقومه من بني إسرائيل (٢) = "ليفسدوا في الأرض"، يقول: كي يفسدوا خدمك وعبيدك عليك في أرضك من مصر (٣) = (ويذرك وآلهتك)،
(٢) انظر تفسير ((يذر)) فيما سلف ١٢: ١٣٦، تعليق: ٣، والمراجع هناك.
(٣) انظر تفسير ((الفساد في الأرض)) فيما سلف ص: ١٣، تعلق: ١، والمراجع هناك.
* * *
وفي قوله: (ويذرك وآلهتك)، وجهان من التأويل.
أحدهما: أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض، وقد تركك وترك عبادتك وعبادة آلهتك= وإذا وجه الكلام إلى هذا الوجه من التأويل، كان النصبُ في قوله: (ويذرك)، على الصرف، (١) لا على العطف به على قوله: "ليفسدوا".
والثاني: أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض، وليذرك وآلهتك = كالتوبيخ منهم لفرعون على ترك موسى ليفعل هذين الفعلين. وإذا وجِّه الكلام إلى هذا الوجه، كان نصب: (ويذرك) على العطف على (ليفسدوا). قال أبو جعفر: والوجه الأول أولى الوجهين بالصواب، وهو أن يكون نصب (ويذرك) على الصرف، لأن التأويل من أهل التأويل به جاء.
* * *
وبعدُ، فإن في قراءة أبيّ بن كعب الذي:-
١٤٩٦١ - حدثنا أحمد بن يوسف قال، حدثنا القاسم قال، حدثنا حجاج عن هارون قال، في حرف أبي بن كعب: (وقَدْ تَرَكُوكَ أَنْ يَعْبُدُوكَ وآلِهَتَكَ). (٢)
* * *
دلالةً واضحةً على أن نصب ذلك على الصرف.
* * *
وقد روي عن الحسن البصري أنه كان يقرأ ذلك: (وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ)، عطفًا بقوله: (ويذرك) على قوله: (أتذر موسى).
(٢) انظر أيضاً معاني القرآن للفراء ١: ٣٩١.
* * *
وأما قوله: (وآلهتك)، فإن قرأة الأمصار على فتح "الألف" منها ومدِّها، بمعنى: وقد ترك موسى عبادتك وعبادة آلهتك التي تعبدها.
* * *
وقد ذكر عن ابن عباس أنه قال: كان له بقرة يعبدها.
* * *
وقد روي عن ابن عباس ومجاهد أنهما كانا يقرآنها: (وَيَذَرَكَ وَإِلاهَتَكَ) بكسر الألف بمعنى: ويذرك وعبودتك. (٢)
* * *
قال أبو جعفر: والقراءة التي لا نرى القراءة بغيرها، هي القراءة التي عليها قرأة الأمصار، لإجماع الحجة من القرأة عليها.
* * *
* ذكر من قال: كان فرعون يعبد آلهة = على قراءة من قرأ: (ويذرك وآلهتك).
١٤٩٦٢ - حدثني موسى بن هارون قال: حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (ويذرك وآلهتك)، وآلهته فيما زعم ابن عباس، كانت البقر،
(٢) انظر ما سلف ١: ١٢٣، ١٢٤، وفي تفسير ((الإلاهة))، وخبرا ابن عباس ومجاهد بإسنادهما، وسيأتي برقم: ١٤٩٦٦ - ١٤٩٧١.
١٤٩٦٣ - حدثنا القاسم قال: حدثنا الحسين قال، حدثنا أبو سفيان، عن عمرو، عن الحسن قال: كان لفرعون جمانة معلقة في نحره، يعبدها ويسجد لها.
١٤٩٦٤ - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال، حدثنا أبان بن خالد قال، سمعت الحسن يقول: بلغني أن فرعون كان يعبدُ إلهًا في السر، وقرأ: "ويذرك والهتك ".
١٤٩٦٥ - حدثنا محمد بن سنان، قال: حدثنا أبو عاصم، عن أبي بكر، عن الحسن قال: كان لفرعون إله يعبده في السر.
* * *
* ذكر من قال: معنى ذلك: ويذرك وعبادتك، على قراءة من قرأ: (وَإَلاهَتَكَ).
١٤٩٦٦ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن محمد بن عمرو بن الحسن، عن ابن عباس: (وَيَذَرَكَ وَإِلاهَتَكَ) قال: إنما كان فرعون يُعْبَد ولا يَعْبُد. (١)
١٤٩٦٧ -... قال، حدثنا أبي، عن نافع، عن ابن عمر، عن عمرو بن دينار، عن ابن عباس أنه قرأ، (ويَذَرَكَ وإِلاهَتَكَ) قال: وعبادتك، ويقول: إنه كان يُعْبَد ولا يَعْبُد. (٢)
١٤٩٦٨ - حدثنا المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني
(٢) الأثر: ١٤٩٦٧ - ((نافع بن عمر))، مضى مرارًا، وكان في المخطوطة والمطبوعة ((عن نافع، عن ابن عم))، وهو خطأ، والصواب كما مضى برقم: ١٤٢
١٤٩٦٩ - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل عن عمرو بن دينار، عن ابن عباس أنه كان يقرأ: (وَإِلاهَتَكَ)، يقول: وعبادتك.
١٤٩٧٠ - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (وَيَذَرَكَ وَإِلاهَتَكَ)، قال: عبادتك.
١٤٩٧١ - حدثنا سعيد بن الربيع الرازي قال، حدثنا سفيان، عن عمرو بن دينار، عن محمد بن عمرو بن حسين، عن ابن عباس: أنه كان يقرأ: (وَيَذَرَكَ وَإِلاهَتَكَ)، وقال: إنما كان فرعون يُعْبَد ولا يَعْبُد. (١)
* * *
وقد زعم بعضهم: أن من قرأ: "وَإِلاهَتَكَ"، إنما يقصد إلى نحو معنى قراءة من قرأ: (وآلِهَتَكَ)، غير أنه أنّث وهو يريد إلهًا واحدًا، كأنه يريد: ويذرك وإلاهك = ثم أنث "الإله" فقال: "وإلاهتك".
* * *
وذكر بعض البصريين أن أعرابيًّا سئل عن "الإلاهة" فقال: "هي عَلَمة" يريد علمًا، فأنث "العلم"، فكأنه شيء نصب للعبادة يعبد. وقد قالت بنت عتيبة بن الحارث اليربوعي: (٢) تَرَوَّحْنَا مِنَ اللَّعْبَاء قَصْرًا وَأَعْجَلْنَا الإلاهَةَ أَنْ تَؤُوبَا (٣)
(٢) في المخطوطة: ((وقد قال عتيبة بن شهاب اليربوعي))، وهو خطأ لا شك فيه، وفي المطبوعة: ((وقد قالت بنت عتيبة بن الحارث اليربوعي))، وهو صواب من تغيير ناشر المطبوعة الأولى، وقد أثبت حق النسب، جامعاً بين ما في المخطوطة والمطبوعة. ويقال هي ((أمنه بنت عتيبة))، ويقال اسمها ((ميه))، وهي ((أم البنين)). ويقال: هو لنائحة عتيبة.
(٣) بلاغات النساء: ١٨٩، معجم ما استعجم: ١١٥٦، معجم البلدان ((اللعباء))، اللسان (لعب) (أله)، وغيرها كثير. قالت ترثى أباها، وقتل يوم خو، قتلته بنو أسد، وبعد البيت:
عَلَى مِثْلِ ابنِ مَيَّهَ، فَانْعِيَاهُ | يَشُقُّ نَوَاعِمُ البَشَرِ الجُيُوبَا |
وَكانَ أَبِى عُتَيْبَةُ شَمَّرِيًّا عَوَانُ | وَلا تَلْقَاهُ يَدَّخِرُ النَّصِيبَا |
ضَرُوبًا بِاليَدَيْنِ إذَا اشْمَعَلَّتْ | الحَرْبِ، لا وَرِعًا هَيُوبَا |
يريد: ظهري.
* * *
وقد بين ابن عباس ومجاهد ما أرادا من المعنى في قراءتهما ذلك على ما قرآ، فلا وجه لقول هذا القائل ما قال، مع بيانهما عن أنفسهما ما ذهبا إليه من معنى ذلك.
* * *
وقوله: (قال سنقتل أبناءهم)، يقول: قال فرعون: سنقتل أبناءهم الذكور من أولاد بني إسرائيل = (ونستحيي نساءهم)، يقول: ونستبقي إناثهم (٤) = (وإنا
(٢) لم أعرف قائله.
(٣) (٣) قوله: ((ملجاتى)) بتسهيل الهمزة، وأصله ((ملجأتى))، وألحق التاء أيضاً في هذا بقولهم: ((ملجأ)) بالحرفان جميعاً شاهد على ما قاله أبو جعفر.
(٤) انظر تفسير ((الاستحياء)) فيما سلف ٢: ٤١ - ٤٨.
وقد بينا أن كل شيء عالٍ بالقهر وغلبة على شيء، فإن العرب تقول: هو فوقه. (٢)
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (١٢٨) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: "قال موسى لقومه"، من بني إسرائيل، لما قال فرعون للملأ من قومه: "سنقتل أبناء بني إسرائيل ونستحيي نساءهم": = (استعينوا بالله) على فرعون وقومه فيما ينوبكم من أمركم= "واصبروا" على ما نالكم من المكاره في أنفسكم وأبنائكم من فرعون. وكان قد تبع موسى من بني إسرائيل على ما: -
١٤٩٧٢ - حدثني عبد الكريم قال، حدثنا إبراهيم بن بشار قال، حدثنا سفيان قال، حدثنا أبو سعد، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: لما آمنت السحرة، اتبع موسى ستمائة ألف من بني إسرائيل.
* * *
وقوله: (إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده)، يقول: إن الأرض لله، لعل الله أن يورثكم = إن صبرتم على ما نالكم من مكروه في أنفسكم وأولادكم من فرعون، واحتسبتم ذلك، واستقمتم على السداد = أرضَ فرعون وقومه، بأن يهلكهم
(٢) انظر تفسير ((فوق)) فيما سلف ١١: ٢٨٤، وفهارس اللغة ((فوق))
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (١٢٩) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: قال قوم موسى لموسى، حين قال لهم "استعينوا بالله واصبروا" = (أوذينا) بقتل أبنائنا = (من قبل أن تأتينا)، يقول: من قبل أن تأتينا برسالة الله إلينا، لأن فرعون كان يقتل أولادهم الذكور حين أظلَّه زمان موسى على ما قد بينت فيما مضى من كتابنا هذا. (٢) وقوله: (ومن بعد ما جئتنا)، يقول: ومن بعد ما جئتنا برسالة الله، لأن فرعون لما غلبت سَحرَته، وقال للملأ من قومه ما قال، أراد تجديدَ العذاب عليهم بقتل أبنائهم واستحياء نسائهم.
* * *
وقيل: إن قوم موسى قالوا لموسى ذلك، حين خافوا أن يدركهم فرعون وهم منه هاربون، وقد تراءى الجمعان، فقالوا له: (يا موسى أوذينا من قبل أن تأتينا)، كانوا يذبحون أبناءنا ويستحيون نساءنا = (ومن بعد ما جئتنا)، اليوم يدركنا فرعون فيقتلنا.
(٢) انظر ما سلف ٢: ٤١ - ٤٨.
* ذكر من قال ذلك:
* * *
١٤٩٧٣ - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: (من قبل أن تأتينا)، من قبل إرسال الله إياك وبعده.
١٤٩٧٤ - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
١٤٩٧٤ - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: فلما تراءى الجمعان فنظرت بنو إسرائيل إلى فرعون قد رَدِفهم، (١) قالوا: (إنا لمدركون)، وقالوا: (أوذينا من قبل أن تأتينا)، كانوا يذبحون أبناءنا ويستحيون نساءنا = (ومن بعد ما جئتنا)، اليوم يدركنا فرعون فيقتلنا = إنا لمدركون. (٢)
١٤٩٧٥ - حدثني عبد الكريم قال، حدثنا إبراهيم قال، حدثنا سفيان قال، حدثنا أبو سعد، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: سار موسى ببني إسرائيل حتى هجموا على البحر، فالتفتوا فإذا هم برَهَج دوابِّ فرعون، فقالوا: "يا موسى أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا"، هذا البحر أمامنا وهذا فرعون بمن معه! قال: (عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون).
* * *
وقوله: (قال عسى ربكم أن يهلك عدوكم)، يقول جل ثناؤه: قال موسى
(٢) الأثر: ١٤٩٧٤ - هو جزء من خبر طويل فرقه أبو جعفر في مواضع من تفسيره، ورواه في تاريخه ١: ٢١٤.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (١٣٠) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ولقد اختبرنا قوم فرعون وأتباعه على ما هم عليه من الضلالة = "بالسنين"، يقول: بالجُدوب سنة بعد سنة، والقحوط.
* * *
يقال منه: "أسْنَتَ القوم"، إذا أجدبوا.
* * *
(ونقص من الثمرات)، يقول: واختبرناهم مع الجدوب بذهاب ثمارهم وغلاتهم إلا القليل = (لعلهم يذكرون)، يقول: عظة لهم وتذكيرًا لهم، لينزجروا عن ضلالتهم، ويفزعوا إلى ربهم بالتوبة. (٣) وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
١٤٩٧٦ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن آدم، عن شريك،
(٢) (٢) انظر تفسير ((الاستخلاف)) فيما سلف ١٢: ١٢٦.
(٣) انظر تفسير ((التذكرة)) فيما سلف من فهارس اللغة (ذكر)
١٤٩٧٧ - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: (بالسنين)، الجائحة = (ونقص من الثمرات)، دون ذلك.
١٤٩٧٨ - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
١٤٩٧٩ - حدثني القاسم بن دينار قال، حدثنا عبيد الله بن موسى، عن شيبان، عن أبي إسحاق، عن رجاء بن حيوة في قوله: (ونقص من الثمرات)، قال: حيث لا تحمل النخلة إلا تمرة واحدة. (١)
١٤٩٨٠ - حدثني ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن رجاء بن حيوة، عن كعب قال: يأتي على الناس زمانٌ لا تحمل النخلة إلا ثمرة.
١٤٩٨١ - حدثني المثنى قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا شريك، عن أبي إسحاق، عن رجاء بن حيوة: (ونقص من الثمرات)، قال: يأتي على الناس زمان لا تحمل النخلة إلا ثمرة.
١٤٩٨٢ - حدثنا بشر بن معاذ قال: حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتاده، قوله: (ولقد أخذنا آل فرعون بالسنيين)، أخذهم الله بالسنين، بالجوع، عامًا فعامًا = (ونقص من الثمرات)، فأما "السنين" فكان ذلك في باديتهم وأهل مواشيهم = وأما "بنقص من الثمرات" فكان ذلك في أمصارهم وقراهم.
* * *
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فإذا جاءت آل فرعون العافية والخصب والرخاء وكثرة الثمار، ورأوا ما يحبون في دنياهم (١) = (قالوا لنا هذه)، نحن أولى بها = (وإن تصبهم سيئة)، يعني جدوب وقحوط وبلاء (٢) = (يطيروا بموسى ومن معه)، يقول: يتشاءموا ويقولوا: ذهبت حظوظنا وأنصباؤنا من الرخاء والخصب والعافية، مذ جاءنا موسى عليه السلام.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
١٤٩٨٣ - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: (فإذا جاءتهم الحسنة)، العافية والرخاء = (قالوا لنا هذه)، نحن أحق بها = (وإن تصبهم سيئة)، بلاء وعقوبة = (يطيروا)، يتشاءموا بموسى.
١٤٩٨٤ - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد بنحوه.
١٤٩٨٥ - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد، في قوله: (فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه)، قالوا: ما أصابنا هذا إلا بك يا موسى وبمن معك، ما رأينا شرًّا ولا أصابنا حتى رأيناك! وقوله: (فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه)، قال: الحسنة
(٢) انظر تفسير ((السيئة)) فيما سلف من فهارس اللغة (سوأ).
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (١٣١) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ألا ما طائر آل فرعون وغيرهم = وذلك أنصباؤهم من الرخاء والخصب وغير ذلك من أنصباء الخير والشر = "إلا عند الله ولكن أكثرهم لا يعلمون"، أن ذلك كذلك، فلجهلهم بذلك كانوا يطَّيّرون بموسى ومن معه.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
١٤٩٨٦ - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس: (ألا إنما طائرهم عند الله)، يقول: مصائبهم عند الله. قال الله: (ولكن أكثرهم لا يعلمون).
١٤٩٨٧ - حدثني القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: قال ابن عباس: (ألا إنما طائرهم عند الله)، قال: الأمر من قبل الله.
* * *
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وقال آل فرعون لموسى: يا موسى، مهما تأتنا به من علامة ودلالة = "لتسحرنا"، يقول: لتلفتنا بها عما نحن عليه من دين فرعون = (فما نحن لك بمؤمنين)، يقول: فما نحن لك في ذلك بمصدقين على أنك محق فيما تدعونا إليه.
* * *
وقد دللنا فيما مضى على معنى "السحر" بما أغنى عن إعادته. (١)
* * *
وكان ابن زيد يقول في معنى: (مهما تأتنا به من آية)، ما: -
١٤٩٨٨ - حدثني يونس قال، [أخبرنا ابن وهب]، قال ابن زيد في قوله: (مهما تأتنا به من آية)، قال: إن ما تأتنا به من آية = وهذه فيها زيادة "ما". (٢)
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلاتٍ﴾
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في معنى "الطوفان". فقال بعضهم: هو الماء.
* ذكر من قال ذلك:
(٢) الأثر: ١٤٩٨٨ - الزيادة بين القوسين، لا بد منها، وهو إسناد دائر في التفسير، أقربه رقم ١٤٩٨٥، وإنما هذا سهو من الناسخ.
١٤٩٩٠ - حدثنا أبو هشام الرفاعي قال، حدثنا ابن يمان قال، حدثنا سفيان، عن إسماعيل، عن أبي مالك قال: "الطوفان"، الماء.
١٤٩٩١ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا المحاربي، عن جويبر، عن الضحاك قال: "الطوفان"، الماء.
١٤٩٩٢ -... قال، حدثنا جابر بن نوح، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس قال: "الطوفان"، الغرق.
١٤٩٩٣ - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: "الطوفان"، الماء، "والطاعون"، على كل حال. (٢)
١٤٩٩٤ - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: "الطوفان"، الموت على كل حال.
١٤٩٩٥ - حدثنا محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قال: "الطوفان"، الماء.
* * *
وقال آخرون: بل هو الموت.
* ذكر من قال ذلك:
١٤٩٩٦ - حدثنا أبو هشام الرفاعي قال، حدثنا يحيى بن يمان قال،
(٢) لعل صواب العبارة ((والطاعون، الموت على كل حال)).
١٤٩٩٧ - حدثني عباس بن محمد قال، حدثنا حجاج، عن ابن جريج قال، سألت عطاء: ما الطوفان؟ قال: الموت. (٢)
١٤٩٩٨ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبد الله بن رجاء، عن ابن جريج، عن عطاء عمن حدثه، عن مجاهد قال: "الطوفان"، الموت.
١٤٩٩٩ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن عبد الله بن كثير: (فأرسلنا عليهم الطوفان)، قال: الموت = قال ابن جريج: وسألت عطاء عن "الطوفان"، قال: الموت = قال ابن جريج: وقال مجاهد: الموتُ على كل حال.
١٥٠٠٠ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن يمان، عن المنهال بن خليفة، عن حجاج، عن رجل، عن عائشة، عن النبي ﷺ قال: الطوفان الموت. (٣)
وقال ابن حبان: ((كان ينفرد بالمناكير عن المشاهير)). مترجم من التهذيب، والكبير ٤/٢/١٢، وابن أبي حاتم ٤/١/٣٥٧، وميزان الاعتدال ٣: ٢٠٤.
و ((الحجاج)) هو ((الحجاج بن أرطاة))، مضى مرارًا. و ((الحكم بن ميناء الأنصاري))، تابعي ثقة. مترجم من التهذيب، والكبير ١/٢/٣٤٠، وابن أبي حاتم ١/٢/١٢٧.
وهذا الخبر، رواه ابن كثير في تفسيره ٣: ٥٣٦، عن هذا الموضع ثم قال: ((وكذا ورواه ابن مردويه، من حديث يحيى بن يمان به، وهو حديث غريب)). قلت: وزاد نسبته لابن أبي حاتم، وأبي الشيخ وانظر الأثر التالي رقم ١٥٠٠٠
(٢) الأثر: ١٤٩٩٧ - ((عباس بن محمد))، هو ((عباس بن محمد بن حاتم الدورى)) شيخ الطبري، مضى برقم: ٧٧٠١.
(٣) الأثر: ١٥٠٠٠ - هذا إسناد آخر للخبر رقم: ١٤٩٩٦، إلا أنه أبهم الراوي عن عائشة، وبينه هناك، وهو ((الحكم بن ميناء)). وقد مضى تخريج هذا الخبر، وبيان ضعفه.
* ذكر من قال ذلك:
١٥٠٠١ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا جرير، عن قابوس بن أبي ظبيان، عن أبيه، عن ابن عباس: (فأرسلنا عليهم الطوفان)، قال: أمرُ الله الطوفان، ثم قرأ (فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ)، [القلم: ١٩].
* * *
وكان بعض أهل المعرفة بكلام العرب من أهل البصرة، (١) يزعم أن "الطوفان" من السيل: البُعَاق والدُّباش، وهو الشديد. (٢) ومن الموت المبَالغ الذَّريع السريع. (٣)
* * *
وقال بعضهم: هو كثرة المطر والريح.
* * *
وكان بعض نحويي الكوفيين يقول: "الطوفان" مصدر مثل "الرجحان" و"النقصان"، لا يجمع.
* * *
وكان بعض نحويي البصرة يقول: هو جمع، واحدها في القياس "الطوفانة". (٤)
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي، ما قاله ابن عباس، على ما رواه عنه أبو ظبيان (٥) أنه أمر من الله طاف بهم، وأنه مصدر من قول
(٢) ((البعاق)) (بضم الباء) : هو المطر الكثير الغزير الذي يتبعق بالماء تبعقاً، أي يسيل به سيلا كثيفاً. و ((سيل دباش)) (ضم الدال) عظيم، يجرف كل شيء جرفاً.
(٣) في المخطوطة: ((المتابع))، وفي مجاز القرآن: ((المبالغ))، والذي في المطبوعة ((المتتابع)) فآثرت نص أبي عبيدة.
(٤) هو الأخفش، قال ابن سيدهْ: ((الأخفش ثقة، وإذا حكى الثقة شيئاً لزم قبوله)).
(٥) يعني الخبر رقم ١٥٠٠١.
غَيَّر الجِدَّةُ مِنْ آيَاتِهَا خُرُقُ الرِّيحِ وَطُوفَانُ المَطَرْ (٢)
ويروى:
خُرُقُ الرِّيحِ بِطُوفَان المَطَرْ
وقول الراعي:
تُضْحِي إذَا العِيسُ أَدْرَكْنَا نَكَائِثَهَا خَرْقَاءَ يَعْتَادُهَا الطُّوفَانُ والزُّؤُدُ (٣)
وقول أبي النجم:
(٢) نوادر أبي زيد: ٧٧، الوساطة: ٣٢٩، اللسان (طوف)، وقبله:
لَمْ يَكُ الحًقُّ عَلَى أَنْ هَاجَهُ | رَسْمُ دَارٍ قَدْ تَعَفَّى بِالسِّرَرْ |
(٣) اللسان (نكث) (زأد)، ولعلها من شعره الذي مدح به عبد الله بن معاوية بن أبي سفيان (انظر خزانة الادب ٣: ٢٨٨) و ((النكائث)) جمع ((نكيثة))، وهي جهد قوة النفس. يقال: ((فلآن شديد النكيثة)) أي النفس. ويقال: ((بلغت نكيثته)) (بالبناء للمجهول) أي: جهد نفسه. و ((بلغ فلآن نكيثة بعيره)) أي: أقصي مجهوده في السير. و ((الزؤد)) (بضم الهمزة وسكونها) : الفزع والخوف. و ((خرقاء)) من صفة الناقة. وهي التي لا تتعهد مواضع قوائمها من نشاطها. يصفها بالحدة كأنها مجنونة، إذا كلت العيس، بقيت قوتها وفضل نشاطها.
* * *
وأما "القُمَّل"، فإن أهل التأويل اختلفوا في معناه.
فقال بعضهم: هو السوس الذي يخرج من الحنطة.
* ذكر من قال ذلك:
١٥٠٠٢ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير، عن يعقوب القمي، عن جعفر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: "القمّل"، هو السوس الذي يخرج من الحنطة.
١٥٠٠٣ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يعقوب، عن جعفر، عن سعيد بنحوه.
* * *
وقال آخرون: بل هو الدَّبَى، وهو صغار الجراد الذي لا أجنحة له.
* ذكر من قال ذلك:
١٥٠٠٤ - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قال: "القمّل"، الدبى.
١٥٠٠٥ - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي، قال: الدبى، القمّل.
١٥٠٠٦ - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: "القمل"، هو الدَّبَى.
١٥٠٠٨ - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور قال، حدثنا معمر، عن قتادة قال: "القُمَّل"، هي الدَّبَى، وهي أولاد الجراد.
١٥٠٠٩ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جابر بن نوح، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس قال: "القمل"، الدبى.
١٥٠١٠ -.... قال حدثنا يحيى بن آدم، عن قيس عمن ذكره، عن عكرمة قال: "القمل"، بناتُ الجراد.
١٥٠١١ - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي عن أبيه، عن ابن عباس قال: "القمل"، الدبَى.
* * *
وقال آخرون: بل "القمل"، البراغيثُ.
*ذكر من قال ذلك:
١٥٠١٢ - حدثني يونس قال، أخبرنا أبن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمل)، قال: زعم بعض الناس في القمل أنها البراغيث.
* * *
وقال بعضهم: هي دوابُّ سُودٌ صغار.
* ذكر من قال ذلك:
١٥٠١٣ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن أبي بكر قال: سمعت سعيد بن جبير والحسن قالا القمّل: دوابّ سود صغار.
* * *
قَوْمٌ تُعَالِجُ قُمَّلا أَبْنَاؤُهُمْ وَسَلاسِلا أُجُدًا وَبَابًا مُؤْصَدَا (٤)
(٢) ((القمقامة))، صغار القردان (جمع قراد) وهو أول ما يكون صغيراً، لا يكاد يرى من صغره، وهو أيضاً ضرب من القمل شديد التشبث بأصول الشعر.
(٣) في المطبوعة: ((الأعمش)) وهو خطأ في الطباعة.
(٤) ديوانه: ١٥٤، واللسان (قمل). من قصيدته التي قالها لكسرى حين أراد من بنى ضبيعة (رهط الأعشى) رهائن، لما أغار الحارث بن وعلة على بعض السواد، فأخذ كسرى قيس بن مسعود، ومن وجد من بكر، فجعل يحبسهم، فقال له الأعشى:
مَنْ مُبْلِغٌ كِسْرَى، إذَا مَا جَاءَهُ رُهُنًا، | عَنِّى مآلِكَ مُخْمِشَاتٍ شُرَّدَا |
آلَيْتُ لا نُعْطِيهِ مِنْ أَبْنَائِنَا | رُهْنًا فَيُفْسِدُهُمْ كَمَنْ قَدْ أَفْسَدَا |
حَتَّى يُفِيدُكَ مِنْ بَنِيهِ رَهِينَةً | نَعْشُ، وَيَرْهَنُكَ السِّمَاكُ الفَرْقَدَا |
لَسْنَا كَمَنْ جَعَلَتْ إيَادُ دَارَهَا | تَكْرِيت تَمْنَع حَبَّها أَنْ يُحْصَدا |
قَوْمًا يُعَالَجُ.............. | ................... |
جَعَلَ الإِلَهُ طَعَامَنَا فِي مَالِنَا | رِزْقًا تَضَمَّنَهُ لَنَا لَنْ يَنْفَدَا |
١٥٠١٤ - حدثنا ابن حميد قال: حدثنا يعقوب القمي، عن جعفر بن المغيرة، عن سعيد بن جبير قال: لما أتى موسى فرعون قال له: أرسل معي بني إسرائيل! فأبى عليه، فأرسل الله عليهم الطوفان = وهو المطر = فصبّ عليهم منه شيئًا، فخافوا أن يكون عذابًا، فقالوا لموسى: ادع لنا ربّك أن يكشف عنا المطر، فنؤمن لك ونرسل معك بني إسرائيل (٣)، فدعا ربه، فلم يؤمنوا، ولم يرسلوا معه بني إسرائيل، فأنبت لهم في تلك السنة شيئًا لم ينبته قبل ذلك من الزرع والثمر والكلأ. فقالوا: هذا ما كنا نتمنَّى، فأرسل الله عليهم الجراد، فسلَّطه على الكلأ فلما رأوا أثَره في الكلأ عرفوا أنه لا يُبقى الزرع. فقالوا: يا موسى ادْع لنا ربك فيكشف عنا الجرادَ فنؤمن لك، ونرسل معك بني إسرائيل! فدعا ربه، فكشف
(٢) لم أجد هذا في معاني القرآن للفراء، في هذا الموضع من تفسير الآية. انظر معاني القرآن للفراء ١: ٣٩٣، بل قال الفراء هنا: ((القمل، وهو الدبى الذي لا أجنحة له))، ولم يزد.
(٣) (٣) في المطبوعة: ((ادع لنا ربك لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك ولنرسلن معك بنى إسرائيل))، غير ما في المخطوطة، ولم يكتب نص آية ((سورة الأعراف)) : ١٣٤. وكان في المخطوطة ما أثبته، إلا أنه كتب: ((لئن كشف عنا المطر فتؤمن لك)) وصواب الجملة ما أثبت إن شاء الله.
١٥٠١٥ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا حبوية أبو يزيد، عن يعقوب القمي، عن جعفر، عن ابن عباس قال، لما خافوا الغرق، قال فرعون: يا موسى، ادع لنا ربك يكشف عنّا هذا المطر، فنؤمن لك = ثم ذكر نحو حديث ابن حميد، عن يعقوب. (٤)
(٢) ما بين القوسين، ليس في المخطوطة، وفي المخطوطة عند هذا الوضع، حرف (ط) بين ((إسرائيل)) و ((فأرسل)) و (ط) أخرى في الهامش، دلالة على الخطأ. والذي في المطبوعة صواب إن شاء الله.
(٣) ((الدم العبيط))، هو الطرى.
(٤) الأثر: ١٥٠١٥ - ((حبويه))، ((أبو يزيد))، هو ((إسحاق بن إسماعيل الرازي))، مضى برقم ١٤٣٦٥، ١٤٥٥٠، ١٤٩٥٦، ١٤٩٨٩، وكان في المطبوعة هنا ((حبوبة الرازي))، والصواب من المخطوطة، ومن تحقيق ذلك فيما سلف من الأرقام التي ذكرتها.
(٢) (٢) ((لحس الجراد النبات)) إذا أكله ولم يبق منه شيء، ومنه قيل لسنوات القحط الشداد " اللواحس" لأنها تلحس كل شيء.
(٣) ((زلق البناء أو المكان تزليقًا))، إذا ملسه حتي لايثبت عليه شيء.
(٤) الأثر: ١٥٠١٦- هو جزء من خبر طويل رواه أبو جعفر في تاريخه ١: ٢١١، ٢١٢
١٥٠١٨ - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (فأرسلنا عليهم الطوفان)، حتى بلغ: (مجرمين)، قال: أرسل الله عليهم الماء حتى قاموا فيه قيامًا، فدعوا موسى، فدعا ربّه فكشفه عنهم، ثم عادوا لسوء ما يحضر بهم. ثم أنبتت أرضهم، ثم أرسل الله عليهم الجراد، فأكل عامة حُروثهم وثمارهم. ثم دعوا موسى فدعا ربه فكشف عنهم، ثم عادوا بشرِّ ما يحضر بهم. فأرسل الله عليهم القمل، هذا الدبى الذي رأيتم، فأكل ما أبقى الجراد من حُروثهم، فلحسه. فدعوا موسى، فدعا ربه فكشفه عنهم، ثم عادوا بشرّ ما يحضر بهم. ثم أرسل الله عليهم الضفادع حتى ملأت بيوتهم وأفنيتهم. فدعوا موسى، فدعا ربه فكشف عنهم. ثم عادوا بشرّ ما يحضر بهم، فأرسل الله عليهم الدم، فكانوا لا يغترفون من مائهم إلا دمًا أحمر، حتى لقد ذُكر أنَّ عدو الله فرعون، كان يجمع بين الرجلين على الإناء الواحد، القبطي والإسرائيلي، فيكون مما يلي الإسرائيلي ماءً، ومما يلي القبطي دمًا. فدعوا موسى، فدعا ربه، فكشفه عنهم في تسع آياتٍ:
١٥٠١٩ - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس: (فارسلنا عليهم الطوفان)، وهو المطر، حتى خافوا الهلاك، فأتوا موسى فقالوا: يا موسى ادع لنا ربك أن يكشف عنّا المطر، [إنا نؤمن لك ونرسل معك بني إسرائيل، فدعا ربّه فكشف عنهم المطر]، (١) فأنبت الله به حرثهم، وأخصب به بلادهم، فقالوا: ما نحبُّ أنا لم نُمطر بترك ديننا، فلن نؤمن لك، ولن نرسل معك بني إسرائيل! فأرسل الله عليهم الجراد، فأسرعَ في فسادِ ثمارهم وزروعهم، فقالوا: يا موسى، ادع لنا ربك [أن يكشف عنا الجراد، فإنا سنؤمن لك ونرسل معك بني إسرائيل!]. (٢) فدعا ربه، فكشف عنهم الجراد. وكان قد بقي من زروعهم ومعاشهم بقايا، فقالوا، قد بقي لنا ما هو كافينا، فلن نؤمن لك، ولن نرسل معك بني إسرائيل. فأرسل الله عليهم القُمَّل = وهو الدَّبى = فتتبع ما كان ترك الجراد، فجزعوا وأحسُّوا بالهلاك، قالوا: يا موسى ادع لنا ربك يكشف عنا الدَّبى، فإنا سنؤمن لك، ونرسل معك بني إسرائيل! فدعا ربه، فكشف عنهم الدَّبى، فقالوا: ما نحن لك بمؤمنين، ولا مرسلين معك بني إسرائيل! فأرسل الله عليهم الضفادع، فملأ بيوتهم منها، ولقُوا منها أذًى شديدًا لم يلقوا مثله فيما كان قبله، أنها كانت تثبُ في قدورهم، فتفسد عليهم طعامهم، وتطفئ نيرانهم. قالوا: يا موسىادع لنا ربك أن يكشف عنا الضفادع، فقد لقينا منها بلاءً وأذًى، فإنا سنؤمن لك ونرسل معك بني إسرائيل! فدعا ربه، فكشف عنهم الضفادع، فقالوا: لا نؤمن لك، ولا نرسل معك بني إسرائيل! فأرسل الله عليهم الدّم، فجعلوا لا يأكلون إلا الدم، ولا يشربون إلا الدم، فقالوا: يا موسى، ادع لنا ربك أن يكشف عنّا الدم، فإنا سنؤمن لك،
(٢) ما بين القوسين، ليس في المخطوطة.
١٥٠٢٠ - حدثني عبد الكريم قال، حدثنا إبراهيم قال، حدثنا سفيان قال، حدثنا أبو سعد، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: أرسل على قوم فرعون الآيات: الجراد، والقمّل، والضفادع، والدم، آياتٌ مفصّلات. قال: فكان الرجل من بني إسرائيل يركبُ مع الرجل من قوم فرعون في السّفينة، فيغترف الإسرائيلي ماءً، ويغترف الفرعوني دمًا. قال: وكان الرجل من قوم فرعون ينام في جانب، فيكثر عليه القمل والضفادع حتى لا يقدر أن ينقلب على الجانب الآخر. فلم يزالوا كذلك حتى أوحى الله إلى موسى: أنْ أسْرِ بعبادِي إنكم متَّبعون.
١٥٠٢١ - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قال: لما أتى موسى فرعون بالرسالة، أبى أن يؤمن وأن يرسل معه بني إسرائيل، فاستكبر قال: لن أرسل معك بني إسرائيل! (١) فأرسل الله عليهم الطوفان = وهو الماء = أمطر عليهم السماء، حتى كادوا يهلكون، وامتنع منهم كل شيء، فقالوا: يا موسى، ادع لنا ربك بما عهد عندك، لئن كشفت عنّا هذا لنؤمننّ لك ولنرسلن معك بني إسرائيل! فدعا الله فكشف عنهم المطر، فأنبت الله لهم حُروثهم، وأحيا بذلك المطر كل شيء من بلادهم، فقالوا: والله ما نحبَّ أنا لم نكن أمطرنا هذا المطر، ولقد كان خيرًا لنا، فلن نرسل معك بني إسرائيل، ولن نؤمن لك يا موسى! فبعث الله عليهم الجراد، فأكل عامة حروثهم، وأسرع الجراد في فسادِها، فقالوا: يا موسى، ادع لنا ربك يكشف عنا الجراد، فإنا مؤمنون لك، ومرسلون معك بني إسرائيل!
١٥٠٢٢ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا أبو تميلة قال، حدثنا الحسن بن واقد، عن زيد، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: كانت الضفادع برِّية، فلما أرسلها الله على آل فرعون، سمعت وأطاعت، فجعلت تغرق أنفسها في القُدُور وهي تغلي، وفي التنانير وهي تفور، فأثابها الله بحسن طاعتها بَرْدَ الماء.
١٥٠٢٣ - حدثنا ابن حميد، قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال: فرجع عدوّ الله = يعني فرعون، حين آمنت السحرة = مغلوبًا مغلولا ثم أبى إلا الإقامة على الكفر، والتماديَ في الشر، فتابع الله عليه بالآيات، وأخذه بالسنين، فأرسل عليه الطوفان، ثم الجراد، ثم القمل، ثم الضفادع، ثم الدم، آيات مفصلات، ، فأرسل الطوفان = وهو الماء = ففاض على وجه الأرض، ثم ركد، لا يقدرون على أن
١٥٠٢٤ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثنا محمد بن إسحاق، عن محمد بن كعب القرظي: أنه حُدِّث: أن المرأة من آل فرعون كانت تأتي المرأةَ من بني إسرائيل حين جَهدهم العطش، فتقول: اسقيني من مائك! فتغرف لها من جرَّتها أو تصبّ لها من قربتها، فيعود في الإناء دمًا، حتى إن كانت لتقول لها: اجعليه في فيك ثم مُجيِّه في فيَّ! فتأخذ في فيها ماءً، فإذا مجته في فيها صار دمًا، فمكثوا في ذلك سبعةَ أيام. (٤)
(٢) ((انثال التراب انثيالا)) : انصب انصبابآ من كل وجه.
(٣) الأثر: ١٥٠٢٣- هذا الخبر رواه أبو جعفر في تاريخه ١: ٢١٥.
(٤) الأثر: ١٥٠٢٤- هذا الخبر رواه أبو جعفر في تاريخه مطولا ١: ٢١٥، ٢١٦.
= قال، حدثنا شبل، عن عبد الله بن كثير، عن مجاهد قال: لما سال النِّيلُ دمًا، فكان الإسرائيلي يستقي ماء طيّبًا، ويستقي الفرعوني دمًا، ويشتركان في إناء واحد، فيكون ما يلي الإسرائيلي ماءً طيّبًا وما يلي الفرعوني دمًا.
١٥٠٢٦- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن أبي بكر قال، حدثني سعيد بن حبير: أن موسى لمّا عالج فرعون بالآيات الأربع: العصا، واليد، ونقص من الثمرات، والسنين = قال: يا رب، إن عبدك هذا قد علا في الأرض وَعتَا في الأرض، وبغى علي، وعلا عليك، وعالى بقومه، ربِّ خذ عبدك بعُقوبة تجعلها له ولقومه نِقْمةً، وتجعلها لقومي عظةً، ولمن بعدي آية في الأمم الباقية! فبعث الله عليهم الطوفان = وهو الماء = وبيوت بني إسرائيل وبيوت القبط مشتبكة مختلطة بعضها في بعض، فامتلأت بيوت القبط ماءً، حتى قاموا في الماء إلى تراقيهم، من جَلس منهم غرق، (١) ولم يدخل في بيوت بني إسرائيل قطرة. فجعلت القبط تنادي موسى: ادع لنا ربك بما عهد عندك، لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك، ولنرسلن معك بني إسرائيل! قال: فواثقوا موسى ميثاقًا أخذَ عليهم به عهودهم، وكان الماء أخذهم يوم السبت، فأقام عليهم سبعة أيام إلى السبت الآخر. فدعا موسى ربه، فرفع عنهم الماء، فأعشبت بلادهم من ذلك الماء، فأقاموا شهرًا في عافية، ثم جحدوا وقالوا: ما كان هذا الماء إلا نعمة علينا، وخصبًا لبلادنا، ما نحب أنه لم يكن. = قال: وقد قال قائل لابن عباس: إني سألت ابن عمر عن الطوفان، فقال: ما أدري، موتا كان أو ماء! فقال ابن عباس: أما يقرأ ابن عمر "سورة العنكبوت" حين
= قال: فقال موسى: يا رب إن عبادك قد نقضُوا عهدك، وأخلفوا وعدي، رب خذهم بعقوبة تجعلها لهم نقمة، ولقومي عظة، ولمن بعدهم آية في الأمم الباقية! قال: فبعث الله عليهم الجراد، فلم يدع لهم ورقةً ولا شجرة ولا زهرة ولا ثمرة إلا أكله، (١) حتى لم يُبْقِ جَنًى، (٢) حتى إذا أفنى الخضر كلها، أكل الخشب، حتى أكل الأبواب وسقوف البيوت. وابتلى الجراد بالجوع، فجعل لا يشبع، غير أنه لا يدخل بيوتَ بني إسرائيل. فعجُّوا وصاحُوا إلى موسى، (٣) فقالوا: يا موسى، هذه المرّة ادع لنا ربك بما عهد عندك لئن كشفت عنا الرجز لنؤمننّ لك ولنرسلنّ معك بني إسرائيل! فأعطوه عهدَ الله وميثاقه، فدعا لهم ربّه، فكشف الله عنهم الجراد بعد ما أقام عليهم سبعة أيام من السبت إلى السبت، ثم أقاموا شهرًا في عافية، ثم عادوا لتكذيبهم ولإنكارهم، ولأعمالهم أعمال السَّوْء قال: فقال موسى: يا رب، عبادُك، قد نقضوا عهدي، وأخلفوا موعدي، فخذهم بعقوبة تجعلُها لهم نقمة، ولقومي عظة، ولمن بعدي آية في الأمم الباقية! فأرسل الله عليهم القمَّل = قال أبو بكر: سمعت سعيد بن جبير والحسن يقولان: كان إلى جنبهم كثيب أعفر بقرية من قرى مصر تدعى "عين شمس"، (٤) فمشى موسى إلى ذلك الكثيب، فضربه بعصاه ضربةً صارَ قمّلا تدب إليهم = وهي دوابّ سود صغار. فدبَّ إليهم القمّل، فأخذ أشعارهم وأبشارهم وأشفارَ عيونهم وحواجبهم، ولزم جلودَهم، كأنه الجدريّ عليهم، فصرخوا وصاحوا إلى موسى: إنا نتوب ولا نعود،
(٢) ((الجني)) الثمر كله.
(٣) ((عج يعج عجا)) رفع صوته وصاح بالدعاء والاستغاثة.
(٤) ((الكثيب الأعفر)) : هو هنا الأحمر.
١٥٠٢٧ - حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا أبو سعد
(٢) ((الحب)) (بضم الحاء) : الجرة الضخمة يكون فيها الماء.
* * *
وقال بعضهم: "الدم" الذي أرسله الله عليهم، كان رُعافًا.
* ذكر من قال ذلك:
١٥٠٢٨ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا أحمد بن خالد قال، حدثنا يحيى بن أبي بكير قال، حدثنا زهير قال، قال زيد بن أسلم: أما "القمل" فالقمل = وأما "الدم"، فسلط الله عليهم الرُّعاف. (٢)
* * *
وأما قوله: (آيات مفصلات)، فإن معناه: علامات ودلالات على صحّة نبوّة موسى، (٣) وحقيقة ما دعاهم إليه (٤) = "مفصلات"، قد فصل بينها، فجعل بعضها يتلو بعضًا، وبعضها في إثر بعض. (٥)
* * *
(٢) الأثر: ١٥٠٢٨- ((أحمد بن خالد))، كأنه ((أحمد بن خالد بن موسي الوهبي))، مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم ١ / ١ / ٤٩ و ((يحيى بن أبي بكير الأسدي))، مضى مرارًا، آخرها رقم: ٧٥٤٤، و ((زهير))، هو: ((زهير بن محمد التميمي))، مضى برقم: ٥٢٣٠، ٦٦٢٨.
(٣) انظر تفسير ((آية)) فيما من فهارس اللغة اللغة (أيي)
(٤) في المطبوعة: ((وحقية)) مكان ((وحقيقة))، فعل بها كما فعل بكل أخواتها من قبل. انظر ماسلف ١٢: ٢٤٤، تعليق: ٣، والمراجع هناك.
(٥) وانظر تفسير ((التفصيل)) في م سلف ١٢: ٤٧٧، تعليق: ١ والمراجع هناك.
* ذكر من قال ذلك:
١٥٠٢٩ - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قال: فكانت آيات مفصلات بعضها في إثر بعض، ليكون لله الحجة عليهم، فأخذهم الله بذنُوبهم، فأغرقهم في اليمّ.
١٥٠٣٠ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قوله: (آيات مفصلات)، قال: يتبع بعضها بعضًا، ليكون لله عليهم الحجة، فينتقم منهم بعد ذلك. وكانت الآية تمكث فيهم من السبت إلى السبت، وترفع عنهم شهرًا، قال الله عز وجل: (فانتقمنا منهم فأغرقناهم في اليمّ)، [الأعراف: ١٣٦]... الآية.
١٥٠٣١ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، قال ابن إسحاق: (آيات مفصلات)، : أي آية بعد آية، يتبع بعضُها بعضًا. (١)
* * *
وكان مجاهد يقول فيما ذكر عنه في معنى "المفصلات"، ما: -
١٥٠٣٢ - حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا أبو سعد قال، سمعت مجاهدًا يقول في "آيات مفصلات"، قال: معلومات.
* * *
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فاستكبر هؤلاء الذين أرسل الله عليهم ما ذكر في هذه الآيات من الآيات والحجج، عن الإيمان بالله وتصديق رسوله موسى ﷺ واتباعه على ما دعاهم إليه، وتعظموا على الله وعتَوا عليه (١) = (وكانوا قومًا مجرمين)، يقول: كانوا قومًا يعملون بما يكرهه الله من المعاصي والفسق عتوًّا وتمرّدًا. (٢)
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (١٣٤) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: "ولما وقع عليهم الرجز"، ولما نزل بهم عذاب الله، وحَلّ بهم سخطه.
* * *
ثم اختلف أهل التأويل في ذلك "الرجز" الذي أحبر الله أنه وقع بهؤلاء القوم.
فقال بعضهم: كان ذلك طاعونًا.
* ذكر من قال ذلك:
١٥٠٣٣ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يعقوب القمي، عن جعفر بن المغيرة، عن سعيد بن جبير قال: وأمر موسى قومه من بني إسرائيل = وذلك
(٢) انظر تفسير ((الإجرام)) فيما سلف ١٢: ٢٠٧، تعليق: ٣، والمراجع هناك.
١٥٠٣٤ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا حبويه الرازي وأبو داود الحفري، عن يعقوب، عن جعفر، عن سعيد بن جبير = قال حبويه، عن ابن عباس = (لئن كشفت عنا الرجز) قال: الطاعون.
* * *
وقال آخرون: هو العذاب.
* ذكر من قال ذلك:
١٥٠٣٥ - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: "الرجز" العذاب.
١٥٠٣٦ - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
١٥٠٣٧ - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (فلما كشفنا عنهم الرجز)، أي العذاب.
١٥٠٣٨ - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور قال،
١٥٠٣٩ - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (ولما وقع عليهم الرجز)، قال، "الرجز"، العذاب الذي سلط الله عليهم من الجراد والقمل وغير ذلك، وكلّ ذلك يعاهدونه ثم ينكثون.
* * *
وقد بينا معنى "الرجز" فيما مضى من كتابنا هذا بشواهده المغنية عن إعادتها. (١)
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القولين بالصواب في هذا الموضع أن يقال: إن الله تعالى ذكره أخبر عن فرعون وقومه أنهم لما وقع عليهم الرجز = وهو العذاب والسخط من الله عليهم = فزعوا إلى موسى بمسألته ربَّه كشفَ ذلك عنهم. وجائز أن يكون ذلك "الرجز" كان الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم، لأن كل ذلك كان عذابًا عليهم = وجائز أن يكون ذلك "الرجز" كان طاعونًا، ولم يخبرنا الله أيّ ذلك كان، ولا صحَّ عن رسول الله ﷺ بأيِّ ذلك كان خبرٌ، فنسلم له. فالصواب أن نقول فيه كما قال جل ثناؤه: (ولما وقع عليهم الرجز)، ولا نتعداه إلا بالبيان الذي لا تمانع فيه بين أهل التأويل، وهو لمّا حل بهم عذاب الله وسخطه.
* * *
= (قالوا يا موسى ادع لنا ربك بما عهد عندك)، يقول: بما أوصاك وأمرك به. (٢) وقد بينا معنى: "العهد"، فيما مضى.
* * *
= (لئن كشفت عنا الرجز)، يقول: لئن رفعت عنا العذاب الذي نحن
(٢) انظر تفسير ((العهد)) فيما سلف ص: ١٠، تعليق: ٢، والمراجع هناك.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (١٣٥) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فدعا موسى ربه فأجابه، فلما رفع الله عنهم العذاب الذي أنزله بهم = (إلى أجل هم بالغوه)، ليستوفوا عذابَ أيامهم التي جعلَها الله لهم من الحياة أجلا إلى وقت هلاكهم (٢) = (إذا هم ينكثون)، يقول: إذا هم ينقضون عهودَهم التي عاهدوا ربَّهم وموسى، ويقيمون على كفرهم وضلالهم. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
١٥٠٤٠ - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله تعالى: (إلى أجل هم بالغوه)، قال: عدد مسمَّى لهم من أيامهم.
١٥٠٤١ - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، نحوه.
١٥٠٤٢ - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال،
(٢) انظر تفسير ((الأجل)) فيما سلف ١٢: ٤٠٥، تعليق: ٢، والمرجع هناك.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (١٣٦) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فلما نكثوا عهودهم = "انتقمنا منهم"، يقول: انتصرنا منهم بإحلال نقمتنا بهم، (١) وذلك عذابه = "فأغرقناهم في اليمّ"، وهو البحر، كما قال ذو الرمة:
دَاوِيَّةٌ وَدُجَى لَيْلٍ كَأَنَّهُمَا يَمٌّ تَرَاطَنُ فِي حَافَاتِهِ الرُّومُ (٢)
(٢) ديوانه: ٥٧٦، من قصيدة باذخة، وهذا البيت منها في صفه فلاة مخوفة، يقول قبله:
بَيْنَ الرَّجَا والرَّجَا من جَنْبٍ وَاصِيَةٍ | يَهْمَاءَ خَابِطُهَا بِالخَوْفِ مَكْعُومُ |
لِلجِنِّ بِاللَّيْلِ فِي حَافَاتِهَا زَجَلٌ | كَمَا تَجَاوَبَ يَوْمَ الرِّيحِ عَيْشُومُ |
هَنَّا، وَهَنَّا وَمِنْ هَنَّا لَهُنَّ، بِهَا | ذَاتَ الشَّمَائِلِ وَالأَيْمَانِ هَيْنُومُ |
* كَبَاذِحِ الْيَمِّ سَقَاهُ الْيَمُّ * (٢)
= (بأنهم كذبوا بأياتنا)، يقول: فعلنا ذلك بهم بتكذيبهم بحججنا وأعلامنا التي أريناهموها (٣) = (وكانوا عنها غافلين)، يقول: وكانوا عن النقمة التي أحللناها بهم، غافلين قبل حلولها بهم أنّها بهم حالَّةٌ.
* * *
و"الهاء والألف" في قوله: "عنها"، كناية من ذكر "النقمة"، فلو قال قائل: هي كناية من ذكر "الآيات"، ووجّه تأويل الكلام إلى: وكانوا عنها معرضين = فجعل إعراضهم عنها غفولا منهم إذ لم يقبلوها، كان مذهبًا. يقال من "الغفلة"، "غفل الرجل عن كذا يغفُل عنه غَفْلة وغُفُولا وغَفَلا". (٤)
* * *
(٢) ديوانه: ٦٣، ومجاز القرآن لأبي عبيدة ١: ٢٢٧، من أرجوزة ذكر فيها مسعود بن عمرو العتكي الأزدي، وما أصابه وقومه من تميم رهط العجاج. فقال يذكر تميما وخزيمة، وقيس عيلان حين اجتمعت كتائبهم وجيوشهم:
وَأَصْحَروا حين اسْتَجَمَّ الجَمُّ | بِذِي عُبَابٍ بَحرُهُ غِطَمُّ |
كَبَاذِخِ اليِمِّ سَقَاهُ اليَمُّ | لَهُ نَوَاحٌ وَلَه أُسْطُمُّ |
(٣) انظر تفسير ((آية)) فيما سلف من فهارس اللغة (أيي)
(٤) انظر تفسير ((الغفلة)) فيما سلف ٢: ٢٤٤، ٣١٦ / ٣: ١٢٧، ١٨٤ /٩: ١٦٢ ولم يبين فيما سلف هذا البيان الذي جاء به هنا.
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وأورثنا القوم الذين كان فرعون وقومه يستضعفونهم، فيذبحون أبناءهم، ويستحيون نساءهم، ويستخدمونهم تسخيرًا واستعبادًا من بني إسرائيل (١) = مشارق الأرض الشأم، وذلك ما يلي الشرق منها = "ومغاربها التي باركنا فيها"، يقول: التي جعلنا فيها الخير ثابتًا دائمًا لأهلها. (٢)
وإنما قال جل ثناؤه: (وأورثنا)، لأنه أورث ذلك بني إسرائيل بمهلك من كان فيها من العمالقة.
* * *
وبمثل الذي قلنا في قوله: (مشارق الأرض ومغاربها)، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
١٥٠٤٣ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن يمان، عن إسرائيل، عن فرات القزاز، عن الحسن في قوله: (وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق في الأرض ومغاربها التي باركنا فيها)، قال: الشأم.
١٥٠٤٤ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا إسرائيل، عن فرات القزاز قال: سمعت الحسن يقول، فذكر نحوه.
١٥٠٤٥ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا قبيصة، عن سفيان، عن فرات
(٢) انظر تفسير ((البركة)) فيما سلف من فهارس اللغة (برك)
١٥٠٤٦ - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها)، هي أرض الشأم.
١٥٠٤٧ - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة قوله: (مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها)، قال: التي بارك فيها، الشأم.
* * *
وكان بعض أهل العربية يزعم "أن مشارق الأرض ومغاربَها"، نصب على المحلّ، بمعني: وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون في مشارق في الأرض ومغاربها = وأن قوله: "وأورثنا" إنما وقع على قوله: (التي باركنا فيها). (١)
وذلك قول لا معنى له، لأن بني إسرائيل لم يكن يستضعفهم أيام فرعون غير فرعون وقومه، ولم يكن له سلطان إلا بمصر، فغير جائز والأمر كذلك أن يقال: الذين يستضعفون في مشارق الأرض ومغاربها.
* * *
فإن قال قائل: فإن معناه: في مشارق أرض مصر ومغاربها = فإن ذلك بعيد من المفهوم في الخطاب، مع خروجه عن أقوال أهل التأويل والعلماء بالتفسير.
* * *
وأما قوله: (وتمت كلمة ربك الحسنى)، فإنه يقول: وَفَي وعدُ الله الذي وعد بني إسرائيل بتمامه، على ما وعدهم، من تمكينهم في الأرض، ونصره إياهم على عدوّهم فرعون = و"كلمته الحسنى"، قوله جل ثناؤه: (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
١٥٠٤٨ - حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: (وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل)، قال: ظهرَ قوم موسى على فرعون، و "تمكين الله لهم في الأرض"، وما ورَّثهم منها. (١)
١٥٠٤٩ - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد بنحوه.
* * *
وأما قوله: (ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه)، فإنه يقول: وأهلكنا ما كان فرعون وقومه يصنعونه من العِمارات والمزارع = (وما كانوا يعرشون)، يقول: وما كانوا يبنون من الأبنية والقصور، وأخرجناهم من ذلك كله، وخرَّبنا جميع ذلك.
* * *
وقد بينا معنى "التعريش"، فيما مضى بشواهده. (٢) وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
١٥٠٥٠ - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قوله: (وما كانوا يعرشون)، يقول: يبنون.
(٢) انظر تفسير ((التعريش)) فيما سلف ١٢: ١٥٦.
١٥٠٥٢ - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
* * *
واختلفت القرأة في قراءة ذلك.
فقرأته عامة قرأة الحجاز والعراق: (يَعْرِشُونَ)، بكسر الراء = سوى عاصم بن أبي النجود، فإنه قرأه بضمّها.
* * *
قال أبو جعفر: وهما لغتان مشهورتان في العرب، يقال: "عَرَش يعرِش ويعْرُش. فإذا كان ذلك كذلك، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب لاتّفاق مَعْنَيي ذلك، (٢) وأنهما معروفان من كلام العرب. وكذلك تفعل العرب في "فَعَل"، إذا ردّته إلى الاستقبال، تضمُّ العين منه أحيانًا، وتكسره أحيانًا. غير أن أحبَّ القراءتين إليّ كسر "الراء"، لشهرتها في العامة، وكثرة القرأة بها، وأنها أصحُّ اللغتين.
* * *
(٢) في المطبوعة: ((معني ذلك)) بالأفراد، وأثبت ما في المخطوطة بالتثنية.
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وقطعنا ببني إسرائيل البحر بعد الآيات التي أريناهموها، والعبر التي عاينوها على يدي نبيّ الله موسى، فلم تزجرهم تلك الآيات، ولم تعظهم تلك العبر والبينات! حتى قالوا = مع معاينتهم من الحجج ما يحق أن يذكُرَ معها البهائم، إذ مرُّوا على قوم يعكفون على أصنام لهم، يقول: يقومون على مُثُل لهم يعبدونها من دون الله (١) = "اجعل لنا" يا موسى "إلهًا"، يقول: مثالا نعبده وصنما نتخذُه إلهًا، كما لهؤلاء القوم أصنامٌ يعبدونها. ولا تنبغي العبادة لشيء سوى الله الواحد القهار. وقال موسى صلوات الله عليه: إنكم أيها القوم قوم تجهلون عظمة الله وواجبَ حقه عليكم، ولا تعلمون أنه لا تجوز العبادة لشيء سوى الله الذي له ملك السموات والأرض.
* * *
وذكر عن ابن جريج في ذلك ما: -
١٥٠٥٣ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج: (وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم)، قال ابن جريج: "على أصنام لهم"، قال: تماثيل بقر. فلما كان عجل السامريّ شبِّه لهم أنه من تلك البقر، فذلك كان أوّل شأن العجل: (قالوا يا موسى اجعل لنا إلهًا كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون)،
* * *
* ذكر من قال ذلك:
١٥٠٥٤ - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا بشر بن عمرو قال، حدثنا العباس بن المفضل، عن أبي العوام، عن قتادة: (فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم)، قال: على لخم. (١)
* * *
وقيل: إنهم كانوا من الكنعانيين الذين أمر موسى عليه السلام بقتالهم. وقد:-
١٥٠٥٥ - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن الزهري: أن أبا واقد الليثي قال: خرجنا مع رسول الله ﷺ قبل حنين، فمررنا بِسدْرة، (٢) قلت: يا نبي الله، اجعل لنا هذه ذاتُ أنواط كما للكفار ذاتُ أنواط! وكان الكفار ينوطون سلاحهم بسدرة يعكفون حولها (٣) = فقال النبي صلى الله عليه وسلم: الله أكبر! هذا كما قالت بنو إسرائيل لموسى: "اجعل لنا إلهًا كما لهم آلهة"، إنكم ستركبون سنن الذين من قبلكم. (٤)
١٥٠٥٦ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا
(٢) ((السدرة))، وواحدتها ((سدرة))، هو شجر النبق.
(٣) ((ناط الشيء ينوطه نوطا))، علقه. و ((الأنواط)) ما يعلق على الهودج أو غيره، وهي المعاليق.
(٤) الأثر: ١٥٠٥٥ - خبر أبي واقد الليثى، في ((ذات أنواط))، رواه أبو جعفر من أربع طرق، هذا أولها، وهو خبر مرسل، لأن الزهري لم يسنده. وسيأتي تخريجه في الذي يليه.
١٥٠٥٧- حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج قال، حدثنا حماد، عن محمد بن إسحاق، عن الزهري، عن سنان بن أبي سنان، عن أبي واقد الليثي، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، نحوه. (٢)
١٥٠٥٨ - حدثني المثنى قال، حدثنا ابن صالح قال، حدثني الليث قال، حدثني عقيل، عن ابن شهاب قال، أخبرني سنان بن أبي سنان الديلي، عن أبي واقد الليثي: أنهم خرجوا من مكة مع رسول الله ﷺ إلى حنين، قال: وكان للكفار سدرة يعكفون عندها، ويعلقون بها أسلحتهم، يقال لها "ذات أنواط، قال: فمررنا بسدرة خضراء عظيمة، قال: فقلنا: يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط. قال: "قلتم والذي نفسي بيده، ما قال قوم موسى: "اجعل لنا إلها كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون"، إنها السنن، لتركبن سَنَنَ من كان قبلكم. (٣)
* * *
(٢) الأثر: ١٥٠٥٧ - رواه ابن إسحق في سيرته ٤: ٨٤، عن ((أبي واقد الليثى، الحارث بن مالك قال: خرجنا مع رسول الله ﷺ إلى حنين، ونحن حديثو عهد بكفر))، وفي المطبوعة الحلبية ((أن الحارث بن مالك))، بزيادة ((أن))، وهي زيادة فاسدة، ليست في سائر النسخ.
(٣) الأثر: ١٥٠٥٨ - ((ابن صالح)) : هو ((عبد الله بن صالح الجهني المصري))، ((أبو صالح))، كاتب الليث بن سعد. وأسقط في المطبوعة والمخطوطة [حدثني المثنى قال]، وأبو جعفر لم يدرك أبا صالح، وإنما يروى عنه عن طريق ((المثنى))، كما سلف في إسناده الدائر في التفسير، وأقربه: ١٥٠٥٠: ((حدثنا المثنى، قال: حدثنا عبد الله بن صالح)). وقد رواه البخاري كما سترى عن أبي صالح مباشرة، فلذلك ثبت أنه قد سقط من الإسناد: [حدثني المثنى] فزدتها، وانظر مثل هذا الإسناد فيما سلف: ٢٣٥٠. والليث هو ((الليث بن سعد)) الإمام. و ((عقيل)) هو ((عقيل بن خالد الأيلي))، مضى برقم: ١٩، ٢٣٥٠، ثقة ثبت حجة. وهذا الخبر رواه أحمد من طريق حجاج، عن ليث بن سعد، بنحوه، ورواه البخاري مختصراً في تاريخه ٢/٢/١٦٤ قال: ((وقال لنا أبو صالح حدثني الليث، حدثني عقيل، عن ابن شهاب، أخبرنى سنان بن أبي سنان الدؤلى، ثم الجدرى، عن أبي واقد الليثى، سمع النبي صلى الله عليه وسلم: لتركبن سنن من قبلكم)). وزاد أحمد طريقاً أخرى في مسنده لخبر أبي واقد، طريق مالك بن أنس، عن الزهرى، عن سنان ابن أبي سنان (المسند رقم ٥: ٢١٨). ورواه أبو داود الطيالسي في مسنده: ١٩١ من طريق إبراهيم بن سعد الزهرى، عن [الزهرى]، عن سنان بن أبي سنان، نحوه. وفي المسند إسقاط [الزهرى]. وخرجه السيوطي في الدر المنشور ٣: ١١٤، وزاد نسبته لابن أبي شيبة، والنسائي، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ، وابن مردوية. و ((السنن)) (بفتحتين) : نهج الطريق.
قال أبو حعفر: وهذا خبر من الله تعالى ذكره عن قيل موسى لقومه من بني إسرائيل. يقول تعالى ذكره: قال لهم موسى: إن هؤلاء العُكوف على هذه الأصنام، الله مُهْلِكٌ ما هم فيه من العمل ومفسده، ومخسرهم فيه، بإثابته إياهم عليه العذاب المهين = "وباطل ما كانوا يعملون"، من عبادتهم إياها، فمضمحلّ، لأنه غير نافعهم عند مجيء أمر الله وحلوله بساحتهم، (١) ولا مدافع عنهم بأسَ الله إذا نزل بهم، ولا منقذهم من عذابه إذا عذبهم في القيامة، فهو في معنى ما لم يكن. (٢)
* * *
(٢) انظر تفسير ((الباطل)) فيما سلف من فهارس اللغة (بطل).
* ذكر من قال ذلك:
١٥٠٥٩ - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل، = حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد = قالا جميعًا، حدثنا أسباط، عن السدي: (إن هؤلاء متبر ما هم فيه)، يقول: مهلك ما هم فيه.
١٥٠٦٠ - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قوله: (إن هؤلاء متبر ما هم فيه)، يقول: خُسْران.
١٥٠٦١ - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (إن هؤلاء متبر ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون)، قال: هذا كله واحد كهيئة: "غفور رحيم"، "عفوّ غفور". قال: والعرب تقول: "إنه البائس لمُتَبَّرٌ"، "وإنه البائس لَمُخَسَّرٌ.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (١٤٠) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: قال موسى لقومه: أسِوَى الله ألتمسكم إلهًا، وأجعل لكم معبودًا تعبدونه، (١) والله الذي هو خالقكم، فضلكم على عالمي دهركم وزمانكم؟ (٢) يقول: أفأبغيكم معبودًا لا ينفعكم ولا يضركم تعبدونه، وتتركون عبادة من فضلكم على الخلق؟ إن هذا منكم لجهل!
(٢) انظر تفسير ((العالمين)) فيما سلف من فهارس اللغة (علم).
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لليهود من بني إسرائيل الذين كانوا بين ظهراني مهاجَر رسول الله صلى الله عليه وسلم: واذكروا مع قيلكم هذا الذي قلتموه لموسى بعد رؤيتكم من الآيات والعبر، وبعد النعم التي سلفت مني إليكم، والأيادي التي تقدمت = فعلَكم ما فعلتم = (إذ أنجيناكم من آل فرعون)، وهم الذين كانوا على منهاجه وطريقته في الكفر بالله من قومه (١) = (يسومونكم سوء العذاب)، يقول: إذ يحملونكم أقبح العذاب وسيئه. (٢)
* * *
وقد بينا فيما مضى من كتابنا هذا ما كان العذاب الذي كان يسومهم سيئه. (٣)
* * *
= (يقتلون أبناءكم)، الذكورَ من أولادهم = (ويستحيون نساءكم)، يقول: يستبقون إناثهم (٤) = (وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم)، يقول: وفي سومهم إياكم سوء العذاب، اختبار من الله لكم ونعمة عظيمة. (٥)
* * *
(٢) انظر تفسير ((السوم)) فيما سلف ٢: ٤٠.
(٣) انظر ما سلف ٢: ٤٠، ٤١.
(٤) انظر تفسير ((الاستحياء)) فيما سلف ٢: ٤١ - ٤٨ / ١٣: ٤١.
(٥) انظر تفسير ((البلاء)) فيما سلف ١٢: ٢٨٩، تعليق: ٢، والمراجع هناك. وكان في المطبوعة: ((وتعمد عظيم))، ولا معنى له، والصواب ما أثبت، وانظر ما سلف في تفسير نظيرة هذه الآية ٢: ٤٨، ٤٩، فمنه استظهرت الصواب.
قال أبوجعفر: يقول تعالى ذكره: وواعدنا موسى لمناجاتنا ثلاثين ليلة. (١) وقيل: إنها ثلاثون ليلة من ذي القعدة. = (وأتممناها بعشر)، يقول: وأتممنا الثلاثين الليلة بعشر ليال تتمة أربعين ليلة.
* * *
وقيل: إن العشر التي أتمها به أربعين، عشر ذي الحجة.
* ذكر من قال ذلك.
١٥٠٦٢ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن ليث، عن مجاهد: (وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر)، قال: ذو القعدة، وعشر ذي الحجة.
١٥٠٦٣ -... قال، حدثنا جرير، عن ليث، عن مجاهد: (وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر)، قال: ذو القعدة، وعشر ذي الحجة. ففي ذلك اختلفوا. (٢)
١٥٠٦٤ - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (وواعدنا موسى ثلاثين ليلة)، هو ذو القعدة، وعشر من ذي الحجة، فذلك قوله: (فتم ميقات ربه أربعين ليلة).
١٥٠٦٥ - حدثني محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا المعتمر بن سليمان، عن أبيه قال: زعم حضرميٌّ أن الثلاثين التي كان واعدَ موسى ربه، كانت
(٢) الأثر: ١٥٠٦٣ - وضعت النقط، لأنه اختصار أراد به أن صدر الإسناد هو صدر الإسناد الذي قبله، وقد مضى مثل ذلك مرارًا ولم أشر إليه، فآثرت منذ الآن، أن أضع النقط تنبيهاً على ذلك، فهو رواية سفيان بن وكيع، عن جرير، كما مضى مرارًا مثل هذا الإسناد.
١٥٠٦٦ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد: (وواعدنا موسى ثلاثين ليلة)، قال: ذو القعدة. (وأتممناها بعشر)، قال: عشر ذي الحجة = قال ابن جريج: قال ابن عباس مثله.
١٥٠٦٧ - حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا أبو سعد قال، سمعت مجاهدًا يقول في قوله: (وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر)، قال: ذو القعدة، والعشر الأوَل من ذي الحجة.
١٥٠٦٨ -... قال: حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن مسروق: (وأتممناها بعشر)، قال: عشر الأضحى.
* * *
وأما قوله: (فتم ميقات ربه أربعين ليلة)، فإنه يعني: فكمل الوقت الذي واعد الله موسى أربعين ليلة، (١) وبلغها. كما:-
١٥٠٦٩ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج: (فتم ميقات ربه)، قال: فبلغ ميقات ربه أربعين ليلة.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿وَقَالَ مُوسَى لأخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (١٤٢) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: لما مضى لموعد ربه قال لأخيه هارون: (اخلفني في قومي)، يقول: كن خليفتي فيهم إلى أن أرجع.
* * *
* * *
(وأصلح)، يقول: وأصلحهم بحملك إياهم على طاعة الله وعبادته، كما:-
١٥٠٧٠ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: "وقال موسى لأخيه هارون اخلفني في قومي وأصلح"، وكان من إصلاحه أن لا يدع العجل يُعْبد.
* * *
وقوله: (ولا تتبع سبيل المفسدين)، يقول: ولا تسلك طريق الذين يفسدون في الأرض، بمعصيتهم ربهم، ومعونتهم أهل المعاصي على عصيانهم ربهم، ولكن اسلك سبيل المطيعين ربهم. (٢)
* * *
وكانت مواعدة الله موسى عليه السلام بعد أن أهلك فرعون، ونجَّى منه بني إسرائيل، فيما قال أهل العلم، كما:-
١٥٠٧١ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني الحجاج، عن ابن جريج قوله: (وواعدنا موسى ثلاثين ليلة)، الآية، قال: يقول: إن ذلك بعد ما فرغ من فرعون وقبل الطور، لما نجى الله موسى عليه السلام من البحر وغرّق آل فرعون، وخلص إلى الأرض الطيبة، أنزل الله عليهم فيها المنّ والسلوى، وأمره ربه أن يلقَاه، فلما أراد لقاء ربه، استخلف هارون على قومه، وواعدهم أن يأتيهم إلى ثلاثين ليلة، ميعادًا من قِبَله، من غير أمر ربه ولا ميعاده. فتوجه ليلقى ربه، فلما تمت ثلاثون ليلة، قال عدو الله السامريُّ: ليس يأتيكم موسى، وما يصلحكم إلا إله تعبدونه! فناشدهم هارون وقال: لا تفعلوا، انظروا ليلتكم هذه ويومكم هذا، فإن جاء وإلا فعلتم ما بدا لكم! فقالوا: نعم! فلما أصبحوا
(٢) انظر تفسير ((اتبع)) و ((الفساد)) فيما سلف من فهارس اللغة (تبع) (فسد).
١٥٠٧٢ - قال القاسم، قال الحسين، حدثني حجاج قال، حدثني أبو بكر بن عبد الله الهذليّ قال: قام السامري إلى هارون حين انطلق موسى فقال: يا نبي الله، إنا استعرنا يوم خرجنا من القبط حليًّا كثيرًا من زينتهم، وإن الجند الذين معك قد أسرعوا في الحلي يبيعونه وينفقونه، (٣) وإنما كان عارية من آل فرعون، فليسوا بأحياء فنردّها عليهم، ولا ندري لعل أخاك نبيّ الله موسى إذا جاء يكون له فيها رأي، إما يقرّبها قربانا فتأكلها النار، وإما يجعلها للفقراء دون الأغنياء! فقال له هارون: نِعْمَ ما رأيت وما قلت! فأمر مناديًا فنادى: من كان عنده شيء من حليّ آل فرعون فليأتنا به! فأتوه به، فقال هارون: يا سامري أنت أحق من كانت عنده هذه الخزانة! فقبضها السامري، وكان عدو الله الخبيث صائغًا، فصاغ منه عجلا جسدًا، ثم قذف في جوفه تُرْبة من القبضة التي قبض من أثر فرس جبريل عليه السلام إذ رآه في البحر، فجعل
(٢) الأثر ١٥٠٧١ - هذا خبر لم يتم كما ترى، ولم أجده في مكان آخر. وسبب ذلك أن قوله ((فلما لم يروه)) هو في المخطوطة في آخر الصفحة اليسرى، ثم بدأ بعدها: ((قال القاسم))، فظاهر أن الناسخ عجل، فأسقط من الخبر تمامه، لما قلب الصفحة، وبدأ الخبر التالي بعده.
(٣) (٣) في المطبوعة: ((وإن الذين معك))، حذف ((الجند))، لأنها غير منقوطة، فلم يحسن قراءتها.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي﴾
قال أبوجعفر: يقول تعالى ذكره: ولما جاء موسى للوقت الذي وعدنا أن يلقانا فيه (١) = "وكلمه ربه"، وناجاه = " قال" موسى لربه = (أرني أنظر إليك)، قال الله له مجيبًا: " (لن تراني ولكن انظر إلى الجبل).
* * *
وكان سبب مسألة موسى ربه النظر إليه، ما:-
١٥٠٧٣ - حدثني به موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: إن موسى عليه السلام لما كلمه ربه، أحب أن ينظر إليه = قال: "رب أرني أنظر إليك قال لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني"، فحُفَّ حول الجبل [بملائكة]، (٢) وحُفَّ حول الملائكة بنار، وحُفّ حول النار بملائكة، وحُفّ حول الملائكة بنار، ثم تجلى ربه للجبل.
١٥٠٧٤ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن
(٢) هذه الزيادة بين القوسين يقتضيها السياق.
١٥٠٧٥ - حدثنا القاسم قال، حدثني الحسين قال، حدثني حجاج، عن أبي بكر الهذلي قال: لما تخلف موسى عليه السلام بعد الثلاثين، حتى سمع كلام الله، اشتاق إلى النظر إليه فقال: (ربّ أرني أنظر إليك! قال: لن تراني)، وليس لبشر أن يطيق أن ينظر إليّ في الدنيا، من نظر إلي مات! قال: إلهي سمعت منطقك، واشتقت إلى النظر إليك، ولأن أنظر إليك ثم أموتُ أحب إليّ من أن أعيش ولا أراك! قال: فانظر إلى الجبل، فإن استقر مكانه فسوف تراني.
١٥٠٧٦ - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: (أرني انظر إليك)، قال: أعطني.
١٥٠٧٧ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال: استخلف موسى هارون على بني إسرائيل وقال: إني متعجل إلى ربي، فاخلفني في قومي ولا تتبع سبيل المفسدين. فخرج موسى إلى ربه متعجلا للقيّه شوقًا إليه، وأقام هارون في بني إسرائيل، ومعه السامري يسير بهم على أثر موسى ليلحقهم به. فلما كلم الله موسى، طمع في رؤيته، فسأل ربه أن ينظر إليه، فقال الله لموسى: إنك لن تراني، (ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني)، الآية. قال ابن إسحاق: فهذا ما وصل إلينا في كتاب الله عن خبر موسى لما طلب النظر إلى ربه، وأهل الكتاب يزعمونَ وأهلُ التوراة: أنْ قد كان لذلك تفسير وقصة وأمور كثيرة، ومراجعة لم تأتنا في كتاب الله، والله أعلم. =
قال ابن إسحاق عن بعض أهل العلم الأوّل بأحاديث أهل الكتاب، إنهم
* * *
(٢) في المخطوطة والمطبوعة: ((بعثت الريح))، ولا أشك أن الصواب ما أثبت، ويعني بذلك ما قال الله سبحانه في ((سورة غافر)) ١٥: " رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ "
(٣) في المطبوعة: ((لما أردت من عبادك)) وفي المخطوطة: ((ما أردت))، والصواب ما أثبت.
(٤) في المطبوعة: (وإن أردت شكرك لا أستطيعها))، وفي المخطوطة: ((وإن أرد شكرك لا أستطيعها))، والصواب ما أثبت.
(٥) في المطبوعة: ((جزت))، وأثبت ما في المخطوطة، وهو صواب أيضاً.
(٦) في المطبوعة: ((مشرقي لننفسى))، وهذه جملة مضطربة لا أدرى ما صوابها.
(٧) في المطبوعة والمخطوطة: ((لا أستطيعها))، والصواب ما أثبت.
(٨) في المطبوعة: ((فلا ترى)) وأثبت ما في المخطوطة.
(٩) هذه العبارة التي بين القوسين، لم أدر ما هي، قد جاءت في المخطوطة هكذا: ((في السماء معمرى... ))، وسائر الجملة كما في المطبوعة. وأنا في شك من ألفاظها، ولم أستطع أن اهتدي إلى تحريفها، فوضعتها بين القوسين. والخبر كله مضطرب اللفظ، ولم أجده في مكان آخر. فلذلك تركته كما هو، إلا أن يكون خطأ ظاهراً.
(١٠) في المطبوعة: ((هذا الذي سألتك))، وأثبت ما في المخطوطة. وكذلك كانت في المطبوعة في الجملة التالية.
(١١) في المطبوعة: "هذا الذي سألتك ليس لي أن أراك فأموت " زادها قياسًا على السالف قبلها وأثبت ما في المخطوطة.
(١٢) هذه الكلمة بين القوسين (هكذا في المخطوطة). ولا أدري ما قراءتها. وأما في المطبوعة فقد حذفها وغير ما بعدها وكتب: "وأعطيتك" مكان "لأعطينك".
(١٣) ((النغر)) (بضم ففتح) : ضرب من الطير حمر المناقير وأصول الأحناك، يقال: هو البلبل عند أهل المدينة.
(١٤) ((اللجب)) (بفتحتين) : ارتفاع الأصوات واختلاطها.
(١٥) في المطبوعة والمخطوطة: ((خير الملائكة)) وكأن الصواب ((كبير الملائكة))، كما أثبثها، وقد جاءت ((خير الملائكة)) في جميع المواضع الآتية، الأخير منها فقد كتبت علي الصواب: ((كبير)).
(١٦) في المطبوعة: ((نخف))، وفي المخطوطة: ((قصف)) غير منقوطة، وصواب قراءتها ما أثبت. و ((القصف)) و ((القصيف)) صوت الرعد وما أشبهه.
(١٧) في المطبوعة: ((أو كلهب)) بزيادة ((أو)) وأثبت ما في المخطوطة.
(١٨) في المطبوعة: ((وأيست نفسه، وأساء ظنه)) وأثبت ما في المخطوطة وهو الصواب. يقال: ((أسيت نفسه)) أي: حزنت. وانظر تفسير ((ساء ظنه)) فيما سلف ٣: ٥٨٥، تعليق: ١، ومعناه: خامرته الظنون السيئة.
(١٩) انظر التعليق السالف ص: ٩٥، تعليق: ١.
(٢٠) في المطبوعة أسقط ((الروح)) من الجملة.
(٢١) هكذا في المخطوطة والمطبوعة: ((كالمعدة))، ولا أدري أيصح هذا أم لا؟
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فلما اطّلع الرب للجبل، جعل الله الجبل دكًّا، أي: مستويًا بالأرض = (وخر موسى صعقًا)، أي: مغشيا عليه. (١)
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
١٥٠٧٨ - حدثني الحسين بن محمد بن عمرو العنقزي قال، حدثني أبي قال، حدثنا أسباط، عن السدي، عن عكرمة، عن ابن عباس في قول الله: (فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا)، قال: ما تجلى منه إلا قدر الخنصر = (جعله دكًّا، قال: ترابًا = (وخر موسى صعقًا)، قال: مغشيًّا عليه.
١٥٠٧٩ - حدثنا موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط قال: زعم السدي، عن عكرمة، عن ابن عباس أنه قال: تجلى منه مثل الخِنصر، فجعل الجبل دكَّا، وخر موسى صعقًا، فلم يزل صعقًا ما شاء الله.
١٥٠٨٠ - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (وخر موسى صعقا)، قال: مغشيًّا عليه.
١٥٠٨١ - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (فلما تجلى ربه للجبل جعله دكًّا)، قال انقعر بعضه على بعض = (وخر موسى صعقًا)، أي: ميتا.
١٥٠٨٢ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج: (وخر موسى صعقًا)، أي: ميتًا.
١٥٠٨٤ - حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك قال: سمعت سفيان يقول في قوله: (فلما تجلى ربه للجبل جعله دكًّا)، قال: ساخ الجبل في الأرض، حتى وقع في البحر فهو يذهب معه.
١٥٠٨٥ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين، عن الحجاج، عن أبي بكر الهذلي: (فلما تجلى ربه للجبل جعله دكًّا)، انقعر فدخل تحت الأرض، فلا يظهر إلى يوم القيامة.
١٥٠٨٦ - حدثنا أحمد بن سهيل الواسطي قال، حدثنا قرة بن عيسى قال، حدثنا الأعمش، عن رجل، عن أنس عن النبي ﷺ قال: "لما تجلى ربه للجبل أشار بأصبعه فجعله دكًّا" = وأرانا أبو إسماعيل بأصبعه السبابة. (١)
١٥٠٨٧ - حدثني المثنى قال، حدثني الحجاج بن المنهال قال، حدثنا حماد، عن ثابت، عن أنس: أن النبي ﷺ قرأ هذه الآية: (فلما تجلى ربه للجبل جعله دكًّا)، قال هكذا بإصبعه، (٢) =ووضع النبي ﷺ الإبهام على المفصل الأعلى من الخنصر =فساخ الجبل". (٣)
(٢) ((قال)) هنا بمعني: أشار.
(٣) الأثر: ١٥٠٨٧ - ((حماد))، هو حماد بن سلمة))، مضى مرارًا. و ((ثابت)) هو ثابت بن أسلم البنانى))، ثقة، روى له الجماعة: مضى برقم: ٢٩٤٢، ٧٠٣٠. وهو إسناد رجالة ثقات. وهذا الخبر رواه الترمذي في تفسير الآية، من طريق سليمان بن حرب، عن حماد، ثم قال ((هذا حديث صحيح غريب، لا نعرفه إلا من حديث حماد بن سلمة)). وذكره ابن كثير في تفسيره ٣: ٥٤٦، عن هذا الموضع في تفسير الطبري، ولكنه كتب إسناده هكذا: ((حدثنا حماد، عن ليث، عن أنس)) ثم قال: ((هكذا وقع في هذا الرواية: ((حماد بن سلمة، عن ثابت، عن ليث، عن أنس)) وليس ذلك كما نقل، فان الثابت في المخطوطة والمطبوعة، ((حماد، عن ثابت، عن أنس))، ليس فيها ((ليث))، فلا أدرى كيف وقع هذا للحافظ ابن كثير، ولا من أين؟. وانظر تخريج الأثر التالي.
١٥٠٨٩ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: (فلما تجلى ربه للجبل جعله دكًّا وخرّ موسى صعقًا)، وذلك أن الجبل حين كُشِف الغطاء ورأى النور، صار مثل دكّ من الدكَّات. (٢)
(٢) (٢) لعل صواب من ((الدكاوات))، كما سيأتي في ص: ١٠١، تعليق: ١.
* * *
واختلفت القرأة في قراءة قوله: (دكًّا). فقرأته عامة قراء أهل المدينة والبصرة: (دكًّا)، مقصورًا بالتنوين بمعنى: "دكّ الله الجبل دكًّا" أي: فتته، واعتبارًا بقول الله: (كَلا إِذَا دُكَّتِ الأرْضُ دَكًّا دَكًّا)، [سورة الفجر: ٢١] وقوله: (وَحُمِلَتِ الأرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً)، [سورة الحاقة: ١٤] واستشهد بعضهم على ذلك بقول حميد: (٢) يَدُكُّ أَرْكَانَ الجِبَال هَزَمُهْ تَخْطُرِ بِالبِيضِ الرِّقَاقِ بُهَمُهْ (٣)
* * *
وقرأته عامة قرأة الكوفيين: "جَعَلَهُ دَكَّاءَ"، بالمد وترك الجر والتنوين، مثل
* * *
(٢) حميد، هو حميد الأرقط.
(٣) لم أجد البيتين في مكان، وفي تاريخ الطبري ٧: ٤١، أبيات من رجز، كأن الذي هنا من تمامها. وكان في المطبوعة هنا: ((هدمه))، والصواب ما أثبت، والمخطوطة غير منقوطة، وكأنها هناك راء مهملة لا دال. و ((الهزم)) (بفتحتين) و ((الهزيم)) هو صوت الرعد الذي يشبه التكسر، ومثله قول رؤبة في صفة جيش لجب: * يُرْجِفُ أَنْضَادَ الجِبَالِ هَزَمَهُ *
و ((تخطر)) أي تمشى متمايلة، تهز سيوفها معجبة مدلة بقوتها وبأسها و ((البهم)) جمع ((بهمة)) (بضم فسكون) : وهو الفارس الشجاع الذي لا يدرى من أين يؤتى له، ولا من أين يدخل عليه مقاتله، من شدة بأسه ويقظته. و ((البيض الرقاق)) : السيوف الرقيقة من حسن صقلها.
١٥٠٩١- حدثني به أحمد بن يوسف قال، حدثنا القاسم بن سلام قال، حدثنا عباد بن عباد، عن يزيد بن حازم، عن عكرمة قال: "دكَّاء من الدكَّاوات". وقال: لما نظر الله تبارك وتعالى إلى الجبل صار صَحراء ترابًا. (١)
* * *
واختلف أهل العربية في معناه إذا قرئ كذلك.
فقال بعض نحويي البصرة: العرب تقول: "ناقة دكَّاء"، ليس لها سنام. وقال: "الجبل" مذكر، فلا يشبه أن يكون منه، إلا أن يكون جعله: "مثل دكاء"، حذف "مثل"، وأجراه مجرى: (وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ) [سورة يوسف: ٨٢].
* * *
وكان بعض نحويي الكوفة يقول: معنى ذلك: جعل الجبل أرضًا دكاء، ثم حذفت "الأرض"، وأقيمت "الدكاء" مقامها، إذْ أدَّت عنها.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القراءتين في ذلك بالصواب عندي، قراءةُ من قرأ: (جَعَلَهُ دَكَّاءَ)، بالمد وترك الجر، لدلالة الخبر الذي رويناه عن رسول الله ﷺ على صحته. وذلك أنه روي عنه ﷺ أنه قال: "فساخ الجبل"، (٢) ولم يقل: "فتفتت" ولا "تحول ترابًا". ولا شك أنه إذا ساخ فذهب، ظهرَ وجهُ الأرض، فصار بمنزلة الناقة التي قد ذهب سنامها، وصارت
(٢) (٢) يعني في الأثرين رقم ١٥٠٨٧، ١٥٠٨٨
* * *
فمعنى الكلام إذًا: فلما تجلى ربه للجبل ساخ، فجعل مكانه أرضًا دكاء. وقد بينا معنى "الصعق" بشواهده فيما مضى، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (٢)
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (١٤٣) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فلما ثاب إلى موسى عليه السلام فهمه من غشيته، وذلك هو الإفاقة من الصعقة التي خرّ لها موسى صلى الله عليه وسلم= " قال سبحانك"، تنزيهًا لك، يا رب، وتبرئةً أن يراك أحد في الدنيا، (٣) ثم يعيش = "تبت إليك"، من مسألتي إياك ما سألتك من الرؤية= "وأنا أوّل المؤمنين"، بك من قومي، أن لا يراك في الدنيا أحد إلا هلك.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
١٥٠٩٢- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبد الله بن موسى، عن أبي
(٢) (٢) انظر تفسير ((الصعق)) فيما سلف ٢: ٨٣، ٨٤ /: ٣٥٩.
(٣) (٣) انظر تفسير ((سبحان)) فيما سلف ١٢: ١٠، تعليق ١، والمراجع هناك.
١٥٠٩٣- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قال: لما رأى موسى ذلك وأفاق، عرف أنه قد سأل أمرًا لا ينبغي له، فقال: "سبحانك تبت إليك وأنا أوّل المؤمنين"، قال أبو العالية: عنى: إني أوّل من آمن بك أنه لن يراك أحدٌ قبل يوم القيامة.
١٥٠٩٤- حدثني عبد الكريم بن الهيثم قال، حدثنا إبراهيم بن بشار قال، قال سفيان، قال أبو سعد، عن عكرمة، عن ابن عباس: "وخر موسى صعقًا"، فمرّت به الملائكة وقد صعق، فقالت: يا ابن النساء الحيَّض، لقد سألت ربك أمرًا عظيمًا! فلما أفاق قال: سبحانك لا إله إلا أنت تبت إليك وأنا أوّل المؤمنين! قال: أنا أوّل من آمن أنه لا يراك أحدٌ من خلقك = يعني: في الدنيا.
١٥٠٩٥- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: "قال سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين"، يقول: أنا أوّل من يؤمن أنه لا يراك شيء من خلقك.
١٥٠٩٦- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن رجل، عن مجاهد: "سبحانك تبت إليك"، قال: من مسألتي الرؤية.
١٥٠٩٧- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا أبو سعد، عن مجاهد: "قال سبحانك تبت إليك"، أن أسألك الرؤية.
١٥٠٩٨- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو نعيم، عن سفيان، عن عيسى بن ميمون، عن رجل، عن مجاهد: "سبحانك تبت إليك"، أن أسألك الرؤية.
١٥٠٩٩- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا
* * *
وقال آخرون: معنى قوله: وأنا أول المؤمنين بك من بني إسرائيل.
* ذكر من قال ذلك:
١٥١٠٠- حدثني الحسين بن عمرو بن محمد العنقزي قال، حدثنا أبي قال، حدثنا أسباط، عن السدي، عن عكرمة، عن ابن عباس: "وأنا أول المؤمنين"، قال: أول من آمن بك من بني إسرائيل.
١٥١٠١- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي، عن عكرمة، عن ابن عباس: "وأنا أول المؤمنين"، يعني: أول المؤمنين من بني إسرائيل.
١٥١٠٢- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله: "وأنا أول المؤمنين"، أنا أول قومي إيمانًا.
١٥١٠٣- حدثنا ابن وكيع والمثنى قالا حدثنا أبو نعيم، عن سفيان، عن عيسى بن ميمون، عن رجل، عن مجاهد: "وأنا أول المؤمنين"، يقول: أول قومي إيمانًا.
١٥١٠٤- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: "وأنا أول المؤمنين"، قال: أنا أول قومي إيمانًا.
١٥١٠٥- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا أبو سعد قال، سمعت مجاهدًا يقول في قوله: "وأنا أول المؤمنين"، قال: أول قومي آمن.
* * *
قال أبو جعفر: وإنما اخترنا القول الذي اخترناه في قوله: "وأنا أول المؤمنين"،
* * *
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره، قال الله لموسى: "يا موسى إني اصطفيتك على الناس"، يقول: اخترتك على الناس (١) = "برسالاتي" إلى خلقي، أرسلتك بها إليهم = "وبكلامي"، كلمتك وناجيتك دون غيرك من خلقي. = "فخذ ما آتيتك" يقول: فخذ ما أعطيتك من أمري ونهيي وتمسك به، واعمل به [... ] (٢) = "وكن من الشاكرين"، لله على ما آتاك من رسالته، وخصك به من النجوى، (٣) بطاعته في أمره ونهيه، والمسارعة إلى رضاه.
* * *
(٢) (٢) في المطبوعة: ((واعمل به يريد)) وفي المخطوطة: ((واعمل به يديك))، ولا معنى لذلك هنا، وكأنها محرفة عن ((بجد)) أو ما أشبه ذلك، ولكني لم أحسن معرفتها، فتركت مكانها نقطا بين قوسين. وانظر تفسير قوله في ((سورة البقرة)) : ٦٣ ((خذوا ما آتيناكم بقوة)) ج٢: ١٦٠، ١٦١.
(٣) (٣) في المطبوعة والمخطوطة: ((وحصل به من النجوى))، وصواب قراءتها ما أثبت.
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وكتبنا لموسى في ألواحه.
* * *
وأدخلت الألف واللام في "الألواح" بدلا من الإضافة، كما قال الشاعر: (١)
والأحْلامُ غَيْرُ عَوَازِب (٢)
وكما قال جل ثناؤه: (فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى)، [سورة النازعات: ٤١]، يعني: هي مأواه. (٣)
* * *
وقوله: "من كل شيء"، يقول: من التذكير والتنبيه على عظمة الله وعز سلطانه= "موعظة"، لقومه ومن أمر بالعمل بما كتب في الألواح (٤) = "وتفصيلا لكل شيء"، يقول: وتبيينًا لكل شيء من أمر الله ونهيه. (٥)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
١٥١٠٦- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد =: أو سعيد بن جبير، وهو في أصل
(٢) (٢) مضى البيت وتخريجه وشرحه فيما سلف ٥: ١٦٠، تعليق: ٣، ولم يذكر هناك موضعه هناك، فليقيد، والبيت، بروايته آنفاً:
لَهُمْ شِيمَةٌ لم يُعْطِها الدَّهْرُ غَيْرَهُمْ | من الناسِ، فَالأحْلامُ غَيْرُ عَوَازِبِ |
(٤) (٤) انظر تفسير ((الموعظة)) فيما سلف من فهارس اللغة (وعظ).
(٥) (٥) انظر تفسير ((التفصيل)) فيما سلف ص: ٦٨، تعليق: ٥، والمراجع هناك.
١٥١٠٧- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، بنحوه.
١٥١٠٨- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: "وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلاً لكل شيء"، من الحلال والحرام.
١٥١٠٩- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا أبو سعد قال، سمعت مجاهدا يقول في قوله: "وتفصيلاً لكل شيء"، قال: ما أمروا به ونهوا عنه.
١٥١١٠- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: "وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلا لكل شيء"، قال عطية: (١) أخبرني ابن عباس: أن موسى ﷺ انْصَلتَ لما كربه الموت، (٢) قال: هذا من أجل آدم! قد كان الله جعلنا في دار مثوًى لا نموت، فخطأ آدم أنزلنا هاهنا! فقال الله لموسى: أبعث إليك آدم فتخاصمه؟ قال: نعم! فلما بعث الله آدم، سأله
(٢) (٢) في المطبوعة، والدر المنثور ٣: ٢١: ((أن موسى ﷺ لما كربه الموت)). أسقط الذي كتبت: ((انصلت))، وهي في المخطوطة هكذا: ((الطيب)) غير منقوطة، ولم أجد لها لفظاً يطابق رسمها، ويجرى في معناها أقرب من ((انصلت)). يقال: ((انصلت في الأمر))، إذا انجرد وأسرع. يقال: ((انصلت يعدو)) إذا أسرع، و ((المنصلت)) : المسرع من كل شيء. وقد روى البخاري في صحيحة، عن أبي هريرة قال: أرسل ملك الموت إلى موسى عليه السلام. فلما جاءه صكه فرجع إلى ربه عز وجل فقال: أرسلتني إلى عبد لا يريد أن يموت، الحديث. فكأن هذا كان منه لما كره الموت وأبغضه، فأسرع لما رآه يقول ما قال. هذا ما رأيت، وفوق كل ذي علم عليم. وانظر أخبار وفاة موسى عليه السلام في البداية والنهاية ١: ٣١٦ - ٣١٩.
١٥١١١- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن عبد الصمد بن معقل: أنه سمع وهبًا يقول في قوله: "وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلا لكل شيء"، قال: كتب له: لا تشرك بي شيئًا من أهل السماء ولا من أهل الأرض، فإن كل ذلك خلقي. لا تحلف باسمي كاذبًا، فإن من حلف باسمي كاذبًا فلا أزكِّيه، ووقِّر والديك.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وقلنا لموسى إذ كتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلا لكل شيء: خذ الألواح بقوة.
* * *
وأخرج الخبر عن "الألواح"، والمراد ما فيها.
* * *
(٢) (٢) الأثر: ١٥١١٠ - هذا خبر ضعيف الإسناد جداً، كما سلف في شرح إسناده رقم: ٣٠٥. واحتجاج آدم وموسى عليهما السلام، روى خبره البخاري ومسلم، وسائر كتب السنن، وانظر فصلا جيداً جمعه ابن كثير في البداية والنهاية ١: ٨١ - ٨٥. ويقال: ((خاصمه، فخصمه)) أي غلبه في الخصام. وهو الاحتجاج.
فقال بعضهم: معناها بجدٍّ.
* ذكر من قال ذلك:
١٥١١٢- حدثني عبد الكريم قال، حدثنا إبراهيم بن بشار قال، حدثنا ابن عيينة قال، قال أبو سعد، عن عكرمة، عن ابن عباس: "فخدها بقوة"، قال: بجدّ.
١٠١١٣- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي: "فخذها بقوّة"، قال: بجد واجتهاد.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك، فخذها بالطاعة لله.
* ذكر من قال ذلك:
١٥١١٤- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرحمن بن سعد قال، أخبرنا أبو جعفر، عن الربيع بن أنس في قوله: "فخذها بقوة"، قال: بالطاعة.
* * *
وقد بينا معنى ذلك بشواهده، واختلاف أهل التأويل فيه، في "سورة البقرة" عند قوله: (خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ) [سورة البقرة: ٦٣] فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع. (١)
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: قلنا لموسى: "وأمر قومك"، بني إسرائيل = "يأخذوا بأحسنها"، يقول: يعملوا بأحسن ما يجدون فيها، كما:-
١٥١١٦- حدثني عبد الكريم قال، حدثنا إبراهيم قال، حدثنا سفيان قال، حدثنا أبو سعد، عن عكرمة، عن ابن عباس: "وأمر قومك يأخذوا بأحسنها"، قال: أمر موسى أن يأخذها بأشدّ مما أمر به قومه.
* * *
فإن قال قائل: وما معنى قوله: "وأمر قومك يأخذوا بأحسنها"، أكان من خصالهم ترك بعض ما فيها من الحسن؟.
قيل: لا ولكن كان فيها أمرٌ ونهيٌ، فأمرهم الله أن يعملوا بما أمرهم بعمله، ويتركوا ما نهاهم عنه، فالعمل بالمأمور به، أحسنُ من العمل بالمنهي عنه.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ (١٤٥) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لموسى، إذ كتب في الألواح من كل شيء: خذها بجدّ في العمل بما فيها واجتهاد، وأمر قومك يأخذوا بأحسن ما فيها، وانههم عن تضييعها وتضييع العمل بما فيها والشرك بي، فإن من أشرك بي منهم ومن غيرهم، فإني سأريه في الآخرة عند مصيره إليّ، "دارَ الفاسقين"، وهي نار الله التي أعدها لأعدائه. (١)
* * *
وإنما قال: "سأريكم دار الفاسقين"، كما يقول القائل لمن يخاطبه: "سأريك غدًا إلامَ يصير إليه حال من خالف أمري! "، على وجه التهدُّد والوعيد لمن عصاهُ وخالف أمره. (٢)
* * *
(٢) (٢) في المطبوعة ((على وجه التهديد)) وأثبت ما في المخطوطة، وهو محض الصواب.
فقال بعضهم بنحو ما قلنا في ذلك.
* ذكر من قال ذلك:
١٥١١٧- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: "سأريكم دار الفاسقين"، قال: مصيرهم في الآخرة.
١٥١١٨- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
١٥١١٩- حدثني المثنى قال، حدثنا مسلم قال، حدثنا مبارك، عن الحسن، في قوله: "سأريكم دار الفاسقين"، قال: جهنم.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: سأدخلكم أرض الشام، فأريكم منازل الكافرين الذين هم سكانها من الجبابرة والعمالقة.
* ذكر من قال ذلك:
١٥١٢٠- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: "سأريكم دار الفاسقين"، منازلهم.
١٥١٢١- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: "دار الفاسقين"، قال: منازلهم.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: سأريكم دار قوم فرعون، وهي مصر.
* ذكر من قال ذلك:
..................................................................................................
(١)
* * *
قال أبو جعفر: وإنما اخترنا القول الذي اخترناه في تأويل ذلك، لأن الذي قبل قوله جل ثناؤه: "سأريكم دار الفاسقين"، أمرٌ من الله لموسى وقومه بالعمل بما في التوراة. فأولى الأمور بحكمة الله تعالى أن يختم ذلك بالوعيد على من ضيّعه وفرَّط في العمل لله، وحاد عن سبيله، دون الخبر عما قد انقطع الخبر عنه، أو عما لم يجر له ذكر.
القول في تأويل قوله: ﴿سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ﴾
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في معنى ذلك.
فقال بعضهم: معناه: سأنزع عنهم فهم الكتاب.
* ذكر من قال ذلك:
١٥١٢٢- حدثنا أحمد بن منصور المروزي قال، حدثني محمد بن عبد الله بن بكر قال: سمعت ابن عيينة يقول في قول الله: "سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق"، قال يقول: أنزع عنهم فهم القرآن، وأصرفهم عن آياتي. (٢)
* * *
(٢) (٢) الأثر: ١٥١٢٢ - ((أحمد بن منصور بن سيار الرمادى))، شيخ الطبري، مضى برقم: ١٠٢٦٠، ١٠٥٢١. و ((محمد بن عبد الله بن بكر بن سليمان الخزاعى الصنعانى الخلنجى))، صدوق. روى عنه النسائى، وأبو حاتم وغيرهما. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم ٣/٢/٢٩٥.
* * *
وقال آخرون في ذلك: معناه: سأصرفهم عن الاعتبار بالحجج.
* ذكر من قال ذلك:
١٥١٢٣- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج: "سأصرف عن آياتي"، عن خلق السموات والأرض والآيات فيها، سأصرفهم عن أن يتفكروا فيها ويعتبروا.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله أخبر أنه سيصرف عن آياته، وهي أدلته وأعلامه على حقيقة ما أمر به عباده وفرض عليهم من طاعته في توحيده وعدله، (١) وغير ذلك من فرائضه. والسموات والأرض، وكل موجود من خلقه، فمن آياته، والقرآن أيضًا من آياته، (٢) وقد عم بالخبر أنه يصرف عن آياته المتكبرين في الأرض بغير الحق، وهم الذين حقَّت عليهم كلمة الله أنهم لا يؤمنون، فهم عن فهم جميع آياته والاعتبار والادّكار بها مصروفون، لأنهم لو وفِّقوا لفهم بعض ذلك فهُدوا للاعتبار به، اتعظوا وأنابوا إلى الحق، وذلك غير كائن منهم، لأنه جلّ ثناؤه قال: (وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا)، فلا تبديل لكلمات الله.
* * *
(٢) (٢) انظر تفسير ((آية)) فيما سلف من فهارس اللغة (أيى).
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وإن ير هؤلاء الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق و= "وتكبرهم فيها بغير الحق"، تجبرهم فيها، واستكبارهم عن الإيمان بالله ورسوله، والإذعان لأمره ونهيه، (١) وهم لله عبيدٌ يغذوهم بنعمته، (٢) ويريح عليهم رزقه بكرة وعشيًّا، (٣) = "كل آية"، يقول: كل حجة لله على وحدانيته وربوبيته، وكل دلالة على أنه لا تنبغي العبادة إلا له خالصة دون غيره. (٤) = "لا يؤمنوا بها"، يقول: لا يصدقوا بتلك الآية أنها دالة على ما هي فيه حجة، ولكنهم يقولون: "هي سحر وكذب" = "وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا"، يقول: وإن ير هؤلاء الذين وصف صفتهم طريق الهدى والسداد الذي إن سلكوه نجوا من الهلكة والعطب، وصاروا إلى نعيم الأبد، لا يسلكوه ولا يتخذوه لأنفسهم طريقًا، جهلا منهم وحيرة (٥) = "وإن يروا سبيل الغي"، يقول: وإن يروا طريق الهلاك الذي إن سلكوه ضلّوا وهلكوا.
* * *
وقد بينا معنى "الغي" فيما مضى قبل، بما أغنى عن إعادته. (٦)
(٢) (٢) في المطبوعة: ((يغدوهم)) بالدال المهملة، والصواب ما أثبت.
(٣) (٣) ((أراح عليه حقه))، رده عليه، يقول الشاعر:
إلا تريحى علينا الحق طائعة | دُونَ القُضَاةِ، فَقَاضِينَا إلَى حَكَمِ |
(٥) (٥) انظر تفسير ((السبيل)) فيما سلف من فهارس اللغة (سبل). = وتفسير ((الرشد)) فيما سلف ٣: ٤٨٢ / ٥: ٤١٦ / ٧: ٥٧٦.
(٦) (٦) انظر تفسير ((الغي)) فيما سلف ٥: ٤١٦ / ١٢: ٣٣٣.
* * *
واختلف القرأة في قراءة قوله: "الرشد".
فقرأ ذلك عامة قرأة المدينة وبعض المكيين وبعض البصريين: (الرُّشْدِ)، بضم "الراء" وتسكين "الشين".
* * *
وقرأ ذلك عامة قرأة أهل الكوفة وبعض المكيين: (الرَّشَدِ)، بفتح "الراء" و"الشين".
* * *
ثم اختلف أهل المعرفة بكلام العرب في معنى ذلك إذا ضمت راؤه وسكنت شينه، وفيه إذا فتحتا جميعًا.
فذكر عن أبي عمرو بن العلاء أنه كان يقول: معناه إذا ضمت راؤه وسكنت شينه: الصلاح، كما قال الله: (فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا)، [سورة النساء: ٦]، بمعنى: صلاحًا. وكذلك كان يقرؤه هو= ومعناه إذا فتحت راؤه وشينه: الرشد في الدين، كما قال جل ثناؤه: (تُعَلِّمَنِي مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا) [سورة الكهف: ٦٦]، (٢)
(٢) (٢) قراءتنا وقراءة السبعة: ((رشدا)) (بضم الراء وسكون الشين)، وقراءة أبي عمرو من السبعة كما ذكر أبو جعفر، ولذلك استدل بها أبو عمرو في هذا الموضع. ولم يذكر هذه القراءة أبو جعفر في تفسير الآية من سورة الكهف.
* * *
وكان الكسائي يقول: هما لغتان بمعنى واحد، مثل: "السُّقم" و"السَّقَم"، و"الحُزْن" و"الحَزَن" وكذلك "الرُّشْد" و"الرَّشَد".
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال: إنهما قراءتان مستفيضةٌ القراءة بهما في قرأة الأمصار، متفقتا المعنى، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيبٌ الصوابَ بها.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (١٤٧) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وهؤلاء المستكبرون في الأرض بغير الحق، وكلّ مكذِّبٍ حججَ الله ورسله وآياته، وجاحدٍ أنه يوم القيامة مبعوث بعد مماته، ومنكرٍ لقاء الله في آخرته= ذهبت أعمالهم فبطلت، وحصلت لهم أوزارها فثبتت، لأنهم عملوا لغير الله، وأتعبوا أنفسهم في غير ما يرضى الله، فصارت أعمالهم عليهم وبَالا. يقول الله جل ثناؤه: "هل يجزون إلا ما كانوا يعملون"، يقول: هل يثابون إلا ثواب ما كانوا يعملون؟ (١) فصار ثواب أعمالهم الخلودَ في نار أحاط بهم سرادقها، إذ كانت أعمالهم في طاعة الشيطان، دون طاعة الرحمن، نعوذ بالله من غضبه. وقد بينا معنى "الحبوط" و"الجزاء" و"الآخرة"، فيما مضى، بما أغنى عن إعادته. (٢)
(٢) (٢) انظر تفسير ((الحبوط)) فيما سلف ١١: ٥١٤، تعليق: ٢، والمراجع هناك. وتفسير ((الجزاء))، و ((الآخرة))، فيما سلف من فهارس اللغة (جزى) و (أخر).
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: واتخذ بنو إسرائيل قومُ موسى، من بعد ما فارقهم موسى ماضيًا إلى ربه لمناجاته، ووفاءً للوعد الذي كان ربه وعده = "من حليهم عجلا"، وهو ولد البقرة، فعبدوه. (١) ثم بين تعالى ذكره ما ذلك العجل فقال: "جسدًا لا خوار"= و"الخوار": صوت البقر = يخبر جل ذكره عنهم أنهم ضلوا بما لا يضل بمثله أهل العقل. وذلك أن الرب جلّ جلاله الذي له ملك السموات والأرض، ومدبر ذلك، لا يجوز أن يكون جسدًا له خوار، لا يكلم أحدًا ولا يرشد إلى خير. وقال هؤلاء الذين قص الله قصَصهم لذلك: "هذا إلهنا وإله موسى"، فعكفوا عليه يعبدونه، جهلا منهم، وذهابًا عن الله وضلالا.
* * *
وقد بينا سبب عبادتهم إياه، وكيف كان اتخاذ من اتخذ منهم العجل، فيما مضى بما أغنى عن إعادته. (٢)
* * *
وفي "الحلي" لغتان: ضم "الحاء" وهو الأصل = وكسرها، وكذلك ذلك في كل ما شاكله من مثل "صلى" و"جثّي" و"عتّي"، وبأيتهما قرأ القارئ فمصيب الصواب، لاستفاضة القراءة بهما في القراءة، ولا تفاق معنييهما. (٣)
* * *
(٢) (٢) انظر ما سلف ٢: ٦٣ - ٦٨ / ثم ص: ٧٤ - ٧٨.
(٣) (٣) في المطبوعة: ((لا تفارق بين معنييهما))، غير ما في المخطوطة، فأفسد الكلام ومسخه. والصواب ما في المخطوطة، ولكنى زدت الواو، لأنها حق الكلام.
* * *
وقد بينا معنى "الظلم" فيما مضى بما أغنى عن إعادته. (٢)
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (١٤٩) ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: "ولما سقط في أيديهم"،: ولما ندم الذين عبدوا العجل الذي وصف جل ثناؤه صفته، عند رجوع موسى إليهم، واستسلموا لموسى وحكمه فيهم.
* * *
وكذلك تقول العرب لكل نادم على أمر فات منه أو سلف، وعاجز عن شيء: "قد سُقِط في يديه" و"أسقط"، لغتان فصيحتان، وأصله من الاستئسار، وذلك أن يضرب الرجل الرجل أو يصرعه، فيرمي به من يديه إلى الأرض ليأسره،
(٢) (٢) انظر تفسير ((الظلم)) فيما سلف من فهارس اللغة (ظلم).
* * *
وعنى بقوله: "ورأوا أنهم قد ضلوا"، ورأوا أنهم قد جاروا عن قصد السبيل، وذهبوا عن دين الله، وكفروا بربهم، قالوا تائبين إلى الله منيبين إليه من كفرهم به: "لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر لنا لنكونن من الخاسرين".
* * *
ثم اختلفت القرأة في قرأةة ذلك.
فقرأه بعض قرأة أهل المدينة ومكة والكوفة والبصرة: (لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا) بالرفع، على وجه الخبر.
* * *
وقرأ ذلك عامة قرأة أهل الكوفة: (لَئِنْ لَمْ تَرْحَمْنَا رَبَّنَا)، بالنصب، بتأويل: لئن لم ترحمنا يا ربنا= على وجه الخطاب منهم لربهم. واعتلّ قارئو ذلك كذلك بأنه في إحدى القراءتين: (قَالُوا رَبَّنَا لَئِنْ لَمْ تَرْحَمْنَا رَبَّنَا وتَغْفِرْ لَنَا)، وذلك دليل على الخطاب. (٣)
* * *
قال أبو جعفر: والذي هو أولى بالصواب من القراءة في ذلك، القراءة على وجه
(٢) (٢) انظر معاني القرآن للفراء ١: ٣٩٣، ومجاز القرآن لأبي عبيدة ١: ٢٢٨، والذي قاله أبو جعفر تفصيل جيد، وبيان عن أصل الحرف، قلما تصيبه في كتب اللغة.
(٣) (٣) في المطبوعة والمخطوطة: ((قالوا لئن ترحمنا ربنا وتغفر لنا)) كسياق الآية في مصحفنا، وهذا لا دليل فيه على الخطاب. ولكن ما أثبته هو الذي فيه الدليل على الخطاب، لتقديم قوله: ((ربنا))، وهي قراءة أبي بن كعب، وهي كذلك في مصحف عبد الله بن مسعود، كما ذكر الفراء في معاني القرآن ١: ٣٩٣. فقوله: ((واعتل قارئو ذلك كذلك بأنه في إحدى القراءتين))، أرجح أنه يعني إحدى قراءتي عبد الله بن مسعود، وأيضاً، فإن الآية ستأتى بعد أسطر على الصواب في المخطوطة، ولكن يغيرها ناشر المطبوعة، كما في التعليق التالي.
* * *
والقراءة التي حكيت على ما ذكرنا من قراءتها: (قَالُوا رَبَّنَا لَئِنْ لَمْ تَرْحَمْنَا)، (١) لا نعرف صحتها من الوجه الذي يجب التسليم إليه.
* * *
ومعنى قوله: (لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر لنا)، : لئن لم يتعطف علينا ربنا بالتوبة برحمته، ويتغمد بها ذنوبنا، لنكونن من الهالكين الذين حبطت أعمالهم. (٢)
* * *
(٢) (٢) انظر تفسير ((الرحمة)) و ((المغفرة)) و ((الخسران)) فيما سلف (رحم) (غفر) (خسر).
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ولما رجع موسى إلى قومه من بني إسرائيل، رجع غضبان أسفًا، لأن الله كان قد أخبره أنه قد فتن قومه، وأن السامري قد أضلّهم، فكان رجوعه غضبان أسفًا لذلك.
* * *
و"الأسف" شدة الغضب، والتغيظ به على من أغضبه، كما:-
١٥١٢٤- حدثني عمران بن بكار الكلاعي قال، حدثنا عبد السلام بن محمد الحضرمي قال، حدثني شريح بن يزيد قال، سمعت نصر بن علقمة يقول: قال أبو الدرداء: قول الله: "غضبان أسفًا"، قال: "الأسف"، منزلة وراء الغضب،
* * *
وقال آخرون في ذلك ما:-
١٥١٢٥- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: "أسفًا"، قال: حزينًا.
١٥١٢٦- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: "ولما رجع موسى إلى قومه غضبان أسفًا"، يقول: "أسفًا"، "حزينًا"، وقال في "الزخرف": (فَلَمَّا آسَفُونَا) [سورة الزخرف: ٥٥]، يقول: أغضبونا= و"الأسف"، على وجهين: الغضب، والحزن.
١٥١٢٧- حدثنا نصر بن علي قال، حدثنا سليمان بن سليمان قال، حدثنا مالك بن دينار قال، سمعت الحسن يقول في قوله: "ولما رجع موسى إلى قومه غضبان أسفًا"، قال: غضبان حزينًا.
* * *
وقوله: "قال بئسما خلفتموني من بعدي"، يقول: بئس الفعل فعلتم بعد فراقي إياكم وأوليتموني فيمن خلفت ورائي من قومي فيكم، وديني الذي أمركم به ربكم. يقال منه: "خلفه بخير"، و"خلفه بشر"، إذا أولاه في أهله أو قومه ومن كان منه بسبيل من بعد شخوصه عنهم، خيرًا أو شرًّا. (٢)
* * *
وقوله: "أعجلتم أمر ربكم"، يقول: أسبقتم أمر ربكم في نفوسكم، وذهبتم عنه؟
* * *
و ((نصر بن علقمة الحضرمى))، ((أبو علقمة))، وثقه دحيم وابن حبان، ولم يذكر فيه البخاري جرحاً. مترجم في التهذيب، والكبير ٤/٢/١٠٢، وابن أبي حاتم ٤ / ١ / ٤٦٩، وروايته عن أبي الدرداء مرسلة.
(٢) (١) انظر تفسير ((خلف)) فيما سلف ص: ٨٨، تعليق: ١، والمراجع هناك.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿وَأَلْقَى الألْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الأعْدَاءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (١٥٠) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وألقى موسى الألواح.
* * *
ثم اختلف أهل العلم في سبب إلقائه إياها.
فقال بعضهم: ألقاها غضبًا على قومه الذين عبدوا العجل.
* ذكر من قال ذلك:
١٥١٢٨- حدثنا تميم بن المنتصر قال، أخبرنا يزيد قال، أخبرنا الأصبغ بن زيد، عن القاسم بن أبي أيوب قال، حدثني سعيد بن جبير قال، قال ابن عباس: لما رجع موسى إلى قومه غضبان أسفًا، فأخذ برأس أخيه يجرّه إليه، وألقى الألواح من الغضب.
١٥١٢٩- وحدثني عبد الكريم قال، حدثنا إبراهيم بن بشار قال، حدثنا ابن عيينة قال، قال أبو سعد، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: لما رجع
١٥١٣٠- حدثنا موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: أخذ موسى الألواح، ثم رجع موسى إلى قومه غضبان أسفًا، فقال: (يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا)، إلى قوله: فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ [سورة طه: ٨٦-٨٧]، فألقى موسى الألواح، وأخذ برأس أخيه يجره إليه= (قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي) [سورة طه: ٩٤].
١٥١٣١- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال: لما انتهى موسى إلى قومه فرأى ما هم عليه من عبادة العجل، ألقى الألواح من يده، ثم أخذ برأس أخيه ولحيته، ويقول: (مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلا تَتَّبِعَنِي أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي) [سورة طه: ٩٢، ٩٣].
* * *
وقال آخرون: إنما ألقى موسى الألواح لفضائل أصابها فيها لغير قومه، فاشتدّ ذلك عليه.
* ذكر من قال ذلك:
١٥١٣٢- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: "أخذ الألواح"، قال: رب، إني أجد في الألواح أمةً خيرَ أمة أخرجت للناس، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، فاجعلهم أمتي! قال: تلك أمة أحمد! قال: رب إني أجد في الألواح أمة هم الآخرون= أي آخرون في الخلق= السابقون في دخول الجنة، (١) رب اجعلهم أمتي! قال: تلك أمة أحمد!
١٥١٣٣- حدثني محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة قال: لما أخذ موسى الألواح قال: يا رب، إني أجد في الألواح أمة هم خير الأمم، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، فاجعلهم أمتي! قال: تلك أمة أحمد! قال: يا رب، إني أجد في الألواح أمة هم الآخرون السابقون يوم القيامة، فاجعلهم أمتي! قال: تلك أمة أحمد، ثم ذكر نحو حديث بشر بن معاذ= إلا أنه قال في حديثه: فألقى موسى عليه السلام الألواح، وقال: اللهم اجعلني من أمة محمد صلى الله عليهما.
* * *
قال أبو جعفر: والذي هو أولى بالصواب من القول في ذلك، أن يكون سبب إلقاء موسى الألواح كان من أجل غضبه على قومه لعبادتهم العجل، لأن الله جل ثناؤه بذلك أخبر في كتابه فقال: "ولما رجع موسى إلى قومه غضبان أسفًا قال بئسما خلفتموني من بعدي أعجلتم أمر ربكم وألقى الألواح وأخذ برأس أخيه يجره إليه".
* * *
وذكر أن الله لما كتب لموسى عليه السلام في الألواح التوراة، (١) أدناه منه حتى سمع صريف القلم.
* ذكر من قال ذلك:
١٥١٣٤- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا إسرائيل، عن السدي، عن أبي عمارة، عن علي عليه السلام قال: كتب الله الألواح لموسى عليه السلام، (٢) وهو يسمع صريف الأقلام في الألواح.
١٥١٣٥-.... قال حدثنا إسرائيل، عن عطاء بن السائب، عن سعيد
(٢) (٢) في المطبوعة: ((لما كتب الله الألواح))، والصواب حذف ((لما)) كما في المخطوطة.
* * *
وقيل: إن التوراة كانت سبعة أسباع، فلما ألقى موسى الألواح تكسرت، فرفع منها ستة أسباعها، وكان فيما رفع "تفصيل كل شيء"، الذي قال الله: "وَكَتَبْنَا لَهْ فِي اْلألْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلا لِكُلِّ شَيْءٍ" وبقي الهدى والرحمة في السبع الباقي، وهو الذي قال الله: (أَخَذَ الألْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ)، [سورة الأعراف: ١٥٤].
* * *
وكانت التوراة فيما ذكر سبعين وَقْر بعير، يقرأ منها الجزء في سنة، كما:-
١٥١٣٦- حدثني المثنى قال، حدثنا محمد بن خالد المكفوف قال، حدثنا عبد الرحمن، عن أبي جعفر، عن الربيع بن أنس قال: أنزلت التوراة وهي سبعون وَقْر بعير، يقرأ منها الجزء في سنة، لم يقرأها إلا أربعة نفر: موسى بن عمران، وعيسى، وعزير، ويوشع بن نون، صلوات الله عليهم.
* * *
واختلفوا في "الألواح".
فقال بعضهم: كانت من زُمرد أخضر.
* * *
وقال بعضهم: كانت من ياقوت.
* * *
وقال بعضهم: كانت من بَرَد.
* * *
* ذكر الرواية بما ذكرنا من ذلك.
١٥١٣٧- حدثني أحمد بن إبراهيم الدَّورقي قال، حدثنا حجاج بن محمد،
١٥١٣٨- وحدثني موسى بن سهل الرملي، وعلي بن داود، وعبد الله بن أحمد بن شبويه، وأحمد بن الحسن الترمذي قالوا، أخبرنا آدم العسقلاني قال، حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية قال: كانت ألواح موسى عليه السلام من بَرَد. (١)
١٥١٣٩- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن أبي الجنيد، عن جعفر بن أبي المغيرة قال: سألت سعيد بن جبير عن الألواح، من أي شيء كانت؟ قال: كانت من ياقوتة، كتابة الذهب، كتبها الرحمن بيده، فسمع أهل السموات صريف القلم وهو يكتبها.
١٥١٤٠- حدثني الحارث قال، حدثنا القاسم قال، حدثنا عبد الرحمن، عن محمد بن أبي الوضاح، عن خصيف، عن مجاهد أو سعيد بن جبير قال: كانت الألواح زمردًا، فلما ألقى موسى الألواح بقي الهدى والرحمة، وذهب التفصيل.
١٥١٤١- قال، حدثنا القاسم قال، حدثنا الأشجعي، عن محمد بن مسلم، عن خصيف، عن مجاهد قال: كانت الألواح من زمرد أخضر.
* * *
وزعم بعضهم: أن الألواح كانت لوحين. فإن كان الذي قال كما قال، فإنه قيل: "وكتبنا له في الألواح"، وهما لوحان، كما قيل: (فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ) [سورة النساء: ١١]، وهما أخوان. (٢)
* * *
(٢) (٢) انظر ما قال في الجمع، والمراد به اثنان فيما سلف ٨: ٤١ - ٤٤، ومعاني القرآن للفراء ١: ٣٩٤.
* * *
واختلفت القرأة في قراءة قوله: "يا ابن أم".
فقرأ ذلك عامة قرأة المدينة وبعض أهل البصرة: (يَا ابْنَ أُمَّ) بفتح "الميم" من "الأم".
* * *
وقرأ ذلك عامة قرأة أهل الكوفة: (يَا ابْنَ أُمِّ) بكسر "الميم" من الأم.
* * *
واختلف أهل العربية في فتح ذلك وكسره، مع إجماع جميعهم على أنهما لغتان مستعملتان في العرب.
فقال بعض نحويي البصرة: قيل ذلك بالفتح، على أنهما اسمان جعلا اسمًا واحدًا، كما قيل: "يا ابن عمَّ"، وقال: هذا شاذ لا يقاس عليه.
وقال: من قرأ ذلك: "يا ابن أمِّ"، فهو على لغة الذين يقولون: "هذا غلامِ قد جاء؟ "، جعله اسمًا واحدًا آخره مكسور، مثل قوله: "خازِ باز". (١)
* * *
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك أن يقال: إذا فتحت "الميم" من "ابن أم"، فمرادٌ به الندبة: يا ابن أماه، وكذلك من "ابن عم". فإذا كسرت فمرادٌ به الإضافة، ثم حذفت "الياء" التي هي كناية اسم المخبر عن نفسه. وكأن بعض من أنكر تشبيه كسر ذلك إذا كسر ككسر الزاي من "خاز باز"، (٢) لأن "خاز باز" لا يعرف الثاني إلا بالأول، ولا الأول إلا بالثاني، فصار كالأصوات.
وحكي عن يونس الجرمي تأنيث "أم" وتأنيث "عم"، (٣) وقال: لا يجعل اسمًا واحدًا إلا مع "ابن" المذكر. قالوا: وأما اللغة الجيدة والقياسُ الصحيح، فلغة من قال: "يا ابن أمي" بإثبات "الياء"، كما قال أبو زبيد:
يَا ابْنَ أُمِّي، وَيَا شُقَيِّقَ نَفْسِي أَنْتَ خَلَّفْتَني لِدَهْرٍ شَدِيدِ (٤)
(٢) (٢) في المطبوعة والمخطوطة:
((من أنكر نسبته كسر ذلك | ))، وصواب قراءته ما أثبته ((تشبيه)). |
(٤) (٤) أمالي اليزيدي ٩، جمهرة أشعار العرب: ١٣٩ واللسان (شقق)، وشواهد العينى (هامش خزانة الأدب) : ٤: ٢٢٢، وغيرها. من قصيدة مختارة، يرثى ابن أخته اللجلاج، ويقال: يرثى أخاه اللجلاج، ويروى البيت: يَا ابْنَ خَنْسَاء، شِقَّ نَفْسِيَ يَا لَجْلاجُ، خَلَّيْتَنِى لِدَهْرٍ شَدِيدِ وأما هذه الرواية، فهي رواية النحاة جميعًا في كتبهم في باب النداء. يقول فيها:
كُلَّ مَيْتٍ قَدِ اغْتَفَرْتُ، فلا أُو | جع مِنْ وَالِدٍ وَلا مَوْلُودِ |
غَيْرَ أَنَّ اللَّجْلاجَ هَدَّ جَنَاحِي | يَوْمَ فَارَقْتُهُ بِأَعْلَى الصَّعِيدِ |
فِي ضَرٍيحٍ عَلَيْهِ عِبْءٌ ثَقِيلٌ | مِنْ تُرَابٍ وجَنْدَلٍ مَنْضُودِ |
عَنْ يَمِينِ الطَّرِيقِ عِنْدَ صَدٍ | حَرَّ انَ يَدْعُو بِاللَّيْلِ غَيْرَ مَعُودِ |
صَادِيًا يَسْتَغِيثُ غَيْرَ مُغَاثٍ | وَلَقَدْ كَانَ عُصْرة المَنْجُودِ |
يَا ابْنَ أُمِّي! وَلَوْ شَهِدْتُكَ إِذْ تَدْ عُو تَمِيمًا وَأَنْتَ غَيْرُ مُجَابِ (٢)
(٢) (٢) النقائض: ٤٥٧، ١٠٧٧، الوحشيات رقم: ٢١٣، الأغاني: ١٢: ٢١٣، من قصيدة يرثي بها أخاه شرحبيل بن الحارث، قتيل يوم الكلاب الول (انظر خبر ذلك في النقائض، والأغاني)، يقول قبله، وهو أول الشعر:
إِنَّ جَنْبِي عَنِ الفِرَاشِ لَنَابِي | كَتَاجَافِي الأسَرِّ فَوْقَ الظِّرَابِ |
مِنْ حَدِيثٍ نَمَى إلَيّ فَلا تَرْ | قَأُ عَيْنِي، وَلا أُسِيغُ شَرَابِي |
مُرَّةٌ كَالذِّعَافِ أكْتُمُهَا النَّا | سَ، عَلَى حَرِّ مَلَّةٍ كالشِّهَابِ |
مِنْ شُرْحَبِيلَ إِذْ تَعَاوَرُه الأرْ | مَاحُ فِي حَالِ لَذَّةٍ وشَبَابِ |
لَتَرَكْتُ الحُسَامَ تَجْرِي ظُبَاهُ | مِنْ دِمَاءِ الأعْدَاءِ يَوْمَ الكُلابِ |
ثُمَّ طَاعَنْتُ مِنْ وَرَائِكَ حَتَّى | تَبْلُغَ الرُّحْبَ، أو تُبَزَّ ثيَابي |
* * *
وقيل: إن هارون إنما قال لموسى عليه السلام: "يا ابن أم"، ولم يقل: "يا ابن أبي"، وهما لأب واحد وأم واحدة، استعطافا له على نفسه برحم الأم. (٢)
* * *
وقوله: "إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني"، يعني بالقوم، الذين عكفوا على عبادة العجل وقالوا: "هذا إلهنا وإله موسى"، وخالفوا هارون. وكان استضعافهم إياه: تركهم طاعته واتباع أمره= (٣) = "وكادوا يقتلونني"، يقول: قاربوا ولم يفعلوا. (٤)
* * *
واختلفت القرأة في قراءة قوله: "فلا تشمت".
فقرأ قرأة الأمصار ذلك: (فَلا تُشْمِتْ بِيَ الأعْدَاءَ)، بضم "التاء" من "تشمت" وكسر "الميم" منها، من قولهم: "أشمت فلان فلانًا بفلان"، إذا سره فيه بما يكرهه المشمت به.
* * *
وروي عن مجاهد أنه قرأ ذلك: (فَلا تَشْمِتْ بِيَ الأعْدَاءَ).
١٥١٤٢- حدثني بذلك عبد الكريم قال، حدثنا إبراهيم بن بشار قال، حدثنا سفيان قال، قال حميد بن قيس: قرأ مجاهد: (فَلا تَشْمِتْ بِيَ الأعَدَاءُ).
١٥١٤٣- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن الزبير، عن ابن عيينة، عن حميد قال: قرأ مجاهد: (فَلا تَشْمِتْ بِيَ الأعَدَاءُ).
١٥١٤٤- حدثت عن يحيى بن زياد الفراء قال، حدثنا سفيان بن عيينة،
(٢) (١) انظر معاني القرآن للفراء ١: ٣٩٤.
(٣) (٢) انظر تفسير ((استضعف)) فيما سلف ص: ٧٦، تعليق: ١، والمراجع هناك.
(٤) (٣) انظر تفسير ((كاد)) فيما سلف ٢: ٢١٨.
* * *
وقال الفراء: قال الكسائي: ما أدرى، فلعلهم أرادوا: فلا تشمت بي الأعداءُ، فإن تكن صحيحة فلها نظائر. العرب تقول: "فَرِغت وفَرَغت"، فمن قال: "فَرغت"، قال: "أنا أفرُغ"، ومن قال: "فرِغت"، قال: "أنا أفرَغُ"، وكذلك: "ركِنت" "وركَنت"، و"شمِلهم أمرٌ" (٢) "وشمَلهم"، (٣) في كثير من الكلام. قال: "والأعداء" رفع، لأن الفعل لهم، لمن قال: "تشمَت" أو "تشمِت". (٤)
* * *
قال أبو جعفر: والقراءة التي لا أستجيز القراءة إلا بها، قراءةُ من قرأ: (فَلا تُشْمِتْ) : بضم "التاء" الأولى، وكسر "الميم" من: "أشمتُّ به عدوه أشمته به"، ونصبِ "الأعداء"، لإجماع الحجة من قرأة الأمصار عليها، وشذوذ ما خالفها من القراءة، وكفى بذلك شاهدا على ما خالفها. هذا مع إنكار معرفة عامة أهل العلم بكلام العرب: "شمت فلان فلانًا بفلان"، و"شمت فلان بفلان يشمِت به"، وإنما المعروف من كلامهم إذا أخبروا عن شماتة الرجل بعدوِّه: "شمِت به" بكسر "الميم": "يشمَت به"، بفتحها في الاستقبال.
* * *
وأما قوله: "ولا تجعلني مع القوم الظالمين"، فإنه قولُ هارون لأخيه موسى. يقول: لا تجعلني في موجدتك عليَّ وعقوبتك لي ولم أخالف أمرك، محلَّ من عصاك فخالف أمرك، وعبد العجل بعدك، فظلم نفسه، وعبد غيرَ من له العبادة، ولم أشايعهم على شيء من ذلك، كما:-
(٢) (٢) في المطبوعة والمخطوطة: ((ركبت وركبت))، والصواب في معاني القرآن للفراء.
(٣) (٣) في معاني القرآن: ((وشملهم شر)).
(٤) (٤) معاني القرآن للفراء ١: ٣٩٤.
١٥١٤٦- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، بمثله.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلأخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (١٥١) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: قال موسى، لما تبين له عذر أخيه، وعلم أنه لم يفرط في الواجب الذي كان عليه من أمر الله، في ارتكاب ما فعله الجهلة من عبدة العجل: "رب اغفر لي"، مستغفرًا من فعله بأخيه، ولأخيه من سالفٍ سلف له بينه وبين الله: (١) تغمد ذنوبنا بستر منك تسترها به (٢) = "وأدخلنا في رحمتك"، يقول: وارحمنا برحمتك الواسعة عبادك المؤمنين، فإنك أنت أرحم بعبادك من كل من رحم شيئًا.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (١٥٢) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: "إن الذين اتخذوا العجل" إلهًا= "سينالهم غضب من ربهم"، بتعجيل الله لهم ذلك (٣) = "وذلة"، وهي الهوان، لعقوبة الله
(٢) (٢) انظر تفسير ((المغفرة)) فيما سف من فهارس اللغة (غفر).
(٣) (٣) انظر تفسير ((نال)) فيما سلف ١٢: ٤٠٨، تعليق: ٣، والمراجع هناك.
* * *
وكان ابن جريج يقول في ذلك بما: -
١٥١٤٧- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، قوله: "إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا وكذلك نجزي المفترين"، قال: هذا لمن مات ممن اتخذ العجل قبل أن يرجع موسى عليه السلام، ومن فرّ منهم حين أمرهم موسى أن يقتل بعضهم بعضًا.
* * *
قال أبو جعفر: وهذا الذي قاله ابن جريج، وإن كان قولا له وجه، فإن ظاهر كتاب الله، مع تأويل أكثر أهل التأويل، بخلافه. وذلك أن الله عم بالخبر عمن اتخذ العجل أنه سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا، وتظاهرت الأخبار عن أهل التأويل من الصحابة والتابعين بأن الله إذ رجع إلى بني إسرائيل موسى عليه السلام، تابَ على عبدة العجل من فعلهم بما أخبر به عن قيل موسى عليه السلام في كتابه، وذلك قوله: (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) [سورة البقرة: ٥٤]، ففعلوا ما أمرهم به نبيهم صلى الله عليه وسلم. فكان أمرُ الله إياهم بما أمرهم به من قتل بعضهم أنفُس بعض، عن غضب منه عليهم بعبادتهم العجل. فكان قتل بعضهم بعضًا هوانًا لهم وذلة أذلهم الله بها في الحياة الدنيا، وتوبة منهم إلى الله قبلها. وليس لأحد أن يجعل خبرًا جاء الكتاب بعمومه، في خاصٍّ مما عمه الظاهر، بغير برهان من حجة خبر أو عقل. ولا نعلم خبرًا جاء بوجوب نقل ظاهر قوله: "إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم"، إلى باطن خاصّ = ولا من العقل عليه دليل، فيجب إحالة ظاهره إلى باطنه.
* * *
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعةٌ من أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
١٥١٤٨- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن أيوب قال: تلا أبو قلابة: "سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا" الآية، قال: فهو جزاء كل مفترٍ يكون إلى يوم القيامة: أن يذله الله عز وجل.
١٥١٤٩- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو النعمان عارم قال، حدثنا حماد بن زيد، عن أيوب قال: قرأ أبو قلابة يومًا هذه الآية: "إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا وكذلك نجزي المفترين"، قال: هي والله لكل مفترٍ إلى يوم القيامة.
١٥١٥٠-... قال حدثنا حجاج قال، حدثنا حماد، عن ثابت، وحميد: أن قيس بن عُبَاد، وجارية بن قدامة، دخلا على علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فقالا أرأيت هذا الأمر الذي أنت فيه وتدعو إليه، أعهدٌ عهده إليك رسول الله صلى الله عليه وسلم، أم رأيٌ رأيته؟ قال: ما لكما ولهذا؟ أعرضا عن هذا! فقالا والله لا نعرضُ عنه حتى تخبرنا! فقال: ما عهد إليّ رسول الله ﷺ إلا كتابًا في قراب سيفي هذا! فاستلَّه، فأخرج الكتاب من قراب سيفه، وإذا فيه: "إنه لم يكن نبيّ إلا له حرم، وأنّي حرمت المدينة
١٥١٥١- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن الزبير، عن ابن عيينة: في قوله: "وكذلك نجزي المفترين" قال: كل صاحب بدعة ذليلٌ.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٥٣) ﴾
قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله تعالى ذكره أنه قابلٌ من كل تائب إليه من ذنب أتاه، صغيرةً كانت معصيته أو كبيرةً، كفرًا كانت أو غير كفر، كما
وفي المخطوطة: ((قال حدثنا حماد عن ثابت وحميد بن قيس بن عباد، وحارثه بن قدامة)). ((حارثة)) غير منقوطة. وهما جميعاً خطأ، صوابه ما أثبت. و ((حماد)) هو: ((حماد بن سلمة))، ثقة مشهور، مضى مرارًا. و ((ثابت)) هو ((ثابت بن أسلم البنانى))، مضى مرارًا.
و ((حميد)) هو ((حميد الطويل))، وهو: ((حميد بن أبي حميد))، الإمام المشهور، مضى مرارًا، وهو خال ((حماد بن سلمة)).
وأما ((قيس بن عباد القيسى الضبعى))، فهو ثقة قليل الحديث، روى عنه الحسن. قدم المدينة في خلافة عمر. وهو ممن قتلهم الحجاج في من خرج مع ابن الأشعث. مترجم في التهذيب، وابن سعد ٧ / ١ / ٩٥، والكبير ٤/١/١٤٥، وابن أبي حاتم ٣/١٢/١٠١، وفي الإصابة في القسم الثالث.
وأما ((جارية بن قدامة بن زهير بن الحصين السعدي))، يقال هو بن عم الأحنف بن قيس، ويقال هو: عمه. وقال الطبراني: ((ليس بعم الأحنف أخي أبيه، ولكنه كان يدعوه عمه على سبيل الإعظام له)).
وجارية تميمى من أشراف تميم وكان شجاعاً فاتكاً، وهو صحابي ثابت الصحبة. مترجم في التهذيب، وابن سعد ٧/١/٣٨، والكبير ١/٢/٢٣٦، وابن أبي حاتم ١/١/٥٢٠، وفي الإصابة، وغيرها.
وهذا الخبر لم أهتد إليه بهذا الإسناد، وهذه السياقة، في شيء من الكتب، ولكن خبر الصحيفة، عن ((قيس بن عباد))، رواه أحمد في مسنده رقم ٩٩٣، من طريق يحيى، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن الحسن، عن قيس بن عباد قال: انطلقت أنا والأشتر إلى على، فقلنا: هل عهد إليك نبى الله ﷺ شيئاً لم يعهده إلى الناس عامة؟))، وساق خبراً آخر. وروى أحمد خبر الصحيفة في مسند علي رضي الله عنه، بأسانيد مختلفة، وألفاظ مختصرة ومطولة، ومؤتلفة ومختلفة. انظر رقم ٦١٥، ٨٧٢، ٨٧٤، ٩٥٤، ٩٦٢، ١٠٣٧، ١٢٩٧، ١٣٠٦، وليس في شيء منها ذكر ((جارية بن قدامة)). ومع ذلك فخبر أبي جعفر صحيح الإسناد، فكأنهما حادثتان مختلفتان. وكان في المخطوطة: ((ولا أدرى إلا سينزل به ذلة)) والصواب ما صححه ناشر المطبوعة.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الألْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (١٥٤) ﴾
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: "ولما سكت عن موسى الغضب". ولما كفّ عنه وسكن. (٢)
* * *
(٢) (٢) في المطبوعة: ((ولما كف موسى عن الغضب))، وهو اجتهاد من ناشر المطبوعة الأولى، ولم يصب. فإن المخطوطة أسقطت تفسير العبارة، وجاء فيها هكذا: ((ولما سكت عن موسى الغضب، وكذلك كل كاف......))، والتفسير الذي أثبته الناشر الأول تفسير ذكره الزجاج قال: ((معناه: ولما سكن. وقيل: معناه: ولما سكت موسى عن الغضب - على القلب، كما قالوا: أدخلت القلنسوة في رأس، والمعنى: أدخلت رأسي في القلنسوة. قال والقول الأول الذي معناه سكن، هو قول أهل العربية)). ولو أراد أبو جعفر، لفسره كما فسره الزجاج، فآثرت أن أضع تفسير أبي عبيدة في مجاز القرآن ١: ٢٢٩، لأن الذي يليه هو قول أبي عبيدة في مجاز القرآن.
وقد ذكر عن يونس الجرمي أنه قال (٢) يقال: "سكت عنه الحزن"، وكلُّ شيء، فيما زعم، ومنه قول أبي النجم:
وَهَمَّتِ الأفْعَى بِأَنْ تَسِيحَا وَسَكَتَ المُكَّاءُ أَنْ يَصِيحَا (٣)
* * *
= "خذ الألواح"، يقول: أخذها بعد ما ألقاها، وقد ذهب منها ما ذهب = "وفي نسختها هدى ورحمة"، يقول: وفيما نسخ فيها، أي كتب فيها (٤) = "هدى" بيان للحق= "ورحمة للذين هم لربهم يرهبون"، يقول: للذين يخافون الله ويخشون عقابَه على معاصيه. (٥)
* * *
واختلف أهل العربية في وجه دخول "اللام" في قوله: "لربهم يرهبون"،
(٢) (٢) انظر ما سلف ص: ١٢٩، تعليق: ٣.
(٣) (٣) لم أجد البيتين. وكان في المطبوعة: ((تسبحا)) و ((تضبحا))، وهو خطأ وفساد، ولأبي النجم أبيات كثيرة من الرجز على هذا الوزن، ولم أجد الرجز بتمامه. وصواب قراءة ما كان في المخطوطة هو ما أثبت.
(٤) (٤) انظر تفسير ((النسخة)) فيما سلف ٢: ٤٧٢. = وكان في المطبوعة هنا، مكان قوله: ((أي: كتب فيها))، ما نصه: ((أي: منها))، لم يحسن قراءة المخطوطة، لأن الناسخ كتبها بخط دقيق في آخر السطر، فوصل الكلام بعضه ببعض، فساءت كتابته.
(٥) (٥) انظر تفسير ((الهدى)) فيما سلف من فهارس اللغة (هدى).
* * *
وقال بعضهم: من أجل ربِّهم يرهبون.
* * *
وقال بعضهم: إنَّما دخلت عَقِيب الإضافة: الذين هم راهبون لربهم، وراهبُو ربِّهم= ثم أدخلت "اللام" على هذا المعنى، لأنها عَقِيب الإضافة، لا على التكليف. (١)
* * *
وقال بعضهم: إنما فعل ذلك، لأن الاسم تقدم الفعل، فحسن إدخال "اللام".
* * *
وقال آخرون: قد جاء مثله في تأخير الاسم في قوله: (رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ) [سورة النمل: ٧٢]. (٢)
* * *
وذكر عن عيسى بن عمر أنه قال: سمعت الفرزدق يقول: "نقدت له مائة درهم"، يريد: نقدته مائة درهم. (٣) قال: والكلام واسع.
* * *
(٢) (٢) انظر ما سلف ٦: ٥١١ / ٧: ١٦٤، ومعاني القرآن للفراء ١: ٢٣٣.
(٣) (٣) نقله الفراء في معاني القرآن ١: ٢٣٣ عن الكسائى، قال: ((سمعت بعض العرب يقول: نقدت لها مئة درهم، يريد: نقدتها مئة، لامرأة تزوجها)).
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: واختار موسى من قومه سبعين رجلا للوقت والأجل الذي وعده الله أن يلقاه فيه بهم، (١) للتوبة مما كان من فعل سفهائهم في أمر العجل، كما: -
١٥١٥٢- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي، قال: إن الله أمر موسى عليه السلام أن يأتيه في ناسٍ من بني إسرائيل، يعتذرون إليه من عبادة العجل، ووعدهم موعدًا، فاختار موسى قومه سبعين رجلا على عينه، ثم ذهب بهم ليعتذروا. فلما أتوا ذلك المكان قالوا: لن نؤمن لك يا موسى حتى نرى الله جهرة، فإنك قد كلمته، فأرناه! فأخذتهم الصاعقة فماتوا، فقام موسى يبكي ويدعو الله ويقول: رَبِّ ماذا أقول لبني إسرائيل إذا أتيتهم وقد أهلكت خيارهم، لو شئتَ أهلكتهم من قبل وإيّاي! (٢)
١٥١٥٣- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال: اختار موسى من بني إسرائيل سبعين رجلا الخيِّر فالخيرَ، وقال: انطلقوا إلى الله فتوبوا إليه مما صنعتم، واسألوه التوبة على من تركتم وراءكم من قومكم، صوموا وتَطَهَّروا، وطهِّروا ثيابكم! فخرج بهم إلى طور سيْناء، لميقات وقَّته له ربه. وكان لا يأتيه إلا بإذن منه وعلم. فقال السبعون =فيما ذكر لي= حين صنعوا ما أمرهم به، وخرجوا معه للقاء ربِّه، لموسى: اطلب لنا نسمع كلام ربِّنا! فقال: أفعل. فلما دنا موسى من الجبل، وقع عليه عمودُ الغمام، حتى تغشى الجبلَ كله. ودنا موسى فدخل فيه، وقال للقوم: ادنوا! وكان موسى إذا كلمه الله وقَع على جبهته نور
(٢) (٢) الأثر: ١٥١٥٢ - مضى مطولا برقم ٩٥٨، ومراجعه هناك.
١٥١٥٤- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قوله: "واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا"، قال: كان الله أمرَه أن يختار من قومه سبعين رجلا فاختار سبعين رجلا فبرزَ بهم ليدعوا ربَّهم. فكان فيما دَعَوُا الله قالوا: اللهم أعطِنا ما لم تعط أحدًا بعدنا! فكره الله ذلك من دعائهم، فأخذتهم الرجفة. قال موسى: ربِّ لو شئت أهلكتهم من قبل وإيَّاي!
١٥١٥٥- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا خالد بن حيان، عن جعفر، عن ميمون: "واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا"، قال: لموعدهم الذي وعدهم.
١٥١٥٦ - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: "سبعين رجلا لميقاتنا"، قال: اختارهم لتمام الوعد.
* * *
وقال آخرون: إنما أخذتهم الرجفة من أجل دَعْواهم على موسى قتلَ هارون.
(٢) (٢) في المطبوعة والمخطوطة: ((فالتقت أرواحهم))، ولا معنى لها، صوابها ما أثبته. ((افتلتت نفسه)) (بالبناء للمجهول) : مات فلتة، أي بغتة. وانظر ما سلف ٢: ٨٧، تعليق: ١.
(٣) (٣) الأثر: ١٥١٥٣ - مضى هذا الخبر برقم ٩٥٧، ومراجعه هناك.
١٥١٥٧- حدثنا ابن بشار وابن وكيع قالا حدثنا يحيى بن يمان قال، حدثنا سفيان قال، حدثني أبو إسحاق، عن عمارة بن عبد السَّلولي، عن علي رضي الله عنه قال: انطلق موسى وهارون وشبر وشبير، فانطلقوا إلى سفح جَبَلٍ، فنام هارون على سرير، فتوفاه الله. فلما رجع موسى إلى بني إسرائيل قالوا له: أين هارون؟ قال: توفّاه الله. قالوا: أنت قتلته، حسدتنا على خُلقه ولينه= أو كلمة نحوها= قال: فاختاروا من شئتم! قال: فاختاروا سبعين رجلا. قال: فذلك قوله: "واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا"، قال: فلما انتهوا إليه، قالوا: يا هارون، من قتلك؟ قال: ما قتلني أحد، ولكنني توفّاني الله! قالوا: يا موسى لن تعصَي بعد اليوم! قال: فأخذتهم الرجفة. قال: فجعل موسى يرجع يمينًا وشمالا وقال: "يا رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي أتهلكنا بما فعل السفهاء منّا إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء"، قال: فأحياهم الله وجعلهم أنبياءَ كلهم. (١)
١٥١٥٨- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن أبي إسحاق، عن رجل من بني سلول، أنه سمع عليًّا رضي الله عنه يقول في هذه الآية: "واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا"، قال: كان هارون
وهذا الخبر، ذكره ابن كثير في تفسيره ٣: ٥٦١، ٥٦٢: ((وهذا أثر غريب جدا، وعمارة بن عبد هذا، لا أعرفه)). فقد تبين مما ذكرت أنه معروف، وأن ابن كثير لم يستوعب بحثه. وخرجه السيوطي في الدر المنثور ٣: ١٢٨، ونسبه إلى عبد بن حميد، وابن أبي الدنيا في كتاب: من عاش بعد الموت، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ ولم أجده في كتاب ((من عاش بعد الموت)) المطبوع، فدل هذا علي نقص النسخة المطبوعة منه.
١٥١٥٩- حدثني عبد الله بن الحجاج بن المنهال قال، حدثنا أبي قال، حدثنا الربيع بن حبيب قال: سمعت أبا سعيد =يعني الرقاشي= وقرأ هذه الآية: "واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا"، فقال: كانوا أبناءَ ما عدا عشرين، ولم يتجاوزوا الأربعين، وذلك أن ابن عشرين قد ذهب جهلُه وصباه، وأنّ من لم يتجاوز الأربعين لم يفقد من عقله شيئًا. (١)
* * *
وقال آخرون: إنما أخذت القوم الرَّجفة، لتركهم فِراق عبدة العجل، لا لأنهم كانوا من عَبَدته.
* ذكر من قال ذلك:
١٥١٦٠- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: "واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا"، فقرأ حتى بلغ: "السفهاء منا"، ذكر لنا أن ابن عباس كان يقول: إنما تناولتهم الرجفة، لأنهم لم يزايلوا
و ((الربيع بن حبيب الحنفي))، ((أبو سعيد)). روى عن الحسن، وابن سيرين، وأبي جعفر الباقر. روى عنه أبو داود الطيالسي، ويحيى القطان، وعبد الصمد بن عبد الوارث. وثقه أحمد ويحيى. مترجم في التهذيب، والكبير ٢/١/٢٥٣، وابن أبي حاتم ١ / ٢ / ٤٥٧. و ((أبو سعيد الرقاشي)) هو فيما أرجح ((قيس، مولى أبي ساسان حضين بن المنذر الرقاشي)). وكان أبو سعيد قليل الحديث. مترجم في ابن سعد ٧/١/١٥٤ والكبير ٤/١/١٥١، وابن أبي حاتم ٣/٢/١٠٦. وهناك أيضا ((أبو سعيد الرقاشي))، البصري وهو ((بيان بن جندب الرقاشى))، روى عن أنس. مترجم في الكبير ١/٢/١٣٣، وابن أبي حاتم ١ / ١ / ٤٢٤، ولسان الميزان ٢: ٦٩. قال ابن حبان في الثقات: ((يخطئ)).
١٥١٦١- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، قوله: "واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا"، ممن لم يكن قال ذلك القول، على أنهم لم يجامعوهم عليه، فأخذتهم الرجفة من أجل أنهم لم يكونوا باينوا قومَهم حين اتخذوا العجل. قال: فلما خرجوا ودعوا، أماتهم الله ثم أحياهم. فلما أخذتهم الرجفة قال: "رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإيّاي أتهلكنا بما فعل السفهاء منا".
١٥١٦٢- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا أبو سعد قال، قال مجاهد: "واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا"= و"الميقات"، الموعد= فلما أخذتهم الرجفة بعد أن خرج موسى بالسبعين من قومه يدعون الله ويسألونه أن يكشف عنهم البلاءَ فلم يستجب لهم، علم موسى أنهم قد أصابوا من المعصية ما أصابَه قومهم= قال أبو سعد (١) فحدثني محمد بن كعب القرظي قال: لم يستجب لهم من أجل أنهم لم ينهوهم عن المنكر ويأمروهم بالمعروف. قال: فأخذتهم الرجفة، فماتوا ثم أحياهم الله.
١٥١٦٣- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أسامة، عن عون، عن سعيد بن حيان، عن ابن عباس: أن السبعين الذين اختارهم موسى من قومه، إنما أخذتهم الرجفة، أنهم لم يرضَوا ولم ينهَوا عن العجل.
١٥١٦٤- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا عون قال، حدثنا سعيد بن حيان، عن ابن عباس، بنحوه.
* * *
واختلف أهل العربية في وجه نصب قوله: "قومه سبعين رجلا لميقاتنا". فقال بعض نحويي البصرة: معناه: واختار موسى من قومه سبعين رجلا = فلما نزع "من" أعمل الفعل، كما قال الفرزدق:
وكما قال الآخر: (٢)
أَمَرْتُكَ الْخَيْرَ، فَافْعَلْ مَا أُمِرْتَ بِهِ فَقَدْ تَرَكْتُكَ ذَا مَالٍ وَذَا نَشَبٍ (٣)
ومِنَّا الَّذِي أَعْطَى الرَّسُولُ عَطِيَّةً | أُسَارَى تَمِيمٍ، والعُيُونُ دَوَامِعُ |
(٢) (٢) هو أعشى طرود: ((إياس بن عامر بن سليم بن عامر)). وروى هذا البيت أيضاً في شعر نسب إلى عمرو بن معد يكرب، وإلى العباس بن مرداس، وإلى زرعة بن السائب، وإلى خفاف بن فدية (الخزانة ١: ١٦٦).
(٣) ديوان الأعشين: ٢٨٤، سيبويه ١: ١٧، والمؤتلف والمختلف: ١٧، الكامل ١: ٢١، أمالي الشجري ١: ٢٦٥ / ٢: ٢٤٠، الخزانة ١: ١٦٤ - ١٦٧، وغيرها كثير. فمن نسبها إلى أعشى طرود قال من بعد أبيات يذكر وصية أبيه له:
إِنِّي حَوَيْتُ عَلَى الأَقْوَامِ مَكْرُمَة | قِدْمًا، وَحَذَّرَنِي مَا يَتَّقُونَ أَبِي |
وَقَالَ لِي قَوْلَ ذِي عِلْمٍ وَتَجْرُبَةٍ | بِسَالِفَاتِ أُمُورِ الدَّهْرِ وَالحِقَبِ |
أَمَرْتُكَ الرُّشْدَ، فافْعَلْ مَا أُمِرْتَ بِهِ | فَقَدْ تَرَكْتُكَ ذَا مَالٍ وَذَا نَشَبِ |
لا تَبْخَلَنَّ بِمَالٍ عَنْ مَذَاهِبِهِ | فِي غَيْرِ زَلَّةِ إِسْرَافٍ وَلا تَغَبِ |
فَإنّ وُرَّاثَهُ لَنْ يَحْمَدُوكَ بِهِ | إِذَا أَجَنُّوكَ بَيْنَ اللِّبْنِ وَالخَشَبِ |
أما الشعر المنسوب إلى عمرو بن معد يكرب أو غيره فهو:
إِنِّي حَوَيْتُ عَلَى الأقْوَامِ مَكْرُمَةً | قِدْمًا، وَحَذَّرَنِي مَا يَتَّقُونَ أَبِي |
فَقَالَ لِي قَوْلَ ذِي رَأيٍ وَمَقْدِرَةٍ | مُجَرَّبٍ عَاقِلٍ نَزْهٍ عَنْ الرَّيَبِ |
قَدْ نِلْتَ مَجْدًا فَحَاذِرْ أَنْ تُدَنِّسُهُ | أبٌ كَرِيمٌ، وجَدٌّ غَيْرُ مُؤْتَشَبِ |
واتْرُكْ خَلائِقَ قَوْمٍ لا خَلاقَ لَهُمْ | وَاعْمِدْ لأَخْلاقِ أَهْلِ الفَضْلِ والأدَبِ |
وَإِنْ دُعِيتَ لِغَدْرٍ أوْ أُمِرْتَ بِهِ | فَاهْرُبْ بِنَفْسِكَ عَنْهُ آبِدَ الْهَرَبِ |
وَعُصْبَةِ النَّبِيِّ إِذْ خَافُوا الحَصَرْ | شَدُّوا لَهُ سُلْطَانَهُ حَتَّى اقْتَسَرْ |
بِالْقَتْلِ أَقْوَامًا وَأَقْوَامًا أَسَرْ | تَحْتَ الَّذِي اخْتَارَ لَهُ اللهُ الشَّجَرْ |
(٣) (٣) انظر مجاز القرآن ١: ٢٢٩، ونصه: ((تحت الشجرة التي اختار له الله من الشجر)).
* * *
وقد ذكرنا الرواية في غير هذا الموضع وقول من قال: إنها كانت صاعقة أماتتهم. (٤)
١٥١٦٥- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: "فلما أخذتهم الرجفة"، ماتوا ثم أحياهم.
١٥١٦٦- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: "سبعين رجلا لميقاتنا"، اختارهم موسى لتمام الموعد= "فلما أخذتهم الرجفة"، ماتوا ثم أحياهم الله.
١٥١٦٧- حدثني عبد الكريم قال، حدثنا إبراهيم قال، حدثنا سفيان قال، قال أبو سعد، عن عكرمة، عن ابن عباس: "فلما أخذتهم الرجفة"، قال: رُجف بهم.
* * *
(٢) (٢) في المطبوعة، زاد ((واو)) فكتب: ((وأهلكهم)) عطفاً على ما قبله، فأفسد معنى أبي جعفر. وإنما أراد أبو جعفر أن الرجفة: إما أن تعقب الهلاك، وتصعق من تنزل به فتسلبه فهمه من شدة الروع.
(٣) (٣) انظر تفسير ((الرجفة)) فيما سلف: ١٢: ٥٤٤، ٥٤٥، ٥٦٦.
(٤) (٤) انظر ما سلف قديماً ٢: ٨٤ - ٩٠، ثم ما سلف حديثاً ص: ١٤٠.
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.
فقال بعضهم: معنى ذلك: أتهلك هؤلاء الذين أهلكتهم بما فعل السفهاء منا، أي: بعبادة من عبد العجل؟ قالوا: وكان الله إنما أهلكهم لأنهم كانوا ممن يَعبد العجل. وقال موسى ما قال، ولا علم عنده بما كان منهم من ذلك. (١)
* ذكر من قال ذلك:
١٥١٦٨- حدثنا موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: "أتهلكنا بما فعل السفهاء منا"، فأوحى الله إلى موسى: إن هؤلاء السبعين ممن اتخذ العجلَ! فذلك حين يقول موسى: "إن هي إلا فتنتك تُضل بها من تشاء وتهدي من تشاء". (٢)
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: إن إهلاكك هؤلاء الذين أهلكتهم، هلاك لمن وراءهم من بني إسرائيل، إذا انصرفت إليهم وليسوا معي= و"السفهاء"، على هذا القول، كانوا المهلَكين الذين سألوا موسى أن يُرِيهم ربَّهم.
* ذكر من قال ذلك:
١٥١٦٩- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال: لما أخذت الرجفة السبعين فماتوا جميعًا، قام موسى يناشد ربّه ويدعوه ويرغب
(٢) (٢) الأثر: ١٥١٦٨ - مضى قديمًا برقم ٩٥٨ بتمامه، ومضى صدره قريبًا برقم: ١٥١٥٢
* * *
وقال آخرون في ذلك بما: -
١٥١٧٠- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: "أتهلكنا بما فعل السفهاء منا"، أتؤاخذنا وليس منا رجلٌ واحد تَرَك عبادتك، ولا استبدل بك غيرك؟
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القولين بتأويل الآية، قولُ من قال: إن موسى إنما حزن على هلاك السبعين بقوله: "أتهلكنا بما فعل السفهاء منا"، وأنّه إنما عنى ب"السفهاء" عبدةَ العجل. وذلك أنه محالٌ أن يكون موسى ﷺ كان تخيَّر من قومه لمسألة ربِّه ما أراه أن يسألَ لهم إلا الأفضل فالأفضل منهم، ومحالٌ أن يكون الأفضل كان عنده مَنْ أشرك في عبادة العجل واتخذَه دون الله إلهًا.
* * *
قال: فإن قال قائل: فجائز أن يكون موسى عليه السلام كان معتقدًا أن الله سبحانه يعاقب قومًا بذنوب غيرهم، فيقول: أتهلكنا بذنوب من عبد العجل، ونحن من ذلك برآء؟ قيل: جائز أن يكون معنى "الإهلاك" قبض الأرواح على غير وجه العقوبة، كما قال جل ثناؤه: (إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ)، [سورة النساء: ١٧٦] = يعني: مات= فيقول: أتميتنا بما فعل السُّفهاء منَّا؟ (٢)
* * *
(٢) انظر تفسير ((الهلاك)) فيما سلف ٩: ٣٠ / ١٠٤: ١٤٧، وفهارس اللغة (هلك).
* * *
وبنحو ما قلنا في "الفتنة" قال جماعة من أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
١٥١٧١- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبى، عن أبي جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية: (إن هي إلا فتنتك"،) قال: بليّتك.
١٥١٧٢-.... قال، حدثنا حبويه الرازي، عن يعقوب، عن جعفر بن أبي المغيرة، عن سعيد بن جبير: "إلا فتنتك"،: إلا بليتك. (٢)
١٥١٧٣- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرحمن بن سعد قال، أخبرنا أبو جعفر، (٣) عن الربيع بن أنس: "إن هي إلا فتنتك"، قال: بليتك.
١٥١٧٤-.... قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: "إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء"، إن هو إلا عذابك تصيبُ به من تشاء، وتصرفه عمن تشاء. (٤)
(٢) (٢) الأثر: ١٥١٧٢ - ((حبويه الرازي)) هو: ((إسحق بن إسماعيل الرازي)) ((أبو يزيد))، مضى مرارًا، آخرها رقم ١٥٠١٥، والراوي عن حبويه هو ((ابن وكيع))، كما هو ظاهر، ولذلك وضعت نقطاً مكان اسمه، في هذا الموضع وما يشابهه من المواضع، حيث يختصر أبو جعفر شيخه من الإسناد.
(٣) (٣) في المطبعة والمخطوطة: ((أخبرنا ابن جعفر))، وهو خطأ ظاهر جداً، صوابه ما أثبت. وقد مضى هذا الإسناد وشبهه من رواية أبي جعفر الرازي عن الربيع، انظر ما سلف قريباً: ١٥١٧١.
(٤) (٤) الأثر: ١٥١٧٤ - شيخ الطبري في هذا الإسناد، هو ((المثنى)) المذكور في الأثر قبله. وسأضع هذه النقط، حيث يختصر أبو جعفر شيخه، ثم لا أنبه إليه، ومعلوم أن المحذوف هو شيخه في الإسناد قبله.
* * *
وقوله: "أنت ولينا"، يقول: أنت ناصرنا. (١) = "فاغفر لنا"، يقول: فاستر علينا ذنوبَنا بتركك عقابَنا عليها= "وارحمنا"، تعطف علينا برحمتك= "وأنت خير الغافرين"، يقول: خير من صَفَح عن جُرم، وسَتر على ذنب. (٢)
* * *
(٢) (٢) انظر تفسير ((المغفرة))، و ((الرحمة)) فيما سلف من فهارس اللغة (غفر) و (رحم).
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: مخبرًا عن دعاء نبيه موسى عليه السلام أنه قال فيه: "واكتب لنا"، أي: اجعلنا ممن كتَبت له= "في هذه الدنيا حسنَةً"، وهي الصالحات من الأعمال (١) = "وفي الآخرة"، ممن كتبتَ له المغفرة لذنوبه، كما: -
١٥١٧٦- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قوله: "واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة"، قال: مغفرة.
* * *
وقوله: "إنا هُدنا إليك"، يقول: إنا تبنا إليك. (٢)
* * *
وبنحو ذلك قال أهل التأويل.
(٢) (٤) انظر تفسير ((هاد)) فيما سلف ١٢: ١٩٨، تعليق: ١، والمراجع هناك.
١٥١٧٧- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير، وابن فضيل، وعمران بن عيينة، عن عطاء، عن سعيد بن جبير= وقال عمران: عن ابن عباس = "إنا هدنا إليك" قال: تبنا إليك.
١٥١٧٨- قال حدثنا زيد بن حباب، عن حماد بن سلمة، عن عطاء، عن سعيد بن جبير، قال: تبنا إليك.
١٥١٧٩-.... قال، حدثنا جابر بن نوح، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس قال: تبنا إليك.
١٥١٨٠-.... قال، حدثنا عبد الله بن بكر، عن حاتم بن أبي صغيرة، عن سماك: أن ابن عباس قال في هذه الآية: "إنا هدنا إليك"، قال: تبنا إليك. (١)
١٥١٨١- حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج قال، حدثنا حماد، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير= قال: أحسبه عن ابن عباس: "إنا هدنا إليك"، قال: تبنا إليك.
١٥١٨٢- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: "إنا هدنا إليك"، يقول تبنا إليك.
١٥١٨٣- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثني يحيى بن سعيد قال، حدثنا
١٥١٨٤-.... قال، حدثنا عبد الرحمن، ووكيع بن الجراح قالا حدثنا سفيان، عن عبد الرحمن بن الأصبهاني، عن سعيد بن جبير، بمثله.
١٥١٨٥- حدثني ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن ابن الأصبهاني، عن سعيد بن جبير، مثله.
١٥١٨٦-.... قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن إبراهيم قال: تبنا إليك.
١٥١٨٧-.... قال، حدثنا محمد بن يزيد، عن العوام عن إبراهيم التيمي قال: تبنا إليك.
١٥١٨٧م- حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم، عن العوام، عن إبراهيم التيمي، مثله.
١٥١٨٨- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: "إنا هدنا إليك"، أي: إنا تبنا إليك.
١٥١٨٩- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة، في قوله: "هدنا إليك"، قال: تبنا.
١٥١٩٠- حدثنا موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: "إنا هدنا إليك"، يقول: تبنا إليك.
١٥١٩١- حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: "إنا هدنا إليك"، يقول: تبنا إليك.
١٥١٩٢- حدثني المثني قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
١٥١٩٣- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن أبي جعفر الرازي، عن
١٥١٩٤-... قال، حدثنا أبي، عن أبي حجير، عن الضحاك، قال: تبنا إليك. (١)
١٥١٩٥-.... قال، حدثنا المحاربي، عن جويبر، عن الضحاك قال: تبنا إليك.
١٥١٩٦- وحدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول، أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول، فذكر مثله.
١٥١٩٧-... قال، حدثنا أبي، وعبيد الله، عن شريك، عن جابر، عن مجاهد قال: تبنا إليك.
١٥١٩٨-... قال، حدثنا حبويه أبو يزيد، عن يعقوب، عن جعفر، عن سعيد بن جبير، مثله. (٢)
١٥١٩٩-... قال، حدثنا أبي، عن شريك، عن جابر، عن عبد الله بن يحيى، عن علي عليه السلام قال: إنما سميت "اليهود"، لأنهم قالوا: "هدنا إليك". (٣)
١٥٢٠٠- حدثني المثني قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس: "إنا هدنا إليك"، يعني: تبنا إليك.
١٥٢٠١- حدثنا ابن البرقي قال، حدثنا عمرو قال، سمعت رجلا يسأل سعيدًا: "إنا هدنا إليك"، قال: إنا هدنا إليك.
* * *
وقد بينا معنى ذلك بشواهده فيما مضى قبل، بما أغنى عن إعادته. (٤)
* * *
(٢) (٢) الأثر: ١٥١٩٨ - ((حبويه))، ((أبو يزيد))، مضى قريباً برقم ١٥١٧٢.
(٣) (٣) الأثر: ١٥١٩٩- ((جابر بن عبد الله بن يحيى))، هكذا هو في المخطوطة، وفي المطبوعة ((جابر، عن عبد الله بن يحيى))، ولم أجد لشيء من ذلك ذكراً في الكتب. وهو محرف بلا شك عن شيء آخر. وانظر ما سلف رقم ١٠٩٤، عن ابن جريج. بمعنى هذا الخبر.
(٤) (٤) انظر تفسير ((هاد)) فيما سلف ص: ١٥٢، تعليق. ٤، والمراجع هناك.
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: قال الله لموسى: هذا الذي أصبتُ به قومك من الرجفة، عذابي أصيب به من أشاء من خلقي، كما أصيب به هؤلاء الذين أصبتهم به من قومك (١) = "ورحمتي وسعت كل شيء"، يقول: ورحمتي عمَّت خلقي كلهم. (٢)
* * *
وقد اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.
فقال بعضهم: مخرجه عامٌّ، ومعناه خاص، والمراد به: ورحمتي وَسِعت المؤمنين بي من أمة محمّدٍ صلى الله عليه وسلم. واستشهد بالذي بعده من الكلام، وهو قوله: "فسأكتبها للذين يتقون"، الآية.
* ذكر من قال ذلك:
١٥٢٠٢- حدثني المثني قال، حدثنا أبو سلمة المنقري قال، حدثنا حماد بن سلمة قال، أخبرنا عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: أنه قرأ: "ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون". قال: جعلها الله لهذه الأمة. (٣)
(٢) (٢) انظر تفسير ((وسع)) فيما سلف ١٢: ٥٦٢، تعليق ٢، والمراجع هناك.
(٣) (٣) الأثر: ١٥٢٠٢ - ((أبو سلمة المنقري))، هو ((أبو سلمة التبوذكي)) :((موسى بن إسماعيل المنقري))، مولاهم، روى عنه البخاري، وأبو داود، وروى له الباقون من أصحاب الكتب الستة بالواسطة. ثقة إمام. مترجم في التهذيب، والكبير ٤/١/٢٨٠، وابن أبي حاتم ٤/١/١٣٦.
١٥٢٠٤- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: لما نزلت: "ورحمتي وسعت كل شيء"، قال إبليس: أنا من "كل شيء! ". قال الله: "فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون"، الآية. فقالت اليهود: ونحن نتقي ونؤتي الزكاة! فأنزل الله: "الذين يتبعون الرسول النبي الأمي"، قال: نزعها الله عن إبليس، وعن اليهود، وجعلها لأمة محمدٍ: سأكتبها للذين يتّقون من قومك.
١٥٢٠٥- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: "عذابي أصيب به من أشاء ورحمتي وسعت كل شيء"، فقال إبليس: أنا من ذلك "الشيء"! فأنزل الله: "فسأكتبها للذين يتقون" معاصي الله= "والذين هم بآياتنا يؤمنون"، فتمنتها اليهود والنصارى، فأنزل الله شرطًا وَثيقًا بَيِّنًا، فقال: "الذين يتبعون الرسول النبيّ الأمي"، فهو نبيّكم، كان أميًّا لا يكتُب صلى الله عليه وسلم.
١٥٢٠٦- حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية قال، أخبرنا خالد الحذاء،
١٥٢٠٧- حدثني ابن وكيعٍ قال، حدثنا ابن علية، وعبد الأعلى، عن خالد، عن أنيس أبي العُريان= قال عبد الأعلى، عن أنيس أبي العُرْيان= وقال: قال ابن عباس: "واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة إنَّا هدنا إليك"، قال: فلم يعطها موسى، قال: "عذابي أصيب به من أشاء ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها"، إلى آخر الآية.
١٥٢٠٨- حدثني المثني قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قال: كان الله كتب في الألواح ذكر محمد وذكرَ أمته، وما ذَخَر لهم عنده، وما يسَّر عليهم في دينهم، وما وَسَّع عليهم فيما أحلّ لهم، فقال:
إما أن يكون صواب الخبر الأول: ((أنيس أبي العريان)).
والثاني ((أنيس أبي العريان)) في الأولى، وعن عبد الأعلى ((أنيس ابن أبي العريان)). أو: أن يكون الأول عن ابن عيينة: ((أنيس بن أبي العريان))، والثاني أيضاً: ((أنيس ابن أبي العريان))، وعن عبد الأعلى: ((أنيس بن أبي العريان)). والله أعلم بالصواب في كل ذلك، ولا مرجح عندي..
* * *
وقال آخرون: بل ذلك على العموم في الدنيا، وعلى الخصوص في الآخرة.
* ذكر من قال ذلك:
١٥٢٠٩- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الحسن وقتادة في قوله: "ورحمتي وسعت كل شيء"، قالا وسعت في الدنيا البَرَّ والفاجر، وهي يوم القيامة للذين اتَّقوا خاصَّةً.
* * *
وقال آخرون: هي على العموم، وهي التوبة.
* ذكر من قال ذلك:
١٥٢١٠- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: "أنت ولينا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين* واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة إنا هدنا إليك"، فقال: سأل موسى هذا، فقال الله: "عذابي أصيب به من أشاء"= العذاب الذي ذَكر= "ورحمتي"، التوبةُ = (وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون)، قال: فرحمته التوبةُ التي سأل موسى عليه السلام، كتبها الله لنا.
* * *
وأما قوله: "فسأكتبها للذين يتقون"، فإنه يقول: فسأكتب رحمتي التي وسعت كل شيء= ومعنى "أكتب" في هذا الموضع: أكتب في اللوح الذي كُتِب فيه التوراة "للذين يتقون"، (١) يقول: للقوم الذين يخافون الله ويخشون عقابه على الكفر به والمعصية له في أمره ونهيه، فيؤدُّون فرائضه، ويجتنبون معاصيه. (٢)
(٢) (٢) انظر تفسير ((التقوى)) فيما سلف من فهارس اللغة (وقى).
* ذكر من قال ذلك:
١٥٢١١- حدثني المثني قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس: "فسأكتبها للذين يتقون"، يعني الشرك.
* * *
وقال آخرون: بل هو المعاصي كلها.
* ذكر من قال ذلك:
١٥٢١٢- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة "فسأكتبها للذين يتقون"، معاصي الله.
* * *
وأما "الزكاة وإيتاؤها"، فقد بيَّنا صفتها فيما مضى، بما أغنى عن إعادته. (١)
* * *
وقد ذكر عن ابن عباس في هذا الموضع أنه قال في ذلك ما: -
١٥٢١٣- حدثني المثني قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس: "ويؤتون الزكاة"، قال: يطيعون الله ورسولَه.
* * *
فكأنّ ابن عباس تأوَّل ذلك بمعنى أنه العمل بما يزكِّي النفسَ ويطهِّرها من صالحات الأعمال.
* * *
وأما قوله: "والذين هم بآياتنا يؤمنون"، فإنه يقول: وللقوم الذين هم بأعلامنا وأدلتنا يصدِّقون ويقرُّون. (٢)
* * *
(٢) (٢) انظر تفسير ((الآيات)) و ((والإيمان)) فيما سلف من فهارس اللغة (أيي) و (أمن).
قال أبو جعفر: وهذا القول إبانةٌ من الله جل ثناؤه عن أنّ الذين وَعَد موسى نبيَّه عليه السلام أن يكتب لهم الرحمة التي وصفَها جل ثناؤه بقوله: "ورحمتي وسعت كل شيء"، هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم، لأنه لا يعلم لله رسولٌ وُصف بهذه الصفة = أعني "الأمي" = غير نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. وبذلك جاءت الروايات عن أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
١٥٢١٤- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عمران بن عيينة، عن عطاء، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: "فسأكتبها للذين يتقون"، قال: أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
١٥٢١٥-.... قال، حدثنا زيد بن حباب، عن حماد بن سلمة، عن عطاء، عن ابن عباس قال: أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
١٥٢١٦- حدثنا أبو كريب وابن وكيع قالا حدثنا يحيى بن يمان، عن أشعث، عن جعفر، عن سعيد في قوله: "فسأكتبها للذين يتقون"، قال: أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فقال موسى عليه السلام: ليتني خلقت في أمّة محمدٍ!.
١٥٢١٧- حدثنا ابن حميد وابن وكيع قالا حدثنا جرير، عن عطاء، عن سعيد بن جبير: "فسأكتبها للذين يتقون"، قال: الذين يتّبعون محمدًا صلى الله عليه وسلم.
١٥٢١٨- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير، عن ليث، عن شهر بن حوشب، عن نوف الحميري قال: لما اختار موسى قومه سبعين رجلا لميقات ربه، قال الله لموسى: أجعل لكم الأرض مسجدًا وطهورًا، وأجعل السكينة معكم
١٥٢١٩- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن يحيى بن أبي كثير، عن نوف البكالي قال: لما انطلق موسى بوفد بني إسرائيل، كلّمه الله فقال: إني قد بسطت لهم الأرض طهورًا ومساجدَ يصلُّون فيها حيث أدركتهم الصلاة، إلا عند مرحاضٍ أو قبر أو حمّام، وجعلت السكينة في قلوبهم، وجعلتهم يقرأون التوراةَ عن ظهر ألسنتهم. قال: فذكر ذلك موسى لبني إسرائيل، فقالوا: لا نستطيع حمل السكينة في قلوبنا، فاجعلها لنا في تابوت، ولا نقرأ التوراة إلا نظرًا، ولا نصلي إلا في الكنيسة! فقال الله: "فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة"، حتى بلغ "أولئك هم المفلحون". قال: فقال موسى عليه السلام: يا ربّ، اجعلني نبيَّهم! قال: نبيُّهم منهم! قال: رب اجعلني منهم! قال: لن تدركهم! قال: يا ربّ، أتيتك بوفد بني إسرائيل، فجعلت وِفَادَتنا لغيرنا! فأنزل الله: (وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ) [سورة الأعراف: ١٥٩].
(٢) (٢) في المطبوعة: ((عن ظهور))، وتنظر التعليق السالف.
(٣) الأثر: ١٥٢١٨ "نوف الحميري" هو نوف البكالي المذكور في الأثريين التاليين: ٥١٥٢١٩، ١٥٢٢٠، وهو "نوف بن فضالة الحميري البكالي الشامي" مضى برقم: ٣٩٦٥، ٩٤٤٦، ٩٤٥٦.
١٥٢٢٠- حدثنا محمد بن المثني قال، حدثنا معاذ بن هشام قال، حدثني أبي، عن يحيى بن أبي كثير، عن نوف البكالي بنحوه= إلا أنه قال: فإني أنزل عليكم التوراة تقرأونها عن ظهر ألسنتكم، رجالكم ونساؤُكم وصبيانكم. قالوا: لا نُصلّي إلا في كنيسة، ثم ذكر سائر الحديث نحوه.
١٥٢٢١- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا إسحاق بن إسماعيل، عن يعقوب، عن جعفر، عن سعيد بن جبير: "فسأكتبها للذين يتقون"، قال: أمة محمد صلى الله عليه وسلم. (١)
١٥٢٢٢- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: "فسأكتبها للذين يتقون"، قال: هؤلاء أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
١٥٢٢٣- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: لما قيل: "فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون"، تمنّتها اليهود والنصارى، فأنزل الله شرطًا بيّنًا وثيقًا فقال: "الذين يتبعون الرَّسول النبيّ الأمي"، وهو نبيكم صلى الله عليه وسلم، كان أمِّيًّا لا يكتبُ. (٢)
* * *
وقد بينا معنى "الأمي" فيما مضى، بما أغنى عن إعادته. (٣)
* * *
وأما قوله: "الذي يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل"، فإن "الهاء"
(٢) (٢) الأثر: ١٥٢٢٣ - انظر الأثر السالف رقم: ١٥٢٠٥
(٣) (٣) انظر تفسير ((الأمي)) فيما سلف ٢: ٢٥٧ - ٢٥٩ / ٣: ٤٤٢ / ٦: ٢٨١، ٢٨٢، ٥٢٢/ ثم انظر رقم: ٥٨٢٧، ١٧٧٤، ٦٧٧٥.
١٥٢٢٤- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي، قوله: "الذين يتبعون الرسول النبي الأميّ"، هذا محمّد صلى الله عليه وسلم.
١٥٢٢٥- حدثني ابن المثني قال، حدثنا عثمان بن عمر قال، حدثنا فليح، عن هلال بن علي، عن عطاء بن يسار قال: لقيت عبد الله بن عمرو، فقلت: أخبرني عن صفة رسولِ الله ﷺ في التوراة. قال: أجل والله، إنه لموصوف في التوراة كصفتِه في القرآن: يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدًا ومُبَشِّرًا ونذيرًا، وحِرْزًا للأمِّيين، أنت عبدي ورسولي، سميتك المتوكّل، (١) ليس بفظٍّ ولا غليظ ولا صخَّاب في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح، ولن نقبضه حتى نقيم به الملةَ العوجاء، بأن يقولوا: "لا إله إلا الله"، فنفتح به قلوبًا غُلْفًا، وآذانًا صُمًّا، وأعينًا عُمْيًا= قال عطاء: ثم لقيتُ كعبًا فسألته عن ذلك، فما اختلفا حرفًا، إلا أن كعبًا قال بلغته: قلوبًا غُلُوفيا، وآذانًا صمومِيَا، وأعينًا عُمْوميا. (٢)
١٥٢٢٦- حدثني أبو كريب قال، حدثنا موسى بن داود قال، حدثنا فليح بن سليمان، عن هلال بن علي قال، حدثني عطاء قال: لقيت عبد الله
(٢) (٢) الأثر: ١٥٢٢٥ - ((عثمان بن عمر بن فارس بن لقيط العبدي))، ثقة، من شيوخ أحمد، روى له الجماعة، سلف برقم: ٥٤٥٨. و ((فليح))، هو ((فليح بن سليمان بن أبي المغيرة الخزامي))، ثقة، روى له الجماعة، مضى برقم: ٥٠٩٠. و ((هلال بن على بن أسامة المدني))، وينسب إلى جده فيقال: ((هلال بن أسامة))، ثقة، مضى برقم: ١٤٩٥. وانظر الآثار التالية.
١٥٢٢٧-... قال، حدثنا موسى قال، حدثنا عبد العزيز بن سلمة، عن هلال بن علي، عن عطاء بن يسار، عن عبد الله بنحوه= وليس فيه كلام كعب.
١٥٢٢٨- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال الله: "الذي يجدونه مكتوبًا عندهم"، يقول: يجدون نعتَه وأمرَه ونبوّته مكتوبًا عندهم.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: يأمر هذا النبيُّ الأميُّ أتباعَه بالمعروف= وهو الإيمان بالله ولزوم طاعته فيما أمر ونهى، فذلك "المعروف" الذي يأمرهم به (١) = "وينهاهم عن المنكر" وهو الشرك بالله، والانتهاء عمّا نهاهم الله عنه. (٢) وقوله: "ويحل لهم الطيبات"، وذلك ما كانت الجاهلية تحرِّمه من البحائر والسَّوائب والوصائل والحوامي (٣) = "ويحرم عليهم الخَبَائث"، وذلك لحم الخنزير والرِّبا وما كانوا يستحلونه من المطاعم والمشارب التي حرمها الله، (٤) كما:-
(٢) (٢) انظر تفسير ((المنكر)) فيما سلف ١٠: ٤٩٦ تعليق: ٢، والمراجع هناك.
(٣) (٣) انظر تفسير ((الطيبات)) فيما سلف ١١: ٩٦ تعليق: ٢، والمراجع هناك.
(٤) (٤) انظر تفسير ((الخبائث)) فيما سلف ١١: ٩٦ تعليق: ٢، والمراجع هناك.
* * *
وأما قوله: "ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم"، فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله.
فقال بعضهم: يعني بـ"الإصر"، العهدَ والميثاقَ الذي كان أخذه على بني إسرائيل بالعمل بما في التوراة.
* ذكر من قال ذلك:
١٥٢٣٠- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جابر بن نوح، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس: "ويضع عنهم إصرهم"، قال: عهدهم.
١٥٢٣١-... قال حدثنا المحاربي، عن جويبر، عن الضحاك، قال: عهدهم.
١٥٢٣٢- حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن علي قال، أخبرنا هشيم، عن جويبر، عن الضحاك، مثله.
١٥٢٣٣- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن يمان، عن مبارك، عن الحسن: "ويضع عنهم إصرهم"، قال: العهود التي أعطوها من أنفسهم.
١٥٢٣٤-.... قال، حدثنا ابن نمير، عن موسى بن قيس، عن مجاهد: "ويضع عنهم إصرهم"، قال: عهدهم. (١)
١٥٢٣٥- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: "ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم"، يقول: يضع عنهم عهودهم ومواثيقَهم التي أخذت عليهم في التوراة والإنجيل.
* * *
وقال بعضهم: عني بذلك أنه يضع عمن اتّبع نبيَّ الله صلى الله عليه وسلم، التشديدَ الذي كان على بني إسرائيل في دينهم.
* ذكر من قال ذلك:
١٥٢٣٧- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: "ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم"، فجاء محمد ﷺ بإقالةٍ منه وتجاوزٍ عنه.
١٥٢٣٨- حدثني المثني قال حدثنا الحماني قال، حدثنا شريك، عن سالم، عن سعيد: "ويضع عنهم إصرهم"، قال: البولَ ونحوه، مما غُلِّظ على بني إسرائيل.
١٥٢٣٩-.... قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا يعقوب، عن جعفر، عن سعيد قال: شدّة العمل.
١٥٢٤٠- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال مجاهد قوله: "ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم" قال: من اتبع محمدًا ودينه من أهل الكتاب، وُضع عنهم ما كان عليهم من التشديد في دينهم.
١٥٢٤١- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن فضيل، عن أشعث، عن ابن سيرين قال: قال أبو هريرة لابن عباس: ما علينا في الدين من حَرَج أن نزني ونسرق؟ قال: بلى! ولكن الإصر الذي كان على بني إسرائيل وُضِع عنكم.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إنّ "الإصر" هو العهد= وقد بينا ذلك بشواهده في موضعٍ غير هذا بما فيه الكفاية (١) = وأن معنى الكلام: ويضع النبيُّ الأميُّ العهدَ الذي كان الله أخذ على بني إسرائيل، من إقامة التوراة والعملِ بما فيها من الأعمال الشديدة، كقطع الجلد من البول، وتحريم الغنائم، ونحو ذلك من الأعمال التي كانت عليهم مفروضةً، فنسخها حُكْم القرآن.
* * *
وأما "الأغلال التي كانت عليهم"، فكان ابن زيد يقول بما: -
١٥٢٤٣- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب، عنه في قوله: "والأغلال التي كانت عليهم"، قال: "الأغلال"، وقرأ (غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ) [سورة المائدة: ٦٤]. قال: تلك الأغلال. قال: ودعاهم إلى أن يؤمنوا بالنبيّ فيضع ذلك عنهم.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٥٧) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فالذين صدَّقوا بالنبي الأمي، وأقرُّوا بنبوّته (٢) = "وعزَّروه"، يقول: وَقَّروه وعظموه وحَمَوه من الناس، (٣) كما: -
١٥٢٤٤- حدثني المثني قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني
(٢) (٢) انظر تفسير ((الإيمان)) فيما سلف من فهارس اللغة (أمن).
(٣) (٣) انظر تفسير ((التعزير)) فيما سلف ١٠: ١١٩ - ١٢١.
١٥٢٤٥- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثني موسى بن قيس، عن مجاهد: "وعزروه ونصروه": "عزَّروه"، سدَّدوا أمره، وأعانوا رَسُوله= "ونَصَرُوه".
* * *
وقوله: "نصروه"، يقول: وأعانوه على أعداء الله وأعدائه، بجهادهم ونصب الحرب لهم = "واتبعوا النور الذي أنزل معه"، يعني القرآن والإسلام (١) = "أولئك هم المفلحون"، يقول: الذين يفعلون هذه الأفعال التي وصف بها جل ثناؤه أتباع محمد صلى الله عليه وسلم، هم المنجحون المدرِكون ما طلبُوا ورجَوْا بفعلهم ذلك. (٢)
١٥٢٤٦- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: فما نقموا= يعني اليهود= إلا أن حسدوا نبيَّ الله، فقال الله: "الذين آمنوا به وعزّروه ونصروه"، فأما نصره وتعزيره فقد سبقتم به، ولكن خياركم من آمن بالله واتَّبع النور الذي أنزل معه.
* * *
يريد قتادة بقوله "فما نَقَموا إلا أن حسدوا نبي الله"، أن اليهودَ كان محمَّد ﷺ بما جاء به من عند الله رحمةً عليهم لو اتبعوه، لأنه جاء بوضع الإصر والأغلال عنهم، فحملهم الحسد على الكفر به، وترك قبول التخفيف، لغلبة خِذْلانِ الله عليهم.
* * *
(٢) (٢) انظر تفسير ((الفلاح)) فيما سلف: ١٢: ٥٠٥، تعليق: ٥، والمراجع هناك.
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيِّه محمد صلى الله عليه وسلم: "قل"، يا محمد للناس كلهم= "إنّي رسول الله إليكم جميعًا"، لا إلى بعضكم دون بعض، كما كان من قبلي من الرُّسل، مرسلا إلى بعض الناس دون بعض. فمن كان منهم أرسل كذلك، فإن رسالتي ليست إلى بعضكم دون بعض، ولكنها إلى جميعكم.
وقوله: "الذي"، من نعت اسم "الله" وإنما معنى الكلام: قل: يا أيها الناس إني رسول الله، الذي له ملك السموات والأرض، إليكم.
ويعني جل ثناؤه بقوله: "الذي له ملك السموات والأرض"، الذي له سلطان السَّموات والأرض وما فيهما، وتدبير ذلك وتصريفه (١) = "لا إله إلا هو"، يقول: لا ينبغي أن تكون الألوهة والعِبادة إلا له جل ثناؤه، دون سائر الأشياء غيره من الأنداد والأوثان، إلا لمن له سلطان كل شيء، والقادر على إنشاء خلق كل ما شاء وإحيائه، وإفنائه إذا شاء إماتته = "فآمنوا بالله ورسوله"، يقول جل ثناؤه: قل لهم: فصدِّقوا بآيات الله الذي هذه صفته، وأقِرُّوا بوحدانيته، وأنه الذي له الألوهة والعبادة، وصدقوا برسوله محمد ﷺ أنَّه مبعوث إلى خلقه، داع إلى توحيده وطاعته.
* * *
قال أبو جعفر: أما قوله: "النبي الأمي"، فإنه من نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
* * *
وقد بينت معنى "النبي" فيما مضى بما أغنى عن إعادته= ومعنى قوله: "الأمي". (١)
* * *
= "الذي يؤمن بالله"، يقول: الذي يصدق بالله وكلماته.
* * *
ثم اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: "وكلماته". (٢)
فقال بعضهم: معناه: وآياته.
* ذكر من قال ذلك:
١٥٢٤٧- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: "الذي يؤمن بالله وكلماته"، يقول: آياته.
* * *
وقال آخرون: بل عنى بذلك عيسى ابن مريم عليه السلام.
* ذكر من قال ذلك:
١٥٢٤٨- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال مجاهد قوله: "الذي يؤمن بالله وكلماته"، قال: عيسى ابن مريم.
١٥١٤٩- وحدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد قال، حدثنا
(٢) (٢) انظر تفسير ((الكلمة)) فيما سلف من الفهارس اللغة (كلم).
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا، أنَّ الله تعالى ذكره أمرَ عباده أن يصدِّقوا بنبوِّة النبيّ الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته، ولم يخصص الخبرَ جل ثناؤه عن إيمانه من "كلمات الله" ببعض دون بعضٍ، بل أخبرهم عن جميع "الكلمات"، فالحق في ذلك أن يعمَّ القول، فإن رسول الله ﷺ كان يؤمن بكلمات الله كلِّها، على ما جاء به ظاهرُ كتابِ الله.
* * *
وأما قوله: "واتبعوه لعلكم تهتدون"، فاهتدوا به أيها الناس، واعملوا بما أمركم أن تعملوا به من طاعة الله= "لعلكم تهتدون"، يقول: لكي تهتدوا فترشدوا وتصيبوا الحقّ في اتّباعكم إيّاه.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (١٥٩) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: "ومن قوم موسى"، يعني بني إسرائيل= "أمة"، يقول: جماعة (١) = "يهدون بالحق"، يقول: يهتدون بالحق، أي يستقيمون عليه ويعملون (٢) "وبه يعدلون"، أي: وبالحق يعطُون ويأخذون، ويُنصفون من أنفسهم فلا يجورون. (٣)
* * *
وقد قال في صفة هذه الأمة التي ذكرها الله في الآية، جماعةٌ أقوالا نحن ذاكرو ما حضَرنا منها.
(٢) (٢) انظر تفسير ((الهدى)) فيما سلف من فهارس اللغة (هدى).
(٣) (٣) انظر تفسير ((العدل)) فيما سلف ٦: ٥١، وفهارس اللغة (عدل).
١٥٢٥١- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قوله: "ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون"، قال: بلغني أن بني إسرائيل لمّا قتلوا أنبياءَهم، كفروا. وكانوا اثني عشر سبطًا، تبرّأ سبطٌ منهم مما صنعوا، واعتذروا، وسألوا الله أن يفرِّق بينهم وبينهم، ففتح الله لهم نَفَقًا في الأرض، فساروا فيه حتى خرجُوا من وراء الصين، فهم هنالك،
* * *
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فرقناهم= يعني قوم موسى من بني إسرائيل، فرقهم الله فجعلهم قبائل شتى، اثنتي عشرة قبيلة.
* * *
وقد بينا معنى "الأسباط"، فيما مضى، ومن هم. (١)
* * *
واختلف أهل العربية في وجه تأنيث "الاثنتي عشرة"، و"الأسباط" جمع مذكر. فقال بعض نحويي البصرة: أراد اثنتي عشرة فرقة، ثم أخبر أن الفرق "أسباط"، ولم يجعل العدد على "أسباط".
* * *
وكان بعضهم يستخِلُّ هذا التأويل ويقول (٢) لا يخرج العدد على غير
(٢) (٣) في المخطوطة: ((يستحكى هذا التأويل))، وفي المطبوعة: ((يستحكى على هذا التأويل))، زاد ((على))، لأن وجد الكلام لا معنى له. والصواب عندي ما أثبت ((يستخل)) من ((الخلل)) وهو الوهن والفساد، وقالوا: ((أمر مختل)) أي فاسد واهن. فاستخرج أبو جعفر أو غيره قياساً من ((الخلل)) ((استخل الشيء))، أي استوهنه واستضعفه، ووجد فيه خللاً. وهو قياس جيد في العربية. وهو صواب المعنى فيه إن شاء الله.
* * *
وقال بعض نحويي الكوفة: إنما قال "الاثنتي عشرة" بالتأنيث، و"السبط" مذكر، لأن الكلام ذهب إلى "الأمم"، فغُلّب التأنيث، وإن كان "السبط" ذكرًا، وهو مثل قول الشاعر: (٢) وَإِنَّ كِلابًا هَذِهِ عَشْرُ أَبْطُنٍ وَأَنْتَ بَرِيءٌ مِنْ قَبَائِلِهَا الْعَشْرِ (٣)
ذهب ب"البطن" إلى القبيلة والفصيلة، فلذلك جمع "البطن" بالتأنيث.
* * *
وكان آخرون من نحويي الكوفة يقولون: إنما أنّثت "الاثنتا عشرة"، و "السبط" ذكر، لذكر "الأمم". (٤)
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي أنّ "الاثنتي عشرة" أنثت لتأنيث "القطعة"، ومعنى الكلام: وقطعناهم قِطَعًا اثنتي عشرة ثم ترجم عن "القِطَع" ب"الأسباط"، وغير جائز أن تكون "الأسباط" مفسرة
(٢) (٢) النواح الكلابي، رجل من بنى كلاب.
(٣) (٣) سيبويه ٢: ١٧٤، معاني القرآن للفراء ١: ١٢٦، الإنصاف: ٣٢٣، العينى (هامش الخزانة) ٤: ٤٨٤، واللسان (بطن)، وغيرها. ولم أجد تتمة الشعر.
(٤) (٤) هو الفراء في معاني القرآن ١: ٣٩٧.
* * *
وأما "الأمم"، فالجماعات= و"السبط" في بني إسرائيل نحو "القَرْن". (٣)
* * *
وقيل: إنما فرّقوا أسباطًا لاختلافهم في دينهم.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (١٦٠) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: "وأوحينا إلى موسى"، إذ فرّقنا بني إسرائيل قومه اثنتي عشرة فرقة، وتيَّهناهم في التيه، فاستسقوا موسى من العَطش وغَوْر الماء= "أن اضرب بعصَاك الحجر".
* * *
(٢) (٢) في المطبوعة والمخطوطة: ((ففي ذلك أن الأسباط))، وهو تركيب واه ضعيف، ورجحت أن ما أثبت أشبه بالصواب.
(٣) (٣) انظر تفسير ((الأمة) فيما سلف ص: ١٧٢، تعليق: ١ والمراجع هناك وتفسير السبط فيما سلف ص ١٧٤ تعليق ٢ والمراجع هناك.
* * *
= "فانبجست"، فانصّبت وانفجرت من الحجر اثنتَا عشرة عينًا من الماء، "قد علم كل أناس"، يعني: كل أناس من الأسباط الاثنتي عشرة "مشربهم"، لا يدخل سبط على غيره في شربه= "وظللنا عليهم الغمام"، يكنُّهم من حرّ الشمس وأذاها.
* * *
وقد بينا معنى "الغمام" فيما مضى قبل، وكذلك: "المن والسلوى". (٢)
* * *
= "وأنزلنا عليهم المن والسلوى"، طعامًا لهم= "كلوا من طيبات ما رزقناكم"، يقول: وقلنا لهم: كلوا من حَلال ما رَزقْناكم، أيها الناس، وطيّبناه لكم= "وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون"، وفي الكلام محذوف، ترك ذكره استغناءً بما ظهَر عما ترك، وهو: "فأجِمُوا ذلك، (٣) وقالوا: لن نصبر على طعام واحد، فاستبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير"= "وما ظلمونا"، يقول: وما أدخلوا علينا نقصًا في ملكنا وسلطاننا بمسألتهم ما سألوا، وفعلهم ما فعلوا= "ولكن كانوا أنفسهم يظلمون"، أي: ينقصونها حظوظَها باستبدالهم الأدنى بالخير، والأرذل بالأفضل.
* * *
(٢) (٢) انظر تفسير ((تظليل الغمام)) فيما سلف ٢: ٩٠، ٩١. = وتفسير ((المن)) و ((والسلوى)) فيما سلف ٢: ٩١ - ١٠١. = وتفسير سائر الآية، وهي نظيرتها فيما سلف ٢: ١٠١، ١٠٢.
(٣) (٣) في المطبوعة: ((فأجمعوا ذلك))، ظن ما في المخطوطة خطأ، فأصلحه، يعنى فأفسده! ! يقال: ((أجم الطعام يأجمه أجما))، إذا كرهه ومله من طول المداومة عليه.
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: واذكر أيضًا، يا محمد، من خطأ فعل هؤلاء القوم، وخلافهِم على ربهم، وعصيانهم نبيَّهم موسى عليه السلام، وتبديلهم القولَ الذي أمروا أن يقولوه حين قال الله لهم: "اسكنوا هذه القرية"، وهي قرية بيت المقدس (١) = "فكلوا منها"، يقول: من ثمارها وحبوبها ونباتها= "حيث شئتم"، منها، يقول: أنّى شئتم منها= "وقولوا حطة"، يقول: وقولوا: هذه الفعلة "حِطّةٌ"، تحطُّ ذنوبنا (٢) = "نغفر لكم"، يتغمد لكم ربكم= "ذنوبكم"، التي سلفت منكم، فيعفو لكم عنها، فلا يؤاخذكم بها. (٣) = "سنزيد المحسنين"، منكم، وهم المطيعون لله، (٤) على ما وعدتكم من غفران الخطايا.
* * *
وقد ذكرنا الروايات في كل ذلك باختلاف المختلفين، والصحيح من القول لدينا فيه فيما مضى، بما أغنى عن إعادته. (٥)
* * *
(٢) (٢) انظر تفسير ((الحطة)) فيما سلف ٢: ١٠٥ - ١٠٩.
(٣) (٣) انظر تفسير ((المغفرة)) فيما سلف من فهارس اللغة (غفر).
(٤) (٤) انظر تفسير ((الإحسان)) فيما سلف من فهارس اللغة (حسن).
(٥) (٥) انظر ما سلف في تفسير نظيرة هذه الآية ٢: ١٠٢ - ١١٢.
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فغيَّر الذين كفروا بالله منهم ما أمرهم الله به من القول، فقالوا= وقد قيل لهم: قولوا: هذه حطة=: "حنطة في شعيرة". وقولهم ذلك كذلك، هو غير القول الذي قيل لهم قولوه. يقول الله تعالى: "فأرسلنا عليهم رجزًا من السماءِ"، بَعثنا عليهم عذابًا، أهلكناهم بما كانوا يغيِّرون ما يؤمرون به، فيفعلون خلاف ما أمرهم الله بفعله، ويقولون غير الذي أمرهم الله بفعله. (١)
* * *
وقد بينا معنى الرجز فيما مضى. (٢)
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (١٦٣) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: واسأل، يا محمد، هؤلاء اليهود، وهم مجاوروك، عن أمر "القرية التي كانت حاضرة البحر"، يقول: كانت بحضرة البحر، أي بقرب البحر وعلى شاطئه.
* * *
واختلف أهل التأويل فيها.
(٢) (٢) انظر تفسير ((الرجز)) فيما سلف ٢: ١١٧، ١١٨ / ١٢: ٥٢١ / ١٣: ٧٢.
* ذكر من قال ذلك:
١٥٢٥٢- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن إدريس، عن محمد بن إسحاق، عن داود بن حصين، عن عكرمة، عن ابن عباس: "واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر"، قال: هي قرية يقال لها "أيلة"، بين مَدْين والطور.
١٥٢٥٣- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عبد الله بن كثير في قوله: "واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر" قال: سمعنا أنها أيلة.
١٥٢٥٤- حدثني سلام بن سالم الخزاعي قال، حدثنا يحيى بن سليم الطائفي قال، حدثنا ابن جريج، عن عكرمة قال: دخلتُ على ابن عباس والمصحف في حجره وهو يبكي، فقلت: ما يبكيك، جعلني الله فداك؟ فقال: ويلك، وتعرِف القرية التي كانت حاضرة البحر؟ فقلت: تلك أيلة! (١)
١٥٢٥٥- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن أبي بكر الهذلي، عن عكرمة، عن ابن عباس: "واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر"، قال: هي أيلة.
١٥٢٥٦- حدثني المثني قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قال: هي قرية على شاطئ البحر، بين مصر والمدينة، يقال لها: "أيلة".
١٥٢٥٨- حدثني الحارث قال، حدثنا أبو سعد، عن مجاهد في قوله: "واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر"، قال: أيلة.
* * *
وقال آخرون: معناه: ساحلُ مدين.
١٥٢٥٩- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: "واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر" الآية، ذكر لنا أنها كانت قرية على ساحل البحر، يقال لها أيلة.
* * *
وقال آخرون: هي مَقْنا.
* ذكر من قال ذلك:
١٥٢٦٠- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: "واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر"، قال: هي قرية يقال لها "مقنا"، بين مدين وعَيْنُوني. (١)
* * *
إِذْ هُنَّ فِي غَلَسِ الظَّلامِ قوارِبٌ | أَعْدَادَ عَيْنٍ من عُيُونِ أُثَالِ |
يَجْتَزْنَ أَوْدِيَةَ البُضَيْعِ جَوَازِعًا | أجْوَازَ عَيْنُونَا، فَنَعْفَ قِبَالِ |
وَليَ ابْنُ عَمٍّ لا يَزَا | لُ إِلَىَّ مُنْكَرُه دَسِيسَا |
دَبَّتْ لَهُ، فأحَسَّ بَعْ | دَ البُرْءِ مِنْ سَقَمٍ رَسِيسَا |
إِمَّا عَلانِيَةً، وَإِمَّا | مُخْمِرًا أَكْلا وَهِيسًا |
إِنِّي رَأَيتُ بَني أَبِيـ | ـــكَ يحمِّجُون إِليَّ شُوسَا |
* ذكر من قال ذلك:
١٥٢٨٩- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا ابن جريج قال، أخبرني رجل عن عكرمة، عن ابن عباس في قوله: "وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس"،: أليم وجيع.
١٥٢٩٠- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: "بعذاب بئيس"، قال: شديد.
١٥٢٩١- حدثني المثني قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: "بعذاب بئيس"، أليم شديد.
١٥٢٩٢- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: "بعذاب بئيس" قال: موجع.
١٥٢٩٣- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: "بعذاب بئيس"، قال: بعذاب شديد.
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فلما تمرَّدوا، فيما نهوا عنه من اعتدائهم في السبت، واستحلالهم ما حرَّم الله عليهم من صيد السمك وأكله، وتمادوا فيه (١) "قلنا لهم كونوا قردة خاسئين"، أي: بُعَداء من الخير. (٢)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
١٥٢٩٤- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: "فلما عتوا عما نهوا عنه"، يقول: لما مَرَد القوم على المعصية= "قلنا لهم كونوا قردة خاسئين"، فصارُوا قردةً لها أذناب، تعاوى، بعدما كانوا رجالا ونساءً.
١٥٢٩٥- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: "فلما عتوا عما نهوا عنه قلنا لهم كونوا قردة خاسئين"، فجعل الله منهم القردة والخنازير. فزعم أن شباب القوم صارُوا قردةً، وأن المشيخة صاروا خنازيرَ.
١٥٢٩٦- حدثني المثني قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا شريك، عن السدي، عن أبي مالك أو سعيد بن جبير قال: رأى موسى عليه السلام رجلا يحمل قصَبًا يوم السبت، فضرب عنقه.
* * *
(٢) (٢) انظر تفسير ((خسأ)) فيما سلف ٢: ١٧٤، ١٧٥.
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: "وإذ تأذن"، واذكر، يا محمد، إذ آذن ربك، وأعلم. (١)
* * *
=وهو "تفعل" من "الإيذان"، كما قال الأعشى، ميمون بن قيس:
أَذِنَ اليَوْمَ جِيرَتِي بِخُفُوفِ صَرَمُوا حَبْلَ آلِفٍ مَأْلُوفِ (٢)
يعني بقوله: "أذِن"، أعلم. وقد بينا ذلك بشواهده في غير هذا الموضع. (٣)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
١٥٢٩٧- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: "وإذ تأذن ربك"، قال: أمرَ ربك.
١٥٢٩٨- حدثنا الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا أبو سعد، عن مجاهد: "وإذ تأذن ربك"، قال: أمر ربك.
* * *
وقوله: "ليبعثن عليهم"، يعني: أعلم ربك ليبعثن على اليهود من يسومهم سوء
(٢) (٢) ديوانه: ٢١١، مطلع قصيدة له طويلة. وفي الديوان المطبوع ((بحفوفي))، وهو خطأ صرف، صوابه في مصورة ديوانه. و ((الخفوف)) مصدر قولهم: ((خف القوم عن منزلهم خفوفاً))، ارتحلوا، أو أسرعوا في الارتحال، وفي خطبته ﷺ في مرضه: ((أيها الناس، إنه قد دنا منى خفوف من بين أظهركم))، أي قرب ارتحال، منذراً ﷺ بموته.
(٣) (٣) انظر تفسير ((الإذن)) فيما سلف ١١: ٢١٥، تعليق: ٢، والمراجع هناك.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
١٥٢٩٩- حدثني المثني بن إبراهيم وعلي بن داود قالا حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: "وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب"، قال: هي الجزية، والذين يسومونهم: محمد ﷺ وأمّته، إلى يوم القيامة.
١٥٣٠٠- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: "وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب"، فهي المسكنة، وأخذ الجزية منهم.
١٥٣٠١- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج، قال ابن عباس: "وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب"، قال: يهود، وما ضُرب عليهم من الذلة والمسكنة.
١٥٣٠٢- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: "وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب"، قال: فبعث الله
١٥٣٠٣- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: "ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم"، قال: بعث عليهم هذا الحي من العرب، فهم في عذاب منهم إلى يوم القيامة. = وقال عبد الكريم الجزريّ: يُستحبُّ أن تُبعث الأنباط في الجزية. (١)
١٥٣٠٤- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا إسحاق بن إسماعيل، عن يعقوب، عن جعفر، عن سعيد: "وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم"، قال: العرب= "سوء العذاب"، قال: الخراج. وأوّلُ من وضع الخراج موسى عليه السلام، فجبى الخراجَ سبعَ سنين.
١٥٣٠٥- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يعقوب، عن جعفر، عن سعيد: "وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم"، قال: العرب= "سوء العذاب"؟ قال: الخراج. قال: وأول من وضع الخراج موسى، فجبى الخراج سبعَ سنين.
١٥٣٠٦- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يعقوب، عن جعفر، عن سعيد: "وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب"، قال: هم أهل الكتاب، بعث الله عليهم العرب يجبُونهم الخراجَ إلى يوم القيامة، فهو سوء العذاب. ولم يجب نبيٌّ الخراجَ قطُّ إلا مُوسى ﷺ ثلاث عشرة سنةً، ثم أمسك، وإلا النبي صلى الله عليه وسلم.
١٥٣٠٧- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: "وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب"، قال: يبعث عليهم هذا الحي من العرب، فهم في عذاب منهم إلى يوم القيامة.
١٥٣٠٨-..... قال أخبرنا معمر قال، أخبرني عبد الكريم، عن
١٥٣٠٩- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط عن السدي: "وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب"، يقول: إن ربك يبعث على بني إسرائيل العرب، فيسومونهم سوء العذاب، يأخذون منهم الجزية ويقتلونهم.
١٥٣١٠- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: "وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة"، ليبعثن على يَهُود.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٦٧) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: إن ربك يا محمد، لسريعٌ عقابه إلى من استوجَب منه العقوبة على كفره به ومعصيته= "وإنه لغفور رحيم"، يقول: وإنه لذو صفح عن ذنوب من تاب من ذنوبه، فأناب وراجع طاعته، يستر عليها بعفوه عنها= "رحيم"، له، أن يعاقبه على جرمه بعد توبته منها، لأنه يقبل التوبة ويُقِيل العَثْرة. (٢)
* * *
(٢) (٢) انظر تفسير ((سريع العقاب))، و ((غفور))، و ((رحيم)) فيما سلف من فهارس اللغة (سرع) و (غفر) و (رحم).
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وفرّقنا بني إسرائيل في الأرض (١) = "أممًا يعني: جماعات شتى متفرِّقين، (٢) كما: -
١٥٣١١- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا إسحاق بن إسماعيل، عن يعقوب، عن جعفر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: "وقطعناهم في الأرض أممًا"، قال: في كل أرض يدخلها قومٌ من اليهود. (٣)
١٥٣١٢- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: "وقطعناهم في الأرض أممًا"، قال: يهود.
* * *
وقوله: "منهم الصالحون"، يقول: من هؤلاء القوم الذين وصفهم الله من بني إسرائيل= "الصالحون"، يعني: من يؤمن بالله ورسله= "ومنهم دون ذلك"، يعني: دون الصالح. وإنما وصفهم الله جل ثناؤه بأنهم كانوا كذلك قبل ارتدادِهم عن دينهم، وقبل كفرهم بربهم، وذلك قبل أن يبعث فيهم عيسى ابن مريم صلوات الله عليه.
* * *
وقوله: "وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون"، يقول: واختبرناهم بالرخاء في العيش، (٤) والخفض في الدنيا والدعة، والسعة في الرزق، وهي
(٢) (٢) انظر تفسير ((أمة)) فيما سلف ص: ١٨٤، تعليق: ٣، والمراجع هناك.
(٣) (٣) الأثر: ١٥٣١١ - ((إسحق بن إسماعيل))، هو ((أبو يزيد)) ((حبويه))، انظر ما سلف رقم: ١٥٢٢١، والتعليق عليه هناك.
(٤) (٤) انظر تفسير ((الابتلاء)) فيما سلف من فهارس اللغة (بلا).
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فخلف من بعد هؤلاء القوم الذين وصف صفتهم (٣) = "خلف" يعني: خَلف سوء. يقول: حدث بعدهم وخلافَهم، وتبدل منهم، بَدَلُ سَوْءٍ.
* * *
يقال منه: "هو خَلَف صِدْقٍ"، "وخَلْفُ سَوْءٍ"، وأكثر ما جاء في المدح بفتح "اللام"، وفي الذم بتسكينها، وقد تحرَّك في الذم، وتسكّن في المدح، ومن ذلك في تسكينها في المدح قول حسان:
لَنَا القَدَمُ الأُولَى إلَيْكَ، وَخَلْفُنَا لأَوَّلِنَا فِي طَاعَةِ اللهِ تَابِعُ (٤)
(٢) (٢) انظر تفسير ((السيئات)) فيما سلف من فهارس اللغة (سوأ).
(٣) (٣) انظر تفسير ((خلف)) فيما سلف ص: ١٢٢، تعليق: ١، والمراجع هناك.
(٤) (٤) ديوانه: ٢٥٤، وسيرة ابن هشام ٣: ٢٨٣ واللسان (خلف)، وسيأتي في التفسير ١١: ٥٩ بولاق، من قصيدة بكى فيها سعد بن معاذ، في يوم بنى قريظة ورجالا من أصحاب رسول الله ﷺ من الشهداء. وقوله: ((القدم الأولى))، يعنى سابقة الأنصار في الإسلام. وروى السيرة: ((في ملة الله تابع)).
ذَهَبَ الَّذِينَ يُعَاشُ فِي أَكْنَافِهِمْ وَبَقِيتُ فِي خَلْفٍ كَجِلْدِ الأَجْرَبِ (٢)
* * *
وقيل: إن الخلف الذي ذكر الله في هذه الآية أنهم خَلَفوا من قبلهم، هم النصارى.
* ذكر من قال ذلك:
١٥٣١٣- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: "فخلف من بعدهم خلف"، قال: النصارى.
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال: إن الله تعالى
(٢) (٢) ديوانه، القصيدة: ٨، واللسان (خلف)، وغيرها كثير. يرثي بها أربد، صاحبه وابن عمه، قال:
قَضِّ اللُّبَانَةَ لا أَبَالَكَ وَاذْهبِ | وَالْحَقْ بأُسْرَتِكَ الكِرام الغُيَّبِ |
يَتَأَكَّلُونَ مَغَالَةً وَخِيَانَةً | وَيُعَابُ قَائلُهُمْ وَإِنْ لَمْ يَشْغَبِ |
يَا أرْبَدَ الخَيْرِ الكريمُ جُدُودُهُ | خَلَّيْتَني أَمْشِي بِقَرْنٍ أعْضَبِ |
................... | ................... |
إنَّ الرَّزِيَّةَ، لا رَزِيَّةَ مِثْلُهَا | فِقْدَانُ كُلَّ أَخٍ كَضَوْءِ الكَوْكَبِ |
* * *
فتأويل الكلام إذًا: فتبدَّل من بعدهم بَدَل سوء، ورثوا كتاب الله فَعُلِّموه، (١) وضيعوا العمل به، فخالفوا حكمه، يُرْشَون في حكم الله، فيأخذون الرشوة فيه من عَرَض هذا العاجل "الأدنى"، (٢) يعني ب"الأدنى": الأقرب من الآجل الأبعد. (٣) ويقولون إذا فعلوا ذلك: إن الله سيغفر لنا ذنوبنا، تمنِّيًا على الله الأباطيل، كما قال جل ثناؤه فيهم: (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ)، [سورة البقرة: ٧٩] = "وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه"، يقول: وإن شرع لهم ذنبٌ حرامٌ مثله من الرشوة بعد ذلك، (٤) أخذوه واستحلوه ولم يرتدعوا عنه. يخبر جل ثناؤه عنهم أنهم أهل إصرار على ذنُوبهم، وليسوا بأهل إنابة ولا تَوْبة.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل وإن اختلفت عنه عباراتهم.
(٢) (٢) انظر تفسير ((عرض الدنيا)) فيما سلف ٩: ٧١.
(٣) (٣) انظر تفسير ((الأدنى)) فيما سلف ٢: ١٣١.
(٤) (٤) في المخطوطة: ((وإن شرع لهم ذنباً))، سيئة الكتابة، والذي في المطبوعة ليس يبعد عن الصواب، وإن كنت غير راض عنه.
١٥٣١٤- حدثنا أحمد بن المقدام قال، حدثنا فضيل بن عياض، عن منصور، عن سعيد بن جبير في قوله: "يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون سيغفر لنا وإن يأتهم عَرَض مثله يأخذوه"، قال: يعملون الذنب، ثم يستغفرون الله، فإن عرض ذلك الذنب أخذوه.
١٥٣١٥- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن منصور، عن سعيد بن جبير: "وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه"، قال: من الذنوب.
١٥٣١١٦- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن سعيد بن جبير: "يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون سيغفر لنا"، قال: يعملون بالذنوب = "وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه"،: قال: ذنبٌ آخر، يعملون به.
١٥٣١٧- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن منصور، عن سعيد بن جبير: "يأخذون عرض هذا الأدنى"، قال: الذنوب= "وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه"، قال: الذنوب.
١٥٣١٨- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (يأخذون عرض هذا الأدنى) قال: ما أشرف لهم من شيء في اليوم من الدنيا حلالٌ أو حرام يشتهونه أخذوه، ويبتغون المغفرة، فإن يجدوا الغد مثلَه يأخذوه.
١٥٣١٩- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، بنحوه= إلا أنه قال: يتمنَّون المغفرة.
١٥٣٢٠- حدثنا الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا أبو سعد، عن مجاهد: "يأخذون عرض هذا الأدنى"، قال: لا يشرف لهم شيء من الدنيا إلا أخذوه، حلالا كان أو حرامًا، ويتمنون المغفرة، ويقولون: "سيغفر لنا"، وإن يجدوا عرضًا مثله يأخذوه.
١٥٣٢٢- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: "يأخذون عرض هذا الأدنى"، قال: يأخذونه إن كان حلالا وإن كان حرامًا= "وإن يأتهم عرض مثله"، قال: إن جاءهم حلال أو حرامٌ أخذوه.
١٥٣٢٣- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله: "فخلف من بعدهم خلف" إلى قوله: "ودرسوا ما فيه"، قال: كانت بنو إسرائيل لا يستقضون قاضيًا إلا ارتشى في الحكم، وإن خيارهم اجتمعُوا، فأخذ بعضهم على بعض العهود أن لا يفعلوا ولا يرتشوا، (٢) فجعل الرجل منهم إذا استُقْضِي ارتشى، فيقال له: ما شأنك ترتشي في الحكم؟ فيقول: سيغفر لي! فيطعن عليه البقية الآخرون من بني إسرائيل فيما صنع. فإذا مات، أو نزع، وجعل مكانه رجل ممن كان يطعن عليه، فيرتشي. يقول: وإن يأت الآخرين عرضُ الدنيا يأخذوه. وأما "عرض الأدنى"، فعرض الدنيا من المال.
١٥٣٢٤- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي
(٢) (٢) في المخطوطة: ((ولا يرتشى))، والصواب ما في المطبوعة.
١٥٣٢٥- وحدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: "يأخذون عرض هذا الأدنى"، قال: الكتاب الذي كتبوه= "ويقولون سيغفر لنا"، لا نشرك بالله شيئًا= "وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه"، يأتهم المحقّ برشوة فيخرجوا له كتاب الله، ثم يحكموا له بالرشوة. وكان الظالم إذا جاءهم برشوة أخرجوا له "المثنّاة"، وهو الكتاب الذي كتبوه، فحكموا له بما في "المثنّاة"، بالرشوة، فهو فيها محق، وهو في التوراة ظالم، فقال الله: (أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ).
١٥٣٢٦- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن سعيد بن جبير قوله: "فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى"، قال: يعملون بالذنوب= "ويقولون سيغفر لنا وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه"، قال: الذنوب.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٦٩) ﴾
وقال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: "ألم يؤخذ"، على هؤلاء المرتشين في أحكامهم، القائلين: "سيغفر الله لنا فعلنا هذا"، إذا عوتبوا على ذلك= "ميثاقُ الكتاب"، وهو أخذ الله العهود على بني إسرائيل، بإقامة التوراة، والعمل بما
١٥٣٢٧- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال ابن عباس: "ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب ألا يقولوا على الله إلا الحق"، قال: فيما يوجبون على الله من غُفران ذنوبهم التي لا يَزَالون يعودون فيها ولا يَتُوبون منها.
* * *
وأما قوله: "ودرسوا ما فيه"، فإنه معطوف على قوله: "ورثوا الكتاب"، ومعناه: "فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب"، "ودرسوا ما فيه"= ويعني بقوله: "ودرسوا ما فيه"، قرأوا ما فيه، (٢) يقول: ورثوا الكتاب فعلموا ما فيه ودرسوه، فضيعوه وتركوا العمل به، وخالفوا عهد الله إليهم في ذلك، كما: -
١٥٣٢٨- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: "ودرسوا ما فيه"، قال: علّموه، علّموا ما في الكتاب الذي ذكر الله، وقرأ: (بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ)، [سورة آل عمران: ٧٩].
* * *
قال أبو جعفر: "والدار الآخرة خير للذين يتقون"، يقول جل ثناؤه: وما في الدار الآخرة، وهو ما في المعادِ عند الله، (٣) مما أعدّ لأوليائه، والعاملين بما أنزل في كتابه، المحافظين على حدوده= "خير للذين يتقون الله"، (٤) ويخافون
(٢) (٢) انظر تفسير ((درس)) فيما سلف ٦: ٥٤٦ / ١٢: ٢٥ - ٣١ / ١٢: ٢٤١.
(٣) (٣) انظر تفسير ((الدار الآخرة)) فيما سلف من فهارس اللغة (أخر).
(٤) (٤) انظر تفسير ((التقوى)) فيما سلف من فهارس اللغة (وقى).
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (١٧٠) ﴾
قال أبو جعفر: واختلفت القرأة في قراءة ذلك.
فقرأ بعضهم: (يُمْسِكُونَ) بتخفيف الميم وتسكينها، من "أمْسك يمسك".
* * *
وقرأه آخرون: (يُمَسِّكُونَ)، بفتح الميم وتشديد السين، من "مَسَّك يُمَسِّك".
* * *
قال أبو جعفر: ويعني بذلك: والذين يعملون بما في كتاب الله= "وأقاموا الصلاة"، بحدودها، ولم يضيعوا أوقاتها (٢) = "إنا لا نضيع أجر المصلحين". يقول تعالى ذكره: فمن فعل ذلك من خلقي، فإني لا أضيع أجر عمله الصالح، كما: -
١٥٣٢٩- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: "والذين يمسكون بالكتاب"، قال: كتاب الله الذي جاء به موسى عليه السلام.
(٢) (٢) انظر تفسير ((إقامة الصلاة)) في فهارس اللغة (قوم)).
* * *
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: واذكر، يا محمد، إذ اقتلعنا الجبل فرفعناه فوق بني إسرائيل، كأنه ظلة غمام من الظلال= وقلنا لهم: "خذوا ما آتيناكم بقوة"، من فرائضنا، وألزمناكم من أحكام كتابنا، فاقبلوه، اعملوا باجتهاد منكم في أدائه، من غير تقصير ولا توانٍ (١) = "واذكروا ما فيه"، يقول ما في كتابنا من العهود والمواثيق التي أخذنا عليكم بالعمل بما فيه = "لعلكم تتقون"، يقول: كي تتقوا ربكم، فتخافوا عقابه بترككم العمل به إذا ذكرتم ما أخذ عليكم فيه من المَواثيق.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
١٥٣٣١- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: "وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة"، فقال لهم موسى: خذوا ما آتيناكم بقوة"، يقول: من العمل بالكتاب، وإلا خَرَّ عليكم
١٥٣٣٢- حدثني المثني قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي عن ابن عباس قوله: "وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة"، فهو قوله: (وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ)، [سورة النساء: ١٥٤]، فقال: "خذوا ما آتيناكم بقوة"، وإلا أرسلته عليكم.
١٥٣٣٣- حدثني إسحاق بن شاهين قال، حدثنا خالد بن عبد الله، عن داود، عن عامر، عن ابن عباس قال: إنّي لأعلم خَلْقِ الله لأيِّ شيء سجدت اليهود على حَرْفِ وُجوههم: لما رفع الجبل فوقهم سَجَدُوا، وجعلوا ينظرون إلى الجبل مخافةَ أن يقع عليهم. قال: فكانت سجدةً رضيها الله، فاتخذوها سُنَّة. (١)
١٥٣٣٤- حدثنا محمد بن المثنى قال: حدثنا عبد الأعلى قال: حدثنا داود، عن عامر، عن ابن عباس، مثله.
١٥٣٣٥- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: "وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة وظنوا أنه واقع بهم خذوا ما آتيناكم بقوة"، أي: بجدّ= "واذكروا ما فيه لعلكم تتقون"، جبل نزعه الله من أصله ثم جعله فوق رؤوسهم، فقال: لتأخذُنّ أمري، أو لأرمينَّكم به!
١٥٣٣٦- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج، قال مجاهد: "وإذ نتقنا الجبل"، قال: كما تنتق الزُّبْدَة (٢)
و ((خالد بن عبد الله بن عبد الرحمن المزني الواسطى))، مضى برقم: ٧٢١١. و ((داود)) هو ((داود بن أبي هند)). و ((عامر)) هو الشعبى.
(٢) (٢) في المطبوعة: ((كما تنتق الربذة))، وهي في المخطوطة غير منقوطة، فأساء إعجامها غاية الإساءة. ونتق الزبدة))، هو أن تنفض السقاء لكي تقتلع منه زبدته.
١٥٣٣٧- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن أبي بكر بن عبد الله قال: هذا كتاب الله، أتقبلونه بما فيه، فإن فيه بيانُ ما أحلَّ لكم وما حرَّم عليكم، وما أمركم وما نهاكم! قالوا: انشُرْ علينا ما فيها، فإن كانت فرائضها يسيرةً وحدودها خفيفةً، قبلناها! قال: اقبلوها بما فيها! قالوا: لا حتى نعلم ما فيها، كيف حدودها وفرائضها! فراجعوا موسى مرارًا، فأوحى الله إلى الجبل فانقلع فارتفع في السماء، حتى إذا كان بين رؤوسهم وبين السماء قال لهم موسى: ألا ترون ما يقول ربِّي؟ "لئن لم تقبلوا التوراةَ بما فيها لأرمينَّكم بهذا الجبل". قال: فحدثني الحسن البصريّ، قال: لما نظروا إلى الجبل خرَّ كلُّ رجل ساجدًا على حاجبه الأيسر، ونظر بعينه اليُمْنَى إلى الجبلِ، فَرَقًا من أن يسقط عليه، فلذلك ليس في الأرض يهوديُّ يسجدُ إلا على حاجبه الأيسر، يقولون: هذه السجدة التي رُفِعت عنا بها العقوبة= قال أبو بكر: فلما نشر الألواح فيها كتاب الله كتَبَه بيده، لم يبقَ على وجه الأرض جبلٌ ولا شجرٌ ولا حجرٌ إلا اهتزّ، فليس اليوم يهوديّ على وجه الأرضِ صغيرٌ ولا كبير تقرأ عليه التوراة إلا اهتزّ، ونَفضَ لها رأسَه.
* * *
قال أبو جعفر: واختلف أهل العلم بكلام العرب في معنى قوله: "نتقنا".
فقال بعض البصريين (١) معنى "نتقنا"، رفعنا، واستشهد بقول العجاج:
يَنْتُقُ أَقْتَادَ الشَّلِيلِ نَتْقَا (٢)
(٢) (٢) ديوانه: ٤٠، ومجاز القرآن لأبي عبيدة ١: ٢٣٢، من آبيات يذكر فيها بعيره وسرعته وشدة سيره. و ((الشليل))، الحلس، أو مسح من شعر أو صوف يجعل على عجز البعير وراء الرحل. و ((الأقتاد)) جمع ((قتد)) (بفتحتين). خشب الرحل. وكان في المطبوعة: ((السليل))، تابع المخطوطة، وهي غير منقوطة
*وَنَتَقُوا أحْلامَنَا الأثَاقِلا* (٢)
وقد حكي عن قائل هذه المقالة قول آخر: (٣) وهو أن أصل "النتق" و"النُّتُوق"، كل شيء قلعته من موضعه فرميت به، يقال منه: "نَتَقْتُ نَتْقًا". قال: ولهذا قيل للمرأة الكثيرة [الولد] :"ناتق"، (٤) لأنها ترمي بأولادها رَمْيًا، واستشهد ببيت النابغة:
لم يحرموا حسن الغذاء وأمهم دحقت عليك بناتق مذكار (٥)
* * *
(٢) (٢) ديوانه: ١٢٢، ومجاز القرآن ١: ٢٣٢، واللسان (نتق)، من أرجوزة تمدح فيها بقومه، ثم مدح سليمان بن علي، قال في ذكر قومه:
فالنَّاسُ إنْ فَصَّلْتَهُمْ فَصَائِلا | كُلُّ إلَيْنَا يَبْتَغِي الوَسَائِلا |
قَدْ جَرِّبُوا أَخْلاقَنَا الجَلائِلا | وَنَتَقُوا أَحْلامَنَا الأثاقِلا |
فَلَمْ يَرَ النَّاسُ لَنَا مُعَادِلا | أَكْثَرَ عِزًّا وَأَعَزَّ جَاهِلا |
(٣) (٣) يعني أبا عبيدة أيضا، ولم أجده في موضع آخر فيما طبع من مجاز القرآن.
(٤) (٤) في المطبوعة والمخطوطة: ((للمرأة الكبيرة)) وهو لا يصح، وإنما أسقط الناسخ ما أثبته بين القوسين، والصواب ما أثبت.
(٥) (٥) ديوانه: ٥٠، واللسان (دحق) و (نتق)، من قصيدتة التي قالها في زرعة بن عمرو بن خويلد، حين لقى النابغة بعكاظ، فأشار عليه أن يشير علي قومه بني ذبيان بترك حلف بني أسد، فأبي النابغة الغدر، فتهدده زرعة وتوعده، فلما بلغه تهدده، ذمه وهجاه، ومجد بني أسد، فقال في أول شعره:
نُبِّئتُ زُرْعَةَ، وَالسَّفَاهَةُ كَاسْمِهَا | يُهْدِي إلَيَّ غَرَائِبَ الأَشْعَارِ |
وَالغَاضِرِيًّونَ الَّذِينَ تَحَمَّلُوا | بِلِوَائِهِمْ سَيْرًا لِدَارِ قَرار |
تَمْشِي بِهِمْ أُدْمٌ كَأنَّ رِحَالِهَا | عَلَقُ هُرِيقَ عَلَى مُتُونِ صُوَارِ |
................... | ................... |
جَمْعًا يَظَلُّ بِهِ الفَضَاءُ مُعَضِّلا | يَدَعُ الإِكامَ كأنَّهنَّ صَحَارِي |
* * *
وقال بعض الكوفيين: "نتقنا الجبل"، عَلَّقنا الجبل فوقهم فرفعناه، ننتقه نتقًا، و"امرأة مِنْتاق"، كثيرة الولد: قال: وسمعت "أخذ الجراب، فنتق ما فيه"، (١) إذا نثر ما فيه. (٢)
* * *
(٢) لم يفسر أبو جعفر ((الظل))، فانظر تفسيرها فيما سلف ٤: ٢٦١، ٢٦٢.
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: واذكر يا محمد ربَّك إذ استخرج ولد آدم من أصلاب آبائهم، فقرَّرهم بتوحيده، وأشهد بعضهم على بعض شهادَتَهم بذلك، وإقرارَهم به. (١) كما:-
١٥٣٣٨ - حدثني أحمد بن محمد الطوسي قال: حدثنا الحسين بن محمد قال: حدثنا جرير بن حازم، عن كلثوم بن جبر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، عن النبي ﷺ قال: "أخذ الله الميثاق من ظهر آدم بنَعْمَان =يعني عرفة= فأخرج من صلبه كل ذرّية ذرأها، فنثرهم بين يديه كالذرِّ، ثم كلمهم قَبَلا (٢) فقال:
"ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا | " الآية، إلى (ما فعل المبطلون)، ". (٣) |
(٢) في المطبوعة: ((فتلا، فقال))، لم يحسن قراءة المخطوطة، فظنه من التلاوة، والصواب ما أثبته. يقال: ((كلمه الله قبلا)) أي عيانا ومقابلة لا من وراء حجاب، وقد مضى تفسير هذا الحرف فيما سلف من الأخبار ١: ٥١٤، تعليق: ١ / ٤: ٢٦٦، تعليق: ٣ / ٩: ٢٣١، تعليق: ٣.
(٣) الأثر: ١٥٣٣٨ - خبر ابن عباس هذا، من حديث كلثوم بن جبر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، رواه أبو جعفر بخمسة أسانيد: هذا، ورقم: ١٥٣٣٩ - ١٥٣٤١، ثم رقم ١٥٣٥٠. وهذا الأول هو المرفوع وحده، وسائرها موقوف على ابن عباس.
ورواه أبو جعفر بإسناده هذا مرفوعا في التاريخ ١: ٦٧.
ورواه مرفوعا أحمد في مسنده رقم: ٢٤٥٥، من طريق حسين بن محمد، وهو طريق أبي جعفر.
ورواه مرفوعا أيضا، الحاكم في المستدرك ١: ٢٧، من طريق إبراهيم بن مرزوق البصري، عن وهب بن جرير بن حازم، عن جرير بن حازم، بمثله، وقال: ((هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه. وقد احتج مسلم، بكلثوم بن جبر))، ووافقه الذهبي، ثم رواه في المستدرك ٢: ٥٤٤ من طريق الحسين بن محمد المروروذى، عن جرير بن حازم، وصححه، ووافقه الذهبي.
وذكره مرفوعا"، الهيثمى في مجمع الزوائد ٧: ٥ ٢ / ٧: ١٨٨، ١٨٩، وقال: ((رواه احمد، ورجاله رجال الصحيح)).
وأما من رواه موقوفا" فابن جرير بالأسانيد التالية: ١٥٣٣٩ - ١٥٣٤١، ١٥٣٥٠، وابن سعد في الطبقات ١ / ١ / ٨، من طريق ابن علية عن كلثوم، ومن طريق حماد بن زيد، عن كلثوم.
وذكره ابن كثير في تفسيره ٣ / ٥٨٤، ٥٨٥، وفي تاريخه ١: ٩٠، وأطال الكلام في تعليله، وجعل كثرة رواة وقفه علة في رد رواية من رفعه، وقال في ص: ٩ ٨ ٥، انه قد بين انه موقوف لا مرفوع، فقال أخي السيد احمد في شرح المسند: ((وكأن ابن كثير يريد تعليل المرفوع بالموقوف، وما هذه بعلة، والرفع زيادة من ثقة، فهي مقبولة صحيحة)). وقال أيضاً: ((إسناده صحيح)).
ثم انظر تخريج الآثار التالية ورواة الخبر هم: ((احمد بن محمد الطوسى))، هو ((احمد بن محمد بن قيزك بن حبيب الطوسي))، شيخ الطبري، ثقة. مضى برقم: ٣٨٨٣، ٥٤٩٣، ٨٨٧٠. و ((حسين بن محمد بن بهرام التميمى))، ويقال له: ((حسين المعلم)) و ((حسين المؤدب)). روى له الجماعة. مضى برقم: ٢٣٤٠. و ((كلثوم بن جبر بن مؤمل الديلي))، ثقه من صغار التابعين، مضى برقم: ٢٨٦١، ٢٨٦٦، ٦٢٤٠. و ((نعمان))، هو واد لهذيل، من وراء عرفة، على ليلتين من عرفة، وهو ((نعمان الأراك))، يكثر وروده في شعرهم.
١٥٣٤١ - وحدثني يعقوب قال: حدثنا ابن علية قال ربيعة بن كلثوم، عن أبيه في هذا الحديث: (قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين) (٢)
١٥٣٤٢ - حدثنا عمرو قال: حدثنا عمران بن عيينة قال: أخبرنا عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: أول ما أهبط الله آدم،
(٢) الأثر: ١٥٣٤١ - رواه ابن سعد في الطبقات ١ / ١ / ٨، واقتصر فيه إلى قوله تعالى: ((يوم القيامة)). انظر التعليقات السالفة.
١٥٣٤٣ - حدثنا ابن وكيع قال: حدثنا عمران بن عيينة، عن عطاء،
١- جاء في سيرة ابن هشام، عن ابن إسحق: ((ثم خرج رسول الله ﷺ حين انصرف عن الطائف على دحنا، حتي نزل الجعرانة، فيمن كان معه من الناس، ومعه من هوازن سبى كثير)). ومثله في تاريخ الطبري ٣: ١٣٤، عن ابن إسحق.
فهذا موضع لا شك أنه في جزيرة العرب، ذكره البكري في معجم ما استعجم: ٥٤٥، ٥٤٦، ولم يخلطه بغيره، وضبطه بفتح الدال، وسكون الحاء المهملة، وفتح النون، علي وزن ((فعلى)).
وأما ياقوت في معجمه، فضبطها مثله ثم قال: ((ويروى فيها القصر والمد)).
وقال البكري في تحديدها: ((موضع بسيف البحر))، ثم عاد فذكر خبر ابن أسحق في سيرته. ثم قال: ((هكذا وقع في كتاب السير، بالنون، وكذلك ذكره الطبري وليس هناك سيف. وأنا أراه أراد: ((سلك علي دحي))، المتقدم ذكره ولولا أنه غير محدد عندنا، لارتفع الارتباب (بفتح الدال وسكون الحاء بعدها ياء) هكذا ذكره البكري في معجمه: ٣٤٧ وقال: ((موضع، ذكره أبو بكر))، ولم يبين. وأما ياقوت فقال في ((دحنا)) :((هي من مخاليف الطائف))، ولم يذكر ترجمة (دحى) التي ذكرها البكرى.
وظني أن البكرى نقل قوله: ((موضع بسيف البحر))، من بعض شراح الشعر، فأنه أنشد شعر ربيعة بن جحدر الهذلى اللحيانى: َلَوْ رَجُلا خَادَعْتُه لَخَدَعْتُه... ولكنَّما حوتًا بدحنا أقامس
أقول له، كيما أخالف روغه:... وراءك ملْ أروى شياه كوانس
فكأن شارح الشعر جعله موضعاً لسيف البحر، لقوله: ((حوتا بد حنا أقامس))، وليس ذلك لزاماً، إلا أن تكون ((دحنا)) موضع آخر غير المذكور في السيرة.
وأنشد أيضا عن الأصمعى: وصاحب لى بدحنى، أيما رجل... أنى قتلت وأنت الفارس البطل!
ومهما يكن من شيء، فهو موضع ببلاد العرب لاشك فيه، وهو بمعزل عن ((دحنا)) الأخرى كما سترى بعد.
٢- وأما ((دحنا)) الأخرى، المذكورة في هذا الخبر، فهي موصوفة فيه أنها ((بأرض الهند)) وذكرها البكرى في مادة (واشم) : ١٣٦٤، قال: ((قال ابن إسحق: يذكر أهل العلم أن مهبط آدم وحواء، علي جبل يقال له وأشم، من أرض الهند، وهو اليوم وسط بين قراها، بين الدهنج والمندل))، وذكره الطبري في تاريخه ١: ٦٠، وفيه: ((وأما أهل التوراة فانهم قالوا: أهبط آدم بالهند، على جبل يقال له: واسم، عند واد يقال له: بهيل، بين الدهنج والمندل، بلدين بأرض الهند)). وهو نص ابن إسحق كما رواه بإسناده فالأخبار التي ورد فيها ذكر هبوط آدم، أو خلقه، وفيها ((دحنا))، ولم يبين موضعها، تبينها هذه الأخبار التي ذكرت ذلك، وبينت أنه بأرض الهند. و ((دحنا)) بالحاء المهلة، هي ((دهنج)) في الأخبار التي ذكرتها قبل، معربة. وهكذا جاءت في المراجع ((دحنا)) بالحاء المهملة، ولكن رواة كتب اللغة رووا لنا في خبر ابن عباس: ((إن الله مسح ظهر آدم بدجناء، وهو اسم موضع، ويروى بالحاء المهملة))، هكذا ذكر صاحب لسان العرب في (دجن) ثم في " دحن "، وقال: ((وهو بين الطائف ومكة)) فهذا أول الخلط وإنما هو موضع بالهند في هذا الخبر أما الذي "بين الطائف ومكة"، فهو ((دحنا)) العربية التي ذكرناها أولا.
وقال صاحب القاموس: ((ودجني، بالضم أو بالكسر، وقد يمد، أرض خلق منها آدم عليه السلام، أو هي بالحاء المهملة)) ثم ذكرها في (دحن) وقال: ((ودحنى في د ج ن))، يعنى أنه هو هو، وبضم الدال.
وعلق الزبيدى في تاج العروس وقال: ((وقد جاء ذكرها في سيرة ابن إسحاق، في انصراف رسول الله ﷺ من الطائف على دجناء. وجاء في حديث ابن عباس: إن الله خلق آدم من دجناء، فمسح ظهره بنعمان الأراك. وكان مسح ظهره بعد خروجه من الجنة، بالأتفاق من الروايات))، كل ذلك ذكره بالجيم. فخلط أيضا بين الموضعين، الموضع الذي في السيرة، وموضع خلق آدم أو مهبطة. وإنما خلط اتباعاً للسهيلي في الروض الأنف ٢: ٣٠٥. وسبب هذا الخلط بلا ريب، هو ذكر ((نعمان الأراك)) في خبر خلق آدم، و ((نعمان الأراك)) بأرض العرب، فقال من لم يجمع أخبار الخلق أن ((دحنا)) بأرض العرب، ولم ينظر فيما جاء في رواية الخبر الأخرى أنها بأرض الهند.
هذا، وظني أن ((دحنا))، و ((دجنا)) بالقصر والمد، هو تعريب في ((دهنج)) التي مضى ذكرها، وهي الأرض التي بالهند، أما التي ببلاد العرب، فهي ((دحنا)) بالحاء، لاغير. وهذا كافي إن شاء الله في تحقيق هذه الكلمة.
(٢) الأثر: ١٥٣٤٢ - ((عمرو))، هو: ((عمرو بن على الفلاس))، مضى مرارًا كثيرة. و ((عمران بن عيينة))، هو أخو: ((سفيان بن عيينة)) الإمام المشهور. قال ابن معين وأبو زرعة: ((صالح الحديث)). وأما ابن أبي حاتم، فقال: ((لا يحتج بحديثه، لأنه يأتي بالمناكير)). وقال لعقيلى: ((في حديثه وهم)). وقد مضى برقم: ٤١٨٩، ١٠٥٨٠. وهذا الخبر، رواه أبو جعفر مختصراً في تاريخه ١: ٦٠، وابن سعد مختصراً ١ / ١ / ٥، وسيأتي برقم: ١٥٣٤٣، من رواية وكيع، عن عمران، عن عطاء، وليس فيه ذكر ((دحنا)). بأسانيد أخر رقم: ١٥٣٤٦، ١٥٣٤٧، عن غير عمران، عن عطاء.
١٥٣٤٤ - حدثنا أبو كريب قال: حدثنا يحيى بن عيسى، عن الأعمش، عن حبيب بن أبي ثابت، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم) قال: لما خلق الله آدم، أخذ ذريّته من ظهره مثل الذرِّ، فقبض قبضَتين، فقال لأصحاب اليمين: " ادخلوا الجنة بسلام "، وقال للآخرين: " ادخلوا النارَ ولا أبالي ". (٢)
١٥٣٤٥ - حدثنا ابن وكيع قال: حدثنا أبي، عن الأعمش، عن حبيب،
(٢) الأثر: ١٥٣٤٤ - هذا الخبر والذي يليه، رواه من طريقين. رواه أولهما أبو جعفر في تاريخه ١: ٦٧. ((يحيى بن عيسي بن عبد الرحمن التميمي النهشلي))، وثقه أحمد وغيره، وضعفه ابن معين وغيره. مضى برقم: ٣٠٠، ٦٣١٧، ٩٠٣٥، ١٤٢٠١. و ((حبيب بن أبي ثابت))، هو ((حبيب بن قيس بن نيار))، ثقة، روى له الجماعة، مضى برقم: ٩٠١٢، ٩٠٣٥، ١٠٤٢٣، وغيرها. ومعنى هذا الخبر، مخرج في مسانيد جماعة من الصحابة، ولكني لم أجده بنصه عن ابن عباس في غير هذا الموضع، وفي تاريخ الطبري. وانظر التعليق التالي.
١٥٢٤٦ - حدثنا أبو كريب قال: حدثنا ابن علية، عن شريك، عن عطاء، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: مسح الله ظهر آدم، فاستخرج منه كل نسمة هو خالقها إلى يوم القيامة. (٢)
١٥٣٤٧ - حدثنا ابن حميد قال: حدثنا حكام قال: حدثنا عمرو بن أبي قيس، عن عطاء، عن سعيد، عن ابن عباس: (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم) قال: لما خلق الله آدم مسح ظهره بدَحنا، (٣) وأخرج من ظهره كل نسمة هو خالقها إلى يوم القيامة، فقال: (ألست بربكم قالوا بلى) قال: فيُرَوْن يومئذٍ جفَّ القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة. (٤)
١٥٣٤٨ - حدثنا ابن وكيع قال: حدثنا أبي، عن المسعودي، عن علي بن بذيمة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: لما خلق الله آدم عليه السلام أخذ ميثاقه، فمسح ظهره، فأخذ ذرّيته كهيئة الذرِّ، فكتب آجالهم
(٢) الأثر: ١٥٣٤٦ - انظر ما سلف رقم ١٥٣٤٢، ١٥٣٤٣، حديث عطاء، عن سعيد بغير هذا اللفظ. وهذا خبر صحيح الإسناد، وسيأتي من طريق أخرى في الذي يليه.
(٣) في المطبوعة ((بد جنى)) بالجيم، وأثبت ما في المخطوطة، وانظر تحقيق ذلك في ص: ٢٢٥، تعليق: ١.
(٤) الأثر: ١٥٣٤٧ - طريق أخرى للخبر السالف. ((عمرو بن أبي قيس الرازي))، الأزرق، ثقة، وكان يهم في الحديث قليلا، مضى برقم: ٦٨٨٧، ٩٣٤٦، وغيرها.
وهذا الخبر رواه أبو جعفر في التاريخ ١ / ٦٨، ورواه ابن سعد في الطبقات ١ /١/ ٨، من طريق منصور بن أبي الأسود، عن عطاء بن السائب، بنحو هذا اللفظ، وفي آخره: ((قال سعيد: فيرون أن الميثاق أخذ يومئذ)). ونسبه في الدر المنثور ١: ١٤١ لأبن المنذر وحده. وقوله: ((يرون)) (بضم إلياء وفتح الراء) بالبناء للمجهول، بمعنى: يظنون ذلك ويقدرونه.
١٥٣٤٩ -.... قال: حدثنا يزيد بن هارون، عن المسعودي، عن علي بن بذيمة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم) قال: لما خلق الله آدم، أخذ ميثاقه أنه ربُّه، وكتب أجله ومصائبَه، واستخرج ذريّته كالذرِّ، وأخذ ميثاقهم، وكتب آجالهم وأرزاقهم ومصائبَهم. (٢)
١٥٣٥٠ - حدثنا ابن وكيع قال: حدثنا أبي، عن ربيعة بن كلثوم بن جبر، عن أبيه عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، في قوله: (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم) قال: مسح الله ظهر آدم عليه السلام وهو ببطن نعمان، =واد إلى جنب عرفة=، وأخرج ذريته من ظهره كهيئة الذرّ، ثم أشهدهم على أنفسهم ألست بربكم؟ قالوا: بلى شهدنا. (٣)
١٥٣٥١ -.... قال: حدثنا أبي، عن أبي هلال، عن أبي جَمْرَة الضُّبَعي، عن ابن عباس قال: أخرج الله ذريّة آدم عليه السلام من ظهره كهيئة الذر، وهو في آذيٍّ من الماء. (٤)
(٢) الأثر: ١٥٣٤٩ - ((يزيد بن هارون السلمي))، أحد الأعلام الحفاظ المشاهير، مضى مرارًا كثيرة. وقد روى ((يزيد بن هارون)) عن المسعودى أحاديث مختلطة، بعد ما تغير حفظه، كما ذكرت في التعليق السالف.
(٣) الأثر: ١٥٣٥٠ - هذه طريق أخرى للأخبار السالفة ١٥٣٣٨ - ١٥٣٤١، ومضى تخريجها هناك.
(٤) الأثر: ١٥٣٥١ - ((أبو هلال))، هو ((محمد بن سليم الراسبي))، ثقة متكلم فيه، قال ابن أبي عدى، بعد أن ذكر له أحاديث كلها أو عامتها غير محفوظة: ((وله غير ما ذكرت، وفي بعض رواياته مالا يوافقه عليه الثقات، وهو ممن يكتب حديثه)). مضى برقم: ٢٩٩٦، ٤٦٨١، ١٣٩٦٧.
و ((أبو جمزة الضبعى)) هو: ((نصر بن عمران بن عصام الضبعى))، ثقة مأمون. مضى برقم ٥٩٩٥، ٦٢٢٨.
وكان في المطبوعة والمخطوطة: ((عن أبي حمزة)) وهو خطأ صرف. ((آذى الماء))، الأطباق التي تراها ترفعها من متنه الريح، دون الموج. ويأتي أيضا بمعنى: الموج الشديد، وهو الأكثر. والمراد في هذا الخبر، هو المعنى الأول. وكان في المطبوعة: ((أذى)) بغير مد، وليس صواباً وفي المخطوطة ((أدنى)) وهو خطآ صرف. وهذا الخبر، نقله ابن كثير في تفسيره ٣: ٥٨٥، وخرجه السيوطي في الدر المنثور ١٤١، ونسبه إلى عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن منده في كتاب الرد على الجهمية، وأبي الشيخ.
(٢) في المخطوطة، أسقط من أول قوله ((ثم تكفل لهم)) إلى قوله: ((تقوم الساعة))، وهي ثابتة في تفسير ابن كثير، والدر المنثور. وأما المطبوعة، فأسقطت من ((وتكفل)) إلى قوله: ((تقوم الساعة))، وهي ثابتة في تفسير ابن كثير والدر المنثور. وأما المطبوعة، فأسقطت من ((وتكفل)) إلى قوله: ((في صلبه)).
١٥٣٥٣ - حدثني يونس بن عبد الأعلى قال: أخبرنا ابن وهب قال: أخبرني السريّ بن يحيى، أن الحسن بن أبي الحسن، حدّثهم عن الأسود بن سريع من بني سعد قال: غزوت مع رسول الله ﷺ أربعَ غزوات قال: فتناول القوم الذرّيّة بعد ما قَتَلوا المقاتلة، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاشتدّ عليه، ثم قال: "ما بال أقوام يتناولون الذرية؟ " فقال رجل: يا رسول الله، أليسوا أبناءَ المشركين؟ فقال: "إن خيارَكم أولادُ المشركين! ألا إنها ليست نسمة تُولد إلا ولدت على الفطرة، فما تزال عليها حتى يبين عنها لِسَانها، فأبواها يهوِّدانها أو ينصرانها" =قال الحسن: والله لقد قال الله ذلك في كتابه، (٢) قال: "وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم) (٣).
(٢) في المطبوعة: ((والله لقد قال الله))، لا أدرى من أين زاد ذلك
(٣) الأثر: ١٥٣٥٣ - ((السرى بن يحيى بن إياس الشيباني))، ((أبو الهيثم))، ثقة. ثبت، روى عن الحسن البصري مترجم في التهذيب، والكبير ٢ /٢ ١٧٦، وابن أبي حاتم ٢ / ١ / ٢٨٣ و ((الأسود بن سريع بن حميرى بن عبادة التميمي))، صحابي، كان شاعراًً مشهوراً، وكان أول من قص في مسجد البصرة، وهو القائل في قصصه في الميت، (البيان والتبين ١: ٤٦٧ / طبقات فحول الشعراء ١٥١، تعليق: ٦) :
فإن تنج منها، تنج من ذي عظيمة | وإلا فإني لا إخالك ناجيا |
وهذا الخبر، رواه من هذه الطريق، أحمد في مسنده ٤: ٢٤، مع خلاف يسير في لفظه، وابن سعد مختصرا" في الطبقات ٧/١/٢٨، والبخاري مختصرا" في التاريخ ١ / ١ / ٤٤٥. وابن عبد البر في الاستيعاب بنحوه مطولا: ٤٤، وذكره ابن حجر في الإصابة في ترجمته وقال: (وأخرجه ابن حبان وابن السكن، من طريق السرى)). ورواه أحمد في مسنده ٣: ٤٣٥، من طريق يونس بن محمد المؤدب، عن أبان بن يزيد، عن قتادة، عن الحسن مختصراً، ثم رواه بعده من طريق يونس بن عبيد عن الحسن، بنحوه. ثم رواه في ٤: ٢٤ من طريق سعيد، عن قتادة، عن الحسن، وبين الخبر أن ذلك كان في سرية بعثها رسول الله ﷺ يوم حنين. ورواه الحاكم في المستدرك ٢: ١٢٣ من طريق يونس بن محمد المؤدب، ثم من طريق يونس بن عبيد، عن الحسن، بنحو ما رواه أحمد، وقال: ((هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه)) ووافقه الذهبي.
ورواه البيهقي في السنن الكبرى ٩: ٧٧، من طريق يونس بن عبيد، عن الحسن. ثم رواه أيضا في السنن ٩: ١٣٠، من طريق يونس بن محمد المؤدب، عن أبان بن يزيد، عن قتادة. وذكره الهيثمى في مجمع الزوائد ٥: ٣١٦، ثم قال: ((رواه أحمد بأسانيد، والطبراني في الكبير والأوسط كذلك ٠ ٠ ٠ وبعض أسانيد أحمد، رجاله رجال الصحيح)). وخرجه ابن كثير في تفسيره ٣: ٥٨٤ وقال: ((وأخرجه النسائى في سننه، من حديث هشيم، عن يونس بن عبيد، عن الحسن، قال حدثني الأسود بن سريع، فذكره، ولم يذكر قول الحسن البصري، واستخصاره الآية عند ذلك)).
١٥٣٥٦ - حدثنا ابن وكيع وابن حميد قالا حدثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد، عن عبد الله بن عمرو: (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم) قال: أخذهم كما يأخذ المشط عن الرأس. قال ابن حميد: كما يؤخذ بالمشط. (٢)
١٥٣٥٧ - حدثنا إبراهيم بن سعيد الجوهري قال: حدثنا روح بن عبادة، وسعد بن عبد الحميد بن جعفر، عن مالك بن أنس، عن زيد بن أبي أنيسة،
(٢) (٢) الأثر: ١٥٣٥٦ - هو موقوف على عبد الله بن عمرو، صحيح الإسناد كالسالف. وكان في المخطوطة: ((كما يؤخذ المشط)) مرة أخرى، بغير باء، وكأن الصواب ما في المطبوعة، وبذلك ورد في الدر المنثور. وانظر التعليق السالف. وهذه الأخبار الثلاثة، ذكرها ابن كثير في تفسيره ٣: ٥٨٦، ٥٨٩، وخرجه السيوطي في الدر المنثور ١: ١٤١ موقوفاً، ونسبة إلى ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ، واللالكائي في السنة، وقصر في نسبته إلى ابن جرير.
١٥٣٥٨ - حدثنا إبراهيم قال: حدثنا محمد بن المصفي، عن بقية، عن عمر بن جُعْثم القرشي قال: حدثني زيد بن أبي أنيسة، عن عبد الحميد بن عبد الرحمن، عن مسلم بن يسار، عن نعيم بن ربيعة، عن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، بنحوه. (٣)
(٢) الأثر: ١٥٣٥٧ - ((إبراهيم بن سعيد الجوهري الطبري))، شيخ الطبري، مضى مرارًا. و ((سعد بن عبد الحميد بن جعفر الأنصاري))، ثقة، وضعفوه، مضى برقم: ٣٩٥٩، ٩٢٢٥، ولكن ضعفه لا يضر في هذا الإسناد، فإن ((روح بن عبادة))، ثقة بلا شك وهو العمدة في رواية الخبر في سائر الكتب.
و ((زيد بن أبي أنيسة الجزري))، ثقة، مضى برقم: ٤٩٦٤، ٨٣٩٦.
و ((عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب))، ثقة مأمون، روى له الجماعة، مضى برقم: ١٤٦٨٥.
و ((مسلم بن يسار الجهني))، تابعي ثقة، قيل: لم يسمع من عمر، وبينه وبينه ((نعيم بن ربيعة الأزدي))، كما سيأتي في الأثر التالي. مترجم في التهذيب، والكبير ٤ /١ / ٢٧٦، ولا أدري لم أغفله ابن أبي حاتم في كتابة، أو هو سقط من تراجمه. وهذا الخبر رواه أبو جعفر بإسناده هذا في تاريخه ١: ٦٧، مع خلاف يسير في لفظه. ورواه مالك في الموطأ: ٨٩٨، ورواه أحمد في المسند رقم: ٣١١، وأبو داود في سننه ٤: ٣١٢ رقم: ٤٧٠٣، والحاكم في المستدرك ١: ٢٧ وقال: ((هذا حديث صحيح على شرطهما ولم يخرجاه))، وتعقبه الذهبي فقال: ((فيه إرسال))، ثم عاد الحاكم فرواه في المستدرك ٢: ٣٢٤، ٥٤٤ وقال: ((هذا حديث على شرط مسلم، ولم يخرجاه))، فخالف ما قاله أولا، ولكن أعجب منه أن الذهبي في هذين الموضعين وافقه، ولم يتعقبه بأنه فيه إرسال!! وهذا عجب! ورواه الآجري في كتاب الشريعة: ١٧٠، وابن عبد البر في التقصي: ٥٤، وقال: ((في إسناد هذا الحديث علتان قد بينتهما في كتاب التمهيد)). ورواه الترمذي في كتاب التفسير وقال: ((هذا حديث حسن، ومسلم بن يسار، لم يسمع من عمر. وقد ذكر بعضهم في هذا الإسناد بين مسلم بن يسار وبين عمر، رجلا)). وبعد كتابة ما تقدم، وجدت الإمام بن القيم قد ذكر الخبر في شفاء العليل: ١٠٢٩، ما قاله ابن عبد البر في التمهيد وقال: ((قال الحاكم: هذا الحديث على شرط مسلم، وليس كما قاله، بل هو حديث منقطع. قال أبو عمر (ابن عبد البر) : هو حديث منقطع، فإن مسلم بن يسار هذا، لم يلق عمر بن الخطاب، بينهما نعيم بن ربيعة. هذا إن صح أن الذي رواه عن زيد بن أبي أنيسة فذكر فيه نعيم بن ربيعة، إذ ليس هو بأحفظ من مالك، ولا ممن يحتج به إذا خالفه مالك. ومع ذلك فإن نعيم بن ربيعة، ومسلم بن يسار جميعا مجهولان غير معروفين بحمل العلم ونقل الحديث. وليس هو مسلم بن يسار العابد البصري، وإنما هو رجل مدنى مجهول. ثم ذكر من تاريخ ابن أبي خيثمة قال: قرأت على يحيى بن معين حديث مالك هذا، فكتب بيده على مسلم بن يسار لا يعرف. قال أبو عمر: هذا الحدبث وإن كان عليل الإسناد فإن معناه عن النبي ﷺ قد روى من وجوه كثيرة)) ثم ساق أسماء من روى عنهم من الصحابة. وخرجه ابن كثير في تفسيره ٣: ٥٨٦ وفي تاريخه ١: ٨٩، ٩٠، وقال بعد نقل كلام الترمذي: ((كذا قاله أبو حاتم، وأبو زرعة، زاد أبو حاتم بينهما نعيم بن ربيعة. وهذا الذي قاله أبو حاتم ثم رواه أبو داود في سننه عن محمد بن مصفي، عن بقية، عن عمر بن جعثم القرشي عن زيد بن أبي أنيسة، عن عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب، عن مسلم بن يسار الجهني، عن نعيم بن ربيعة قال: كنت عند عمر،... وقال الحافظ الدارقطني: وقد تابع عمر بن جعثم، يزيد بن سنان أبو فروة الرهاوي، وقولهما أولى بالصواب من قول مالك. قال ابن كثير: الظاهر أن مالكاً إنما أسقط نعيم بن ربيعة عمداً، لما جهل حال نعيم ولم يعرفه، فإنه غير معروف إلا في هذا الحديث. وكذلك يسقط ذكر جماعة ممن لا يرتضيهم، ولهذا يرسل كثيراً من الرفوعات، ويقطع كثيراً من الموصولات)). وانظر التعليق على الخبر التالي.
(٣) ١٥٣٥٨ - ((محمد بن المصفي بن بهلول القرشي))، حافظ صدوق، متكلم فيه، قيل إنه كان ممن يدلس تدليس التسوية. مترجم في التهذيب، والكبير ١/١/٢٤٦، وابن أبي حاتم ٤/١/١٠٤. و ((بقية)) هو ((بقية بن الوليد))، مضى مرارًا. و ((عمر بن جعثم القرشي))، ذكره ابن حبان في الثقات، مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم ٣/١/١٠١، وكان في المخطوطة: ((عمر بن جعفر القرشي))، وهو خطأ، وكان في المطبوعة: ((عمر بن جعثم))، وهو خطأ أيضاً. و ((نعيم بن ربيعة الأزدي)، لم يذكر البخاري فيه جرحاً، ولا ابن أبي حاتم. مترجم في التهذيب، والكبير ٤ / ٢ / ٩٦، وابن أبي حاتم ٤ / ١ / ٤٦٠. وهذا الخبر رواه البخاري في الكبير ٤ / ٢ / ٩٦، ٩٧ عن محمد بن يحيى، عن محمد بن يزيد، سمع أباه، سمع زيداً، عن عبد الحميد بن عبد الرحمن، عن مسلم بن يسار الجهنى، عن نعيم بن ربيعة الأزدي))، بنحوه مختصراً. ورواه أبو داود في السنن ٤: ٣١٣ رقم: ٤٧٠٤، من طريق محمد بن المصفي، عن بقية، ولم يذكر لفظه، وقال: ((وحديث مالك أتم)). وانظر ذكر هذه الرواية الموصولة، في التعليق على الخبر السالف.
١٥٣٦٠ - حدثني المثني قال: حدثنا عبد الله بن صالح قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قوله: (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم) قال: إن الله خلق آدم عليه السلام، ثم أخرج ذريّته من صلبه مثل الذرِّ، فقال لهم: من ربكم؟ قالوا: الله ربُّنا، ثم أعادهم في صلبه، حتى يولد كل من أخذ ميثاقه لا يزاد فيهم ولا ينقص منهم إلى أن تقوم الساعة. (٣)
(٢) الأثر: ١٥٣٥٩ - ((عمارة))، هو ((عملرة بن عمير التيمى))، روى له أصحاب الكتب الستة، مضى برقم: ٣٢٩٤، ٥٧٨٩. و ((أبو محمد، رجل من أهل المدينة))، لم أجد بياناً عنه في شيء من الكتب. وهذا الخبر، رواه ابن عبد البر في التمهيد (ملحق بكتاب التقصى) : ٣٠٢، بهذا الإسناد نفسه، بلفظه، إلا أن فيه: ((ثم أختم لهم بشر أعمالهم)). وخرجه السيوطي في الدر المنثور ١: ١٤٢، ولم ينسبه لغير ابن جرير.
(٣) الأثر: ١٥٣٦٠ - هذا إسناد دائر في التفسير، مضى بيانه في الخبر رقم ١٨٦، ١٨٧. وخرجه السيوطي في الدر المنثور ١: ١٤١ ونسبه إلى ابن أبي حاتم، واللالكائى في السنة.
١٥٣٦٢ - حدثنا القاسم قال: حدثنا الحسين قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن الزبير بن موسى، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: إن الله تبارك وتعالى ضرب منكبه الأيمن، فخرجت كل نفس مخلوقة للجنة بيضاءَ
١٥٣٦٣ - حدثنا القاسم قال: حدثنا الحسين قال: حدثني حجاج، عن أبي جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية، عن أبي بن كعب قال: جمعهم يومئذٍ جميعًا، ما هو كائن إلى يوم القيامة، ثم استنطقهم، وأخذ عليهم الميثاق (وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين * أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون)، قال: فإني أشهد عليكم السموات السبع والأرَضين السبع،
(٢) الأثر: ١٥٣٦٢ - ((الزبير بن موسى بن ميناء المكي)) ثقة، مضى برقم: ٨٦٤٩. وهذا الخبر، رواه الآجري في كتاب الشريعة، مختصراً: ٢١٢، من طريق على ابن الحسن ابن شقيق، عن عبد الله بن المبارك، عن ابن جريج، عن الزبير موسى. وخرجه السيوطي في الدر المنثور ١: ١٤٤، ولم ينسبه إلى غير ابن جرير وأبي الشيخ.
١٥٣٦٤ - حدثنا ابن بشار قال: حدثنا محمد بن جعفر قال: حدثنا شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير في هذه الآية: (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم وأشهَدَهم على أنفسهم ألست بربكم) قال: أخرجهم من ظهر آدم، وجعل لآدم عمر ألف سنة. قال: فعرضوا على آدم، فرأى رجلا من ذرّيته له نور فأعجبه، فسأل عنه، فقال: هو داود، قد جُعِل عمره ستين سنة! فجعل له من عمره أربعين سنة; فلما احتُضِرَ آدمُ، جعل يخاصمهم في الأربعين سنة، فقيل له: إنك أعطيتها داود! قال: فجعل يخاصمهم.
١٥٣٦٥ - حدثنا ابن حميد قال: حدثنا يعقوب، عن جعفر، عن سعيد، في قوله: (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم) قال: أخرج ذريته من ظهره كهيئة الذرِّ، فعرضهم على آدم بأسمائهم وأسماء آبائهم وآجالهم! قال: فعرض عليه روح داود في نورٍ ساطع، فقال: من هذا؟ قال: هذا من ذرّيتك، نبيٌّ خليفة. قال: كم عمره؟ قال: ستون سنة قال: زيدوه من عمري أربعين سنة. قال: والأقلام رطبة تجري. فأثبت لداود الأربعون، وكان عمر آدم عليه السلام ألف سنة; فلما استكملها إلا الأربعين سنة، بُعث إليه ملك الموت، فقال: يا آدم أمرت أن أقبضك قال: ألم يبق من عمري أربعون سنة؟ قال: فرجع
(٢) ليس في المخطوطة: ((كتبي))، سقطت من الناسخ.
(٣) هذه الزيادة بين القوسين، من سائر المراجع، وليست في المخطوطة ولا المطبوعة.
(٤) الأثر: ١٥٣٦٣ - إسناد صحيح، مضى مثله مرارًا. وهذا الخبر رواه عبد الله بن أحمد بن حنبل، في زياداته على مسند أبيه، (٥: ١٣٥) عن شيخه محمد بن يعقوب الربالى، عن المعتمر بن سليمان، عن أبيه، عن الربيع بن أنس، مختصراً. ونقله الهيثمى في مجمع لزوائد ٧: ٢٥ وقال: ((رواه عبد الله بن أحمد، عن شيخه محمد بن يعقوب الربالي، وهو مستور، وبقية رجاله رجال الصحيح)). ورواه الحاكم في المستدرك مطولاً ٢: ٣٢٣ من طريق عبيد الله بن موسى، عن أبي جعفر عيسى بن عبد الله بن ماهان، عن الربيع بن أنس، وقال ((هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه))، ووافقه الذهبي. ورواه الاجري في كتاب الشريعة: ٢٠٧، من طريق حكام بن مسلم الرازي، عن أبي جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس. ورواه ابن عبد البر في التمهيد (ملحف كتاب التقصى) : ٣٠٧، من طريق أحمد بن عبد الله بن صالح، عن عبيد الله بن موسى، عن أبي جعفر الرازي، وهو طريق الحاكم في المستدرك. وذكره ابن كثير في تفسيره ٣: ٥٨٨ وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم، وابن مردويه في تفسيريهما. وخرجه السيوطي في الدر المنثور ١: ١٤٢، وزاد نسبته إلى عبد بن حميد، وأبي الشيخ، وابن منده في كتاب الرد على الجهمية، واللالكائي، وابن مردويه، والبيهقي في الأسماء والصفات، وابن عساكر في تاريخه.
١٥٣٦٦ - حدثنا ابن وكيع قال: حدثنا أبو داود، عن يعقوب، عن جعفر، عن سعيد، بنحوه.
١٥٣٦٧ -.... قال: حدثنا ابن فضيل وابن نمير، عن عبد الملك، عن عطاء: (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم) قال: أخرجهم من ظهر آدم حتى أخذ عليهم الميثاق، ثم ردّهم في صلبه.
١٥٣٦٨ - حدثنا ابن وكيع قال: حدثنا ابن نمير، عن نضر بن عربي: (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم) قال: أخرجهم من ظهر آدم حتى أخذ عليهم الميثاق، ثم ردَّهم في صلبه.
١٥٣٦٩ -.... قال: حدثنا محمد بن عبيد، عن أبي بسطام، عن الضحاك قال: حيث ذرأ الله خلقه لآدم عليه السلام (١) قال: خلقهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم؟ قالوا: بلى. (٢)
١٥٣٧٠ - حدثت عن الحسين بن الفرج قال: سمعت أبا معاذ قال: حدثنا عبيد قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم) قال: قال ابن عباس: خلق الله آدم، ثم أخرج ذريته من ظهره، فكلمهم الله وأنطقهم، فقال: ألست بربكم؟ قالوا: بلى، ثم أعادهم في صلبه، فليس أحدٌ من الخلق إلا قد تكلم فقال: "ربي الله"، وإن القيامة لن تقوم حتى يولد من كان يومئذ أشهد على نفسه.
١٥٣٧١ - حدثنا ابن وكيع قال: حدثنا عمر بن طلحة، عن أسباط،
(٢) الأثر: ١٥٣٦٩ - ((محمد بن عبيد))، هو فيما أرجح ((محمد بن عبيد بن أبي أمية الطنافسى))، مضى برقم: ٤٠٥، ٩١٥٥، ١١٤١٨. و ((أبو بسطام))، هو ((مقاتل بن حيان البلخى))، مضى برقم: ٣٨٤٢.
١٥٣٧٢ - قال: حدثنا عمر، عن أسباط، عن السدي قال: أخرج الله آدم من الجنة، ولم يهبط من السماء، ثم مسح صفحة ظهره اليمنى، فأخرج منه ذريته كهيئة الذرِّ، أبيض، مثل اللؤلؤ، (٢) فقال لهم: ادخلوا الجنة برحمتي! ومسح صفحة ظهره اليسرى، فأخرج منه كهيئة الذر سودًا، (٣) فقال: ادخلوا النار ولا أبالي! فذلك حين يقول: "أصحاب اليمين وأصحاب الشمال"، ثم أخذ منهم الميثاق، فقال: (ألست بربكم قالوا بلى)، ، فأطاعه طائفة طائعين، وطائفة كارهين على وجه التقية. (٤)
(٢) في المطبوعة: ((فأخرج منه ذرية بيضاء مثل اللؤلؤ، كهيئة الذر))، وهو موافق لما رواه ابن أبي عبد البر، ولكنى أثبت ما في المخطوطة. وأما ما رواه أبو جعفر في التاريخ فهو: ((فأخرج منه ذرية كهيئة الذر بيضاً مثل اللؤلؤ))، بالجمع ((بيضاً)).
(٣) في المطبوعة: ((فأخرج منه ذرية سوداء كهيئة الذر))، وهو مطابق لما في التمهيد لابن عبد البر، ولكنى أثبت ما في المخطوطة، وهو مطابق لما رواه أبو جعفر في التاريخ.
(٤) الأثر: ١٥٣٧٢ هذا الخبر السالف لدى ابن عبد البر في التمهيد (ملحق بكتاب التقصي: ٣٠٣، ٣٠٤، مطولا ورواه ابن جعفر في تاريخه مختصرا بلفظ هذا ١: ٦٨.
١٥٣٧٤ - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال: حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن الكلبي: (من ظهورهم ذرياتهم) قال: مسح الله على صلب آدم، فأخرج من صلبه من ذريته ما يكون إلى يوم القيامة، وأخذ ميثاقهم أنه ربهم، فأعطوه ذلك، ولا تسأل أحدًا كافرًا ولا غيره (٢) من ربك؟ إلا قال: "الله". وقال الحسن مثل ذلك أيضًا. (٣)
١٥٣٧٥ - حدثنا ابن وكيع قال: حدثنا حفص بن غياث، عن جعفر،
(٢) في المطبوعة: ((ولا يسأل أحد كافر ولا غيره))، وأثبت ما في المخطوطة.
(٣) الأثر: ١٥٣٧٤ - هذا الخبر حرجه السيوطي في الدر المنثور ١: ١٤١ من حديث ابن عباس، ونسبه إلى عبد الرزاق، وابن المنذر. وظاهر أنه من تفسير الكلبى، بإسناده عن ابن عباس.
١٥٣٧٦ - حدثنا ابن حميد قال: حدثنا يحيى بن واضح قال: حدثنا موسى بن عبيدة، عن محمد بن كعب القرظي في قوله: (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم) قال: أقرَّت الأرواح قبلَ أن تُخْلق أجسادها. (٣)
١٥٣٧٧ - حدثنا أحمد بن الفرج الحمصي قال: حدثنا بقية بن الوليد قال: حدثني الزبيدي، عن راشد بن سعد، عن عبد الرحمن بن قتادة النَّصْري، عن أبيه، عن هشام بن حكيم: أن رجلا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسولَ الله، أتبْدَأ الأعمال أم قد قُضِي القضاء؟ (٤) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله أخذ ذرية آدم من ظهورهم، ثم أشهدهم على أنفسهم، ثم أفاض بهم في كفيه، (٥) ثم قال: "هؤلاء في الجنة وهؤلاء في النار"، فأهل الجنة ميسَّرون لعمل أهل الجنة، وأهل النار ميسَّرون لعمل أهل النار. (٦)
(٢) الأثر: ١٥٣٧٥ - خرجه السيوطي في الدر المنثور ١: ١٤٤، وزاد نسبته إلى ابن أبي شيبة.
(٣) الأثر: ١٥٣٧٦- رواه ابن عبد البر في التمهيد (ملحق بكتاب التقصي: ٣٠١ من طريق قاسم بن أصبغ عن محمد بن الجهم، عن روح بن عبادة عن موسى بن عبيدة، وخرجه السيوطي في الدر المنثور ١: ١٤٠ وزاد نسبته إلى ابن أبي شيبة.
(٤) في رواية أخرى ((أم قد مضى القضاء)).
(٥) قوله: ((أفاض بهم في كفه)) : بسطهم متفرقين منبثين. وأصله، من: ((أفاض الضارب بالقداح))، إذا أجالها وضرب بها، فوقعت منبثة متفرقة. وقد جاء هذا اللفظ في خبر عباس: ((اخرج الله ذرية آدم من ظهره، فأفاضهم إفاضة القدح))، وهي الضرب به وإجالته عند القمار. وقد جاء في رواية الطبراني لهذا الخبر (مجمع الزوائد ٧: ١٨٦) :((ثم نثرهم في كفيه، أو كفه)).
(٦) الأثر: ١٥٣٧٧ - رواه أبو جعفر بأربعة أسانيد، هذا، والذي يليه إلى رقم، ١٥٣٨٠. وهو خبر قد نصوا قديماً على أنه مضطرب الإسناد. واضطرابه من وجوه سأبينها بعد: إن شاء الله، في هذا الموضع.
((أحمد بن الفرج بن سليمان الكندي الحمصي))، ((أبو عتبة)) يعرف بالحجازي. ورد بغداد غير مرة، وحدث بها عن بقية بن الوليد، وغيره. روى عنه عبد الله بن أحمد ابن حنبل، وابن جرير، والحسين بن إسماعيل المحاملي، وغيرهم، وكتب عنه ابن أبي حاتم، وقال: ((محله عندنا الصدق)). قال ابن عدي: ((كان محمد بن عوف الطائي، يضعفه، ومع ضعفه يكتب حديثه)). قال محمد بن عوف الطائي: ((الحجازى كذاب... وليس عنده في حديث بقية بن الوليد عن الزبيدي، أصل. هو فيها أكذب خلق الله. إنما هي أحاديث وقعت إليه في ظهر قرطاس كتاب صاحب حديث، في أولها مكتوب: حدثنا يزيد بن عبد ربه، قال حدثنا بقية))، ثم رماه بأشياء. وذكره ابن حبان في الثقات وقال: ((يخطئ وهو مشهور بكنيته)). ومع ذلك، فهذا الخبر الذي رواه عنه أبو جعفر، رواه بعده عن محمد بن عوف الطائي وغيره، فما قيل فيه لا يضر. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم ١ / ١ / ٦٧، وتاريخ بغداد ٤: ٣٣٩ - ٣٤١، وقد مضى برقم: ٦٨٩٩، بروايته عن بقية بن الوليد، ولم يترجم هناك.
و ((بقية بن الوليد الحمصي))، ثقة، تكلموا فيه من أجل تدليسه، فإذا صرح بالسماع كانت روايته صحيحة، وقد صرح بها في هذا الأثر، ولم يصرح في الذي يليه. وقد مضى برقم: ١٥٣، ٥٥٦٣، ٦٥٢١، ٦٨٩٩، ٩٢٢٤، وغيرها.
و ((الزبيدي)) هو ((محمد بن الوليد بن عامر الزبيدي الحمصي))، ثقة، روى له الشيخان. مضى برقم: ٦٦٥٦، ٦٨٩٩.
و ((راشد بن سعد المقرئي الحبراني الحمصي))، وثقه ابن سعد، وابن معين وغيرهما. وقال أحمد: ((لا بأس به))، وقال الدارقطني: ((يعتبر به إذا لم يحدث عن متروك)). وشذ ابن حزم فضعفه. وذهبت عين راشد بن سعد في يوم صفين، وتوفي سنة ١٠٨. مترجم في التهذيب، وابن سعد٧/٢/١٦٢، والكبير ٢/١/٢٦٦، وابن أبي حاتم ١ / ٢ / ٤٨٣، وميزان الاعتدال ١: ٣٣١، ومختصر تاريخ ابن عساكر ٥: ٢٨٩.
ومن عند رواية راشد بن سعد يبدأ الاضطراب في إسناد الخبر، وفي نسبة بعض رجاله، والاختلاف في لفظه. وهذه هي أسانيده التي وقعت لي، جمعتها مع ذكر موضع كل إسناد:
١ - الزبيدي، عن راشد بن سعد، عن عبد الرحمن بن قتادة النصري، عن أبيه، عن هشام بن حكيم = الطبري: ١٥٣٧٧ - ١٥٣٧٩ / الكبير للبخاري ٤/٢/١٩١، ١٩٢ / إسحق بن راهويه، في ((شفاء العليل)) لابن القيم: ١٠ / ابن كثير ٣: ٥٨٨.
٢ - الزبيدي، عن راشد بن سعد، عن عبد الرحمن بن قتادة النصري، عن هشام بن حكيم = الآجري في الشريعة: ١٧٢.
٣ - معاوية بن صالح، عن راشد بن سعد، عن عبد الرحمن بن قتادة، عن هشام بن حكيم = الطبري: ١٥٣٨٠
٤ - معاوية بن صالح، عن راشد بن سعد، عن عبد الرحمن بن قتادة السلمي، وكان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، سمعت رسول الله ﷺ = ابن سعد ١ / ١ / ٩ ثم ٧/٢/١٣٥ = المسند ٤: ١٨٦ / المستدرك ١: ٣١ / أسد الغابة ٣: ٣١٩ / الإصابة ٤: ١٧٩، في ترجمة عبد الرحمن بن قتادة.
٥ - الزبيدي،... عن عبد الرحمن بن قتادة، عن أبيه، وهشام بن حكيم = الإصابة ٤: ١٧٩، غير مبين تمام إسناده، ولكنه عن راشد بن سعد بلا شك.
فالأسانيد الثلاثة الأولى، والإسناد الخامس، رواية الخبر فيها عن هشام بن حكيم، أو عن قتادة النصري. واختلف الزبيدي على راشد بن سعد، فقال مرة: ((عبد الرحمن بن قتادة، عن أبيه، عن هشام)) وقال مرة أخرى: ((عبد الرحمن بن قتادة، عن هشام))، وأسقط ذكر ((عن أبيه)). وأما معاوية بن صالح، فاختلف على راشد بن سعد، فقال مرة: ((عبد الرحمن بن قتادة عن هشام بن حكيم))، كإسناد الزبيدي الثاني، وقال مرة أخرى: ((عبد الرحمن بن قتادة السلمي وكان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، سمعت رسول الله).
قال ابن حجر: ((وأعل البخاري الحديث: بأن عبد الرحمن إنما رواه عن هشام بن حكيم. هكذا رواه معاوية بن صالح وغيره عن راشد بن سعد. وقال معاوية مرة أن عبد الرحمن قال: سمعت، وهو خطأ. ورواه الزبيدي، عن عبد الرحمن بن قتادة، عن أبيه، وهشام بن حكيم. وقيل عن الزبيدي: عبد الرحمن، عن أبيه، عن هشام)) (الإصابة ٤: ١٧٩).
أما الاختلاف الثاني في نسبة بعض رجاله، فإن الذي جاء في الإسناد الأول والثاني: ((عبد الرحمن بن قتادة النصري)). ثم جاء في الإسناد الرابع ((عبد الرحمن بن قتادة السلمي))، ولم يذكر في ترجمة ((عبد الرحمن بن قتادة السلمي)) الصحابي أنه يقال له: ((النصري))، وسيتبين ذلك في الكلام بعد عن رجال الإسناد.
أما الاختلاف الثالث، ففي لفظة. فهذا اللفظ الذي رواه أبو جعفر الطبري هنا برقم ١٥٣٧٧، رواه بنحوه البخاري في الكبير ٤/٢/١٩١، ١٩٢، والآجري في كتاب الشريعة: ١٧٢، وإسحق ابن راهويه (شفاء العليل: ١٠)، ومجمع الزوائد ٧: ١٨٦، والدر المنثور ١: ١٤٣، وزاد نسبته إلى البزار والطبراني، وابن مردويه، والبيهقي في الأسماء والصفات، وكل ذلك عن هشام بن حكيم.
وقال الهيثمى في مجمع الزوائد، وذكر هذا الخبر بلفظه، عن هشام بن حكيم، ثم قال: ((رواه البزار، والطبراني. وفيه بقيه بن الوليد، وهو ضعيف، ويحسن حديثه بكثرة الشواهد. وإسناد الطبراني حسن)).
وأما اللفظ الثاني: فهو عبد الرحمن بن قتادة السلمي، سمعت رسول الله ﷺ يقول: ((أن الله عز وجل خلق آدم، ثم اخذ الخلق من ظهره. وقال: هؤلاء في الجنة ولا أبالي، وهؤلاء في النار ولا أبالي. فقال قائل: يا رسول الله، فعلى ماذا نعمل؟ قال: على مواقع القدر))
وبهذا اللفظ ونحوه عن عبد الرحمن بن قتاده السلمي الصحابي، رواه احمد في المسند ٤: ١٨٦، وابن سعد في الطبقات ١ / ١/ ٩ ثم ٧ / ٢ / ١٣٥ = ثم ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل ٢ /٢ / ٢٧٦ = ثم الحاكم في المستدرك ١: ٣١ / مجمع الزوائد ٧: ١٨٦ / الإصابة ٤: ١٧٩ / تعجيل المنفعة: ٢٥٥، ٢٥٦ / الدر المنشور ١: ١٤٤، ١٤٥، ونسبه إلى ابن سعد وأحمد. قال الحاكم في المستدرك: ((هذا حديث صحيح، قد اتفقا على الاحتجاج برواته عن آخرهم إلى الصحابة. وعبد الرحمن بن قتادة من بنى سلمة، من الصحابة. وقد احتجا جميعاً بزهير بن عمرو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس له راو غير أبي عثمان النهدى، وكذلك احتج البخاري بحديث أبي سعيد بن المعلى، وليس له راو غير حفص بن عاصم)). ووافقه الذهبي.
وأما الهيثمى في مجمع الزوائد فقال: ((رواه أحمد، ورجاله ثقات))، يعنى الإسناد الرابع الذي ذكرناه، باللفظ الثاني.
* * *
ثم نقضي إلى القول في ((عبد الرحمن بن قتادة)). فهو في الإسناد الأول والثاني ((عبد الرحمن بن قتادة النصري))، يروى عن أبيه، عن هشام، الحديث باللفظ الأول، ولا يظهر من إسناده أنه صحابي، فإن كان صحابياً، فهو صحابي، يروى عن صحابي، عن صحابي، وهو غريب نادر. فإذا صح ما قاله البخاري أن الراوي هو عبد الرحمن عن هشام، وان قوله: ((عن أبيه)) زيادة، فهو رواية صحابي عن صحابي. ويحتمل أن يكون ((عبد الرحمن بن قتادة النصري))، تابعياً. ولكن لم يبين أحد أن ((عبد الرحمن بن قتادة النصري))، غير ((عبد الرحمن بن قتادة السلمي))، و ((السلمي))، صحابي، كما جاء في نص الإسناد الرابع. وترجم للصحابي ((عبد الرحمن بن قتادة السلمي)) : ابن سعد ٧ / ٢ / ١٣٥ ثم ابن أبي حاتم ٢ / ٢ / ٢٧٦ وقال بعد: ((روى عن هشام بن حكيم، روى عنه راشد بن سعد = ثم الاستيعاب: ٣٩٨ / وأسد الغابة ٣: ٣١٩ / وتعجيل المنفعة: ٢٥٥ / والإصابة ٤٥: ١٧٩. ولم يذكر أحد منهم أن هذا ((السلمي)) يقال له ((النصري)). وهذا غريب أيضا.
ثم إنهم ترجموا لأبيه ((قتادة النصري)) في الكبير ٤ / ١ / ١٨٥، وقال: ((سمع هشام بن حكيم، روى عنه ابنه عبد الرحمن))، وابن أبي حاتم ٣ / ٢ / ١٣٥، وقال مثله. أما ((قتادة السلمي))، فلم يذكر الموضعين، بل جاء ذكره في ترجمة ((هشام بن حكيم)) في التهذيب، والإصابة. وهذا غريب أيضاً.
((ونسبة السلمي))، مضبوطة بالقلم في ابن سعد وغيره بضم السين وفتح اللام، نسبة إلى ((سليم ابن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس عيلان)) وأما الحاكم في المستدرك، فقد بين أنه من ((بني سلمة)) (بفتح السين وكسر اللام) والنسبة إليها ((السلمي)) (بفتحتين)، وهم من الأنصار. وسواء أكان هذا أو ذاك، فلا أدري كيف يكون ((نصرياً)) من كان من هذه أو تلك. و ((النصري)) فيما أرجح، إنما هو نسبة إلى ((نصر بن معاوية بن بكر بن هوازن بن منصور بن عكرمة))، وهم من أبناء عمومة ((سليم بن منصور)) فجائز أن يكون ((عبد الرحمن بن قتادة)) من بني ((سليم ابن منصور))، دخل في بني عمومته ((نصر بن معاوية)) فنسب إليهم أيضاً. ولا حجة لى في ذلك، كما لم أجد حجة لما قاله الحاكم في المستدرك.
وقد أطلت في بيان هذا الاضطراب، لأضبطه بعض الضبط. وبعد ذلك كله، فمعنى الحديث صحيح، مروى عن جماعة من الصحابة بأسانيد ليس فيها هذا الاضطراب. وهو اضطراب قديم، كما نصوا على ذلك فيما نقلت آنفاً.
١٥٣٧٩ - حدثني [عبد الله بن] أحمد بن شبويه قال: حدثنا إسحاق بن إبراهيم قال: حدثنا عمرو بن الحرث قال: حدثنا عبد الله بن مسلم، عن الزبيدي قال: حدثنا راشد بن سعد: أن عبد الرحمن بن قتادة حدّثه: أن أباه حدّثه: أن هشام بن حكيم حدثه: أنه قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم
و"حيوة" هو "حيوة بن شريح بن يزيد الحضرمي فقيه عالم ثقة مضى برقم: ٢٨٩١، ٣١٧٩، و"يزيد" هو "يزيد بن هارون" أحد الحفاظ مضى مرارا كثيرة وهذا إسنادا في الخبر السالف.
١٥٣٨٠ - حدثنا محمد بن عوف قال: حدثني أبو صالح قال: حدثنا معاوية، عن راشد بن سعد، عن عبد الرحمن بن قتادة، عن هشام بن حكيم، عن النبي صلى الله عليه وسلم، بنحوه. (٢)
* * *
قال أبو جعفر: واختلف في قوله: (شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين)، فقال السدي: هو خبرٌ من الله عن نفسه وملائكته، أنه جل ثناؤه قال هو وملائكته إذ أقرَّ بنو آدم بربوبيته حين قال لهم (٣) ألست بربكم؟ فقالوا: (٤) "بلى".
(٢) الأثر: ١٥٣٨٠ - ((أبو صالح)) هو ((عبد الله بن صالح المصري)) كاتب الليث ابن سعد. ثقة، تكلموا فيه. مضى مرارًا. انظر رقم ١٨٦. ((ومعاوية بن صالح الحمصي)). ثقة، مضى مرارًا. انظر رقم ١٨٦ وانظر بعد هذا كله، التعليق على رقم: ١٥٣٧٧.
(٣) في المخطوطة ((حين قيل لهم)).
(٤) في المطبوعة ((قالوا بلى)). ساقها مساق الآية.
* * *
وقال آخرون: ذلك خبر من الله عن قيل بعض بني آدم لبعض، حين أشهد الله بعضهم على بعض. وقالوا: معنى قوله: (وأشهدهم على أنفسهم)، وأشهد بعضهم على بعضٍ بإقرارهم بذلك، وقد ذكرت الرواية بذلك أيضًا عمن قاله قبلُ.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك بالصواب، ما روي عن رسول الله ﷺ إن كان صحيحًا، ولا أعلمه صحيحًا; لأن الثقات الذين يعتمد على حفظهم وإتقانهم حدَّثوا بهذا الحديث عن الثوري، فوقفوه على عبد الله بن عمرو، ولم يرفعوه، ولم يذكروا في الحديث هذا الحرف الذي ذكره أحمد بن أبي طَيبة عنه. (٢) وإن لم يكن ذلك عنه صحيحًا، فالظاهر يدلُّ على أنه خبر من الله عن قِيل بني آدم بعضهم لبعض، لأنه جل ثناؤه قال: (وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا)، فكأنه قيل: فقال الذين شهدوا على المقرِّين حين أقروا، فقالوا: "بلى"=: شهدنا عليكم بما أقررتم به على أنفسكم، كيلا تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين.
* * *
(٢) انظر ما سلف في التعليق على رقم: ١٥٣٥٤.
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: شهدنا عليكم أيها المقرُّون بأن الله ربكم، كيلا تقولوا يوم القيامة: "إنا كنا عن هذا غافلين"، إنا كنا لا نعلم ذلك، وكنا في غفلة منه = أو تقولوا: (إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم)، اتبعنا منهاجهم = (أفتهلكنا)، بإشراك من أشرك من أبائنا، واتباعنا منهاجَهم على جهل منا بالحق؟ ويعني بقوله: (بما فعل المبطلون)، بما فعل الذين أبطلوا في دَعواهم إلهًا غير الله.
* * *
واختلفت القرأة في قراءة ذلك. فقرأ بعض المكيين والبصريين: "أَنْ يَقُولُوا" بالياء، بمعنى: شهدنا لئلا يقولوا، على وجه الخبر عن الغَيَب.
* * *
وقرأ ذلك عامة قرأة أهل المدينة والكوفة: (أَنْ تَقُولُوا)، بالتاء على وجه الخطابِ من الشهود للمشهود عليهم.
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك، أنهما قراءتان صحيحتا المعنى، متَّفقتَا التأويل، وإن اختلفت ألفاظهما، لأن العرب تفعل ذلك في الحكاية، كما قال الله: (لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ) و (لَيُبَيِّنُنَّهُ) [سورة آل عمران: ١٨٧]، وقد بينا نظائر ذلك فيما مضى بما أغنى عن إعادته. (١)
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وكما فصلنا يا محمد لقومك آيات هذه السورة، وبيّنا فيها ما فعلنا بالأمم السالفة قبلَ قومك، (١) وأحللنا بهم من المَثُلات بكفرهم وإشراكهم في عبادتي غيري، كذلك نفصل الآيات غيرِها ونبيّنها لقومك، لينزجروا ويرتدعوا، فينيبوا إلى طاعتي ويتوبوا من شركهم وكفرهم، فيرجعوا إلى الإيمان والإقرار بتوحيدي وإفراد الطاعة لي وترك عبادة ما سواي.
القول في تأويل قوله: ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (١٧٥) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: "واتل"، يا محمد، على قومك = "نبأ الذي آتيناه آياتنا"، يعني خبره وقصته. (٢)
* * *
وكانت آيات الله للذي آتاه الله إياها فيما يقال: اسم الله الأعظم = وقيل: النبوّة.
* * *
واختلف أهل التأويل فيه.
فقال بعضهم: هو رجل من بني إسرائيل. (٣)
(٢) انظر تفسير ((تلا)) فيما سلف: ١٢: ٢١٥، تعليق: ٢، والمراجع هناك = وتفسير ((النبأ)) فيما سلف ص: ٧ تعليق: ١، والمراجع هناك.
(٣) انظر خبر ((بلعم بن باعور)) في تاريخ الطبري ١: ٢٢٦ - ٢٢٨.
١٥٣٨١ - حدثنا حميد بن مسعدة، قال: حدثنا بشر بن المفضل قال: حدثنا شعبة، عن منصور، عن أبي الضحى، عن مسروق، عن عبد الله في هذه الآية: (واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها) قال: هو بَلْعَم.
١٥٣٨٢ - حدثنا ابن وكيع قال: حدثنا جرير، عن منصور، عن أبي الضحى، عن مسروق، عن عبد الله، مثله.
١٥٣٨٣ -.... قال: حدثنا أبي، عن سفيان، عن منصور، عن أبي الضحى، عن مسروق، عن عبد الله قال: هو بلعم بن أَبَر.
١٥٣٨٤ - حدثنا ابن حميد قال: حدثنا جرير، عن منصور، عن أبي الضحى، عن مسروق، عن ابن مسعود، في قوله: (واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا) قال: رجل من بني إسرائيل يقال له: بَلْعَم بن أَبَر.
١٥٣٨٥ - حدثنا محمد بن المثنى قال: حدثنا محمد بن جعفر وابن مهدي وابن أبي عدي، قالوا: حدثنا شعبة، عن منصور، عن أبي الضحى، عن مسروق، عن عبد الله: أنه قال في هذه الآية، فذكر مثله =ولم يقل: "بن أبر".
١٥٣٨٦ - حدثنا ابن حميد قال: حدثنا حكام، عن عمرو، عن منصور، عن أبي الضحى، عن مسروق، عن ابن مسعود: (واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها) قال: رجل من بني إسرائيل يقال له: بلعم بن أَبَر.
١٥٣٨٧ - حدثنا ابن وكيع قال: حدثنا عمران بن عيينة، عن حصين، عن عمران بن الحارث، عن ابن عباس قال: هو بلعم بن باعر.
١٥٣٨٨ - حدثني الحارث قال: حدثنا عبد العزيز قال: حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن أبي الضحى، عن مسروق، عن ابن مسعود، في قوله: (واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا) إلى (فكان من الغاوين)، هو بلعم بن أبَر.
١٥٣٨٩ - حدثنا الحسن بن يحيى قال: أخبرنا عبد الرزاق قال: أخبرنا
١٥٣٩٠ - حدثني المثنى قال: حدثنا عبد الله بن صالح قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قوله: (واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها) قال: هو رجل من مدينة الجبارين يقال له: بلعم.
١٥٣٩١ - حدثني محمد بن عمرو قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (فانسلخ منها) قال: بلعام بن باعر، من بني إسرائيل.
١٥٣٩٢ - حدثني الحارث قال: حدثنا عبد العزيز قال: حدثنا أبو سعد قال: سمعت مجاهدًا يقول، فذكر مثله.
١٥٣٩٣ - حدثنا القاسم قال: حدثنا الحسين قال: ثني حجاج، عن ابن جريج قال: أخبرني عبد الله بن كثير، أنه سمع مجاهدًا يقول، فذكر مثله.
١٥٣٩٤ - حدثنا ابن المثنى قال: حدثنا عبد الرحمن وابن أبي عدي، عن شعبة، عن حصين، عن عكرمة قال في الذي (آتيناه آياتنا فانسلخ منها) قال: هو بلعام.
١٥٣٩٥ - وحدثنا ابن وكيع قال: حدثنا غندر، عن شعبة، عن حصين، عن عكرمة قال: هو بلعم.
١٥٣٩٦ -.... قال: حدثنا عمران بن عيينة، عن حصين، عن عكرمة قال: هو بلعم.
١٥٣٩٧ - حدثنا حميد بن مسعدة، قال: حدثنا بشر قال: حدثنا شعبة، عن حصين قال: سمعت عكرمة يقول: هو بلعام.
١٥٣٩٨ - حدثنا الحارث قال: حدثنا عبد العزيز قال: حدثنا إسرائيل، عن حصين، عن مجاهد قال: هو بلعم.
وقالت ثقيف: هو أمية بن أبي الصلت. (١)
* * *
وقال آخرون: كان بلعم هذا من أهل اليمن.
* ذكر من قال ذلك:
١٥٤٠٠ - حدثني محمد بن سعد قال: ثني أبي قال: ثني عمي قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها) قال: هو رجل يدعى بلعم، من أهل اليمن.
* * *
وقال آخرون: كان من الكنعانيين.
* ذكر من قال ذلك:
١٥٤٠١ - حدثني المثنى قال: حدثنا عبد الله بن صالح قال: حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قوله: (واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها) قال: هو رجل من مدينة الجبارين يقال له: بلعم.
* * *
وقال آخرون: هو أمية بن أبي الصلت.
* ذكر من قال ذلك:
١٥٤٠٢ - حدثنا ابن المثنى قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال: حدثنا سعيد بن السائب، عن غطيف بن أبي سفيان، عن يعقوب ونافع بن عاصم، عن عبد الله بن عمرو قال في هذه الآية: (الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها) قال: هو أمية بن أبي الصلت. (٢)
(٢) (٢) الأثر:: ١٥٤٠٢ - ((سعيد بن السائب بن يسار الثقفي الطائفي))، ((سعيد بن أبي حفص)) ثقة، كان بعضهم يعده من الأبدال، وكانت لا تجف له دمعة. مترجم في التهذيب، والكبير ٢ / ١ / ٤٣٩، وابن أبي حاتم ٢/١/٣٠. و ((غطيف بن أبي سفيان الطائفي)) أو ((غضيف))، تابعى ثقة. مترجم في التهذيب ٠ (غضيف)، والكبير ٤/١/١٠٦ (غطيف)، وابن أبي حاتم ٣/٢/٥٥، (غضيف). وكان في المطبوعة: ((غضيف))، وأثبت ما في المخطوطة. و ((نافع بن عاصم بن عروة بن مسعود الثقفي))، تابعي ثقة، مترجم في التهذيب، والكبير ٤ / ٢ / ٨٤، وابن أبي حاتم ٤ / ١ / ٤٥٤.
١٥٤٠٤ - حدثنا ابن المثنى قال: حدثنا عبد الرحمن ووهب بن جرير قالا حدثنا شعبة، عن يعلى بن عطاء، عن نافع بن عاصم، عن عبد الله بن عمرو، بمثله.
١٥٤٠٥ - حدثنا محمد بن بشار قال: حدثنا يحيى بن سعيد قال: حدثنا سفيان، عن حبيب بن أبي ثابت، عن رجل، عن عبد الله بن عمرو: (ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه) قال: هو أمية بن أبي الصلت.
١٥٤٠٦ - حدثنا ابن وكيع قال: حدثنا غندر، عن شعبة، عن يعلى بن عطاء قال: سمعت نافع بن عاصم بن عروة بن مسعود قال: سمعت عبد الله بن عمرو قال في هذه الآية: (الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها) قال: هو صاحبكم = يعني أمية بن أبي الصلت.
١٥٤٠٧ -.... قال: حدثنا أبي، عن سفيان عن حبيب، عن رجل، عن عبد الله بن عمرو قال: هو أمية بن أبي الصلت.
١٥٤٠٩ - حدثنا ابن حميد قال: حدثنا حكام، عن عنبسة، عن عبد الملك بن عمير قال: تذاكروا في جامع دمشق هذه الآية: (فانسلخ منها)، فقال بعضهم: نزلت في بلعم بن باعوراء، وقال بعضهم: نزلت في الراهب. (١) = فخرج عليهم عبد الله بن عمرو بن العاص، فقالوا: فيمن نزلت هذه؟ قال: نزلت في أمية بن أبي الصلت الثقفي.
١٥٤١٠ - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال: حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن الكلبي: (الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها) قال: هو أمية بن أبي الصلت، وقال قتادةُ: يشكّ فيه، يقول بعضهم: بلعم، ويقول بعضهم: أمية بن أبي الصلت.
* * *
قال أبو جعفر: واختلف أهل التأويل في الآيات التي كان أوتيها، التي قال جل ثناؤه: (آتيناه آياتنا).
فقال بعضهم: كانت اسمَ الله الأعظم.
* ذكر من قال ذلك:
١٥٤١١ - حدثني موسى قال: حدثنا عمرو قال: حدثنا أسباط، عن السدي قال: إن الله لما انقضت الأربعون سنة = يعني التي قال الله فيها: (فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً)، [سورة المائدة: ٢٦] بعث يوشع بن نون نبيًّا، فدعا بني إسرائيل، فأخبرهم أنه نبيٌّ، وأن الله قد أمره أن يقاتل الجبَّارين، فبايعوه وصدَّقوه. وانطلق رجل من بني إسرائيل يقال له: "بلعم" وكان عالمًا يعلم الاسم
١٥٤١٢ - حدثني المثنى قال: حدثنا عبد الله بن صالح قال: حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس: (واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا) قال: هو رجل يقال له: "بلعم"، وكان يعلم اسم الله الأعظم.
١٥٤١٣ - حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد، في قوله: (واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها) قال: كان لا يسأل الله شيئًا إلا أعطاه.
* * *
وقال آخرون: بل الآيات التي كان أوتيها كتابٌ من كتب الله.
* ذكر من قال ذلك:
١٥٤١٤ - حدثنا القاسم قال: حدثنا الحسين قال: حدثنا أبو تميلة، عن أبي حمزة، عن جابر، عن مجاهد، وعكرمة، عن ابن عباس قال: كان في بني إسرائيل بلعام بن باعر أوتي كتابًا. (٥)
(٢) ((الأتان)) أنثى الحمار.
(٣) في المطبوعة: ((أي تنصل))، وأثبت ما في المخطوطة. أما في التاريخ: ((فبصر))، والصواب ما في المخطوطة.
(٤) الأثر: ١٥٤١١ - رواه أبو جعفر في تاريخه ١: ٢٢٧، ٢٢٨، وسيأتي بتمامه برقم: ١٥٤٢٣.
(٥) الأثر: ١٥٤١٤ - سيأتي مطولا برقم: ١٥٤٣٢.
* ذكر من قال ذلك:
١٥٤١٥ - حدثني الحارث قال: حدثنا عبد العزيز قال: حدثنا أبو سعد، عن غيره = قال: الحارث: قال عبد العزيز: يعني: عن غير نفسه=، عن مجاهد قال: هو نبي في بني إسرائيل، يعني بلعم، أوتي النبوّة، فرشاه قومه على أن يسكت، ففعل وتركهم على ما هُمْ عليه.
١٥٤١٦ - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال: حدثنا المعتمر بن سليمان، عن أبيه، أنه سُئل عن الآية: (واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها)، فحدّث عن سَيَّار أنه كان رجلا يقال له "بلعام"، وكان قد أوتي النبوّة، وكان مجابَ الدعوة. (١)
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله تعالى ذكره أمرَ نبيه ﷺ أن يتلو على قومه خبرَ رجلٍ كان الله آتاه حُجَجه وأدلته، وهي "الآيات".
وقد دللنا على أن معنى "الآيات": الأدلة والأعلام، فيما مضى، بما أغنى عن إعادته. (٢) =
وجائز أن يكونَ الذي كان الله آتاه ذلك "بلعم" =وجائز أن يكون أمية. وكذلك "الآيات" إن كانت بمعنى الحجة التي هي بعض كتب الله التي أنزلها على بعض أنبيائه، فتعلمها الذي ذكره الله في هذه الآية، وعناه بها; فجائز أن يكون الذي كان أوتيها "بلعم" =وجائز أن يكون "أمية"، لأن "أمية" كان، فيما يقال، قد قرأ من كتب أهل الكتاب.
(٢) انظر تفسير ((الآية)) فيما سلف من فهارس اللغة (أيى).
* * *
وأما قوله: (فانسلخ منها)، فإنه يعني: خرج من الآيات التي كان الله آتاها إياه، فتبرَّأ منها.
وبنحو ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
١٥٤١٧ - حدثني المثنى قال: حدثنا عبد الله بن صالح قال: حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قال: لما نزل موسى عليه السلام.... (٢) =يعني بالجبارين= ومن معه، أتاه =يعني بلعم= أتاه بنُو عمّه وقومُه، (٣) فقالوا: إن موسى رجلٌ حديد، ومعه جنودٌ كثيرة، وإنه إنْ يظهر علينا يهلكنا. فادع الله أن يردَّ عنَّا موسى ومن معه. قال: إني إنْ دعوت الله أن يردَّ موسى ومن معه ذهبت دنياي وآخرتي! فلم يزالوا به حتى دعا عليهم، فسلخه الله مما كان عليه، فذلك قوله: (فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين).
(٢) في المخطوطة، بياض بعد ((عليه السلام))، وبالهامش حرف (ط) دلالة على الخطأ.
(٣) في المطبوعة، حذف ((أتاه)) الثانية.
١٥٤١٩ - حدثنا القاسم قال: حدثنا الحسين قال: حدثني حجاج قال: قال ابن جريج: قال ابن عباس: (فانسلخ منها) قال: نزع منه العلم.
* * *
وقوله: (فأتبعه الشيطان)، يقول: فصيَّره لنفسه تابعًا ينتهي إلى أمره في معصية الله، ويخالف أمر ربِّه في معصية الشيطان وطاعةِ الرحمن.
* * *
وقوله: (فكان من الغاوين)، يقول: فكان من الهالكين، لضلاله وخلافه أمر ربه، وطاعة الشيطان. (١)
القول في تأويل قوله: ﴿وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ولو شئنا لرفعنا هذا الذي آتيناه آياتنا بآياتنا التي آتيناه = (ولكنه أخلد إلى الآرض)، يقول: سكن إلى الحياة الدنيا في الأرض، ومال إليها، وآثر لذتها وشهواتها على الآخرة= "واتبع هواه"، ورفض طاعة الله وخالَف أمرَه.
* * *
وكانت قصة هذا الذي وصف الله خبرَه في هذه الآية، على اختلاف من أهل العلم في خبره وأمره، ما:-
١٥٤٢٠ - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال: حدثنا المعتمر، عن أبيه:
١٥٤٢١ - حدثنا ابن عبد الأعلى قال: حدثنا المعتمر، عن أبيه قال: وبلغني حديث رجلٍ من أهل الكتاب يحدّث: (١٦) أن موسى سأل الله أن يطبَعه، وأن يجعله من أهل النار. قال: ففعل الله. قال: أنبئت أن موسى قَتَله بعدُ.
١٥٤٢٢ - حدثنا ابن حميد قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن سالم أبي النضر، أنه حدَّث: أن موسى لما نزل في أرض بني كنعان من أرض الشأم = [وكان بلعم ببالعة، قرية من قرى البلقاء. فلمَّا نزل موسى ببني إسرائيل ذلك المنزل] (١٧) أتى قومَ بلعم إلى بلعم، فقالوا له: يا بلعم، إن هذا موسى بن عمران في بني إسرائيل، قد جاء يخرجنا من بلادنا ويقتلنا ويُحِلُّها بني إسرائيل ويُسْكنها، وإنّا قومك، وليس لنا منزلٌ، وأنت رجل مجاب الدعوة، فاخرج فادعُ الله عليهم! (١٨) فقال: ويلكم! نبيُّ الله معه الملائكة والمؤمنون، كيف أذْهبُ أدعو عليهم، وأنا أعلم من لله ما أعلم!! قالوا: ما لنا من منزل! فلم يزالوا به يرقِّقُونه، ويتضَرَّعون إليه، (١٩) حتى فتنوه فافتُتِن. فركب حمارةً له متوجِّهًا إلى الجبل الذي يطلعه على
(٢) في المطبوعة: ((بلعاماً)) بصرف الاسم الأعجمى.
(٣) الثانية ((أؤامر)) بالهمز، وهي اللغة الفصحى. والأولى: ((أوامر)) بالواو، بطرح الهمز، وليست بفصيحة، ولكن جرى بها هذا الخبر. وانظر التعليق التالي.
(٤) في المطبوعة: ((فآمر عليهم))، وأثبت ما في المخطوطة. ((وامر))، مثل ((آمر))، ولكنها لغة غير مستجادة. وانظر التعليق السالف.
(٥) في المطبوعة: ((إني آمرت))، حذف ((قد))، وجعل ((وامرت)) ((آمرت))، وتابعت المخطوطة، كما أسلفت في التعليقات السالفة وفي الآتية أيضاً.
(٦) عبث الناشر بهذه الجملة بالزيادة والتحريف والحذف، فجعلها هكذا: ((فقال: حتى أوامر ربى، فآمر، فلم يأمره بشيء)). وأثبت الصواب من المخطوطة ((أوامر)) و ((وامر)) كل ذلك كما جرى عليه ما سلف، بالواو. وأما قوله: ((فلم يحر إليه شيء))، أي: لم يرجع إليه شيء. ((حار إليه يحور حوراً))، رجع إليه، ومنه حاوره محاورة حواراً)) في الكلام. وقولهم ((أحار عليه جوابه))، و ((أحرت له جواباً))، و ((ما أحار بكلمة)).
(٧) جعلها في المطبوعة أيضاً: ((قد وامرت فلم يأمرني بشيء))، وانظر التعليق السالف.
(٨) في المطبوعة: ((في المرة الأولى))، زاد ((في))، والذي في المخطوطة أعلى.
(٩) في المطبوعة: ((لتستقبلهم))، حذف الفاء والنون.
(١٠) في المطبوعة ((تستقبلهم))، وأثبت ما في المخطوطة.
(١١) في المطبوعة: ((مكنيه))، غير ما في المخطوطة.
(١٢) في المخطوطة، أسقط ((ورفعهما))، والصواب ما في المطبوعة، وابن كثير.
(١٣) في المطبوعة، وتفسير ابن كثير: ((... أتى المعلولى = أو قال: طريقاً من المعلولى))، وهو لا معنى له. وفي المخطوطة: ((العلول)) و ((بين العلول))، وصححت قراءتها كما أثبتها، لأن جيش موسى لما نزل به العذاب، فهلك منه سبعون ألفاً، صار من بقى منه فلولا. هذا ما رجحته.
(١٤) في المطبوعة: ((ولا تتقدم))، كما في ابن كثير، وأثبت ما في المخطوطة.
(١٥) الأثر: ١٥٤٢٠ - ((المعتمر)) هو ((المعتمر بن سليمان بن طرخان التيمي))، الإمام المشهور، مضى مرارًا. وأبوه، هو ((سليمان بن طرخان التيمي))، ويعرف بالتيمي، وكنيته ((أبو المعتمر))، مضى مرارًا. و ((سيار)) الذي روى عنه هو: ((سيار بن سلامة))، أبو المنهال الرياحي، الثقة المعروف، مضى برقم: ٥٤٧٨. وهذا الخبر، رواه ابن كثير في تفسيره ٣: ٥٩٥، ٥٩٦، والسيوطي في الدر المنثور ٣: ١٤٧، مختصراً.
(١٦) في المطبوعة: ((فبلغنى))، وأثبت ما في المخطوطة.
(١٧) الزيادة بين القوسين من تاريخ الطبري.
(١٨) في المطبوعة: ((وادع)) بالواو، وأثبت ما في المخطوطة والتاريخ.
(١٩) في المطبوعة: ((يرفعونه))، وفي التاريخ: ((يرفقونه))، والصواب ما أثبت، من ((الرقة))، وهي الرحمة والشفقة، يعنى ما زالوا به لكى يرق لهم قلبه.
١٥٤٢٣ - حدثني موسى قال: حدثنا عمرو قال: حدثنا أسباط، عن السدي قال: انطلق رجل من بني إسرائيل يقال له بلعم، فأتى الجبارين فقال: لا ترهبوا من بني إسرائيل، فإني إذا خرجتم تقاتلونهم أدعو عليهم فيهلكون (١٧) فخرج يوشع يقاتل الجبارين في الناس. وخرج بلعم مع الجبّارين على أتانه وهو يريد أن يلعَنَ بني إسرائيل، فكلما أراد أن يدعو على بني إسرائيل، دعا على الجبارين، فقال الجبارون: إنك إنّما تدعو علينا! فيقول: إنما أردت بني إسرائيل. فلما بلغ باب المدينة، أخذ ملك بذنب الأتان، فأمسكها، فجعل يحرِّكها فلا تتحرك، فلما أكثر ضَرْبها، تكلمت فقالت: أنت تنكحني بالليل وتركبني بالنهار؟ ويلي منك! ولو أنِّي أطقتُ الخروج لخرجتُ، ولكن هذا المَلَك يحبسني. وفي بلعم يقول الله: (واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا) (١٨).. الآية.
١٥٤٢٤ - حدثني الحارث قال: حدثنا عبد العزيز قال: حدثني رجل
(٢) في التاريخ: ((فما سار عليها غير قليل حتى ربضت به)).
(٣) ((الإذلاق)) : أن يبلغ منه الجهد، حتى يقلق ويتضور، وفي حديث ماعز: ((أنه ﷺ أمر برجمه، فلما أذلقته الحجارة جمز وفر))، أي بلغت منه الجهد حتى قلق.
(٤) في ى المطبوعة: ((أما ترى الملائكة تردني))، وفي المخطوطة: ((ألا ترى الملائكة ألا تردني عن وجهي))، وأثبت ما في التاريخ.
(٥) في المطبوعة ((فضربها))، والصواب من المخطوطة والتاريخ.
(٦) في المطبوعة: ((فأنطلقت به حتى إذا أشرفت على رأس... ))، وفي المخطوطة أسقط (به)) من الجملة كلها وأثبت ما في التاريخ، وإن كان هناك ((على جبل حسبان))، بغير ((رأس)). وانظر ((حسبان)) في التعليق: ١، فقد كان في المطبوعة هنا، كمثله هناك.
(٧) في المطبوعة: ((ولا يدعو... بشر))، وأثبت ما في المخطوطة والتاريخ.
(٨) ((اندلع لسانه)) : خرج من الفم، واسترخى، وسقط على العنفقة كلسان الكلب. وفي أثر آخر عن بلعم: ((إن الله لعنه، فأدلع لسانه، فسقطت أسلته على صدره، فبقيت كذلك)).
(٩) في التاريخ: ((رأس أمته وبنى أبيه، من كان منهم في مدين، هو كان كبيرهم، برجل... )).
(١٠) في المطبوعة: ((لا أطيعك))، وأثبت ما في المخطوطة والتاريخ.
(١١) في المخطوطة، والتاريخ: ((يحوس)) بالحاء المهملة. من قولهم: ((تركت فلاناً يحوس بنى فلان ويجوسهم)) (بالجيم أيضاً) يتخللهم، ويطلب فيهم، ويدوسهم. و ((الذئب يحوس الغنم))، يتخللها ويفرقها. وفي المطبوعة: ((يجوس)) بالجيم.
(١٢) في التاريخ: ((عليهما القبة) ٩.
(١٣) في التاريخ والمخطوطة: (٠ لحيته))، والصواب ما في المطبوعة، كما سيأتي دليل ذلك من إعطاء بنى إسرائيل ((اللحى)) بنى فنخاص.
(١٤) في المطبوعة: ((الفشة))، وأثبت ما في المخطوطة والتاريخ و ((القبة)) (بكسر القاف وفتح الباء مخففة) وهي من الكرش، ((الحفث)) (بفتح فكسر) ذات الطرائق من الكرش، و ((القبة)) الأخرى إلى جنبه، وليس فيها طرائق.
(١٥) قوله: ((والبكر)) معطوف على قوله: ((تعطى بنى إسرائيل... القبة... )).
(١٦) الأثر: ١٥٤٢٢ - رواه ابن جرير في تاريخه ١: ٢٢٦، ٢٢٧.
(١٧) ((فيهلكون)) ساقطة من المخطوطة والمطبوعة، وهي ثابتة في الأثر السالف ١٥٤١١، وفي التاريخ.
(١٨) الأثر: ١٥٤٢٣ - مضى برقم: ١٥٤١١، وهو في التاريخ ١: ٢٢٧، ٢٢٨.
* * *
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله: (ولو شئنا لرفعناه بها).
فقال بعضهم: معناه: لرفعناه بعلمه بها.
*ذكر من قال ذلك.
١٥٤٢٥ - حدثنا القاسم قال: حدثنا الحسين قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: قال ابن عباس: (ولو شئنا لرفعنا بها)، لرفعه الله تعالى بعلمه.
* * *
وقال آخرون: معناه لرفعنا عنه الحال التي صار إليها من الكفر بالله بآياتنا.
* ذكر من قال ذلك:
١٥٤٢٦ - حدثني محمد بن عمرو قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله: (ولو شئنا لرفعنا بها)، : لدفعناه عنه. (٣)
١٥٤٢٧ - حدثنا القاسم قال: حدثنا الحسين قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد: (ولو شئنا لرفعناه بها)، : لدفعناه عنه. (٤)
* * *
(٢) في المطبوعة ((باكتف والعضد))، وفي المخطوطة: ((بالكتاب))، ولعل صوابها ما قرأت ((الكتد))، هو مجتمع الكتفين. والله أعلم أي ذلك هو الصواب.
(٣) في المطبوعة: ((لرفعنا عنه بها))، لا أدرى من أين جاء بذلك، وأثبت ما في المخطوطة. و ((لدفعنا)) بالدال.
(٤) في المطبوعة: ((لرفعنا عنه))، وأثبت ما في المخطوطة.
١٥٤٢٨ - حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد، في قوله: (ولو شئنا لرفعناه بها)، بتلك الآيات. وأما قوله: (ولكنه أخلد إلى الأرض)، فإن أهل التأويل قالوا فيه نحو قولنا فيه.
* ذكر من قال ذلك:
١٥٤٢٩ - حدثنا ابن وكيع قال: حدثنا أبي، عن إسرائيل، عن أبي الهيثم، عن سعيد بن جبير: (ولكنه أخلد إلى الأرض)، يعني: ركن إلى الأرض.
١٥٤٣٠ -.... قال: حدثنا يحيى بن آدم، عن شريك، عن سالم، عن سعيد بن جبير: (ولكنه أخلد إلى الأرض) قال: نزع إلى الأرض.
١٥٤٣١ - حدثني محمد بن عمرو قال: حدثنا أبو عاصم قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: "أخلد": سكن.
١٥٤٣٢ - حدثنا القاسم قال: حدثنا الحسين قال: حدثنا أبو تميلة، عن أبي حمزة، عن جابر، عن مجاهد وعكرمة، عن ابن عباس قال: كان في
١٥٤٣٣ - حدثنا موسى قال: حدثنا عمرو قال: حدثنا أسباط، عن السدي: (ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه)، أما (أخلد إلى الأرض) : فاتبع الدنيا، وركن إليها. قال أبو جعفر: وأصل "الإخلاد" في كلام العرب: الإبطاء والإقامة، يقال منه: "أخلد فلان بالمكان"، إذا أقام به وأخلد نفسه إلى المكان" إذا أتاه من مكان آخر، (٢) ومنه قول زهير:
لِمَنْ الدِّيَارُ غَشِيتُهَا بِالْفَدْفَدِ كَالْوَحْيِ فِي حَجَرِ الْمَسِيلِ المُخْلِدِ (٣)
يعني المقيم، ومنه قول مالك بن نويرة:
بِأَبْنَاء حَيٍّ مِنْ قَبَائِلِ مَالِكٍ وَعْمْرِو بن يَرْبُوعٍ أَقَامُوا فَأَخْلَدُوا (٤)
(٢) هذا التفسير الأخير، لا تجده في شيء من معاجم اللغة، فقيده.
(٣) ديوانه: ٢٦٨، واللسان (خلد)، مطلع قصيدته في سنان بن أبي حارثة المرى، وكان في المطبوعة: ((غشيتها بالغرقد))، والصواب ما في المخطوطة والديوان، وإنما تابع ناشر المطبوعة، ما كان في اللسان، فأخطأ بخطئه. و ((الفدفد)) الموضع فيه غلظ وارتفاع، أو هي الأرض المستويه. ، و ((الوحى)) الكتابة. وقوله: ((حجر المسيل))، لأنه أصلب الحجارة، فالكتابة فيه أبقى، ويضربه السيل لخلوده فيأخذ منه، فتخفي الكتابة. فشبه آثار الديار، بباقى الكتابة على صخرة ينتابها السيل، فيمحو جدة ما كتب فيها.
(٤) الأصمعيات: ٣٢٣، من قصيدته قالها في يوم مخطط، وقبله، وهو أول الشعر:
إلا أكُنْ لاقَيْتُ يومَ مخطط | فقد خبر الرُّكْبَانُ ما أتَوَدَّدُ |
أتاني بنفر الخير ما قد لقيته | رزين، وركب حوله متعضدُ |
يهلون عمارًا، إذا ما تغوروا | ولاقوا قريشًا خبروها فأنجدُوا |
(٢) في المطبوعة ((كان أبن زيد قال | ))، وهو سيء جداً، لم يحسن قراءة المخطوطة. |
((فاقصص يا محمد هذا القصص الذي اقتصصته عليك | )) على قومك من قريش)). |
١٥٤٤٢ - حدثنا ابن حميد قال: حدثنا سلمة، عن محمد، عن سالم أبي النضر: (فاقصص القصص لعلهم يتفكّرون)، يعني: بني إسرائيل، إذ قد جئتهم بخبر ما كان فيهم ممّا يخفُون عليك ="لعلهم يتفكرون"، فيعرفون أنه لم يأت بهذا الخبر عمّا مضى فيهم إلا نبيٌّ يأتيه خبرُ السماء.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿سَاءَ مَثَلا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ (١٧٧) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ساءَ مثلا القوم الذين كذبوا بحجج الله وأدلته فجحدوها، وأنفسَهم كانوا ينقصُون حظوظَها، ويبخسونها منافعها، بتكذيبهم بها لا غيرَها.
* * *
وقيل: "ساء مثلا" من السوء"، (١) بمعنى: بئس مثلا (٢) = [مَثَل القوم] (٣) = وأقيم "القوم" مقام "المثل"، وحذف "المثل"، إذ كان الكلام مفهومًا معناه، كما قال جل ثناؤه: (وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ)، [سورة البقرة: ١٧٧] فإن معناه: ولكن البرَّ، برُّ من آمن بالله =وقد بينا نظائر ذلك في مواضع غير هذا، بما أغنى عن إعادته. (٤)
* * *
(٢) الكلام. انظر تفسير ((ساء)) فيما سلف ٨: ١٣٨، ٣٥٨ / ٩: ١٠١، ٢٠٥ / ١٠: ٤٦٥ = والنحاة يعدون ((ساء)) فعلا جامدا يجرى مجرى ((نعم)) و ((بئس)).
(٣) ما بين القوسين زيادة لا يتم الكلام إلا بها، ولكن الناسخ خلط في هذه الجملة خلطاً شديداً، فحذف من قوله بعد: ((ولكن البر بر من آمن))، كلمة ((بر))، ففسد الكلام.
(٤) انظر التعليق السالف رقم: ٢، ثم ٣: ٣٣٨، ٣٣٩ / ١٠: ٣١٣، وما سلف من فهارس مباحث العربية والنحو وغيرها، في باب الحذوف.
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: الهداية والإضلال بيد الله، و"المهتدي" =وهو السالك سبيل الحق، الراكبُ قصدَ المحجّة= في دينه، مَن هداه الله لذلك، فوفَّقه لإصابته. والضالُّ من خذله الله فلم يوفقه لطاعته، ومن فعل الله ذلك به فهو "الخاسر": يعني الهالك.
* * *
وقد بيّنا معنى "الخسارة" و"الهداية"، و"الضلالة" في غير موضع من كتابنا هذا بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (١)
* * *
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ولقد خلقنا لجهنّم كثيرًا من الجن والإنس.
* * *
يقال منه: ذرأ الله خلقه يذرؤهم ذَرْءًا. (١)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
١٥٤٤٤ -.... حدثنا أبو كريب قال: حدثنا ابن أبي زائدة، عن مبارك، عن الحسن، في قوله: (ولقد ذرأنا لجهنم) قال: خلقنا.
١٥٤٤٥ -.... قال: حدثنا زكريا، عن عتاب بن بشير، عن علي بن بذيمة، عن سعيد بن جبير قال: أولاد الزنا ممّا ذرأ الله لجهنم.
١٥٤٤٦ - قال: حدثنا زكريا بن عدي، وعثمان الأحول، عن مروان بن معاوية، عن الحسن بن عمرو، عن معاوية بن إسحاق، عن جليس له بالطائف، عن عبد الله بن عمرو، عن النبي ﷺ قال: "إن الله لما ذرأ لجهنم ما ذرأ، كان ولدُ الزنا ممن ذرأ لجهنم". (٢)
١٥٤٤٧ - حدثني محمد بن الحسين قال: حدثنا أحمد بن المفضل قال:
(٢) الأثر: ١٥٤٤٦ - ((زكريا بن عدى بن زريق التيمى))، شيخ أبي كريب، وهو راوى الخبر، ثقة جليل، مضى برقم: ١٥٦٦.
((عثمان الأحول))، شيخ أبي كريب، هو ((عثمان بن سعيد القرشي))، الزيات الأحول الطيب الصائغ. مضى برقم: ١٣٧، ١١٥٤٧.
و ((مروان بن معاوية الفزارى))، الحافظ الثقة، مضى برقم: ١٢٢٢، ٣٣٢٢، ٣٨٤٢، ٧٦٨٥. و ((الحسن بن عمرو الفقيمى التميمى))، ثقة أخرج له البخاري في صحيحه، مضى برقم: ٣٧٦٥. و ((معاوية بن إسحق بن طلحة التيمى))، تابعى ثقة، مضى برقم: ٣٢٢٦. وهذا إسناد ضعيف، لجهالة من روى عنه ((معاوية بن إسحق))، وهو ((جليس له بالطائف)). وخرجه السيوطي في الدر المنثور ٣: ١٤٧، وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم، وأبي الشيخ وابن مردويه.
١٥٤٤٨ - حدثني الحارث قال: حدثنا عبد العزيز قال: حدثنا أبو سعد قال: سمعت مجاهدًا يقول في قوله: (ولقد ذرأنا لجهنم) قال: لقد خلقنا لجهنم كثيرًا من الجن والإنس.
١٥٤٤٩ - حدثني المثنى قال: حدثنا عبد الله قال: حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس: (ولقد ذرأنا لجهنم)، خلقنا.
* * *
قال أبو جعفر: وقال جل ثناؤه: (ولقد ذرأنا لجهنم كثيرًا من الجن والإنس)، لنفاذ علمه فيهم بأنهم يصيرون إليها بكفرهم بربِّهم.
* * *
وأما قوله: (لهم قلوبٌ لا يفقهون بها)، فإن معناه: لهؤلاء الذين ذرأهم الله لجهنم من خلقه قلوب لا يتفكرون بها في آيات الله، ولا يتدبرون بها أدلته على وحدانيته، ولا يعتبرون بها حُجَجه لرسله، (١) فيعلموا توحيد ربِّهم، ويعرفوا حقيقة نبوّة أنبيائهم. فوصفهم ربُّنا جل ثناؤه بأنهم: "لا يفقهون بها"، لإعراضهم عن الحق وتركهم تدبُّر صحة [نبوّة] الرسل، (٢) وبُطُول الكفر. وكذلك قوله: (ولهم أعين لا يبصرون بها)، معناه: ولهم أعين لا ينظرون بها إلى آيات الله وأدلته، فيتأملوها ويتفكروا فيها، فيعلموا بها صحة ما تدعوهم إليه رسلهم، وفسادِ ما هم عليه مقيمون، من الشرك بالله، وتكذيب رسله; فوصفهم الله بتركهم إعمالها في الحقّ، بأنهم لا يبصرون بها. (٣)
وكذلك قوله: (ولهم آذان لا يسمعون بها)، آيات كتاب الله، فيعتبروها ويتفكروا فيها، ولكنهم يعرضون عنها، ويقولون: (لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا
(٢) في المطبوعة والمخطوطة: ((صحة الرشد))، ولا معنى لها، واستظهرت الصواب من سياق تفسيره، وزدت] نبوة [بين القوسين، لتطلب الكلام لها.
(٣) في المطبوعة: ((بأنهم لا يبصرون))، وأثبت ما في المخطوطة.
أَعْمَى إِذَا مَا جَارَتِي خَرَجَتْ... حَتَّى يُوَارِيَ جَارَتِي السِّتْرُ (١) وَأَصَمُّ عَمَّا كَانَ بَيْنَهُمَا... سَمْعِي وَمَا بِالسَّمْعِ مِنْ وَقْرِ
فوصف نفسه لتركه النظر والاستماع بالعمى والصمم. ومنه قول الآخر: (٢) وَعَوْرَاءُ اللِّئَامِ صَمَمْتُ عَنْهَا... وَإِنِّي لَوْ أَشَاءُ بِهَا سَمِيعُ (٣) وَبَادِرَةٍ وَزَعْتُ النَّفْسَ عَنْهَا... وَقَدْ تَثِقَتْ مِنَ الْغَضَبِ الضُّلُوعُ (٤)
ما ضر جارى إذ أجاوره | أن لا يكون لبيته ستر |
(٢) هو عبد الله بن مرة العجلي.
(٣) حماسة البحترى: ١٧٢، وأنسيت أين قراتها في غير الحماسة. والذي في حماسة البحترى: ((وعوراء الكلام))، وكانت في المخطوطة: و ((عوراء اللام))، وكأن الصواب ما في الحماسة.
و ((العوراء))، الكلمة القبيحة، أو التي تهوى جهلا في غير عقل ولا رشد. ومن أجود ما قيل في ذلك، قول حاتم الطائي، أو الأعور الشني:
وعَوْرَاءُ جَاءَتْ مِنْ أخٍ فَرَدَدْتُها | بسَالِمَةِ العَيْنين طَالِبة عُذْرَا |
ولو أنَّنى إذ قَالها قلتُ مثلَها | ولم أعْفُ عنها، أوْرَثتْ بيْنَنَا غَمْرَا |
فأعْرَضْتُ عَنْهُ وانتظرتُ به غَدا | لعلَّ غدًا يُبْدِي لمنتظرٍ أمْرَا |
عد بالأخوة بينَنا! | ولم أتَّخِذ ما كان من جَهْلِه قمرَا |
لأنزع ضبًّا كامنًا في فؤادِه | وأُقَلِّمُ أظفارًا أطَالَ بها الحفرَا |
و ((البادرة))، الخطأ والسقطات التي تسبق من المرء إذا ما غضب واحتد، من فعل أو قول.
و (وزع النفس عن الشيء))، كفها وحبسها. و ((تئق الرجل))، امتلأ غضباً وغيظاً. و ((التأق))، شدة الامتلاء حتى لا موضع لمزيد.
* * *
* ذكر من قال ذلك:
١٥٤٥٠ - حدثني الحارث قال: حدثنا عبد العزيز قال: حدثنا أبو سعد قال: سمعت مجاهدًا يقول في قوله: (لهم قلوب لا يفقهون بها) قال: لا يفقهون بها شيئًا من أمر الآخرة = (ولهم أعين لا يبصرون بها)، الهدى= (ولهم آذان لا يسمعون بها) الحقَّ، ثم جعلهم كالأنعام سواءً، ثم جعلهم شرًّا من الأنعام، (١) فقال: (بل هم أضل)، ثم أخبر أنهم هم الغافلون.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿أُولَئِكَ كَالأنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (١٧٩) ﴾
قال أ [وجعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: (أولئك كالأنعام)، هؤلاء الذين ذرأهم لجهنم، هم كالأنعام، وهي البهائم التي لا تفقه ما يقال لها، (٢) ولا تفهم ما أبصرته لما يصلح وما لا يَصْلُح، (٣) ولا تعقل بقلوبها الخيرَ من الشر، فتميز
(٢) انظر تفسير ((الأنعام)) فيما سلف ١٢: ١٣٩، تعليق: ٢، والمراجع هناك.
(٣) في المطبوعة: ((مما يصلح، ومما لا يصلح))، أثبت ما في المخطوطة وهو جيد.
وقوله: (أولئك هم الغافلون)، يقول تعالى ذكره: هؤلاء الذين وصفتُ صفتهم، القومُ الذين غفلوا =يعني: سهوًا (٢) عن آياتي وحُججي، وتركوا تدبُّرها والاعتبارَ بها والاستدلالَ على ما دلّت عليه من توحيد ربّها، لا البهائم التي قد عرّفها ربُّها ما سخَّرها له.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿وَلِلَّهِ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (١٨٠) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره (ولله الأسماء الحسنى)، ، وهي كما قال ابن عباس: -
١٥٤٥١ - حدثني محمد بن سعد قال: حدثني أبي، قال حدثني عمي، قال حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: (ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها)، ومن أسمائه: "العزيز الجبار"، وكل أسمائه حسن.
(٢) انظر تفسير ((غفل)) فيما سلف ص: ١١٥، تعليق: ١، والمراجع هناك.
* * *
وأما قوله: (وذروا الذين يلحدون في أسمائه)، فإنه يعني به المشركين. (٢)
* * *
وكان إلحادهم في أسماء الله، أنهم عدَلوا بها عمّا هي عليه، فسموا بها آلهتهم وأوثانهم، وزادوا فيها ونقصوا منها، فسموا بعضها "اللات" اشتقاقًا منهم لها من اسم الله الذي هو "الله"، وسموا بعضها "العُزَّى" اشتقاقًا لها من اسم الله الذي هو "العزيز".
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
١٥٤٥٣ - حدثني محمد بن سعد قال: حدثني أبي قال: ثني عمي قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: (وذروا الذين يلحدون في أسمائه)، قال: إلحاد الملحدين: أن دعوا "اللات" في أسماء الله.
ورواه مسلم في صحيحه، من مثل طريق البخاري، ثم من طريق معمر، عن أيوب، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة (مسلم ١٧: ٤، ٥).
ورواه أحمد في مسنده من طرق، رقم: ٧٤٩٣، ٧٦١٢، ٨١٣١، ٩٥٠٩، ١٠٤٨٦، ١٠٥٣٩، ١٠٦٩٦. وانظر تخريجه هناك.
وفي بعض طرقه زيادة: ((وإن الله وتر يحب الوتر)) أو ((إنه وتر يحب الوتر)).
(٢) انظر تفسير ((ذر)) فيما سلف من فهارس اللغة (وذر).
* * *
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله (يلحدون).
فقال بعضهم: يكذّبون.
* ذكر من قال ذلك:
١٥٤٥٥ - حدثني المثنى قال: حدثنا عبد الله قال: حدثني معاوية، عن ابن عباس، قوله: (وذروا الذين يلحدون في أسمائه) قال: الإلحاد: التكذيب.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: يشركون.
* ذكر من قال ذلك.
١٥٤٥٦- حدثني محمد بن عبد الأعلى قال: حدثنا أبو ثور، عن معمر، عن قتادة: (يلحدون) قال: يشركون. (١)
* * *
وأصل "الإلحاد" في كلام العرب: العدول عن القصد، والجورُ عنه، والإعراض. ثم يستعمل في كل معوَجّ غير مستقيم، ولذلك قيل للحْد القبر: "لحد"، لأنه في ناحية منه، وليس في وسطه. يقال منه: "ألحد فلانٌ يُلْحِد إلحادًا"، و"لَحد يلْحَد لَحْدًا ولُحُودًا". (٢) وقد ذكر عن الكسائي أنه كان يفرّق بين "الإلحاد" و"اللحٍْد"، فيقول
(٢) (٢) المصدر الثاني ((اللحود))، قلما نجده في معاجم اللغة، فقيده.
وأما سائر أهل المعرفة بكلام العرب، فيرون أن معناهما واحدٌ، وأنهما لغتان جاءتا في حرفٍ واحدٍ بمعنى واحد.
* * *
واختلفت القرأة في قراءة ذلك. فقرأته عامة قراء أهل المدينة وبعض البصريين والكوفيين: (يُلْحِدُون)، بضم الياء وكسر الحاء من "ألحد يُلْحِد" في جميع القرآن.
* * *
وقرأ ذلك عامة قراء أهل الكوفة: "يَلْحَدُونَ" بفتح الياء والحاء من "لَحَد يَلْحَدُ".
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك، أنهما لغتان بمعنى واحد، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيبٌ الصوابَ في ذلك. غير أنِّي أختار القراءة بضمِّ الياء على لغة من قال: "ألحد"، لأنها أشهر اللغتين وأفصحهما.
* * *
وكان ابن زيد يقول في قوله: (وذروا الذين يلحدون في أسمائه)، إ نه منسوخٌ.
١٥٤٥٧ - حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد، في قوله: (وذَرُوا الذين يلحدون في أسمائه) قال: هؤلاء أهل الكفر، وقد نُسِخ، نَسَخه القتال.
* * *
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (١٨١) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ومن الخلق الذين خلقنا "أمة"، يعني جماعة (٣) = "يهدون"، يقول: يهتدون بالحق (٤) = (وبه يعدلون)، يقول: وبالحق يقضُون ويُنصفون الناس، (٥) كما قال ابن جريج: -
١٥٤٥٨ - حدثنا القاسم قال: حدثنا الحسين قال: حدثني حجاج، عن
(٢) في المطبوعة: ((الذي أجله إليهم))، غير الضمائر، فأفسد الكلام إفساداً
(٣) انظر تفسير ((أمة)) فيما سلف ص: ٢٠٨. تعليق: ٢. والمراجع هناك
(٤) انظر تفسير ((هدى)) فيما سلف من فهارس اللغة (هدى).
(٥) انظر تفسير ((عدل)) فيما سلف ص: ١٧٢، تعليق. ٣، والمراجع هناك
١٥٤٥٩ - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال: حدثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة: (وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون)... (١)
١٥٤٦٠ - حدثنا بشر قال: حدثنا يزيد قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون)، بلغنا أن نبي الله ﷺ كان يقول إذا قرأها: هذه لكم، وقد أعطي القوم بين أيديكم مثلَها: (وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ)، [سورة الأعراف: ١٥٩].
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (١٨٢) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: والذين كذبوا بأدلتنا وأعلامِنا، فجحدوها ولم يتذكروا بها، سنمهله بغِرَّته ونزين له سوء عمله، (٢) حتى يحسب أنه فيما هو عليه من تكذيبه بآيات الله إلى نفسه محسن، وحتى يبلغ الغايةَ التي كُتِبَتْ له من
(٢) فاجأنا أبو جعفر بطرح ضمير الجمع منصرفاً إلى ضمير المفرد، وهو غريب جداً. ولكن هكذا هو في المخطوطة والمطبوعة. وتركته على حاله، لأني أظن أن أبا جعفر كان أحياناً يستغرقه ما يريد أن يكتب، فربما مال به الفكر من شق الكلام إلى شق غيره. وقد مضى مثل ذلك في بعض المواضع، حيث أشرت إليها. وهذا مفيد في معرفة تأليف المؤلفين، وما الذي يعتريهم وهم يكتبون. ولذلك لم أغيره، احتفاظاً بخصائص ما كتب أبو جعفر. وأنا أستبعد أن يكون ذلك من الناسخ، لأن الجملة أطول من يسهو الناسخ في نفلها كل هذا السهو، ويدخل في جميع ضمائرها كل هذا التغيير. ثم انظر ما سيأتي ص: ٣٣٨، تعليق: ٢.
* * *
وأصل "الاستدراج" اغترارُ المستدرَج بلطف من [استدرجه]، (١) حيث يرى المستدرَج أن المستدرِج إليه محسنٌ، حتى يورِّطه مكروهًا.
* * *
وقد بينا وجه فعل الله ذلك بأهل الكفر به فيما مضى، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (٢)
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (١٨٣) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وأُؤخر هؤلاء الذين كذّبوا بآياتنا. [وأصل "الإملاء" من قولهم: "مضى عليه مليٌّ، ومِلاوَة ومُلاوَة]، ومَلاوة" = بالكسر والضم والفتح = "من الدهر"، (٣) وهي الحين، ومنه قيل: انتظرتُك مليًّا. (٤)
* * *
(٢) غاب عني موضعه فلم أجده.
(٣) لا شك أنه قد سقط من كلام أبي جعفر شيء، أتممته استظهاراً، من مجاز القرآن لأبي عبيدة ١: ٢٣٤، وضعته بين قوسين. وسيتبين لك بعد أن الكلام في هذه الفقرات مقطع غير متصل، فلا أدري أهو من الناسخ أم من أبي جعفر، ولذلك فصلت بعضه عن بعض. فتنبه إلى هذا الفصل بين المتتابعين، بكلام مفسر، كما ترى. وكان في المطبوعة: ((ملاءة)). وأثبت ما في المخطوطة.
(٤) انظر تفسير ((الإملاء)) فيما سلف ٧: ٤٢١، ٤٢٢.
* * *
(إن كيدي).
* * *
والكيد: هو المكر. (٢)
* * *
وقوله: (متين)، يعني: قويٌّ شديدٌ، ومنه قول الشاعر: (٣) [عدلن عدول الناس وأقبح] يَبْتَلِي أَفَانِينَ مِنْ أُلْهُوبِ شَدٍّ مُمَاتِنِ (٤)
يعني: سيرًا شديدًا باقيًا لا ينقطع. (٥)
* * *
(٢) انظر تفسير ((الكيد)) فيما سلف ٧: ١٥٦ / ٨: ٥٤٧.
(٣) لم أعرف قائله.
(٤) جاء البيت في المطبوعة:
عَدَلْنَ عُدُولَ الناسِ وأقبح يبتلى | أقاس من الهراب شد مُمَاتِن |
عدلن عدول الناس دامح سلى | اماسن من الهرب سد مماتن |
وصدر البيت لم أعرف له وجهاً، وأما قراءة عجز البيت، فصوابه قراءته ما أثبته بلا ريب، وإنما يصف نوقاً أو خيلا. و ((الأفانين)) جمع ((أفنون))، وهو الجرى المختلط من جرى الفرس والناقة. يقال: ((جرى الفرس أفانين من الجرى))، و ((أفتن الفرس في جريه))، و ((الألهوب)) : أن يجتهد الفرس في عدوه ويضطرم، حتى يثير الغبار. يقال: ((شد ألهوب)). ويقال: ((ألهب الفرس))، اضطرم جريه. و ((الشد))، العدو. يقال: ((شد الفرس وغيره في العدو، شداً واشتد))، أي: أسرع وعدا عدواً شديداً. وتركت صدر البيت بحاله، حتى أجد له مرجعاً يصححه.
(٥) في المخطوطة: ((يعنى سبباً شديداً))، وما في المطبوعة قريب من الصواب.
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: أو لم يتفكر هؤلاء الذين كذبوا بآياتنا، فيتدبروا بعقولهم، ويعلموا أن رسولَنا الذي أرسلناه إليهم، لا جنَّة به ولا خَبَل، وأن الذي دعاهم إليه هو [الرأي] الصحيح، والدين القويم، والحق المبين؟ (١) وإنما نزلت هذه الآية فيما قيل، (٢) كما: -
١٥٤٦١ - حدثنا بشر بن معاذ قال: حدثنا يزيد قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قال: ذكر لنا أن نبي الله ﷺ كان على الصَّفا، (٣) فدعا قريشًا، فجعل يفخِّذُهم فخذًا فخذًا: "يا بني فلان، يا بني فلان! " (٤) فحذّرهم بأس الله، ووَقَائع الله، فقال قائلهم: "إن صاحبكم هذا لمجنون! باتَ يصوّت إلى الصباح =أو: حتى أصبح! " فأنزل الله تبارك وتعالى: (أوَ لم يتفكروا ما بصاحبهم من جنة إن هو إلا نذير مبين).
* * *
(٢) في المطبوعة: ((ولذا نزلت هذه الآية))، وفي المخطوطة: ((وإذا أنزلت))، ورأيت أن الصواب ما أثبت، على شك منى أن يكون الكلام خرم.
(٣) هكذا في المطبوعة والمخطوطة وابن كثير: "كان على الصفا" وأرجح أن صوابها " قام على الصفا" كما جاء في سائر الأخبار في تفسير آية سورة الشعراء: ٢١٤، (تفسير الطبري) : ١٩: ٧٣- ٧٦ بولاق.
(٤) ((فخذ الرجل بنى فلان تفخيداً))، دعاهم فخذاً فخذاً. و ((الفخذ)) فرقة من فرق الجماعات والعشائر. يقال: ((الشعب))، ثم ((القبيلة))، ثم ((الفصيلة))، ثم ((العمارة)) ثم ((البطن))، ثم ((الفخذ)).
* * *
ويعني بقوله: (مبين)، قد أبان لكم، أيها الناس، إنذارُه ما أنذركم به من بأس الله على كفركم به. (٣)
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (١٨٥) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: أو لم ينظر هؤلاء المكذبون بآيات الله، في ملك الله وسلطانه في السموات وفي الأرض، (٤) وفيما خلق جل ثناؤه من شيء فيهما، فيتدبروا ذلك، ويعتبروا به، ويعلموا أن ذلك لمنْ لا نظير له ولا شبيه، (٥) ومِنْ فِعْلِ من لا ينبغي أن تكون العبادة والدين الخالص إلا له، فيؤمنوا به، ويصدقوا رسوله وينيبوا إلى طاعته، ويخلعوا الأنداد والأوثان، ويحذرُوا أن تكون آجالهم قد اقتربت، (٦) فيهلكوا على كفرهم، ويصيروا إلى عذاب الله وأليم عقابه.
* * *
وقوله: (فبأي حديث بعده يؤمنون)، يقول: فبأيّ تخويفٍ وتحذير ترهيب بعد تحذير محمد ﷺ وترهيبِه الذي أتاهم به من عند الله في آي كتابه،
(٢) انظر تفسير ((النذير)) فيما سلف ١١: ٣٦٩، تعليق: ٢، والمراجع هناك.
(٣) انظر تفسير ((مبين)) فيما سلف من فهارس اللغة (بين).
(٤) انظر تفسير ((الملكوت)) فيما سلف ١١: ٤٧٠.
(٥) في المطبوعة: ((ممن لا نظير له))، غير ما في المخطوطة، بلا علة.
(٦) انظر تفسير ((الأجل)) فيما سلف ص: ٧٣، تعليق: ٢، والمراجع هناك.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١٨٦) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: إن إعراض هؤلاء الذين كذبوا بآياتنا، التاركي النظر في حجج الله والفكر فيها، لإضلال الله إياهم، ولو هداهم الله لاعتبرُوا وتدبَّروا فأبصروا رُشْدهم; ولكن الله أضلَّهم، فلا يبصرون رشدًا ولا يهتدون سبيلا ومن أضلَّه عن الرشاد فلا هادي له إليه، ولكن الله يدعهم في تَمَاديهم في كفرهم، وتمرُّدهم في شركهم، يترددون، ليستوجبوا الغايةَ التي كتبها الله لهم من عُقوبته وأليم نَكاله. (٢)
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلا هُوَ﴾
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في الذين عنوا بقوله: (يسألونك عن الساعة). فقال بعضهم: عني بذلك قومُ رسول الله ﷺ من قريش،
(٢) انظر تفسير ((الضلال)) و ((الهدى)) فيما سلف من فهارس اللغة (ضلل)، (هدى) = تفسير ((يذر)) فيما سلف ص: ٣٦، تعليق: ٢، والمراجع هناك. = تفسير ((الطغيان)) فيما سلف ص ١٢: ٤٦، تعليق: ٢، والمراجع هناك. = تفسير ((العمه)) فيما سلف ١: ٣٠٩ - ٣١١ / ١٢: ٤٦.
* ذكر من قال ذلك:
١٥٤٦٢ - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال: حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة قال: قالت قريش لمحمد صلى الله عليه وسلم: إنّ بيننا وبينك قرابة، فأسِرَّ إلينا متى الساعة! فقال الله: (يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا). (١)
* * *
وقال آخرون: بل عُني به قوم من اليهود.
* ذكر من قال ذلك:
١٥٤٦٣ - حدثنا أبو كريب قال: حدثنا يونس بن بكير قال: حدثنا محمد بن إسحاق قال: حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت قال: حدثني سعيد بن جبير أو عكرمة، عن ابن عباس قال: قال جَبَل بن أبي قشير، وشمول بن زيد، لرسول الله ﷺ (٢) يا محمد، أخبرنا متى الساعة إن كنت نبيًّا كما تقول، فإنا نعلم متى هي؟ فأنزل الله تبارك وتعالى: (يسألونك عن الساعة أيان مرساها قل إنما علمها عند ربي)، إلى قوله: (ولكن أكثر الناس لا يعلمون). (٣)
١٥٤٦٤ - حدثنا ابن وكيع قال: حدثنا أبي، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن طارق بن شهاب قال: كان النبي ﷺ لا يزال يذكُر من شأن الساعة حتى نزلت: (يسألونك عن الساعة أيان مرساها). (٤)
* * *
(٢) في المطبوعة: ((حمل بن أبي قشير))، وهي في المخطوطة كما أثبتها غير منقوطة. والصواب أيضاً في سيرة ابن هشام ٢: ١٦٢، ٢١٨، وكتب هناك: ((شمويل))، وهما سواء، وفي المطبوعة هنا ((سمول)) غير منقوطة كما في المخطوطة.
(٣) الأثر: ١٥٤٦٣ - سيرة ابن هشام ٢: ٢١٨، وهو تابع الأثر السالف رقم: ١٢٢١٦.
(٤) الأثر: ١٥٤٦٤ - ((إسماعيل بن أبي خالد الأحمسى)) ثقة ثبت، مضى برقم: ٥٦٩٤، ٥٧٧٧، ١٢٢٨٠. و ((طارق بن شهاب الأحمسى))، رأي النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه مرسلا، مضى مرارًا، رقم: ٩٧٤٤، ١١٦٨٢، ١٢٠٧٣، ١٢٠٧٥، ١٢٠٨٥. وكان في المطبوعة والمخطوطة: ((مخارق بن شهاب))، وهو خطأ صرف، صوابه من ابن كثير. وهذا الخبر ساقه ابن كثير في تفسيره ٣: ٦٠٩، وقال: ((ورواه النسائي من حديث عيسى بن يونس، عن إسماعيل بن أبي خالد، به. وهذا إسناد جيد قوي)).
* * *
قال أبو جعفر: فتأويل الآية إذاً: يسألك القومُ الذين يسألونك عن الساعة (أيان مرساها) ؟ يقول: متى قيامها؟
* * *
ومعنى "أيان": متى، في كلام العرب، ومنه قول الراجز: (٢) أَيَّانَ تَقْضِي حَاجَتِي أَيَّانَا أَمَا تَرَى لِنُجْحِهَا إِبَّانَا (٣)
* * *
ومعنى قوله: (مرساها)، قيامها، من قول القائل: "أرساها الله فهي مُرْسَاة"، و"أرساها القوم"، إذا حبسوها، و"رسَت هي، ترسُو رُسُوًّا".
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
١٥٤٦٥ - حدثني محمد بن الحسين قال: حدثنا أحمد بن المفضل قال:
(٢) لم أعرف قائله.
(٣) مجاز القرآن لأبي عبيدة ١: ٢٣٤، اللسان (أبن). و ((إبان الشيء))، زمنه ووقته الذي يصلح فيه، أو يكون فيه.
* * *
١٥٤٦٦- حدثنا بشر بن معاذ قال: حدثنا يزيد قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (يسألونك عن الساعة أيان مرساها)، : متى قيامها؟
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: مُنتهاها =وذلك قريب المعنى من معنى مَن قال: معناه: "قيامها"، لأن انتهاءها، بلوغها وقتها. وقد بينا أن أصل ذلك: الحبس والوقوف.
* ذكر من قال ذلك:
١٥٤٦٧ - حدثنا المثنى قال: حدثنا عبد الله بن صالح قال: حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قوله: (يسألونك عن الساعة أيان مرساها)، يعني: منتهاها.
* * *
وأما قوله: (قل إنما علمها عند ربي لا يجلِّيها لوقتها إلا هو)، فإنه أمرٌ من الله نبيَّه محمدًا ﷺ بأن يجيب سائليه عن الساعة بأنه لا يعلم وقت قيامها إلا الله الذي يعلم الغيب، وأنه لا يظهرها لوقتها ولا يعلمها غيرُه جل ذكره، كما: -
١٥٤٦٨ - حدثنا بشر بن معاذ قال: حدثنا يزيد قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: (قل إنما علمها عند ربي لا يجليها لوقتها إلا هو)، يقول: علمها عند الله، هو يجليها لوقتها، لا يعلم ذلك إلا الله.
١٥٤٦٩ - حدثني محمد بن عمرو قال: حدثنا أبو عاصم قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (لا يجليها)، : يأتي بها.
١٥٤٧٠ - حدثنا القاسم قال: حدثنا الحسين قال: ثني حجاج، عن ابن جريج قال: قال مجاهد: (لا يجليها)، قال: لا يأتي بها إلا هو.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلا بَغْتَةً﴾
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.
فقال بعضهم: معنى ذلك: ثقلت الساعة على أهل السموات والأرض أن يعرفوا وقتها ومجيئها، لخفائها عنهم، واستئثار الله بعلمها.
* ذكر من قال ذلك:
١٥٤٧٢ - حدثني محمد بن الحسين قال: حدثنا أحمد بن المفضل قال: حدثنا أسباط، عن السدي، قوله: (ثقلت في السموات والأرض)، يقول: خفيت في السموات والأرض، فلم يعلم قيامها متى تقوم مَلَك مقرَّب، ولا نبيٌّ مرسل.
١٥٤٧٣ - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال: حدثنا محمد بن ثور= وحدثنا الحسن بن يحيى قال: أخبرنا عبد الرزاق = جميعًا، عن معمر، عن بعض أهل التأويل: (ثقلت في السموات والأرض)، قال: ثقل علمها على أهل السموات وأهل الأرض، إنهم لا يعلمون.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: أنها كَبُرت عند مجيئها على أهل السموات والأرض.
١٥٤٧٤ - حدثني محمد بن عبد الأعلى قال: حدثنا محمد بن ثور= وحدثنا الحسن بن يحيى قال: أخبرنا عبد الرزاق = جميعًا، عن معمر قال: قال الحسن، في قوله: (ثقلت في السموات والأرض)، يعني: إذا جاءت ثقلت على أهل السماء وأهل الأرض. يقول: كبرت عليهم.
١٥٤٧٥ - حدثنا القاسم قال: حدثنا الحسين قال: ثني حجاج، عن ابن جريج: (ثقلت في السموات والأرض) قال: إذا جاءت انشقت السماء، وانتثرت النجوم، وكوِّرت الشمس، وسُيِّرت الجبال، وكان ما قال الله; فذلك ثقلها.
١٥٤٧٦ - حدثنا محمد بن الحسين قال: حدثنا أحمد بن المفضل قال: حدثنا أسباط، عن السدي قال: قال بعض الناس في "ثقلت": عظمت.
* * *
وقال آخرون: معنى قوله: (في السموات والأرض)، : على السموات والأرض.
* ذكر من قال ذلك:
١٥٤٧٧ - حدثنا بشر قال: حدثنا يزيد قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: (ثقلت في السموات والأرض)، أي: على السموات والأرض.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى ذلك عندي بالصواب، قول من قال: معنى ذلك: ثقلت الساعة في السموات والأرض على أهلها، أن يعرفوا وقتها وقيامها; لأن الله أخفى ذلك عن خلقه، فلم يطلع عليه منهم أحدًا. وذلك أن الله أخبرَ بذلك بعد قوله: (قل إنما علمها عند ربي لا يجليها لوقتها إلا هو)، وأخبر بعده أنها لا تأتي إلا بغتة، فالذي هو أولى: أن يكون ما بين ذلك أيضًا خبرًا عن خفاء علمها عن
* * *
وأما قوله: (لا تأتيكم إلا بغتة)، فإنه يقول: لا تجيء الساعة إلا فجأة، لا تشعرون بمجيئها، (١) كما: -
١٥٤٧٨ - حدثني محمد بن الحسين قال: حدثنا أحمد بن المفضل قال: حدثنا أسباط، عن السدي: (لا تأتيكم إلا بغتة)، يقول: يبغتهم قيامها، تأتيهم على غفلة.
١٥٤٧٩ - حدثنا بشر قال: حدثنا يزيد قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: (لا تأتيكم إلا بغتة)، قضى الله أنها لا تأتيكم إلا بغتة. قال: وذكر لنا أن نبي الله ﷺ كان يقول: إن الساعة تهيج بالناس والرجل يُصْلِح حوضه، والرجلُ يسقي ماشيته، والرجل يقيم سلعته في السوق، والرجل يخفض ميزانه ويرفعه.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (١٨٧) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: يسألك هؤلاء القوم عن الساعة، كأنك حَفِيٌّ عنها.
* * *
[واختلف أهل التأويل في تأويل قوله: (حفي عنها) ]. (٢)
فقال بعضهم: يسألونك عنها كأنك حفي بهم. وقالوا: معنى قوله: "عنها" التقديم، وإن كان مؤخرًا.
(٢) الزيادة بين القوسين، يقتضيها نهج أبي جعفر في تفسيره.
١٥٤٨٠ - حدثني محمد بن سعد قال: حدثني أبي قال: حدثني عمي قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (يسألونك كأنك حفيّ عنها)، يقول: كأن بينك وبينهم مودة، كأنك صديق لهم. قال ابن عباس: لما سأل الناسُ محمدًا ﷺ عن الساعة، سألوه سؤال قوم كأنهم يرون أن محمدًا حفي بهم، فأوحى الله إليه: إنما علمها عنده، استأثر بعلمها، فلم يطلع عليها ملكًا ولا رسولا.
١٥٤٨١ - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال: حدثنا محمد بن ثور، عن معمر قال: قال قتادة: قالت قريش لمحمد صلى الله عليه وسلم: إن بيننا وبينك قرابة، فأسِرَّ إلينا متى الساعة! فقال الله: (يسألونك كأنك حفي عنها). (١)
١٥٤٨٢ - حدثنا بشر قال: حدثنا يزيد قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: (يسألونك كأنك حفي عنها)، : أي حفي بهم. قال: قالت قريش: يا محمد، أسرّ إلينا علم الساعة، لما بيننا وبينك من القرابة = لقرابتنا منك.
١٥٤٨٣ - حدثنا ابن وكيع قال: حدثنا أبو خالد الأحمر، وهانئ بن سعيد، عن حجاج، عن خصيف، عن مجاهد وعكرمة: (يسألونك كأنك حفي عنها) قال: حفي بهم حين يسألونك.
١٥٤٨٤ - حدثني الحارث قال: حدثنا عبد العزيز قال: حدثنا إسرائيل، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس: (يسألونك كأنك حفي عنها) قال: قريب منهم، وتحفَّى عليهم = قال: وقال أبو مالك: كأنك حفي بهم. قال: قريب منهم، وتحفَّى عليهم = قال: وقال أبو مالك: كأنك حفي بهم، فتحدثهم. (٢)
١٥٤٨٥ - حدثني محمد بن الحسين قال: حدثنا أحمد بن المفضل قال:
(٢) الأثر: ١٥٤٨٤ - ((أبو مالك))، في هذا الخبر، لم أعرف من يكون؟
* * *
وقال آخرون: بل معنى ذلك: كأنك قد استحفيت المسألة عنها فعلمتها.
* ذكر من قال ذلك:
١٥٤٨٦ - حدثني محمد بن عمرو قال: حدثنا أبو عاصم قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (كأنك حفي عنها)، استحفيت عنها السؤال حتى علمتَها.
١٥٤٨٧ - حدثني الحارث قال: حدثنا عبد العزيز قال: حدثنا أبو سعد، عن مجاهد في قوله: (كأنك حفي عنها) قال: استحفيت عنها السؤال حتى علمت وقتها.
١٥٤٨٨ - حدثنا ابن وكيع قال: حدثنا المحاربي، عن جويبر، عن الضحاك: (يسألونك كأنك حفي عنها) قال: كأنك عالم بها.
١٥٤٨٩ -... قال: حدثنا حامد بن نوح، عن أبي روق، عن الضحاك: (يسألونك كأنك حفيّ عنها) قال: كأنك تعلمها. (١)
١٥٤٩٠ - حدثت عن الحسين بن الفرج قال: سمعت أبا معاذ قال: ثني عبيد بن سليمان، عن الضحاك، قوله: (يسألونك كأنك حفي عنها)، يقول: يسألونك عن الساعة، كأنك عندك علمًا منها = (قل إنما علمها عند ربي).
١٥٤٩١ - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال: حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن بعضهم: (كأنك حفي عنها)، : كأنك عالم بها.
١٥٤٩٢ - حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد، في قوله: (كأنك حفي عنها) قال: كأنك عالم بها. وقال: أخفى علمها على
١٥٤٩٣ - حدثني المثنى قال: حدثنا عبد الله بن صالح قال: ثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قوله: (يسألونك كأنك حفي عنها)، يقول: كأنك يعجبك سؤالهم إياك = (قل إنما علمها عند الله).
* * *
وقوله: (كأنك حفي عنها)، يقول: لطيف بها. (١)
* * *
فوجَّه هؤلاء تأويل قوله: (كأنك حفي عنها)، إلى حفيّ بها، وقالوا: تقول العرب: "تحفّيت له في المسألة"، و"تحفيت عنه". قالوا: ولذلك قيل: "أتينا فلانًا نسأل به"، بمعنى نسأل عنه.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال: معناه: كأنك حفي بالمسئلة عنها فتعلمها.
فإن قال قائل: وكيف قيل: (حفي عنها)، ولم يُقَل: "حفي بها"، إن كان ذلك تأويل الكلام؟
قيل: إن ذلك قيل كذلك، لأن الحفاوة إنما تكون في المسألة، وهي البشاشة للمسئول عند المسألة، والإكثار من السؤال عنه، والسؤال يوصل ب "عن" مرة، وب "الباء" مرة. فيقال: "سألت عنه"، و"سألت به". فلما وضع قوله: "حفي" موضع السؤال، وصل بأغلب الحرفين اللذين يوصل بهما "السؤال"، وهو "عن"، كما قال الشاعر:
* * *
وأما قوله: (قل إنما علمها عند الله)، فإن معناه: قل، يا محمد، لسائليك عن وقت الساعة وحين مجيئها: لا علم لي بذلك، ولا علم به إلا [عند] الله الذي يعلم غيب السموات والأرض (٣) = (ولكن أكثر الناس لا يعلمون)، يقول: ولكن أكثر الناس لا يعلمون أن ذلك لا يعلمه إلا الله، بل يحسبون أن علم ذلك يوجد عند بعض خلقه.
* * *
(٢) ديوان الهذليين ٣: ٤٥ من قصيدة له طويلة. وبهذه الرواية التي رواها أبو جعفر ((سؤال حفي))، يختل سياق الشعر. وروايته في ديوانه: فإن ترني قصدًا قريبًا، فإنه... بعيد علي المرء الحجازي أين
بعيد على ذى حاجة، ولو أننى... إذا نفجت يوماً بها الدار آمن
يقول الذي أمسى إلى الحرز أهله:... بأي الحشاء أمسى الخليط المباين
سؤال الغني عن أخيه، كأنه... بذكرته وسنان أو متواسن
و ((الذي أمسى إلى الحرز أهله)) هو الذي صار في مكان حصين آمناً مطمئناً، فهو يسأل عنه ويقول: ((بأي الحشا))، بأي النواحي أمسي فلان؟ وهو صاحبه المفارق. ثم يقول: إنه يسأل سؤال غير حفي - لا سؤال حفي - ((سؤال غني عن أخيه)) وأنما يذكره كالنائم أو المتناوم، لقلة حفاوة به. فهذا نقيض رواية أبي جعفر. وكان في المطبوعة: ((يذكره وسنان))، والصواب من المخطوطة والديوان.
(٣) في المطبوعة: ((ولا يعلم به إلا الله)) وليس بجيد، وأثبت ما في المخطوطة وزدت ما يقتضيه السياق بين قوسين.
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل، يا محمد، لسائليك عن الساعة: "أيان مرساها؟ " = (لا أملك لنفسي نفعًا ولا ضرًّا)،
* * *
ثم اختلف أهل التأويل في معنى "الخير" الذي عناه الله بقوله: (لاستكثرت من الخير). (٤) فقال بعضهم: معنى ذلك: لاستكثرت من العمل الصالح.
* ذكر من قال ذلك:
١٥٤٩٤ - حدثنا القاسم قال: حدثنا الحسين قال: حدثني حجاج قال: قال ابن جريج: قوله: (قل لا أملك لنفسي نفعًا ولا ضرًّا) قال: الهدى والضلالة = (لو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير) قال: "أعلم الغيب"، متى أموت = لاستكثرت من العمل الصالح.
١٥٤٩٥ - حدثني المثنى قال: حدثنا أبو حذيفة قال: حدثنا شبل، عن ابن أبى نجيح، عن مجاهد، مثله.
١٥٤٩٦ - حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد، في قوله: (ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء)، : قال: لاجتنبت ما يكون من الشرّ واتَّقيته.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: "ولو كنت أعلم الغيب" لأعددت للسَّنة المجدبة من المخصبة، ولعرفت الغلاء من الرُّخْص، واستعددت له في الرُّخْص.
* * *
(٢) انظر تفسير ((الغيب)) فيما سلف ١١: ٤٦٤، تعليق: ٢، والمراجع هناك.
(٣) انظر تفسير ((استكثر)) فيما سلف ١٢: ١١٥.
(٤) انظر تفسير ((الخير)) فيما سلف ٢: ٥٠٥ / ٧: ٩١.
* * *
وقوله: (لقوم يؤمنون)، يقول: يصدقون بأني لله رسول، ويقرون بحقية ما جئتهم به من عنده. (٣)
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (١٨٩) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: (هو الذي خلقكم من نفس واحدة)، يعني بالنفس الواحدة: آدم، (٤) كما: -
١٥٤٩٧ - حدثنا ابن وكيع قال: حدثنا أبي، عن سفيان، عن رجل، عن مجاهد: (خلقكم من نفس واحدة) قال: آدم عليه السلام. (٥)
(٢) انظر تفسير ((نذير)) فيما سلف ص: ٢٩٠، تعليق: ٢، والمراجع هناك. = وتفسير ((بشير)) فيما سلف ١١: ٣٦٩، تعليق ١، والمراجع هناك.
(٣) في المطبوعة: ((بحقية ما جئتهم به))، والصواب من المخطوطة، وقد غيرها في مئات من المواضع، انظر ما سلف ص: ١١٣، تعليق: ١ والمراجع هناك. و ((الحقيقة))، مصدر، بمعني الصدق والحق، كما أسلفت.
(٤) انظر تفسير ((نفس واحدة)) فيما سلف ٧: ٥١٣، ٥١٤.
(٥) الأثر: ١٥٤٩٧ - مضى برقم: ٨٤٠٢
* * *
ويعني بقوله: (وجعل منها زوجها)، : وجعل من النفس الواحدة، وهو آدم، زوجها حواء، (٢) كما: -
١٥٤٩٩ - حدثني بشر قال: حدثنا يزيد قال: حدثنا سعيد، عن قتادة. (وحمل منها زوجها)، : حواء، فجعلت من ضلع من أضلاعه، ليسكن إليها. (٣)
* * *
ويعني بقوله: (ليسكن إليها)، : ليأوي إليها لقضاء حاجتة ولذته. (٤)
* * *
ويعني بقوله: (فلما تغشاها)، فلما تدثَّرها لقضاء حاجته منها، فقضى حاجته منها = (حملت حملا خفيفًا)، وفي الكلام محذوف، ترك ذكرُه استغناءً بما ظهر عما حذف، وذلك قوله: (فلما تغشاها حملت)، وإنما الكلام: فلما تغشاها =فقضى حاجته منها= حملت.
* * *
وقوله: (حملت حملا خفيفًا)، يعني ب "خفة الحمل": الماء الذي حملته حواء في رَحِمها من آدم، أنه كان حملا خفيفًا، وكذلك هو حملُ المرأة ماءَ الرجل خفيفٌ عليها.
* * *
وأما قوله: (فمرت به)، فإنه يعني: استمرَّت بالماء: قامت به وقعدت، وأتمت الحمل، كما: -
١٥٥٠٠ - حدثنا ابن وكيع قال: حدثنا أبو أسامة، عن أبي عمير، عن أيوب قال: سألت الحسن عن قوله: (حملت حملا خفيفًا فمرت به) قال:
(٢) انظر تفسير ((جعل)) فيما سلف من فهارس اللغة (جعل).
(٣) الأثر: ١٥٤٩٩ - مضى برقم: ٨٤٠٥.
(٤) في المطبوعة والمخطوطة: ((لقضاء الحاجة ولذته))، والسياق يقتضى ما أثبت.
١٥٥٠١ - حدثنا بشر قال: حدثنا يزيد قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: (فلما تغشاها حملت حملا خفيفًا فمرت به)، استبان حملها.
١٥٥٠٢ - حدثني محمد بن عمرو قال: حدثنا أبو عاصم قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (فمرت به) قال: استمرّ حملها.
١٥٥٠٣ - حدثني موسى قال: حدثنا عمرو قال: حدثنا أسباط، عن السدي، قوله: (حملت حملا خفيفًا) قال: هي النطفة = وقوله: (فمرّت به)، يقول: استمرّت به.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: فشكَّت فيه.
* ذكر من قال ذلك:
١٥٥٠٤ - حدثني محمد بن سعد قال: حدثني أبي قال: حدثني عمي قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، في قوله: (فمرت به) قال: فشكت، أحملت أم لا؟
* * *
ويعني بقوله: (فلما أثقلت)، فلما صار ما في بطنها من الحمل الذي كان خفيفًا، ثقيلا ودنت ولادتها.
* * *
يقال منه: "أثقلت فلانة" إذا صارت ذات ثقل بحملها، كما يقال: "أَتْمَرَ فلان": إذا صار ذا تَمْر. كما: -
١٥٥٠٥ - حدثني موسى قال: حدثنا عمرو قال: حدثنا أسباط، عن السدي: (فلما أثقلت)، : كبر الولد في بطنها.
* * *
* * *
واختلف أهل التأويل في معنى "الصلاح" الذي أقسم آدم وحواء عليهما السلام أنه إن آتاهما صالحًا في حمل حواء: لنكونن من الشاكرين.
فقال بعضهم: ذلك هو أن يكون الحمل غلامًا.
* ذكر من قال ذلك:
١٥٥٠٦ - حدثني محمد بن عبد الأعلى قال: حدثنا محمد بن ثور، عن معمر قال: قال الحسن، في قوله: (لئن آتيتنا صالحًا) قال: غلامًا.
* * *
وقال آخرون: بل هو أن يكون المولود بشرًا سويًّا مثلهما، ولا يكون بهيمة.
* ذكر من قال ذلك:
١٥٥٠٧ - حدثنا ابن وكيع قال: حدثنا أبي، عن سفيان، عن زيد بن جبير الجُشَمي، عن أبي البختري، في قوله: (لئن آتيتنا صالحًا لنكونن من الشاكرين) قال: أشفقا أن يكون شيئًا دون الإنسان. (١)
١٥٥٠٨ -... قال: حدثنا يحيى بن يمان، عن سفيان، عن زيد بن جبير، عن أبي البختري قال: أشفقا أن لا يكون إنسانًا.
١٥٥٠٩ -... قال: حدثنا محمد بن عبيد، عن إسماعيل، عن أبي صالح قال: لما حملت امرأة آدم فأثقلت، كانا يشفقان أن يكون بهيمة، فدعوا ربهما: (لئن آتيتنا صالحًا)، الآية.
١٥٥١٠ -... قال: حدثنا جابر بن نوح، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس قال: أشفقا أن يكون بهيمة.
١٥٥١٢ - حدثني موسى قال: حدثنا عمرو قال: حدثنا أسباط، عن السدي: (فلما أثقلت)، كبر الولد في بطنها، جاءها إبليس، فخوَّفها وقال لها:
(٢) الزيادة بين القوسين من الدر المنثور٣: ١٥٢، وهي زيادة لا بد منها. والمخطوطة مضطربة في الوضع.
(٣) في المطبوعة والدر المنثور: ((هو بعض ذلك)).
(٤) الزيادة بين القوسين من الدر المنثور، ولا يستقيم الكلام إلا بها.
(٥) هذه الزيادة أيضا من الدر المنثور.
(٦) في المطبوعة: ((هو صاحبنا الذي قد أخرجنا من الجنة))، وفي المخطوطة: ((الذي قد فمات)) وبين ((قد)) و ((فمات)) حرف ((ط)) وبالهامش و ((كذا)). وأثبت نص العبارة من الدر المنثور.
(٧) الأثر: ١٥٥١١ - هذه أخبار باطلة كما أشرنا إليه مرارًا.
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله أخبر عن آدم وحواء أنهما دعَوا الله ربهما بحمل حواء، وأقسما لئن أعطاهما ما في بطن حواء، صالحًا ليكونان لله من الشاكرين.
و"الصلاح" قد يشمل معاني كثيرة: منها "الصلاح" في استواء الخلق، ومنها "الصلاح" في الدين، و"الصلاح" في العقل والتدبير.
وإذ كان ذلك كذلك، ولا خبر عن الرسول يوجب الحجة بأن ذلك على بعض معاني "الصلاح" دون بعض، ولا فيه من العقل دليل، وجب أن يُعَمَّ كما عمَّه الله، فيقال: إنهما قالا (لئن آتيتنا صالحًا) بجميع معاني "الصلاح". (١)
* * *
وأما معنى قوله: (لنكونن من الشاكرين)، فإنه: لنكونن ممن يشكرك على ما وهبت له من الولد صالحًا.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (١٩٠) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فلما رزقهما الله ولدًا صالحًا كما سألا =جعلا له شركاء فيما آتاهما ورزقهما.
* * *
ثم اختلف أهل التأويل في "الشركاء" التي جعلاها فيما أوتيا من المولود.
فقال بعضهم: جعلا له شركاء في الاسم.
* ذكر من قال ذلك:
(٢) الأثر: ١٥٥١٣ - ((عبد الصمد)) هو ((عبد الصمد بن عبد الوارث)). مضى مرارًا.
و ((عمر بن إبراهيم العبدى))، وثقه أحمد وغيره، ولكنه قال: ((يروى عن قتادة أحاديث مناكير، يخالف)). وقال أبو حاتم: ((يكتب حديثه ولا يحتج به))، وقال ابن عدى: يروى عن قتادة أشياء لا يوافق عليها، وحديثه خاصة عن قتادة مضطرب)). وذكره ابن حبان في الثقاب وقال: ((يخطئ، ويخالف)). ثم ذكره في الضعفاء فقال: ((كان ممن ينفرد عن قتادة بما لا يشبه حديثه. فلا يعجبنى الاحتجاج به إذا انفرد. فأما فيما روى الثقات، فإن اعتبر به معتبر لم أر بذلك بأساً))، وقال الدارقطني: (لين، يترك)). مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم ٣ / ١ / ٩٨، وميزان الاعتدال ٢: ٢٤٨.
وهذا الخبر رواه أحمد في مسنده ٥: ١١، بغير هذا اللفظ، ورواه بهذا اللفظ الحاكم في المستدرك ٢: ٥٤٥، وقال: ((هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه))، ووافقه الذهبي. وأخرجه الترمذي في تفسير الآية وقال: ((هذا حديث حسن غريب، لا نعرفه إلا من حديث عمر بن إبراهيم، عن قتادة. وقد رواه بعضهم عن عبد الصمد ولم يرفعه)).
وخرجه ابن كثير في تفسيره ٣: ٦١١، ٦١٢، وأعله من ثلاثة وجوه:
الأول: أن عمر بن إبراهيم لا يحتج به =
الثاني: أنه قد روى من قول سمرة نفسه غير مرفوع
= الثالث: أن الحسن نفسه فسر الآية بغير هذا، وذكر بعض أخبار أبي جعفر بأسانيدها رقم ١٥٥٢٦ - ١٥٥٢٨، ثم قال: ((وهذه أسانيد صحيحة عن الحسن رضي الله عنه أنه فسر الآية بذلك، وهو من أحسن التفاسير، وأولى ما حملت عليه الآية. ولو كان هذا الحديث عنده محفوظا عن رسول الله ﷺ لما عدل عنه هو ولا غيره، ولاسيما مع تقواه وورعه. فهذا يدلك على أنه موقوف على الصحابي، ويحتمل أنه تلقاه من بعض أهل الكتاب من آمن منهم، مثل كعب أو وهب بن منيه وغيرهما، كما سيأتي بيانه إن شاء الله، إلا أننا برئنا من عهدة المرفوع، والله أعلم)).
قلت: وسترى أن أبا جعفر قد رجح أن المعني بذلك آدم وحواء، قال: ((لإجماع الحجة من أهل التأويل علي ذلك)). وإجماع أهل التأويل في مثل هذا، مما لا يقوم الأول: لأن الآية مشكلة، ففيها نسبة الشرك إلى آدم الذي اصطفاه ربه، بنص كتاب الله، وقد أراد أبو جعفر أن يخرج من ذلك، فزعم (ص: ٣١٥) أن القول عن آدم وحواء انقضى عند قوله: ((جعلا له شركاء فيما آتاهما، ثم استأنف قوله: ((فتعالى الله عما يشركون))، يعنى عما يشرك به مشركو العرب من عبدة الأوثان. وهذا مخرج ضعيف جداً.
الثاني أن مثل هذا المشكل في أمر آدم وحواء، ونسبة الشرك إليهما، مما لا يقضى به، إلا بحجة يجب التسليم لها من نص كتاب، أو خبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولا خبر بذلك، إلا هذا الخبر الضعيف الذي بينا ضعفه، وأنه من رواية عمر بن إبراهيم، عن قتادة. وروايته عن قتادة مضطربة، خالف فيها ما روى عن الحسن، أنه عنى بالآية بعض أهل الملل والمشركون.
هذا، وقد رد هذا القول، جماعة من المفسرين، كابن كثير في تفسيره، والفخر الرازي (٣: ٢٤٣ - ٣٤٥)، وحاول الزمخشرى في تفسيره أن يرده فلم يحسن، وتعقبه أحمد بن محمد بن المنير في الإنصاف. وغير هؤلاء كثير.
ولكن بعد هذا كله، نجد إن تفسير ألفاظ الآية، ومطابقته للمعنى الصحيح الذي ذهب العلماء إليه في نفي الشرك عن أبينا آدم عليه السلام، وفي أن الآية لا تعنى أبانا آدم وأمنا حواء = بقى مبهماً، لم يتناوله أحد ببيان صحيح. وكنت أحب أن يتيسر لى بيانه في هذا الموضع، ولكنى وجدت الأمر أعسر من أن أتكلم فيه في مثل هذا التعليق.
١٥٥١٥ -.... قال: حدثنا المعتمر، عن أبيه قال: حدثنا ابن علية، عن سليمان التيمي، عن أبي العلاء بن الشخّير، عن سمرة بن جندب قال: سمى آدمُ ابنه: "عبد الحارث". (١)
١٥٥١٥ - حدثنا ابن حميد قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: كانت حوّاء تلد لآدم، فتعبِّدهم لله، وتسميه "عبيد الله" و"عبد الله" ونحو ذلك، فيصيبهم الموت، فأتاها إبليسُ وآدمَ، فقال: إنكما لو تسميانه بغير الذي تسميانه لعاش! فولدت له رجلا فسماه "عبد الحارث"، ففيه أنزل الله تبارك وتعالى: (هو الذي خلقكم من نفس واحدة)، إلى قوله: (جعلا له شركاء فيما آتاهما)، إلى آخر الآية.
١٥٥١٧ - حدثني محمد بن سعد قال: حدثني أبي قال: حدثني عمي
١٥٥١٨ - حدثنا القاسم قال: حدثنا الحسين قال: حدثنا حجاج، عن ابن جريج قال: قال ابن عباس: لما ولد له أول ولد، أتاه إبليس فقال: إني سأنصح لك في شأن ولدك هذا، تسميه "عبد الحارث"! فقال آدم: أعوذ بالله من طاعتك! =قال ابن عباس: وكان اسمه في السماء "الحارث"= قال آدم: أعوذ بالله من طاعتك، إني أطعتك في أكل الشجرة، فأخرجتني من الجنة، فلن أطيعك. فمات ولده، ثم ولد له بعد ذلك ولد آخر، فقال: أطعني وإلا مات كما مات الأول! فعصاه، فمات، فقال: لا أزال أقتلهم حتى تسميه "عبد الحارث". فلم يزل به حتى سماه "عبد الحارث"، فذلك قوله: (جعلا له شركاء فيما آتاهما)، أشركه في طاعته في غير عبادة، ولم يشرك بالله، ولكن أطاعه.
١٥٥١٩ - حدثنا ابن حميد قال: حدثنا سَلَمَة، عن هارون قال: أخبرنا الزبير بن الخِرِّيت، عن عكرمة قال: ما أشرك آدم ولا حواء، وكان لا يعيش لهما ولد، فأتاهما الشيطان فقال: إن سرَّكما أن يعيش لكما ولد فسمياه "عبد الحارث"! فهو قوله: (جعلا له شركاء فيما آتاهما). (١)
و"هارون" هو النحوي الأعور "هارون بن موسى الأزدي" صاحب القراءات ثقة مضى برقم ٤٩٨٥، ١١٦٩٣.
و"الزبير بن الخريت" ثقة، مضى أيضا برقم ٤٩٨٥، ١١٦٩٣.
وإسناد أبي جعفر في الموضعين في رواية "الزبير بن الخريت" عن عكرمة هو "حدثني المثنى قال، حدثنا مسلم بن إبراهيم، قال حدثنا هارون النحوي، قال حدثني الزبير بن الخريت، عن عكرمة" فأخشى أن يكون سقط من التفسير هنا إسناد ابن حميد وخبره ثم صدر إسناد بعده، هو إسناد أبي جعفر السالف: "حدثنا المثنى قال، حدثنا مسلم بن إبراهيم، عن هارون... " إلى آخر الإسناد، والله أعلم".
١٥٥٢١ - حدثنا بشر قال: حدثنا يزيد قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: (فلما آتاهما صالحا جعلا له شركاء فيما آتاهما)، ذكر لنا أنه كان لا يعيش لهما ولد، فأتاهما الشيطان، فقال لهما: سمياه "عبد الحارث"! وكان من وحي الشيطان وأمره، وكان شركًا في طاعةٍ، ولم يكن شركًا في عبادةٍ.
١٥٥٢٢ - حدثني محمد بن عمرو قال: حدثنا أبو عاصم قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (فلما آتاهما صالحًا جعلا له شركاء فيما آتاهما فتعالى الله عما يشركون) قال: كان لا يعيش لآدم وامرأته ولد. فقال لهما الشيطان: إذا ولد لكما ولد، فسمياه "عبد الحارث"! ففعلا وأطاعاه، فذلك قول الله: (فلما آتاهما صالحًا جعلا له شركاء)، الآية.
١٥٥٢٤ - حدثنا ابن وكيع قال: حدثنا جرير وابن فضيل، عن عبد الملك، عن سعيد بن جبير قال: قيل له: أشرك آدم؟ قال: أعوذ بالله أن أزعم أن آدم أشرك، ولكن حواء لما أثقلت، أتاها إبليس فقال لها: من أين يخرج هذا، من أنفك، أو من عينك، أو من فيك؟ فقنَّطها، ثم قال: أرأيت إن خرج سويًّا = زاد ابن فضيل: لم يضرك ولم يقتلك = أتطيعيني؟ قالت: نعم. قال: فسميه "عبد الحارث"! ففعلت = زاد جرير: فإنما كان شركه في الاسم. (٢)
١٥٥٢٥ - حدثني موسى بن هارون قال: حدثنا عمرو قال: حدثنا أسباط، عن السدي قال: فولدت غلامًا =يعني حوّاء= فأتاهما إبليس فقال: سموه عبدي وإلا قتلته! قال له آدم عليه السلام: قد أطعتك وأخرجتني من الجنة! فأبى أن
(٢) في المطبوعة: ((شركة)) بالتاء في آخره، والصواب ما أثبت.
* * *
وقال آخرون: بل المعنيّ بذلك رجل وامرأة من أهل الكفر من بني آدم، جعلا لله شركاء من الآلهة والأوثان حين رزقهما ما رزقهما من الولد. وقالوا: معنى الكلام: (هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها فلما تغشاها) : أي هذا الرجل الكافر، (حملت حملا خفيفًا، فلما أثقلت) دعوتما الله ربكما. قالوا: وهذا مما ابتدئ به الكلام على وجه الخطاب، ثم رُدَّ إلى الخبر عن الغائب، كما قيل: (هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ)، [سورة يونس: ٢٢] وقد بينا نظائر ذلك بشواهده فيما مضى قبل. (٣)
* ذكر من قال ذلك:
١٥٥٢٦ - حدثنا ابن وكيع قال: حدثنا سهل بن يوسف، عن عمرو، عن الحسن: (جعلا له شركاء فيما آتاهما) قال: كان هذا في بعض أهل الملل، ولم يكن بآدم.
١٥٥٢٧ - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال: حدثنا محمد بن ثور، عن
(٢) في المطبوعة: ((ففعلوا))، وهو خطأ لا شك فيها، لو كان لقال: ((ففعلا))، ورسم المخطوطة غير منقوطة هو ما أثبت، وصواب قراءته ما قرأت. = يقال: ((عنا له يعنو)) : إذا خضع له وأطاعه.
(٣) انظر ما سلف ١: ١٥٤ / ٣: ٣٠٤، ٣٠٥ / ٦: ٢٣٨، ٤٦٤ / ٨: ٤٤٧ / ١١: ٢٦٤.
١٥٥٢٨ - حدثنا بشر بن معاذ قال: حدثنا يزيد قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قال: كان الحسن يقول: هم اليهود والنصارى، رزقهم الله أولادًا فهوَّدوا ونصَّروا. (١)
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القولين بالصواب، قول من قال: عنى بقوله: (فلما آتاهما صالحًا جعلا له شركاء) في الاسم لا في العبادة =وأن المعنيَّ بذلك آدم وحواء، لإجماع الحجة من أهل التأويل على ذلك.
* * *
فإن قال قائل: فما أنت قائل =إذ كان الأمر على ما وصفت في تأويل هذه الآية، وأن المعنيّ بها آدم وحواء= في قوله: (فتعالى الله عما يشركون) ؟ أهو استنكاف من الله أن يكون له في الأسماء شريك، أو في العبادة؟ فإن قلت: "في الأسماء" دلّ على فساده قوله: (أيشركون ما لا يخلق شيئًا وهم يخلقون) ؟ فإن قلت: "في العبادة"، قيل لك: أفكان آدم أشرك في عباد الله غيره؟
قيل له: إن القول في تأويل قوله: (فتعالى عما يشركون)، ليس بالذي طننت، وإنما القول فيه: فتعالى الله عما يشرك به مشركو العرب من عبدة الأوثان. فأما الخبر عن آدم وحواء، فقد انقضى عند قوله: (جعلا له شركاء فيما آتاهما)، ثم استؤنف قوله: (فتعالى الله عما يشركون)، (٢) كما:-
١٥٥٢٩ - حدثني محمد بن الحسين قال: حدثنا أحمد بن المفضل قال: حدثنا أسباط، عن السدي، قوله: (فتعالى الله عما يشركون)، يقول: هذه فصْلٌ من آية آدم، خاصة في آلهة العرب.
* * *
(٢) انظر التعليق عن الأثر رقم ١٥٥١٣٠.
فقرأ ذلك عامة قرأة أهل المدينة وبعض المكيين والكوفيين: "جَعَلا لَهُ شِرْكًا" بكسر الشين، بمعنى الشَّرِكَة. (١)
* * *
وقرأه بعض المكيين وعامة قرأة الكوفيين وبعض البصريين: (جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ)، بضم الشين، بمعنى جمع "شريك".
* * *
قال أبو جعفر: وهذه القراءة أولى القراءتين بالصواب، لأن القراءة لو صحت بكسر الشين، لوجب أن يكون الكلام: فلما أتاهما صالحًا جعلا لغيره فيه شركًا =لأن آدم وحواء لم يدينا بأن ولدهما من عطية إبليس، ثم يجعلا لله فيه شركًا لتسميتهما إياه ب "عبد الله"، وإنما كانا يدينان لا شك بأن ولدهما من رزق الله وعطيته، ثم سمياه "عبد الحارث"، فجعلا لإبليس فيه شركًا بالاسم.
فلو كانت قراءة من قرأ: "شِرْكًا"، صحيحة، وجب ما قلنا، أن يكون الكلام: جعلا لغيره فيه شركًا. وفي نزول وحي الله بقوله: (جعلا له)، ما يوضح عن أن الصحيح من القراءة: (شُرَكَاء)، بضم الشين على ما بينت قبل.
* * *
فإن قال قائل: فإن آدم وحواء إنما سميا ابنهما "عبد الحارث"، و"الحارث" واحد، وقوله: (شركاء)، جماعة، فكيف وصفهما جل ثناؤه بأنهما "جعلا له شركاء"، وإنما أشركا واحدًا!
قيل: قد دللنا فيما مضى على أن العرب تخرج الخبر عن الواحد مخرج الخبر عن الجماعة، إذا لم تقصد واحدًا بعينه ولم تسمِّه، كقوله: (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ)، [سورة آل عمران: ١٧٣] وإنما كان القائل ذلك واحدًا،
* * *
وأما قوله: (فتعالى الله عما يشركون)، فتنزيه من الله تبارك وتعالى نفسَه، وتعظيم لها عما يقول فيه المبطلون، ويدَّعون معه من الآلهة والأوثان، (٢) كما: -
١٥٥٣٠ - حدثنا القاسم قال: حدثنا الحسين قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج: (فتعالى الله عما يشركون) قال: هو الإنكاف، أنكف نفسه جل وعز = يقول: عظَّم نفسه = وأنكفته الملائكة وما سبَّح له.
١٥٥٣١ - حدثنا الحسن بن يحيى قال: أخبرنا عبد الرزاق قال: أخبرنا ابن عيينة قال: سمعت صدقة يحدِّث عن السدي قال: هذا من الموصول والمفصول، قوله: (جعلا له شركاء فيما آتاهما)، في شأن آدم وحواء، ثم قال الله تبارك وتعالى: (فتعالى الله عما يشركون) قال: عما يشرك المشركون، ولم يعنهما. (٣)
* * *
(٢) انظر تفسير ((تعالى)) فيما سلف ١٢: ١٠، تعليق: ٢، والمراجع هناك.
(٣) عند هذا الموضع، انتهي الجزء العاشر من مخطوطتنا، وفي آخرها ما نصه: ((نجز الجز العاشر من كتاب البيان، بحمد الله وعونه، وحسن توفيقه ويمنه. وصلى الله على محمد. يتلوه في الحادي عشر إن شاء الله تعالى القول في تأويل قوله: ﴿أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ﴾ وكان الفراغ من نسخه في شهر جمادى الأولى سنة خمس عشرة وسبعمئة. غفر الله لكاتبه ومؤلفه، ولمن كتب لأجله ولجميع المسلمين. الحمد لله رب العالمين)) ثم يتلوه في أول الجزء الحادي عشر من المخطوطة "بسم الله الرحمن الرحيم رب يسر وأعن".
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: أيشركون في عبادة الله، فيعبدون معه = "ما لا يخلق شيئًا"، والله يخلقها وينشئها؟ وإنما العبادة الخالصة للخالق لا للمخلوق.
* * *
وكان ابن زيد يقول في ذلك بما: -
١٥٥٣٢ - حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد قال: ولد لآدم وحواء ولد، فسمياه "عبد الله"، فأتاهما إبليس فقال: ما سميتما يا آدم ويا حواء ابنكما؟ قال: وكان وُلد لهما قبل ذلك ولد، فسمياه "عبد الله"، فمات. فقالا سميناه "عبد الله". فقال إبليس: أتظنان أن الله تارك عبده عندكما؟ لا والله، ليذهبن به كما ذهبَ بالآخر! ولكن أدلكما على اسم يبقى لكما ما بقيتما، فسمياه "عبد شمس"! قال: فذلك قول الله تبارك وتعالى: (أيشركون ما لا يخلق شيئًا وهم يخلقون)، آلشمس تخلق شيئًا حتى يكون لها عبد؟ إنما هي مخلوقة! وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خدعهما مرتين، خدعهما في الجنة، وخدعهما في الأرض. (١)
* * *
وقيل: (وهم يخلقون)، ، فأخرج مكنيَّهم مخرج مكنيّ بني آدم، (٢)
(٢) ((المكنى)) الضمير.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (١٩٢) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: أيشرك هؤلاء المشركون في عبادة الله ما لا يخلق شيئًا من خلق الله، ولا يستطيع أن ينصرهم إن أراد الله بهم سوءًا، أو أحلّ بهم عقوبة، ولا هو قادر إن أراد به سوءًا نصر نفسه ولا دفع ضر عنها؟ وإنما العابد يعبد ما يعبده لاجتلاب نفع منه أو لدفع ضر منه عن نفسه، وآلهتهم التي يعبدونها ويشركونها في عبادة الله لا تنفعهم ولا تضرهم، بل لا تجتلب إلى نفسها نفعًا ولا تدفع عنها ضرًّا، فهي من نفع غير أنفسها أو دفع الضر عنها أبعدُ؟ يعجِّب تبارك وتعالى خلقه من عظيم خطأ هؤلاء الذين يشركون في عبادتهم اللهَ غيرَه.
* * *
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره في وصفه وعيبه ما يشرك هؤلاء المشركون في عبادتهم ربَّهم إياه: ومن صفته أنكم، أيها الناس، إن تدعوهم إلى الطريق المستقيم، والأمر الصحيح السديد لا يتبعوكم، لأنها ليست تعقل شيئًا، فتترك من الطرق ما كان عن القصد منعدلا جائرًا، وتركب ما كان مستقيمًا سديدًا.
* * *
وإنما أراد الله جل ثناؤه بوصف آلهتهم بذلك من صفتها، تنبيهَهم على عظيم خطئهم، وقبح اختيارهم. يقول جل ثناؤه: فكيف يهديكم إلى الرشاد مَنْ إن دُعي إلى الرشاد وعُرِّفه لم يعرفه، ولم يفهم رشادًا من ضلال، وكان سواءً دعاءُ داعيه إلى الرشاد وسكوته، لأنه لا يفهم دعاءه، ولا يسمع صوته، ولا يعقل ما يقال له. يقول: فكيف يُعبد من كانت هذه صفته، أم كيف يُشْكِل عظيمُ جهل من اتخذ ما هذه صفته إلهًا؟ وإنما الرب المعبود هو النافع من يعبده، الضارّ من يعصيه، الناصرُ وليَّه، الخاذل عدوه، الهادي إلى الرشاد من أطاعه، السامع دعاء من دعاه.
* * *
وقيل: (سواء عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون)، فعطف بقوله: "صامتون"، وهو اسم على قوله: "أدعوتموهم"، وهو فعل ماض، ولم يقل: أم صمتم، (١) كما قال الشاعر: (٢)
(٢) لم أعرف قائله.
وقد ينشد: "أم أنْتَ بَائِتٌ".
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (١٩٤) ﴾
قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه لهؤلاء المشركين من عبدة الأوثان، موبِّخهم على عبادتهم ما لا يضرهم ولا ينفعهم من الأصنام: (إن الذين تدعون) أيها المشركون، آلهةً = (من دون الله)، وتعبدونها، شركًا منكم وكفرًا بالله = (عباد أمثالكم)، يقول: هم أملاك لربكم، كما أنتم له مماليك. فإن كنتم صادقين أنها تضر وتنفع، وأنها تستوجب منكم العبادة لنفعها إياكم، فليستجيبوا لدعائكم إذا دعوتموهم، (٢) فإن لم يستجيبوا لكم، لأنها لا تسمع دعاءكم، فأيقنوا بأنها لا تنفع ولا تضر; لأن الضر والنفع إنما يكونان ممن إذا سُئل سمع مسألة سائله وأعطى وأفضل، ومن إذا شكي إليه من شيء سمع، فضرّ من استحق العقوبة، ونفع من لا يستوجب الضرّ.
* * *
(٢) انظر تفسير ((الاستجابة)) فيما سلف ٣: ٤٨٣، ٤٨٤ / ٧: ٤٨٦ - ٤٨٨ / ١١: ٣٤١.
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لهؤلاء الذين عبدوا الأصنام من دونه، معرِّفَهم جهل ما هم عليه مقيمون: ألأصنامكم هذه، أيها القوم = (أرجل يمشون بها)، فيسعون معكم ولكم في حوائجكم، ويتصرفون بها في منافعكم = (أم لهم أيد يبطشون بها)، فيدفعون عنكم وينصرونكم بها عند قصد من يقصدكم بشرّ ومكروهٍ = (أم لهم أعين يبصرون بها)، فيعرفونكم ما عاينوا وأبصروا مما تغيبون عنه فلا ترونه = (أم لهم آذان يسمعون بها)، فيخبروكم بما سمعوا دونكم مما لم تسمعوه؟
يقول جل ثناؤه: فإن كانت آلهتكم التي تعبدونها ليس فيها شيء من هذه الآلات التي ذكرتُها، والمعظَّم من الأشياء إنما يعظَّم لما يرجى منه من المنافع التي توصل إليه بعض هذه المعاني عندكم، فما وجه عبادتكم أصنامكم التي تعبدونها، وهي خالية من كل هذه الأشياء التي بها يوصل إلى اجتلاب النفع ودفع الضر؟
وقوله: (قل ادعوا شركاءكم ثم كيدون)، [قل، يا محمد، لهؤلاء المشركين من عبدة الأوثان: ادعوا شركاءكم الذين جعلتموهم لله شركاء في العبادة = (ثم كيدون)، (١) ] أنتم وهي (٢) (فلا تنظرون)، يقول: فلا تؤخرون بالكيد والمكر، (٣) ولكن عجِّلوا بذلك. يُعْلِمه جل ثناؤه بذلك أنهم لن يضروه، وأنه قد عصمه منهم، ويُعَرِّف الكفرة به عجز أوثانهم عن نصرة من بغى أولياءهم بسوء.
* * *
(٢) في المطبوعة: ((أنتم وهن))، وأثبت ما في المخطوطة. ثم انظر تفسير ((الكيد)) فيما سلف ص ٢٨٨، تعليق: ٢، والمراجع هناك.
(٣) انظر تفسير ((الإنظار)) فيما سلف ١٢: ٣٣١، تعليق: ١، والمراجع هناك.
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل، يا محمد، للمشركين من عبدة الأوثان = "إن وليي"، نصيري ومعيني وظهيري عليكم (١) = (الله الذي نزل الكتاب) عليّ بالحق، وهو الذي يتولى من صلح عمله بطاعته من خلقه.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (١٩٧) ﴾
قال أبو جعفر: وهذا أيضًا أمر من الله جل ثناؤه لنبيه أن يقوله للمشركين. يقول له تعالى ذكره: (٢) قل لهم، إن الله نصيري وظهيري، والذين تدعون أنتم أيها المشركون من دون الله من الآلهة، لا يستطيعون نصركم، ولا هم مع عجزهم عن نصرتكم يقدرون على نصرة أنفسهم، فأي هذين أولى بالعبادة وأحق بالألوهة؟ أمن ينصر وليه ويمنع نفسه ممن أراده، أم من لا يستطيع نصر وليه ويعجز عن منع نفسه ممن أراده وبَغاه بمكروه؟
* * *
(٢) في المطبوعة: ((بقوله تعالى))، وفي المخطوطة مثله غير منقوط، والصواب: ((يقول له)).
قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل للمشركين: وإن تدعوا، أيها المشركون، آلهتكم إلى الهدى =وهو الاستقامة إلى السداد= (لا يسمعوا)، يقول: لا يسمعوا دعاءكم = (وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون).
* * *
وهذا خطاب من الله نبيَّه صلى الله عليه وسلم. يقول: وترى، يا محمد، آلهتهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون = ولذلك وحَّد. (١) ولو كان أمر النبي ﷺ بخطاب المشركين، لقال: "وترونهم ينظرون إليكم". (٢)
* * *
وقد روى عن السدي في ذلك ما: -
١٥٥٣٣ - حدثني محمد بن الحسين قال: حدثنا أحمد بن المفضل قال: حدثنا أسباط، عن السدي: (وإن تدعوهم إلى الهدى لا يسمعوا وتراهم ينظرون إليك هم لا يبصرون) قال: هؤلاء المشركين.
* * *
وقد يحتمل قول السدي هذا أن يكون أراد بقوله: "هؤلاء المشركون"، قول الله: (وإن تدعوهم إلى الهدى لا يسمعوا). وقد كان مجاهد يقول في ذلك، ما: -
١٥٥٣٤ - حدثني المثنى قال: حدثنا أبو حذيفة قال: حدثنا شبل، عن
(٢) في المخطوطة: ((وترونهم ينظرون إليك... )) وبعد ((إليك)) بياض بقدر كلمة. والذي في المطبوعة شبيه بالصواب.
* * *
قال أبو جعفر: فإن قال قائل: فما معنى قوله: (وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون) ؟ وهل يجوز أن يكون شيء ينظر إلى شيء ولا يراه؟
قيل: إن العرب تقول للشيء إذا قابل شيئًا أو حاذاه: "هو ينظر إلى كذا"، ويقال: "منزل فلان ينظر إلى منزلي" إذا قابله. وحكي عنها: "إذا أتيتَ موضع كذا وكذا، فنظر إليك الجبل، فخذ يمينًا أو شمالا". وحدثت عن أبي عبيد قال: قال الكسائي: "الحائط ينظر إليك" إذا كان قريبًا منك حيث تراه، ومنه قول الشاعر: (١) إِذَا نَظَرْتَ بِلادَ بَنِي تَمِيمٍ بِعَيْنٍ أَوْ بِلادَ بَنِي صُبَاحِ
يريد: تقابل نبتُها وعُشْبها وتحاذَى.
* * *
قال أبو جعفر: فمعنى الكلام: وترى، يا محمد، آلهة هؤلاء المشركين من عبدة الأوثان، يقابلونك ويحاذونك، وهم لا يبصرونك، لأنه لا أبصار لهم. وقيل: "وتراهم"، ولم يقل: "وتراها"، لأنها صور مصوَّرة على صور بني آدم عليه السلام.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (١٩٩) ﴾
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك:
فقال بعضهم: تأويله: (خذ العفو) من أخلاق الناس، وهو الفضل وما لا يجهدهم. (٢)
* ذكر من قال ذلك:
١٥٥٣٥ - حدثنا ابن حميد قال: حدثنا حكام، عن عنبسة، عن محمد بن عبد الرحمن، عن القاسم، عن مجاهد، في قوله: (خذ العفو) قال: من أخلاق الناس وأعمالهم بغير تحسس. (٣)
١٥٥٣٦ - حدثنا يعقوب وابن وكيع قالا حدثنا ابن علية، عن ليث، عن مجاهد في قوله: (خذ العفو) قال: عفو أخلاق الناس، وعفوَ أمورهم.
١٥٥٣٧ - حدثنا يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال: حدثني ابن أبي الزناد،
إذا نظرت بلاد بني حبيب | بعينٍ أو بلاد بني صباح |
رميناهم بكل أقب نهدٍ | وفتيان الغدو مع الرواح |
(٢) (١) انظر تفسير ((العفو)) فيما سلف ٤: ٣٣٧ - ٣٤٣.
(٣) (٢) في المخطوطة هنا، وفي الذي يليه رقم: ١٥٥٣٩ ((تحسيس)) بالياء، ولا أدرى ما هو. و ((تحسس الشيء)) تبحثه وتطلبه، كأنه يعني الاستقصاء في الطلب، يؤيد هذا ما سيأتي برقم: ١٥٥٤٢.
١٥٥٣٨ - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال: حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن ابن الزبير قال: ما أنزل الله هذه الآية إلا في أخلاق الناس: (خذ العفو وأمر بالعرف)، الآية. (٢)
١٥٥٣٩ - حدثنا ابن وكيع قال: حدثنا محمد بن بكر، عن ابن جريج قال: بلغني عن مجاهد: (خذ العفو)، من أخلاق الناس وأعمالهم بغير تحسس. (٣)
١٥٥٤٠ -.... قال: حدثنا أبو معاوية، عن هشام بن عروة، عن وهب بن كيسان، عن ابن الزبير: (خذ العفو) قال: من أخلاق الناس، والله لآخذنَّه منهم ما صحبتم. (٤)
١٥٥٤١ -.... قال: حدثنا عبدة بن سليمان، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن ابن الزبير (٥) قال: إنما أنزل الله: (خذ العفو)، من أخلاق الناس.
١٥٥٤٢ - حدثني محمد بن عمرو قال: حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (خذ العفو) قال: من أخلاق
(٢) (٢) الأثر: ١٥٥٣٨ - ((هشام بن عروة بن الزبير))، ثقة، معروف، مضي مرارًا. وأبوه ((عروة بن الزبير))، يروى عن أخيه ((عبد الله بن الزبير)). وكان في المطبوعة هنا: ((عن أبي الزبير))، وهو خطأ، صوابه ما كان في المخطوطة.
وهذا خبر صحيح، رواه البخاري في صحيحه (الفتح ٨: ٢٩٩) وسيأتي برقم ١٥٥٤١، بإسناد آخر
(٣) انظر التعليق السالف، ص: ٣٢٦ رقم: ٢.
(٤) الأثر: ١٥٥٤٠ - ((ابن الزبير))، وهو ((عبد الله بن الزبير))، وكان في المخطوطة والمطبوعة هنا ((أبي الزبير))، وهو خطأ صححناه آنفاً.
(٥) في المطبوعة هنا ((عن أبي الزبير))، وهو خطأ كما أسلفت.
* * *
وقال آخرون: بل معنى ذلك: خذ العفو من أموال الناس، وهو الفضل. قالوا: وأمر بذلك قبل نزول الزكاة، فلما نزلت الزكاة نُسِخ.
* ذكر من قال ذلك:
١٥٥٤٣ - حدثني المثنى قال: حدثنا عبد الله بن صالح قال: حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قوله (خذ العفو)، يعني: خذ ما عفا لك من أموالهم، وما أتوك به من شيء فخذه. فكان هذا قبل أن تنزل براءة بفرائض الصدقات وتفصيلها وما انتهت الصدقات إليه.
١٥٥٤٤ - حدثني محمد بن الحسين. قال: حدثنا أحمد بن المفضل قال: حدثنا أسباط، عن السدي: (خذ العفو)، أما "العفو": فالفضل من المال، نسختها الزكاة.
١٥٥٤٥ - حدثت عن الحسين بن الفرج قال: سمعت أبا معاذ يقول: حدثنا عبيد بن سليمان قال: سمعت الضحاك، يقول في قوله: (خذ العفو)، يقول: خذ ما عفا من أموالهم. وهذا قبل أن تنزل الصدقة المفروضة.
* * *
وقال آخرون: بل ذلك أمرٌ من الله نبيَّه ﷺ بالعفو عن المشركين، وترك الغلظة عليهم قبل أن يفرض قتالهم عليه.
* ذكر من قال ذلك:
١٥٥٤٦ - حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد، في قوله: (خذ العفو) قال: أمره فأعرض عنهم عشر سنين بمكة. قال: ثم أمره بالغلظة عليهم، وأن يقعد لهم كل مَرْصَد، وأن يحصرهم، ثم قال: (فَإِنْ تَابُوا
* * *
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالصواب قول من قال: معناه: خذ العفو من أخلاق الناس، واترك الغلظة عليهم = وقال: أُمر بذلك نبيّ الله ﷺ في المشركين.
وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب، لأن الله جل ثناؤه أتبع ذلك تعليمَه نبيَّه ﷺ محاجَّته المشركين في الكلام، وذلك قوله: (قل ادعوا شركاءكم ثم كيدون فلا تنظرون)، وعقَّبه بقوله: (وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلا اجْتَبَيْتَهَا)، فما بين ذلك بأن يكون من تأديبه نبيَّه ﷺ في عشرتهم به، (٢) أشبهُ وأولى من الاعتراض بأمره بأخذ الصدقة من المسلمين.
* * *
فإن قال قائل: أفمنسوخ ذلك؟
قيل: لا دلالة عندنا على أنه منسوخ، إذ كان جائزًا أن يكون = وإن كان الله أنزله على نبيه ﷺ في تعريفه عشرةَ من لم يُؤْمَر بقتاله من المشركين = مرادًا به تأديبُ نبيّ الله والمسلمين جميعًا في عشرة الناس، وأمرهم بأخذ عفو
(٢) قوله: ((به)) في آخر الجملة، متعلق بقوله في أولها ((من تأديبه))، كأنه قال ((من تأديبه به))، أي بهذا الذي بين الآيتين.
* * *
وأما قوله: (وأمر بالعرف)، فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله.
فقال بعضهم بما: -
١٥٥٤٧ - حدثني الحسن بن الزبرقان النخعي قال: حدثني حسين الجعفي، عن سفيان بن عيينة، عن رجل قد سماه قال: لما نزلت هذه الآية: (خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا جبريل، ما هذا؟ قال: ما أدري حتى أسأل العالِم! قال: ثم قال جبريل: يا محمد، إن الله يأمرك أن تَصِل مَن قطعك، وتعطي من حرمك، وتعفو عمن ظلمك. (٣)
١٥٥٤٨ - حدثني يونس قال: أخبرنا سفيان، عن أمَيّ قال: لما أنزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم: (خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين) قال النبي صلى الله عليه وسلم: ما هذا يا جبريل؟ قال: إن الله يأمرك أن تعفوَ عمن ظلمك، وتعطيَ من حرمك، وتصل من قطعك. (٤)
* * *
(٢) انظر مقالة أبي جعفر في ((النسخ)) فيما سلف من فهارس الأجزاء الماضية.
(٣) الأثر: ١٥٥٤٧ - ((الحسن بن الزبرقان النخعي))، شيخ الطبري، مضى برقم: ٢٩٩٥. والرجل الذي لم يسم في هذا الخبر هو ((أمي بن ربيعة))، الذي يأتي في الخبر التالي.
(٤) الأثر: ١٥٥٤٨ - ((سفيان)) هو ابن عيينة. و ((أمي)) هو: ((أمي بن ربيعة المرادى الصيرفي))، سمع الشعبي، وعطاء، وطاوس. روى عنه سفيان بن عيينة، وشريك. ثقة. مترجم في التهذيب، وابن سعد ٦: ٢٥٤، والكبير ١/٢/ ٦٧، وابن أبي حاتم ١/١/ ٣٤٧. وكان في المخطوطة فوق ((أمى)) حرف (ط) دلالة على الخطأ، وبالهامش (كذا)، ولكن الناسخ جهل الاسم فأشكل علية. فجاء في المطبوعة فجعله ((أبى))، وكذلك في تفسير ابن كثير ٣: ٦١٨، والصواب ما اثبت. وهذا الخبر، رواه ((أمى بن ربيعة))، عن الشعبي، كما يظهر ذلك من روايات الخبر في ابن كثير، والدر المنثور ٣: ١٥٣.
١٥٥٤٩ - حدثني محمد بن عبد الأعلى قال: حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن هشام بن عروة، عن أبيه: ﴿وأمر بالعرف﴾، يقول: بالمعروف.
١٥٥٥٠ - حدثنا محمد بن الحسين قال: حدثنا أحمد بن المفضل قال: حدثنا أسباط، عن السدي: ﴿وأمر بالعرف﴾ قال: أما العرف: فالمعروف.
١٥٥٥١ - حدثنا بشر قال: حدثنا يزيد قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: ﴿وأمر بالعرف﴾، أي: بالمعروف.
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله أمر نبيه ﷺ أن يأمر الناس بالعرف =وهو المعروف في كلام العرب، مصدر في معنى: "المعروف".
* * *
يقال: "أوليته عُرْفًا، وعارفًا، وعارفةً" (١) كل ذلك بمعنى: "المعروف". (٢)
* * *
فإذا كان معنى العرف ذلك، فمن "المعروف" صلة رحم من قطع، وإعطاء من حرم، والعفو عمن ظلم. وكل ما أمر الله به من الأعمال أو ندب إليه، فهو من العرف. ولم يخصص الله من ذلك معنى دون معنى; فالحق فيه أن يقال: قد أمر الله نبيه ﷺ أن يأمر عباده بالمعروف كله، لا ببعض معانيه دون بعض.
* * *
(٢) انظر تفسير ((المعروف)) فيما سلف ص: ١٦٥، تعليق: ١، والمراجع هناك.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
١٥٥٥٢ - حدثنا بشر قال: حدثنا يزيد قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين) قال: أخلاقٌ أمر الله بها نبيه صلى الله عليه وسلم، ودلَّه عليها.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٠٠) ﴾
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: (وإما ينزغنك من الشيطان نزغ)، وإما يغضبنك من الشيطان غضب يصدُّك عن الإعراض عن الجاهلين، ويحملك على مجازاتهم. = (فاستعذ بالله)، يقول: فاستجر بالله من نزغه = (٣) (إنه سميع عليم)،
(٢) يعني أن "الجهل" هنا بمعنى السفه والتمرد والعدوان، لا بمعنى "الجهل" الذي هو ضد العلم والمعرفة.
(٣) انظر تفسير ((الاستعاذة)) فيما سلف ١: ١١١ / ٦: ٣٢٦.
١٥٥٥٣ - حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد، في قوله: (خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فكيف بالغضب يا رب؟ قال: (وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم).
١٥٥٥٤ - حدثنا بشر بن معاذ قال: حدثنا يزيد قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم) قال: علم الله أن هذا العدوَّ مَنِيع ومَريد.
* * *
وأصل "النزغ": الفساد، يقال: "نزغ الشيطان بين القوم"، إذا أفسد بينهم وحمّل بعضهم على بعض. ويقال منه: "نزغ ينزغ"، و"نغز ينغز".
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ (٢٠١) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: (إن الذين اتقوا)، اللهَ من خلقه، فخافوا عقابه، بأداء فرائضه، واجتناب معاصيه = (إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا)، (٢) يقول: إذا ألمَّ بهم لَمَمٌ من الشيطان، (٣) من غضب أو غيره مما
(٢) انظر تفسير ((المس)) فيما سلف ص: ٣٠٣، تعليق: ١، والمراجع هناك.
(٣) في المطبوعة: ((إذا ألم بهم طيف))، لم يحسن قراءة المخطوطة، فاستبدل بما كان فيها.
واختلفت القرأة في قراءة قوله: "طيف".
فقرأته عامة قرأة أهل المدينة والكوفة: (طَائِفٌ)، على مثال "فاعل".
* * *
وقرأه بعض المكيين والبصريين والكوفيين: "طَيْفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ". (١)
* * *
واختلف أهل العلم بكلام العرب في فرق ما بين "الطائف" و"الطيف.
فقال بعض البصريين: "الطائف" و"الطيف" سواء، وهو ما كان كالخيال والشيء يلم بك. (٢) قال: ويجوز أن يكون "الطيف" مخففًا عن "طَيِّف" مثل "مَيْت" و"مَيِّت".
* * *
وقال بعض الكوفيين: "الطائف": ما طاف بك من وسوسة الشيطان. وأما "الطيف": فإنما هو من اللّمم والمسِّ.
* * *
وقال أخر منهم: "الطيف": اللّمم، و"الطائف": كل شيء طاف بالإنسان.
* * *
وذكر عن أبي عمرو بن العلاء أنه كان يقول: "الطيف": الوسوسة.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القراءتين في ذلك عندي بالصواب قراءة من قرأ: (طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ)، لأن أهل التأويل تأولوا ذلك بمعنى الغضب والزلة تكون من المطيف به. وإذا كان ذلك معناه، كان معلومًا = إذ كان "الطيف" إنما
(٢) نسبها أبو جعفر إلى البصريين، وهي في لسان العرب (طوف)، منسوبة إلى الفراء، وهو كوفي، ولم أجدها في المطبوع من معاني القرآن.
* * *
وأما "الطيف" فإنما هو الخيال، وهو مصدر من "طاف يطيف"، ويقول: لم أسمع في ذلك "طاف يطيف" (٢) ويتأوله بأنه بمعنى "الميت" وهو من الواو.
* * *
وحكى البصريون وبعض الكوفيين سماعًا من العرب: (٣) "طاف يطيف"، و"طِفْتُ أطِيف"، وأنشدوا في ذلك: (٤)
أنَّى أَلَمَّ بِكَ الخَيَالُ يَطِيفُ وَمَطَافُهُ لَكَ ذِكْرَةٌ وَشُعُوفُ (٥)
* * *
وأما التأويل، فإنهم اختلفوا في تأويله.
فقال بعضهم: ذلك "الطائف" هو الغضب.
* ذكر من قال ذلك.
١٥٥٥٥ - حدثنا أبو كريب وابن وكيع قالا حدثنا ابن يمان، عن
(٢) قوله: ((ولم اسمع في ذلك طاف يطيف))، يعنى في ((الطائف)).
(٣) هذا نص كلام أبي عبيده في مجاز القرآن ١: ٢٣٧، إلى آخره.
(٤) كعب بن زهير.
(٥) ديوانه: ١١٣، ومجاز القرآن لأبي عبيدة ١: ٢٣٧، واللسان (طيف) (شعف)، من قصيده له طويلة.
و ((الشعوف)) مصدر من قولهم ((شعفه حب فلانة))، إذا أحرق قلبه، ووجد لذة اللوعة في احتراقه، وفي ذهاب لبه حتى لا يعقل غير الحب.
١٥٥٥٦ - حدثنا ابن حميد قال: حدثنا حكام، عن عنبسة، عن محمد بن عبد الرحمن، عن القاسم بن أبي بزة، عن مجاهد، في قوله: "إذا مسهم طيف من الشيطان" قال: هو الغضب. (١)
١٥٥٥٧ - حدثنا ابن وكيع قال: حدثنا عبد الله بن رجاء، عن ابن جريج، عن عبد الله بن كثير، عن مجاهد قال: الغضب.
١٥٥٥٨ - حدثني محمد بن عمرو قال: حدثنا أبو عاصم قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: (إذا مسهم طَيْف من الشيطان تذكروا) قال: هو الغضب.
١٥٥٥٩ - حدثني محمد بن عمرو قال: حدثنا أبو عاصم قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله: (طائف من الشيطان) قال: الغضب.
* * *
وقال آخرون: هو اللَّمَّة والزَّلة من الشيطان.
* ذكر من قال ذلك:
١٥٥٦٠ - حدثني المثنى قال: حدثنا عبد الله بن صالح قال: حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قوله: (إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا)، و"الطائف": اللَّمَّة من الشيطان = (فإذا هم مبصرون).
١٥٥٦١ - حدثني محمد بن سعد قال: حدثني أبي قال: حدثني عمي قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (إن الذين اتقوا إذا مسهم
١٥٥٦٢ - حدثني محمد بن الحسين قال: حدثنا أحمد بن المفضل قال: حدثنا أسباط، عن السدي: (إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا)، يقول: إذا زلُّوا تابوا.
* * *
قال أبو جعفر: وهذان التأويلان متقاربا المعنى، لأن "الغضب" من استزلال الشيطان، و"اللّمة" من الخطيئة أيضًا منه، وكل ذلك من طائف الشيطان. (١) وإذ كان ذلك كذلك، فلا وجه لخصوص معنى منه دون معنى، بل الصواب أن يعم كما عمه جل ثناؤه، فيقال: إن الذين اتقوا إذا عرض لهم عارض من أسباب الشيطان، ما كان ذلك العارض، تذكروا أمر الله وانتهوا إلى أمره.
* * *
وأما قوله: (فإذا هم مبصرون)، فإنه يعني: فإذا هم مبصرون هدى الله وبيانه وطاعته فيه، فمنتهون عما دعاهم إليه طائف الشيطان. كما: -
١٥٥٦٣ - حدثني محمد بن سعد قال: حدثني أبي قال: ثني عمي قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: (فإذا هم مبصرون)، يقول: إذا هم منتهون عن المعصية، آخذون بأمر الله، عاصون للشيطان.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ (٢٠٢) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وإخوان الشياطين تمدهم الشياطين في الغي. (٢) يعني بقوله: (يمدونهم)، يزيدونهم، ثم لا ينقصون عما نقص عنه
(٢) انظر تفسير ((الغي)) فيما سلف ص: ٢٦١، تعليق: ١، والمراجع هناك.
وإنما هذا خبرٌ من الله عن فريقي الإيمان والكفر، بأن فريق الإيمان وأهل تقوى الله إذا استزلهم الشيطان تذكروا عظمة الله وعقابه، فكفَّتهم رهبته عن معاصيه، وردّتهم إلى التوبة والإنابة إلى الله مما كان منهم زلَّةً = وأن فريق الكافرين يزيدهم الشيطان غيًّا إلى غيهم إذا ركبوا معصية من معاصي الله، ولا يحجزهم تقوى الله، ولا خوف المعاد إليه عن التمادي فيها والزيادة منها، فهو أبدًا في زيادة من ركوب الإثم، والشيطان يزيده أبدًا، لا يقصر الإنسي عن شيء من ركوب الفواحش، ولا الشيطان من مدِّه منه، (٢) كما: -
١٥٥٦٤ - حدثني المثنى قال: حدثنا عبد الله بن صالح قال: حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس: (وإخوانهم يمدونهم في الغيّ ثم لا يقصرون) قال: لا الإنس يقصرون عما يعملون من السيئات، ولا الشياطين تُمْسك عنهم.
١٥٥٦٥ - حدثني محمد بن سعد قال: حدثني أبي قال: حدثني عمي قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (وإخوانهم يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون)، يقول: هم الجن، يوحون إلى أوليائهم من الإنس = (ثم لا يقصرون)، يقول: لا يسأمون.
١٥٥٦٦ - حدثنا محمد بن الحسين قال: حدثنا أحمد بن المفضل قال: حدثنا أسباط، عن السدي: (وإخوانهم يمدونهم في الغيّ)، إخوان الشياطين من المشركين، يمدهم الشيطان في الغيّ = (ثم لا يقصرون)،
١٥٥٦٧ - حدثنا القاسم قال: حدثنا الحسين قال: حدثني حجاج قال:
(٢) هكذا فعل الطبري، أتى بالضمائر مفردة بعد الجمع، وقد تكرر ذلك في مواضع كثيرة من تفسيره، أقربها ما أشرت إليه في ص ٢٨٦، ، تعليق: ٢.
١٥٥٦٨ - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال: ثني محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: (وإخوانهم يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون) قال: إخوان الشياطين، يمدهم الشياطين في الغيّ = (ثمّ لا يقصرون).
١٥٥٦٩ - حدثنا محمد بن عمرو قال: حدثنا أبو عاصم قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد = (وإخوانهم)، من الشياطين. (يمدونهم في الغي)، استجهالا.
* * *
وكان بعضهم يتأول قوله: (ثم لا يقصرون)، بمعنى: ولا الشياطين يقصرون في مدِّهم إخوانَهم من الغيّ.
* ذكر من قال ذلك:
١٥٥٧٠ - حدثنا بشر بن معاذ قال: حدثنا يزيد قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (وإخوانهم يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون)، عنهم، ولا يرحمونهم.
* * *
قال أبو جعفر: وقد بينا أولى التأويلين عندنا بالصواب. وإنما اخترنا ما اخترنا
* * *
وأما قوله: (يمدونهم)، فإنَّ القرأة اختلفت في قراءته.
فقرأه بعض المدنيين: "يُمِدُّونَهُمْ" بضم الياء من "أمددت".
* * *
وقرأته عامة قرأة الكوفيين والبصريين: (يَمُدُّونَهُمْ)، بفتح الياء من "مددت".
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القراءة في ذلك عندنا: (يَمُدُّونَهُمْ)، بفتح الياء، لأن الذي يمد الشياطينُ إخوانَهم من المشركين، إنما هو زيادة من جنس الممدود، وإذا كان الذي مد من جنس الممدود، كان كلام العرب "مددت" لا "أمددت". (٢)
* * *
وأما قوله: (يقصرون)، فإن القرأة على لغة من قال: "أقصَرْت أقْصِر". وللعرب فيه لغتان: "قَصَرت عن الشيء" و"أقصرت عنه". (٣)
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلا اجْتَبَيْتَهَا﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وإذا لم تأت، يا محمد، هؤلاء المشركين بآية من الله = (قالوا لولا اجتبَيتَها)، يقول: قالوا: هلا اخترتها واصطفيتها.
(٢) انظر تفسير ((مد)) و ((أمد)) فيما سلف ١: ٣٠٦ - ٣٠٨ / ٧: ١٨١.
(٣) انظر معاني القرآن للفراء ١: ٤٠٢، وصحح الخطأ هناك، فإنه ضبط ((قصر)) بضم الصاد، والصواب فتحها لا صواب غيره.
* * *
ثم اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.
فقال بعضهم: معناه: هلا افتعلتها من قِبَل نفسك واختلقتها؟ بمعنى: هلا اجتبيتها اختلاقًا؟ كما تقول العرب: "لقد اختار فلان هذا الأمر وتخيره اختلاقًا". (٣)
* ذكر من قال ذلك:
١٥٥٧١ - حدثنا بشر قال: حدثنا يزيد قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (وإذا لم تأتهم بآية قالوا لولا أجتبيتها)، أي: لولا أتيتنا بها من قِبَل نفسك؟ هذا قول كفار قريش.
١٥٥٧٢ - حدثنا القاسم قال: حدثنا الحسين قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن عبد الله بن كثير، عن مجاهد، قوله: (وإذا لم تأتهم بآية قالوا لولا اجتبيتها) قالوا: لولا اقتضبتها! (٤) قالوا: تخرجها من نفسك.
١٥٥٧٣ - حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد في قوله: (وإذا لم تأتهم بآية قالوا لولا اجتبيتها) قالوا: لولا تقوَّلتها، جئتَ بها من عندك؟.
١٥٥٧٤ - حدثني المثنى قال: حدثني عبد الله قال: حدثني معاوية، عن
(٢) انظر تفسير ((اجتبى)) فيما سلف ٧: ٤٣٧ / ١١: ٥١٢، ٥١٣.
(٣) انظر معاني القرآن للفراء ١: ٤٠٢، والتعليق عليه هناك. وهذا معنى غريب جداً في ((اختار))، أنا في ريب منه، إلا أن يكون أراد أن العرب تقول في مجازها ((اختار الشيء اختلاقاً، كل ذلك بمعنى: اختلقه، لا أن ((اختار)) بمعنى اختلق. وإن كان صاحب اللسان قد اتبع قول الفراء الآتى بعد ص ٣٤٣ ((وهو في كلام العرب جائز أن يقول: ((لقد اختار لك الشيء واجتباه وارتجله)).
(٤) ((اقتضب الكلام اقتضاباً))، ارتجله من غير تهيئة أو إعداد له. يقال: ((هذا شعر مقتضب، وكتاب مقتضب)).
١٥٥٧٥ - حدثني محمد بن الحسين قال: حدثنا أحمد بن المفضل قال: حدثنا أسباط، عن السدي: (قالوا لولا اجتبيتها)، يقول: لولا أحدثتها.
١٥٥٧٦ - حدثنا الحسن بن يحيى قال: أخبرنا عبد الرزاق قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، قوله: (لولا اجتبيتها) قال: لولا جئت بها من نفسك!
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: هلا أخذتها من ربك وتقبَّلتها منه؟ (١)
* ذكر من قال ذلك:
١٥٥٧٧ - حدثني محمد بن سعد قال: حدثني أبي قال: حدثني عمي قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: (لولا اجتبيتها)، يقول: لولا تقبَّلتها من الله!
١٥٥٧٨ - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال: حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: (لولا اجتبيتها)، يقول: لولا تلقَّيتَها من ربك!
١٥٥٧٩ - حدثت عن الحسين بن الفرج قال: سمعت أبا معاذ قال: حدثنا عبيد بن سليمان قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (لولا اجتبيتها)، يقول: لولا أخذتها أنت فجئت بها من السماء.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى التأويلين بالصواب في ذلك، تأويلُ من قال تأويله: هلا أحدثتها من نفسك! لدلالة قول الله: (قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ)، فبيَّن ذلك أن الله إنما أمر نبيه صلى الله عليه
* * *
وحكي عن الفراء أنه كان يقول: "اجتبيت الكلام" و"اختلقته"، و"ارتجلته": إذا افتعلته من قِبَل نفسك. (٢)
١٥٥٨٠ - حدثني بذلك الحارث قال: حدثنا القاسم عنه.
* * *
قال أبو عبيدة: وكان أبو زيد يقول: إنما تقول العرب ذلك للكلام يبتدئه الرجل، (٣) لم يكن أعدَّه قبل ذلك في نفسه. قال أبو عبيد: و"اخترعته" مثل ذلك. (٤)
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٢٠٣) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل، يا محمد، للقائلين لك إذا لم تأتهم بآية: "هلا أحدثتها من قبل نفسك! ": إن ذلك ليس لي، ولا يجوز لي فعله; لأن الله إنما أمرني باتباع ما يوحى إليّ من عنده، فإنما أتبع ما يوحى إليّ من ربي، لأني عبده، وإلى أمره أنتهي، وإياه أطيع. (٥) = (هذا بصائر من ربكم)، يقول: هذا القرآن والوحي الذي أتلوه عليكم = "بصائر من ربكم"، يقول: حجج عليكم، وبيان لكم من ربكم.
* * *
((يبين ذلك أن الله | ) والسياق يقتضى ما أثبت. |
(٣) في المطبوعة: ((يبديه الرجل))، وفي المخطوطة: ((البديه الرجل))، وكأن الصواب ما أثبت.
(٤) في المطبوعة: ((واخترعه))، وأثبت ما في المخطوطة.
(٥) انظر تفسير ((الاتباع))، و ((الوحي)) فيما سلف من فهارس اللغة (تبع) و (وحي).
* * *
وإنما ذكر "هذا" ووحّد في قوله: (هذا بصائر من ربكم)، لما وصفت من أنه مرادٌ به القرآن والوحي.
* * *
وقوله: (وهدى)، يقول: وبيان يهدي المؤمنين إلى الطريق المستقيم = (ورحمة)، رحم الله به عباده المؤمنين، فأنقذهم به من الضلالة والهلكة = (لقوم يؤمنون)، يقول: هو بصائر من الله وهدى ورحمة لمن آمن، يقول: لمن صدَّق بالقرآن أنه تنزيل الله ووحيه، وعمل بما فيه، دون من كذب به وجحده وكفر به، (٢) بل هو على الذين لا يؤمنون به عمًى وخزي. (٣)
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٢٠٤) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره للمؤمنين به، المصدقين بكتابه، الذين القرآنُ لهم هدى ورحمة: (إذا قرئ)، عليكم، أيها المؤمنون، (القرآن فاستمعوا له)، يقول: أصغوا له سمعكم، لتتفهموا آياته، وتعتبروا بمواعظه (٤) = (وأنصتوا)،
(٢) انظر تفسير ((الهدى)) و ((الرحمة)) و ((الإيمان)) فيما سلف من فهارس اللغة (هدى)، (رحم)، (أمن).
(٣) في المطبوعة "غم" وفي المخطوطة "عم" غير منقوطة وهذا صواب قراءتها لقوله تعالى في سورة فصلت: ٤٤، في صفة القرآن " والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى".
(٤) انظر تفسير ((استمع)) فيما سلف من فهارس اللغة (سمع).
* * *
ثم اختلف أهل التأويل في الحال التي أمر الله بالاستماع لقارئ القرآن إذا قرأ والإنصات له.
فقال بعضهم: ذلك حال كون المصلي في الصلاة خلف إمام يأتمّ به، وهو يسمع قراءة الإمام، عليه أن يسمع لقراءته. وقالوا: في ذلك أنزلت هذه الآية.
* ذكر من قال ذلك:
١٥٥٨١ - حدثنا أبو كريب قال: حدثنا أبو بكر بن عياش، عن عاصم، عن المسيب بن رافع قال: كان عبد الله يقول: كنا يسلم بعضنا على بعض في الصلاة: "سلام على فلان، وسلام على فلان". قال: فجاء القرآن: (وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا). (١)
١٥٥٨٢ -.... قال: حدثنا حفص بن غياث، عن إبراهيم الهجري، عن أبي عياض، عن أبي هريرة قال: كانوا يتكلمون في الصلاة، فلما نزلت هذه الآية: (وإذا قرئ القرآن)، والآية الأخرى، أمروا بالإنصات. (٢)
(٢) الأثر: ١٥٥٨٢ - سيأتي بإسناد آخر، بلفظ آخر رقم: ١٥٦٠١. ((حفص بن غياث)) ثقة مأمون، أخرج له الجماعة، مضى مرارًا. ((إبراهيم الهجرى))، هو ((إبراهيم بن مسلم الهجرى))، وهو ضعيف، مضى برقم: ١١، ٤١٧٣. و ((أبو عياض))، هو ((عمر بن الأسود العنسى))، ثقة من عباد أهل الشام، مضى برقم ١٣٨٢، ١١٢٥٥، ١٢٨٠٤. وهذا خبر ضعيف الإسناد، لضعف إبراهيم الهجرى. ورواه البيهقي في السنن ٢: ١٥٥، بنحوه، وخرجه السيوطي في الدر المنثور ٣: ١٥٦، وزاد نسبته إلى ابن أبي شيبة في المصنف، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ، وابن مردويه.
١٥٥٨٤ - حدثنا أبو كريب قال: حدثنا المحاربي، عن داود بن أبي هند، عن بشير بن جابر قال: صلى ابن مسعود، فسمع ناسًا يقرأون مع الإمام، فلما انصرف قال: أما آن لكم أن تفقهوا! أما آن لكم أن تعقلوا؟ (وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا)، كما أمركم الله. (١)
١٥٥٨٥ - حدثنا حميد بن مسعدة قال: حدثنا بشر بن المفضل قال: حدثنا الجريري، عن طلحة بن عبيد الله بن كريز قال: رأيت عبيد بن عمير وعطاء بن أبي رباح يتحدثان والقاصّ يقص، فقلت: ألا تستمعان إلى الذكر وتستوجبان الموعود؟ قال: فنظرا إلي، ثم أقبلا على حديثهما. قال: فأعدت، فنظرا إلي، ثم أقبلا على حديثهما. قال: فأعدت الثالثة قال: فنظرا إلي فقالا إنما ذلك في الصلاة: (وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا). (٢)
١٥٥٨٦ - حدثني العباس بن الوليد قال: أخبرني أبي قال: سمعت الأوزاعي
(٢) الأثر: ١٥٥٨٥ - ((طلحة بن عبيد بن كريز الخزاعى))، أبو المطرف المصرى. ثقة قليل الحديث. مترجم في التهذيب، وابن سعد ٧/١/١٦٦، والكبير ٢/٢/٣٤٨. وابن أبي حاتم ٢ / ١ / ٤٧٤. و ((كريز)) (بفتح الكاف، وكسر الراء)).
١٥٥٨٧ - حدثنا ابن بشار قال: حدثنا عبد الرحمن قال: حدثنا سفيان، عن أبي هاشم إسماعيل بن كثير، عن مجاهد في قوله: (وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا) قال: في الصلاة.
١٥٥٨٨ - حدثنا ابن المثنى قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن رجل، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب: (وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا) قال: في الصلاة.
١٥٥٨٩ - حدثنا أبو كريب قال: حدثنا ابن إدريس قال: حدثنا ليث، عن مجاهد: (وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا) قال: في الصلاة.
١٥٥٩٠ - حدثنا ابن المثنى قال: حدثنا محمد بن جعفر قال: حدثنا شعبة قال: سمعت حميدًا الأعرج قال: سمعت مجاهدًا يقول في هذه الآية: (وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا) قال: في الصلاة.
١٥٥٩١ -.... قال: حدثني عبد الصمد قال: حدثنا شعبة قال: حدثنا حميد، عن مجاهد، بمثله.
١٥٥٩٢ - حدثنا ابن وكيع قال: حدثنا جرير وابن إدريس، عن ليث، عن مجاهد: (وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا) قال: في الصلاة المكتوبة.
١٥٥٩٤ -.... قال: حدثنا أبي، عن سفيان، عن أبي هاشم، عن مجاهد: في الصلاة المكتوبة.
١٥٥٩٥ -.... قال: حدثنا أبي، عن سفيان، عن ليث، عن مجاهد، مثله.
١٥٥٩٦ -.... قال: حدثنا المحاربي وأبو خالد، عن جويبر، عن الضحاك قال: في الصلاة المكتوبة.
١٥٥٩٧ -.... قال: حدثنا جرير وابن فضيل، عن مغيرة، عن إبراهيم قال: في الصلاة المكتوبة.
١٥٥٩٨ - حدثنا بشر بن معاذ قال: حدثنا يزيد قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا) قال: كانوا يتكلمون في صلاتهم بحوائجهم أوَّلَ ما فرضت عليهم، فأنزل الله ما تسمعون: (وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا).
١٥٥٩٩ - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال: حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: (وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا) قال: كان الرجل يأتي وهم في الصلاة فيسألهم: كم صليتم؟ كم بقي؟ فأنزل الله: (وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا)، وقال غيره: كانوا يرفعون أصواتهم في الصلاة حين يسمعون ذكر الجنة والنار، فأنزل الله: (وإذا قرئ القرآن).
١٥٦٠٠ - حدثنا ابن وكيع قال: حدثنا أبو خالد والمحاربي، عن أشعث، عن الزهري قال: كان النبي ﷺ يقرأ ورجل يقرأ، فنزلت:
١٥٦٠١ -.... قال: حدثنا أبو خالد الأحمر، عن الهجري، عن أبي عياض، عن أبي هريرة قال: كانوا يتكلمون في الصلاة، فلما نزلت: (وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا) قال: هذا في الصلاة. (١)
١٥٦٠٢ -.... قال: حدثنا أبي، عن حريث، عن عامر قال: في الصلاة المكتوبة.
١٥٦٠٣ - حدثني محمد بن الحسين قال: حدثنا أحمد بن المفضل قال: حدثنا أسباط، عن السدي: (وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا) قال: إذا قرئ في الصلاة.
١٥٦٠٤ - حدثني المثنى قال: حدثنا أبو صالح قال: حدثنا معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قوله: (وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له)، يعني: في الصلاة المفروضة.
١٥٦٠٥ - حدثنا الحسن بن يحيى قال: أخبرنا عبد الرزاق قال: أخبرنا الثوري، عن أبي هاشم، عن مجاهد قال: هذا في الصلاة في قوله: (وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له) = قال: أخبرنا الثوري، عن ليث، عن مجاهد: أنه كره إذا مرّ الإمام بآية خوف أو بآية رحمة أن يقول أحد ممن خلفَه شيئًا. قال: السكوت = قال: أخبرنا الثوري، عن ليث، عن مجاهد: قال: لا بأس إذا قرأ الرجل في غير الصلاة أن يتكلم.
١٥٦٠٦ - حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد، في قوله: (وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون) قال: هذا إذا قام الإمام للصلاة (فاستمعوا له وأنصتوا).
١٥٦٠٨ - حدثني المثنى قال: حدثنا سويد قال: أخبرنا ابن المبارك، عن ابن لهيعة، عن ابن هبيرة، عن ابن عباس أنه كان يقول في هذه: (واذكر ربك في نفسك تضرعًا وخيفة)، هذا في المكتوبة. وأما ما كان من قصص أو قراءة بعد ذلك، فإنما هي نافلة. إن نبي الله ﷺ قرأ في صلاة مكتوبة، وقرأ وراءه أصحابه، فخلَّطوا عليه قال: فنزل القرآن: (وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون)، فهذا في المكتوبة.
* * *
وقال آخرون: بل عُني بهذه الآية الأمر بالإنصات للإمام في الخطبة إذا قرئ القرآن في خطبة. (١)
* ذكر من قال ذلك:
١٥٦٠٩ - حدثنا تميم بن المنتصر قال: حدثنا إسحاق الأزرق، عن شريك، عن سعيد بن مسروق، عن مجاهد، في قوله: (وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا) قال: الإنصات للإمام يوم الجمعة.
١٥٦١٠ - حدثنا ابن وكيع قال: حدثنا أبو خالد وابن أبي عتبة، عن العوام، عن مجاهد قال: في خطبة يوم الجمعة.
* * *
وقال آخرون: عني بذلك: الإنصات في الصلاة، وفي الخطبة.
* ذكر من قال ذلك:
١٥٦١٢ - حدثنا ابن حميد قال: حدثنا هارون، عن عنبسة، عن جابر، عن عطاء قال: وجب الصُّمُوت في اثنتين، عند الرجل يقرأ القرآن وهو يصلي، وعند الإمام وهو يخطب.
١٥٦١٣ - حدثنا ابن وكيع قال: حدثنا أبي، عن سفيان، عن جابر، عن مجاهد: (وإذا قرئ القرآن)، وجب الإنصات في اثنتين، (١) في الصلاة والإمام يقرأ، والجمعة والإمام يخطب.
١٥٦١٤ - حدثنا القاسم قال: حدثنا الحسين قال حدثنا هشيم، أخبرنا من سمع الحسن يقول: في الصلاة المكتوبة، وعند الذكر.
١٥٦١٥ - حدثنا الحسن بن يحيى قال: أخبرنا عبد الرزاق قال: أخبرنا الثوري، عن جابر، عن مجاهد قال: وجب الإنصات في اثنتين: في الصلاة، ويوم الجمعة.
١٥٦١٦ - حدثني المثنى قال: حدثنا سويد قال: أخبرنا ابن المبارك، عن بقية بن الوليد قال: سمعت ثابت بن عجلان يقول: سمعت سعيد بن جبير يقول في قوله: (وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا) قال: الإنصات: يوم الأضحى، ويوم الفطر، ويوم الجمعة، وفيما يجهر به الإمام من الصلاة. (٢)
(٢) الأثر: ١٥٦١٦ - ((ثابت بن عجلان الأنصارى السلمي))، متكلم فيه، وثقه بعضهم، ومرضه آخرون. مترجم في التهذيب، والكبير ١/٢/١٦٦، ولم يذكر فيه جرحاً، وابن أبي حاتم ١ / ١ / ٤٥٥.
١٥٦١٨ - حدثنا ابن البرقي قال: حدثنا ابن أبي مريم قال: حدثنا يحيى بن أيوب قال: ثني ابن جريج، عن عطاء بن أبي رباح قال: أوجب الإنصات يوم الجمعة، قول الله تعالى ذكره: (وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون)، وفي الصلاة مثل ذلك.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، قولُ من قال: أمروا باستماع القرآن في الصلاة إذا قرأ الإمام، وكان من خلفه ممن يأتمّ به يسمعه، وفي الخطبة.
وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب، لصحة الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه قال: "إذا قرأ الإمام فأنصتوا"، (٢) وإجماع الجميع على أن [على] من سمع خطبة الإمام ممن عليه الجمعة، الاستماعَ والإنصاتَ لها، (٣) مع تتابع الأخبار بالأمر بذلك، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه لا وقت يجب على أحد استماع القرآن والإنصات لسامعه، من قارئه، إلا في هاتين الحالتين، (٤) على اختلاف في إحداهما، وهي حالة أن يكون خلف إمام مؤتم به. وقد صح الخبر عن رسول
(٢) انظر تخريج الخبر في السنن الكبرى ٢: ١٥٥، ١٥٦.
(٣) الزيادة بين القوسين لا بد منها، والسياق: ((أن على من سمع... الاستماع والإنصات)).
(٤) في المخطوطة حرف (ط) فوق ((لسامعه))، دلالة على الخطأ والشك في صحته، ولكنه مستقيم. وهو عطف على ما قبله، كأنه قال: وأنه لا وقت يجب الإنصات لسامعه، من قارئه)).
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ (٢٠٥) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: (واذكر) أيُّها المستمع المنصت للقرآن، إذا قرئ في صلاة أو خطبة (١) =، (ربك في نفسك)، يقول: اتعظ بما في آي القرآن، واعتبر به، وتذكر معادك إليه عند سماعكه = (تضرعًا)، يقول: افعل ذلك تخشعًا لله وتواضعًا له. (٢) (وخيفة)، يقول: وخوفًا من الله أن يعاقبك على تقصير يكون منك في الاتعاظ به والاعتبار، وغفلة عما بين الله فيه من حدوده. (٣) = (ودون الجهر من القول)، يقول: ودعاء باللسان لله في خفاء لا جهار. (٤) يقول: ليكن ذكر الله عند استماعك القرآن في دعاء إن دعوت غير جهار، ولكن في خفاء من القول، كما:-
(٢) انظر تفسير ((التضرع)) فيما سلف ١٣: ٥٧٢ تعليق: ١، والمراجع هناك.
(٣) انظر تفسير ((الخوف)) فيما سلف ٩: ١٢٣، تعليق: ٣، والمراجع هناك.
(٤) انظر تفسير ((الجهر)) فيما سلف ٢: ٨٠ / ٩: ٣٤٤، ٣٥٨ / ١١: ٣٦٨.
١٥٦٢٠ - حدثني الحارث قال: حدثنا عبد العزيز قال: حدثنا أبو سعد قال: سمعت مجاهدًا يقول في قوله: (واذكر ربك في نفسك تضرعًا وخيفة ودون الجهر من القول)، الآية قال: أمروا أن يذكروه في الصدور تضرعًا وخيفة.
١٥٦٢١ - حدثنا الحسن بن يحيى قال: أخبرنا عبد الرزاق قال: أخبرنا ابن التيمي، عن أبيه، عن حيان بن عمير، عن عبيد بن عمير، في قوله: (واذكر ربك في نفسك) قال: "يقول الله إذا ذكرني عبدي في نفسه، ذكرته في نفسي، وإذا ذكرني عبدي وحده ذكرته وحدي، وإذا ذكرني في ملإ ذكرته في أحسنَ منهم وأكرم". (١)
١٥٦٢٢ - حدثنا القاسم قال: حدثنا الحسين قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، قوله: (واذكر ربك في نفسك تضرعًا وخيفة) قال: يؤمر بالتضرع في الدعاء والاستكانة، ويكره رفع الصوت والنداء والصياح بالدعاء.
* * *
وأما قوله: (بالغدو والآصال)، فإنه يعني بالبُكَر والعشِيَّات.
* * *
وأما "الآصال" فجمع، واختلف أهل العربية فيها.
* * *
وقال آخرون منهم: هي جمع "أصُل"، و"الأصُل" جمع "أصيل". (٢)
* * *
وقال آخرون منهم: هي جمع "أصل" و"أصيل". قال: وإن شئت جعلت "الأصُل" جمعًا ل "لأصيل"، وإن شئت جعلته واحدًا. قال: والعرب تقول: "قد دنا الأصُل" فيجعلونه واحدًا.
* * *
قال أبو جعفر: وهذا القول أولى بالصواب في ذلك، وهو أنه جائز أن يكون جمع "أصيل" و"أصُل"، لأنهما قد يجمعان على أفعال. وأما "الآصال"، فهي فيما يقال في كلام العرب: ما بين العصر إلى المغرب.
* * *
وأما قوله: (ولا تكن من الغافلين)، فإنه يقول: ولا تكن من اللاهين إذا قرئ القرآن عن عظاته وعبره، وما فيه من عجائبه، ولكن تدبر ذلك وتفهمه، وأشعره قلبك بذكر الله، (٣) وخضوعٍ له، وخوفٍ من قدرة الله عليك، إن أنت غفلت عن ذلك.
١٥٦٢٣ - حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد، في قوله: (بالغدو والآصال) قال: بالبكر والعشي = (ولا تكن من الغافلين).
١٥٦٢٤ - حدثني الحارث قال: حدثنا عبد العزيز قال: حدثنا معرّف بن واصل السعدي، قال: سمعت أبا وائل يقول لغلامه عند مغيب الشمس: آصَلْنا بعدُ؟ (٤)
(٢) مجاز القرآن لأبي عبيدة ١: ٢٣٩.
(٣) في المخطوطة والمطبوعة: ((بذكر الله))، والسياق يتطلب ما أثبت.
(٤) الأثر: ١٥٦٢٤ - ((معرف بن واصل السعدي))، ((أبو بدل)) أو ((أبو يزيد))، ثقة. كان أمام مسجد بنى عمرو بن سعيد بن تميم، أمهم ستين سنة، لم يسه في صلاة قط، لأنها كانت تهمه. روى عن أبي وائل وإبراهيم التيمى، والنخعى، والشعبى. وغيرهم. مترجم في التهذيب، وابن سعد ٦: ٢٤٨، والكبير ٤/٢/٣٠، وابن أبي حاتم ٤ / ١ / ٤١٠.
و ((أبو وائل)) هو ((شقيق بن سلمة الأسدى))، أدرك النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يره، حجة في العربية. وقوله: ((آصل))، أي: دخل في الأصيل.
١٥٦٢٦ - حدثنا ابن وكيع قال: حدثنا أبي، عن محمد بن شريك، عن ابن أبي مليكة، عن ابن عباس، سئل عن [صلاة الفجر، فقال: إنها لفي كتاب الله، ولا يقوم عليها]..... ثم قرأ: (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ)، الآية [سورة النور: ٣٦]. (٢)
(٢) الأثر: ١٥٦٢٦ - ((محمد بن شريك المكى))، ثقة، مضى برقم: ١٠٢٦٠، مترجم في التهذيب، وابن سعد ٥: ٣٦٠، والكبير ١/١/١١٢، وابن أبي حاتم ٣/٢/٢٨٤. وهكذا جاء الخبر في المخطوطة، كما هو في المطبوعة، وأنا أكاد أقطع أنه خطأ وتحريف، وفيه سقط، ولكنى لم أجد الخبر بإسناده، فلذلك لم أغيره، ووجدت نص الخبر بغير إسناد في الدر المنثور ٥: ٥٢، عن صلاة الضحى، لا صلاة الفجر، وهو الصواب إن شاء الله قال:
(وأخرج ابن أبي شيبة، والبيهقي في شعب الإيمان، عن ابن عباس قال: إن صلاة الضحى لفي القرآن؟، وما يغوص عليها إلا غواص، في قوله: " فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ " فهذا صواب العبارة، ولكني وضعت ما كان في المخطوطة والمطبوعة بين قوسين، لأني لم أجد الخبر بإسناده. ووضعت مكان السقط نقطاً. ثم أتممت الآية إلى غايتها أيضاً.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (٢٠٦) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: لا تستكبر، أيها المستمع المنصت للقرآن، عن عبادة ربك، واذكره إذا قرئ القرآن تضرعًا وخيفة ودون الجهر من القول، فإن الذين عند ربك من ملائكته لا يستكبرون عن التواضع له والتخشع، وذلك هو "العبادة". (٢) = (ويسبحونه)، يقول: ويعظمون ربهم بتواضعهم له وعبادتهم (٣) = (وله يسجدون)، يقول: ولله يصلون = وهو سجودهم = (٤) فصلوا أنتم أيضًا له، وعظموه بالعبادة، كما يفعله من عنده من ملائكته.
* * *
آخر تفسير سورة الأعراف (٥)
* * *
(٢) انظر تفسير ((العبادة)) فيما سلف من فهارس اللغة (عبد).
(٣) انظر تفسير ((التسبيح)) فيما سلف ١: ٤٧٤ - ٤٧٦ / ٦: ٣٩١، ومادة (سبح) في فهارس اللغة.
(٤) انظر تفسير ((السجود)) فيما سلف من فهارس اللغة (سجد).
(٥) عند هذا الموضع انتهى جزء من التقسيم القديم الذي نقلت عنه نسختنا، وفيها ما نصه: "والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآله وسلم كثيرا. الحمد لله رب العالمين".
سورة الأعراف
افتُتِحت هذه السُّورة بالتنويه بعظمةِ هذا الكتاب، موضِّحةً مهمةَ القرآن ووجوبَ اتِّباعه، محذِّرةً من الشَّيطان وفتنتِه، كما وصَفتْ هذه السُّورةُ العظيمة أهوالَ يومِ القيامةِ، وخطابَ أهل النَّار لأهل الجنَّة، وحالَ الأعراف، واصفةً ما يَتبَع تلك الأحداثَ، وكذلك اشتملت على كثيرٍ من قصص الأنبياء؛ للدَّلالة على عظمةِ الله وقوَّته، وقهرِه وقُدْرته، وبيَّنتْ حُكْمَ من أطاع واتَّبَع، وحُكْمَ من عصى وابتدع؛ داعيةً للرجوع إلى الله؛ للفوز بالجنَّة، والنَّجاة من النار، وقد أُثِر عن النبيِّ ﷺ قراءتُه لها في صلاة المغرب.
ترتيبها المصحفي
7نوعها
مكيةألفاظها
3343ترتيب نزولها
39العد المدني الأول
206العد المدني الأخير
206العد البصري
205العد الكوفي
206العد الشامي
205* قوله تعالى: ﴿خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٖ وَكُلُواْ وَاْشْرَبُواْ﴾ [الأعراف: 31]:
عن عبدِ اللهِ بن عباسٍ رضي الله عنهما، قال: «كانت المرأةُ تطُوفُ بالبيتِ وهي عُرْيانةٌ، فتقولُ: مَن يُعِيرُني تِطْوافًا؟ تَجعَلُهُ على فَرْجِها، وتقولُ:
اليَوْمَ يَبْدُو بَعْضُهُ أَوْ كُلُّهُ***فَمَا بَدَا مِنْهُ فَلَا أُحِلُّهُ
فنزَلتْ هذه الآيةُ: ﴿خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٖ﴾ [الأعراف: 31]». أخرجه مسلم (٣٠٢٨).
* (الأعراف):
سُمِّيتْ بذلك؛ لأنَّ فيها ذِكْرَ (الأعراف).
* (طُولَى الطُّولَيَينِ):
لِما جاء عن مَرْوانَ بن الحكَمِ، قال: قال لي زيدُ بن ثابتٍ: «ما لك تَقرَأُ في المغربِ بقِصَارٍ وقد سَمِعْتُ النبيَّ ﷺ يَقرَأُ بطُولَى الطُّولَيَيْنِ؟!». أخرجه البخاري (764).
ولعلَّ الإطلاقَ الوارد في السورة من بابِ الوصف، لا من باب التسمية؛ وهذا أقرب.
انظر: "أسماء سور القرآن الكريم وفضائلها" لمنيرة الدوسري (ص196).
* مَن أخَذها عُدَّ حَبْرًا:
فعن عائشةَ رضي الله عنها، عن رسولِ الله ﷺ، قال: «مَن أخَذَ السَّبْعَ الأُوَلَ مِن القرآنِ، فهو حَبْرٌ». أخرجه أحمد (24575).
* ومِن عظيم فضلها أنها تقابِلُ التَّوْراةَ مع بقيةِ السُّوَر الطِّوال:
فعن واثلةَ بن الأسقَعِ رضي الله عنه، قال: قال رسولُ الله ﷺ: «أُعطِيتُ مكانَ التَّوْراةِ السَّبْعَ الطِّوالَ». أخرجه أحمد (17023).
أُثِر عن النبيِّ ﷺ قراءتُه لسورة (الأعراف) في صلاةِ المغرب:
فعن مَرْوانَ بن الحكَمِ: أنَّ زيدَ بنَ ثابتٍ قال: «ما لي أراكَ تَقرأُ في المغربِ بقِصارِ السُّوَرِ وقد رأيتُ رسولَ اللهِ يَقرأُ فيها بأطوَلِ الطُّوليَينِ؟! قلتُ: يا أبا عبدِ اللهِ، ما أطوَلُ الطُّوليَينِ؟ قالَ: الأعرافُ». أخرجه النسائي (٩٨٩).
اشتمَلتْ سورةُ (الأعراف) على عِدَّة موضوعاتٍ؛ وهي على الترتيب:
مهمَّة القرآن ووجوبُ اتباعه (١-٩).
خَلْقُ آدم وعداوةُ الشيطان له (١٠-٢٥).
تحذير الناس من فتنة الشيطان (٢٦-٣٠).
إباحةُ الطيِّبات، وتحريم الفواحش (٣١-٣٤).
إرسال الرسول، وعاقبة التكذيب (٣٥-٤١).
بين أصحاب الجنَّة وأصحاب النار (٤٢-٤٥).
أصحاب الأعراف (٤٦-٥٣).
مظاهر قدرة الله تعالى (٥٤-٥٨).
قصة نوح عليه السلام (٥٩-٦٤).
قصة هود عليه السلام (٦٥-٧٢).
قصة صالح عليه السلام (٧٣-٧٩).
قصة لوط عليه السلام (٨٠-٨٤).
قصة شُعَيب عليه السلام (٨٥-٩٣).
أقوام الأنبياء وموقفُهم من الدعوة (٥٩-٩٣).
سُنَّة الله في المكذِّبين (٩٤-١٠٢).
قصة موسى عليه السلام (١٠٣-١٧١).
موقف فِرْعونَ من دعوة موسى (١٠٣-١٢٦).
البِطانة الفاسدة (١٢٧-١٢٩).
عاقبة الكفار، وحُسْنُ عاقبة المؤمنين (١٣٠-١٣٧).
بنو إسرائيل وعبادة الأصنام (١٣٨-١٤١).
مجيء موسى للميقات (١٤٢-١٤٧).
بنو إسرائيل وعبادة العِجل (١٤٨-١٥٩).
مخالفات بني إسرائيل وانحرافاتهم (١٦٠-١٧١).
أخذُ الميثاق على بني آدم (١٧٢-١٧٨).
أهل النار أضَلُّ من الأنعام (١٧٩-١٨٦).
السؤال عن الساعة (١٨٧-١٨٨).
الناس مخلوقون من نفسٍ واحدة (١٨٩-١٩٥).
أولياء الرحمن (١٩٦-٢٠٦).
ينظر: "التفسير الموضوعي" لمجموعة من العلماء (3 /9).
اشتملت السُّورةُ على جملةٍ من المقاصدِ العظيمة، ذكَرها ابنُ عاشور رحمه الله؛ وهي:
«التنويهُ بالقرآن، والوعد بتيسيره على النبي ﷺ ليُبلِّغَه.
النهيُ عن اتخاذ الشركاء من دون الله، وإنذارُ المشركين عن سُوءِ عاقبة الشرك في الدنيا والآخرة، ووصفُ حال المشركين وما حَلَّ بهم.
تذكيرُ الناس بنعمة خَلْق الأرض، وتحذيرُهم من التلبُّس ببقايا مكرِ الشيطان.
وصفُ أهوالِ يوم الجزاء للمجرمين، وكراماتِه للمتَّقين.
التذكير بالبعث، وتقريبُ دليله.
النهيُ عن الفساد في الأرض التي أصلَحها اللهُ لفائدة الإنسان.
التذكير ببديعِ ما أوجَده الله لإصلاحِها وإحيائها.
التذكير بما أودَع اللهُ في فطرة الإنسان من وقتِ تكوين أصله أن يَقبَلوا دعوةَ رُسُلِ الله إلى التقوى والإصلاح».
"التحرير والتنوير" لابن عاشور (8/8).