تفسير سورة الأنفال

فتح الرحمن بكشف ما يلتبس في القرآن

تفسير سورة سورة الأنفال من كتاب فتح الرحمن بكشف ما يلتبس في القرآن
لمؤلفه زكريا الأنصاري . المتوفي سنة 926 هـ

قوله تعالى :﴿ إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم ﴾ [ الأنفال : ٢ ] الآية. أي خافت، والمراد بالمؤمنين هنا، وفي قوله بعد :﴿ أولئك هم المؤمنون حقا ﴾ [ الأنفال : ٤ ] الكاملون.
قوله تعالى :﴿ وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربّهم يتوكّلون ﴾ [ الأنفال : ٢ ].
إن قلتَ : كيف قال ذلك، مع أن حقيقة الإيمان –عند الأكثر- لا تزيد ولا تنقص، كالإلهية والوحدانية ؟
قلتُ : المراد بزيادته آثاره من الطمأنينة، واليقين، والخشية ونحوها، وعليه يُحمل ما نُقل عن الشافعي من أنه يقبل الزيادة والنقص.
قوله تعالى :﴿ كما أخرجك ربّك من بيتك بالحقّ ﴾ [ الأنفال : ٥ ] الآية، الكاف للتشبيه أي امض على ما رأيته صوابا، من تنقيل الغُزاة في قسمة الغنائم وإن كرهوا( ١ )، كما مضيت في خروجك من بيتك بالحق وهم كارهون.
١ - قال الطبري المعنى: كما أخرجك ربك بالحقّ على كره من فريق من المؤمنين، كذلك يجادلونك في الحق بعدما تبين – الطبري ١٣/٢٩٣..
قوله تعالى :﴿ ليحقّ الحقّ ويبطل الباطل ولو كره المجرمون ﴾ [ الأنفال : ٨ ]
إن قلتَ : فيه تحصيل الحاصل ؟
قلتُ : لا، لأن المراد بالحقّ الإيمان، وبالباطل الشرك.
فإن قلتَ : ما فائدة تكرار ﴿ ليحقّ الحقّ ﴾ هنا مع قوله قبلُ ﴿ ويريد الله أن يحقّ الحقّ بكلمته ويقطع دابر الكافرين ﴾ [ الأنفال : ٧ ].
قلتُ : فائدته أنه أُريد بالأول، ما وعد الله به في هذه الواقعة، من النّصر والظفر بالأعداء، بقرينة قوله عَقِبه ﴿ ويقطع دابر الكافرين ﴾.
وبالثاني تقوية الدّين، ونصرة الشريعة، بقرينة قوله عقبه ﴿ ويبطل الباطل ﴾.
قوله تعالى :﴿ فلَم تقتلوهم ولكن الله قتلهم ﴾ [ الأنفال : ١٧ ] الآية.
إن قلتَ : كيف نفى عن المؤمنين قتل الكفّار، مع أنهم قتلوهم يوم بدر، ونفى عن النبي صلى الله عليه وسلم رميهم، مع أنه رماهم يوم بدر بالحصباء في وجوههم ؟   !
قلتُ : نفي الفعل عنهم وعنه باعتبار الإيجاد، إذ الموجد له حقيقة هو الله تعالى، وإثباته لهم وله باعتبار الكسب والصورة( ١ ).
١ - معنى الآية: فلم تقتلوهم أيها المسلمون بقوتكم وقدرتكم، ولكن الله قتلهم بإلقاء الرعب في قلوبهم، وما رميت يا محمد في الحقيقة أعين الكفار بقبضة من تراب، ولكن الله أوصلها إليهم، فالأمر في الحقيقة له سبحانه وتعالى..
قوله تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله ولا تولّوا عنه وأنتم تسمعون ﴾ [ الأنفال : ٢٠ ] ثنّى في الأمر، وأفرد في النهي، تحرّزا بالإفراد عن الإخلال بالأدب من النبي صلى الله عليه وسلم، عن نهيه الكفار في قِرانه بين اسمه واسم الله تعالى، في ذكرهما بلفظ واحد، كما رُوي أن خطيبا خطب فقال :«بئس خطيب القوم أنت، هلاّ قلت : ومن عصى الله ورسوله فقد غوى »  ! !
أو أُفرد باعتبار عوده إلى الله وحده، لأنه الأصل، مع أن طاعة الله، وطاعة رسوله متلازمتان. أو أنّ الاسم المفرد، يأتي في لغة العرب ويُراد به الاثنان والجمع، كقولهم : إنعام فلان ومعروفه يُغنيني، والإنعام والمعروف لا ينفع مع فلان، وعلى ذلك قوله تعالى :﴿ والله ورسوله أحقّ أن يُرضوه ﴾ [ التوبة : ٦٢ ].
قوله تعالى :﴿ ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ولو أسمعهم لتولّوا وهم معرضون ﴾ [ الأنفال : ٢٣ ] معناه : ولو علم الله فيهم إيمانا في المستقبل، لأسمعهم سماع فهم وقبول، أو لأنطق لهم الموتى، يشهدون بصدق نبوّتك كما طلبوا، ولو أسمعهم أو أنطق لهم الموتى، يشهدون بما ذُكر، بعد أن علم أن لا خير فيهم، لتولّوا وهم معرضون، لعنادهم وجحودهم الحقَّ بعد ظهوره( ١ )، وتقدّم في البقرة الكلام على الجمع بين التولّي والإعراض.
١ - الغرض من الآية تسلية النبي صلى الله عليه وسلم في عدم إيمان المشركين، فإن الله تعالى لو علم فيهم الخير والإيمان لهداهم إليه، ولكنهم لفرط جحودهم وعنادهم، لو أسمعهم الله على سبيل الفرض –وقد علم أن لا خير فيهم- للجّوا في كفرهم وعنادهم..
قوله تعالى :﴿ وما كان الله ليعذّبهم وأنت فيهم ﴾ [ الأنفال : ٣٣ ] الآية.
إن قلتَ : قد عذّبهم الله يوم بدر والنبي صلى الله عليه وسلم فيهم ؟
قلتُ : المراد ﴿ وأنت فيهم ﴾ [ الأنفال : ٣٣ ] مقيم بمكة، وتعذيبهم ببدر إنما كان بعد خروجه من مكة.
أو المراد : ما كان الله ليعذبهم العذاب الذي طلبوه وهو إمطار الحجارة( ١ ) وأنت فيهم.
١ - المراد بالعذاب هنا عذاب الاستئصال، الذي طلبوه في كلمتهم الشنيعة ﴿وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم﴾ فهم قد طلبوا الهلاك لأنفسهم لسفههم، فذكر تعالى أنه لا يعذبهم ذلك العذاب الشامل، إكراما لرسوله صلى الله عليه وسلم حيث بعثه الله رحمة للعالمين، وقد جرت سنة الله تعالى، ألا يعذب أمة ونبيّها بين ظهرانيها، كما قال ابن عباس: لم تُعذّب أمة قطّ ونبيّها فيها !!.
قوله تعالى :﴿ وما لهم ألا يعذّبهم الله وهم يصدّون عن المسجد الحرام ﴾ [ الأنفال : ٣٤ ] الآية.
إن قلتَ : هذا ينافي قوله أولا ﴿ وما كان الله ليعذّبهم وأنت فيهم ﴾ ؟   ! [ الأنفال : ٣٣ ].
قلتُ : لا منافاة، لأن الأول مقيّد بكونه صلى الله عليه وسلم فيهم، والثاني بخروجه عنهم. أو المراد : بالأول عذاب الدنيا، وبالثاني عذاب الآخرة.
قوله تعالى :﴿ وما كان صلاتُهم عند البيت إلا مُكاء وتصدية ﴾ [ الأنفال : ٣٥ ] الآية، أي إلا صفيراً وتصفيفا.
قوله تعالى :﴿ وإذ يريكموهم إذِ التقيتم في أعينكم قليلا ﴾ [ الأنفال : ٤٤ ] الآية.
إن قلتَ : فائدة تقليل الكفّار في أعين المؤمنين ظاهر، وهو زوال الرعب من قلوب المؤمنين، فما فائدة تقليل المؤمنين في أعين الكفار، في قوله :﴿ ويقلّلكم في أعينهم ﴾ ؟ [ الأعراف : ٤٤ ].
قلتُ : فائدته ألا يبالغوا في الاستعداد لقتال المؤمنين، لظنهم كمال قدرتهم فيقدموا عليهم، ثم تفجؤهم كثرة المؤمنين، فيُدهشوا، ويتحيروا، ويفشلوا.
قوله تعالى :﴿ ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم ﴾ [ الأنفال : ٤٦ ] الآية. أي لا تتنازعوا في أمر الحرب، بأن تختلفوا فيه، وإلا فالمنازعة في إظهار الحقّ مطلوبة، كما قال تعالى :﴿ وجادلهم بالتي هي أحسن ﴾ [ النحل : ١٢٥ ].
قوله تعالى :﴿ إني أخاف الله والله شديد العقاب ﴾ [ الأنفال : ٤٨ ].
إن قلتَ : كيف قال الشيطان ذلك، مع أنه لا يخافه، وإلا لما خالفه وأضلّ عبيده ؟   !
قلتُ : قاله كذبا كما قاله قتادة( ١ )، أو صدقا كما قاله عطاء، لكنه خالف عناداً.
أو الخوف بمعنى العلم، كما في قوله تعالى :﴿ إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله ﴾ [ البقرة : ٢٢٩ ] أي أعلم صدق وعد الله نبيّه النصر.
١ - قال قتادة: قال إبليس: ﴿إني أرى ما لا ترون﴾ وصدق فقد رأى الملائكة يتقدمهم جبريل، وقال: ﴿إني أخاف الله﴾ وكذب والله، ما به مخافة الله، ولكنه علم أنه لا قوة له ولا منعة. وانظر كتابنا صفوة التفاسير ١/٥٠٨..
قوله تعالى :﴿ ومن يتوكّل على الله فإن الله عزيز حكيم ﴾ [ الأنفال : ٤٩ ]. جوابه محذوف أي يَغْلِبْ، دلَّ عليه قوله تعالى :﴿ فإن الله عزيز حكيم ﴾ أي غالب.
قوله تعالى :﴿ كدأب آل فرعون والذين من قبلهم ﴾ [ الأنفال : ٥٤ ] الآية. كرّره( ١ ) لأن الأول إخبار عن عذاب، لم يمكِّنِ اللهُ أحدا من فعله، وهو ضربُ الملائكة وجوههم وأدبارهم، عند نزع أرواحهم.
والثاني : إخبار عن عذاب مكَّن الله ُ الناس من فعل مثله، وهو الإهلاك والإغراق.
أو معنى الأول ﴿ كدأب آل فرعون ﴾ [ الأنفال : ٥٢ ] فيما فعلوا، والثاني ﴿ كدأب آل فرعون ﴾ فيما فُعِلَ بهم.
أو المراد بالأول كفرهم بالله، وبالثاني تكذيبهم الأنبياء.
١ - جاءت الآية مكررة مرتين الثانية: ﴿كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كذّبوا بآيات ربهم فأهلكناهم بذنوبهم وأغرقنا آل فرعون وكل كانوا ظالمين﴾ والأولى هي التي ذكرها وتتمتها ﴿كفروا بآيات الله فأخذهم الله بذنوبهم إن الله قوي شديد العقاب﴾..
قوله تعالى :﴿ إن شرّ الدّواب عند الله الذين كفروا فهم لا يؤمنون ﴾ [ الأنفال : ٥٥ ] فإن قلتَ : ما فائدة قوله :﴿ فهم لا يؤمنون ﴾ بعد ذكر ما قبله ؟   !
قلتُ : مرادُه أن يبيّن أن شرّ الدواب هم الذين كفروا، واستمرّوا على كفرهم إلى وقت موتهم.
قوله تعالى :﴿ فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين... ﴾ [ الأنفال : ٦٦ ] الآيتين. حاصله أن البعض منا يقاوم عشرة أعشاره منهم قبل التخفيف، ويقاوم ضعفه بعده... وقد كرّر كلا من المعنيين في الآيتين.
وفائدة التكرار الدّلالة على أن الحال مع الكثرة والقلة لا يختلف، فكما تغلِب العشرون المائتين، تغلب المائة الألف، وكما تغلب المائة المائتين، يغلب الألف الألفين.
قوله تعالى :﴿ تريدون عرض الدّنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم ﴾ [ الأنفال : ٦٧ ]. ﴿ والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم ﴾ أي ثوابها، وإلا فهو كما يريد الآخرة، يريد الدنيا وإلا فما وُجدت.
قوله تعالى :﴿ إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله ﴾ [ الأنفال : ٧٢ ]. قدّم هنا ﴿ بأموالهم وأنفسهم ﴾ على قوله :﴿ في سبيل الله ﴾ وعكس في " براءة " ( ١ ) لأن ما هنا تقدَّمه ذكر المال والأنفس، في قوله تعالى :﴿ تريدون عرض الدنيا ﴾ وقوله :﴿ لولا كتاب من الله سبق لمسّكم فيما أخذتم ﴾ [ الأنفال : ٦٨ ] أي من الفداء، وقوله :﴿ فكلوا مما غنمتم ﴾ [ الأنفال : ٦٩ ] وما في براءة تقدَّمه ذكر ﴿ في سبيل الله ﴾ [ الأنفال : ٧٢ ] فناسب تقديم ﴿ بأموالهم وأنفسهم ﴾ [ الأنفال : ٧٢ ] وتقديم ﴿ في سبيل الله ﴾ ثَمَّ.
١ - أشار إلى قوله تعالى: ﴿الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله وأولئك هم الفائزون﴾ التوبة: ٢٠..
سورة الأنفال
معلومات السورة
الكتب
الفتاوى
الأقوال
التفسيرات

اعتنَتْ سورةُ (الأنفال) ببيانِ أحكامِ الحرب والغنائمِ والأَسْرى؛ ولذا سُمِّيتْ بهذا الاسمِ، وقد نزَلتْ هذه السورةُ في المدينةِ بعد غزوة (بَدْرٍ)؛ لذا تعلَّقتْ أسبابُ نزولها بهذه الغزوة، وقد أبانت السورةُ عن قوانين النَّصر المادية: كتجهيز العَتاد، والمعنوية: كوَحْدة الصَّف، وأوضَحتْ حُكْمَ الفِرار من المعركة، وقتالِ الكفار، وما يَتبَع ذلك من أحكامٍ ربانيَّة، كما أصَّلتْ - بشكل رئيسٍ - لقواعدِ عَلاقة المجتمع المسلم بغيره.

ترتيبها المصحفي
8
نوعها
مدنية
ألفاظها
1243
ترتيب نزولها
88
العد المدني الأول
76
العد المدني الأخير
67
العد البصري
76
العد الكوفي
75
العد الشامي
77

تعلَّقتْ سورةُ (الأنفال) بوقائعَ كثيرةٍ؛ لذا صحَّ في أسبابِ نزولها الكثيرُ؛ من ذلك:

* ما جاء عن سعيدِ بن جُبَيرٍ رحمه الله، قال: «قلتُ لابنِ عباسٍ: سورةُ التَّوبة؟ قال: التَّوبةُ هي الفاضحةُ، ما زالت تَنزِلُ: ﴿وَمِنْهُمْ﴾ ﴿وَمِنْهُمْ﴾ حتى ظَنُّوا أنَّها لن تُبقِيَ أحدًا منهم إلا ذُكِرَ فيها، قال: قلتُ: سورةُ الأنفالِ؟ قال: نزَلتْ في بَدْرٍ، قال: قلتُ: سورةُ الحشرِ؟ قال: نزَلتْ في بني النَّضِيرِ». أخرجه مسلم (٣٠٣١).

* قوله تعالى: ﴿يَسْـَٔلُونَكَ عَنِ اْلْأَنفَالِۖ قُلِ اْلْأَنفَالُ لِلَّهِ وَاْلرَّسُولِۖ فَاْتَّقُواْ اْللَّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بَيْنِكُمْۖ وَأَطِيعُواْ اْللَّهَ وَرَسُولَهُۥٓ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾ [الأنفال: 1]:

عن سعدِ بن أبي وقَّاصٍ رضي الله عنه، قال: «لمَّا كان يومُ بدرٍ جئتُ بسيفٍ، فقلتُ: يا رسولَ اللهِ، إنَّ اللهَ قد شَفَى صدري مِن المشركين - أو نحوَ هذا -، هَبْ لي هذا السيفَ، فقال: «هذا ليس لي، ولا لك»، فقلتُ: عسى أن يُعطَى هذا مَن لا يُبلِي بلائي، فجاءني الرسولُ، فقال: «إنَّك سألْتَني وليس لي، وإنَّه قد صار لي، وهو لك»، قال: فنزَلتْ: ﴿يَسْـَٔلُونَكَ عَنِ اْلْأَنفَالِۖ﴾ الآيةَ». أخرجه الترمذي (٣٠٧٩).

وعن عُبَادةَ بن الصامتِ رضي الله عنه، قال: «خرَجْنا مع النبيِّ ﷺ، فشَهِدتُّ معه بدرًا، فالتقى الناسُ، فهزَمَ اللهُ العدوَّ، فانطلَقتْ طائفةٌ في آثارِهم يَهزِمون ويقتُلون، وأكَبَّتْ طائفةٌ على العسكرِ يَحْوُونه ويَجمَعونه، وأحدَقتْ طائفةٌ برسولِ الله ﷺ؛ لا يُصِيبُ العدوُّ منه غِرَّةً، حتى إذا كان الليلُ وفاءَ الناسُ بعضُهم إلى بعضٍ، قال الذين جمَعوا الغنائمَ: نحن حوَيْناها وجمَعْناها؛ فليس لأحدٍ فيها نصيبٌ! وقال الذين خرَجوا في طلبِ العدوِّ: لستم بأحَقَّ بها منَّا؛ نحن نفَيْنا عنها العدوَّ وهزَمْناهم! وقال الذين أحدَقوا برسولِ اللهِ ﷺ: لستم بأحَقَّ بها منَّا؛ نحن أحدَقْنا برسولِ اللهِ ﷺ، وخِفْنا أن يُصِيبَ العدوُّ منه غِرَّةً، واشتغَلْنا به! فنزَلتْ: ﴿يَسْـَٔلُونَكَ عَنِ اْلْأَنفَالِۖ قُلِ اْلْأَنفَالُ لِلَّهِ وَاْلرَّسُولِۖ فَاْتَّقُواْ اْللَّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بَيْنِكُمْۖ﴾ [الأنفال: 1]، فقسَمَها رسولُ اللهِ ﷺ على فُوَاقٍ بين المسلمين، قال: وكان رسولُ اللهِ ﷺ إذا أغارَ في أرضِ العدوِّ نفَّلَ الرُّبُعَ، وإذا أقبَلَ راجعًا وكَلَّ الناسُ نفَّلَ الثُّلُثَ، وكان يَكرَهُ الأنفالَ، ويقولُ: «لِيَرُدَّ قويُّ المؤمنين على ضعيفِهم»». أخرجه أحمد (٢٢٧٦٢).

* قوله تعالى: ﴿إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاْسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٖ مِّنَ اْلْمَلَٰٓئِكَةِ مُرْدِفِينَ﴾ [الأنفال: 9]:

عن عبدِ اللهِ بن عباسٍ رضي الله عنهما، قال: «حدَّثني عُمَرُ بن الخطَّابِ، قال: لمَّا كان يومُ بَدْرٍ نظَرَ رسولُ اللهِ ﷺ إلى المشركين وهم ألفٌ، وأصحابُه ثلاثُمائةٍ وتسعةَ عشَرَ رجُلًا، فاستقبَلَ نبيُّ اللهِ ﷺ القِبْلةَ، ثم مَدَّ يدَيهِ، فجعَلَ يَهتِفُ برَبِّهِ: اللهمَّ أنجِزْ لي ما وعَدتَّني، اللهمَّ آتِ ما وعَدتَّني، اللهمَّ إن تَهلِكْ هذه العصابةُ مِن أهلِ الإسلامِ لا تُعبَدْ في الأرضِ، فما زالَ يَهتِفُ برَبِّهِ، مادًّا يدَيهِ، مستقبِلَ القِبْلةِ، حتى سقَطَ رداؤُهُ عن مَنكِبَيهِ، فأتاه أبو بكرٍ، فأخَذَ رداءَهُ، فألقاه على مَنكِبَيهِ، ثم التزَمَه مِن ورائِه، وقال: يا نبيَّ اللهِ، كفَاك مُناشَدتُك ربَّك؛ فإنَّه سيُنجِزُ لك ما وعَدَك؛ فأنزَلَ اللهُ عز وجل: ﴿إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاْسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٖ مِّنَ اْلْمَلَٰٓئِكَةِ مُرْدِفِينَ﴾ [الأنفال: 9]، فأمَدَّه اللهُ بالملائكةِ». أخرجه مسلم (١٧٦٣).

* قوله تعالى: ﴿وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٖ دُبُرَهُۥٓ﴾ [الأنفال: 16]:

عن أبي سعيدٍ رضي الله عنه، قال: «نزَلتْ في يومِ بدرٍ: ﴿وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٖ دُبُرَهُۥٓ﴾ [الأنفال: 16]». أخرجه أبو داود (٢٦٤٨).

* قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اْللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْۚ وَمَا كَانَ اْللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ٣٣ وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اْللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ اْلْمَسْجِدِ اْلْحَرَامِ} [الأنفال: 33، 34]:

عن أنسِ بن مالكٍ رضي الله عنه، قال: «قال أبو جهلٍ: اللهمَّ إن كان هذا هو الحقَّ مِن عندِك، فأمطِرْ علينا حجارةً مِن السماءِ، أو ائتِنا بعذابٍ أليمٍ؛ فنزَلتْ: {وَمَا كَانَ اْللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْۚ وَمَا كَانَ اْللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ٣٣ وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اْللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ اْلْمَسْجِدِ اْلْحَرَامِ} الآيةَ». أخرجه البخاري (٤٦٤٩).

سُمِّيتْ سورةُ (الأنفال) بذلك؛ لأنها بدأت بالحديثِ عن (الأنفال).

كما سُمِّيتْ أيضًا بسورة (بَدْرٍ): لِما صحَّ عن سعيدِ بن جُبَيرٍ رحمه الله، قال: «قلتُ لابنِ عباسٍ: سورةُ الأنفالِ؟ قال: تلك سورةُ بَدْرٍ». أخرجه مسلم (٣٠٣١).

ووجهُ التسمية بذلك ظاهرٌ؛ لأنها نزَلتْ بعد غزوةِ (بَدْرٍ)، وتحدَّثتْ بشكلٍ رئيس عن هذه الغزوةِ.

* أنَّ من أخَذها عُدَّ حَبْرًا:

فعن عائشةَ رضي الله عنها، عن رسولِ الله ﷺ، قال: «مَن أخَذَ السَّبْعَ الأُوَلَ مِن القرآنِ، فهو حَبْرٌ». أخرجه أحمد (24575).

* أنها تقابِلُ التَّوْراةَ مع بقيَّةِ السُّوَر الطِّوال:

فعن واثلةَ بن الأسقَعِ رضي الله عنه، قال: قال رسولُ الله ﷺ: «أُعطِيتُ مكانَ التَّوْراةِ السَّبْعَ الطِّوالَ». أخرجه أحمد (17023).

جاءت موضوعاتُ سورةِ (الأنفال) كما يلي:

* قوانينُ ربَّانية {وَمَا ‌اْلنَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِندِ اْللَّهِۚ}:

1. الأنفالُ وصفاتُ المؤمنين الصادقين (١ -٤).

2. غزوة (بدر) (٥-١٤).

3. حرمةُ الفرار من المعركة، ومِنَّة الله بالنصر والتأييد (١٥-١٩).

4. طاعة الله ورسوله، والنهيُ عن خيانة الأمانة (٢٠-٢٩).

5. نماذجُ من عداوة المشركين للمؤمنين (٣٠-٤٠).

6. توزيعُ غنائمِ (بدر) مع التذكير بما دار في المعركة (٤١-٤٤).

* قوانينُ مادية {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اْسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٖ}:

7. من شروط النصر، وأسباب الهزيمة (٤٥-٤٩).

8. نماذجُ من تعذيب الله للكافرين (٥٠-٥٤).

9. قواعد السلم والحرب والمعاهَدات الدولية (٥٥-٦٣).

10. وَحْدة الصف، والتخفيف في القتال (٦٤-٦٦).

11. العتاب في أُسارى (بدر) (٦٧- ٧١).

12. قواعدُ في علاقة المجتمع الإسلامي بغيره (٧٢-٧٥).

ينظر: "التفسير الموضوعي للقرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (3 /131).

افتُتِحت السُّورةُ بمقصدٍ عظيم؛ وهو بيانُ أحكامِ (الأنفال)، والأمرُ بتقوى الله وطاعتِه وطاعة رسوله، في ذلك وغيره، وأمرُ المسلمين بإصلاح ذاتِ بينهم، وأن ذلك من مقوِّمات معنى الإيمان الكامل، واشتمَلتْ على تذكيرِ النبي ﷺ بنعمةِ الله عليه إذ أنجاه من مكرِ المشركين به بمكَّةَ، وخلَّصه من عنادِهم. ثمَّ قصَدتْ دعوةَ المشركين للانتهاء عن مناوأةِ الإسلام، وإيذانِهم بالقتال، والتحذيرِ من المنافقين، وضربِ المَثَل بالأُمم الماضية التي عانَدتْ رُسُلَ الله ولم يشكروا نعمةَ الله، كما قصَدتْ بيانَ أحكام العهد بين المسلمين والكفار، وما يَترتَّب على نقضِهم العهدَ، ومتى يحسُنُ السلمُ.

ينظر: "التحرير والتنوير" لابن عاشور (9 /248).