تفسير سورة العلق

تفسير ابن كثير

تفسير سورة سورة العلق من كتاب تفسير القرآن العظيم المعروف بـتفسير ابن كثير.
لمؤلفه ابن كثير . المتوفي سنة 774 هـ
تفسير سورة اقرأ
وهي أول شيء نزل من القرآن.

تَفْسِيرُ سُورَةِ اقْرَأْ
وَهِيَ أَوَّلُ شَيْءٍ نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (١) خَلَقَ الإنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (٢) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأكْرَمُ (٣) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (٤) عَلَّمَ الإنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (٥) ﴾
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا مَعْمَر، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَة، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ فِي النَّوْمِ، فَكَانَ لَا يَرَى رُؤْيَا إِلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَق الصُّبْحِ. ثُمَّ حُبب إِلَيْهِ الْخَلَاءُ، فَكَانَ يَأْتِي حِرَاءَ فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ -وَهُوَ: التَّعَبُّدُ-اللَّيَالِي ذواتَ الْعَدَدِ، وَيَتَزَوَّدُ لِذَلِكَ ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى خَدِيجَةَ فَتُزَوِّد (١) لِمَثْلِهَا حَتَّى فَجَأه الْحَقُّ وَهُوَ فِي غَارِ حِرَاءَ، فَجَاءَهُ الْمَلَكُ فِيهِ فَقَالَ: اقْرَأْ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فَقُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ". قَالَ: "فَأَخَذَنِي فَغَطَّني حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجُهْدُ ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ: اقْرَأْ. فَقُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ. فَغَطَّني الثَّانِيَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجُهْدُ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ: اقْرَأْ. فَقُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ. فَغَطَّنِي الثَّالِثَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجُهْدُ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾ حَتَّى بَلَغَ: ﴿مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾ قَالَ: فَرَجَعَ بِهَا تَرجُف بَوادره (٢) حَتَّى دَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ فَقَالَ: "زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي". فَزَمَّلُوهُ حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْع. فَقَالَ: يَا خَدِيجَةُ، مَا لِي: فَأَخْبَرَهَا الْخَبَرَ وَقَالَ: "قَدْ خَشِيتُ عَلَيَّ". فَقَالَتْ لَهُ: كَلَّا أَبْشِرْ فَوَاللَّهِ لَا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا؛ إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وتصدُق الْحَدِيثَ، وَتَحْمِلُ الكَلَّ، وَتُقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبَ الْحَقِّ. ثُمَّ انْطَلَقَتْ بِهِ خَدِيجَةُ حَتَّى أَتَتْ بِهِ وَرَقة بْنَ نَوْفَلِ بْنِ أسَد بْنِ عَبْدِ العُزى ابن قُصي -وهو ابن عم خديجة، أخي أَبِيهَا، وَكَانَ امْرَأً تَنَصَّرَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَكَانَ يَكْتُبُ الْكِتَابَ الْعَرَبِيَّ، وَكَتَبَ بِالْعَرَبِيَّةِ مِنَ الْإِنْجِيلِ (٣) مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يُكْتَبَ، وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا قَدْ عَميَ -فَقَالَتْ خَدِيجَةُ: أَيِ ابْنَ عَمِّ، اسْمَعْ مِنَ ابْنِ أَخِيكَ. فَقَالَ وَرَقَةُ: ابنَ أَخِي، مَا تَرَى؟ فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا رَأَى، فَقَالَ وَرَقَةُ: هَذَا النَّامُوسُ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى مُوسَى (٤) لَيْتَنِي (٥) فِيهَا جَذعا أكونُ حَيًّا حِينَ يُخْرِجُكَ قَوْمَكَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أومخرجيَّ هُم؟ ". فَقَالَ وَرَقَةُ: نَعَمْ، لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بِمَا جِئْتَ بِهِ (٦) إِلَّا عُودِيَ، وَإِنْ يُدركني يَوْمُكَ أنصُرْكَ نَصْرًا مُؤزرًا. [ثُمَّ] (٧) لَمْ ينشَب وَرَقة أَنْ تُوُفِّي، وفَتَر الْوَحْيُ فَتْرَةً حَتَّى حَزن رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -فِيمَا بَلَغَنَا-حُزْنًا غَدَا مِنْهُ مِرَارًا كَيْ يَتَردى مِنْ رُءُوسِ شَوَاهق الْجِبَالِ، فَكُلَّمَا أَوْفَى بِذُرْوَةِ جَبَلٍ لِكَيْ يُلْقِيَ نفسه منه، تبدى له
(١) في م، أ: "فتزوده".
(٢) في أ: "يرجف فؤاده".
(٣) في م،: "وكتب من الإنجيل بالعربية".
(٤) في أ: "على عيسى".
(٥) في م: "يا ليتني".
(٦) في أ: "بمثل ما جئت به".
(٧) زيادة من م، أ، والمسند.
جِبْرِيلُ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، إِنَّكَ رسولُ اللَّهِ حَقًا. فَيَسْكُنُ بِذَلِكَ جَأْشُهُ، وتَقَرُّ نَفْسُهُ فَيَرْجِعُ. فَإِذَا طَالَتْ عَلَيْهِ فَتْرَةُ الْوَحْيِ غَدَا لِمِثْلِ ذَلِكَ، فَإِذَا أَوْفَى بِذُرْوَةِ الْجَبَلِ تَبَدى لَهُ جِبْرِيلُ، فَقَالَ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ.
وَهَذَا الْحَدِيثُ مُخَرَّجٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ (١) وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ جِهَةِ سَنَدِهِ وَمَتْنِهِ وَمَعَانِيهِ فِي أَوَّلِ شَرْحِنَا لِلْبُخَارِيِّ مُسْتَقْصًى، فَمَنْ أَرَادَهُ فَهُوَ هُنَاكَ مُحَرَّرٌ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
فَأَوَّلُ شَيْءٍ [نَزَلَ] (٢) مِنَ الْقُرْآنِ هَذِهِ الْآيَاتُ الْكَرِيمَاتُ الْمُبَارَكَاتُ (٣) وهُنَّ أَوَّلُ رَحْمَةٍ رَحم اللَّهُ بِهَا الْعِبَادَ، وَأَوَّلُ نِعْمَةٍ أَنْعَمَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْهِمْ. وَفِيهَا التَّنْبِيهُ عَلَى ابْتِدَاءِ خَلْقِ الْإِنْسَانِ مِنْ عَلَقَةٍ، وَأَنَّ مِنْ كَرَمه تَعَالَى أَنْ عَلّم الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ، فَشَرَّفَهُ وَكَرَّمَهُ بِالْعِلْمِ، وَهُوَ الْقَدْرُ الَّذِي امْتَازَ بِهِ أَبُو الْبَرِيَّةِ آدَمُ عَلَى الْمَلَائِكَةِ، وَالْعِلْمُ تَارَةً يَكُونُ فِي الْأَذْهَانِ، وَتَارَةً يَكُونُ فِي اللِّسَانِ، وَتَارَةً يَكُونُ فِي الْكِتَابَةِ بِالْبَنَانِ، ذِهْنِيٌّ وَلَفْظِيٌّ وَرَسْمِيٌّ، وَالرَّسْمِيُّ يَسْتَلْزِمُهُمَا مِنْ غَيْرِ عَكْسٍ، فَلِهَذَا قَالَ: ﴿اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الإنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾ وَفِي الْأَثَرِ: قَيِّدُوا الْعِلْمَ بِالْكِتَابَةِ (٤). وَفِيهِ أَيْضًا: "مَنْ عَمِلِ بِمَا عَلِمَ رَزَقَهُ (٥) اللَّهُ عِلْمَ مَا لَمْ يَكُنْ [يَعْلَمْ] (٦).
﴿كَلا إِنَّ الإنْسَانَ لَيَطْغَى (٦) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (٧) إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى (٨) أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (٩) عَبْدًا إِذَا صَلَّى (١٠) أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى (١١) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى (١٢) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (١٣) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى (١٤) كَلا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ (١٥) نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ (١٦) فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ (١٧) سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ (١٨) كَلا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (١٩) ﴾
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنِ الْإِنْسَانِ أَنَّهُ ذُو فَرَحٍ وَأَشَرٍ وَبَطَرٍ وَطُغْيَانٍ، إِذَا رَأَى نَفْسَهُ قَدِ اسْتَغْنَى وَكَثُرَ مَالُهُ. ثُمَّ تَهدده وَتَوَعَّدَهُ وَوَعَظَهُ فَقَالَ: ﴿إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى﴾ أَيْ: إِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ وَالْمَرْجِعُ، وَسَيُحَاسِبُكَ عَلَى مَالِكِ: مِنْ أَيْنَ جَمَعْتَهُ؟ وَفِيمَ صَرَفْتَهُ؟
قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الصَّائِغُ، حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ عَوْنٍ، حَدَّثَنَا أَبُو عُمَيس، عَنْ عَوْنٍ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: مَنهومان لَا يَشْبَعَانِ، صَاحِبُ العلم وصاحب الدنيا، ولا يستويان،
(١) المسند (٦/٢٣٢) وصحيح البخاري برقم (٣، ٤، ٤٩٥٣، ٦٩٨٢، ٤٩٥٥، ٣٣٩٢) وصحيح مسلم برقم (١٦٠).
(٢) زيادة من م، أ.
(٣) في م: "المباركة".
(٤) جاء عن عمر -رضي الله عنه- موقوفا، رواه الحاكم في المستدرك (١/١٠٦) وابن أبي شيبة في المصنف (٩/٤٩) والدارمي في السنن برقم (٥٠٣). وعن أنس موقوفا، رواه الحاكم في المستدرك (١/١٠٦) والرامهرمزي في المحدث الفاصل (ص٣٦٨)، وجاء مرفوعا من حديث أنس، رواه الخطيب في تقييد العلم (ص ٧٠) والرامهرمزي في المحدث الفاصل (ص ٣٦٨). ومن حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، رواه الحاكم في المستدرك (١/١٠٦) وابن عبد البر في جمع بيان العلم (١/٧٣) والموقوف أصح.
(٥) في م: "أورثه".
(٦) زيادة من م، أ.
437
فَأَمَّا صَاحِبُ الْعِلْمِ فَيَزْدَادُ رِضَا الرَّحْمَنِ، وَأَمَّا صَاحِبُ الدُّنْيَا فَيَتَمَادَى فِي الطُّغْيَانِ. قَالَ ثُمَّ قَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ: ﴿إِنَّ الإنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى﴾ وَقَالَ لِلْآخَرِ: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾ [فَاطِرٍ: ٢٨].
وَقَدْ رُوي هَذَا مَرْفُوعًا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْهُومَانِ لَا يَشْبَعَانِ: طَالِبُ عِلْمٍ، وَطَالِبُ دُنْيَا" (١).
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ﴿أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى عَبْدًا إِذَا صَلَّى﴾ نَزَلَتْ فِي أَبِي جَهْلٍ، لَعَنَهُ اللَّهُ، تَوَعَّدَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الصَّلَاةِ عِنْدَ الْبَيْتِ، فَوَعَظَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ أَوَّلًا فَقَالَ: ﴿أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى﴾ أَيْ: فَمَا ظَنُّكَ إِنْ كَانَ هَذَا الَّذِي تَنْهَاهُ عَلَى الطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمَةِ فِي فِعْلِهِ، أَوْ ﴿أَمَرَ بِالتَّقْوَى﴾ بِقَوْلِهِ، وَأَنْتَ تَزْجُرُهُ وَتَتَوَعَّدُهُ عَلَى صِلَاتِهِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى﴾ أَيْ: أَمَا عَلِمَ هَذَا النَّاهِي لِهَذَا الْمُهْتَدِي أَنَّ اللَّهَ يَرَاهُ وَيَسْمَعُ كَلَامَهُ، وَسَيُجَازِيهِ عَلَى فِعْلِهِ أَتَمَّ الْجَزَاءِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مُتَوَعِّدًا وَمُتَهَدِّدًا: ﴿كَلا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ﴾ أَيْ: لَئِنْ لَمْ يَرْجِعْ عَمَّا هُوَ فِيهِ مِنَ الشِّقَاقِ وَالْعِنَادِ ﴿لَنَسْفَعَنْ بِالنَّاصِيَةِ﴾ أَيْ: لنَسمَنَّها سَوَادًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
ثُمَّ قَالَ: ﴿نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ﴾ يَعْنِي: نَاصِيَةَ أَبِي جَهْلٍ كَاذِبَةً فِي مَقَالِهَا خَاطِئَةً فِي فعَالها.
﴿فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ﴾ أَيْ: قَوْمَهُ وَعَشِيرَتَهُ، أَيْ: لِيَدَعُهُمْ يَسْتَنْصِرُ بِهِمْ، ﴿سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ﴾ وَهُمْ مَلَائِكَةُ الْعَذَابِ، حَتَّى يَعْلَمَ مَنْ يغلبُ: أحزبُنا أَوْ حِزْبُهُ.
قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَر، عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ الجَزَري، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: قَالَ أَبُو جَهْلٍ: لَئِنْ رَأَيْتُ مُحَمَّدًا يُصَلِّي عِنْدَ الْكَعْبَةِ لَأَطَأَنَّ عَلَى عُنُقه. فبَلغَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: "لَئِنْ فَعَلَهُ لَأَخَذَتْهُ الْمَلَائِكَةُ". ثُمَّ قَالَ: تَابَعَهُ عَمْرُو بْنُ خَالِدٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ -يَعْنِي ابْنَ عَمْرٍو-عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ (٢).
وَكَذَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ فِي تَفْسِيرِهِمَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، بِهِ (٣) وَهَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ، عَنْ أَبِي كُرَيْب، عَنْ زَكَرِيَّا بْنِ عَدِيّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، بِهِ (٤).
وَرَوَى أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ (٥) وَابْنُ جَرِيرٍ -وَهَذَا لَفْظُهُ-من طريق داود بن أبي هند، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي عِنْدَ الْمَقَامِ فَمَرَّ بِهِ أَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، أَلَمْ أَنْهَكَ عَنْ هَذَا؟ -وَتَوعَّده-فَأَغْلَظَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وانتهره، فقال: يا محمد،
(١) رواه الحاكم في المستدرك (١/٩٢) من طريق قتادة، عن أنس به مرفوعا، ورواه الطبراني في المعجم الكبير (١٠/٢٢٣) من طريق زيد بن وهب، عن ابن مسعود به مرفوعا، وفي إسناده ضعيف.
(٢) صحيح البخاري برقم (٤٩٥٨).
(٣) سنن الترمذي برقم (٣٣٤٨) وسنن النسائي برقم (١١٦٨٥).
(٤) تفسير الطبري (٣٠/١٦٥).
(٥) في م، أ: "والترمذي والنسائي".
438
بِأَيِّ شَيْءٍ تُهَدِّدُنِي؟ أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لَأَكْثَرُ هَذَا الْوَادِي نَادِيًا! فَأَنْزَلَ اللَّهُ: ﴿فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ﴾ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَوْ دَعَا نَادِيَهُ لَأَخَذَتْهُ مَلَائِكَةُ الْعَذَابِ مِنْ سَاعَتِهِ (١) وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ أَيْضًا: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ زَيْدٍ أَبُو يَزِيدَ، حَدَّثَنَا فُرَات، عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ أَبُو جَهْلٍ: لَئِنْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ يُصَلِّي عِنْدَ الْكَعْبَةِ لَآتِيَنَّهُ حَتَّى أَطَأَ عَلَى عُنُقِهِ. قَالَ: فَقَالَ: "لَوْ فَعَلَ لَأَخَذَتْهُ الْمَلَائِكَةُ عِيَانًا، وَلَوْ أَنَّ الْيَهُودَ تَمَنَّوا الْمَوْتَ لَمَاتُوا وَرَأَوْا مَقَاعِدَهُمْ مِنَ النَّارِ، وَلَوْ خَرَجَ الَّذِينَ يُبَاهلون رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَرَجَعُوا لَا يَجِدُونَ مَالًا وَلَا أَهْلًا" (٢).
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ أَيْضًا: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ وَاضِحٍ، أَخْبَرَنَا يُونُسُ بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ الْعَيْزَارِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ أَبُو جَهْلٍ: لَئِنْ عَادَ مُحَمَّدٌ يُصَلِّي عِنْدَ الْمَقَامِ لَأَقْتُلَنَّهُ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ [خَلَقَ الإنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ] ﴾ (٣) حَتَّى بَلَغَ هَذِهِ الْآيَةَ: ﴿لَنَسْفَعَنْ بِالنَّاصِيَةِ نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ﴾ فَجَاءَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَلَّى (٤) فَقِيلَ: مَا يَمْنَعُكَ؟ قَالَ: قَدِ اسْوَدَّ مَا بَيْنِي وَبَيْنَهُ مِنَ الْكَتَائِبِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَاللَّهِ لَوْ تَحَرَّكَ لَأَخَذَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَالنَّاسُ يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ (٥).
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِرُ، عَنْ أَبِيهِ، حَدَّثَنَا نُعَيْمُ بْنُ أَبِي هِنْدٍ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيرة قَالَ: قَالَ أَبُو جَهْلٍ: هَلْ يعفِّر مُحَمَّدٌ وَجْهَهُ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ؟ قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: فَقَالَ: وَاللَّاتِ وَالْعُزَّى لَئِنْ رَأَيْتُهُ يُصَلِّي كَذَلِكَ لَأَطَأَنَّ عَلَى رَقَبَتِهِ (٦) ولأعفِّرن وَجْهَهُ فِي التُّرَابِ، فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يُصَلي لِيَطَأَ عَلَى رَقَبَتِهِ، قَالَ: فَمَا فَجأهم مِنْهُ إِلَّا وَهُوَ يَنْكِصُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَيَتَّقِي بِيَدَيْهِ، قَالَ: فَقِيلَ لَهُ: مَا لَكَ؟ فَقَالَ: إِنَّ بَيْنِي وَبَيْنَهُ خَنْدقا مِنْ نَارٍ وهَولا وَأَجْنِحَةً. قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: "لَوْ دَنَا مِنِّي لَاخْتَطَفَتْهُ الْمَلَائِكَةُ عُضْوًا عُضْوًا". قَالَ: وَأَنْزَلَ اللَّهُ -لَا أَدْرِي فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَمْ لَا-: ﴿كَلا إِنَّ الإنْسَانَ لَيَطْغَى﴾ إِلَى آخِرِ السُّورَةِ.
وَقَدْ رَوَاهُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَمُسْلِمٌ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، مِنْ حَدِيثِ مُعْتَمِرِ بْنِ سُلَيْمَانَ، بِهِ (٧).
وَقَوْلُهُ: ﴿كَلا لَا تُطِعْهُ﴾ يَعْنِي: يَا مُحَمَّدُ، لَا تُطِعْهُ فِيمَا يَنْهَاكَ عَنْهُ مِنَ الْمُدَاوَمَةِ عَلَى الْعِبَادَةِ وَكَثْرَتِهَا، وصلِّ حَيْثُ شِئْتَ وَلَا تُبَالِهِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ حَافِظُكَ وَنَاصِرُكَ، وَهُوَ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ، ﴿وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ﴾ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ -عِنْدَ مُسْلِمٍ-مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ وَهْبٍ، عن
(١) المسند (١/٣٢٩) وسنن الترمذي برقم (٣٣٤٩) وتفسير الطبري (٣٠/١٦٤).
(٢) المسند (١/٢٤٨).
(٣) زيادة من أ.
(٤) في أ: "يصلى".
(٥) تفسير الطبري (٣٠/١٦٥).
(٦) في م: "على عنقه".
(٧) تفسير الطبري (٣٠/١٦٥) والمسند (٢/٣٧٠) وصحيح مسلم برقم (٢٧٩٧) وسنن النسائي الكبرى برقم (١١٦٨٣).
439
عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ غَزِيَّةَ، عَنْ سُمَيّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ، فَأَكْثِرُوا الدُّعَاءَ" (١).
وَتَقَدَّمَ أَيْضًا: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم كَانَ يَسْجُدُ فِي: ﴿إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ﴾ وَ ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾
آخِرُ تَفْسِيرِ سورة "اقرأ" (٢).
(١) صحيح مسلم برقم (٤٨٢).
(٢) في م، أ: "آخر تفسيرها".
440
ثم تَهدده وتوعده ووعظه فقال :﴿ إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى ﴾ أي : إلى الله المصير والمرجع، وسيحاسبك على مالك : من أين جمعته ؟ وفيم صرفته ؟
قال ابن أبي حاتم : حدثنا زيد بن إسماعيل الصائغ، حدثنا جعفر بن عون، حدثنا أبو عُمَيس، عن عون قال : قال عبد الله : مَنهومان لا يشبعان : صاحب العلم وصاحب الدنيا، ولا يستويان، فأما صاحب العلم فيزداد رضا الرحمن، وأما صاحب الدنيا فيتمادى في الطغيان. قال : ثم قرأ عبد الله :﴿ إِنَّ الإنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى ﴾ وقال للآخر :﴿ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ﴾ [ فاطر : ٢٨ ].
وقد رُوي هذا مرفوعًا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم :" منهومان لا يشبعان : طالب علم، وطالب دنيا " ١.
١ - (١) رواه الحاكم في المستدرك (١/٩٢) من طريق قتادة، عن أنس به مرفوعا، ورواه الطبراني في المعجم الكبير (١٠/٢٢٣) من طريق زيد بن وهب، عن ابن مسعود به مرفوعا، وفي إسناده ضعيف..
ثم قال تعالى :﴿ أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى عَبْدًا إِذَا صَلَّى ﴾ نزلت في أبي جهل، لعنه الله، توعد النبي صلى الله عليه وسلم على الصلاة عند البيت، فوعظه الله تعالى بالتي هي أحسن أولا فقال :﴿ أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى ﴾ أي : فما ظنك إن كان هذا الذي تنهاه على الطريق المستقيمة في فعله، أو ﴿ أَمَرَ بِالتَّقْوَى ﴾ بقوله، وأنت تزجره وتتوعده على صلاته ؛ ولهذا قال :﴿ أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى ﴾ أي : أما علم هذا الناهي لهذا المهتدي أن الله يراه ويسمع كلامه، وسيجازيه على فعله أتم الجزاء.
ثم قال تعالى متوعدًا ومتهددًا :﴿ كَلا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ ﴾ أي : لئن لم يرجع عما هو فيه من الشقاق والعناد ﴿ لَنَسْفَعَنْ بِالنَّاصِيَةِ ﴾ أي : لنَسمَنَّها سوادا يوم القيامة.
ثم قال :﴿ نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ ﴾ يعني : ناصية أبي جهل كاذبة في مقالها خاطئة في فعَالها.
﴿ فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ ﴾ أي : قومه وعشيرته، أي : ليدعهم يستنصر بهم.
﴿ سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ ﴾ وهم ملائكة العذاب، حتى يعلم من يغلبُ : أحزبُنا أو حزبه.
قال البخاري : حدثنا يحيى، حدثنا عبد الرزاق، عن مَعْمَر، عن عبد الكريم الجَزَري، عن عكرمة، عن ابن عباس : قال أبو جهل : لئن رأيت محمدًا يصلي عند الكعبة لأطأن على عُنُقه. فبَلغَ النبي صلى الله عليه وسلم، فقال :" لئن فعله لأخذته الملائكة ". ثم قال : تابعه عمرو بن خالد، عن عبيد الله - يعني ابن عمرو - عن عبد الكريم١.
وكذا رواه الترمذي والنسائي في تفسيرهما من طريق عبد الرزاق، به٢ وهكذا رواه ابن جرير، عن أبي كُرَيْب، عن زكريا بن عَدِيّ، عن عبيد الله بن عمرو، به٣.
وروى أحمد، والترمذي٤ وابن جرير - وهذا لفظه - من طريق داود بن أبي هند، عن عكرمة، عن ابن عباس قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي عند المقام فمر به أبو جهل بن هشام فقال : يا محمد، ألم أنهك عن هذا ؟ - وَتَوعَّده - فأغلظ له رسول الله صلى الله عليه وسلم وانتهره، فقال : يا محمد، بأي شيء تهددني ؟ أما والله إني لأكثر هذا الوادي ناديًا ! فأنزل الله :﴿ فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ ﴾ قال ابن عباس : لو دعا ناديه لأخذته ملائكة العذاب من ساعته٥ وقال الترمذي : حسن صحيح.
وقال الإمام أحمد أيضًا : حدثنا إسماعيل بن زيد أبو يزيد، حدثنا فُرَات، عن عبد الكريم، عن عكرمة، عن ابن عباس قال : قال أبو جهل : لئن رأيت رسول الله يصلي عند الكعبة لآتينه حتى أطأ على عنقه. قال : فقال :" لو فعل لأخذته الملائكة عيانًا، ولو أن اليهود تَمَنَّوا الموت لماتوا ورأوا مقاعدهم من النار، ولو خرج الذين يُبَاهلون رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجعوا لا يجدون مالا ولا أهلا " ٦.
وقال ابن جرير أيضا : حدثنا ابن حميد، حدثنا يحيى بن واضح، أخبرنا يونس بن أبي إسحاق، عن الوليد بن العيزار، عن ابن عباس قال : قال أبو جهل : لئن عاد محمد يصلي عند المقام لأقتلنه. فأنزل الله، عز وجل :﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ [ خَلَقَ الإنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ ] ﴾ ٧ حتى بلغ هذه الآية :﴿ لَنَسْفَعَنْ بِالنَّاصِيَةِ نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ ﴾ فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فصلى٨ فقيل : ما يمنعك ؟ قال : قد اسودّ ما بيني وبينه من الكتائب. قال ابن عباس : والله لو تحرك لأخذته الملائكة والناس ينظرون إليه٩.
وقال ابن جرير : حدثنا ابن عبد الأعلى، حدثنا المعتمر، عن أبيه، حدثنا نعيم بن أبي هند، عن أبي حازم، عن أبي هُرَيرة قال : قال أبو جهل : هل يعفِّر محمد وجهه بين أظهركم ؟ قالوا : نعم. قال : فقال : واللات والعزى لئن رأيته يصلي كذلك لأطأن على رقبته١٠ ولأعفِّرن وجهه في التراب، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يُصَلي ليطأ على رقبته، قال : فما فَجأهم منه إلا وهو ينكص على عقبيه ويتقي بيديه، قال : فقيل له : ما لك ؟ فقال : إن بيني وبينه خَنْدقا من نار وهَولا وأجنحة. قال : فقال رسول الله :" لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضوًا عضوًا ". قال : وأنزل الله - لا أدري في حديث أبي هريرة أم لا - :﴿ كَلا إِنَّ الإنْسَانَ لَيَطْغَى ﴾ إلى آخر السورة.
وقد رواه أحمد بن حنبل، ومسلم، والنسائي، وابن أبي حاتم، من حديث معتمر بن سليمان، به١١.
١ - (٢) صحيح البخاري برقم (٤٩٥٨)..
٢ - (٣) سنن الترمذي برقم (٣٣٤٨) وسنن النسائي برقم (١١٦٨٥)..
٣ - (٤) تفسير الطبري (٣٠/١٦٥)..
٤ - (٥) في م، أ: "والترمذي والنسائي"..
٥ - (١) المسند (١/٣٢٩) وسنن الترمذي برقم (٣٣٤٩) وتفسير الطبري (٣٠/١٦٤)..
٦ - (٢) المسند (١/٢٤٨)..
٧ - (٣) زيادة من أ..
٨ - (٤) في أ: "يصلى"..
٩ - (٥) تفسير الطبري (٣٠/١٦٥)..
١٠ - (٦) في م: "على عنقه"..
١١ - (٧) تفسير الطبري (٣٠/١٦٥) والمسند (٢/٣٧٠) وصحيح مسلم برقم (٢٧٩٧) وسنن النسائي الكبرى برقم (١١٦٨٣)..
وقوله :﴿ كَلا لا تُطِعْهُ ﴾ يعني : يا محمد، لا تطعه فيما ينهاك عنه من المداومة على العبادة وكثرتها، وصلِّ حيث شئت ولا تباله ؛ فإن الله حافظك وناصرك، وهو يعصمك من الناس، ﴿ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ ﴾ كما ثبت في الصحيح - عند مسلم - من طريق عبد الله بن وهب، عن عمرو بن الحارث، عن عمارة بن غزية، عن سُمَيّ، عن أبي صالح، عن أبي هريرة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، فأكثروا الدعاء " ١.
وتقدم أيضًا : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسجد في :﴿ إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ ﴾ و ﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ﴾
آخر تفسير سورة " اقرأ " ٢.
١ - (١) صحيح مسلم برقم (٤٨٢)..
٢ - (٢) في م، أ: "آخر تفسيرها"..
سورة العلق
معلومات السورة
الكتب
الفتاوى
الأقوال
التفسيرات

سورة (العَلَق) من السُّوَر المكية، وهي أولُ سورةٍ نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم، وقد بدأت بأمرِ النبي صلى الله عليه وسلم بالقراءة؛ ليُعلِّمَه اللهُ عز وجل هذا الكتابَ، وقد جاءت على ذِكْرِ عظمة الله، وتذكيرِ الإنسان بخَلْقِ الله له من عدمٍ، وخُتمت بتأييد الله للنبي صلى الله عليه وسلم، ونصرِه له، وكفايتِه أعداءَه.

ترتيبها المصحفي
96
نوعها
مكية
ألفاظها
72
ترتيب نزولها
1
العد المدني الأول
20
العد المدني الأخير
20
العد البصري
19
العد الكوفي
19
العد الشامي
18

* قوله تعالى: {كَلَّآ إِنَّ اْلْإِنسَٰنَ لَيَطْغَىٰٓ ٦ أَن رَّءَاهُ اْسْتَغْنَىٰٓ ٧ إِنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ اْلرُّجْعَىٰٓ ٨ أَرَءَيْتَ اْلَّذِي يَنْهَىٰ ٩ عَبْدًا إِذَا صَلَّىٰٓ ١٠ أَرَءَيْتَ إِن كَانَ عَلَى اْلْهُدَىٰٓ ١١ أَوْ أَمَرَ بِاْلتَّقْوَىٰٓ ١٢ أَرَءَيْتَ إِن كَذَّبَ وَتَوَلَّىٰٓ ١٣ أَلَمْ يَعْلَم بِأَنَّ اْللَّهَ يَرَىٰ ١٤ كَلَّا لَئِن لَّمْ يَنتَهِ لَنَسْفَعَۢا بِاْلنَّاصِيَةِ ١٥ نَاصِيَةٖ كَٰذِبَةٍ خَاطِئَةٖ ١٦ فَلْيَدْعُ نَادِيَهُۥ ١٧ سَنَدْعُ اْلزَّبَانِيَةَ ١٨ كَلَّا لَا تُطِعْهُ} [العلق: 13-19]:

عن أبي هُرَيرةَ رضي الله عنه، قال: «قال أبو جهلٍ: هل يُعفِّرُ مُحمَّدٌ وجهَه بَيْنَ أظهُرِكم؟ قال: فقيل: نَعم، فقال: واللَّاتِ والعُزَّى، لَئِنْ رأَيْتُه يَفعَلُ ذلك، لَأَطأنَّ على رقَبتِه، أو لَأُعفِّرَنَّ وجهَه في التُّرابِ، قال: فأتى رسولَ اللهِ ﷺ وهو يُصلِّي، زعَمَ لِيطأَ على رقَبتِه، قال: فما فَجِئَهم منه إلا وهو يَنكِصُ على عَقِبَيهِ، ويَتَّقي بيدَيهِ، قال: فقيل له: ما لكَ؟ فقال: إنَّ بَيْني وبَيْنَه لَخَنْدقًا مِن نارٍ، وهَوْلًا، وأجنحةً، فقال رسولُ اللهِ ﷺ: «لو دنَا منِّي، لَاختطَفَتْهُ الملائكةُ عضوًا عضوًا»، قال: فأنزَلَ اللهُ عز وجل - لا ندري في حديثِ أبي هُرَيرةَ، أو شيءٌ بلَغَه -: {كَلَّآ إِنَّ اْلْإِنسَٰنَ لَيَطْغَىٰٓ ٦ أَن رَّءَاهُ اْسْتَغْنَىٰٓ ٧ إِنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ اْلرُّجْعَىٰٓ ٨}؛ يَعني: أبا جهلٍ، {أَرَءَيْتَ اْلَّذِي يَنْهَىٰ ٩ عَبْدًا إِذَا صَلَّىٰٓ ١٠ أَرَءَيْتَ إِن كَانَ عَلَى اْلْهُدَىٰٓ ١١ أَوْ أَمَرَ بِاْلتَّقْوَىٰٓ ١٢ أَرَءَيْتَ إِن كَذَّبَ وَتَوَلَّىٰٓ ١٣ أَلَمْ يَعْلَم بِأَنَّ اْللَّهَ يَرَىٰ ١٤ كَلَّا لَئِن لَّمْ يَنتَهِ لَنَسْفَعَۢا بِاْلنَّاصِيَةِ ١٥ نَاصِيَةٖ كَٰذِبَةٍ خَاطِئَةٖ ١٦ فَلْيَدْعُ نَادِيَهُۥ ١٧ سَنَدْعُ اْلزَّبَانِيَةَ ١٨ كَلَّا لَا تُطِعْهُ} [العلق: 13-19]». زاد عُبَيدُ اللهِ في حديثِه قال: «وأمَرَه بما أمَرَه به». وزادَ ابنُ عبدِ الأعلى: «{فَلْيَدْعُ نَادِيَهُۥ}؛ يَعني: قومَهُ». أخرجه مسلم (٢٧٩٧).

* سورة (العَلَق):

سُمِّيت سورة (العَلَق) بهذا الاسم؛ لوقوع لفظ (العَلَق) في أولها؛ قال تعالى: {اْقْرَأْ بِاْسْمِ رَبِّكَ اْلَّذِي خَلَقَ ١ خَلَقَ اْلْإِنسَٰنَ مِنْ عَلَقٍ} [العلق: 1-2].

* وكذلك تُسمَّى بسورة {اْقْرَأْ}، و{اْقْرَأْ بِاْسْمِ رَبِّكَ}؛ للسبب نفسه.

1. الخَلْقُ والتعليم مُوجِب للشكر (١-٥).

2. انحرافُ صِنْفٍ من البشر عن الشكر (٦-٨).

3. صورة من صُوَر طغيان البشر (٩-١٩).

ينظر: "التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (9 /253).

يقول ابنُ عاشور عن مقاصدها: «تلقينُ مُحمَّدٍ صلى الله عليه وسلم الكلامَ القرآني وتلاوتَه؛ إذ كان لا يَعرِف التلاوةَ من قبل.
والإيماء إلى أنَّ عِلْمَه بذلك مُيسَّر؛ لأن اللهَ الذي ألهم البشرَ العلمَ بالكتابة قادرٌ على تعليم من يشاءُ ابتداءً.
وإيماء إلى أن أمَّتَه ستَصِير إلى معرفة القراءة والكتابة والعلم.
وتوجيهه إلى النظر في خلقِ الله الموجودات، وخاصةً خَلْقَه الإنسانَ خَلْقًا عجيبًا مستخرَجًا من علَقةٍ، فذلك مبدأ النظر.
وتهديد مَن كذَّب النبيَّ صلى الله عليه وسلم وتعرَّضَ ليصُدَّه عن الصلاة والدعوة إلى الهدى والتقوى.
وإعلام النبي صلى الله عليه وسلم أن اللهَ عالمٌ بأمرِ مَن يناوُونه، وأنه قامِعُهم، وناصرُ رسولِه.
وتثبيت الرسول على ما جاءه من الحقِّ، والصلاة، والتقرب إلى الله.
وألا يعبأ بقوةِ أعدائه؛ لأن قوَّةَ الله تقهرهم». "التحرير والتنوير" لابن عاشور (30 /434).