حروفها ١٤٥٣٥ كلماتها ٣٧٤٥
آياتها مائة وست وسبعون
ﰡ
مدنية حروفها ١٤٥٣٥ كلماتها ٣٧٤٥ آياتها مائة وست وسبعون
[سورة النساء (٤) : الآيات ١ الى ١٠]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً (١) وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً (٢) وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ذلِكَ أَدْنى أَلاَّ تَعُولُوا (٣) وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً (٤)وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (٥) وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً (٦) لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (٧) وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (٨) وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (٩)
إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً (١٠)
القراآت:
تَسائَلُونَ خفيفا بحذف التاء: عاصم وحمزة وعلي وخلف وعباس مخير. الباقون بالتشديد أي بإدغام تاء التفاعل في السين. وَالْأَرْحامَ بالجر حمزة.
الباقون بالنصب. ما طابَ بالإمالة: حمزة. فَواحِدَةً بالرفع: يزيد. الباقون بالنصب.
هنيّا مريّا بالتشديد فيهما: يزيد وحمزة في الوقف على أيهما وقف، وإذا انفرد هَنِيئاً
خلف عن حمزة وابن سعدان والعجلي وخلف لنفسه وقتيبة على أصله. وَسَيَصْلَوْنَ بضم الياء: ابن عامر وأبو بكر وحماد والمفضل. الباقون بفتحها.
الوقوف:
وَنِساءً ج. لأن الجملتين وإن اتفقتا إلا أنه اعترضت المعطوفات وَالْأَرْحامَ ط رَقِيباً هـ بِالطَّيِّبِ ص إِلى أَمْوالِكُمْ ط كَبِيراً هـ وَرُباعَ ج أَيْمانُكُمْ ط أَلَّا تَعُولُوا ط لابتداء حكم آخر نِحْلَةً ط لأن المشروط خارج عن أصل الشرط الموجب. مَرِيئاً هـ مَعْرُوفاً هـ النِّكاحَ ج بناء على أنه ابتداء شرط بعد بلوغ النكاح، أو مجموع الشرط والجواب جواب «إذا» و «حتى» تكون داخلة على جملة شرطيه مقدمها حملية، وثالثها شرطية أخرى. أَمْوالَهُمْ ج أَنْ يَكْبَرُوا ط لابتداء جملتين متضادتين فَلْيَسْتَعْفِفْ ج بِالْمَعْرُوفِ ط للعود إلى أصل الموجب بعد وقوع العارض. عَلَيْهِمْ ط حَسِيباً هـ وَالْأَقْرَبُونَ الأول ص أَوْ كَثُرَ ط بتقدير جعلناه نصيبا مفروضا مَعْرُوفاً هـ خافُوا عَلَيْهِمْ ص سَدِيداً هـ ناراً ط سَعِيراً هـ.
التفسير:
لما كانت هذه السورة مشتملة على تكاليف كثيرة من التعطيف على الأولاد والنساء والأيتام وإيصال حقوقهم إليهم وحفظ أموالهم عليهم، ومن الأمر بالطهارة والصلاة، والجهاد والدية، ومن تحريم المحارم وتحليل غيرهن إلى غير ذلك من السياسات ومكارم الأخلاق التي يناط بها صلاح المعاش والمعاد، افتتح السورة ببعث المكلفين على التقوى. ومن غرائب القرآن أن فيه سورتين صدرهما يا أَيُّهَا النَّاسُ إحداهما في النصف الأول وهي الرابعة من سوره، والأخرى في النصف الثاني وهي أيضا في الرابعة من سوره.
ثم التي في النصف الأول مصدرة بذكر المبدأ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ والتي في النصف الثاني مصدرة بذكر المعاد اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ [الحج: ١] ثم إنه تعالى علل الأمر بالتقوى بأنه خلقنا من نفس واحدة. أما القيد الأوّل وهو أنه خلقنا فلا شك أنه علة لوجوب الانقياد لتكاليفه والخشوع لأوامره ونواهيه، لأن المخلوقية هي العبودية ومن شأن العبد امتثال أمر مولاه في كل ما يأمره وينهاه. وأيضا الإيجاد غاية الإحسان فيجب مقابلتها بغاية الإذعان، على أن مقابلة نعمته بالخدمة محال لأن توفيق تلك الخدمة نعمة أخرى منه. وأما القيد الثاني وهو خصوص أنه خلقنا من نفس واحدة، فإنما يوجب علينا الطاعة لأن خلق أشخاص غير محصورة من إنسان واحد مع تغاير أشكالهم وتباين أمزجتهم واختلاف أخلاقهم دليل ظاهر وبرهان باهر على وجود مدبر مختار وحكيم قدير، ولو كان ذلك بالطبيعة أو لعلة موجبة كان كلهم على حد واحد ونسبة واحدة. ثم في
قال ﷺ «فاطمة بضعة مني يؤذيني ما يؤذيها» «١».
ومنها أنهم إذا عرفوا ذلك تركوا المفاخرة وأظهروا التواضع وحسن الخلق. ومنها أن تصوّر ذلك يذكر أمر المعاد فليس الإعادة بأصعب من الإبداء. ومنها أنه إخبار عن الغيب فيكون معجزا للنبي ﷺ لأنه لم يقرأ كتابا. وأجمع المفسرون على أن المراد بالنفس الواحدة هاهنا هو آدم عليه السلام، والتأنيث في الوصف نظرا إلى لفظة النفس. وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها حواء من ضلع من أضلاعها. وقال أبو مسلم: المراد وخلق من جنسها زوجها لقوله جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً [النحل: ٧٢] ولأنه تعالى قادر على خلق حواء من التراب فأي فائدة في خلقها من ضلع من أضلاع آدم؟ والجواب أن الأمر لو كان كما ذكره أبو مسلم لكان الناس مخلوقين من نفسين لا من نفس واحدة وهو خلاف النص وخلاف ما
روي عن النبي ﷺ «أن المرأة خلقت من ضلع أعوج فإن ذهبت تقيمها كسرتها» «٢»
احتج جمع من الطبائعيين بالآية على أن الحادث لا يحدث إلا عن مادة سابقة، وإن خلق الشيء عن العدم المحض والنفي الصرف محال. والجواب أنه لا يلزم من إحداث شيء في صورة واحدة من المادة لحكمة أن يتوقف الإحداث على المادة في جميع الصور. قال في الكشاف: قوله: وَخَلَقَ مِنْها معطوف على محذوف أي أنشأها وخلق منها، أو معطوف على خَلَقَكُمْ والخطاب للذين بحضرة رسول الله ﷺ أي خلقكم من نفس آدم لأنهم من جنس المفرع منه، وخلق منها أمكم حواء وَبَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً وَنِساءً غيركم من الأمم الفائتة للحصر. أقول: وإنما التزم الإضمار في الأول والتخصيص في الثاني دفعا للتكرار، ولا تكرار بالحقيقة إذ لا يفهم من خلق بني آدم من نفس خلق زوجها منه ولا خلق الرجال والنساء من الأصلين جميعا. نعم لو كان المراد بقوله: وَخَلَقَ مِنْها إلى آخره بيان الخلق الأول وتفصيله، لكان الأولى عدم دخول الواو إلا أن المراد وصف ذاته تعالى بالأوصاف الثلاثة جميعا من غير ترتيب يستفاد من النسق وإلا كان الأنسب أن يقال: «فبث» بالفاء. فدل العطف بالواو في الجميع على أن المراد هو ما ذكرنا، وأن
(٢) رواه البخاري في كتاب الأنبياء باب ١. مسلم في كتاب الرضاع حديث ٦١، ٦٢. الدارمي في كتاب النكاح باب ٣٥. أحمد في مسنده (٥/ ٨).
وإنما خص وصف الكثرة بالرجال اعتمادا على الفهم، ولأن شهرة الرجال أتم فكانت كثرتهم أظهر. وفيه تنبيه على أن اللائق بحال الرجال الاشتهار والخروج، واللائق بحال النسوان الاختفاء والخمول. وإنما يقل الرجال والنساء معرفتين لئلا يلزم كونهما مبثوثين من نفسهما، ثم إن هذا البث معناه محمول على ظاهره عند من يرى أن جميع الأشخاص البشرية كانوا كالذر مجتمعين في صلب آدم، وأما عند من ينكر ذلك فالمراد أنه بث منهما أولادهما، ومن أولادهما جمعا آخرين وهلم جرا، فأضيف الكل إليهما على سبيل المجاز. وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ من قرأ بالنصب فللعطف على اسم الله أي واتقوا حق الأرحام فلا تقطعوها وهو اختيار أكثر الأئمة كمجاهد وقتادة والسدي والضحاك وابن زيد والفراء والزجاج. وأما للعطف على محل الجار والمجرور كقوله:
فلسنا بالجبال ولا الحديدا وهو اختيار أبى علي الفارسي وعلي بن عيسى. وقيل: منصوب بالإغراء أي والأرحام فاحفظوها وصلوها. ومن قرأ بالجر فلأجل العطف على الضمير المجرور في بِهِ وهذا وإن كان مستنكرا عند النحاة بدون إعادة الخافض لأن الضمير المتصل من تتمة ما قبله ولا سيما المجرور فأشبه العطف على بعض الكلمة، إلا أن قراءة حمزة مما ثبت بالتواتر عن رسول الله ﷺ فلا يجوز الطعن فيها لقياسات نحوية واهية كبيت العنكبوت. وقد طعن الزجاج فيها من جهة أخرى وهي أنها تقتضي جواز الحلف بالأرحام
وقد قال النبي ﷺ «لا تحلفوا بآبائكم» «١».
والجواب أن المنهي عنه هو الحلف بالآباء وهاهنا حلف أولا بالله ثم قرن به الرحم فأين أحدهما من الآخر؟ ولئن سلمنا أن الحلف بالرحم أيضا منهي عنه لكن لا نسلم أنه منهي عنه مطلقا، وإنما المنهي عنه ما حلف به على سبيل التعظيم، وأما الحلف بطريق التأكيد فلا بأس بها، ولهذا
جاء في الحديث «أفلح وأبيه إن صدق» «٢».
سلمنا أنها منهي عنها مطلقا لكن المراد هاهنا حكاية ما كانوا يفعلونه في الجاهلية من قولهم في الاستعطاف والتساؤل وهو سؤال البعض البعض: أسألك بالله وبالرحم، وأنشدك الله
(٢)
رواه مسلم في كتاب الإيمان حديث ٩. بلفظ «دخل الجنة وأبيه إن صدق».
قلنا: أما تكرار الأمر فللتأكيد كقولك للرجل: عجل عجل. وأما تخصيص الرب بالأول والله بالثاني فلأن الغرض في الأول الترغيب بتذكير النعمة والإحسان والتربية، وفي الثاني الترهيب. ولفظ الله يدل على كمال القدرة والقهر فكأنه قيل: إنه رباك وأحسن إليك فاتق مخالفته وإلا فإنه شديد العقاب فاتق سخطه. قال العلماء: في الآية دليل على جواز المسألة بالله.
روى مجاهد عن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من سألكم بالله فأعطوه» «١».
وعن البراء بن عازب قال: أمرنا رسول الله ﷺ بسبع منها إبرار القسم.
ولا يخفى ما في الآية من تعظيم حق الرحم وتأكيد النهي عن قطعها حيث قرن الأرحام باسمه، وقال في سورة القرة:
لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَذِي الْقُرْبى [البقرة: ٨٣].
وعن عبد الرحمن بن عوف سمعت رسول الله ﷺ يقول: قال الله عز وجل: «أنا الله وأنا الرحمن خلقت الرحم وشققت لها اسما من اسمي فمن وصلها وصلته ومن قطعها قطعته» «٢»
وفي الصحيحين عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الرحم معلقة بالعرش تقول من وصلني وصله الله ومن قطعني قطعه الله» «٣».
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص سمعت رسول الله ﷺ يقول: «ليس الواصل بالمكافىء الواصل من إذا قطعت رحمه وصلها» «٤»
عن سلمان بن عامر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الصدقة على المسكين صدقة وعلى ذي الرحم ثنتان صدقة وصلة» «٥».
فثبت بدلالة الكتاب والسنة وجوب صلة الرحم واستحقاق الثواب بها، فلهذا بنى أصحاب أبي حنيفة على هذا الأصل مسألتين: إحداهما أن الرجل إذا ملك ذا رحم محرم عتق عليه مثل الأخ والأخت والعم والخال لأنه لو بقي الملك حل الاستخدام بالإجماع، لكن الاستخدام إيحاش وقطيعة رحم. والثانية أن الهبة لذي الرحم المحرم لا يجوز الرجوع فيها حذرا من
(٢) رواه أبو داود في كتاب الزكاة باب ٤٥. الترمذي في كتاب البر باب ٩. أحمد في مسنده (١/ ١٩١، ١٩٤).
(٣) رواه مسلم في كتاب البر حديث ١٧. أحمد في مسنده (٢/ ١٦٣).
(٤) رواه البخاري في كتاب الأدب باب ١٥. أبو داود في كتاب الزكاة باب ٤٥. الترمذي في كتاب البر باب ١٠. أحمد في مسنده (٢/ ١٦٣، ١٩٠).
(٥) رواه الترمذي في كتاب الزكاة باب ٢٦. النسائي في كتاب الزكاة باب ٢٢. ابن ماجه في كتاب الزكاة باب ٢٨. الدارمي في كتاب الزكاة باب ٣٨. أحمد في مسنده (٤/ ١٧، ١٨).
ثم إنه سبحانه بعد تقديم موجبات الشفقة على الضعفة ومن له رحم ماسة قال وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ وأصل اليتم الانفراد ومنه الرملة اليتيمة والدرة اليتيمة. فاليتامى هم الذين مات آباؤهم فانفردوا عنهم. فاليتيم لغة يتناول الصغير والكبير إلا أنه في عرف الشرع اختص بالذي لم يبلغ الحلم.
قال صلى الله عليه وسلم: «لا يتم بعد الحلم» «١».
والمراد أنه إذا احتلم لا تجري عليه أحكام الصغار لأنه في تحصيل مصالحه يستغني بنفسه عن كافل يكفله وقيم يقوم بأمره. فإن قيل: إذا كان اسم اليتيم في الشرع مختصا بالصغير فما دام يتيما لا يجوز دفع أمواله إليه، وإذا صار كبيرا بحيث يجوز دفع ماله إليه لم يبق يتيما فكيف قال: وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ؟
ففي الجواب طريقان: أحدهما أن المراد باليتامى الكبار البالغون، سماهم بذلك على مقتضى اللغة أو لقرب عهدهم باليتم كقوله: فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ [الشعراء: ٤٦] أي الذين كانوا سحرة قبل السجود. ويؤكد هذا الطريق قوله فيما بعد فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ والإشهاد لا يصح قبل البلوغ بل إنما يصح بعد البلوغ.
وقال صلى الله عليه وسلم: «تستأمر اليتيمة في نفسها» «٢»
ولا تستأمر إلا وهي بالغة. وعلى هذا يكون في الآية إشارة إلى أن لا يؤخر دفع أموالهم إليهم عند حد البلوغ ولا يمطلوا إن أونس منهم الرشد، وأن لا يؤتوها قبل أن يزول عنهم اسم اليتامى والصغار، ويوافقه ما
رواه مقاتل والكلبي أنها نزلت في رجل من غطفان كان معه مال كثير لأبن أخ يتيم. فلما بلغ اليتيم طلب المال فمنعه عمه فترافعا إلى رسول الله ﷺ فنزلت الآية. فلما سمعها العم قال: أطعنا الله وأطعنا الرسول، نعوذ بالله من الحوب الكبير فدفع إليه ماله. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من يوق شح نفسه ويطع ربه هكذا فإنه يحل داره يعني جنته. فلما قبض الفتى ماله أنفقه في سبيل الله فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ثبت الأجر وبقي الوزر. فقالوا: يا رسول الله قد عرفنا أنه ثبت الأجر فكيف بقي الوزر وهو ينفق في سبيل الله؟ فقال: ثبت الأجر للغلام وبقي الوزر على والده.
قيل: لأنه كان مشركا. الطريق الثاني أن المراد بهم الصغار أي الذين هم يتامى في الحال آتوهم بعد زوال صفة اليتيم أموالهم، وآتوهم من أموالهم ما يحتاجون إليه لنفقتهم وكسوتهم، والخطاب للأولياء والأوصياء.
(٢) رواه أبو داود في كتاب النكاح باب ٢٣. الترمذي في كتاب النكاح باب ١٩. الدارمي في كتاب النكاح باب ١٢. أحمد في مسنده (٤/ ٣٩٤، ٤٠٨).
قاسطته فقسطته أي غلبته على قسطه. وإذا قالوا أقسط بالهمز فمعناه صار ذا قسط مثل أنصف إذا أتى بالنصف فيلزمه العدالة والتسوية. واعلم أن قوله: وَإِنْ خِفْتُمْ شرط وقوله: فَانْكِحُوا جواب له. ولا بد من بيان أن هذا الجزاء كيف يتعلق بهذا الشرط وللمفسرين فيه وجوه: الأول ما روي عن عروة أنه قال: قلت لعائشة: ما معنى قول الله تعالى: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فقالت: يا ابن أختي هي اليتيمة تكون في حجر وليها فيرغب الرجل في مالها وجمالها إلا أنه يريد أن ينكحها بأدنى من صداقها. ثم إذا تزوج بها عاملها معاملة ردية لعلمه بأنه ليس لها من يذب عنها ويدفع شر ذلك الزوج عنها.
فقال تعالى وإن خفتم أن تظلموا اليتامى عند نكاحهن فانكحوا غيرهن ما طاب لكم من العدد.
قالت عائشة: ثم إن الناس استفتوا رسول الله ﷺ بعد هذه الآية فيهن فأنزل الله تعالى يَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ [النساء: ١٢٧] الآية.
فقوله فيها: وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ
[النساء: ١٢٧] المراد منه هذه الآية وهي قوله: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا. وعبر في الكشاف عن هذه الرواية بعبارة أخرى وهي: كان الرجل يجد اليتيمة لها مال وجمال أو يكون وليها فيتزوجها ضنا بها عن غيره، فربما اجتمعت عنده عشر منهن فيخاف لضعفهن وفقد من يغضب لهن أن يظلمهن حقوقهن ويفرط فيما يجب لهن فقيل لهم: إن خفتم أن لا تقسطوا في يتامى النساء فانكحوا من غيرهن ما طابَ لَكُمْ. الثاني وهو قول سعيد بن جبير وقتادة والربيع والضحاك والسدي منقولا عن ابن عباس: لما نزلت الآية المتقدمة وما في أكل أموال اليتامى من الحوب الكبير، خاف الأولياء لحوق الحوب فتحرجوا من ولاية اليتامى. وكان الرجل منهم ربما كانت تحته العشر من الأزواج وأكثر فلا يقوم بحقوقهن ولا يعدل بينهن فقيل لهم: إن خفتم ترك العدل في حقوق اليتامى فكونوا خائفين من ترك العدل بين النساء لأنهن كاليتامى في العجز والضعف، فقللوا عدد المنكوحات لأن من تحرج من ذنب أو تاب عنه وهو مرتكب مثله فكأنه غير متحرج.
الثالث: كانوا لا يتحرجون من الزنا ويتحرجون من ولاية اليتامى فقيل: إن خفتم ذلك فكونوا خائفين من الزنا أيضا وانكحوا ما حل لكم من النساء. الرابع روي عن عكرمة كان الرجل عنده النسوة ويكون عنده الأيتام فإذا أنفق مال نفسه على النسوة أخذ في إنفاق أموال اليتامى عليهن. فقيل: إن خفتم أن تظلموا اليتامى بأكل أموالهم عند كثرة الزوجات فقد حظرت لكم أن تنكحوا أكثر من أربع ليزول هذا الخوف، فإن خفتم في الأربع أيضا فواحدة، فذكر الطرف الزائد وهو الأربع والناقص وهو الواحدة، ونبه بذلك على ما بينهما فكأنه قيل: إن خفتم الأربع فثلاثا وإن خفتم فاثنتين وإن خفتم فواحدة. قال الظاهريون:
النكاح واجب لقوله: فَانْكِحُوا وظاهر الأمر للوجوب. وعورض بقوله تعالى: ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ [النساء: ٢٥] ولو سلم فالوجوب بحالة الخوف فلا يلزم منه الوجوب على الإطلاق وأيضا الآية سيقت لبيان وجوب تقليل الأزواج لا لأصل الوجوب وإنما قال: ما طابَ ولم يقل من طاب لأنه أراد به الجنس. تقول: ما عندك؟
فيقال: رجل أو امرأة. تريد ما ذلك الشيء الذي عندك أو ما تلك الحقيقة. ولأن الإناث من العقلاء تنزل منزلة غير العقلاء ومنه قوله تعالى: أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ولأن «ما» و «من» يتعاقبان. قال تعالى وَالسَّماءِ وَما بَناها [الشمس: ٥] فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ [النور: ٤٥]. قال المفسرون: معنى ما طابَ لَكُمْ أي ما حل لكم من النساء لأن فيهن من يحرم نكاحها كما سيجيء. واعترض عليه الإمام بأن قوله: فَانْكِحُوا أمر إباحة فيؤل المعنى إلى قوله: أبحت لكم نكاح من هي مباحة لكم وهذا كلام مستدرك سلمناه، لكن الآية تصير مجملة لأن أسباب الحل والإباحة غير مذكورة في هذه الآية. وإذا حملنا الطيب
كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ [البقرة: ٥٧] وعن الثاني أن قوله: ما طابَ لَكُمْ بمعنى ما حل لكم إذا كان إشارة إلى ما بقي بعد ما أخرجته آية التحريم فلا إجمال. وأما قوله:
مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ ولم يوجد في كلام الفصحاء إلا هذه، وأحاد وموحد وجوّزوا إلى عشار ومعشر قياسا على قول الكميت:
ولم يستر يثوك حتى رميت | فوق الرجال خصالا عشارا |
قرأت الكتاب جزءا جزءا، وجاءني القوم رجلا رجلا وجماعة جماعة. وكان القياس في باب العدد أيضا التكرير عملا بالاستقراء وإلحاقا للفرد المتنازع فيه بالأعم الأغلب، فلما وجد ثلاث مثلا غير مكرر لفظا حكم بأن أصله لفظ مكرر وليس إلا ثلاثة ثلاثة. فعند سيبويه منع صرف مثل هذا للعدل والوصف الأصلي، فإن هذا التركيب لم يستعمل إلا وصفا بخلاف المعدول عنه. وقيل: إن فيه عدلا مكررا من حيث اللفظ لأن أصله كان ثلاثة ثلاثة مرتين فعدل إلى واحد ثم إلى لفظ ثلاث أو مثلث. وقيل: إن فيه العدل والتعريف إذ لا يدخله اللام خلافا لما في الكشاف. وإذا جرى على النكرة فمحمول على البدل، وضعف بعدم جريانه على المعارف ولوقوعه حالا. فمعنى الآية فانكحوا الطيبات لكم معدودات هذا العدد ثنتين ثنتين وثلاثا ثلاثا وأربعا أربعا، فإن خفتم أن لا تعدلوا بين هذه الأعداد فواحدة. فمن قرأ بالنصب أراد: فاختاروا أو انكحوا أو الزموا واحدة، ومن قرأ بالرفع أراد: فكفت واحدة أو فحسبكم واحدة وذروا الجمع رأسا فإن الأمر كله يدور مع العدل فأينما وجدتموه فعليكم به. ثم قال: أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فسوّى في السهولة بين الحرة الواحدة وبين ما شاء من الإماء لأنهن أقل تبعة وأخف مؤنة من المهائر لا على المرء أكثر منهن أو أقل، عدل بينهن في القسم أم لم يعدل، عزل عنهن أم لم يعزل. ولما كانت التسوية بينها وبينهن احتج بها الشافعي في بيان أن نوافل العبادات أفضل من النكاح وذلك للإجماع على أن الاشتغال بالنوافل أفضل من التسري، فوجب أن يكون أفضل من النكاح لأن الزائد على أحد المتساويين يكون زائدا على المساوي الآخر. ولمانع أن يمنع التسوية فإن قول الطبيب مثلا
الأولى أكثر الفقهاء على أن نكاح الأربع مشروع للأحرار دون العبيد، لأن هذا الخطاب إنما يتناول إنسانا متى طابت له امرأة قدر على نكاحها والعبد ليس كذلك لأنه لا يمكن من النكاح إلا بإذن مولاه. وأيضا إنه قال بعد ذلك فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وهذا لا يكون إلا للأحرار، فكذا الخطاب الأوّل لأن هذه الخطابات وردت متتالية على نسق واحد فيبعد أن يدخل التقييد في اللاحق دون السابق. وكذا قوله: فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً والعبد لا يأكل فيكون لسيده. وقال مالك: يحل للعبد أن يتزوج بالأربع تمسكا بظاهر الآية. ومن الفقهاء من سلم أن ظاهر الآية يتناول العبيد إلا أنهم خصصوا هذا العموم بالقياس. قالوا: أجمعنا على أن الرق له تأثير في نقصان حقوق النكاح كالطلاق والعدة، ولما كان العدد من حقوق النكاح وجب أن يحصل للعبد نصف ما للحر. الثانية ذهب جماعة إلى أنه يجوز التزوج بأي عدد أريد لأن قوله: فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ إطلاق في جميع الأعداد لصحة استثناء كل عدد منه، وقوله: مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ لا يصلح مخصصا لذلك العموم لأن تخصيص بعض الأعداد بالذكر لا ينافي ثبوت الحكم في الباقي، بل نقول: ذكرها يدل على نفي الحرج والحجر مطلقا. فإن من قال لولده افعل ما شئت اذهب إلى السوق وإلى المدرسة وإلى البستان كان تصريحا في أن زمام الاختيار بيده ولا يكون تخصيصا. وأيضا ذكر جميع الأعداد متعذر، فذكر بعضها تنبيه على حصول الإذن في جميعها. ولئن سلمنا لكن الواو للجمع المطلق فيفيد الإذن في جمع تسعة بل ثمانية عشر لتضعيف كل منها. وأما السنة فلما ثبت بالتواتر أنه ﷺ مات عن تسع وقد أمرنا باتباعه في قوله: فَاتَّبِعُوهُ [الأنعام: ١٥٣] وأقل مراتب الأمر الإباحة.
وقد قال ﷺ «فمن رغب عن سنتي فليس مني» «١»
والمعتمد عند الجمهور في جوابهم أمران: أحدهما الخبر كنحو ما
روي أن نوفل بن معاوية أسلم وتحته خمس نسوة فقال صلى الله عليه وسلم: «أمسك أربعا وفارق واحدة».
وزيف بأن القرآن دل على عدم الحصر، ونسخ القرآن بخبر الواحد غير جائز، وبأن الأمر بمفارقة الزائدة قد يكون لمانع النسب أو الرضاع. وأقول: إن القرآن لم
معناه أن لا تفتقروا. ورجل عائل أي فقير وذلك أنه إذا قل عياله قلت نفقاته فلم يفتقر.
ونقل عن الشافعي أنه قال: معناه أن لا تكثر عيالكم. وطعن فيه بعض القاصرين بأن هذا في اللغة معنى «تعيلوا» لا معنى «تعولوا». يقال: أعال الرجل إذا كثر عياله. ومنه قراءة طاوس أن لا تعيلوا وأيضا إنه لا يناسب أول الآية. وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا وأيضا هب أنه يقل العيال في اختيار الحرة الواحدة، فكيف يقل عند اختيار التسري ولا حصر لهن؟
والجواب عن الأوّل أن الشافعي لم يذهب إلى تفسير اللغة وإنما زعم أنه تعالى أشار إلى الشيء بذكر لازمه أي جعل الميل والجور كناية عن كثرة العيال، لأن كثرة العيال لا تنفك عن الميل والجور. وقرر الكناية في الكشاف على وجه آخر، وهو أنه جعل قوله تعالى:
أَلَّا تَعُولُوا من عال الرجل عياله يعولهم كقولك: مانهم يمونهم إذا أنفق عليهم. ولا شك أن من كثر عياله لزمه أن يعولهم، وفي ذلك ما تصعب عليه المحافظة على حدود الورع وكسب الحلال. فالحاصل أنه ذكر اللازم وهو الإنفاق وأراد الملزوم وهو كثرة العيال.
والحاصل على ما قلنا أنه ذكر اللازم وهو الميل والجور وأراد الملزوم وهو كثرة العيال.
والجواب عن الثاني أن حمل الكلام على ما لا يلزم منه تكرار أولي وبتقدير التسليم فتفسير الشافعي أيضا يؤل إلى تفسير الجمهور لكن بطريق الكناية كما قررنا. وعن الثالث أن
وقيل: خطاب للأولياء لأن العرب كانت في الجاهلية لا تعطي البنات من مهورهن شيئا، ولذلك كانوا يقولون لمن ولدت له ابنة: هينئا لك النافجة- يعنون أنك تأخذ مهرها إبلا فتضمها إلى إبلك فتنفج مالك أي تعظمه. وقال ابن الأعرابي: النافجة ما يأخذه الرجل من الحلوان إذا زوج ابنته. فنهى الله عن ذلك وأمر بدفع الحق إلى أهله، وهذا قول الكلبي وأبي صالح واختيار الفراء وابن قتيبة. قال القفال: يحتمل أن يكون المراد من الإيتاء المناولة فيكونوا قد أمروا بدفع المهور التي سموها لهن، ويحتمل أن يراد الالتزام كقوله: حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ [التوبة: ٢٩] أي حتى يضمنوها ويلتزموها. فيكون المعنى أن الفروج لا تستباح إلا بعوض يلتزم سواء سمي ذلك أو لم يسم إلا ما خص به الرسول ﷺ من الموهوبة. قال: ويجوز أن يراد الوجهان جميعا. أما قوله نحلة فقد قال ابن عباس وقتادة وابن جريج وابن زيد: أي شريعة وديانة. فيكون مفعولا له، أو حالا من الصدقات أي دينا من الله شرعه وفرضه. وقال الكلبي: أي عطية وهبة فيكون نصبا على المصدر لأن النحلة والإيتاء بمعنى الإعطاء، أو على الحال من المخاطبين أي آتوهن صدقاتهن ناحلين طيبي النفوس بالإعطاء من غير مطالبة منهن، لأن ما يؤخذ بالمطالبة لا يسمى نحلة، أو من الصدقات أي منحولة معطاة عن طيب نفس. وإنما سميت عطية من الزوج لأن الزوج لا يملك بدله شيئا، لأن البضع في ملك المرأة بعد النكاح كهو قبله. وإنما الذي استحقه الزوج هو الاستباحة لا الملك. والنحلة العطية من غير بدل. وقال قوم: إن الله تعالى جعل منافع النكاح من قضاء الشهوة والتوالد مشتركا بين الزوجين، ثم أمر الزوج بأن يؤتي الزوجة المهر وكان ذلك عطية من الله تعالى ابتداء. ثم لما أمرهم بإيتاء الصدقات أباح لهم جواز قبول إبرائها وهبتها. وانتصب نَفْساً على التمييز وإنما وحد لأنه لا يلبس أن النفس لهن لأنهن أنفس ولو جمعت لجاز. والضمير في مِنْهُ للصداق أو للمذكور في قوله: طِبْنَ وبناء الكلام على الإبهام ثم التمييز دون أن يقول سمحن أو وهبن. وفي قوله: عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ دون أن يقول عنه تنبيه على أن قبول ذلك إنما يحل إذا طابت نفوسهن بالهبة من غير اضطرار وسوء معاشرة من الزوج يحملهن على ذلك وبعث لهن على تقليل الموهوب،
وعن ابن عباس أن رسول الله ﷺ سئل عن هذه الآية فقال: إذا جادت لزوجها بالعطية طائعة غير مكرهة لا يقضي به عليكم سلطان ولا يؤاخكم الله به في الآخرة.
ثم إنه تعالى لما أمر بإيتاء اليتامى أموالهم ويدفع صدقات النساء إليهن، استثنى منهم خفاف الأحلام وإن بلغوا أوان التكليف فقال: وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ أكثر العلماء على أن هذا الخطاب للأولياء. فورد أن الأنسب أن لو قيل أموالهم. وأجيب بأنه إنما حسنت إضافة الأموال إلى المخاطبين إجراء للوحدة النوعية مجرى الوحدة الشخصية كقوله:
ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ [البقرة: ٨٥] ومعلوم أن الرجل منهم ما كان يقتل نفسه ولكن كان بعضهم يقتل بعضا فقيل: «أنفسكم» لأن الكل من نوع واحد فكذا هنا المال شيء ينتفع به الإنسان ويحتاج إليه، فلهذه الوحدة النوعية حسنت إضافة أموال السفهاء إلى أوليائهم. ويحتمل أن يضاف المال إليهم لا لأنهم ملكوه بل لأنهم ملكوا التصرف فيه، ويكفي في حسن الإضافة أدنى سبب. وقيل: خطاب للآباء نهاهم الله تعالى إذا كان أولادهم سفهاء أن يدفعوا أموالهم أو بعضها إليهم. فعلى هذا تكون إضافة الأموال إليهم حقيقة.
والغرض الحث على حفظ المال وأنه إذا قرب أجله يجب عليه أن يوصي بماله إلى أمين يحفظه على ورثته. وقد يرجح القول الأول بأن ظاهر النهي للتحريم، وأجمعت الأمة على
روى أبو أمامة عن النبي ﷺ «ألا إنما خلقت النار للسفهاء» يقولها ثلاثا.
وإن السفهاء النساء إلا امرأة أطاعت قيمها. وقد جمع فعلية على فعلاء كفقيرة وفقراء. وقال الزهري وابن زيد: هم الأولاد الخفاف العقول. وعن ابن عباس والحسن وقتادة وسعيد بن جبير: إذا علم الرجل أن امرأته سفيهة مفسدة وأن ولده سفيه مفسد فلا ينبغي له أن يسلط واحدا منهما على ماله. والصحيح أن المراد بالسفهاء كل من ليس له عقل يفي بحفظ المال ولا يد له بإصلاحه وتثميره والتصرف فيه، ويدخل فيه النساء والصبيان والأيتام والفساق وغيرهم مما لا وزن لهم عند أهل الدين والعلم بمصالح الدارين، فيضع المال فيما لا ينبغي ويفسده. ومعنى جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً أنه لا يحصل قيامكم وانتعاشكم إلا به. سماه بالقيام إطلاقا لاسم المسبب على السبب. ومن قرأ قيما فعلى حذف الألف من قِياماً وهو مصدر قام وأصله قوام قلبت الواو ياء لإعلال فعله. فإن لم يكن مصدرا لم يعل كقوام لما يقام به. وكان السلف يقولون:
المال سلاح المؤمن، ولأن أترك ما لا يحاسبني الله عليه خير من أحتاج إلى الناس. وقال عبد الله بن عباس: الدراهم والدنانير خواتيم الله في الأرض لا تؤكل ولا تشرب حيث قصدت بها قضيت حاجتك. وقال قيس بن سعد: اللهم ارزقني حمدا ومجدا فإنه لا حمد إلا بفعال، ولا مجد إلا بمال. وقيل لأبي الزناد: لم تحب الدراهم وهي تدنيك من الدنيا؟
قال: هي وإن أدنتني فقد صانتني عنها. وكانوا يقولون: اتجروا واكتسبوا فإنكم في زمان إذا احتاج أحدكم كان أول ما يأكل دينه. وربما رأوا رجلا في تشييع جنازة فقالوا له: اذهب إلى مكانك. وقال بعض الحكماء: من أضاع ماله فقد ضارّ الأكرمين: الدين والعرض. وفي منثور الحكم: من استغنى كرم على أهله. وفيه: الفقر مخذلة، والغنى مجدلة، والبؤس مرذلة، والسؤال مبذلة. وكان يقال: الدراهم مراهم لأنها تداوي كل جرح ويطيب بها كل صلح. وقال أبو العتاهية:
أجلك قوم حين صرت إلى الغنى | وكل غني في العيون جليل |
إذا مالت الدنيا على المرء رغبت | إليه ومال الناس حيث تميل |
وليس الغنى إلا غنى زين الفتى | عشية يقرى أو غداة ينيل |
وذهب آخرون إلى تفضيل الفقر على الغنى، لأن الفقير تارك والغنى ملابس، وترك الدنيا أفضل من ملابستها وهذا قول من غلب عليه حب السلامة. وقال الباقون: خير الأمر أوساطها، والفضل للاعتدال بين الفقر والغنى ليصل إلى فضيلة الأمرين، ويسلم من مذمة الحالين.
ومن كلفته النفس فوق كفافها | فما ينقضي حتى الممات عناؤه |
لا بد مع ذلك من الاهتداء لمصالح الدين، فإن الفاسق لا يخلو من إتلاف المال في الوجوه الفاسدة المحرمة، وقد نفى الله تعالى الرشد عن فرعون في قوله وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ [هود: ٩٧] مع أنه كان يراعي مصالح الدنيا. ويتفرع على القولين أن الشافعي يرى الحجر على الفاسق وأبا حنيفة لا يراه. ثم إنه إذا بلغ غير رشيد واستمر على ذلك لم يدفع إليه ماله بالاتفاق إلى خمس وعشرين سنة، وفيما وراء ذلك خلاف. فعند أصحاب أبي حنيفة وعند الشافعي لا يدفع إليه أبدا إلا بإيناس الرشد كما هو مقتضى الآية. وعند أبي حنيفة يدفع لأن مدة بلوغ الذكر عنده بالسن ثماني عشرة سنة، فإذا زادت عليها سبع سنين وهي مدة معتبرة
لقوله صلى الله عليه وسلم: «مروهم بالصلاة لسبع» «١»
دفع إليه ماله، أونس منه رشد أو لم يؤنس. ثم قال: وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا مصدران في موضع الحال أي مسرفين ومبادرين كبرهم، أو مفعول لهما أي لإسرافكم ومبادرتكم كبرهم. والإسراف التبذير ضد القصد والإمساك. والكبر في السن وقد كبر الرجل بالكسر يكبر بالفتح كبرا أي أسن، وكبر بالضم يكبر كبرا وكبارة أي عظم. نهاهم عن الإفراط في الإنفاق كما يشتهون قبل أن يكبر اليتامى فينتزعوها من أيديهم وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ فليمتنع منه وليتركه. وفي السين زيادة مبالغة كأنه طلب مزيد العفة وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ وللعلماء خلاف في أن الوصي هل له أن ينتفع بمال اليتيم؟ قال الشافعي: له أن يأخذ قدر ما يحتاج إليه وبقدر أجرة عمله، لأن النهي في الآية عن الإسراف مشعر بأن له أن يأكل بقدر الحاجة، ولا سيما إذا كان فقيرا، ولما
روي عن النبي ﷺ أن رجلا قال له: إن في حجري يتيما أفآكل من ماله؟ قال: بالمعروف غير متأثل مالا ولا واق مالك بماله. قال: أفأضربه؟ قال: مما كنت ضاربا منه ولدك.
وروي أن عمر بن الخطاب كتب إلى عمار وابن مسعود وعثمان بن حنيف: سلام عليكم. أما بعد فإني قد رزقتكم كل يوم شاة شطرها لعمار، وربعها لعبد الله بن مسعود، وربعها لعثمان ألا وإني قد أنزلت نفسي وإياكم من مال الله منزلة والي مال اليتيم، مَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ. وأيضا قياسا على الساعي في أخذ الصدقات وجمعها فإنه يضرب له في تلك الصدقات بسهم، فكذا هنا. وعن سعيد بن جبير ومجاهد وأبي العالية أن له أن يأخذ بقدر ما يحتاج إليه قرضا، ثم إذا أيسر قضاه، وإن مات ولم يقدر على القضاء فلا شيء عليه. وأكثر العلماء على أن هذا الاقتراض إنما جاء في أصول الأموال من الذهب والفضة وغيرهما. وأما التناول من ألبان المواشي واستخدام العبيد وركوب الدواب فمباح له إذا كان غير مضر بالمال. وقال أبوبكر الرازي:
الذي نعرفه من مذهب أصحابنا أنه لا يأخذه لا على سبيل القرض ولا على سبيل الابتداء، سواء كان غنيا أو فقيرا، واحتج بقوله تعالى وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ وأجيب بأنها عامة.
وقوله: فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ خاص والخاص مقدم على العام. قال: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً وأجيب بأن محل النزاع هو أن أكل الوصي مال اليتيم ظلم أو لا؟ قال:
وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ وهو أيضا عين النزاع. ثم اعلم أن الأئمة اتفقوا على أن الوصي إذا دفع المال إلى اليتيم بعد بلوغه رشيدا فالأولى والأحوط أن يشهد عليه إظهارا
رواه الترمذي في كتاب المواقيت باب ١٨٢. بلفظ «علموا الصبي الصلاة ابن سبع».
قال ابن عباس: إن أوس بن ثابت الأنصاري توفي وترك امرأة يقال لها أم كحة وثلاث بنات له منها. فقام رجلان- هما ابنا عم الميت ووصياه سويد وعرفجة- فأخذا ماله ولم يعطيا امرأته ولا بناته شيئا، وكانوا في الجاهلية لا يورثون النساء ولا الصغير وإن كان ذكرا، إنما يورثون الرجال الكبار وكانوا يقولون لا يعطى إلا من قاتل على ظهور الخيل وذاد عن الحوزة وحاز الغنيمة. قال:
فجاءت أم كحة إلى رسول الله ﷺ فقالت: يا رسول الله، إن أوس بن ثابت مات وترك لي بنات وأنا امرأته وليس عندي ما أنفق عليهن، وقد ترك أبوهن مالا حسنا وهو عند سويد وعرفجة ولم يعطياني ولا بناته من المال شيئا. فدعاهما رسول الله ﷺ فقالا: يا رسول الله ولدها لا يركب فرسا، ولا يحمل كلا، ولا ينكي عدوّا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: انصرفوا حتى أنظر ما يحدث الله لي فيهن. فانصرفوا فأنزل الله لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ الآية. فبعث إليهما لا تقربا من مال أوس شيئا فإن الله قد جعل لهن نصيبا، ولم يبين حتى يتبين فنزلت يُوصِيكُمُ اللَّهُ فأعطى أم كحة الثمن، والبنات الثلثين، والباقي ابني العم.
وسبب الإجمال في الآية ثم التفصيل فيما بعد، هو أن الفطام من المألوف شديد، والتدرج في الأمور دأب الحكيم، وهكذا قد نزل الأحكام والتكاليف شيئا بعد شيء إلى أن كملت الشريعة الحقة وتم الدين الحنيفي مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ بدل مِمَّا تَرَكَ بتكرير العامل ونَصِيباً مَفْرُوضاً نصب على الاختصاص تقديره أعني نصيبا ومقطوعا مقدرا لا بد لهم أن يحوزوه، أو على المصدر المؤكد كأنه قيل: قسمة مفروضة. احتج بعض أصحاب أبي حنيفة بهذه الآية على توريث ذوي الأرحام كالعمات والخالات والأخوال وأولاد البنات، لأن الكل من الأقربين. غاية ما في الباب أن مقدار أنصبائهم غير مذكور هاهنا إلا أنا
وإذا حضرها من لا يرث من الأقرباء واليتامى والمساكين، أمر الله الموصي أن يجعل لهم نصيبا من تلك الوصية ويقول لهم مع ذلك قولا معروفا. وقيل: أولو القربى الوارثون واليتامى والمساكين الذين لا يرثون. وقوله: وَقُولُوا لَهُمْ راجع إلى هؤلاء الذين لا يرثون. ويحكى هذا القول عن سعيد بن جبير. وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا الجملة الشرطية وهي «لو» مع ما في حيزه صلة الذين. والمعنى ليخشى الذين من صفتهم وحالهم أنهم لو تركوا ذرية ضعافا خافوا عليهم. وأما المخشى فغير منصوص عليه. قال بعض المفسرين:
هم الأوصياء أمروا بأن يخشوا الله فيخافوا على من في حجورهم من اليتامى خوفهم على ذريتهم لو تركوهم ضعافا، أو أمروا بأن يخشوا على اليتامى من الضياع كما يخشون على أولادهم لو تركوهم، وعلى هذا فيكون القول السديد أي الصواب. القصد هو أن لا يؤذوا اليتامى ويكلموهم كما يكلمون أولادهم بالقول الجميل ويدعوهم بيا بني ويا ولدي، وهذا
لقد زاد الحياة إليّ حبا | بناتي إنهن من الضعاف |
أحاذر أن يرين البؤس بعدي | وأن يشربن رنقا بعد صافي |
قول رسول الله ﷺ لسعد: الثلث كثير.
وكان الصحابة رضي الله عنهم يستحبون أن لا تبلغ الوصية الثلث وإن الخمس أفضل من الربع والربع من الثلث. وقيل: يجوز أن تتصل الآية بما قبلها فيكون أمرا للورثة بالشفقة على الذين يحضرون القسمة من الضعفاء، وأن يتصوروا أنهم لو كانوا أولادهم خافوا عليهم الحرمان. وعن حبيب بن ثابت سألت مقسما عن الآية. فقال: هو الرجل الذي يحضره الموت ويريد الوصية للأجانب فيقول له من كان عنده: اتق الله وأمسك على ولدك مالك.
مع أن ذلك الإنسان يحب أن يوصي له. وعلى هذا يكون نهيا عن الوصية ولا يساعده قوله:
لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً ثم أكد الوعيد في باب إهمال مال اليتيم فقال إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً أي ظالمين أو على وجه الظلم من ولاة السوء وقضاته لا بالمعروف إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ أي ملء بطونهم نارا أي ما يجر إلى النار وكأنه نار في الحقيقة. وقال السدي: يبعث آكل مال اليتيم يوم القيامة والدخان يخرج من قبره ومن فيه وأنفه وأذنيه وعينيه، فيعرف الناس أنه كان يأكل مال اليتيم في الدنيا.
وعن أبي سعيد الخدري أن النبي ﷺ قال: «رأيت ليلة أسري بي قوما لهم مشافر كمشافر الإبل وقد وكل بهم من يأخذ بمشافرهم ثم يجعل في أفواههم صخرا من النار يخرج من أسافلهم فقال جبريل:
هؤلاء الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما».
وَسَيَصْلَوْنَ من قرأ بفتح الياء فهو من صلى فلان النار بالكسر يصلى صليا احترق. ومن قرأ بالضم فمعناه الإلقاء في النار لأجل الإحراق من الإصلاء. وقد يشدد من التصلية والمعنى واحد. والسعير النار، وسعرت النار والحرب هيجتها وألهبتها فهي سعير أي مسعورة. والتنكير للتعظيم أي نارا مبهمة الوصف لا يعلم شدتها إلا خالقها. قالت المعتزلة: لا يجوز أن يدخل تحت هذا الوعيد آكل اليسير من
التأويل:
ذكر الناسين بدء خلقهم بالأشباح والأرواح فخلقوا بالأشباح من آدم، وبالأرواح من روح محمد صلى الله عليه وسلم.
قال: أول ما خلق الله روحي فهو أبو الأرواح.
وخلق من الروح زوجه وهي النفس، خلقها من أدنى شعاع من أشعة أنوار روح محمد ﷺ وَبَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً أرواحا كاملين وَنِساءً أرواحا ناقصات وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ أي اتقوه أن تساءلوا به غيره وَالْأَرْحامَ ولا تقطعوا رحم رحمتي بصلة غيري وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ تزكية عن آفة الحرص والحسد والدناءة والخسة والطمع وتحلية بالقناعة والمروءة وعلو الهمة والعافية وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ تزكية عن آفة الخيانة والخديعة وتحلية بالأمانة وسلامة الصدر وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ تزكية عن الجور وتحلية بالعدل، فإن اجتماع هذه الرذائل كان حوبا كبيرا حجابا عظيما فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ تزكية عن الفاحشة وتحلية بالعفة ذلِكَ أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا تزكية عن الحدة والغضب، وتحلية بالسكون والحلم وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ تزكية عن البخل والغدر وتحلية بالوفاء والكرم فَكُلُوهُ هَنِيئاً تزكية عن الكبر والأنفة وتحلية بالتواضع والشفقة. فهذه كلها إشارات إلى تربية يتامى القلوب والنفوس بإيتاء حقوق تزكيتهم عن هذه الأوصاف وتحليتهم بهذه الأخلاق. ثم نهى عن إيتاء النفوس الأمارة حظوظها فقال: وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ وإنما قال: أَمْوالَكُمُ لأن الخطاب مع العقلاء والصلحاء وقد خلق الله الدنيا لأجلهم أن الأرض يرثها عبادي الصالحون. وَارْزُقُوهُمْ فِيها قدر ما يسد الجوعة وَاكْسُوهُمْ ما يستر العورة وما زاد فإسراف في حق النفس. وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً كنحو: أكلت رزق الله فأدّي شكر نعمته بامتثال أوامره ونواهيه وإلا أذيبي طعامك بذكر الله كما
قال ﷺ «أذيبوا طعامكم بذكر الله».
وَابْتَلُوا الْيَتامى أي قلوب السائرين بأدنى توسع في المعيشة بعد أن كانوا محجورين عن التصرف حَتَّى إِذا بَلَغُوا مبلغ الرجال البالغين فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ
بأن استمروا بذلك التوسع على السير وزادوا في اجتهادهم وجدهم كما قال الجنيد:
أشبع الزنجي وكدّه فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فالعبد في هذا المقام يكون جائز التصرف في مماليك سيده كالعبد المأذون، ولهذا قال هاهنا أَمْوالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً أي فإن آنستم يا أولياء الطريقة من المريدين البالغين رشد التصرف في أصحاب الإرادة فادفعوا إليهم عنان التصرف بإجازة الشيخوخية، ولا تجعلوا الشيخوخية مأكلة لكم غيرة وغبطة عليهم أن يكبروا بالشيخوخية. وَمَنْ كانَ غَنِيًّا بالله من قوة الولاية مستظهرا بالعناية فَلْيَسْتَعْفِفْ عن الانتفاع بصحبتهم، وَمَنْ كانَ فَقِيراً مفتقرا إلى ولاية المريد فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فلينتفع بإعانته وليجزله بالشيخوخية مع الإمداد في الظاهر والباطن. فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ سلمتم إليهم مقام الشيخوخية فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ الله ورسوله وأرواح المشايخ وأوصوهم برعاية حقوقها مع الله والخلق. ثم أخبر عن نصيب كل نسيب فقال: لِلرِّجالِ وهم الأقوياء من الطلبة وَلِلنِّساءِ وهم الضعفاء نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وهم المشايخ والإخوان في الله وتركتهم بركتهم وأنوارهم نَصِيباً مَفْرُوضاً على قدر استعدادهم وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أي في محافل صحبتهم ومجالس ذكرهم أُولُوا الْقُرْبى المنتمون إليهم المقتبسون من أنوارهم والمقتفون لآثارهم فَارْزُقُوهُمْ من مواهب بركاتهم وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً في التشويق وإرشاد الطريق وتقرير هوان الدنيا عند الله، وعزة أهل الله في الدارين. وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً من متوسطي المريدين أو المبتدئين خافُوا عَلَيْهِمْ آفات المفارقة بسفر أو موت فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ أي يوصونهم بالتقوى وأن يقولوا قولا سديدا هو لا إله إلا الله. فإن التقوى ومداومة الذكر خطوتان يوصلان العبد إلى الله إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ يضيعون أطفال الطريقة بعدم التربية ورعاية وظائف النصيحة إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نار الحسرة والغرامة يوم لا تنفع الندامة.
[سورة النساء (٤) : الآيات ١١ الى ٢٢]
يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (١١) وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (١٢) تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٣) وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها وَلَهُ عَذابٌ مُهِينٌ (١٤) وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً (١٥)
وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما إِنَّ اللَّهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً (١٦) إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (١٧) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً (١٩) وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (٢٠)
وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (٢١) وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً وَساءَ سَبِيلاً (٢٢)
واحِدَةً بالرفع: أبو جعفر ونافع. الباقون: بالنصب. فَلِأُمِّهِ وما بعده
الباقون بالياء. وكذلك في سورة الفتح والتغابن والطلاق. وَالَّذانِ بتشديد النون: ابن كثير، وكذلك قوله: هذانِ [طه: ٦٣] وهاتان وأَرِنَا الَّذَيْنِ [فصلت: ٢٩] وأشباه ذلك. وأما قوله فَذانِكَ فابن كثير وأبو عمرو ويعقوب وعباس مخير. الباقون:
بالتخفيف كَرْهاً بالضم وكذلك في التوبة، حمزة وعلي وخلف. الباقون بالفتح مُبَيِّنَةٍ مبينات بفتح الياء: ابن كثير وأبوبكر وحماد. وقرأ أبو جعفر ونافع وأبو عمرو وسهل ويعقوب مُبَيِّنَةٍ بالكسر مبينات بالفتح. الباقون كلها بالكسر.
الوقوف:
الْأُنْثَيَيْنِ ج ما تَرَكَ ج فَلَهَا النِّصْفُ ط لانتهاء حكم الأولاد إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ ج فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ ج أَوْ دَيْنٍ ط وَأَبْناؤُكُمْ ج لتقديرهم أبناؤكم، ولاحتمال كون آباؤكم مبتدأ وخبره. لا تَدْرُونَ نَفْعاً ج مِنَ اللَّهِ ط حَكِيماً هـ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ ج دَيْنٍ ط مِنْهُمَا السُّدُسُ ج دَيْنٍ ط لأن غير حال عامله يُوصى مُضَارٍّ ج لاحتمال نصب وصية به كما يجيء. مِنَ اللَّهِ ط حَلِيمٌ هـ ط لأن تِلْكَ مبتدأ حُدُودُ اللَّهِ ط خالِدِينَ فِيها ط لأن ما بعده اعتراض مقرر للجزاء.
الْعَظِيمُ هـ خالِداً فِيها ص لأن ما بعده من تتمة الجزاء. مُهِينٌ هـ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ ج لابتداء الشرط مع الفاء. سَبِيلًا هـ فَآذُوهُما ج عَنْهُما ط رَحِيماً هـ عَلَيْهِمْ ط حَكِيماً هـ السَّيِّئاتِ ط لأن حتى إذا تصلح للابتداء وجوابه قالَ إِنِّي تُبْتُ [النساء:
١٨] وتصلح انتهاء لعمل السيئات وَهُمْ كُفَّارٌ ط أَلِيماً هـ كَرْهاً ط للعدول عن الإخبار إلى النهي. مُبَيِّنَةٍ ج للعارض بين المتفقين بِالْمَعْرُوفِ ج كَثِيراً هـ شَيْئاً ط مُبِيناً هـ غَلِيظاً ط وَمَقْتاً ط سَبِيلًا هـ.
التفسير:
إنه تعالى لما بين حكم مال الأيتام وما على الأولياء فيه، بيّن أن اليتيم كيف يملك المال إرثا ولم يكن ذلك إلا بيان جملة أحكام الميراث. أو نقول: أجمل حكم الميراث في قوله: لِلرِّجالِ نَصِيبٌ ولِلنِّساءِ نَصِيبٌ ثم فصل ذلك بقوله يُوصِيكُمُ اللَّهُ أي يعهد إليكم ويأمركم في أولادكم في شأن ميراثهم. واعلم أن أهل الجاهلية كانوا يتوارثون بشيئين: النسب والعهد. أما النسب فكانوا يورثون الكبار به ولا يورثون الصغار والإناث كما مر، وأما العهد فالحلف أو التبني كما سيجيء في تفسير قوله: وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ [النساء: ٢٣] وكان التوريث بالعهد مقرر في أول الإسلام مع زيادة سببين آخرين: أحدهما الهجرة. فكان المهاجر يرث من المهاجر وإن كان أجنبيا عنه
كان رسول الله ﷺ يؤاخي بين كل اثنين منهم فيكون سببا للتوارث. والذي تقرر عليه الأمر في الإسلام أن أسباب التوريث ثلاثة: قرابة ونكاح وولاء. والمراد من الولاء أن المعتق يرث بالعصوبة من المعتق.
روي أن رسول الله ﷺ ورث بنت حمزة من مولى لها.
ووراء هذه الأسباب سبب عام وهو الإسلام، فمن مات ولم يخلف من يرثه بالأسباب الثلاثة فماله لبيت المال يرثه المسلمون بالعصوبة كما يحملون عنه الدية.
قال صلى الله عليه وسلم: «أنا وارث من لا وارث له أعقل عنه وأرثه» «١»
وعن أبي حنيفة وأحمد أنه يوضع ماله في بيت المال على سبيل المصلحة لا إرثا، لأنه لا يخلو عن ابن عم وإن بعد فألحق بالمال الضائع الذي لا يرجى ظهور مالكه. وإنما بدأ سبحانه بذكر ميراث الأولاد لأن تعلق الإنسان بولده أشد التعلقات، ثم للأولاد حال انفراد وحال اجتماع مع أبوي الميت. أما حال الانفراد فثلاث ذكور وإناث معا، أو إناث فقط، أو ذكور فقط. أما الحالة الأولى فبيانها قوله: لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ أي للذكر منهم، فحذف الراجع للعلم به وفيه أحكام ثلاثة: أحدها: خلف ذكرا واحدا وأنثى واحدة فله سهمان ولها واحد. وثانيها: خلف ذكورا وإناثا لكل ذكر سهمان ولكل أنثى سهم. وثالثها: خلف مع الأولاد جمعا آخرين كالزوجين، فهم يأخذون سهامهم والباقي بين الأولاد لكل ذكر مثل نصيب أنثيين. وإنما لم يقل للأنثيين مثل حظ الذكر أو للأنثى نصف حظ الذكر إشعارا بفضيلته كما ضوعف حظه لذلك، ولأن الابتداء بما ينبىء عن فضل أحد أدخل في الأدب من الابتداء بما ينبىء عن النقص، ولأنهم كانوا يورّثون الذكور دون الإناث فكأنه قيل لهم: كفى الذكور تضعيف من النصيب، فليقطعوا الطمع عن الزيادة. وأما الحكمة في أنه تعالى جعل نصيب النساء من المال أقل من نصيب الرجال، فلنقصان عقلهن ودينهن كما جاء في الحديث، ولأن احتياجهن إلى المال أقل لأن أزواجهن ينفقون عليهن، أو لكثرة الشهوة فيهن فقد يصير المال سببا لزيادة فجورهن كما قيل:
إن الشباب والفراغ والجده | مفسدة للمرء أي مفسده. |
فلما جعلت نصيب نفسها ضعف نصيب الرجل قلب الله الأمر عليها فجعل نصيب المرأة نصف نصيب الرجل. وأما الحالة الثانية فهن أكثر من اثنتين أو اثنتان أو واحدة. وحكم
لفظ فَوْقَ وهو صفة نساء أو خبر بعد خبر للتأكيد، أو ليخرج أقل الجمع وهو اثنان زائد كقوله: فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ [الأنفال: ١٢] وقيل: فيه تقديم وتأخير والمراد: فإن كن نساء اثنتين فما فوقهما.
وعن جابر بن عبد الله قال: جاءت امرأة بابنتين لها فقالت: يا رسول الله، هاتان بنتا ثابت بن قيس، أو قالت: سعد بن الربيع. قتل معك يوم أحد وقد استفاء عمهما مالهما وميراثهما. فقال: يقضي الله في ذلك ونزلت هذه الآية. فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ادع لي المرأة وصاحبها. فقال لعمهما: أعطهما الثلثين وأعط أمهما الثمن وما بقي فلك.
وأما الحالة الثالثة وهو ما إذا كان الأولاد ذكورا فقط فلم يذكر في الآية، لأنه لما علم أن للذكر مثل حظ الأنثيين وقد تبين أن للبنت الواحدة النصف، علم منه أن للابن الواحد الكل، وإذا كان للواحد الكل، فإذا كانوا أكثر من واحد لم يحسن حرمان بعضهم ولا
قال صلى الله عليه وسلم: «وما أبقت السهام فلأولى عصبة ذكر»
ولا نزاع في أن الابن عصبة ذكر، فإذا لم يكن معه صاحب فرض فله كل المال لا محالة. والنص: سألت عن ولد الولد فقيل: اسم الولد يقع على ولد الابن أيضا لقوله تعالى: يا بَنِي آدَمَ [الأعراف: ٣١] يا بَنِي إِسْرائِيلَ [البقرة: ٤٠، ٤٧، ١٢٢ وغيرها من الآيات]. وقيل: قيس ولد الولد على الولد لما أنه كولد الصلب في الإرث والتعصيب، ولكنه لا يستحق شيئا مع أولاد الصلب على وجه الشركة، وإنما يستحق إذا لم يوجد ولد الصلب رأسا، أو لا يأخذ كما في مسألة بنت واحدة وبنت ابن فإنهما يأخذان الثلثين. واعلم أن عموم قوله تعالى يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ مخصوص بصور منها: أن العبد والحر لا يتوارثان. ومنها أن القاتل لا يرث. ومنها أن لا يتوارث أهل ملتين والمرتد ماله فيء لبيت المال سواء اكتسب في الإسلام أو في الردة. وعند أبي حنيفة: ما اكتسب في الإسلام يرثه أقاربه المسلمون. ومنها أن الأنبياء لا يورثون خلافا للشيعة.
روي أن فاطمة رضي الله عنها لما طلبت الميراث احتجوا بقوله صلى الله عليه وسلم: «نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة» «١»
واحتجت بقوله تعالى حكاية عن زكريا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ [مريم: ٦] وبقوله: وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ [النمل: ١٦]، والأصل في التوريث للمال، ووراثة العلم أو الدين مجاز. وبعموم قوله: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ ولأن المحتاج إلى هذه المسألة ما كان إلا عليا وفاطمة والعباس وهؤلاء كانوا من أكابر الزهاد والعلماء في الدين. وأما أبو بكر فإنه ما كان محتاجا إلى معرفة هذه المسألة البتة لأنه ما كان يخطر بباله أنه يرث الرسول عليه الصلاة والسلام، فكيف يليق بالرسول ﷺ أن يبلغ هذه المسألة إلى من لا حاجة به إليها ولا يبلغها إلى من له إلى معرفتها أشد الحاجة؟ وأيضا يحتمل أن يكون
قوله: «ما تركناه صدقة»
صلة
لقوله: «لا نورث»
والمراد أن الشيء الذي تركناه صدقة فذلك الشيء لا يورث ولعل فائدة تخصيص الأنبياء بذلك أنهم إذا عزموا على التصدق بشيء فمجرد العزم يخرج ذلك عن ملكهم فلا يرثه وارثهم عنهم. أجابوا بأن فاطمة رضي الله عنها رضيت بقول أبي بكر بعد هذه المناظرة وانعقد الإجماع على ما ذهب إليه أبوبكر. واعلم أن جميع ما ذكرنا إنما هو في حالة انفراد الأولاد، أما حالة اجتماعهم بالأبوين فذلك قوله: وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ والمراد بالأبوين الأب والأم. فغلب جانب الأب لشرفه، ومثله من التغليب في التثنية «القمران» و «العمران» و «الخافقان».
وقال صلى الله عليه وسلم: «الاثنان فما فوقهما جماعة» «١»
وقد احتج ابن عباس بذلك على عثمان فقال: كيف تردّها إلى السدس بالأخوين وليسا بإخوة؟ فقال عثمان: لا أستطيع رد شيء كان قبلي ومضى في البلدان.
فأشار إلى إجماعهم قبل أن يظهر ابن عباس الخلاف. ثم إن الاثنين أو الثلاثة إذا حجبوا الأم عن السدس، فذلك السدس يكون لهم حتى يبقى للأب الثلثان، أو لا يكون لهم شيء من الميراث ويكون خمسة الأسداس للأب. ذهب ابن عباس إلى الأوّل، وذهب الجمهور إلى الثاني إذ لا يلزم من كون الشخص حاجبا كونه وارثا ولم يرد لهم ذكر إلا بالحجب فوجب أن يبقى المال بعد حصول هذا الحجب على ملك الأبوين. ثم ذكر أن هذه الأنصباء إنما تدفع إلى هؤلاء من بعد وصية يوصى بها أو دين. حتى لو استغرق الدين كل مال الميت لم يكن للورثة فيه حق. وإذا لم يكن أو كان لكنه قضى وفضل بعده شيء. فإن أوصى الميت وصية أخرجت من ثلث ما فضل ثم قسم الباقي ميراثا على فرائض الله تعالى.
عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: إنكم لتقرؤن الوصية قبل الدين وإن الرسول ﷺ قضى بالدين قبل الوصية.
والمراد أنه لا عبرة بالتقديم في الذكر لأن كلمة أولا تفيد الترتيب البتة، وإنما استفيد الترتيب من السنة عكس الترتيب في اللفظ. وفائدة هذا العكس أن الوصية تشبه الميراث في كونها مأخوذة من غير عوض، فكان أداؤها مظنة التفريط بخلاف الدين، فإن نفوس الورثة مطمئنة إلى أدائه فكان في تقديمها ترغيب لهم في أدائها، ولهذا جيء بكلمة أو دلالة على التسوية بينهما في الوجوب، ولأن كل مال ليس يحصل فيه الأمران فجيء بأو الفاصلة ليدل على أنه إن كان أحدهما فالميراث بعده، وكذلك إن كان كلاهما فالوصية تشبه الدين من جهة أن سهام أهل المواريث معتبرة بعد كل منهما. ولكنها تفارق الدين من جهة
ثم قال: آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً قال أبو البقاء أَيُّهُمْ مبتدأ وأَقْرَبُ خبره، والجملة في موضع نصب ب تَدْرُونَ وهي معلقة عن العمل لفظا لأنها من أفعال القلوب. وأقول: من الجائز أن لا تكون من أفعال القلوب بل تكون بمعنى المعرفة، وكان أَيُّهُمْ مفعوله مبنيا لحذف صدر الصلة نحو لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ [مريم: ٦٩]. قال المفسرون: هذا كلام معترض بين ذكر الوارثين وأنصبائهم، وبين قوله: فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ ومن حق الاعتراض أن يناسب ما اعترض بينه ويؤكده. فقيل: هذا من تمام الوصية أي لا تدرون من أنفع لكم من آبائكم وأبنائكم الذين يموتون، أم أوصى منهم أم من لم يوص. يعني أن من أوصى ببعض ماله فعرّضكم لثواب الآخرة بإمضاء وصيته فهو أقرب لكم نفعا وأحضر جدوى ممن ترك الوصية فوفر عليكم عرض الدنيا وجعل ثواب الآخرة أقرب وأحضر من عرض الدنيا ذهابا إلى حقيقة الأمر، لأن عرض الدنيا وإن كان عاجلا قريبا في الصورة إلا أنه فان فهو في الحقيقة الأبعد الأقصى، وثواب الآخرة وإن كان آجلا إلا أنه باق فهو في الحقيقة الأقرب الأدنى. وقيل: عن ابن عباس أن الابن إن كان أرفع درجة من أبيه في الجنة سأل أن يرفع أبوه إليه فيرفع. وكذلك الأب إن كان أرفع درجة من ابنه سأل أن يرفع ابنه إليه. فأنتم لا تدرون في الدنيا أيهم أقرب لكم نفعا لأن أحدهما لا يعرف ان انتفاعه في الجنة بهذا أكثر أم بذلك. وقيل: قد فرض الله الفرائض على ما هو عنده حكمة، والعقول لا تهتدي إلى كمية تلك التقديرات. فلو وكل ذلك إليكم لم تعلموا أيهم لكم أنفع فوضعتم أنتم الأموال في غير موضعها. وقيل: المراد كيفية انتفاع بعضهم ببعض في الدنيا من جهة الإنفاق والذب عنه، فلا يدري أن الابن سيحتاج إلى أن ينفق الأب عليه أو الأب سيفتقر إلى الابن. وقيل: المقصود جواز أن يموت هذا قبل: ذلك فيرنه وبالضد، والقول هو الأوّل. فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ نصبت على أنها صفة تقوم مقام المصدر المؤكد أي فرض الله ذلك فرضا إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً بكل المعلومات فيكون عالما بما في قسمة المواريث من المصالح والمفاسد حَكِيماً لا يأمر إلا بما هو الأحسن الأصلح. قال الخليل: «كان» هاهنا منخلع عن اعتبار الاقتران بالزمان، لأنه تعالى منزه عن الدخول تحت الزمان ولكنه من الأزل إلى الأبد عليم حكيم. وقال سيبويه: إن القوم لما شاهدوا علما وحكمة تعجبوا فقيل لهم: إن الله كان كذلك أي لم يزل موصوفا بهذه الصفات. هذا واعلم أن الوارث إما أن يكون متصلا بالميت بغير واسطة أو بواسطة. وعلى الأول فسبب الاتصال
وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ إلى قوله تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ ثم بيّن أحوال القسم الثالث وهو الكلالة في قوله: وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً فما أحسن هذا النسق. ولما جعل في الموجب النسبيّ حظ الرجل مثل حظ الأنثيين، فكذلك جعل في الموجب السببي وهو الزوجية حظ الزوج ضعف حظ الزوجة. وقد نبه في الآية على فضل الرجال حيث ذكرهم على سبيل المخاطبة ثمان مرات، وذكرهن على الغيبة أقل من ذلك. ثم الواحدة والجماعة سواء في الربع والثمن، ولا فرق في الولد بين الذكر والأنثى، ولا بين الابن وابن الابن، ولا بين البنت وبنت الابن، ويخرج منه ولد البنت لأنه لا يرث. وهاهنا مسألة.
قال الشافعي: يجوز للزوج غسل زوجته لأنها بعد الموت زوجته بدليل قوله تعالى: وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ وقال أبو حنيفة: لا يجوز لأنها ليست زوجته، ولو كانت زوجته لحل له وطؤها لقوله: إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ [المؤمنون: ٦] وأجيب بأنه لو لم تكن زوجة له لكان قوله ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ مجازا. ولو كانت زوجة مع أنه لا يحل له وطؤها لزم التخصيص وإذا تعارض المجاز والتخصيص فالتخصيص أولى كما بين في أصول الفقه.
وكيف لا وقد علم في صور كثيرة حصول الزوجية مع حرمة الوطء كزمان الحيض والنفاس ونهار رمضان وعند اشتغالها بالصلاة المفروضة والحج المفروض وعند كونها في العدّة عن الوطء بالشبهة. وأيضا حل الوطء ثابت على خلاف الأصل لما فيه من المصالح، وعند الموت لم يبق شيء من تلك المصالح فعاد إلى أصل الحرمة. أما حل الغسل ففيه مصالح فوجب القول ببقائه. واختلفوا في تفسير الكلالة فعن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه سئل عن الكلالة فقال: أقول فيه برأيي فإن كان صوابا فمن الله، وإن كان خطأ فمني ومن الشيطان والله بريء منه. الكلالة ما خلا الوالد والولد. وعن عمر رضي الله عنه: الكلالة من لا ولد له فقط. وعنه في رواية أخرى التوقف. وكان يقول: ثلاثة لأن يكون بينهن الرسول ﷺ لنا أحبّ إليّ من الدنيا وما فيها: الكلالة والخلافة والربا. وقيل: الكلالة القرابة من غير جهة الولد والوالد. ومنه قولهم: ما ورث المجد عن كلالة كما تقول: ما صمت عن عيّ. قال الفرزدق:
ورثتم قناة الملك لا عن كلالة | عن ابني مناف عبد شمس وهاشم |
فآليت لا أرثي لها من كلالة | ولا من وجى حتى تلاقي محمدا |
نسب تتابع كابرا عن كابر | كالرمح أنبوبا على أنبوب |
ويجوز أن يكون صفة كالهجاجة والفقاقة يقال: رجل هجاجة وفقاقة كلاهما بالتخفيف أي أحمق. وقوله تعالى: وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ فيه احتمالان: الأول وهو قول عطاء والضحاك: أن يكون مأخوذا من ورث الرجل يرث فيكون الرجل هو الموروث منه، وينتصب كلالة على الحال أو على أنه خبر «كان» ويُورَثُ صفة رجل. ويجوز أن يكون مفعولا له أي يورث لأجل كونه كلالة. والثاني وهو قول سعيد بن جبير أن يكون مبنيا للمفعول من أورث فالرجل حينئذ هو الوارث، وينتصب كلالة على الوجوه المذكورة. قيل:
ما السبب في أنه قال: وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ ثم قال: وَلَهُ أَخٌ فكنى عن الرجل ولم يكن عن المرأة؟ والجواب أنه إذا جاء حرفان في معنى واحد جاز إسناد التفسير
وله أخ أو أخت من أم فلكل واحد منهما أي من الأخ والأخت السُّدُسُ من غير مفاضلة الذكر على الأنثى. هذا على الاحتمال الأوّل وهو أن الرجل مورث منه. وأما على الاحتمال الثاني وهو أن الرجل وارث فالضمير عائد إلى الرجل وإلى واحد من أخيه أو أخته. والمعنى مثل الأوّل، لأنك إذا قلت السدس له أو لواحد من الأخ أو الأخت على التخيير فقد سوّيت بين الذكر والأنثى. ثم قال فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ فبيّن أن نصيبهم كيفما كانوا لا يزداد على الثلث. وقد يسند الإجماع إلى هذا بيانه أنه قال في آخر السورة قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ [النساء: ١٧٦] وأثبت للأختين الثلثين وللإخوة كل المال، وهاهنا أثبت للإخوة، والأخوات السدس عند الانفراد، والثلث عند الاجتماع، فعلم أن المراد من الإخوة والأخوات هاهنا غير المراد من الإخوة والأخوات في تلك الآية. فالمراد هاهنا الإخوة والأخوات من الأم وهم الأخياف، وهناك الإخوة والأخوات من الأب والأم وهم الأعيان، أو من الأب وهم أولاد العلات. فالكلالة وإن كانت عامة لمن عدا الوالد والولد إلا أنها في الآية خاصة كما بيننا. غَيْرَ مُضَارٍّ حال أي يوصي بها وهو غير مضارّ لورثته. ومن قرأ يُوصِي مبنيا للمفعول فعامل الحال محذوف يدل عليه المذكور أي يوصى إذا علم أن ثمة موصيا والضمير فيه وهو ذو الحال يعود إلى رجل على تقدير أنه المورث، أو إلى الميت الدال عليه سياق الكلام أي إن كان الرجل وارثا وضرار الورثة بأن يوصي بأزيد من الثلث أو بالثلث فما دونه ونيته مضارة الورثة ومغاضبتهم وقطع الميراث عنهم لا وجه الله. وقد يقر بأن الدين الذي كان له على غيره قد استوفاه، أو يبيع شيئا بثمن بخس، أو يشتري شيئا بثمن غال، كل ذلك لئلا يصل المال إلى الورثة. قال العلماء: الأولى بالإنسان أن ينظر في قدر ما يخلف ومن يخلف، ثم يجعل وصيته بحسب ذلك فإن كان في المال قلة وفي الورثة كثرة لم يوص، وإن كان بالعكس أوصى على قانون العدالة. وقد روي عن عكرمة عن ابن عباس: أن الإضرار في الوصية من الكبائر.
ويروى مرفوعا وعن شهر بن حوشب عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة سبعين سنة فإذا أوصى وحاف في وصيته ختم له بشر عمله فيدخل النار. وإن الرجل
وعنه «من قطع ميراثا فرضه الله قطع الله ميراثه من الجنة». وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ نصب على المصدر المؤكد أو على أنه مفعول مُضَارٍّ أي لا يضار وصية من الله وهو الثلث فما دونه بزيادته على الثلث، أو وصية من الله بالأولاد لا يدعهم عالة بإسرافه في الوصية وَاللَّهُ عَلِيمٌ بمن جار في وصيته أو عدل حَلِيمٌ عن الجائر لا يعاجله بالعقوبة، وفيه من الوعيد ما لا يخفى.
ثم أكد الوعيد بالترغيب والترهيب فقال: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وهو إشارة إلى جميع ما ذكر في السورة من أحكام اليتامى والوصايا والمواريث وغيرها، وهي الشرائع التي لا يجوز للمكلف أن يتجاوزها ويتخطاها إلى ما ليس له بحق. وقوله: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ عام في هذه التكاليف وفي غيرها، كما أن الوالد يقبل على ولده ويؤدبه في أمر مخصوص، ثم يقول احذر مخالفتي ويكون مقصوده منعه من معصيته في جميع الأمور.
وإنما قيل: يُدْخِلْهُ وخالِدِينَ حملا على لفظ «من» ومعناه. وانتصب خالِدِينَ وخالِداً على الحال. ولا يجوز أن يكونا صفتين ل جَنَّاتٍ وناراً لأنهم جريا على غير من هماله، فكان يلزم حينئذ أن يقال: خالدين هم فيها وخالدا هو فيها. قالت المعتزلة: الآية تدل على القطع بوعيد الفساق وخلودهم وذلك أن التعدي في جميع حدود الله محال، لأن من حدوده ترك اليهودية والنصرانية والمجوسية، والتعدي فيها هو الإتيان بجميعها وذلك محال. فإن المراد تعدّي أي حدّ كان، ولأن الآية مذكورة عقيب قسمة المواريث فيكون المراد التعدي في هذه الحدود. وأجيب بما مر من أن ذلك مشروط عندكم بعدم التوبة، فأي مانع لنا من أن نزيد فيه شرطا آخر وهو عدم العفو. وبأن الآية لعلها مخصوصة بالكافر لأن جميع المعاصي يصح استثناؤها من هذا اللفظ أي: ومن يعص الله في كذا وفي كذا. وذلك لا يتحقق إلا في حق الكافر. نعم يخرج منه ما يخصصه دليل عقلي كما ذكرتم من استحالة الجمع بين اليهودية والنصرانية، ومما يؤكد كون الآية مخصوصة بالكافر أن قوله: وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يفيد كونه فاعلا للمعاصي. فلو كان المراد من قوله: وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ أيضا ذلك لزم التكرار فوجب حمله على الكفر. وإن سلم أن المراد هو التعدي في حدود المواريث فلعل المراد من التعدي هو اعتقاد كونها لا على وجه الحكمة والصواب ويلزم منه الكفر والله أعلم بمراده. قوله عم طوله: وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ الآية.
والفاحشة الفعلة المتزايدة في القبح مصدر كالعافية. وأجمعوا على أنها الزنا هاهنا. قال المحققون: خصص هذا العمل بالفاحشة لأن القوى البدنية نطقية وغضبية وشهوية، وفساد الأولى الكفر والبدعة وأمثالها، وفساد الثانية القتل بغير حق ونحوه، وفساد الثالثة الزنا واللواط والسحق وما أشبهها وهذه أخص الجميع. ومعنى مِنْ نِسائِكُمْ من زوجاتكم أو من الحرائر أو من نسائكم المؤمنات والثيبات أقوال. فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ احتياطا لأمر الزنا. والمراد بقوله: مِنْكُمْ أي من رجالكم. قال الزهري: مضت السنة من رسول الله ﷺ والخليفتين بعده أن لا تقبل شهادة النساء في الحدود فإن شهدوا مفصلا مفسرا كقولهم: رأيناه أدخل فرجه في فرجها كالمرود في المكحلة، أو كالرشاء في البئر. ولا بد مع ذلك من الوصف بالتحريم لا بمعنى عرضي كالحيض، ولا مع تحليل عالم كالمتعة، ولا بشبهة فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ خلدوهن محبوسات في بيوتكم حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أي ملائكة الموت أو حتى يأخذهن الموت ويستوفي أرواحهن أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا بالنكاح أو بالحد. وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ يعني الزاني والزانية أو اللائط والملوط فَآذُوهُما فوبخوهما وقولوا لهما أما استحييتما أما خفتما الله أما لكما في النكاح مندوحة عن هذه؟ فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا وغيرا الحال فَأَعْرِضُوا عَنْهُما فاقطعوا التوبيخ والذم، أو خوطب الشهود الذين عثروا على سرهما أن يهددوهما بالرفع إلى الإمام والحد فإن تابا قبل الرفع إلى الإمام فأعرضوا عن العرض على الإمام. واعلم أن للعلماء خلافا في الآيتين. فعن الحسن أن الثانية مقدمة في النزول. أمروا بإيذاء الزانيين أولا ثم أمروا بإمساك النساء في
وزيف قول أبي مسلم بأنه قول لم يقل به أحد، وبأن الصحابة اختلفوا في أحكام اللواطة ولم يتمسك أحد منهم بهذه الآية. وعدم تمسكهم بها مع شدة احتياجهم إلى نص يدل على هذا الحكم دليل على أن الآية ليست في اللواطة. وأجاب أبو مسلم بأنه قول مجاهد- وهو من أكابر المفسرين- على أنه بيّن في الأصول أن استنباط تأويل جديد جائز، وأيضا كان مطلوب الصحابة معرفة حدّ اللوطيّ وكمية ذلك وليس في الآية دلالة عليه بالنفي والإثبات، ومطلق الإيذاء لا يصلح للحد. وجمهور المفسرين على أن الآيتين في الزنا وأنهما منسوختان لما
روى مسلم في كتابه عن عبادة بن الصامت كان نبي الله ﷺ إذا أنزل عليه كرب لذلك وتربد له وجهه فأنزل عليه ذات يوم فلقي كذلك، فلما سري عنه قال: خذوا عني فقد جعل الله لهن سبيلا: البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم. ثم استقر الأمر آخرا على أن البكر يجلد ويغرّب والثيب يرجم فقط.
وقيل: إن هذه الآية صارت منسوخة بآية الجلد. وعن أصحاب أبي حنيفة أن آية الحبس نسخت بالحديث، والحديث منسوخ بآية الجلد، وآية الجلد نسخت بدلائل الرجم. وقال في الكشاف: من الجائز أن لا تكون الآية منسوخة بأن يترك ذكر الحد لكونه معلوما بالكتاب والسنة ويوصي بإمساكهن في البيوت بعد أن يحددن صيانة لهن عن مثل ما جرى عليهن بسبب الخروج من البيوت والتعرض للرجال.
وقال الشيخ أبو سليمان الخطابي في معالم السنن: إنه لم يحصل النسخ في الآية ولا في الحديث. وذلك أن الآية تدل على أن إمساكهن في البيوت ممدود إلى غاية أن يجعل الله لهن سبيلا. ثم إن ذلك السبيل كان مجملا، فلما
قال صلى الله عليه وسلم: خذوا عني الثيب يرجم والبكر يجلد وينفى.
صار هذا الحديث بيانا لتلك الآية لا ناسخا لها، وصار أيضا مخصصا لعموم آية الجلد والله تعالى عليم. ثم أخبر عن المستحقين لقبول التوبة وعن المستحقين لعدم القبول فقال: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ واجبة وجوب الوعد والكرم لا وجوبا يستحق بتركه الدم لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ قال أكثر المفسرين: كل من عصى فهو جاهل وفعله جهالة. ولهذا قال موسى: أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ [البقرة: ٦٧] لأنه حيث لم
ومثله
قوله صلى الله عليه وسلم: «إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر» «١»
والفائدة في قوله: فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بعد قوله: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ أن الأوّل إعلام بأنه يجب على الله قبولها لزوم الكرم والفضل والإحسان، والثاني إخبار بأنه سيفعل ذلك. أو المراد بالأوّل توفيق التوبة والإعانة عليها، وبالثاني قبولها. وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً بأنه إنما أتى بتلك المعصية لاستيلاء الشهوة والغضب والجهالة عليه حَكِيماً يجب في كرمه قبول توبة العبد إذا تاب من قريب. قال المحققون: قرب الموت وهو وقوعه في الشدائد بحيث يغلب على ظنه نزول الموت كما في القولنج، وفي حالة الطلق، وعند تلاطم الأمواج مع انكسار السفينة لا يمنع من قبول التوبة، بل التوبة حينئذ أولى بالقبول لقوله: أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ [النمل: ٦٢] وإنما المانع من قبوله معاينة سلطان الموت ومشاهدة أحواله وأهواله بحيث
وأيضا العلم النظري هو الذي لا يكون معه تجويز نقيضه، وعلى هذا فلا فرق بينه وبين الضروري البتة، وعلى هذا فكيف يصير النظري موجبا للتكليف، والضروري مانعا من التكليف؟ فثبت ضعف هذا الفرق، وأنه تعالى يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، فهو بفضله وعد وقبل التوبة في بعض الأوقات، وبعد له أخبر عن عدم قبول التوبة في وقت آخر، وله أن يقلب الأمر فيجعل المقبول مردودا والمردود مقبولا لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ [الأنبياء: ٢٣] وأقول: التحقيق فيه أنه مالك الملك يتصرف في ملكه كيف يشاء، وقوله صدق وأمره حق، وقد عين لعبيده حالين: دنيا وعقبى. وقد أخبر أنه جعل الدنيا دار العمل، والعقبى دار الجزاء، وليس لأحد عليه اعتراض أنه لم لم يعكس الأمر. ثم إن لليقين مراتب: علم اليقين، وعين اليقين، وحق اليقين. وليس ببعيد أن لا يكون علم اليقين منافيا للتكليف، ويكون عين اليقين منافيا له. ثم عطف قوله: وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ على الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ تسوية بين الذين سوّفوا توبتهم إلى حضرة الموت، وبين الذين ماتوا على الكفر في أنه لا توبة لهم لأن حضرة الموت أوّل أحوال الآخرة. فكما إن المائت على الكفر قد فاتته التوبة على اليقين، فكذلك المسوّف إلى حضرة الموت لمجاوزة كل منهما الحد المضروب للتوبة. أو المعنى أنه كما أن التوبة عن المعاصي لا تقبل عند القرب من الموت، كذلك الإيمان لا يقبل عند القرب من الموت، أو المراد أن الكفار إذا ماتوا على الكفر فلو تابوا في الآخرة لا تقبل توبتهم. أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ أي أعددنا الوعيد نظير قوله: فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ في الوعد ليتبين أن الأمرين كائنان لا محالة. قالت الوعيدية: المعطوف مغاير للمعطوف عليه. لكن الطائفة الثانية كفار فالأوّلون فساق لكنهما مشتركان في العذاب الأليم، فثبت أن حكمهما واحد. وأجيب بأن أُولئِكَ إشارة إلى أقرب المذكورين، ويعضده أن الكفار أشنع قولا من الفساق، أو الطائفة الأولى هم الذين عاشوا على الكفر ثم تابوا في حضرة الموت كفرعون، والثانية هم الذين عاشوا على الكفر وماتوا عليه كنمروذ مثلا.
بآية الجلد.
وقيل: الفاحشة هي النشوز وشكاسة الخلق أي إلا أن يكون سوء العشرة من جهتهن فإنهم معذورون حينئذ في طلب الخلع. النوع الثالث من التكاليف المتعلقة بأحوال النساء وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وهو الإجمال في القول والإنصاف في المبيت والنفقة فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ ورغبتم في فراقهن فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً فههنا قد يميل طبعكم إلى المفارقة ويكون الخير في الاستمرار على المواصلة، منه الثناء في الدينا بحسن الوفاء وكرم الخلق، ومنه الثواب في العقبى بالصبر على خلاف الهوى، ومنه حصول
قال صلى الله عليه وسلم: «الشؤم في المرأة والفرس والدار» «١»
وقيل: المعنى إن رغبتم في مفارقتهن فربما جعل الله تعالى في تلك المفارقة لهن خيرا كثيرا بأن تتخلص من زوج سيىء العشرة وتجد زوجا آخر أوفق منه. النوع الرابع من التكليف وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وذلك أنه لما أذن في مضارتهن إذا أتين بفاحشة بين تحريم الضرار في غير حالة الفاحشة.
يروى أن الرجل منهم كان إذا مال إلى التزوج بامرأة أخرى رمى زوجته الأولى بالفاحشة حتى يلجئها إلى الافتداء منه بما أعطاها ليصرفه إلى تزوّج المرأة
روي يريدها فنهوا عنه.
والقنطار المال العظيم، وفيه دليل على جواز المغالاة في المهر. روي أن عمر قال على المنبر: ألا لا تغالوا في مهور نسائكم. فقامت امرأة وقالت: يا ابن الخطاب، الله يعطينا وأنت تمنع وتلت هذه الآية. فقال عمر: كل الناس أفقه من عمر ورجع عن ذلك. ويحتمل أن يقال: ذكر إيتاء القنطار وارد على سبيل المبالغة والفرض لا الرخصة. وهو في موضع الحال أي وقد آتيتم. ومعنى الإيتاء الالتزام ووقوع العقد عليه سواء أدّى المال إليها أم لا. واعلم أن النشوز إن كان من قبل الزوجة حل أخذ مال الخلع، وإن كان من قبل الزوج لم يحل إلا أنه يفيد الملك لو خالع، كما أن البيع وقت النداء منهي عنه، ثم إنه يفيد الملك. أَتَأْخُذُونَهُ استفهام بطريق الإنكار بُهْتاناً وهو أن يستقبل الرجل بأمر قبيح يقذفه به وهو بريء منه لأنه يبهت عند ذلك أي يتحير.
وفي الحديث «إذا واجهت أخاك بما ليس فيه فقد بهته» «٢»
وهو مصدر في موضع الحال أي باهتين وآثمين، أو على أنه مفعول له مثل: قعدت جبنا. وقيل: بنزع الخافض أي ببهتان. وقيل:
بمضمر أي تصيبون بهتانا. وسبب تسيمة هذا الأخذ بهتانا أنه تعالى فرض لها ذلك المهر فمن استردّه فكأنه يقول ليس ذلك بفرض فيكون بهتانا، أو أنه عند العقد تكفل بتسليم ذلك المهر إليها وأن لا يأخذه منها فإذا أخذه منها صار القول الأوّل بهتانا أي باطلا، أو كان من عادتهم أنهم إذا أرادوا تطليق الزوجة رموها بفاحشة حتى تفتدي، فلما كان هذا الأمر واقعا على هذا الوجه في الأغلب سيق الكلام على ذلك. وبالحقيقة أن أخذ هذا المال طعن في
(٢)
رواه أحمد في مسنده (٢/ ٢٣٠، ٢٨٤). مسلم في كتاب البر حديث ٧٠. أبو داود في كتاب الأدب باب ٣٥. الترمذي في كتاب البر باب ٢٣. الدارمي في كتاب الرقاق باب ٦. بلفظ «... وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهّته».
ورجح مذهب الشافعي بأن الكلام ورد في معرض التعجب وهو إنما يتم إذا كان هذا الإفضاء سببا قريبا في حصول الألفة والمودّة وذلك هو الجماع لا مجرد الخلوة، وأيضا الإفضاء لا بد أن يكون مفسرا بفعل ينتهي منه إليها لأن كلمة «إلى» لانتهاء الغاية، ومجرد الخلوة ليس كذلك إذا لم يحصل فعل من أفعال أحدهما إلى الآخرة. فإن قيل: على هذا يجب أن يكون التلامس والاضطجاع في لحاف واحد كافيا في تحقيق الإفضاء، وأنتم لا تقولون به؟
فالجواب أنه باطل بالإجماع إذ القائل قائلان: قائل بتفسير الإفضاء بالجماع، وقائل بتفسيره بمجرد الخلوة. وأيضا الشرع قد علق تقرر المهر بتحقيق الإفضاء، وقد اشتبه معناه أنه الخلوة أو الجماع فوجب الرجوع إلى ما قبل زمان الخلوة. ومقتضى ذلك عدم تقرر المهر.
ثم أكد المنع من استرداد المهر بقوله: وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً قال السدي وعكرمة والفراء: هو قولكم زوّجتك هذه المرأة على ما أخذ الله للنساء على الرجال من إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان. ومعلوم أنه إذا ألجأها إلى أن بذلت المهر فقد سرحها بالإساءة. وقال ابن عباس ومجاهد: الميثاق الغليظ كلمة النكاح المعقودة على الصداق وإليها أشار
في الحديث «واستحللتم فروجهن بكلمة الله» «١»
وقال آخرون: أخذن منكم بسبب إفضاء بعضكم إلى بعض ميثاقا غليظا وصفه بالغلظ لقوّته فقد قالوا: صحبة عشرين يوما قرابة فكيف بما يجري بين الزوجين من الاتحاد والامتزاج؟ النوع الخامس من التكاليف المتعلقة بأمور النساء قوله: وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ قال ابن عباس وجمهور المفسرين: كان أهل الجاهلية يتزوجون بأزواج آبائهم فنهوا عن ذلك. وهاهنا مسألة خلافية قال أبو حنيفة: يحرم على الرجل أن يتزوج بمزنية أبيه. وقال الشافعي: لا يحرم. حجة أبي حنيفة أن النكاح عبارة عن الوطء لقوله: حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ [البقرة: ٢٣٠] وبالاتفاق
٦] أي الوطء لأن أهلية العقد حاصلة أبدا. ولقوله: الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً [النور: ٣]
ولقوله صلى الله عليه وسلم: «ناكح اليد ملعون»
فيدخل في الآية المزنية لأنها منكوحة أي موطوأة. وعورض بالآيات الدالة على أن النكاح هو العقد كقوله: وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ [النور: ٣٢] فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ [النساء: ٣]
وبقوله صلى الله عليه وسلم: «النكاح سنتي» «١»
ولا شك أن الوطء من حيث إنه وطء ليس سنة له.
وبقوله: «ولدت من نكاح لا من سفاح»
وبأن من حلف في أولاد الزنا إنهم ليسوا من أولاد النكاح لم يحنث. سلمنا أن الوطء سمي بالنكاح لكن العقد أيضا مسمى به، فلم كان حمل الآية على ما ذكره أولى من حملها على ما ذكرنا مع إجماع المفسرين على أن سبب نزول الآية هو العقد لا الوطء؟ قالوا: حقيقة في الوطء مجاز في العقد لأنه في اللغة الضم، وهذا المعنى حاصل في الوطء لا في العقد. وإنما أطلق النكاح على العقد إطلاقا لاسم المسبب على السبب، والحمل على الحقيقة أولى أو مشترك بينهما. ويجوز استعماله في مفهوميه معا، فتكون الآية نهيا عن الوطء وعن العقد معا، أو لا يجوز استعماله في المفهومين فيكون نهيا عن القدر المشترك بينهما وهو الضم.
والنهي عن المشترك يكون نهيا عن القسمين، فإن النهي عن التلوين يكون نهيا عن التسويد والتبييض لا محالة. وأجيب بأنه خلاف إجماع المفسرين، وبأن استعمال اللفظ المشترك في كلا مفهوميه غير جائز، وبأن معنى الضم لا يتصورّ في العقد. سلمنا أن النكاح بمعنى الوطء ولكن ما في قوله: ما نَكَحَ لا نسلم أنها موصولة لأنها حقيقة في غير العقلاء وإنما هي مصدرية والتقدير: ولا تنكحوا نكاح آبائكم فإن أنكحتهم كانت بغير ولي وشهود وكانت مرفية ومهرية فنهوا عن مثل هذه الأنكحة. قاله محمد بن جرير الطبري. سلمنا أن المراد لا تنكحوا من نكح آباؤكم ولكنا لا نسلم أن «من» تفيد العموم وإذا لم تفد العموم لم تتناول محل النزاع. لكن لم قلتم إن النهي للتحريم لا للتنزيه؟ سلمنا أن النهي للتحريم لكن لا نسلم أنه غير صحيح لأن النهي عندكم لا يدل على الفاسد كما في البيع الفاسد وفي صوم يوم النحر. وإذا كان منعقدا كان صحيحا. ثم إنا نستدل على جواز نكاح مزنية الأب بقوله تعالى: وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ [البقرة: ٢٢١] نهى عن نكاحهن إلى غاية نفي إيمانهن، وهذا يقتضي جواز نكاحهن بعد تلك الغاية على الإطلاق مزنية كانت أو غيرها، إلا ما أخرجه الدليل، وهكذا سائر العمومات كقوله: وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ [النساء:
٢٤]
وكقوله صلى الله عليه وسلم: «إذا جاءكم من ترضون دينه فزوّجوه» «٢»
وقوله: «زوّجوا أبناءكم
(٢) رواه الترمذي في كتاب النكاح باب ٣. ابن ماجه في كتاب النكاح باب ٤٦.
وبقوله صلى الله عليه وسلم: «الحرام لا يحرّم الحلال» «١».
ودخول التخصيص فيه بما لو وقع قطرة من الخمر في إناء من الماء فتحرمه لا يمنع من الاستدلال به في غيره، وقد ناظر الشافعي محمد بن الحسن في هذه المسألة فوقع ختم الكلام على قول الشافعي وطء حدت به ووطء رجمت به فكيف يشتبهان؟ أما قوله تعالى: إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ فللمفسرين فيه وجوه: أحسنها ما ذكره السيد صاحب حل العقد أنه على طريق المعنى. فإن النهي يدل على المؤاخذة بارتكاب المنهي عنه فكأنه قيل: أنتم مؤاخذون بنكاح ما نكح آباؤكم إلا ما قد سلف قبل نزول آية التحريم فإنه معفوّ عنه. وقال في الكشاف: هذا كما استثنى «غير أن سيوفهم» من قوله: «ولا عيب فيهم» يعني إن أمكنكم أن تنكحوا ما قد سلف فانكحوه فإنه لا يحل لكم غيره وذلك غير ممكن. والغرض المبالغة في تحريمه كقوله: حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ [الأعراف: ٤٠] وقولهم: حتى يبيض القار. وقيل: استثناء منقطع لأنه لا يجوز استثناء الماضي من المستقبل. والمعنى لكن ما قد سلف فإن الله قد تجاوز عنه.
وقيل: «إلا» بمعنى «بعد» كقوله: لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى [الدخان:
٥٦] أي بعد موتتهم الأولى. وقيل: إلا ما قد سلف فإنكم مقرّون عليه. قالوا: إنه ﷺ أقرهم عليهن مدة ثم أمر بمفارقتهن وإنما فعل ذلك ليكون صرفهم عن هذه العادة على سبيل التدريج. وزيف؟؟؟ بعضهم هذا القول وقال ما أقرّ أحدا على نكاح امرأة أبيه وإن كان في الجاهلية.
وروي أنه ﷺ بعث أبا بردة إلى رجل عرّس بامرأة أبيه ليقتله ويأخذ ماله إنه أي إن هذا النكاح كان قبل النهي فاحشة،
أعلم الله تعالى أن هذا الفعل كان أبدا ممقوتا عند العرب، وهذا النكاح بعد النهي فاحشة في الإسلام لأنه كان في علم الله وحكمه موصوفا بهذا الوصف، والمقت عبارة عن بغض مقرون باستحقار. حصل ذلك بسبب أمر قبيح ارتكبه صاحبه، وهو من الله تعالى في حق العبد يدل على غاية الخزي والخسار. قال بعضهم: مراتب القبح ثلاث: في العقول وفي الشرع وفي العادة. فالفاحشة إشارة إلى القبح العقلي لأن زوجة الأب تشبه الأم، والمقت إشارة إلى القبح الشرعي. وَساءَ سَبِيلًا إشارة إلى القبح العادي وساء فعل ذم وفاعله ضمير مبهم يفسره المنصوب بعده والله تعالى أعلم.
التأويل:
الوراثة الدينية أيضا سبب ونسب. فالسبب هو الإرادة بلبس خرقة المشايخ والتشبه بهم، والنسب هو الصحبة معهم بالتسليم لتصرفات ولايتهم ظاهرا وباطنا مستسلما لأحكام التسليل والتربية ليتولد السالك بالنشأة الثانية من صلب ولايتهم. ومن هنا
قال صلى الله عليه وسلم:
وإنما يتوارث أهل الدين على قدر تعلقاتهم السببية والنسبية والذكورة والأنوثة في الجدّ والاجتهاد وحسن الاستعداد وبتوارثهم العلوم الدينية واللدنية
كقوله صلى الله عليه وسلم: «العلماء ورثة الأنبياء» «٢»
وقول موسى للخضر هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً [الكهف: ٦٦]. وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ هي النفوس الأمارات بالسوء فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ أي من خواص العناصر الأربعة التي أنتم منها مركبون وهي التراب ومن خواصه الخسة والذلة، والماء ومن خواصه اللين والأنوثة والشره، والهواء ومن خواصه الحرص والحسد والبخل والشهوة، والنار ومن خواصها الكبر والغضب وحب الرياسة فَإِنْ شَهِدُوا بأن يظهر بعض هذه الصفات من النفوس فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ في سجن الدينا وأغلقوا عليهن أبواب الحواس الخمس حتى تموت النفس بالانقطاع عن حظوظها دون حقوقها أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا بانفتاح روزنة القلوب إلى عالم الغيب وَالَّذانِ يَأْتِيانِها أي النفس والقالب يأتيان من الفواحش ظاهرا في الأعمال وباطنا في الأحوال والأخلاق فَآذُوهُما ظاهرا بالحدود وباطنا بالرياضات وترك الحظوظ فَأَعْرِضُوا عَنْهُما باللطف بعد العنف، وباليسر بعد العسر. بِجَهالَةٍ أي بصفة الجهولية وهي داخلة في الظلومية لأن الظلومية تقتضي المعصية والإصرار عليها، والجهولية تقتضي المعصية فحسب. فالعمل السوء إذا كان مصدره الجهولية فحسب يكون على عقيبه التوبة كما قال: ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ أي عقيب المعصية.
قال عليه السلام: «أتبع السيئة الحسنة تمحها» «٣»
والحسنة التوبة. ويحتمل أن يقال: من قريب أي قبل أن يموت القلب بالإصرار فإن الله لا يقبل التوبة من قلب ميت لأنها تكون اضطرارية باللسان لا اختيارية بالجنان وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ فيه إشارة إلى النهي عن التصرف في السفليات التي هي الأمهات المتصرف فيها آباؤكم العلوية إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ من التدبير الإلهي في ازدواج الأرواح لضرورة اكتساب الكمالات، فإن الركون إلى العالم السفلي يوجب مقت الحق والله أعلم.
تم الجزء الرابع، ويليه الجزء الخامس أوله: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ..
(٢) رواه البخاري في كتاب العلم باب ١٠. أبو داود في كتاب العلم باب ١. ابن ماجه في كتاب المقدمة باب ١٧. الدارمي في كتاب المقدمة باب ٣٢. أحمد في مسنده (٥/ ١٩٦).
(٣) رواه الترمذي في كتاب البر باب ٥٥. الدارمي في كتاب الرقاق باب ٧٤. أحمد في مسنده (٥/ ١٥٣، ٢٢٨).
[سورة النساء (٤) : الآيات ٢٣ الى ٣٠]
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخالاتُكُمْ وَبَناتُ الْأَخِ وَبَناتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَرَبائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلاَّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (٢٣) وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (٢٤) وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٥) يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٢٦) وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً (٢٧)
يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً (٢٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (٢٩) وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ ناراً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (٣٠)
القراآت:
وَالْمُحْصَناتُ في كل القرآن بكسر الصاد إلّا قوله: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ على الباقون بالفتح. وَأُحِلَّ مبنيا للمفعول: يزيد وحمزة وعلي وخلف وعاصم غير أبي بكر وحماد. الباقون: مبنيا للفاعل. أُحْصِنَّ بفتح الهمزة والصاد: حمزة وعلي وخلف وعاصم غير حفص. الباقون: أُحْصِنَّ بضم الهمزة وكسر الصاد. تِجارَةً بالنصب:
حمزة وعلي وخلف وعاصم غير حفص. الباقون: بالرفع.
الوقوف:
دَخَلْتُمْ بِهِنَّ الأولى (ز) لابتداء الشرط مع اتحاد المقصود فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ (ز) لذلك فإن جملة الشرط معترضة أَصْلابِكُمْ (لا) للعطف سَلَفَ (ط)
التفسير:
إنه سبحانه نص على تحريم أربعة عشر صنفا من النسوان، سبعة من جهة النسب: الأمهات والبنات والأخوات والعمات والخالات وبنات الأخ وبنات الأخت، وسبعة أخرى لا من جهة النسب: الأمهات من الرضاعة، والأخوات من الرضاعة، وأمهات النساء، وبنات النساء بشرط الدخول بالنساء، وأزواج الأبناء والآباء- وهذه في الآية المتقدمة- والجمع بين الأختين، والمحصنات من النساء. وذهب الكرخي إلى أن هذه الآية مجملة لأنه أضيف التحريم فيها إلى الأمهات والبنات، والتحريم لا يمكن إضافته إلى الأعيان وإنما يمكن إضافته إلى الأفعال وذلك غير مذكور في الآية، فليست إضافة هذا التحريم إلى بعض الأفعال التي لا يمكن إيقاعها في ذوات الأمهات والبنات أولى من بعض وهذا معنى الإجمال. والجواب من المعلوم بالضرورة من دين محمد ﷺ أن المراد منه تحريم نكاحهن لا سيما وقد تقدم قوله: وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ ومثله
قوله صلى الله عليه وسلم: «لا يحل دم امرئ مسلم إلّا لإحدى خصال ثلاث» «١»
فإنه لا يشتبه أن المراد لا يحل إراقة دمه.
ثم إنّ قوله: حُرِّمَتْ إنشاء للتحريم كقول القائل «بعت» أو «طلقت» لا إخبار عن التحريم في الزمان الماضي ولا يشتبه أن المحرم هو الله تعالى كقوله: بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ [العاديات: ٩، ١٠] والخطاب لأولئك الحاضرين بالذات ولمن عداهم من الأمة بالتبعية. والأصل في كل حكم هو الاستمرار والتأبيد ما لم ينسخه ناسخ، والقرينة
أحدهما أن تحريم الجدات مستفاد من الإجماع، والثاني أنه تعالى تكلم بهذه الآية مرتين لكل من المفهومين. وكذا الكلام إن قلنا إنّ الأم حقيقة في الوالدة مجاز في الجدات. قال الشافعي: إذا تزوج الرجل بأمه ودخل بها يلزمه الحد. وقال أبو حنيفة: لا يلزمه. حجة الشافعي أن وجود هذا النكاح وعدمه بمثابة واحدة لكونه محرّما قطعا في حكم الشرع فيكون وطؤها زنا محضا.
الصنف الثاني من المحرمات البنات ويراد بهن كل أنثى رجع نسبها إليك بالولادة بدرجة أو درجات بإناث أو بذكور. والكلام في أن إطلاق لفظ البنت على بنت الابن وبنت البنت حقيقة أو مجاز كما مر في الأمهات. قال أبو حنيفة: البنت المخلوقة من ماء الزنا تحرم على الزاني. وقال الشافعي: لا تحرم لأنها ليست بنتا له شرعا
لقوله صلى الله عليه وسلم: «الولد للفراش»
وهذا يقتضي حصر النسب في الفراش، ولأنها لو كانت بنتا له لأخذت الميراث ولثبت له ولاية الإجبار عليها، ولوجب عليه نفقتها وحضانتها، ولحل الخلوة بها، لكن التوالي باطلة بالاتفاق فكذا المقدم. وأيضا إنّ أبا حنيفة إما أن يثبت كونها بنتا له على الحقيقة وهي كونها مخلوقة من مائه، أو بناء على حكم الشرع والأول باطل على مذهبه طردا وعكسا. أما الطرد فهو أنه إذا اشترى جارية بكرا وافتضها وحبسها في داره إلى أن تلد
الصنف السادس والسابع: بنات الأخ وبنات الأخت، والقول فيهما كالقول في بنت الصلب. الثامن والتاسع: قوله: وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ سمى المرضعات أمهات تفخيما لشأنهن كما سمى أزواج النبي ﷺ أمهات لحرمتهن. وليس قوله:
وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ كقول القائل: وأمهاتكم اللاتي كسونكم أو أطعمنكم. وإلّا كان تكرارا لقوله: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ بل المراد أن الرضاع هو الذي تستحق هي بسببه الأمومة ويعلم من تسمية المرضعة. أما والراضعة أختا إنه أجرى الرضاع مجرى النسب لأن المحرمات بسبب النسب سبع: اثنتان بالولادة وهما الأمهات والبنات، والباقية بطريق الإخوة وهن الأخوات والعمات والخالات وبنات الأخ وبنات الأخت، فذكر من كل واحد من القسمين صورة واحدة تنبيها بها على الباقي منهما. فذكر من قسم الولادة الأمهات، ومن قسم الإخوة الأخوات. ثم إنه ﷺ أكد هذا البيان بصريح
قوله: «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب» «١»
فصار صريح الحديث مطابقا لمفهوم الآية. وهذا بيان لطيف فأمك من الرضاع كل أنثى أرضعتك، أو أرضعت من أرضعتك، أو أرضعت من ولدك من الآباء والأمهات، أو ولدت المرضعة، أو الفحل الذي منه اللبن بواسطة أو بغير واسطة.
وبنتك من الرضاع كل أنثى أرضعت بلبنك، أو أرضعت بلبن من ولدت من الأبناء أو البنات. وأختك من الرضاع كل أنثى أرضعتها أمك أو أرضعت بلبن أبيك، أو ولدتها المرضعة أو الفحل الذي در لبنه على المرضعة. وعمتك كل أنثى من الرضاع من جهة الأب، وكل أنثى أرضعت بلبن واحد من أجدادك، أو كانت أخت الفحل الذي أرضعت
وخالتك من الرضاع من جهة الأم كل أنثى هي أخت أمك من الرضاع، أو أخت من أرضعتك من النسب أو الرضاع. ومن جهة الأب كل أنثى هي أخت أنثى أرضعت أباك من الرضاع أو النسب. وبنات الإخوة والأخوات من الرضاع كل أنثى ولدها ابن مرضعتك أو بنتها أو ولدها ابن الفحل الذي منه اللبن، أو بنته من الرضاع أو النسب، أو أرضعتها أختك أو أرضعت بلبن أخيك. وكذلك حكم بنات أولاد من أرضعته أختك أو أرضعت بلبن أخيك من الرضاع أو النسب، وكذلك بنات من أرضعته أمك أو أرضع بلبن أبيك وبنات أولادهما من الرضاع أو النسب. والرضاع المحرّم قد يسبق النكاح فيمنع انعقاده، وقد يطرأ عليه فيقطعه. وللرضاع أركان: أحدها المرضع ويجب أن تكون امرأة. فلبن البهيمة لا يثبت تحريما بين الذكر والأنثى للذين شربا منه وكذا لبن الرجل، وأن تكون حية. وعند أبي حنيفة ومالك وأحمد يتعلق بلبن الميتة التحريم، وأن تكون محتملة للولادة بأن بلغت تسع سنين. وثانيها اللبن ويتعلق به التحريم ولو تغيّر بحموضة أو انعقاد أو إغلاء أو اتخذ منه جبن أو زبد أو مخيض أو أقط أو ثرد فيه طعام أو عجن به دقيق وخبز أو خلط بمائع حلال أو حرام. وثالثها المحل وهو معدة الصبي الحي فلا أثر للحقنة، ولا بعد الحولين الهلاليين، ولا للوصول إلى معدة الصبي الميت. ولا بد مع ذلك من خمس رضعات
لقوله صلى الله عليه وسلم: «لا تحرم المصة والمصتان ولا الرضعة والرضعتان» «١»
، ولما
روت عائشة «خمس رضعات يحرّمن» «٢»
وعند أبي حنيفة: الرضعة الواحدة كافية. الصنف العاشر قوله:
وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ ويدخل فيه الجدات من قبل الأب والأم. الحادي عشر وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ والربائب جمع ربيبة وهي بنت امرأة الرجل من غيره، ومعناها مربوبة لأنّ الرجل يربها. والحجور جمع حجر بالفتح والكسر. وكونها في حجره عبارة عن تربيته وهو بناء للكلام على الغالب ومثله هو في حضانة فلان وأصله من الحضن الذي هو الإبط.
وقال أبو عبيد: في حجوركم أي في بيوتكم.
وعن علي عليه السلام أنه جعل كونها ربيبة له وكونها في حجره شرطا في التحريم
وهو استدلال حسن. وأما سائر العلماء فذهبوا إلى
الدارمي في كتاب النكاح باب ٤٩. أحمد في مسنده (٤/ ٤، ٥، ٣١).
(٢)
رواه أبو داود في كتاب النكاح باب ٩، ١٠. الموطأ في كتاب الرضاع حديث ١٣. أحمد في مسنده (٦/ ١، ٢٠، ٢٥٥). بلفظ «.. فأرضعته خمس رضعات فكان بمنزلة ولدها من الرضاعة».
[.....]
وأيضا عود الشرط إلى الجملة الأولى وحدها باطل بالإجماع وكذا عوده إليهما معا، لأنّ معنى «من» مع الأولى البيان، ومعناها مع الثانية ابتداء الغاية، واستعمال اللفظ المشترك في مفهوميه معا غير جائز. نعم لو جعل «من» للاتصال كقوله: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ [التوبة: ٧١] أمكن اعتبار الاتصال في النساء والربائب معا، فأمهات النساء متصلات بالنساء لأنهن أمهاتهن، كما أن الربائب متصلات بأمهاتهن لأنهن بناتهن. إلّا أن هذا التفسير فيه خلل من جهة اللفظ ومن جهة المعنى. أما اللفظ فلأن قوله: وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وكذا ربائبكم يكون حينئذ مبتدأ وقوله مِنْ نِسائِكُمُ خبرا ويقع بين المعطوفات فاصلة لأن قوله: وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ وما بعده معطوف على فاعل حُرِّمَتْ. وأما من جهة المعنى فلأن الحكم بالاتصال والاتحاد يقتضي التحليل لا التحريم ظاهرا. ومما يدل على أن الجملة الأولى مرسلة ما
روي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي ﷺ أنه قال: «إذا نكح الرجل امرأة فلا يحل له أن يتزوج أمها دخل بالبنت أو لم يدخل، وإذا تزوج بالأم فلم يدخل بها ثم طلّقها فإن شاء تزوّج البنت» «١»
وكان عبد الله بن مسعود يفتي بنكاح أم المرأة إذا طلق بنتها قبل المسيس وهو يومئذ بالكوفة. فاتفق أن ذهب إلى المدينة فصادفهم مجمعين على خلاف فتواه، فلما رجع إلى الكوفة لم يدخل داره حتى ذهب إلى ذلك الرجل وقرع عليه الباب وأمره بالنزول عن تلك المرأة. وعن سعيد بن المسيب أن زيد بن ثابت
قال: لأنّ الدخول بها اسم لمطلق الوطء من نكاح كان أو سفاح. ورد بأنّ تقديم قوله: مِنْ نِسائِكُمُ يوجب تخصيص الوطء بالحلال.
الصنف الثاني عشر وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ فيخرج المتبنى وكان في صدر الإسلام بمنزلة الابن إلى أن نزل: وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ [الأحزاب: ٣٧] وحكم الابن من الرضاع حكم الابن من النسب في تحريم حليلته على أبيه
لقوله صلى الله عليه وسلم: «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب» «١»
وإن كان ظاهر قوله: وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وظاهر قوله: وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ يقتضي الحل فههنا قد تخصص عموم القرآن بخبر الواحد. واتفقوا على أنّ حرمة التزوّج بحليلة الابن تحصل بنفس العقد ولا تتوقف الحرمة على الدخول. وما روي عن ابن عباس أنه قال: أبهموا ما أبهم الله أراد به التأبيد. ألا ترى أنه قال في السبع المحرّمات من جهة النسب إنها من المبهمات أي من اللواتي تثبت حرمتهن على التأبيد؟
واتفقوا أيضا على تحريم حليلة ولد الولد على الجد. أما جارية الابن فقد قال أبو حنيفة:
يجوز للأب أن يتزوّج بها. وقال الشافعي: لا يجوز لأنّ الحليلة فعيلة إما بمعنى المفعول من الحل أي المحللة، أو من الحلول بمعنى أن السيد يحل فيها، وإما بمعنى الفاعل لأنهما يحلّان في لحاف واحد، أو يحل كل واحد منهما في قلب صاحبه لما بينهما من الإلفة والمودّة. وعلى التقادير يصدق على جارية الابن أنها حليلته كما يصدق على زوجته أنها حليلته فتناولها الحرمة بالآية. الصنف الثالث عشر وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ أي حرمت عليكم الجمع بينهما والتأنيث للتغليب أو للاكتساب أو بتأويل الخصلة. ويمكن أن يقال:
الواو نائب عن الفعل المطلق من غير اعتبار تذكيره أو تأنيثه، والجمع يكون إما بالنكاح أو بالملك أو بهما. أما النكاح فلو عقد عليهما معا فنكاحهما باطل، وعلى الترتيب بطل الثاني
فقال صلى الله عليه وسلم: اختر منهن أربعا وفارق سائرهن أطلق ولم يتفحص عن الترتيب.
وقال أبو حنيفة: إن تزوّج بهما معا تركهما أو على الترتيب فارق الثانية، لأنّ الخطاب في قوله: وَأَنْ تَجْمَعُوا عام فيتناول المؤمن والكافر فخالف أصليه حيث جعل النهي دالا على الفساد، والكافر مخاطبا بالفروع. ومما يدل على أن الخطاب بالفروع لا يظهر أثر في حق الكافر في الأحكام الدنيوية الإجماع على أنه لو تزوج بغير وليّ وشهود أو على سبيل القهر والغصب فبعد الإسلام يقرّر ذلك النكاح، أما قوله تعالى: إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ فمعناه أن ما مضى مغفور بدليل قوله: إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً وقد مرّ نظيره.
واعلم أنّ رسول الله ﷺ ألحق بالأختين جميع المحارم حيث
قال: «لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها» «١»
وضبط العلماء ذلك بأنّ كل شخصين بينهما قرابة أو رضاع
الدارمي في كتاب النكاح باب ٨. أحمد في مسنده (١/ ٧٨، ٣٧٣).
المحصنات الحرائر. والمعنى حرمت عليكم الحرائر إلّا العدد الذي جعله الله ملكا لكم وهو الأربع، أو إلّا ما أثبت الله لكم ملكا عليهن لحصول الشرائط المعتبرة من حضور الولي والشهود وغير ذلك، والقول هو الأول لما
روي عن أبي سعيد الخدري قال: أصبنا سبايا يوم أوطاس لهن أزواج، فكرهنا أن نقع عليهن فسألنا النبي ﷺ فنزلت: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فاستحللناهن.
ثم أكد تحريم المذكورات بقوله: كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ قال الزجاج: يحتمل أن يكون منصوبا باسم فعل ويكون عَلَيْكُمْ مفسرا له أي الزموا كتاب الله. وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أي ما وراء هذه المذكورات سواء كن
لقوله صلى الله عليه وسلم: «المتلاعنان لا يجتمعان أبدا».
وقوله: أَنْ تَبْتَغُوا مفعول له أي بين لكم ما يحل مما يحرم إرادة أن يكون ابتغاؤكم بأموالكم في حال كونكم محصنين لا في حال كونكم مسافحين، لئلّا تضيّعوا أموالكم التي جعل الله لكم قياما فيما لا يحل لكم فتخسروا دنياكم ودينكم. ويجوز أن يكون تَبْتَغُوا بدلا من ما وَراءَ ذلِكُمْ ومفعول تَبْتَغُوا مقدر وهو النساء. والأجود أن لا يقدر لأنّه مفهوم من سوق الكلام وكأنه قيل: أن تخرجوا أموالكم. ومعنى محصنين متعففين عن الزنا وسمي الزنا سفاحا لأنّه لا غرض للزاني إلّا سفح النطفة أي صبّها. قال أبو حنيفة: لا يجوز المهر بأقل من عشرة دراهم لأنّه تعالى قيد التحليل بالابتغاء بالأموال والدرهم والدرهمان لا يسمى أموالا. وقال الشافعي: يجوز بالقليل والكثير لأنّ قوله: بِأَمْوالِكُمْ مقابلة الجمع بالجمع فيقتضي توزع الفرد على الفرد، فيتمكن كل واحد من ابتغاء النكاح بما يسمى مالا، والقليل والكثير في هذه الحقيقة سواء.
وعن جابر عن النبي ﷺ أنه قال: «من أعطى امرأة في نكاح كف دقيق أو سويق فقد استحل»
وقال أبو حنيفة: لو تزوّج بها على تعليم سورة من القرآن لم يكن ذلك مهرا ولها مهر مثلها، لأنّ الابتغاء بالمال شرط والمال اسم للأعيان لا للمنافع، وكذا قوله وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ [النساء: ٤] والإيتاء والأكل من صفة الأعيان. ولو تزوّج امرأة على خدمة سنة وإن كان حرا فلها مهر مثلها، وإن كان عبدا فلها خدمة سنة. وقال الشافعي: الآية تدل على أن الابتغاء بالمال جائز وليس فيه أن الابتغاء بغيره جائز أو لا. وأيضا قد خرج الخطاب مخرج الأعم الأغلب فلا يدل على نفي ما سواه. ومما يدل على جواز جعل المنفعة صداقا قوله تعالى في قصة شعيب عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ [القصص: ٢٧] والأصل في شرع من قبلنا البقاء إلى أن يظهر الناسخ. وأيضا التي وهبت نفسها لما لم يجد الرجل الذي أراد التزوّج بها شيئا
قال صلى الله عليه وسلم: هل معك شيء من القرآن؟ قال: نعم، سورة كذا وكذا. فقال: زوّجتكها
ومنه يعلم جواز عتق الأمة صداقا لها لا سيما
وقد روي عن النبي ﷺ أنه أعتق صفية وجعل عتقها صداقها وكونه من خواصه ممنوع.
فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ أي فما استمتعتم به من المنكوحات من جماع أو عقد عليهن أو خلوة صحيحة عند أبي حنيفة فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ أي عليه فأسقط الراجع للعلم به. ويجوز أن يراد بما النساء «ومن» للتبعيض أو البيان لا لابتداء الاستمتاع، ويكون رجوع الضمير إليه في بِهِ على اللفظ وفي فَآتُوهُنَّ على المعنى. والأجور المهور لأنّ المهر ثواب على البضع كما يسمى بدل منافع الدار والدابة أجرا. وفَرِيضَةً حال من الأجور بمعنى مفروضة، أو أقيمت مقام إيتاء لأنّ الإيتاء مفروض، أو مصدر مؤكد أي فرض ذلك فريضة. ولا يخفى أنه إن استمتع بها بدخول بها يجب تمام المهر، وإن استمتع بعقد النكاح فقط فالأجر نصف المهر. قال أكثر علماء الأمة: إنّ الآية في النكاح المؤبد. وقيل: المراد بها حكم المتعة وهي أن يستأجر الرجل المرأة بمال معلوم إلى أجل معلوم ليجامعها، سميت متعة لاستمتاعه بها أو لتمتيعه لها بما يعطيها. واتفقوا على أنها كانت مباحة في أول الإسلام، ثم السواد الأعظم من الأمة على أنها صارت منسوخة. وذهب الباقون ومنهم الشيعة إلى أنها ثابتة كما كانت، ويروى هذا عن ابن عباس وعمران بن الحصين. قال عمارة: سألت ابن عباس عن المتعة أسفاح هي أم نكاح؟ قال: لا سفاح ولا نكاح. قلت:
فما هي؟ قال: هي متعة كما يقال. قال: قلت هل لها عدة؟ قال: نعم، عدّتها حيضة.
قلت: هل يتوارثان؟ قال: لا. وفي رواية أخرى عنه أن الناس لما ذكروا الأشعار في فتيا ابن عباس في المتعة قال: قاتلهم الله إني ما أفتيت بإباحتها على الإطلاق لكني قلت: إنها تحل للمضطر كما تحل الميتة والدم ولحم الخنزير له، ويروى أنه رجع عن ذلك عند موته وقال:
اللهم إني أتوب إليك من قولي في الصرف والمتعة. وأما
عمران بن الحصين فإنه قال: نزلت آية المتعة في كتاب الله ولم ينزل بعدها آية تنسخها وأمرنا بها رسول الله ﷺ وتمتعنا معه ومات ولم ينهنا عنها، ثم قال رجل برأيه ما شاء- يريد أن عمر نهى عنها-
وروى محمد بن جرير الطبري في تفسيره عن علي أنه قال: لولا أن عمر نهى عن المتعة ما زنى إلّا شقي.
حجة الجمهور على حرمة المتعة أنّ الوطء لا يحل إلّا في الزوجة أو المملوكة لقوله تعالى: إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ [المؤمنون: ٦] وهذه المرأة ليست بمملوكة ولا بزوجة وإلّا لحصل التوارث ولثبت النسب ولوجبت العدة عليها بالأشهر والتوالي باطلة بأسرها بالاتفاق. وروي عن عمر أنه نهى عن المتعة على المنبر بمحضر من الصحابة ولم ينكر عليه أحد منهم، فلو سكتوا لعلمهم بحرمتها فذاك، ولو سكتوا لجهلهم
قال صلى الله عليه وسلم: «من منع منا الزكاة فإنا آخذوها منه وشطر ماله» «١»
مع أن أخذ شطر المال من مانعي الزكاة غير جائز إلّا للسياسة. وروى الواحدي في البسيط عن مالك عن الزهري عن عبد الله والحسن ابني محمد بن علي عن أبيهما عن علي أن رسول الله ﷺ نهى عن متعة النساء وعن أكل لحوم الحمر الإنسية. قال: وروى الربيع بن سبرة الجهني عن أبيه قال: غدوت على رسول الله ﷺ فإذا هو قائم بين الركن والمقام مسند ظهره إلى الكعبة يقول: يا أيها الناس إني أمرتكم بالاستمتاع من هذه النساء، ألا وإن الله قد حرمه عليكم إلى يوم القيامة، فمن كان عنده منهن شيء فليخل سبيلها ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئا. القائلون بإباحة المتعة قالوا: الابتغاء بالأموال يتناول الاستمتاع بالمرأة على سبيل التأبيد وعلى سبيل التوقيت، بل الآية مقصورة على نكاح المتعة لما روي أن أبي بن كعب كان يقرأ فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى فآتوهن أجورهن وبه قرأ ابن عباس أيضا، والصحابة ما أنكروا عليهما فكان إجماعا. وأيضا أمر بإيتاء الأجور لمجرد الاستمتاع أي التلذذ وهذا في المتعة، وأما في النكاح المطلق فيلزم الأجر بالعقد. وأيضا قال في أول السورة: فَانْكِحُوا [النساء: ٣] فناسب أن تحمل هذه الآية على نكاح المتعة لئلا يلزم التكرار في سورة واحدة، والحمل على حكم جديد أولى. ومما يدل على ثبوت المتعة ما
جاء في الروايات أنّ النبي ﷺ نهى عن المتعة وعن لحوم الحمر الأهلية يوم خيبر.
وأكثر الروايات أنه ﷺ أباح المتعة في حجة الوداع وفي يوم الفتح. وذلك أنّ أصحابه شكوا إليه يومئذ طول العزوبة فقال: استمتعوا من هذه النساء. وقول من قال إنه حصل التحليل مرارا والنسخ مرارا ضعيف لم يقل به أحد من المعتبرين إلّا الذين أرادوا إزالة التناقض عن هذه الروايات. ونهي عمر يدل على أنه كان ثابتا في عهد الرسول، وما كان ثابتا في عهده لم يمكن نسخه بقول عمر كما أشار إليه عمران بن الحصين. وأجيب بأنّ المراد من قول عمر «وأنا أنهي عنها» أنه قد ثبت عندي نسخها في زمان الرسول ﷺ وقد سلموا له ذلك فكان إجماعا.
وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ الذين حملوا الآية على بيان
ثم وسع الأمر على عبادة فقال: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا فضلا في المال وسعة ومنه الطول في الجسم لأنه زيادة فيه كما أن القصر قصور فيه ونقصان. وأَنْ يَنْكِحَ متعلق ب طَوْلًا يقال: طال على الأمر إذا غلبه فتمكن من فعله. والمحصنات هاهنا الحرائر، والمعنى ومن لم يقدر على نكاح الحرة فلينكح من الإماء التي ملكتها أيمانكم. قال ابن عباس: يريد جارية أخيك فإنّ الإنسان لا يجوز له أن يتزوّج بجارية نفسه والفتيات المملوكات. تقول العرب للأمة فتاة وللعبد فتى.
عن النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يقولن أحدكم عبدي ولكن ليقل فتاي وفتاتي» «١»
وقال الشافعي: إنّ الله تعالى شرط في نكاح الإماء ثلاث شرائط: اثنتان في الناكح الأولى فقد طول الحرة وهو عبارة عن عدم ما ينكح به الحرة كما يقول الرجل: لا أستطيع أن أحج إذا كان لا يجد ما يحج به. فإذا كان كذلك جاز له التزوّج بالأمة لأنّ العادة في الإماء تخفيف مهورهن ونفقتهن لاشتغالهن بخدمة ساداتهن. والثانية خشية العنت كما يجيء في آخر الآية. والثالثة في المنكوحة وهي أن تكون الأمة لمسلم ومع ذلك تكون مؤمنة لا كافرة لقوله: مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ فالقيد الأول مستفاد من قوله: مِنْ فَتَياتِكُمُ أي من فتيات المسلمين لا من فتيات غيركم وهم المخالفون في الدين، والقيد الثاني من وصف الفتيات بالمؤمنات. أما فائدة القيد الأول فهي أن الولد تابع
وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ قال الزجاج: أي اعملوا على الظاهر في الإيمان فإنكم مكلفون بظواهر الأمور والله أعلم بما في الصدور. بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ كلكم أولاد آدم فلا يتداخلكم أنفة من التزوّج بالإماء عند الضرورة، أو كلكم مشتركون في الإيمان وهو أعظم المقاصد فإذا حصل الاشتراك فيه فما وراءه غير ملتفت إليه. وفيه توهين ما كانوا عليه في الجاهلية من الفخر بالأنساب والأحساب وتأنيس بنكاح الإماء إذا كن مؤمنات. ثم شرح كيفية هذا النكاح فقال: فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ فلذلك اتفقوا على أنّ نكاح الأمة بدون إذن سيدها باطل لأنّ نكاحهن غير واجب فيتوجه الأمر إلى اشتراط الإذن، ولأنّ التزوّج بها يعطل على السيد أكثر منافعها فوجب أن لا يجوز إلّا بإذنه. ولفظ القرآن مقتصر على الأمة.
وأما العبد فقد ثبت ذلك في حقه بالحديث.
روى جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا تزوّج العبد بغير إذن سيده فهو عاهر» «١»
واستدل الشافعي بالآية على أنّ المرأة البالغة العاقلة لا يصح نكاحها إلّا بإذن الولي لأنّ قوله: فَانْكِحُوهُنَّ الضمير فيه يعود إلى الإماء. والأمة ذات موصوفة بصفة الرق، وصفة الرق صفة زائلة، والإشارة إلى ذات موصوفة بصفة عرضية زائلة تبقى بعد زوال تلك الصفة بدليل أنه لو حلف لا يتكلم مع هذا الشاب فصار شيخا ثم تكلم معه
واعترض على قول الشافعي بأنّ ظاهر الآية يدل على الاكتفاء بحصول إذن أهلها وعنده لا يجوز للمرأة أن تزوّج أمتها. وأجيب بأن المراد بالإذن الرضا، وعندنا أن رضا المولى لا بد منه. فإما أنه كاف فليس في الآية دليل عليه، وأيضا إن أهلهن عبارة عمن يقدر على إنكاحهن وهو المولى إن كان رجلا أو ولي المولى إن كان امرأة. سلمنا أن الأهل هو المولى لكنه عام يخصصه
قوله صلى الله عليه وسلم: «العاهر هي التي تنكح نفسها» «١»
إذ يلزمه أن لا يكون لها عبارة في نكاح مملوكها ضرورة أنه لا قائل بالفرق. قلت: الإنصاف أن استدلال الشافعي لا يتم. فلقائل أن يقول: لا نسلم أن صفة الرق للأمة عرضية من حيث إنها أمة، وإن سلمنا ذلك فلا نسلم أن الإشارة إلى ذات الأمة في الآية تبقى بعد زوال صفة الرق.
فكونها مثل قول القائل لا أتكلم مع هذا الشاب ممنوع. فمن المعلوم عرفا أن المراد به ذات الشاب من حيث هو ولكنه كقول الحالف: لا أكلم شابا. فحينئذ لو كلّم زيدا وزيد شاب حنث فإذا صار شيخا ثم كلمه لم يحنث. وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ أي مهورهن وفيه دلالة على وجوب مهرها إذا نكحها- سمى لها المهر أو لم يسم- وفي قوله: بِالْمَعْرُوفِ دلالة على أنه مبني على الاجتهاد وغالب الظن في المعتاد المتعارف وهو مهر المثل، أو المراد بغير مطل وضرار وإحواج إلى الاقتضاء. وقيل: الأجور النفقة عليهن لأن المهر مقدر فلا معنى لاشتراط المعروف فيه فكأنه تعالى بيّن أن كونها أمة لا يقدح في وجوب نفقتها وكفايتها كما في حق الحرة إذا حصلت التخلية من المولى بينه وبينها على العادة. وعن بعض أصحاب مالك أنّ الأمة هي المستحقة لقبض مهرها، وأنّ المولى إذا آجرها للخدمة كان هو المستحق للأجرة دونها واحتجوا في المهر بظاهر قوله: وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وأما الجمهور فعلى أن مهرها لمولاها لقوله تعالى: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ [النحل: ٧٥] وهذا ينفي كون المملوكة مالكة لشيء أصلا، ولأنّ منافعها كانت مملوكة للسيد وقد أباحها للزوج بعقد النكاح فوجب أن يستحق بدلها. أما ظاهر الآية فلو حملنا لفظ الأجور على النفقة فلا إشكال، ولو حملناه على المهور فالجواب أنها ثمن أبضاعهن فلذلك أضيف الأجور إليهن. وليس في قوله: وَآتُوهُنَّ ما يوجب كون المهر ملكا لهن. وهب أن المهر ملك لهن
ولكنه ﷺ قال: «العبد وما يملكه لمولاه»
أو المراد وآتوا مواليهن فحذف المضاف مُحْصَناتٍ قال ابن عباس: أي عفائف وهو حال من قوله:
رواه الترمذي في كتاب النكاح باب ١٥. بلفظ «البغايا اللاتي ينكحن أنفسهن بغير بيّنة».
والأخدان جمع خدن كالأتراب جمع ترب. والخدن الذي يخادنك أي يكون معك في كل أمر ظاهر وباطن، يقع على الذكر والأنثى. فَإِذا أُحْصِنَّ بالتزوّج وهو قول ابن عباس وسعيد بن جبير والحسن ومجاهد، أو بالإسلام وهو قول عمر وابن مسعود والشعبي والنخعي والسدي. وكأنه تعالى ذكر حال إيمانهن في النكاح في قوله: مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ ثم كرر ذلك في حكم ما يجب عليهن عند إقدامهن على الفاحشة. وهاهنا إشكال وهو أن المحصنات في قوله: فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ أريد بها الحرائر المتزوجات أو الحرائر الأبكار. وعلى الأول يجب عليهن نصف الرجم وتنصيف الرجم محال، وعلى الثاني يجب عليهن خمسون جلدة وهذا القدر واجب في زنا الأمة محصنة كانت أو لم تكن، وقد علق ذلك في الآية بمجموع الأمرين: الإحصان والزنا.
والجواب أنا نختار القسم الأول ويسقط الرجم عنهن بالدليل العقلي لأن الرجم لا ينتصف، أو الثاني والمراد بيان تخفيف عذابهن. وذلك أن حد الزنا يغلظ عند التزوج فهذه إذا زنت وقد تزوّجت فحدها خمسون جلدة لا يزيد عليها، فلأن يكون قبل التزوّج هذا القدر أولى.
واعلم أن الخوارج اتفقوا على إنكار الرجم واحتجوا بأنّ الآية تدل على أنّ عذاب الأمة نصف عذاب الحرة المحصنة، فلو كان على الحرة الرجم لزم تنصيف الرجم في حق الأمة وهو محال. والجواب ما مرّ أن المخصص في حق الأمة دليل عقلي، والفقهاء جعلوا الآية أصلا في نقصان حكم العبد عن حكم الحرة في غير الحد وإن كان من الأمور ما لا يجب ذلك فيه كالصلاة والصوم وغيرهما. ذلِكَ إشارة إلى نكاح الإماء بالاتفاق لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وقد عرفت فيما مرّ أن معناه الوقوع في أمر شاق. وللمفسرين هاهنا قولان: أحدهما أن الشبق الشديد والغلمة العظيمة ربما تدعو إلى الزنا فيقع في الحد في الدنيا وفي العذاب الأليم في الآخرة، والثاني أن الشبق قد يفضي إلى الأمراض الشديدة كأوجاع الوركين والظهر والوسواس وكاختناق الرحم للنساء، والأول أليق ببيان القرآن وعليه أكثر العلماء. وَأَنْ تَصْبِرُوا أي صبركم عن نكاح الإماء بعد شروطه المبيحة متعففين خير لكم لما فيه من المفاسد المذكورة.
وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «الحرائر صلاح البيت
وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ تأكيد لما ذكره من أن الأولى ترك النكاح إلّا أنه أباحه لاحتياج المكلفين فهو من باب المغفرة والرحمة يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ أقيمت اللام مقام «أن» في قولك أريد أن يقوم. وقيل: زيدت اللام وقدر «أن» وذلك لتأكيد إرادة التبيين كما زيدت في «لا أبالك» لتأكيد إضافة الأب. وقيل: في الآية إضمار والأصل يريد الله إنزال هذه الأحكام ليبين لكم دينكم وشرعكم وما هو خفي عنكم من مصالحكم وأفاضل أعمالكم ويهديكم مناهج من كان قبلكم. قيل: المراد أن كل ما بيّن لنا من التحريم والتحليل في شأن النساء فقد كان الحكم كذلك في جميع الشرائع والملل. وقيل: بل المراد أن الشرائع والتكاليف وإن كانت مختلفة في نفسها إلّا أنها متفقة في باب المصالح، وقيل: المعنى سنن من كان قبلكم من أهل الحق لتقتدوا بهم ويتوب عليكم. قال القاضي: معناه كما أراد منا نفس الطاعة فلا جرم بينها وأزاح الشبه عنها، كذلك يريد أن يتوب علينا إن وقع تقصير وتفريط. وفي الآية إشعار بأنه تعالى هو الذي يخلق التوبة فينا، فيرد عليه أنه إذا أراد التوبة منا وجب أن تحصل التوبة لكنا وليس كذلك. وأجيب بأنّ المراد التوبة في باب نكاح الأمهات والبنات وسائر المنهيات المذكورة في هذه الآيات وقد حصلت هذه التوبة، وكذا الكلام في قوله: وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وقالت المعتزلة: يريد أن تفعلوا ما تستوجبون به أن يتوب عليكم. وَيُرِيدُ الفجرة الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا عن الحق والقصد مَيْلًا عَظِيماً وقيل: هم اليهود، وقيل: المجوس كانوا يحلون نكاح الأخوات من الأب وبنات الأخ وبنات الأخت، فلما حرمهن الله قالوا: فإنكم تحلّون بنت الخالة والعمة والخالة والعمة حرام عليكم فانكحوا بنات الأخ والأخت فنزلت. يقول:
يريدون أن تكونوا زناة مثلهم. يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ بإحلال نكاح الأمة وغيره من الرخص. وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً فلضعفه خفف تكليفه ولم يثقل. أما ضعف خلقته بالنسبة إلى كثير من المخلوقات بل الحيوانات فظاهر ولهذا اشتد احتياجه إلى التعاون والتمدن والأغذية والأدوية والمساكن والملابس والذخائر والمعاملات إلى غير ذلك من الضرورات، وأما ضعف عزائمه ودواعيه فأظهر ولهذا لا يصبر على مشاق الطاعات ولا عن الشهوات ولا سيما عن النساء. عن سعيد بن المسيب: ما أيس الشيطان من بني آدم قط إلّا أتاهم من قبل النساء، لقد أتى عليّ ثمانون سنة وذهبت إحدى عيني وأنا أعشو بالأخرى وإن أخوف ما أخاف علي النساء. عن ابن عباس: ثمان آيات في سورة النساء هي خير لهذه الأمة مما طلعت عليه الشمس وغربت. يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ [النساء: ٣١] إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ [النساء: ٤٨] إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ [النساء: ٤٠] مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً
[النساء: ١١٠] ما يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ [النساء: ١٤٧] اللهم لا تحرمنا مواعيدك إنك لا تخلف الميعاد.
ثم إنه لما ذكر ابتغاء النكاح بالأموال وأمر بإيفاء المهر والنفقات بيّن عقيب ذلك أنه كيف يتصرف في الأموال فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ بما لا يبيحه الشرع بوجه وقد مر تفسيره في البقرة في قوله: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ [البقرة: ١٨٨] إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ وقد سبق مثله في آخر البقرة. وخص التجارة بالذكر وإن كان غير ذلك من الأموال المستفادة بنحو الهبة والإرث وأخذ الصدقات والمهور وأروش الجنايات حلالا، لأنّ أكثر أسباب الرزق يتعلق بالتجارة. ويدخل تحت هذا النهي أكل مال الغير بالباطل، وأكل مال نفسه بالباطل كما أن قوله تعالى: وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ يدل على النهي عن قتل غيره وعن قتل نفسه. قال أبو حنيفة: النهي في المعاملات لا يدل على البطلان. وقال الشافعي: يدل لأن الوكيل إذا تصرف على خلاف قول المالك فذلك غير منعقد بالإجماع فالتصرف الواقع على خلاف قول المالك الحقيقي وهو الله سبحانه أولى أن يكون باطلا. وأي فرق بين قوله: «لا تبيعوا الدرهم بالدرهمين» وبين قوله: «لا تبيعوا الحر» وإذا كان الثاني غير منعقد بالاتفاق فكذا الأول. وقال أبو حنيفة: خيار المجلس غير ثابت في عقود المعاوضات المحضة لأن التراضي المذكور في الآية قد حصل. وقال الشافعي: لا شك أن هذا التراضي يقتضي الحل إلّا أنا نثبت بعد ذلك للمتبايعين الخيار
بقوله صلى الله عليه وسلم: «المتبايعان كل واحد منهما بالخيار ما لم يتفرقا» «١».
وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ من كان من جنسكم من المؤمنين لأنّ المؤمنين كنفس واحدة، أو لا يقتل الرجل نفسه كما يفعله بعض الجهلة حينما يعرضه غم أو خوف أو مرض شديد يرى قتل نفسه أسهل عليه.
عن الحسن البصري قال: حدثنا جندب بن عبد الله أن رسول الله ﷺ قال: «كان رجل جرح فقتل نفسه فقال الله: بدرني عبدي بنفسه فحرمت عليه الجنة» «٢».
وعن أبي هريرة قال: شهدنا مع رسول الله ﷺ خيبر فقال لرجل ممن يدعي الإسلام: هذا من أهل النار. فلما حضر القتال قاتل الرجل قتالا شديدا فأصابته جراح. فقيل له: يا رسول الله الذي قلت له آنفا إنه من أهل النار فإنه قاتل اليوم قتالا شديدا وقد مات. فقال النبي ﷺ إلى
(٢) رواه البخاري في كتاب الجنائز باب ٨٣.
الله أكبر أشهد أني عبد الله ورسوله.
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من تردّى من جبل فقتل نفسه فهو في نار جهنم يتردى فيها خالدا مخلدا فيها أبدا. ومن تحسى سما فقتل نفسه فسمه في يده يتحساه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا. ومن قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يتوجأ بها في بطنه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا» «١».
وعن عمرو بن العاص قال: احتلمت في ليلة باردة في غزاة ذات السلاسل فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك فتيممت ثم صلّيت بأصحابي الصبح فذكروا ذلك للنبي ﷺ فقال: يا عمرو صلّيت بأصحابك وأنت جنب؟ فأخبرته بالذي منعني من الاغتسال وقلت: إني سمعت الله تعالى يقول: وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ فضحك رسول الله ﷺ ولم يقل شيئا.
وقيل: معنى الآية لا تفعلوا ما تستحقون به القتل من القتل والردة والزنا بعد الإحصان إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً ولأجل رحمته نهاكم عما يضركم عاجلا وآجلا. وقيل من رحمته أنه لم يأمركم بقتل أنفسكم كما أمر بني إسرائيل بذلك توبة لهم وتمحيصا لخطاياهم. وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ القتل عُدْواناً وَظُلْماً لا خطأ ولا قصاصا. هذا قول عطاء. وقال الزجاج: ذلك إشارة إلى القتل والأكل بالباطل. وعن ابن عباس أنه عائد إلى كل ما نهى الله تعالى عنه من أول السورة. وتنكير النار للتعظيم أو للنوع. وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً مثل على وفق المتعارف كقوله: وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [الروم: ٢٧] وإلّا فلا مانع له عن حكمه ولا منازع له في ملكه.
التأويل:
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ الآية كلها إشارات إلى نهي التعلق ومنع التصرف في الأمهات السفليات والمتوالدات من أوصاف الإنسان وصفات الحيوان. إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً بأنواع غفرانه ظلمات الصفات الإنسانية التي تتولد من تصرفات الحواس في المحسوسات عند الضرورات بالأمر لا بالطبع رَحِيماً بالمؤمنين فيما اضطرهم إليه من التصرفات بقدر الحاجة الضرورية. وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ هي الدنيا التي تصرف فيها العلويات إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ بإذن الله تعالى حيث قال: كُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا [الأعراف: ٣١] مُحْصِنِينَ حرائر من الدنيا وما فيها غَيْرَ مُسافِحِينَ في الطلب مياه وجوهكم. فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ من الضروريات فأعطوا حقوق تلك الحظوظ بالطاعة والشكر والذكر. ثم إنّ الله تعالى أحب نزاهة قلب المؤمن عن دنس حب الدنيا كما أحب
قال صلى الله عليه وسلم: «يا طالب الدنيا لتبر فتركها خير وأبر».
يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ فلكم المعونة ولغيركم المئونة.
قال إبراهيم: إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي [الصافات: ٩٩] وأخبر عن حال موسى بقوله: وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا [الأعراف: ١٤٣] وعن حال نبينا بقوله: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ [الإسراء: ١] وعن حال هذه الأمة بقوله: سَنُرِيهِمْ آياتِنا [فصلت: ٥٣] والمعونة هي الجذبة التي توازي عمل الثقلين، فلا جرم كان لغير نبيّنا الوصول إلى السموات فقط، وكان لنبيّنا الوصول إلى مقام قاب قوسين أو أدنى، ولأمته التقرّب:
«لا يزال العبد يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه» «١»
. والفرق بين النبي والولي، أنّ النبي مستقل بنفسه والولي لا يمكنه السير إلّا في متابعة النبي وتسليكه. وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً ولهذا أعين بالخدمة حتى يتصل بقوّة ذلك إلى مقام لا يصل إليه الثقلان بسعيهم إلى الأبد، وضعفه بالنسبة إلى جلال الله وكماله وإلّا فهو أقوى في حمل الأمانة من سائر المخلوقات. وأيضا من ضعفه أنه لا يصبر عن الله لحظة فإنه يحبهم ويحبونه.
الصبر يحمد في المواطن كلها | إلّا عليك فإنه لا يحمد |
جاء في الحديث الرباني: «أنا ملك حي لا أموت أبدا فأطعني عبدي لعلك تكون ملكا حيا لا تموت أبدا».
إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً أي تجارة تنجيكم من عذاب أليم. وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ بصرف أموالكم في شهواتها فإن ذلك سمها القاتل إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً إذ بيّن لكم هذه الآفات ودلكم على هذه التجارات. وَمَنْ يَفْعَلْ صرف المال إلى الهوى تعديا عن أمر الله وظلما على نفسه.
[سورة النساء (٤) : الآيات ٣١ الى ٤٠]
إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً (٣١) وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَسْئَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (٣٢) وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً (٣٣) الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ بِما حَفِظَ اللَّهُ وَاللاَّتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً (٣٤) وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُما إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً (٣٥)
وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَبِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى وَالْجارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالاً فَخُوراً (٣٦) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (٣٧) وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً فَساءَ قَرِيناً (٣٨) وَماذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيماً (٣٩) إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً (٤٠)
يكفر ويدخلكم بياء الغيبة: المفضل. الباقون بالنون. مُدْخَلًا بفتح الميم وكذلك في الحج: أبو جعفر ونافع. الباقون بالضم. وَسْئَلُوا وبابه مما دخل عليه واو العطف أو فاؤه بغير همزة: ابن كثير وعلي وخلف وسهل وحمزة في الوقف.
عَقَدَتْ من العقد: عاصم وحمزة وعلي وخلف. الباقون عاقدت من المعاقدة. بِما حَفِظَ اللَّهُ بالنصب: يزيد. الباقون بالرفع. وَالْجارِ بالإمالة: إبراهيم بن حماد وقتيبة ونصير وأبو عمرو وحمزة في رواية ابن سعدان وأبي عمرو والنجاري عن ورش وَالْجارِ الْجُنُبِ بفتح الجيم وسكون النون: المفضل. الباقون بضمتين. بِالْبُخْلِ بفتحتين حيث كان: حمزة وعلي وخلف والمفضل عباس مخير. الباقون: بضم الباء وسكون الخاء.
حَسَنَةً بالرفع: ابن كثير وأبو جعفر ونافع. الباقون بالنصب. يُضاعِفْها بالتشديد:
ابن كثير وابن عامر ويزيد ويعقوب. الباقون يُضاعِفْها بالألف.
الوقوف:
كَرِيماً هـ عَلى بَعْضٍ ط مِمَّا اكْتَسَبْنَ ط مِنْ فَضْلِهِ ط عَلِيماً هـ وَالْأَقْرَبُونَ ط بناء على أن ما بعده مبتدأ نَصِيبَهُمْ ط شَهِيداً هـ مِنْ أَمْوالِهِمْ ج لأن ما يتلو مبتدأ بِما حَفِظَ اللَّهُ ط وَاضْرِبُوهُنَّ ج لابتداء الشرط مع فاء التعقيب سَبِيلًا ط كَبِيراً هـ مِنْ أَهْلِها ج لأن «أن» للشرط مع اتحاد الكلام بَيْنِهِما ط خَبِيراً هـ وَابْنِ السَّبِيلِ ط للعطف أَيْمانُكُمْ ط فَخُوراً هـ لا بناء على أن الذين بدل مِنْ فَضْلِهِ ط مُهِيناً هـ ج لاحتمال ما بعده الاستئناف والعطف بِالْيَوْمِ الْآخِرِ ط وإن جعل «الذين» مبتدأ لأن خبره محذوف أي فأولئك قرينهم الشيطان قَرِيناً هـ رَزَقَهُمُ اللَّهُ ط عَلِيماً هـ ذَرَّةٍ ط لانقطاع النظم مع اتفاق المعنى أي لا يظلم بنقص الثواب ومع ذلك يضاعفه عَظِيماً هـ.
التفسير:
هذا كالتفصيل للوعيد المتقدم. ومن الناس من قال: جميع الذنوب والمعاصي كبائر. روى سعيد بن جبير عن ابن عباس: كل شيء عصي الله فيه فهو كبيرة، فمن عمل شيئا منها فليستغفر الله فإنّ الله لا يخلد في النار من هذه الأمة إلّا راجعا عن الإسلام أو جاحدا فريضة أو منكرا لقدر. وضعف بأن الذنوب لو كانت كلها كبائر لم يبق فرق بين ما يكفر باجتناب الكبائر وبين الكبائر وبقوله تعالى: وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ [القمر: ٥٣] لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها [الكهف: ٤٩] وبأنه ﷺ نص على ذنوب بأعيانها أنها كبائر، وبقوله تعالى: وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ [الحجرات: ٧] ولا بد من فرق بين الفسوق والعصيان. فالكبائر هي الفسوق، والصغائر العصيان. حجة المانع ما روي عن ابن عباس: أنّ الذنب إنما يكبر لوجهين: لكثرة نعم من
روي أنه ﷺ قال: «اجتنبوا السبع الموبقات الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي حرم الله إلّا بالحق وأكل الربا وأكل مال اليتيم والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات» «١».
وذكر عند ابن عباس أنها سبعة
استحلال آمّين البيت الحرام وشرب الخمر. وعن ابن مسعود: زيادة القنوط من رحمة الله والأمن من مكره.
وفي بعض الروايات عن النبي ﷺ زيادة قول الزور وعقوق الوالدين والسرقة.
وأما قول العلماء في الكبيرة فمنهم من قال: هي التي توجب الحد. وقيل: هي التي يلحق صاحبها الوعيد الشديد بنص أو كتاب أو سنة. وقيل: كل جريرة تؤذن بقلة اكتراث صاحبها بالدين. وقيل: لا كبيرة مع الاستغفار ولا صغيرة مع الإصرار. ويراد بالإصرار المداومة على نوع واحد من الصغائر، أو الإكثار منها وإن لم تكن من نوع واحد.
احتج أبو القاسم الكعبي بالآية على القطع بوعيد أهل الكبائر لأنها تدل على أنه إذا لم يجتنب الكبائر فلا تكفر عنه. والجواب عنه أن استثناء نقيض المقدم لا ينتج ويؤيده قوله تعالى: فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ [البقرة: ٢٨٣] وأداء الأمانة واجب أمنه أو لم يأمنه. سلمنا أنّ الآية رجعت إلى قوله من لم يجتنب الكبائر لم يكفر عنه سيّئاته، فغايته أنه يكون عاما في باب الوعيد. والجواب عنه هو الجواب عن سائر العمومات، وهو أنه مشروط بعدم العفو عندنا كما أنه مشروط عندكم بعدم التوبة. ثم قالت المعتزلة: إنّ عند اجتناب الكبائر يجب غفران الصغائر، وعندنا لا يجب على الله شيء بل كل ما يفعله فهو فضل وإحسان. ويدخل في الاجتناب عن الكبائر الإتيان بالطاعات لأن ترك الواجب أيضا كبيرة. وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا فمن فتح الميم أراد مكان الدخول، ومن ضمها أراد الإدخال. ووصفه بالكرم إشعار بأنه على وجه التعظيم خلاف إدخال أهل النار الذين يحشرون على وجوههم إلى جهنم، أو هو وصف باعتبار صاحبه.
ثم إنه سبحانه لما أمرهم بتهذيب أعمال الجوارح وهو أن لا يقدموا على أكل الأموال بالباطل وعلى قتل الأنفس، حثهم على تهذيب الأخلاق في الباطن. أو نقول: لما نهاهم عن الأكل والقتل ولن يتم ذلك إلّا بالرضا بالقضاء وتطييب القلب بالمقسوم المقدّر، فلا جرم قال: وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ قالت المعتزلة: التمني قول القائل: «ليته كذا». وقال أهل السنة: هو عبارة عن إرادة ما يعلم أو يظن أنه لا يكون ولهذا قالوا: إنه تعالى لو أراد من الكافر أن يؤمن مع علمه بأنه لا يؤمن كان متمنيا. ثم مراتب السعادات إما نفسانية نظرية كالذكاء والحدس وحصول المعارف والحقائق، أو عملية كالأخلاق الفاضلة، وإما بدنية كالصحة والجمال والعمر، وإما خارجية كحصول الأولاد النجباء وكثرة العشائر والأصدقاء والرياسة التامة ونفاذ القول وكونه محبوبا للخلق حسن الذكر مطاع الأمر، فهذه مجامع السعادات. وبعضها محض عطاء الله تعالى، وبعضها مما
وفي الكلمات القدسية: «من استسلم لقضائي وصبر على بلائي وشكر نعمائي كتبته صديقا وبعثته يوم القيامة مع الصديقين. ومن لم يرض بقضائي ولم يصبر على بلائي ولم يشكر نعمائي فليخرج من أرضي وسمائي وليطلب ربا سوائي».
قال المحققون: لا يجوز للإنسان أن يقول: اللهم أعطني دارا مثل دار فلان، وزوجة مثل زوجة فلان، وإن كان هذا غبطة لا حسدا، بل ينبغي أن يقول: اللهم أعطني ما يكون صلاحا لي في ديني ودنياي ومعادي ومعاشي. وعن الحسن: لا يتمن أحد المال فلعل هلاكه في ذلك المال.
أما سبب النزول
فعن مجاهد قالت أم سلمة: يا رسول الله يغزو الرجال ولا نغزو، ولهم من الميراث ضعف ما لنا فنزلت.
وعن قتادة والسدي: لما نزل قوله: لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ [النساء: ١١] قال الرجال: نرجو أن نفضل على النساء في الآخرة كما فضلنا في الميراث. وقال النساء: نرجو أن يكون الوزر علينا نصف ما على الرجال.
وفي رواية قلن: نحن أحوج لأن ضعفاءهم أقدر على طلب المعاش فنزلت.
وقيل: أتت وافدة النساء إلى الرسول وقالت: رب الرجال والنساء واحد، وأنت الرسول إلينا وإليهم، وأبونا آدم وأمنا حواء فما السبب في أن الله يذكر الرجال ولا يذكرنا؟ فنزلت الآية. فقالت: وقد سبقنا الرجال بالجهاد فما لنا؟ فقال صلى الله عليه وسلم: إن للحامل منكم أجر الصائم القائم، وإذا ضربها الطلق لم يدر أحد ما لها من الأجر، فإن أرضعت كان لها بكل مصة أجر إحياء نفس.
لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا من نعيم الدنيا وثواب الآخرة فينبغي أن يرضوا بما قسم لهم، وكذا للنساء، أو لكل فريق جزاء ما اكتسب من الطاعات فلا ينبغي أن يضيعه بسبب الحسد المذموم. وتلخيصه لا تضيع ما لك بتمني ما لغيرك. أو لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا بسبب قيامهم بالنفقة على النساء وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ بحفظ فروجهن وطاعة أزواجهن والقيام بمصالح البيت وَسْئَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ فعنده من ذخائر الإنعام ما لا ينفده مطالب الأنام. و «من» للتبعيض أي شيئا من خزائن كرمه وطوله إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ
فهو العالم بما يكون صلاحا للسائلين، فليقتصر السائل على المجمل وليفوّض التفصيل إليه فإن ذلك أقرب إلى الأدب وأوفق للطلب.
قوله سبحانه وتعالى: وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ يمكن تفسيره.
بحيث يكون الوالدان والأقربون وارثين وبحيث يكونان موروثا منهما. والمعنى على الأول:
لكل أحد جعلنا ورثة في تركته. ثم إنه كأنه قيل: ومن هؤلاء الورثة؟ فقيل: هم الوالدان والأقربون فيحسن الوقف على قوله: مِمَّا تَرَكَ وفيه ضمير كل. وأما على الثاني، فإما أن يكون في الكلام تقديم وتأخير أي ولكل شيء مما ترك الوالدان والأقربون جعلنا موالي أي ورثة، وإما أن يكون جَعَلْنا مَوالِيَ صفة لِكُلٍّ بل محذوف والعائد محذوف وكذا المبتدأ والتقدير: ولكل قوم جعلناهم موالي نصيب مما ترك الوالدان والأقربون كما تقول:
لكل من خلقه الله إنسانا من رزق الله. أي حظ من رزق الله، والمولى لفظ مشترك بين معان:
منها المعتق لأنه ولي نعمته في عتقه، ومنها العبد المعتق لاتصال ولاية مولاه في إنعامه عليه، وهذا كما يسمى الطالب غريما لأن له اللزوم والمطالبة بحقه، ويسمى المطلوب غريما لكون الدين لازما له. ومنها الحليف لأن الحالف يلي أمره بعقد اليمين، ومنها ابن العم لأنه يليه بالنصرة ومنه المولى للناصر قال تعالى: ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا [محمد: ١١] ومنها العصبة وهو المراد في الآية إذ هو الأليق بها
كقوله صلى الله عليه وسلم: «أنا أولى بالمؤمنين من مات وترك مالا فماله للموالي العصبة، ومن ترك كلا فأنا وليّه» «١».
وأما قوله:
وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فإما أن يكون مبتدأ ضمن معنى الشرط، فوقع قوله: فَآتُوهُمْ خبره. وإما أن يكون منصوبا على قولك: «زيدا فاضربه» مما توسط الفاء بين الفعل ومفعول مفسره إيذانا بتلازمهما وإما أن يكون معطوفا على الْوالِدانِ والإيمان جمع اليمين اليد أو الحلف. من الناس من قال: الآية منسوخة. وذلك أن الرجل كان يعاقد الرجل فيقول: دمي دمك وهدمي هدمك أي ما يهدر، وثأري ثأرك، وحربي حربك، وسلمي سلمك، وترثني وأرثك، وتطلب بي وأطلب بك، وتعقل عني وأعقل عنك، فيكون للحليف السدس من ميراث الحليف فنسخ بقوله: وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ [الأنفال: ٧٥] وبقوله:
يُوصِيكُمُ اللَّهُ [النساء: ١١] وأيضا: إن الواحد منهم كان يتخذ إنسانا أجنبيا ابنا له وهم الأدعياء، وكان النبي ﷺ يؤاخي بين كل رجلين منهم، فكانوا يرثون بالتبني والمؤاخاة فنسخ. ومن المفسرين من زعم أنها غير منسوخة. وقوله: وَالَّذِينَ معطوف على ما
المراد الميراث الحاصل بسبب الولاء. وقيل: هم الحلفاء. والمراد بإيتاء نصيبهم النصرة والنصيحة والمصافاة. وقال الأصم: المراد التحفة بالشيء القليل كقوله: وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ [النساء: ٨] وذهب جمهور الفقهاء إلى أنه لا يرث المولى الأسفل من الأعلى.
وحكى الطحاوي عن الحسن بن زياد أنه قال: يرث، لما روى ابن عباس أن رجلا أعتق عبدا له فمات المعتق ولم يترك إلّا العتيق فجعل رسول الله ﷺ ميراثه للغلام.
والحديث عند الجمهور محمول على أن المال صار لبيت المال ثم دفعه النبي ﷺ إلى الغلام لفقره. وقال أبو حنيفة: لو أسلم رجل على يد رجل وتعاقدا على أن يتعاقلا ويتوارثا صح وورث بحق الموالاة، وخالفه الشافعي فيه. وحكى الأقطع أن هذه الموالاة لا تصح عند أبي حنيفة أيضا إلا بين العرب دون العجم لرخاوة عقدهم في أمورهم. إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً لأنه عالم بجميع الجزئيات والكليات فشهد على الخلق يوم القيامة بكل ما عملوه، وفيه وعيد للعاصين، ووعد للمطيعين.
هذا وقد مر أن النساء تكلمن في تفضيل الله الرجال عليهن في الميراث ونحوه، فذكر في هذه الآية ما يشتمل على بعض أسباب التفضيل فقال: الرِّجالُ قَوَّامُونَ يقال: هذا قيم المرأة وقوّامها بناء مبالغة للذي يقوم بأمرها ويهتم بحفظها كما يقوم الوالي على الرعية ومنه سمي الرجال قوّاما. والضمير في بعضهم للرجال والنساء جميعا أي إنما كانوا مسيطرين عليهن بسبب تفضيل الله بعضهم- وهم الرجال- على بعض- وهم النساء. وقيل: وفيه دليل على أن الولاية إنما تستحق بالفضل لا بالتغلب والاستطالة والقهر. وذكروا في فضل الرجال العقل والحزم والعزم والقوة والكتابة في الغالب والفروسية والرمي، وأن منهم الأنبياء والعلماء والحكماء، وفيهم الإمامة الكبرى وهي الخلافة، والصغرى وهو الاقتداء بهم في الصلاة، وأنهم أهل الجهاد والأذان والخطبة والاعتكاف والشهادة في الحدود والقصاص بالاتفاق وفي الأنكحة عند الشافعي، وزيادة السهم في الميراث والتعصيب فيه، والحمالة تحمل الدية في القتل الخطأ، والقسامة والولاية في النكاح والطلاق والرجعة وعدد الأزواج وإليهم الانتساب، وكل ذلك يدل على فضلهم، وحاصلها يرجع إلى العلم والقدرة. ومنها سبب خارجيّ وذلك أنهم فضلوا عليهن بما أنفقوا أي أخرجوا في نكاحهن من أموالهم مهرا
عن مقاتل أن سعد بن الربيع، وكان من نقباء الأنصار، نشزت عليه امرأته حبيبة بنت زيد بن أبي زهير، فلطمها. فانطلق بها أبوها إلى رسول الله ﷺ وقال: أفرشته كريمتي فلطمها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لتقتص منه، وكانت قد نزلت آية القصاص، فانصرفت مع أبيها لتقتص منه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ارجعوا هذا جبريل أتاني وأنزل الله هذه الآية. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أردنا أمرا وأراد الله أمرا والذي أراد الله خير ورفع القصاص.
فلهذا قال العلماء:
لا قصاص بين الرجل وامرأته فيما دون النفس ولو شجها ولكن يجب العقل، وقيل: لا قصاص إلّا في الجرح والقتل، وأما في اللطمة ونحوها فلا. ثم قسم النساء قسمين، فوصف الصالحات منهن بأنهن قانتات مطيعات لله وللزوج حافظات للغيب قائمات بحقوق الزوج في غيبته، والغيب خلاف الشهادة. ومواجب حفظ غيبة الزوج أن تحفظ نفسها عن الزنا لئلا يلحق الزوج العار بسبب زناها، ولئلّا يلحق به الولد الحاصل من نطفة غيره، وأن تحفظ أسراره عن الإفشاء وماله عن الضياع ومنزلها عما لا ينبغي شرعا وعرفا.
عن النبي ﷺ «خير النساء امرأة إن نظرت إليها سرتك وإن أمرتها أطاعتك وإن غبت عنها حفظتك في مالك ونفسها وتلا الآية» «١».
و «ما» في قوله: بِما حَفِظَ اللَّهُ موصولة والعائد محذوف أي بالذي حفظه الله لهن أي عليهن أن يحفظن حقوق الزوج في مقابلة ما حفظ الله حقوقهن على أزواجهن حيث أمرهم بالعدل فيهن في قوله: فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ [البقرة: ٢٢٩] فقوله: بِما حَفِظَ اللَّهُ يجري مجرى قولهم «هذا بذاك» أي هذا في مقابلة ذاك، أو مصدرية والمعنى: أنهن حافظات للغيب بحفظ الله إياهن فإنهن لا يتيسر لهن حفظ الغيب إلّا بتوفيق الله، أو بما حفظهن حين وعدهن الثواب العظيم على الأمانة، وأوعدهن العذاب الشديد على الخيانة. ومن قرأ بِما حَفِظَ اللَّهُ بالنصب ف «ما» أيضا موصولة أي بالأمر الذي يحفظ حق الله وأمانته وهو التعفف والتحصن والشفقة على الرجال والنصيحة لهم، أو مصدرية أي بسبب حفظهن حدود الله وأوامره فإن المرأة لولا أنها تحاول رعاية تكليف الله وتجتهد في حفظ أوامره وإلا لما أطاعت زوجها. ثم ذكر غير الصالحات منهن فقال: وَاللَّاتِي تَخافُونَ تعرفون بالقرائن والأمارات نُشُوزَهُنَّ عصيانهن والترفع عليكم بالخلاف من نشز الشيء ارتفع، ومنه نشز للأرض المرتفعة فَعِظُوهُنَّ وهو أن يقول:
اتقي الله فإن لي عليك حقا، وارجعي عما أنت عليه، واعلمي أن طاعتي عليك فرض ونحو ذلك. وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ أي في المراقد أي لا تداخلوهن تحت اللحف. وقيل:
هو أن يوليها ظهره في المضجع. وقيل: في المضاجع أي ببيوتهن التي يبتن فيها أي لا
روي أنه ﷺ قال: «لا تضربوا إماء الله» «١» فجاء عمر إلى رسول الله ﷺ فقال: ذئرت النساء على أزواجهن أي اجترأن فرخص في ضربهن. فأطاف بآل رسول الله ﷺ نساء كثير يشكون أزواجهن فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لقد طاف بآل محمد نساء كثير يشكون أزواجهن ليس أولئك بخياركم».
ومعناه أن الذين ضربوا أزواجهم ليسوا خيرا ممن لم يضربوا. وإذا ضربها وجب أن لا يكون مفضيا إلى الهلاك البتة، وأن يكون مفرقا على بدنها لا يوالي به في موضع واحد، ويتقي الوجه لأنه مجمع المحاسن، وأن يكون دون الأربعين. وقيل: دون عشرين لأنه حد كامل في شرب العبد، ومنهم من لا يرى الضرب بالسياط ولا بالعصا. وبالجملة فالتخفيف مرعي في هذا الباب ولهذا
قال علي بن أبي طالب: يعظها بلسانه فإن انتهت فلا سبيل له عليها، فإن أبت هجر مضجعها، فإن أبت ضربها، فإن لم تتعظ بالضرب بعث الحكمين.
وقال آخرون: هذا الترتيب مرعي عند خوف النشوز، فأما عند تحقق النشوز فلا بأس بالجمع بين الكل.
وروي عن النبي ﷺ «علق سوطك حيث يراه أهلك».
فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا بالأذى والتوبيخ، واجعلوا ما كان منهن كأن لم يكن إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيًّا لا بالجهة كَبِيراً لا بالجثة فَاحْذَرُوا واعلموا أن قدرته عليكم أعظم من قدرتكم على أزواجكم وأرقائكم.
روي أن أبا مسعود الأنصاري رفع سوطه ليضرب غلاما له فبصر به رسول الله ﷺ فصاح به: أبا مسعود، الله أقدر منك عليه. فرمى بالسوط وأعتق الغلام.
وفيه أنه مع علوه وكبرياء سلطانه تعصونه فيتوب عليكم فأنتم أحق بالعفو إذا رجع الجاني عليكم، أو أنه مع علوه وكبريائه لا يكلفكم إلا ما تطيقون فكذلك لا تكلفوهن محبتكم فلعلهن لا يقدرن على ذلك، أو أنه مع علو شأنه وكبريائه يكتفي من العبيد بالظواهر ولا يهتك السرائر فأنتم أجدر بأن لا تفتشوا عما في قلبها من الحب والبغض إذا صلح حالها في الظاهر، أو أنهن إن ضعفن عن دفع ظلمكم وعجزن عن الانتصاف منكم فالله تعالى قادر قاهر ينتصف لهن منكم.
ثم بيّن أنه ليس بعد الضرب إلا المحاكمة فقال: وَإِنْ خِفْتُمْ قال ابن عباس: أي علمتم وذلك لإصرارها على النشوز حيث لم يؤثر فيها الوعظ والهجران والضرب. واعترض
المراد إزالة الشقاق في الاستقبال. ومعنى شِقاقَ بَيْنِهِما شقاقا بينهما، فأضيف الشقاق إلى الظرف على سبيل الاتساع وهو إجراء الظرف مجرى المفعول به، أو على جعل البين مشاقا مثل «نهاره صائم» والضمير للزوجين يدل عليهما مساق الكلام، أو ذكر الرجال والنساء فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ رجلا مقنعا رضا يصلح لحكومة الإصلاح بينهما ويهتدي إلى المقصود من البعث. ولا بد فيه من العقل والبلوغ والحرية والإسلام، ويستحب أن يكون الحكمان من أهلهما لأن الأقارب أعرف ببواطن أحوالهما وتسكن إليهما نفوس الزوجين، فيبرزان لهما ما في ضمائرهما من الحب والبغض وإرادة الصحبة والفرقة، وموجبات كل من الأمرين. وينبغي أن يخلو حكم الرجل بالرجل وحكم المرأة بالمرأة فيعرفان ما عندهما وما فيه رغبتهما، وإذا اجتمعا لم يخف أحدهما عن الآخر ما علم. ثم المبعوثان وكيلان من جهة الزوجين أو موليان من جهة الحكام المخاطبين بقوله: فَابْعَثُوا فيه للشافعي قولان: - أصحهما وبه قال أبو حنيفة وأحمد- أنهما وكيلان لأن البضع حق الزوج والمال حق الزوجة وهما رشيدان. والخطاب في قوله: وَإِنْ خِفْتُمْ وفي فَابْعَثُوا لصالحي الأمة لأنه يجري مجرى دفع الضرر، فلكل أحد أن يقوم به. وثانيهما- وبه قال مالك- أنهما موليان لأنه تعالى سماهما الحكمين. ولما
روي أن عليا عليه السلام بعث حكمين من زوجين فقال: أتدريان ما عليكما؟ عليكما إن رأيتما أن تجمعا فاجمعا وإن رأيتما أن تفرّقا ففرقا. وعلى الأول يوكل الرجل الذي هو من أهله بالطلاق وبقبول العوض في الخلع، والمرأة الآخر ببذل العوض وقبول الطلاق. ولا يجوز بعثهما إلا برضاهما فإن لم يرضيا ولم يتفقا على شيء أدب القاضي الظالم واستوفى حق المظلوم. وعلى الثاني لا يشترط رضا الزوجين في بعث الحكمين.
إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُما فيه أربعة أوجه: الأول: إن يرد الحكمان خيرا يوفق الله بين الحكمين حتى يتفقا على ما هو خير.
الثاني: إن يرد الزوجان إصلاحا أبدل الله الزوجين بالشقاق وفاقا. الثالث: إن يرد الحكمان إصلاحا يؤلف الله بين الزوجين. الرابع: إن يرد الزوجان خيرا يوفق الله بين الحكمين حتى تتفق كلمتاهما ويحصل الغرض، والتوفيق جعل الأسباب موافقة للغرض ولا يستعمل إلا في الخير والطاعة. وفيه أنه لا يتم شيء من الأغراض إلّا بتوفيق الله تعالى وتيسيره إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً فيوفق بين المختلفين ويجمع بين المفترقين بمقتضى علمه وإرادته. وفيه وعيد للزوجين والحكمين في سلوك ما يخالف طريق الحق ووعد على الجد في حسم مادة الخصومة والخشونة.
عن النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه، ألا وإن الجوار أربعون دارا» «١».
وعن الزهري أنه أراد أربعين من كل جانب. وقيل: الجار ذي القربى الجار القريب النسب، والجار الجنب الأجنبي. والتركيب يدل على البعد، ومنه الجانبان للناحيتين، والجنبان لبعد كل منهما عن الآخر، ومنه الجنابة لبعده عن الطهارة وعن حضور الجماعة والمسجد ما لم يغتسل. ومن قرأ الْجُنُبِ فمعناه المجنوب مثل «خلق» بمعنى مخلوق، أو المراد ذي الجنب فحذف المضاف وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وهو الذي حصل بجنبك إما رفيقا في سفر، وإما جارا ملاصقا، وإما شريكا في تعلم أو حرفة، وإما قاعدا إلى جنبك في مجلس، أو في مسجد أو غير ذلك من أدنى صحبة اتفقت بينك وبينه، فعليك أن تراعي ذلك الحق ولا تنساه وتجعله ذريعة إلى الإحسان. وقيل: الصاحب بالجنب المرأة فإنها تكون معك وتضطجع إلى جنبك وَابْنِ السَّبِيلِ المسافر الذي انقطع عن بلده، أو الضيف وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ
عن علي بن أبي طالب أنه كان آخر كلام رسول الله ﷺ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ
وذكر اليمين تأكيد كما يقال: مشيت برجلي. والإحسان إليهم أن لا يكلفهم فوق طاقتهم ولا يؤذيهم بالكلام الخشن، بل يعاشرهم معاشرة جميلة ويعطيهم من الطعام والكسوة ما يليق بحالهم في كل وقت. وكانوا في الجاهلية يسيئون إلى المملوك فيكلفون الإماء البغاء وهو الكسب بفروجهن، ويضعون على العبيد الخراج الثقيل. وقيل:
كل حيوان فهو مملوك. والإحسان إلى كل نوع بما يليق بحاله طاعة عظيمة إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالًا فَخُوراً تياها جهولا يتكبر عن إكرام أقاربه وأصحابه وممالكيه، وعن الالتفات إلى حالهم والتفقد لهم والتحفي بهم، ويأنف من أقاربه إذا كانوا فقراء ومن جيرانه إذا كانوا ضعفاء. وأصله من الخيلاء الكبر، والفخور المتطاول الذي يعد مناقبه. وعن ابن عباس هو الذي يفخر على عباد الله تعالى بما أعطاه من أنواع نعمه، ولعل هذا يجوز على سبيل التحدث بالنعم فقط. الَّذِينَ يَبْخَلُونَ البخل في اللغة منع الإحسان، وفي الشرع منع
رواه البخاري في كتاب الأدب باب ٢٩. مسلم في كتاب الإيمان حديث ٧٣. الترمذي في كتاب القيامة باب ٦٠. أحمد في مسنده (١/ ٣٨٧). بدون لفظ «ألا وإن الجوار أربعون دارا».
قال صلى الله عليه وسلم: «إنّ الله تعالى يحب أن يرى على عبده أثر نعمته» «١»
وبنى عامل للرشيد قصرا حذاء قصره فنم به عنده. فقال الرجل: يا أمير المؤمنين إن الكريم يسره أن يرى أثر نعمته فأحببت أن أسرك بالنظر إلى آثار نعمتك فأعجبه كلامه. ثم إن هذا الكتمان قد يقع على وجه يوجب الكفر مثل أن يظهر الشكاية من الله تعالى ولا يرضى بقضائه فلذلك قال: وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً ويحتمل أن يراد كافر النعمة لا كافر الإيمان. وقال ابن عباس: إنّ الآية في اليهود، كانوا يأتون رجالا من الأنصار يخالطونهم وينتصحون لهم يقولون: لا تنفقوا أموالكم فإنا نخشى عليكم الفقر ولا تدرون ما يكون. وأيضا إنهم كتموا صفة محمد ولم يبينوها للناس. ثم لما ذمّ الذين لا ينفقون أموالهم عطف عليهم الذين ينفقون أموالهم ولكن رياء وفخارا وليقال ما أسخاهم وما أجودهم لا ابتغاء وجه الله، ومثل هذا الإنفاق دليل على أنه لا يؤمن بالله واليوم الآخر وإلّا أنفق لله أو للآخرة وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً في الدنيا آمرا بالبخل والفحشاء فَساءَ قَرِيناً في الآخرة يقرن به في النار. ثم استفهم على سبيل الإنكار فقال: وَماذا عَلَيْهِمْ أي أيّ تبعة ووبال عليهم؟ أو ما الذي عليهم في باب الإيمان والإنفاق في سبيل الله؟ والمراد التوبيخ وإلّا فكل منفعة في ذلك كما يقال للمنتقم:
ما ضرك لو عفوت؟ وللعاق: ما كان يرزؤك لو كنت بارا؟. وَكانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيماً بعث على إصلاح أفعال القلوب التي يطلع عليها علام الغيوب، وردع عن دواعي النفاق والرياء والسمعة والفخار. احتج القائلون بأن الإيمان يصح على سبيل التقليد بأن قوله: وَماذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا مشعر بأن الإتيان بالإيمان في غاية السهولة والاستدلال في غاية الصعوبة.
وأجيب بأن الصعوبة في الإيمان الاستدلالي التفصيلي لا الإجمالي. وقال جمهور المعتزلة:
لو كانوا غير قادرين لم يقل: وَماذا عَلَيْهِمْ كما لا يقال للمرأة ماذا عليها لو كانت رجلا، وللقبيح ماذا عليه لو كان جميلا. وأجيب بعدم التحسين والتقبيح العقليين وأنه لا يسأل عما يفعل.
يؤتى بالعبد يوم القيامة وينادي مناد على رؤوس الأولين والآخرين: هذا فلان ابن فلان، من كان له عليه حق فليأت إلى حقه، ثم يقال له: أعط هؤلاء حقوقهم، فيقول: يا رب ومن أين وقد ذهبت الدنيا؟ فيقول الله لملائكته: انظروا في أعماله الصالحة فأعطوهم منها، فإن بقي مثقال ذرة من حسنة ضعفها الله تعالى لعبده وأدخله الجنة بفضل رحمته ومصداق ذلك في كتاب الله وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها. قال الحسن: الوعد بالمضاعفة أحب عند العلماء مما لو قال في الحسنة الواحدة مائة ألف حسنة، لأن هذا يكون مقداره معلوما، أما على هذه العبارة فلا يعلم كميته إلّا الله تعالى.
وعن أنس أن رسول الله ﷺ قال: «إنّ الله لا يظلم مؤمنا حسنة يعطى بها في الدنيا ويجزى بها في الآخرة. وأما الكافر فبطعم بحسنات ما عمل بها لله في الدنيا حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم تكن له حسنة يجزى بها» «١»
أما قوله: وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً فإن لَدُنْهُ بمعنى عند إلا أن لدن أكثر تمكنا. يقول الرجل: عندي مال وإن كان المال ببلد آخر. ولا يقول: لديّ مال إلّا إذا كان بحضرته. والمعتزلة حملوا
الأول إشارة إلى السعادات الجسمانية، والثاني إشارة إلى اللذات الروحانية والله أعلم.
التأويل:
جملة الكبائر مندرجة تحت ثلاث: إحداها اتباع الهوى وينشأ منه البدع والضلالات وطلب الشهوات وحظوظ النفس بترك الطاعات، وثانيتها حب الدنيا وينشعب منه القتل والظلم وأكل الحرام، وثالثتها رؤية غير الله وهو الشرك والرياء والنفاق وغيرها.
ثم أخبر أن الذين ليس بالتمني فقال: وَلا تَتَمَنَّوْا فإنه لا يحصل بالتمني ولكن لِلرِّجالِ المجتهدين في الله نَصِيبٌ مما جدّوا في طلبه وَلِلنِّساءِ وهم الذين يطلبون من الله غير الله نَصِيبٌ على قدر همتهم في الطلب وَسْئَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ فيه معنيان:
سلوه من فضله الخاص وهو العلم اللدني وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً
، [النساء: ١١٣] أو سلوه منه ولا تسألوه من غيره وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ لكل طالب صادق جعلنا استعدادا في الأزل للوراثة مما ترك والداه وأقرباؤه، طلبه لعدم الاستعداد والمشيئة. والذين جرى بينكم وبينهم عقد الأخوة في الله فَآتُوهُمْ بالنصح وحسن التربية والتسليك نَصِيبَهُمْ الذي قدّر لهم الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بمصالح دينهن ودنياهن بتفضيل الله وهو استعداد الخلافة والوراثة وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ أي تجريدهم عن الدنيا وتفريدهم للمولى. فَالصَّالِحاتُ اللاتي يصلحن للكمال قانِتاتٌ مطيعات لله لهن قلوب حافِظاتٌ لواردات الغيب بِما حَفِظَ اللَّهُ عليهن حقائق الغيب وأسراره. وَاللَّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ إذا دارت عليهن كؤوس الواردات كما قيل:
فأسكر القوم دور كاس | وكان سكري من المدير |
[سورة النساء (٤) : الآيات ٤١ الى ٥٧]
فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً (٤١) يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً (٤٢) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلاَّ عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً (٤٣) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (٤٤) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ وَكَفى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفى بِاللَّهِ نَصِيراً (٤٥)
مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَراعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (٤٦) يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً (٤٧) إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً (٤٨) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (٤٩) انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفى بِهِ إِثْماً مُبِيناً (٥٠)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً (٥١) أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً (٥٢) أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً (٥٣) أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً (٥٤) فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً (٥٥)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَزِيزاً حَكِيماً (٥٦) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً (٥٧)
تُسَوَّى بإدغام تاء التفعل في السين: أبو جعفر ونافع وابن عامر تُسَوَّى بالإمالة وحذف التاء الأولى: حمزة وعلي وخلف. الباقون تُسَوَّى مبنيا للمفعول من التسوية لمستم من اللمس وكذلك في المائدة: حمزة وعلي وخلف والمفضل. الباقون: لامَسْتُمُ من الملامسة فَتِيلًا انْظُرْ بكسر التنوين: أبو عمرو وسهل ويعقوب وحمزة وعاصم وابن ذكوان. الباقون: بالضم. وفرق بعضهم بين موضع الخفض فلم يجوز الضم كراهة الانتقال من الكسرة إلى الضمة نحو مُتَشابِهٍ انْظُرُوا [الأنعام: ٩٩] وبِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا [الأعراف: ٤٩] وخَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ [إبراهيم: ٢٦] وعَذابٍ
[ص: ٤١] وأشباه ذلك. نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ وبابه مدغما: حمزة وعلي وخلف وهشام وأبو عمرو.
الوقوف:
شَهِيداً ط الْأَرْضُ ط حَدِيثاً هـ تَغْتَسِلُوا ط وَأَيْدِيكُمْ ط غَفُوراً هـ السَّبِيلَ هـ ط بِأَعْدائِكُمْ ط نَصِيراً هـ فِي الدِّينِ ط وَأَقْوَمَ لا لاتصال لكن قَلِيلًا هـ السَّبْتِ ط مَفْعُولًا هـ لِمَنْ يَشاءُ ج عَظِيماً هـ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ ط فَتِيلًا هـ الْكَذِبَ ط مُبِيناً هـ ط سَبِيلًا هـ لَعَنَهُمُ اللَّهُ ط نَصِيراً هـ ط لأن «أم» بمعنى همزة الاستفهام للإنكار نَقِيراً هـ لا للعطف مِنْ فَضْلِهِ ج لتناهي الاستفهام مع تعقب الفاء عَظِيماً هـ صَدَّ عَنْهُ ط سَعِيراً هـ ناراً ط الْعَذابَ ط حَكِيماً هـ أَبَداً ط مُطَهَّرَةٌ ز لاستئناف الفعل على أنه من تمام المقصود ظَلِيلًا هـ.
التفسير:
إنه سبحانه لما أوعد الظالمين بقوله: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ [النساء: ٤٠] ووعد المطيعين بقوله: وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها [النساء: ٤٠] أراد أن يبين أن ذلك يجري بشهادة الرسل الذين جعلهم الله حجة على الخلق ليكون الإلزام أتم والتبكيت أعظم.
روي أن النبي ﷺ قال لابن مسعود: اقرأ القرآن عليّ. قال: فقلت: يا رسول الله أنت الذي علّمتنيه! فقال: أحب أن أسمعه من غيري. قال ابن مسعود: فافتتحت سورة النساء، فلما انتهيت إلى هذه الآية قال: حسبك الآن، فالتفت إليه فإذا عيناه تذرفان.
قال العلماء: إنه بكاء فرح لما شرفه الله تعالى بكرامة قبول الشهادة على الخلائق. والمعنى كيف يصنع هؤلاء الذين شاهدتهم وعرفت أحوالهم من مردة الكفرة كاليهود وغيرهم إذا جئنا من كل أمة بشهيد يشهد عليهم بما فعلوا وهو نبيهم، وجئنا بك على هؤلاء المكذبين شهيدا؟ ثم وصف ذلك اليوم فقال: يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ قيل: هذه الجملة معترضة والمراد وقد عصوا. والظاهر أن الواو للعطف وحينئذ تقتضي كون عصيان الرسول مغايرا للكفر لأنّ عطف الشيء على نفسه غير جائز. فإما أن يخص الكفر بنوع منه وهو الكفر بالله، أو يقال: إنه عام وأفرد ذكر قسم منه إظهارا لشرف الرسول وتفظيعا لشأن الجحود به، أو يحمل عصيان الرسول على المعاصي المغايرة للكفر فيكون في الآية دلالة على أن الكفار مخاطبون بفروع الشرائع. ومعنى لَوْ تُسَوَّى لو يدفنون فتسوى بهم الأرض كما تسوى بالموتى، أو يودون أنهم لم يبعثوا أو أنهم كانوا والأرض سواء، أو تصير البهائم ترابا فيودون حالها كقوله: يَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً
[النبأ: ٤٠] أما قوله: وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً فإما أن يتصل بما قبله والواو للعطف أي يودون لو انطبقت عليهم
ينفذ الروح السامع والباصر إلى ظاهر البدن. والجواب أن لفظ السكر حقيقة في السكر من الخمر والأصل في الإطلاق الحقيقة، ومتى استعمل مجازا فإنما استعمل مقيدا كقوله تعالى: وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ [ق: ١٩] وَتَرَى النَّاسَ سُكارى
[الحج: ٢] وأيضا أجمع المفسرون على أنها نزلت في شرب الخمر، وسبب النزول يمتنع أن لا يكون مرادا من الآية. ثم على قول الجمهور يمكن ادعاء النسخ في الآية بأنه إنما نهى عن قربان الصلاة حال السكر ممدودا إلى غاية أن يصير بحيث يعلم ما يقول، والحكم الممدود إلى غاية يقتضي انتهاء ذلك الحكم عند تلك الغاية فهذا يقتضي جواز الصلاة مع السكر إذا كان بحيث يعلم ما يقول. وجواز الصلاة مع هذا السكر توهم جواز هذا السكر، لكنه تعالى حرم الخمر في آية سورة المائدة على الإطلاق فتكون ناسخة لبعض مدلولات هذه الآية. ومن قال: إن مدلول الكلام يرجع إلى النهي عن الشرب المخل بالفهم عند القرب من الصلاة، وتخصيص الشيء بالذكر لا يدل على نفي ما عداه فلا يكون منسوخا، يكذبه أن الصحابة لم يفهموا منها التحريم المطلق فكانوا لا يشربون في أوقات الصلاة، فإذا صلوا العشاء شربوها فلا يصبحون إلّا وقد ذهب عنهم السكر وعلموا ما يقولون إلى أن نزلت آية المائدة فقالوا: انتهينا يا رب. والتحقيق فيه أن النهي عن مباح الأصل في وقت ما وبوجه ما وإن كان لا يدل على تحريمه ولا على إباحته في غير ذلك الوقت وبغير ذلك الوجه إلّا أن جانب الإباحة راجح بحكم الأصل فيغلب على الظن ذلك كما فهمه الصحابة. ثم إنه تعالى ذكر حكم المعذورين في حال الحدث فخص أولا من بينهم مرضاهم وسفرهم لأنهم المتقدمون في استحقاق بيان الرخصة لهم لكثرة المرض والسفر وغلبتهما على سائر الأسباب الموجبة للرخصة. والمعنى أن المرضى إذا عدموا الماء لضعف حركتهم وعجزهم عن الوصول إليه فلهم أن يتمموا، وكذلك الذين هم على حالة السفر إذا عدموه لبعده. ويحتمل أن يقال: قوله: فَلَمْ تَجِدُوا ماءً ليس قيدا في حكم المرضى لأنهم في الرخصة وإن وجدوا ماء. ثم عمم كل من وجب عليه التطهر وأعوزه الماء لخوف سبع أو عدو أو عدم آلة استقاء أو انحصار في مكان لا ماء فيه أو غير ذلك من الأسباب التي لا تكثر كثرة المرض والسفر. ويراد بالمرض ما يخاف معه محذور كبطء برء وشين فاحش ظاهر بقول طبيب مقبول الرواية لا أن يتألم ولا يخاف.
روي أن بعض الصحابة أصابته جنابة وكان به جراحة عظيمة، فسأل بعضهم فلم يفته بالتيمم، فاغتسل فمات. فسمع النبي ﷺ فقال: قتلوه قتلهم الله.
وقال مالك وداود: يجوز
فَلَمْ تَجِدُوا ماءً قال الشافعي: إذا دخل وقت الصلاة فطلب الماء ولم يجده فتيمم وصلى ثم دخل وقت الصلاة الثانية وجب عليه الطلب مرة أخرى، لأن عدم الوجدان مشعر بسبق الطلب فلا بد في كل مرة من سبق الطلب. وقال أبو حنيفة: لا يجب بدليل قوله: وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً [طه: ١١٥] وسبق الطلب في حقه تعالى محال. وأجيب بأنه بنى الكلام على المجاز للمبالغة كأنه طلب شيئا ثم لم يجد. وأجمعوا على أنه لو وجد الماء لكنه احتاج إليه لعطشه أو لعطش حيوان محترم معه جاز له التيمم، ولو وجد من الماء ما لا يكفيه فالأصح عند الأئمة أنه يستعمله أو يصبه ثم يتيمم ليكون عاملا بظاهر الآية. والتيمم في اللغة القصد. والصعيد التراب، «فعيل» بمعنى «فاعل». وقال ثعلب والزجاج: إنه وجه الأرض ترابا كان أو غيره. ومن هنا قال أبو حنيفة: إذا كان صخر لا تراب عليه وضرب المتيمم يده عليه ومسح كان ذلك كافيا. وقال الشافعي: لا بد من تراب لتحقق مفهوم التصاعد فيه وليلتصق بيده فيمكنه المسح ببعضه كما جاء في المائدة فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ [المائدة: ٦] ولا يفهم من قول القائل: مسحت برأسي من الدهن إلّا معنى التبعيض، ولأن الصعيد وصف بالطيب والطيب هو الذي يحتمل الإثبات لقوله: وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ [الأعراف: ٥٨] ولأنه ﷺ خصص التراب بهذا المعنى
فقال: «جعلت لي
أما مسح الوجه واليد فعن علي وابن عباس: اختصاص المسح بالجبهة وظاهر الكفين وقريب منه مذهب مالك لأن المسح مكتفى فيه بأقل ما يطلق عليه اسم المسح. وقال الشافعي وأبو حنيفة: يستوعب الوجه واليدين إلى المرفقين كما في الوضوء. وعن الزهري إلى الآباط، لأن اليد حقيقة لهذا العضو إلى الإبط، ثم ختم الآية بقوله: إِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً وهو كناية عن الترخيص والتيسير لأن من كان عادته العفو عن المذنبين كان أولى بالترخيص للعاجزين.
عن عائشة قالت: خرجنا مع رسول الله ﷺ في بعض أسفاره، حتى إذا كنا بالبيداء أو بذات الجيش انقطع عقد لي فأقام رسول الله ﷺ على التماسه وأقام الناس معه وليسوا على ماء وليس معهم ماء. فجاء أبو بكر ورسول الله ﷺ واضع رأسه على فخذي قد نام فقال: حبست رسول الله ﷺ والناس معه وليسوا على ماء وليس معهم ماء؟ قالت: فعاتبني أبوبكر وقال ما شاء الله أن يقول، فجعل يطعن بيده في خاصرتي، فلا يمنعني من التحرك إلا مكان رسول الله ﷺ على فخذي. فنام رسول الله ﷺ حتى أصبح على غير ماء فأنزل الله آية التيمم فتيمموا. فقال أسيد بن الحضير وهو أحد النقباء: ما هو بأول بركتكم يا آل أبي بكر. قالت عائشة: فبعثنا البعير الذي كنت عليه فوجدنا العقد تحته.
ثم إنه سبحانه لما ذكر من أول السورة إلى هاهنا أحكاما كثيرة عدل إلى ذكر طرف من آثار المتقدمين وأحوالهم، لأنّ الانتقال من أسلوب إلى أسلوب مما يزيد السامع هزة وجدة فقال: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أي ألم ينته علمك؟ أو ألم تنظر إلى من أوتوا حظا من علم التوراة وهم أحبار اليهود؟ وإنما أدخل «من» التبعيضية لأنهم عرفوا من التوراة نبوة موسى ولم يعرفوا منها نبوة محمد صلى الله عليه وسلم. فأما الذين أسلموا منهم كعبد الله بن سلام وأضرابه فقد وصفهم بأن معهم علم الكتاب في قوله: قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ [الرعد: ٤٣] لأنهم عرفوا الأمرين جميعا يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ يختارونها لأن من اشترى شيئا فقد آثره واختاره قاله الزجاج. والمراد تكذيبهم الرسول ﷺ لأغراضهم الفاسدة من أخذ الرشا وحب الرياسة. وقيل: المراد يستبدلون الضلالة- وهو البقاء على اليهودية- بالهدى- وهو الإسلام- بعد وضوح الآيات لهم على صحته. وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا أنتم أيها المؤمنون سبيل الحق كما ضلوه، ولا أقبح ممن جمع بين هذين الأمرين، الضلال والإضلال. عن ابن عباس أن الآية نزلت في حبرين من أحبار اليهود كانا يأتيان رأس
فائدة الباء وهي للإلصاق أن يعلم أن هذه الكفاية صدرت من الله تعالى بغير واسطة.
وقوله: مِنَ الَّذِينَ هادُوا إما بيان للذين أوتوا نصيبا من الكتاب وقوله: وَاللَّهُ أَعْلَمُ إلى آخر الآية معترض بين البيان والمبين، وإما بيان لأعدائكم والجملتان بينهما معترضتان، وإما صلة نَصِيراً كقوله: وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا [الأنبياء: ٧٧] وإما كلام مستأنف على أن يُحَرِّفُونَ صفة مبتدأ محذوف تقديره: من الذين هادوا قوم يحرفون الكلم عن مواضعه. قال الواحدي: الكلم جمع حروفه أقل من حروف واحده، وكل جمع يكون كذلك فإنه يجوز تذكيره. ومعنى هذا التحريف استبدال لفظ مكان لفظ كوضعهم «آدم طوالا» مكان «أسمر ربعة» وجعلهم الحد بدل الرجم. واختير «عن» للدلالة على الإمالة والإزالة. وأما في المائدة فقيل: مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ [المائدة: ٤١] نظرا إلى أن الكلم كانت له مواضع هو قمن بأن يكون فيها، فحين حرفوه تركوه كالغريب الذي لا موضع له. وقيل: المراد بالتحريف إلقاء الشبه الباطلة والتأويلات الفاسدة كما يفعله في زماننا أهل البدعة. وجعل بعض العلماء هذا القول أصح لاستبعاد تحريف المشهور المتواتر، لكن دعوى التواتر بشروطه في التوراة ممنوعة.
وقيل: كانوا يدخلون على النبي ﷺ فيسألونه عن أمر فيخبرهم به فإذا خرجوا من عنده حرفوا كلامه.
ومن جملة جهالاتهم أنه ﷺ كان إذا أمرهم بشيء قالوا في الظاهر سمعنا وفي الباطن عصينا، أو كانوا يقولون كلا اللفظين ظاهرا إظهارا للعناد والمرود والكفر والجحود، ومنها قولهم للنبي ﷺ اسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وهو كلام ذو وجهين: أما احتماله المدح فلقول العرب: أسمع فلان فلانا إذا سبه. وإذا كان المراد: اسمع غير مسمع مكروها كان مدحا وتوقيرا ونصحا. وأما احتمال الذم فبأن يكون معناه اسمع منا مدعوا عليك بلا سمعت، لأن من كان أصم فإنه لا يسمع فلا يسمع، أو بأن يراد اسمع غير مجاب إلى ما تدعو إليه أي غير مسمع جوابا يوافقك، أو بأن يراد اسمع غير مسمع كلاما ما ترتضيه، وعلى هذا يجوز أن يكون غَيْرَ مُسْمَعٍ
ثم زجرهم عن كفر الجحود والعناد بقوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ الآية.
والطمس المحو. يقال: طريق طامس ومطموس، ومفازة طامسة الأعلام، وطمست الكتاب محوته. وهو في الآية حقيقة أو مجاز قولان. والمعنى على الأول محو تخطيط صورها وأشكالها من عين وحاجب وأنف وفم. والفاء في فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها إما للتسبيب أي فنجعل الوجوه بسبب هذا الطمس على هيئة أقفائها مطموسة مثلها، لأن الوجه إنما يتميز عن سائر الأعضاء بما فيه من الحواس والتخاطيط، فإذا أزيلت ومحيت لم يبق فرق بينها وبين القفا. وإما للتعقيب على أن العقوبة شيئان: إحداهما عقيب الأخرى الطمس، ثم نكس الوجه إلى خلف والأقفاء إلى قدام. وإنما يكون هذا عقوبة لما فيه من تشويه الخلقة والمثلة والفضيحة كما قال في حق أهل النار وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ [الانشقاق: ١٠] على أن وجوههم مردودة إلى أقفائهم فتدرك الكتابة وتقرأ من هناك. وأما المعنى على القول
ثم بين أن مثل هذا التهديد من خواص الشرك والكفر فقال: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ الآية.
وفي الآية دلالة على أن اليهودي يسمى مشركا في عرف الشرع لاتصالها بقصتهم، ولأنها دلت على أن ما سوى الشرك مغفور واليهودية غير مغفورة بالإجماع. ومن هنا قال الشافعي: المسلم لا يقتل بالذمي لأن الذمي مشرك، والمشرك المباح الدم هو الذي لا يجب القصاص على قاتله، ولا يتوجه النهي عن قتله ترك العمل بهذا الدليل في النهي فيبقى
عن ابن عباس في رواية الكلبي أن قوما من اليهود أتوا بأطفالهم إلى النبي ﷺ فقالوا: يا محمد هل على هؤلاء ذنب؟
فقال: لا. فقالوا: والله ما نحن إلّا كهيئتهم. ما عملنا بالليل يكفر عنا بالنهار، وما عملنا بالنهار يكفر عنا بالليل. وكانوا يقولون: نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ [المائدة: ١٨] لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى [البقرة: ١١١] فنزل فيهم أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ
ويدخل فيه كل من زكى نفسه ووصفها بزكاء العمل أو قبول الطاعة والزلفى عند الله بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وإن تزكيته هي التي يعتد بها كما
أخبر عنه رسول الله ﷺ بقوله: «والله إني لأمين في السماء أمين في الأرض»
وكفى بإظهار المعجزات على يده تزكية له وتصديقا لقوله: وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا هو ما فتلت بين أصبعيك من الوسخ «فعيل» بمعنى «مفعول». ابن السكيت: هو ما كان في شق النواة. والضمير للذين يزكون أي يعاقبون على تزكيتهم أنفسهم حق جزائهم، أو لمن يشاء أي يثابون على زكاتهم من غير نقص شيء من ثوابهم. ثم عجب النبي ﷺ من فريتهم وادعاء زكاتهم ومكانتهم عند الله فقال: انْظُرْ كَيْفَ
أي بزعمهم هذا إِثْماً مُبِيناً من بين سائر آثامهم.
قال المفسرون: خرج كعب بن الأشرف وحيي بن الأخطب في سبعين راكبا من اليهود إلى مكة بعد وقعة أحد ليحالفوا قريشا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونقضوا العهد الذي كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم. فنزل كعب على أبي سفيان والآخرون في دور قريش. فقال لهم أهل مكة:
إنكم أهل كتاب ومحمد ﷺ صاحب كتاب، ولا نأمن أن يكون هذا مكرا منكم. فإن أردتم أن نخرج معكم فاسجدوا لهذين الصنمين وآمنوا بهما فذلك قوله: يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ ثم قال كعب لأهل مكة: ليجيء منكم ثلاثون ومنا ثلاثون فنلزق أكبادنا بالكعبة فنعاهد رب البيت لنجهدن على قتال محمد ﷺ ففعلوا ذلك، فلما فرغوا قال أبو سفيان لكعب: إنك امرؤ تقرأ الكتاب وتعلم ونحن أميون لا نعلم، فأينا أهدى طريقا وأقرب إلى الحق، أنحن أم محمد صلى الله عليه وسلم؟ فقال كعب: اعرضوا علي دينكم. فقال أبو سفيان: نحن ننحر للحجيج الكوماء ونسقهم الماء ونقري الضعيف ونفك العاني ونصل الرحم ونعمر بيت ربنا ونطوف به ونحن أهل الحرم، ومحمد فارق دين آبائه وقطع الرحم وفارق الحرم، وديننا القديم ودين محمد ﷺ الحديث. فقال كعب: أنتم والله أهدى سبيلا مما هو عليه فأنزل الله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يعني كعبا وأصحابه. فلما رجعا إلى قومهما قال لهما قومهما: إن محمدا يزعم أنه قد نزل فيكما كذا وكذا. قالا: صدق والله ما حملنا على ذلك إلا بغضه وحسده.
وقد مر معنى الطاغوت في تفسير آية الكرسي. وأما الجبت ففي الصحاح أنه كلمة تقع على الصنم والكاهن والساحر ونحو ذلك وليس من محض العربية لاجتماع الجيم والتاء في كلمة واحدة من غير حرف ذو لقي. وحكى القفال عن بعضهم أن أصله جبس فأبدلت السين تاء والجبس هو الخبيث الرديء. وقال الكلبي:
الجبت في الآية هو حيي بن أخطب، والطاغوت كعب بن الأشرف. وكانت اليهود يرجعون إليهما فسميا بهذين الاسمين لسعيهما في إغواء الناس وإضلالهم فلا جرم جزاهم الله بقوله:
أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وبالحري إذ جعلوا من هو أضل من النعام وأقل من الأنعام حيث رضوا بمعبودية الأصنام أهدى سبيلا وأفضل حالا من الذين هم أشرف الأنام باختيارهم دين الإسلام الذي هو عبادة ذي الجلال والإكرام. وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً وعيد لهم بلزوم الإبعاد والطرد ولصوق العار والصغار، ووعد لنبيه والمؤمنين بالاستيلاء والاستعلاء عليهم إلى يوم القيامة. والخطاب في فَلَنْ تَجِدَ للنبي أو لكل طالب يفرض: ثم لما وصفهم بالضلال والإضلال وصفهم بالبخل والحسد اللذين هما شر الخصال، لأن البخيل يمنع ما أوتي من النعمة، والحاسد يتمنى أن يزول عن الغير ما أوتي من الفضيلة. و «أم»
كيف استكثرتم له التسع وكان لداود مائة ولسليمان ثلاثمائة مهيرة وسبعمائة سرية؟
فَمِنْهُمْ أي من اليهود مَنْ آمَنَ بِهِ أي بما ذكر من حديث آل إبراهيم وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وأنكره مع علمه بصحته، أو من اليهود من آمن برسول الله ﷺ ومنهم من أنكر نبوته، أو من آل إبراهيم من آمن بإبراهيم ومنهم من كفر. والمعنى أن أولئك الأنبياء جرت عادة أممهم فيهم أن بعضهم آمن بهم وبعضهم بقوا على كفرهم، فأنت يا محمد لا تتعجب مما عليه هؤلاء والغرض تثبيت النبي ﷺ وتسليته وَكَفى بِجَهَنَّمَ لعذاب هؤلاء الكفار المتقدمين والمتأخرين سَعِيراً.
ثم أكد وعيد الكفار بقوله: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا ويدخل فيها كل ما يدل على ذات الله تعالى وصفاته وأفعاله وأسمائه وملائكته والكتب والرسل. وكفرهم بها أن ينكروا كونها آيات أو يغفلوا عنها ولا ينظروا فيها، أو يلقوا الشكوك والشبهات فيها، أو ينكروها مع العلم بها عنادا وحسدا وبغيا ولددا. وهاهنا سؤال وهو أنه تعالى قادر على إبقائهم في النار أحياء معذبين من غير أن تحترق جلودهم، فما الحكمة في إنضاج جلودهم؟ والجواب لا يسأل عما يفعل كما أنه قادر على إيصال الآلام إليهم من غير إدخالهم النار مع أنه لا يمكن أن يقال لم عذبهم بإدخالهم النار. وسؤال آخر وهو أنه كيف يعذب مكان الجلود العاصية جلودا لم تعص؟ والجواب يجعل النضيج غير نضيج، فالذات واحدة والمتبدل هو الصفة ويؤيده قول أهل اللغة: تبديل الشيء تغييره وإن لم يأت ببدله، وأبدلت الشيء غيرته، فالتبديل تغيير الصفة أو الذات. والإبدال تغيير الذات. وصاحب الكشاف جزم بأن المراد من هذا التبديل هو تغيير الذات فلهذا فسر التبديل بالإبدال، ولعله إنما حمله على ذلك وصف الجلود بقوله: غَيْرَها ولقائل أن يقول: المغايرة أعم من أن تكون في الذات أو في الصفات، فما أدراك أنها في الآية مغايرة الذات لا الصفات اللهم إلا أن يعضده نقل صحيح فيكون الجواب عن السؤال أن المعذب هو الإنسان، والجلد ليس حزءا من ماهيته
وقيل: المراد بالجلود السرابيل سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ [إبراهيم: ٥٠] وضعف بأنه ترك للظاهر وأن السرابيل لا توصف بالنضج لِيَذُوقُوا الْعَذابَ ليدوم لهم ذوقه ولا ينقطع كقولك للعزيز: أعزك الله أي أدامك على عزك وزادك فيه، أو ليذوقوا بهذه الحالة الجديدة العذاب. والمراد بالذوق أن إحساسهم بذلك العذاب في كل حال يكون كإحساس الذائق بالمذوق إِنَّ اللَّهَ كانَ عَزِيزاً لا يمتنع عليه شيء مما يريده بالمجرمين حَكِيماً لا يفعل إلّا الصواب ثم قرن الوعد بالوعيد على عادته فقال: وَالَّذِينَ آمَنُوا الآية. قال الواحدي:
الظليل ليس بمبني على الفعيل حتى يقال إنه بمعنى فاعل أو مفعول، بل هو مبالغة في نعت الظل مشتق من لفظه كقولهم: «ليل أليل». قيل: إذا لم يكن في الجنة شمس تؤذي بحرها فما فائدة وصفها بالظل؟ وأيضا المواضع التي لا يصل نور الشمس إليها في الدنيا يكون هواؤها عفنا فاسدا فما معنى وصف هواء الجنة بذلك؟ والجواب المنع من أنه لا شمس هنالك حتى يوجد ضوء ثان هو الظل، والمراد بالظل الظليل ما كان فينانا، أي منبسطا لا جوب فيه أي لا فرج لالتفاف الأغصان، ودائما لا تنسخه الشمس، وسجساجا لا حر فيه ولا برد. وعند الحكماء: المراد بالظل الراحة لأنه من أسبابها ولا سيما في البلاد الحارة كبلاد العرب. فلما كان هذا مطلوبا عندهم صار موعودا لهم.
التأويل:
لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ أي يتمنون أن يخلوا في عالم الطبيعة ولم ينكشف لهم عالم الحقيقة كيلا يروا ما يرون من عذاب القطيعة، كما أن السكران ممنوع من الصلاة.
فسكران الغفلة والهوى محجوب عن المواصلات لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى من غلبات الأحوال فإن التكاليف حينئذ زائلة وَلا جُنُباً بالالتفات إلى غير الله فإن الصلاة إذ ذاك باطلة. وتستثنى من الحالة الأولى حالة الشعور، ومن الثانية حالة العبور
«كن في الدنيا كأنك غريب أو كعابر سبيل» «١»
فهذا القدر من الالتفات من المحظورات التي أباحها الضرورات. وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى بحب الدنيا أَوْ عَلى سَفَرٍ في متابعة الهوى
[سورة النساء (٤) : الآيات ٥٨ الى ٧٠]
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً (٥٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (٥٩) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً (٦٠) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً (٦١) فَكَيْفَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جاؤُكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ إِحْساناً وَتَوْفِيقاً (٦٢)
أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً (٦٣) وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً (٦٤) فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً (٦٥) وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ ما فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً (٦٦) وَإِذاً لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً (٦٧)
وَلَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً (٦٨) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً (٦٩) ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ عَلِيماً (٧٠)
أَنِ اقْتُلُوا بكسر النون لالتقاء الساكنين: أبو عمرو وعاصم وحمزة وسهل ويعقوب. الباقون: بالضم نقلا لحركة همزة الوصل إلى ما قبلها أَوِ اخْرُجُوا بكسر الواو للساكنين: عاصم وسهل وحمزة. الباقون: بالضم. إلا قليلا بالنصب: ابن عامر على أصل الاستثناء أو بمعنى إلّا فعلا أو أبوا إلّا قليلا. الباقون: بالرفع على البدل وهو أكثر.
الوقوف:
إِلى أَهْلِها لا لأن التقدير يأمركم أن تؤدوا وأن تحكموا بالعدل إذا حكمتم بين الناس. بِالْعَدْلِ ط يَعِظُكُمْ بِهِ ط بَصِيراً هـ مِنْكُمْ ج لابتداء الشرط مع فاء التعقيب وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ط تَأْوِيلًا هـ أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ ج بَعِيداً هـ صُدُوداً هـ ج للآية مع فاء التعقيب يَحْلِفُونَ قد قيل على أن ما بعده ابتداء القسم والأولى تعليق الباء بيحلفون. وَتَوْفِيقاً هـ بَلِيغاً هـ بِإِذْنِ اللَّهِ ط رَحِيماً هـ تَسْلِيماً هـ قَلِيلٌ مِنْهُمْ ط تَثْبِيتاً هـ لا عَظِيماً هـ لا لأن ما بعده من تتمة جواب «لو». مُسْتَقِيماً هـ وَالصَّالِحِينَ ج لانقطاع النظم مع اتفاق المعنى. رَفِيقاً هـ مِنَ اللَّهِ ط عَلِيماً هـ.
التفسير:
لما شرح بعض أحوال الكفار عاد إلى ذكر التكاليف. وأيضا لما حكى عن أهل الكتاب أنهم كتموا الحق وقالوا للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا، أمر المؤمنين في هذه الآية بأداء الأمانات في جميع الأمور، سواء كانت من باب المذاهب والديانات أو من باب الدنيا والمعاملات. وأيضا قد وعد في الآية السابقة الثواب العظيم على الأعمال الصالحات وكان من أجلها الأمانة فقال: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها
روي أن عثمان بن طلحة الحجبي من بني عبد الدار كان سادن الكعبة، فلما دخل النبي ﷺ مكة يوم الفتح أغلق عثمان باب البيت وصعد السطح، فطلب رسول الله ﷺ المفتاح فقيل له: إنه مع عثمان. فطلب منه فأبى فقال: لو علمت أنه رسول الله ﷺ لم أمنعه. فلوى علي بن أبي طالب رضي الله عنه يده وأخذ منه المفتاح وفتح الباب، فدخل رسول الله ﷺ البيت وصلى ركعتين. فلما خرج سأله العباس أن يعطيه المفتاح ويجمع له مع السقاية السدانة، فأراد النبي ﷺ أن يدفعه إلى العباس ثم قال: يا عثمان خذ المفتاح على أن للعباس معك نصيبا فأنزل الله هذه الآية. فأمر رسول الله ﷺ عليا رضي الله عنه أن يرد المفتاح إلى عثمان ويعتذر إليه، ففعل ذلك علي رضي الله عنه فقال له عثمان: يا علي أكرهت وآذيت ثم جئت ترفق فقال: لقد أنزل الله في شأنك فقرأ عليه هذه الآية. فقال عثمان: أشهد
ثم نزول الآية عند هذه القصة لا يوجب خصوصها بها ولكنها تعم جميع أنواع الأمانات. فأولها الأمانة مع الرب تعالى في كل ما أمر به ونهى عنه. قال ابن مسعود: الأمانة في الكل لازمة، في الوضوء والجنابة والصلاة والزكاة والصوم. وعن ابن عمر أنه تعالى خلق فرج الإنسان وقال هذا أمانة خبأتها عندك فاحفظها إلّا بحقها وهذا باب واسع. فأمانة اللسان أن لا يستعمله في الكذب والغيبة والنميمة والكفر والبدعة والفحش وغيرها، وأمانة العين أن لا يستعمله في النظر إلى الحرام، وأمانة السمع أن لا يستعمله في سماع الملاهي والمناهي والفحش والأكاذيب، وكذا القول في سائر الأعضاء. ثم الأمانة مع سائر الخلق ويدخل فيه رد الودائع وترك التطفيف ونشر عيوب الناس وإفشاء أسرارهم، ويدخل فيه عدل الأمراء مع الرعية والعلماء مع العوام بأن يرشدوهم إلى ما ينفعهم في دنياهم ودينهم ويمنعوهم عن العقائد الباطلة والأخلاق غير الفاضلة، وتشمل أمانة الزوجة للزوج في ماله وفي بضعها، وأمانة الزوج للزوجة في إيفاء حقوقها وحظوظها، وأمانة السيد للمملوك وبالعكس، وأمانة الجار للجار والصاحب للصاحب، ويدخل فيه نهي اليهود عن كتمان أمر محمد والأمانة مع نفسه بأن لا يختار لها إلا ما هو أنفع وأصلح في الدين وفي الدنيا، وأن لا يوقعها بسبب اللذات الفانية، في التبعات الدائمة. وقد عظم الله تعالى أمر الأمانة في مواضع من كتابه إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ [الأحزاب: ٧٢] وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ [المؤمنون: ٨]
وقال صلى الله عليه وسلم: «ألا لا إيمان لمن لا أمانة له»
والأمانة مصدر سمي به المفعول ولذلك جمع. ثم لما أمر بأداء ما وجب لغيرك عليك أمر باستيفاء حقوق الناس بعضهم من بعض إذا كنت بصدد الحكم فقال: وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ وفي قوله:
وَإِذا حَكَمْتُمْ تصريح بأنه ليس لجميع الناس أن يشرعوا في الحكم والقضاء. وقد عدّ العلماء من شروط النيابة العامة: الإسلام والعقل والبلوغ والذكورة والحرية والعدالة والكفاية وأهلية الاجتهاد بأن يعرف ما يتعلق بالأحكام من كتاب الله وسنة رسوله. ويعرف منهما العام والخاص والمطلق والمقيد والمجمل والمبين والناسخ والمنسوخ، ومن السنة المتواتر والآحاد والمسند والمرسل وحال الرواة، ويعرف أقاويل الصحابة ومن بعدهم إجماعا وخلافا، وجلي القياس وخفيه وصحيحه وفاسده، ويعرف لسان العرب لغة وإعرابا خصوصا وعموما إلى غير ذلك مما له مدخل في استنباط الأحكام الشرعية من مداركها ومظانها. وكفى بما في هذا المنصب من الخطر أنه منصب رسول الله ﷺ والخلفاء الراشدين
عن النبي ﷺ قال: «يجاء بالقاضي العادل يوم القيامة فيلقى من شدة الحساب ما يتمنى أنه لم يقض بين اثنين قط»
وإذا كان حال العادل هكذا فما ظنك بالجائر؟ وعنه «ينادي مناد يوم القيامة أين الظلمة وأين أعوان الظلمة؟ فيجتمعون كلهم حتى من برى لهم قلما أو لاق لهم دواة، فيجمعون ويلقون في النار». إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ المخصوص بالمدح محذوف و «ما» موصولة أو مبهمة موصوفة والتقدير: نعم الذي أو نعم شيئا يعظكم به ذلك المأمور من أداء الأمانات والحكم بالعدل إِنَّ اللَّهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً يسمع كيف تحكمون ويبصر كيف تؤدون، وفيه أعظم أسباب الوعد للمطيع وأشد أصناف الوعيد للعاصي.
ثم إنه سبحانه أمر الرعاة بطاعة الولاة كما أمر الولاة في الآية المتقدمة بالشفقة على الرعاة فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ الآية.
عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: حق على الإمام أن يحكم بما أنزل الله ويؤدي الأمانة، فإذا فعل ذلك فحق على الرعية أن يسمعوا ويطيعوا.
قالت المعتزلة: الطاعة موافقة الإرادة. وقالت الأشاعرة: الطاعة موافقة الأمر. ولا نزاع أن موافقة الأمر طاعة إنما النزاع في أن المأمور به كإيمان أبي لهب هل يكون مرادا أم لا. فعند الأشاعرة الأمر قد يوجد بدون الإرادة لئلا يلزم الجمع بين الضدين في تكليف أبي لهب مثلا بالإيمان. وعند المعتزلة لا يأمر إلا بما يريد والخلاف بين الفريقين مشهور. قال في التفسير الكبير: هذه آية مشتملة على أكثر علم أصول الفقه لأن أصول الشريعة أربعة: الكتاب والسنة وأشار إليهما بقوله: أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وليس العطف للمغايرة الكلية، ولكن الكتاب يدل على أمر الله، ثم يعلم منه أمر الرسول لا محالة. والسنة تدل على أمر الرسول ثم يعلم منه أمر الله. والإجماع والقياس. وأشير إلى الإجماع بقوله: وَأُولِي الْأَمْرِ لأنه تعالى أمر بطاعتهم على سبيل الجزم. ووجب أن يكون معصوما لأن لو احتمل إقدامه على الخطا والخطأ منهي عنه لزم اعتبار اجتماع الأمر والنهي في الفعل الواحد وإنه محال. ثم ذلك المعصوم إما مجموع الأمة أو بعضها على ما يقوله الشيعة من أن المراد بهم الأئمة المعصومون، أو على ما زعم بعضهم أنهم الخلفاء الراشدون، أو على ما
روي عن سعيد بن جبير وابن عباس أنهم أمراء السرايا كعبد الله بن حذافة السهمي أو كخالد بن الوليد إذ بعثه رسول الله ﷺ في سرية وكان معه عمار بن ياسر فوقع بينهما خلاف فنزلت الآية.
أو على ما روي عن ابن عباس والحسن ومجاهد والضحاك أنهم العلماء الذين يفتون بالأحكام الشرعية ويعلمون الناس دينهم لكنه لا سبيل إلى الثاني.
أما ما زعمه الشيعة فلأنا نعلم بالضرورة أنا في زماننا هذا عاجزون عن معرفة الإمام
[البقرة: ٣٤] بقياس هو قوله: خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [ص: ٧٦] فاستحق اللعن إلى يوم الدين. والسر فيه أن تخصيص النص بالقياس يقدم القياس على النص وفيه ما فيه. ثم إن كان الأمر للوجوب فقوله: أَطِيعُوا يدل على وجوب الطاعة وإن كان للندب، فههنا يدل على الوجوب ظاهرا لأنه ختم الأوامر بقوله:
إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وهو وعيد والظاهر أنه قيد في جميع الأوامر لا في قوله: فَرُدُّوهُ وحده. وأيضا مجرد الندبية وهو أولوية الفعل معلوم من تلك الأوامر فلا بد للآية من فائدة خاصة، فيحمل على المنع من الترك ليحصل من المجموع معنى الوجوب.
ثم هذا الوجوب يكون دائما إن كان الأمر للدوام والتكرار وكذا إن لم يكن غيره كذلك لأن الوقت المخصوص والكيفية المخصوصة غير مذكورة. فلو حملناه على العموم كانت الآية مبينة وإلا كانت مجملة، والمبين أولى من المجمل. وأيضا تخصيص اسم الله بالذكر يدل على أن وجوب الطاعة إنما هو لكونه إلها والإلهية دائمة فالوجوب دائم. وإنما كرر لفظ أَطِيعُوا للفصل بين اسم الله تعالى وبين المخلوقين، ونعلم من إطلاق وجوب طاعة أولي الأمر أن الإجماع الحاصل عقيب الخلاف حجة وأنه لا يشترط انقراض العصر. ومن إطلاق قوله: فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ أن القياس يجوز إجراؤه في الحدود والكفارات أيضا.
والمراد بالتنازع قال الزجاج: هو الاختلاف وقول كل فريق القول قولي كأن كل واحد منهما ينزع الحق إلى جانبه ذلِكَ الرد أو المأمور به في الآية خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا أي عاقبة من آل الشيء إذا رجع. وقيل: الرد إلى الكتاب والسنة خير مما تأولون أنتم.
ثم إنه تعالى لما أوجب على المكلفين طاعته وطاعة رسوله، وذكر أن المنافقين الذين في قلوبهم مرض لا يطيعون ولا يرضون بحكمه فقال: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ الآية.
قال الليث: قولهم زعم فلان معناه لا نعرف أنه صدق أو كذب ومنه زعموا مطية الكذب.
وقال ابن الأعرابي: الزعم قد يستعمل في القول المحقق لكن المراد في الآية الكذب بالاتفاق. قال أبو مسلم: ظاهر الآية يدل على أن الزاعم كان منافقا من أهل الكتاب مثل أن يكون يهوديا أظهر الإسلام على سبيل النفاق، لأن قوله تعالى: يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ إنما يليق بمثل هذا المنافق. أما سبب النزول ففيه وجوه.
والذي عليه أكثر المفسرين ما
رواه الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أن رجلا من المنافقين يسمى بشرا خاصم يهوديا فدعاه اليهودي إلى النبي ﷺ وقال المنافق: بيني وبينك كعب بن الأشرف. وذلك أن اليهودي كان محقا وكان النبي ﷺ لا يقضي إلا بالحق لجلالة منصبه عن قبول الرشوة، وكان كعب يبطل الحقوق بالرشا، فما زال اليهودي بالمنافق حتى
وقال السدي: كان ناس من اليهود أسلموا ونافق بعضهم، وكانت قريظة والنضير في الجاهلية إذا قتل قرظي نضيريا قتل به وأخذ ديته مائة وسق من تمر، وإذا كان بالعكس لم يقتل به وأعصى ديته ستين وسقا من تمر. وكانت النضير حلفاء الأوس وكانوا أكثر وأشرف من قريظة وهم حلفاء الخزرج. فقتل نضيري قرظيا واختصموا في ذلك. فقال بنو النضير: لا قصاص علينا إنما علينا ستون وسقا من تمر على ما اصطلحنا عليه. وقالت الخزرج: هذا حكم الجاهلية ونحن وأنتم اليوم إخوة وديننا واحد ولا فضل بيننا. فقال المنافقون: انطلقوا إلى أبي برزة الكاهن الأسلمي. وقال المسلمون: لا بل إلى النبي صلى الله عليه وسلم. فأبى المنافقون فانطلقوا إلى أبي برزه ليحكم بينهم فقال: أعظموا اللقمة- يعني الرشوة- فقالوا: لك عشرة أوسق. فقال: لا بل مائة وسق ديتي فإني أخاف إن نفرت النضيري قتلتني قريظة، وإن نفرت القرظي قتلتني النضير. فأبوا أن يعطوه فوق عشرة أوسق وأبى أن يحكم بينهم فأنزل الله هذه الآية. فدعا النبي ﷺ كاهن أسلم إلى الإسلام فأبى وانصرف فقال النبي ﷺ لابنيه: أدركا أباكما فإنه إن جاز عقبة كذا لم يسلم أبدا فأدركاه فلم يزالا به حتى انصرف وأسلم وأمر النبي ﷺ مناديا فنادى: ألا إن كاهن أسلم قد أسلم.
وعلى هذا القول الطاغوت هو الكاهن.
وقال الحسن: إنّ رجلا من المسلمين كان له على رجل من المنافقين حق، فدعاه المنافق إلى وثن كان أهل الجاهلية يتحاكمون إليه ورجل قائم يترجم الأباطيل عن الوثن، فالطاغوت ذلك الرجل. وقيل: كانوا يتحاكمون إلى الوثن يضربون القداح بحضرته، فما خرج على القداح عملوا به فالطاغوت هو الوثن. ثم إن الطاغوت أي شيء كان من الأشياء المذكورة فإنه تعالى جعل التحاكم إليه مقابلا للكفر به، لكن الكفر به إيمان بالله وبرسوله فيكون نصا في تكفير من لم يرض بقضاء رسول الله ﷺ تشككا أو تمردا ويؤكده قوله بعد ذلك: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ الآية. ومن هنا ذهب كثير من الصحابة إلى الحكم بارتداد مانعي الزكاة وقتلهم وسبى ذراريهم. ثم قال: وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيداً
فَكَيْفَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فيه وجهان: أحدهما- وهو قول الحسن واختاره الواحدي- أنه جملة معترضة وأصل النظم وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً ثُمَّ جاؤُكَ يعني أنهم في أول الأمر يصدون عنك أشد الصدود ثم بعد ذلك يجيؤنك ويحلفون كذبا على أنهم ما أرادوا بذلك الصد إلا الإحسان والتوفيق. ووجه الاعتراض أنه حكى عنهم التحاكم إلى الطاغوت وأنهم يصدون، ثم أتبعها ما يدل على شدة أحوالهم بسبب أعمالهم القبيحة في الدنيا والآخرة. والثاني أنه متصل بما قبله لا على وجه الاعتراض والمعنى أنه إذا كانت نفرتهم من الحضور عند الرسول في أوقات السلامة هكذا فكيف تكون نفرتهم إذا أتوا بجناية خافوا بسببها منك ثم جاؤك كراها يحلفون بالله على سبيل الكذب ما أردنا بتلك الجناية إلا الخير والمصلحة؟ أما المصيبة فقيل: إنها قتل عمر صاحبهم فإنهم جاؤا وطلبوا بدمه وحلفوا أنهم ما أرادوا بالذهاب إلى غير الرسول إلا الصلاح وهو اختيار الزجاج. وقال الجبائي: هي ما أمر الله رسوله بها من أنه لا يستصحبهم في الغزوات ويخصهم بمزيد الإذلال، والمعنى ثم جاؤك في وقت المصيبة يحلفون ويعتذرون ما أردنا بما كان منا من مواساة الكفار إلا إصلاح الحال. وقال أبو مسلم: إنه تعالى بشر رسوله أن المنافقين سيصيبهم مصائب تلجئهم إليه وإلى أن يظهروا الإيمان. ومن عادة العرب عند التبشير والإنذار أن يقولوا: كيف أنت إذا كان كذا. ومعنى الإحسان والتوفيق ما أردنا بالتحاكم إلى غير الرسول إلا إحسانا بين الخصوم وائتلافا بينهم فإنهم لا يقدرون عند الرسول أن يرفعوا أصواتهم ويبينوا حججهم، أو ما أردنا بالتحاكم إلى عمر إلا أن يحسن إلى صاحبنا بالحكم العدل والتوفيق بينه وبين خصمه، وما خطر ببالنا أنه يحكم له بما حكم به، وعلى هذا لا يبقى للحلف مناسبة ظاهرة.
أو ما أردنا بالتحاكم إلى غيرك يا رسول الله إلا أنك لا تحكم إلا بالحق المرّ وغيرك يدور على التوسط ويأمر كل واحد من الخصمين بالإحسان إلى الآخر وتقريب مراده من مراد صاحبه حتى تحصل بينهم الموافقة.
ثم أخبر الله سبحانه بما في ضمائرهم من الدغل والنفاق فقال: أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ وذلك أن من أراد المبالغة في شيء قال هذا شيء لا يعلمه إلا الله يعني أنه لكثرته وعظم حاله لا يقدر أحد على معرفته إلا هو. ثم علّم نبيه كيف يعاملهم فأمره بثلاثة
وقيل: المفعول محذوف والتقدير: وما أرسلنا من هذا الجنس أحدا. قال الجبائي: هذه الآية من أقوى الدلائل على بطلان مذهب المجبرة لكونها صريحة في أن معصية الناس غير مرادة الله تعالى. والجواب أن إرسال الرسل لأجل الطاعة لا ينافي كون المعصية مرادة لله تعالى، على أن قوله: بِإِذْنِ اللَّهِ أي بتيسيره وتوفيقه وإعانته يدل على أن الكل بقضائه وقدره، وكذا لو كان المراد بسبب إذن الله في طاعة الرسول. قيل: في الآية دلالة على أنه لا رسول إلا ومعه شريعة فإنه لو دعا إلى شرع من قبله لكان المطاع هو ذلك المتقدم، وفيها دلالة على أن الرسل معصومون عن المعاصي وإلا لم يجب اتباعهم في جميع أقوالهم وأفعالهم. وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بالتحاكم إلى الطاغوت جاؤُكَ تائبين عن النفاق متنصلين عما ارتكبوا فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ من رد قضاء رسوله وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ انتصب شفيعا لهم إلى الله بعد اعتذارهم إليه من إيذائه برد قضائه لَوَجَدُوا اللَّهَ لعلموه تَوَّاباً رَحِيماً ولم يقل: «واستغفرت لهم» لما في الالتفات عن الخطاب إلى ذكر الرسول تنبيه على أن شفاعة من اسمه الرسول من الله بمكان، فالآية على هذا التفسير من تمام ما قبلها.
وقال أبوبكر الأصم: نزلت في قوم من المنافقين اصطلحوا على كيد في حق رسول الله ﷺ فدخلوا عليه لذلك الغرض فأتاه جبريل فأخبره به فقال صلى الله عليه وسلم: إن قوما دخلوا يريدون أمرا لا ينالونه فليقوموا فليستغفروا الله حتى أستغفر لهم فلم يقوموا. فقال: ألا يقومون فلم يفعلوا فقال صلى الله عليه وسلم: قم يا فلان حتى عدّ اثني عشر رجلا منهم فقاموا وقالوا: كنا عزمنا على ما قلت
فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ عن عطاء ومجاهد والشعبي أنها من تمام قصة اليهودي والمنافق.
وعن الزهري عن عروة بن الزبير أنها نزلت في شأن الزبير وحاطب بن أبي بلتعة وذلك أنهما اختصما إلى رسول الله ﷺ في شراج من الحرة، والشرج مسيل الماء كانا يسقيان بها النخل فقال: اسق يا زبير ثم أرسل الماء إلى جارك. فغضب حاطب وقال: إن كان ابن عمتك؟ وذلك أن أم الزبير صفية بنت عبد المطلب. فتغير وجه رسول الله ﷺ ثم قال: اسق يا زبير ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر يعني الجدار الذي يحيط بالمزرعة وهو أصغر من الجدار واستوف حقك ثم أرسله إلى جارك.
واعلم أن الحكم في هذا أن من كانت أرضه أقرب إلى فم الوادي فهو أولى بأول الماء وحقه تمام السقي. والرسول ﷺ أذن للزبير في السقي على وجه المسامحة، فلما أساء خصمه الأدب ولم يعرف حق ما أمره به الرسول ﷺ من المسامحة لأجله أمره باستيفاء حقه وحمل خصمه على مر الحق. وفي قوله: فَلا وَرَبِّكَ قولان: أحدهما أن «لا» صلة لتأكيد معنى القسم والتقدير فو ربك. والثاني أنها مفيدة وعلى هذا ففيه وجهان: الأول أنه يفيد نفي أمر سبق والتقدير ليس الأمر كما يزعمون أنهم آمنوا وهم يخالفون حكمك ثم استأنف القسم بقوله: وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ. الثاني أنها لتوكيد النفي الذي جاء في الجواب، وهذا الوجه لا يتمشى فيما إذا كان الجواب مثبتا. ومعنى شجر اختلف واختلط ومنه الشجر لتداخل أغصانه، والتشاجر التنازع لاختلاط كلام بعضهم ببعض، والحرج الضيق أو الشك لأن الشاك في ضيق من أمره حتى يلوح له اليقين وَيُسَلِّمُوا وينقادوا. يقال: سلم لأمر الله أي سلم نفسه له وجعلها خالصة لحكمه ومن التعليمية من تمسك بالآية في أنه لا يحصل الإيمان إلا بإرشاد النبي ﷺ وهدايته والنزول على حكمه وقضائه في كل أمر ديني، ومنع بأن معرفة النبوة موقوفة على معرفة الإله فلو توقفت معرفة الإله على معرفة النبوة لزم الدور فإذن الحكم غير كلي والتقليد في جميع الأحكام غير مرضي. واعلم أن الرضا بتحكيم الرسول ﷺ قد يكون رضا في الظاهر دون القلب فلهذا قال: ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وهو الجزم بأن ما حكم به الرسول ﷺ هو الحق والصدق، ثم من عرف بقلبه كون ذلك الحكم حقا وصدقا فقد يتمرد عن قبوله على سبيل العناد أو يتوقف في ذلك القبول فعدم الحرج إشارة إلى الانقياد في الباطن والتسليم إشارة إلى الانقياد في الظاهر. وفي الآية دليل على عصمة الأنبياء عن الخطأ في الفتاوي والأحكام، وعلى أنه لا يجوز تخصيص النص بالقياس وإلّا كان في النفس حرج. قالت المعتزلة: لو كانت المعاصي بقضاء الله تعالى لزم التناقض لأن الرضا بقضائه واجب فالرضا بالمعاصي واجب،
قوله: وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ
روي أن حاطبا لما أحفظ رسول الله ﷺ فاستوعب للزبير حقه في صريح الحكم خرجا فمرا على المقداد فقال: لمن كان القضاء؟ فقال حاطب: قضى لابن عمته ولوى شدقه ففطن يهودي كان مع المقداد فقال: قاتل الله هؤلاء يشهدون أنه رسول الله ﷺ ثم يتهمونه في قضاء يقضي بينهم،
وأيم الله لقد أذنبنا ذنبا مرة في حياة موسى فدعانا إلى التوبة منه وقال: اقتلوا أنفسكم ففعلنا فبلغ قتلانا سبعين ألفا في طاعة ربنا حتى رضي عنا. فقال ثابت بن قيس بن شماس: أما والله إن الله ليعلم مني الصدق لو أمرني محمد أن أقتل نفسي لقتلتها، وكذا قال ابن مسعود وعمار بن ياسر.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده إن من أمتي رجالا الإيمان أثبت في قلوبهم من الجبال الرواسي.
وروي عن عمر بن الخطاب أنه قال: والله لو أمرنا ربنا لفعلنا والحمد الله الذي لم يفعل بنا ذلك ونزلت الآية. فالضمير في قوله: عَلَيْهِمْ يعود إلى الناس والمراد بالقليل المؤمنون منهم.
عن ابن عباس ومجاهد أنه يعود إلى المنافقين والمراد أنا لو كتبنا القتل والخروج عن الوطن على هؤلاء المنافقين ما فعله إلّا قليل منهم رياء وسمعة وحينئذ يصعب الأمر عليهم وينكشف كفرهم، فإن لم نفعل بهم ذلك بل كلفناهم بالأشياء السهلة فليتركوا النفاق وليلزموا الإخلاص وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ من الانقياد والطاعة لله ولرسوله.
وسمى التكليف وعظا لاقترانه بالوعد والوعيد والترغيب والترهيب لَكانَ خَيْراً لَهُمْ أي أنفع وأفضل من غيره أو خير الدنيا والآخرة لأن خَيْراً يستعمل بالوجهين جميعا. وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً أقرب إلى ثباتهم على الإيمان والطاعة لأن الطاعة تدعو إلى أمثالها وتجر إلى المواظبة عليها، ولأنه حق والحق ثابت والباطل زائل. وأيضا الإنسان يطلب الخير أولا فإذا حصل يطلب ثباته ودوامه. ثم بين أن ما يوعظون به كما هو خير في نفسه فهو أيضا مستعقب للخير فقال: وَإِذاً لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً وثوابا جزيلا. «وإذا» جواب لسؤال مقدر كأنه قيل: ما يكون لهم بعد الخير والتثبيت؟ فقيل: هو أن نؤتيهم من لدنا أجرا عظيما. وفي إيراد صيغة التعظيم في لَآتَيْناهُمْ ولَدُنَّا وفي قوله: مِنْ لَدُنَّا وفي وصف الأجر بالعظم وفي تنكير الأجر من المبالغة ما لا يخفى. والصراط المستقيم الدين الحق أو الطريق من عرصة القيامة إلى الجنة وهذا أولى لأنه مذكور بعد استحقاق الأجر. ثم أكد أمر
قال الكلبي: نزلت في ثوبان مولى رسول الله ﷺ وكان شديد الحب له قليل الصبر عنه فأتاه ذات يوم وقد تغير لونه ونحل جسمه يعرف في وجهه الحزن. فقال له: يا ثوبان ما غيّر لونك؟ فقال: يا رسول الله ما بي مرض ولا وجع غير أني إذا لم أرك اشتقت إليك واستوحشت وحشة شديدة حتى ألقاك، ثم ذكرت الآخرة فأخاف أن لا أراك هناك لأني أعرف أنك ترفع مع النبيين وأني إن أدخلت الجنة كنت في منزلة أدنى من منزلتك، وإن لم أدخل الجنة فذاك حريّ أن لا أراك أبدا.
وقال مقاتل: نزلت في رجل من الأنصار قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إذا خرجنا من عندك إلى أهالينا اشتقنا إليك فما ينفعنا شيء حتى نرجع إليك، ثم ذكرت درجتك في الجنة فكيف لنا برؤيتك إن دخلنا الجنة فأنزل الله هذه الآية. فلما توفي النبي ﷺ أتى الأنصاري ولده وهو في حديقة له فأخبره بموت النبي ﷺ فقال: اللهم أعمني حتى لا أرى شيئا بعده فعمي مكانه.
وقال السدي: إن ناسا من الأنصار قالوا: يا رسول الله إنك تسكن الجنة في أعلاها ونحن نشتاق إليك فكيف نصنع فنزلت.
وليس المراد من كون المطيعين مع المذكورين في الآية أن كلهم في درجة واحدة فإن ذلك يقتضي التسوية بين الفاضل والمفضول وإنه محال، ولكن المراد كونهم في الجنة بحيث يتمكن كل واحد منهم من رؤية الآخر وإن بعد المكان لأن الحجاب إذا زال شاهد بعضهم بعضا، أو إذا أرادوا الزيارة والتلاقي قدروا على ذلك. والتحقيق فيه أن عالم الأنوار لا تمانع فيها ولا تدافع بل ينعكس بعضها على بعض ويتقوى بعضها ببعض كالمرايا المجلوة المتقابلة. إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ [الحجر: ٤٧]. ثم إنه تعالى ذكر أصنافا أربعة: النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ولا شك في تغايرها متداخلة كانت أو متباينة.
والمراد بالتداخل أن لا يمتنع كون كل متقدم موصوفا بما يتلوه كأن يكون النبي ﷺ صديقا وشهيدا وصالحا، أو الصديق شهيدا وصالحا، وقد مر تفسير النبي ﷺ في أوائل البقرة. وأما الصديق فمبالغة الصادق وهو من غلب على أقواله الصدق وإنه لخصلة مرضية في جميع الأديان ومحققة للنطق الذي هو من مقومات الإنسان، وكفى به منقبة أن الإيمان ليس إلا التصديق، وكفى بنقيضه مذمة أن الكفر ليس سوى التكذيب. وذكر المفسرون أكثرهم أن الصديقين في الآية كل من صدق بكل الدين لا يتخالجه فيه شك لقوله تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ [الحديد: ١٩] وقال قوم: هم أفاضل أصحاب النبي ﷺ وخصصه بعضهم بمن سبق إلى تصديق الرسول فصار في ذلك قدوة الناس كأبي بكر وعلي وأمثالهما، ولا واسطة بين الصديق والنبي ولذلك قال في هذه الآية: مِنَ النَّبِيِّينَ
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما تعدون الشهيد فيكم؟ قالوا: يا رسول من قتل في سبيل الله. قال: إن شهداء أمتي إذا لقليل. «من قتل في سبيل الله فهو شهيد، ومن مات في الطاعون فهو شهيد، ومن مات بالبطن فهو شهيد.»
وفي رواية «ومن مات بجمع فهو شهيد» «١».
وقيل: هو الذي يشهد لصحة دين الله تارة بالحجة والبيان وأخرى بالسيف والسنان. وأقول: لا يبعد أيضا أن يدخل كل هذه الأمة في الشهداء لقوله تعالى: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ [البقرة: ١٤٣]. وأما الصالحون فالصالح هو الذي صلح في اعتقاده وفي عمله وهذه مرتبة لا ينبغي أن تنحط عنها مرتبة المؤمن. ثم قال في معرض التعجب وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً كأنه قيل: وما أحسن أولئك. والرفيق كالصديق والخليط في استواء الواحد والجمع فيه وانتصابه على الحال، ويجوز أن يكون مفردا بيّن به الجنس في باب التمييز.
وقيل: معناه حسن كل واحد منهم رفيقا كما قال يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا [الحج: ٥] والرفق في اللغة لين الجانب ولطافة الفعل فسمي الصاحب رفيقا لارتفاقك به وتصحيبه، ومن الرفقة في السفر لارتفاق بعضهم ببعض. وقد يكون الإنسان مع غيره ولا يكون رفيقا له فبيّن الله تعالى أن الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين يكونون كالرفقاء للمطيع من شدة محبتهم له وسرورهم برؤيته. ذلِكَ مبتدأ والْفَضْلُ صفته ومِنَ اللَّهِ خبره، أو ذلِكَ مبتدأ والْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ خبره. قالت المعتزلة: ذلك إشارة إلى الأجر العظيم ومرافقة المنعم عليهم من الأنبياء وهذا شيء تفضل الله به عليهم تبعا لثوابهم الواجب على الله. أو أراد أن فضل المنعم عليهم ومزيتهم من الله لأنهم اكتسبوه بتمكينه وتوفيقه ولولا أنه أعطى العقل والقدرة وأزاح الأحذار والموانع لم يتمكن المكلف من فعل الطاعة فصار ذلك بمنزلة من وهب غيره ثوبا لينتفع به فإذا باعه وانتفع بثمنه جاز أن يوصف ذلك الثمن بأنه فضل من الواهب. وقال أهل السنة: ذلك إشارة إلى جميع ما تقدم ولا يجب على الله شيء البتة بل الثواب كله فضل من الله، وكيف يجب عليه شيء وإنه هو الذي خلق القدرة والداعية؟
وأيضا الوجوب عبارة عن استحقاق الذم عند الترك وأنه ينافي الإلهية. وأيضا كل ما فرض من الطاعات فإنه في مقابلة النعم السالفة التي لا تعدّ ولا تحصى فيمتنع كونها موجبة الثواب في المستقبل. معنى الآية أن ذلك الثواب بكمال درجته كأنه هو الفضل وما عداه غير معتمد
التأويل:
الوجود المجازي أمانة من الله تعالى كما أنّ وجود الظل أمانة من الشمس فلا جرم إذا تجلت شمس الربوبية لظلال وجود النفس والقلب والروح يقول بلسان العزة: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها فتلاشت الظلال واضمحلّت الأغيار وانمحت الآثار وبقي الواحد القهار، وهذا أحد أسرار قوله: وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ [الرعد: ١٥]. وَإِذا حَكَمْتُمْ بعد فناء الوجود المجازي وبقاء الوجود الحقيقي بين الروح والقلب والنفس أن تحكموا بآداب الطريقة فيراقب القلب شواهد اللقاء ويلازم الروح عقبة الفناء والسر وارد سلطان البقاء يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا الخطاب مع القلب والروح والسر فإنهم آمنوا على الحقيقة، وطاعة القلب لله أن يحب الله وحده، وطاعة الروح أن لا يلتفت إلى غيره، وطاعة السر أن لا يرى غيره في الوجود. أما الرسول فهو الرسول الوارد من الحق في الباطن كما
قال ﷺ لوابصة بن معبد: استفت قلبك يا وابصة ولو أفتاك المفتون.
وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ يعني مشايخكم ومن بيده أمر تربيتكم.
فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ يعني منازعة النفس القلب والروح والسر فردوه إلى الكتاب والسنة أو يريد منازعة القلب فيما يحكم به الكتاب والسنّة نزاعا من قصور الفهم والدراية فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ لمراقبة القلوب بشواهد الغيوب وَإِلَى الرَّسُولِ وارد الحق بصدق النية وصفاء الطوية ذلك الإيمان الإيقاني بشهود النور الرباني خير من تعلم الكتاب والسنة بالتقليد دون التحقيق. ثم يخبر عن حال أهل القال المتحاكمين إلى طاغوت الهوى والخبال من أهل البدع والضلال بقوله: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ الآية. أصابتهم مصيبة ملامة من الخلق أو سياسة من السلطان. فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ فيه أن الإيمان الحقيقي ليس بمجرد التصديق والإقرار ولكنه سيضرب على محك الاعتبار وهو تحكيم الشرع لا الطبع والنبوة لا البنوة والمولى لا الهوى ووارد الحق لا موارد الخلق فيما اختلفت آراؤهم وتحيّرت عقولهم ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي مرآة أَنْفُسِهِمْ صورة كراهة من القضاء الأزلي والأحكام الإلهية.
والصديقين الذين لهم قدم صدق عند ربهم، والشهداء أهل الجهاد الأكبر، والصالحين الذين لهم صلوح الولاية وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً في سلوك طريق الحق والله المستعان.
[سورة النساء (٤) : الآيات ٧١ الى ٨١]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُباتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً (٧١) وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً (٧٢) وَلَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً (٧٣) فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (٧٤) وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً (٧٥)
الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً (٧٦) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ لَوْلا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً (٧٧) أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمالِ هؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً (٧٨) ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (٧٩) مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً (٨٠)
وَيَقُولُونَ طاعَةٌ فَإِذا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ ما يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (٨١)
لَيُبَطِّئَنَّ ونحوه مثل فَلَنُنَبِّئَنَّ ولَنُبَوِّئَنَّهُمْ بالياء الخالصة: يزيد والشموني وحمزة في الوقف. كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بالتاء الفوقانية: ابن كثير وحفص والمفضل وسهل ويعقوب. الباقون بياء الغيبة يَغْلِبْ فَسَوْفَ وبابه نحو إِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ [الرعد: ٥] اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ [الإسراء: ٦٣] مدغما: أبوبكر وحمزة غير خلف وعلي وهشام. ولا يظلمون بالياء التحتانية: ابن كثير، وعلي وحمزة وخلف وهشام ويزيد وابن مجاهد عن ابن ذكوان. الباقون بتاء الخطاب بَيَّتَ طائِفَةٌ مدغما: أبوبكر وحمزة.
الوقوف:
جَمِيعاً هـ لَيُبَطِّئَنَّ ج لابتداء الشرط مع فاء التعقيب شَهِيداً هـ عَظِيماً هـ بِالْآخِرَةِ ط عَظِيماً هـ أَهْلُها ج وَلِيًّا كذلك للتفصيل بين الدعوات نَصِيراً هـ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ج للفصل بين القصتين المتضادتين. أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ ج لاحتمال الابتداء وتقدير الفاء واللام. ضَعِيفاً هـ الزَّكاةَ ط لأنّ جواب «فلما» منتظر ولكن التعجب في قوله: أَلَمْ تَرَ واقع على قوله: إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ.
خَشْيَةً ج لانقطاع النظم مع اتفاق المعنى. الْقِتالُ ج لأنّ «لولا» أي «هلا» استفهام
التفسير:
إنه سبحانه عاد بعد الترغيب في طاعة الله وطاعة رسوله إلى ذكر الجهاد لأنه أشق الطاعات ولأنه أعظم الأمور التي بها تناط تقوية الدين فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ والحذر والحذر بمعنى كالأثر والإثر والمثل والمثل. يقال: أخذ حذره إذا تيقظ واحترز عن المخوف كأنه جعل الحذر آلته التي يقي بها نفسه ويعصم بها روحه. والمعنى احذروا واحترزوا من العدو ولا تمكنوه من أنفسكم. وقيل: المراد بالحذر السلاح لأنه مما يتقي به ويحذر. فإن قيل: أي فائدة في هذا الأمر والحذر لا يغني عن القدر والمقدور كائن والهم فضل؟ قلت: هذا من عالم الأسباب والوسائط المرتبطة ولا ريب أن الكل يقع على نحو ما قدّر، فمن امتثل وترتب عليه الأثر كان بقدر، ومن أهمل حتى فاتته السلامة كان أيضا بقدر، وهكذا شأن جميع التكاليف إذا اعتبر. فَانْفِرُوا إلى قتال عدوّكم انهضوا لذلك
قال صلى الله عليه وسلم: «وإذا استنفرتم فانفروا» «١».
ثُباتٍ جماعات متفرقة سرية بعد سرية واحدها ثبة محذوفة اللام وأصلها ثبى فعوضت الهاء عن الياء المحذوفة. والتركيب يدل على الاجتماع ومنه الثبة لوسط الحوض الذي يجتمع عنده الماء وصبيت الشيء جمعته. أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً مجتمعين كركبة واحدة وهذا قريب مما قاله الشاعر: طاروا إليه زرافات ووحدانا. والغرض النهي عن التخاذل وإلقاء النفس إلى التهلكة. وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ اللام الأولى هي الداخلة في خبر «إنّ» والثانية هي الداخلة في جواب القسم، وتقدير الكلام: لمن حلف بالله ليبطئن وهو إما متعد بسبب التشديد فيكون المفعول محذوفا أي ليبطئن غيره وليثبطنه عن الغزو كما هو ديدن المنافق عبد الله بن أبي ثبّط الناس يوم أحد، وإما لازم فقد جاء بطأ بالتشديد بمعنى أبطأكعتم بمعنى أعتم أي ليتثاقلن وليختلفن عن الجهاد، وهذا
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ [التوبة: ٣٨] ثم لما ذم المبطئين رغب في الجهاد بقوله: فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ ومعناه يشترون أو يبيعون. وعلى الأول فهم المنافقون المبطئون وعظوا بأن يغيروا ما بهم من النفاق ويجاهدوا حق الجهاد ولا يختاروا الدنيا على المعاد. وعلى الثاني فهم المؤمنون الذين تركوا الدنيا لأجل الآخرة. والمراد إن أبطأ أهل النفاق وضعفة الإيمان عن القتال فليقاتل التائبون المخلصون. وقيل: يحتمل أن يراد المؤمنون على التقدير الأول أيضا لأن الإنسان إذا أراد أن يبذل هذه الحياة الدنيا في سبيل الله بخلت نفسه فاشتراها من نفسه بسعادة الآخرة ليقدر على بذلها في سبيل الله، أو لعله أريد اشتغل بالقتال واترك ترجيح الفاني على الباقي، أو المراد أنهم كانوا يرجحون الحياة على الموت لاستيفاء السعادات البدنية فقيل لهم: قاتلوا فإنكم تستولون على الأعداء وتفوزون بالأموال. وَمَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ وعد الأجر العظيم على تقديري المغلوبية والغالبية ليعلم أنه لا عمل أشرف من الجهاد، وليكون المجاهد على بصيرة من حاله على أي تقدير كان فيقدم ولا يحجم، ثم زاد في تحريضهم فقال: وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ ومعناه أنه لا عذر لكم في ترك المقاتلة وقد بلغ الحال إلى ما بلغ. وقوله: وَالْمُسْتَضْعَفِينَ إما مجرور أي في سبيل الله وفي خلاص المستضعفين، وإما منصوب على الاختصاص أي وأخص من سبيل الله الذي هو عام في كل خير خلاص المستضعفين وهم الذين أسلموا بمكة وصدهم المشركون والإعسار والضعف
وفائدة إدخال «كان» أن يعلم أنه منذ كان كان موصوفا بالضعف والذلة. ألا ترى أن أهل الخير والدين يبقى ذكرهم الجميل على وجه الدهر وإن كانوا مدة حياتهم في غاية الخمول والفقر، وأما الملوك والجبابرة فإذا ماتوا انقرض أثرهم ولا يبقى في الدنيا رسمهم ولا ظلمهم؟
قوله سبحانه: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ فيه قولان: الأول
أنها نزلت في المؤمنين نفر من أصحاب رسول الله ﷺ منهم عبد الرحمن بن عوف والمقداد بن الأسود وقدامة بن مظعون وسعد بن أبي وقاص كانوا يلقون من المشركين أذى كثيرا ويقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ائذن لنا في قتال هؤلاء. فيقول لهم: كفوا أيديكم عنهم فإني لم أؤمر بقتالهم. فلما هاجر إلى المدينة وأمرهم الله بقتال المشركين كرهه بعضهم وشق عليهم.
الثاني قال ابن عباس في رواية أبي صالح: لما استشهد الله من المسلمين من استشهد يوم أحد قال المنافقون الذين تخلّفوا عن الجهاد: لو كان إخواننا الذين قتلوا عندنا ما ماتوا وما
واحتج أصحاب القول الثاني بأنهم كانوا يخشون الناس كخشية الله أو أشد، وكانوا يعترضون على الله تعالى بقولهم: لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ وكانوا يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة فلهذا قيل لهم قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وكل هذه الأمور من نعوت المنافقين وأجيب بأن حب الحياة والنفرة عن القتل من لوازم الطباع وهو المعنى بالخشية والاعتراض محمول على تمني تخفيف التكليف لا على الإنكار وقوله: قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ إنما ذكر ليهون على قلبهم أمر هذه الحياة. والأقوى حمل الآية على المنافقين لأن ما بعدها وهو قوله: وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ في شأنهم بلا اختلاف. وفي الآية دلالة على أن إيجاب الصلاة والزكاة كان مقدما على الجهاد وهو أيضا ترتيب مطابق لما في المعقول، لأنّ التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله مقدمان على الترهيب والقتل في سبيل الله. وإذا في إِذا فَرِيقٌ للمفاجأة وهو مجرد عن الظرفية والعامل في لما معنى المفاجأة أي فاجأ وقت خشية فريق زمان كتبة القتال عليهم. وقوله: كَخَشْيَةِ اللَّهِ من إضافة المصدر إلى المفعول. ومحل الكاف النصب على الحال لما عطف عليه من قوله: أَوْ أَشَدَّ ثم نصب خَشْيَةً على التمييز فالتقدير: يخشون الناس مشبهين لأهل خشية الله أو أشد خشية من خشية أهل الله. نعم لو قيل: أشد خشية بالإضافة انتصب خشية الله على المصدر ولا يمكن أن يقال أشد خشية بالنصب على إرادة المصدر، اللهم إلّا أن تجعل الخشية خاشية أو ذات خشية مثل جد جده فيكون المعنى: خشية مثل خشية الله أو خشية أشد خشية من خشية الله.
وعلى هذا يجوز أن يكون محل أَشَدَّ مجرورا عطفا على خشية الله أي كخشية الله أو كخشية أشد خشية منها. وكلمة «أو» ليست للشك هاهنا فإن ذلك على علام الغيوب محال ولكنها بمعنى الواو، أو المراد أن كل خوفين فإن أحدهما بالنسبة إلى الآخر إما أن يكون أنقص أو مساويا أو أزيد، فبيّن في الآية أن خوفهم من الناس ليس بأنقص من خوفهم من الله فيبقى إما أن يكون مساويا أو أزيد فهذا لا يوجب كونه تعالى شاكا فيه ولكنه يوجب إبقاء الإبهام في هذين القسمين على المخاطبين. أو هذا نظر قوله وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ [الصافات: ١١٧] يعني أن من يراهم يقول هذا الكلام.
وَقالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ لَوْلا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ [النساء: ٧٧] إن كانت الآية في المؤمنين فهم إنما قالوا ذلك لا اعتراضا على الله ولكن جزعا من الموت وحبا للحياة واستزادة في مدة الكف واستمهالا إلى وقت آخر كقوله: لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلى
[المنافقون: ١٠] وإن كان من كلام المنافقين فلا شك أنهم كانوا منكرين لكتبة القتال عليهم، فهم قالوا ذلك بناء على زعم الرسول ودعواه. ومعنى لَوْلا أَخَّرْتَنا هلا تركتنا حتى نموت بآجالنا، ثم أزال الشبهة وأزاح العلة بقوله: قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لا لكل الناس بل لِمَنِ اتَّقى فإن للكافر والفاسق هنالك نيرانا وأهوالا ومن هنا
قال صلى الله عليه وسلم: «الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر» «١».
وأما ترجيح الآخرة فلأن نعم الدنيا قليلة ونعم الآخرة كثيرة، ونعم الدنيا منقطعة ونعم الآخرة مؤبّدة، ونعم الدنيا مشوبة بالأقذار ونعم الآخرة صافية عن الأكدار، ونعم الدنيا مشكوكة التمتع بها ونعم الآخرة يقينية الانتفاع منها. ثم بكت الفريق الخائنين بأنهم يدركهم الموت أينما كانوا ولو كانوا في حصون مرتفعة. والبروج في كلام العرب القصور والحصون وأصلها من الظهور ومنه تبرجت المرأة إذا أظهرت محاسنها. والغرض أنه لا خلاص لهم من الموت والجهاد موت مستعقب للسعادة الأبدية، وإذا كان لا بد من الموت فوقوعه على هذا الوجه أولى. قال المفسرون: كانت المدينة مملوءة من النعم وقت مقدم الرسول صلى الله عليه وسلم، فلما ظهر عناد اليهود ونفاق المنافقين أمسك الله تعالى عنهم بعض الإمساك كما جرت عادته في جميع الأمم قال:
وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ [الأعراف: ٩٤] فعند هذا قالت اليهود والمنافقون: ما رأينا أعظم شؤما من هذا الرجل نقصت ثمارنا وغلت أسعارنا منذ قدم. فقوله تعالى: وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يعني الخصب والرخص وتتابع الأمطار قالوا هذا من عند الله، وإن تصبهم سيئة يعني الجدب وانقطاع الأمطار قالوا هذا من شؤم محمد وهذا كقوله: فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ [الأعراف: ١٣١]. وقال قوم: الحسنة النصر على الأعداء والغنيمة، والسيئة القتل والهزيمة. وقال أهل التحقيق: خصوص السبب لا يقدح في عموم اللفظ وكل ما ينتفع به فهو حسنة. فإن كان منتفعا به في الدنيا فهو الخصب والغنيمة وأمثالهما، وإن كان منتفعا به في الآخرة فهو الطاعة. فالحسنة تعم الحسنات، والسيئة تعم السيئات فلا جرم أجابهم الله تعالى بقوله: قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وكيف لا وجميع الممكنات من الأفعال والذوات والصفات لا بد من استنادها إلى الواجب بالذات؟ ولهذا تعجب من حالهم وقال: فَمالِ هؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً فنفى عنهم مقاربة الفقه والفهم فضلا عن الفقه والفهم. قالت المعتزلة: بل هذه الآية حجة لنا لأنه لو كان حصول الفهم والمعرفة بتخليق
والجواب بعد تسليم ما ذكروا أنه لا نزاع في حدوث العبارات إنما النزاع في الكلام النفسي.
قوله عز من قائل: ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ قال أبو علي الجبائي: السيئة تارة تقع على البلية والمحنة وتارة تقع على الذنب والمعصية. ثم إنه تعالى أضاف السيئة إلى نفسه في الآية الأولى بقوله: قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وأضافها في هذه الآية إلى العبد بقوله:
وَما أَصابَكَ أي يا إنسان خطابا عاما مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ فلابد من التوفيق وإزالة التناقض، وما ذاك إلّا بأن يجعل هناك بمعنى البلية وهاهنا بمعنى المعصية. قال: وإنما فصل بين الحسنة والسيئة في هذه الآية فأضاف الحسنة التي هي الطاعة إلى نفسه دون السيئة مع أن كليهما من فعل العبد عندنا، لأنّ الحسنة إنما تصل إلى العبد بتسهيل الله وألطافه فصحت إضافتها إليه، وأما السيئة فلا يصح إضافتها إلى الله تعالى لا بأنه فعلها ولا بأنه أرادها ولا بأنه أمر بها ولا بأنه رغب فيها. وقال في الكشاف: ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ أي من نعمة وإحسان فَمِنَ اللَّهِ تفضلا منه وإحسانا وامتنانا وامتحانا وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ أي من بلية ومصيبة فَمِنْ عِنْدِكَ لأنك السبب فيها بما اكتسبت يداك كما
روي عن عائشة «ما من مسلم يصيبه وصب ولا نصب حتى الشوكة يشاكها وحتى انقطاع شسع نعله إلّا بذنب وما يعفو الله أكثر منه» «١».
وقالت الأشاعرة: كل من الحسنة والسيئة بأي معنى فرض فإنها من الله تعالى لوجوب انتهاء جميع الحوادث إليه. لكنه قد يظن بعض الظاهريين أن إضافة السيّئة إلى الله تعالى خروج عن قانون الأدب فبين في الآية أن كل ما يصيب الإنسان من سيّئة حتى الكفر الذي هو أقبح القبائح فإن ذلك بتخليق الله تعالى. والوجه فيه أن يقدر الكلام استفهاما على سبيل الإنكار ليفيد أن شيئا من السيّئات ليست مضافة إلى الإنسان بل كلها بقضائه ومشيئته، ويؤيده ما
يروى أنه قرىء فَمِنْ نَفْسِكَ بصريح الاستفهام.
ومما يدل دلالة ظاهرة على أن المراد من هذه الآيات إسناد جميع الأمور إلى الله تعالى قوله بعد ذلك: وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا أي ليس لك إلّا الرسالة والتبليغ وقد فعلت ذلك وما قصرت وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً على جدّك وعدم تقصيرك في أداء الرسالة وتبليغ الوحي، فأما
والأول باطل لأن المعهود الخارجي حصة معينة من الأفراد فيلزم اختصاص إرساله ببعض الإنس لوقوع بعض الناس في مقابلة كلهم عرفا فيكون مناقضا لما في الآيات الأخر كقوله:
يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً [الأعراف: ١٥٨] ولقوله: «بعثت إلى الخلق كافة» والثاني وهو حمل اللام على تعريف الجنس أيضا باطل لأنه يلزم اختصاص إرساله بالإنس دون الجن، لأنّ ثبوت الحكم لحقيقة الإنس بوساطة التقديم ينفي الحكم عما يقابلها عرفا وهو حقيقة الجن، أو ينفي الحكم عما عداها من الحقائق فيشمل حقيقة الجن ضرورة.
وعلى التقديرين يلزم الخلف لأنه ﷺ مبعوث إلى الثقلين لقوله تعالى: وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ [الأحقاف: ٢٩] الآية. فتعين حمل اللام على الاستغراق ليثبت الحكم لكل فرد من أفراد الإنسان وتحصل موجبة كلية وينفي نقيض هذا الحكم وهو ما كان يزعمه الضالة من سالبة جزئية هي أنه ليس مبعوثا إلى بعض الناس كالعجم وأنه رسول العرب خاصة، وعلى هذا يكون الجن مسكوتا عنهم بالنسبة إلى هذه الآية. فلدلالة دليل آخر على كونه مبعوثا إلى الثقلين لا تكون منافية لدلالة هذه الآية، لأن التقديم قد استوفى حظه من الخاصية من غير تعرض للجن. ثم لما بين أنه لكل فرد من أفراد الناس رسول أوجب طاعته بقوله: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ لأنّ طاعة الرسول لكونه رسولا فيما هو رسول لا تكون إلّا طاعة لله.
قال مقاتل في هذه الآية: إنّ النبي ﷺ كان يقول: «من أحبني فقد أحب الله ومن أطاعني فقد أطاع الله» فقال المنافقون: لقد قارف الرجل الشرك، هو ينهي أن يعبد غير الله ويريد أن نتخذه ربا كما اتخذت النصارى عيسى فأنزل الله هذه الآية.
وهي من أقوى الدلائل على أنه معصوم في جميع الأوامر والنواهي وفي تبليغه وفي أفعاله وإلّا لم تكن طاعته فيما أخطأ طاعة لله. وَمَنْ تَوَلَّى قيل: هو التولي بالقلب أي حكمك يا محمد على الظواهر، وأما البواطن فلا تتعرّض لها. وقيل: هو التولي بالظاهر ومعناه فلا ينبغي أن تغتم بسبب ذلك التولّي. فَما أَرْسَلْناكَ لتحفظ الناس عن المعاصي فإن من أضلّه الله لم يقدر أحد على إرشاده. والمعنى فما أرسلناك لتشتغل بزجرهم عند ذلك التولي كقوله: لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ [البقرة: ٢٥٦] ثم نسخ بآية الجهاد. ثم حكى سيرة المنافقين بقوله:
ووجه ثالث وهو أن هذا النوع من الكلام أجلب للقلوب وأدخل في عدم الإنكار. وَاللَّهُ يَكْتُبُ ما يُبَيِّتُونَ يثبته في صحائف أعمالهم ويجازيهم عليه أو يكتبه في جملة ما يوحى إليك فيطلعك على أسرارهم فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ في شأنهم فإنّ الله ينتقم لك منهم إذا قوي أمر الإسلام وعزت أنصاره. قال بعضهم: الأمر بالإعراض منسوخ بآية الجهاد. والأكثرون على أن الصفح مطلق فلا حاجة إلى التزام النسخ والله تعالى أعلم.
التأويل:
خُذُوا حِذْرَكُمْ وهو ذكر الله فَانْفِرُوا ثُباتٍ جاهدوا بالرياضات من عالم التفرقة وهو عالم الحيوانية أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً من عالم الجمعية وهو عالم الروحانية إلى عالم الوحدة وَإِنَّ مِنْكُمْ أيها الصدّيقون لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ من المدعين المتكاسلين في السير، القانعين بالاسم، النازلين على الرسم مصيبة شدة ومجاهدة فضل من الله مواهب غيبية وعلوم لدنية ومرتبة عند الخواص وقبول عند العوام يشترون الحياة الدنيا يشترون حظوظ النفس بحقوق الرب فيقتل نفسه بسيف الصدق أو يغلب عليها بالظفر فتسلم على مدة. وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ أي الأرواح الضعيفة استضعفتها النفوس باستيلائها عليها وَالنِّساءِ أي القلوب فإنّ القلب للروح كالزوجة للزوج لتصرف الروح في القلب كتصرف الزوج في الزوجة. وَالْوِلْدانِ الصفات الحميدة المتولّدة بين الروح والقلب مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ قرية البدن الظَّالِمِ أَهْلُها وهي النفس الأمارة بالسوء نَصِيراً شيخا مربيا أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ من أهل السلامة كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ من الاعتصام بحبل أهل الملامة وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ فإنكم لستم أهل الغرام فاقنعوا بدار السلام والسلام لأرباب
[سورة النساء (٤) : الآيات ٨٢ الى ٩١]
أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً (٨٢) وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلاَّ قَلِيلاً (٨٣) فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنْكِيلاً (٨٤) مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها وَمَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً (٨٥) وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً (٨٦)
اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً (٨٧) فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (٨٨) وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ حَتَّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (٨٩) إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَما جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً (٩٠) سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّما رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيها فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولئِكُمْ جَعَلْنا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطاناً مُبِيناً (٩١)
وَمَنْ أَصْدَقُ وكل صاد ساكنة بعدها دال بإشمام الصاد الزاي: علي ورويس وحمزة غير العجلي. حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ وبابه مدغما: أبو عمرو وحمزة وعلي وخلف وابن عامر. وقرأ سهل ويعقوب والمفضل حصرة صدورهم بالنصب والتنوين.
الوقوف:
الْقُرْآنَ ط لتناهي الاستفهام إلى الشرط. كَثِيراً هـ أَذاعُوا بِهِ ط مِنْهُمْ ط قَلِيلًا هـ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ج ط لأن قوله: لا تُكَلَّفُ يحتمل الاستئناف والحال أي قاتل غير مكلف. إِلَّا نَفْسَكَ ط لعطف قوله: وَحَرِّضِ على قوله:
فَقاتِلْ. الْمُؤْمِنِينَ ج لأنّ عَسَى مستأنف لفظا ومتصل معنى لأنه لترجية نجح ما أمر به. كَفَرُوا ط تَنْكِيلًا هـ نَصِيبٌ مِنْها ط لابتداء شرط آخر مع واو العطف.
كِفْلٌ مِنْها ط مُقِيتاً هـ رُدُّوها ط حَسِيباً هـ إِلَّا هُوَ ط لا رَيْبَ فِيهِ ط حَدِيثاً هـ بِما كَسَبُوا ط مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ ط لتناهي الاستفهام إلى الشرط. سَبِيلًا هـ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ط وَجَدْتُمُوهُمْ ص نَصِيراً هـ ط أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ ط فَلَقاتَلُوكُمْ ط السَّلَمَ لا لأن ما بعده جواب «فإن». سَبِيلًا هـ قَوْمَهُمْ ط أُرْكِسُوا فِيها ج ثَقِفْتُمُوهُمْ ط مُبِيناً هـ.
التفسير:
لما حكي عن المنافقين ما حكى وكان السبب فيه اعتقادهم أنه ﷺ غير محق في ادعاء الرسالة، أمرهم بالتفكر والتدبر وهو النظر في عواقب الأمور وأدبارها، ومنه قول أكثم: لا تدبروا أعجاز أمور قد ولت صدورها. ويقال في فصيح الكلام: لو استقبلت من أمري ما استدبرت. أي لو عرفت في صدره ما عرفت من عاقبته. وظاهرا الآية يدل على أنه احتج بالقرآن على صحة نبوة محمد ﷺ وإلا انقطع النظم. ودلالة القرآن على صدق النبي من ثلاثة أوجه: الفصاحة والاشتمال على الغيوب والسلامة من الاختلاف وهو المقصود من الآية. واختلف المفسرون في المراد من سلامته من الاختلاف. فقال أبو بكر الأصم: معناه
٣٩] مع قوله: لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ [الحجر: ٩٢] أو كقوله: فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ [الشعراء: ٣٢] مع قوله: كَأَنَّها جَانٌّ [القصص: ٣١] ليس بذاك عند التدبر وملاحظة شروط التناقض من اتحاد الزمان والمكان وغيرهما وقال أبو مسلم: المراد صحة نظمه وكون كله بل كل جزء من أجزائه وأبعاضه بالغا حد الإعجاز. ومن المعلوم أن الإنسان وإن كان في غاية البلاغة ونهاية الفصاحة إذا كتب كتابا طويلا مشتملا على المعاني الكثيرة فلا بد أن يظهر التفاوت في كلامه بحيث يكون بعضه قويا متينا وبعضه سخيفا نازلا، ولما لم يكن القرآن كذلك علمنا أنه معجز من عند الله تعالى. وفي الآية دلالة على وجوب النظر والاستدلال أعني التدبر فيما إليه سبيل. وقال الجبائي: فيها دلالة على أن أفعال العباد غير مخلوقة لله لأن فعل العبد لا ينفك عن التفاوت والاختلاف. والجواب أنه لا يلزم من كون كلامه غير متفاوت ولا مختلف أن لا تكون أفعاله مختلفة بحسب اختلاف المظاهر والقوابل. سلمنا لكن اختلافه وهو كونه غير مطابق للأغراض والمقاصد الإنسانية قد يكون بحسب نظرنا لا بحسب الأمر نفسه. ثم حكى عن المنافقين- وقيل عن ضعفة المسلمين- أنه إذا جاءهم الخبر بأمر من الأمور سواء كان ذلك الأمر من باب الأمن أو من باب الخوف أذاعوا به وأفشوه. يقال: أذاع السر وأذاع به لغتان. ويجوز أن يكون معنى أذاع به فعل به الإذاعة وهو أبلغ. ولا يخفى ما في ذلك الإفشاء من الضرر من جهة أن الإرجاف لا ينفك عن الكذب، ومن جهة أن تلك الزيادات إن كانت في جانب الأمن ولم تقع أورثت شبهة لضعفة المسلمين في صدق الرسول، لأن المنافقين كانوا يروونها عن الرسول، وإن كانت في جانب الخوف حصل اضطراب في الضعفة ووقعوا في الحيرة. وأيضا البحث عن الإرجاف موجب ظهور الأسرار وذلك لا يوافق مصلحة المدينة فربما وصل الخبر إلى الكفار فاستعدوا للقتال أو تحصنوا. وفي معنى الآية أقوال: الأول: ولو ردوا ذلك الخبر إلى رسول الله ﷺ وإلى أولي الأمر- وهم كبار الصحابة البصراء بالأمور أو الذين كانوا يؤمرون منهم- لَعَلِمَهُ لعلم تدبير ما أخبروا به الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ الذين يستخرجون تدبيره بفطنهم وتجاربهم ومعرفتهم بأمور الحرب ومكايدها، وأصل الاستنباط إخراج النبط وهو الماء يخرج من
المضمر. وعن الثاني بأن الأمن أو الخوف عام في كل ما يتعلق بباب التكليف. ولئن سلم أنه مخصوص بأمور الحرب فإذا عرف أحكام الحروب بالقياس الشرعي لزم جواز التمسك به في سائر الوقائع إذ لا قائل بالفرق. ألا ترى أن من قال القياس حجة في باب البيع لا في باب النكاح لم يلتفت إليه؟ وعن الثالث أن شيئا من ذلك لا يسمى استنباطا. وعن الرابع أن العلم قد يراد به الظن الغالب. سلمنا لكن القياس الشرعي عندنا يفيد العلم لأنه مهما غلب على الظن أن حكم الله في الأصل معلل بكذا ثم غلب على الظن أن ذلك المعنى قائم في الفرع، حصل ظن أن حكم الله في الفرع مساو لحكمه في الأصل، وعند هذا الظن نقطع بأنه مكلف بأن يعمل على وفق هذا الظن وهذا معنى قولهم: «الظن واقع في طريق الحكم» والحكم مقطوع به كأنه تعالى قال: مهما
٧٣] والتقدير: لولا حصول النصر والظفر على سبيل التتابع لتركتم الدين إلّا القليل منكم وهم أهل البصائر والعزائم، ومن أفاضل المؤمنين الذين يعلمون أنه ليس من شرط كونه حقا حصول الدولة في الدنيا، فلا تواتر الفتح والظفر يدل على كونه حقا، ولا انقطاع النصر والغلبة يدل على كونه باطلا، بل الأمر في كونه حقا وباطلا مبني على الدليل وهذا أحسن الوجوه. قوله: فَقاتِلْ قيل: إنه جواب لقوله: وَمَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ [النساء: ٧٤] كأنه تعالى قال: إن أردت الفوز فقاتل. وقيل: إنه متصل بمعنى ما ذكر من قصص المنافقين كذا وكذا فلا تعتد بهم ولا تلتفت إليهم بل قاتل فإنك لا تؤاخذ إلّا بفعلك، فإذا أديت فرضك لم تكلف فرض غيرك، ويعلم من قوله: وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ أن الواجب على الرسول إنما هو الجهاد وتحريض الناس على الجهاد أي الحث والإحماء عليه، فإذا أتى بالأمرين فقد خرج عن عهدة التكليف وليس عليه من كون غيره تاركا شيء. واعلم أن الجهاد في حق غير الرسول من فروض الكفايات، فما لم يغلب على الظن أنه مفيد لم يجب
أنه ﷺ قال في بدر الصغرى: «لأخرجن وحدي»
فخرج وتبعه سبعون راكبا، ولو لم يتبعه أحد لخرج وحده، ثم إنه تعالى كف بأس المشركين وألقى الرعب في قلوب أبي سفيان وأصحابه حتى ندموا وترك الحرب في تلك السنة. وفي الآية دليل على أنه ﷺ كان أشجع الخلق لأنه تعالى لم يأمره بالقتال وحده إلّا أنه كذلك. وقيل: اقتدى به أبو بكر حيث حاول الخروج وحده إلى قتال مانعي الزكاة ومن عرف أن الأمر كله بيد الله وأنه لا يحدث شيء إلّا بقضاء الله سهل عليه الفوت وكان بمعزل عن تقية الموت. وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً من قريش وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا تعذيبا لأن عذاب الله دائم وعذاب غيره غير دائم، وعذاب غير الله يخلصه الله عنه وعذاب الله لا يقدر أحد على تخليصه منه، وعذاب غير الله يكون من وجه واحد وعذاب الله يصل إلى جميع الأبعاض والأجزاء ويشمل الروح والجسم فهذا طرف من الفرق والله أعلم بكنه عذابه ونعوذ بالله من عقابه.
قوله سبحانه: مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً وجه نظمه يعرف من تفسيره وذلك أنه قيل:
المراد منه تحريض النبي ﷺ إياهم على الجهاد، لأنه إذا كان يأمرهم بالغزو فقد جعل نفسه شفيعا لهم في تحصيل الأغراض المتعلقة بالجهاد. وأيضا التحريض وهو الحث على سبيل الرفق والتلطف والتهديد جار مجرى الشفاعة. وقيل: كان بعض المنافقين يشفع لمنافق آخر فى أن يأذن له الرسول في التخلف عن الجهاد، وكان بعض المؤمنين يشفع لمؤمن آخر عند مؤمن ثالث أن يحصل له عدّة الجهاد فنزلت. ونقل الواحدي عن ابن عباس أن الشفاعة الحسنة هاهنا هي أن يشفع إيمانه بالله بقتال الكفار، والشفاعة السيئة أن يشفع كفره بالله بمحبة الكفار وترك إيذائهم. وقال مقاتل: الشفاعة إلى الله إنما هي دعوة الله المسلم لما
روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: «من دعا لأخيه المسلم بظهر الغيب استجيب له وقال له الملك ولك مثل ذلك» «١»
فذلك النصيب والدعوة على المسلم بضد ذلك. وقال الحسن ومجاهد والكلبي وابن زيد: هي مطلق الشفاعة والحسنة منها هي التي بها روعي حق مسلم ودفع بها عنه شر أو جلب إليه خير وابتغى بها وجه الله ولم يؤخذ عليها رشوة وكانت في أمر حائز لا في حد من حدود الله ولا في إبطال حق من الحقوق، والسيئة ما كان بخلاف ذلك، وعلى هذا فوجه النظم أن التحريض على الجهاد بعث على الفعل الحسن وأنه نوع شفاعة كما مر في القول
والكفيل الضامن لأن الغريم اعتمد عليه. والتقدير من يشفع شفاعة سيئة يكن له منها نصيب يعتمد عليه ويكون له ذخيرة في معاشه ومعاده والغرض التهكم وحصول ضد ذلك مثل:
فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ [آل عمران: ٢١] وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً أي مقتدرا وحفيظا. واشتقاقه من القوت لأنه يمسك النفس ويحفظها. والغرض أنه قادر على كل المقدورات حفيظ لجميع المعلومات فيجازي كل شافع بما يليق بحاله، ثم لما أمر المؤمنين بالجهاد أمرهم أيضا بأن الأعداء لو رضوا بالمسالمة أو ألقوا في المبارزة بالسلم فقابلوهم بالإكرام وأيضا السلام دعاء بالسلامة والدعاء نوع من الشفاعة والتحية تفعلة من الحياة ويجيء الناقص من باب التفعيل على «تفعلة» مثل: تسلية وتعزية. لكنه أدغم هاهنا لاجتماع المثلين. وكانت العرب تقول عند التلاقي حياك الله. دعاء له بالحياة فأبدل الله ذلك بالسلام، ولعمري إن هذا أحسن لأن الحياة إن لم تكن مقرونة بالسلامة لم يعتد بها بل لعل الموت خير منها، ولأن السلام اسم من أسماء الله تعالى فالابتداء به أولى، ولأن دفع الضرر أهم من جلب النفع وقد سلم الله عليك يا مؤمن في اثني عشر موضعا في الأزل ولهذا سمى نفسه بالسلام، وعلى لسان نوح: يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ [هود: ٤٨] والمراد أمة محمد ﷺ وسلم عليك على لسان جبريل: تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ سَلامٌ [القدر: ٥] قال المفسرون إنه خاف على أمته أن يصيروا مثل أمة موسى وعيسى فقال الله تعالى: لا تهتم بذلك فإني وإن أخرجتك من الدنيا إلّا إني جعلت جبرائيل خليفة لك ينزل إلى أمتك كل ليلة قدر ويبلغهم السلام مني. وسلم عليك على لسان موسى: وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى [طه: ٤٧] وسلم عليك على لسان محمد صلى الله عليه وسلم: قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى [النمل: ٥٩] وأمر محمدا ﷺ بالسلام عليك: وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ [الأنعام:
٥٤] وأمر المؤمنين بالسلام عليك: وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها وسلم عليك على لسان ملك الموت: الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ [النحل:
٣٢] قيل: إن ملك الموت يسلم في أذن المسلم: السلام يقرئك السلام ويقول: أجبني فإني مشتاق إليك واشتاقت الجنات والحور العين إليك، فإذا سمع المؤمن البشارة يقول لملك
وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ [الواقعة: ٩١] وسلم عليك على لسان خزنة الجنة: وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ [الزمر: ٧٣] وسلم عليك على لسان الملائكة في الجنة: وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ [الرعد: ٢٤] وسلم عليك على لسان أهل الجنة:
تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ [الأحزاب: ٤٤] وسلم عليك إلى الأبد: سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ [يس: ٥٨] ولما أراد إكرام يحيى عليه السلام وعده بالسلام في مواطن ثلاثة هي أشد الأوقات حاجة إلى السلام فقال: وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا
[مريم: ١٥] ولما ذكر تعظيم محمد ﷺ قال: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً [الأحزاب: ٥٦]
وعن عبد الله بن سلام قال: لما سمعت بقدوم رسول الله ﷺ دخلت في غمار الناس فأول ما سمعت عنه: «يا أيها الناس أفشوا السلام وأطعموا الطعام وصلوا الأرحام وصلّوا بالليل والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام» «١»
وكانت تحية النصارى وضع اليد على الفم، وتحية اليهود الإشارة بالأصابع، وتحية المجوس الانحناء، وتحية الجاهلية «حياك الله»، وتحيتهم للملوك «أنعم صباحا» فشتان ما بين تحياتهم وتحيتنا «السلام عليك ورحمة الله وبركاته» وفي هذا دليل على أن هذا الدين أشرف الأديان وأكملها. ومما يدل على فضيلة السلام عقلا أن الوعد بالنفع قد يقدر الإنسان على الوفاء به وقد لا يقدر، وأما الوعد بترك الضرر فإنه يقدر عليه لا محالة والسلام يدل عليه فهو أفضل أنواع التحية. قال بعض العلماء: فمن دخل بيتا وجب عليه أن يسلم على الحاضرين لقوله تعالى: فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ [النور: ٦١]
وقال صلى الله عليه وسلم: «أفشوا السلام»
والأمر للوجوب، ولأن السلام بشارة بالسلامة وإزالة الضرر وهو واجب
لقوله: «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده» «٢»
ولأنه من شعائر الإسلام وإظهار شعائر الإسلام واجب. وعن ابن عباس والنخعي وأكثر العلماء أن السلام سنة. وأما الجواب فواجب بالإجماع لأن ترك الجواب إهانة والإهانة ضرر والضرر حرام ولقوله تعالى: وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها وظاهر الأمر الوجوب وعن ابن عباس: ما من
(٢) رواه البخاري في كتاب الإيمان باب ٤، ٥. مسلم في كتاب الإيمان حديث ٦٤. أبو داود في كتاب الجهاد باب ٢. الترمذي في كتاب القيامة باب ٥٢. النسائي في كتاب الإيمان باب ٨، ٩. الدارمي في كتاب الرقاق باب ٤، ٨. أحمد في مسنده (٢/ ١٦٠، ١٦٢)، (٦/ ٢١).
وروي أن رجلا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: السلام عليك يا رسول الله. فقال: وعليك السلام ورحمة الله، وقال آخر: السلام عليك ورحمة الله. فقال: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته. وجاء ثالث وقال السلام عليك ورحمة الله وبركاته. فقال: وعليك فقال: نقصتني فأين قول الله: فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها فقال: إنك لم تترك لي فضلا فرددت عليك مثله.
فقوله تعالى: أَوْ رُدُّوها أي أجيبوها بمثلها، ورد السلام كرّة ورجعة إما إشارة إلى هذه الصورة وإما إلى التخيير بين الزيادة وتركها، ورد الجواب فرض على الكفاية إذا قام به بعض سقط عن الباقين. والأولى أن يقوم به الكل إكثارا للإكرام، والأحسن أن يدخل حرف العطف فيقول: وعليكم السلام. وهو واجب على الفور بقدر ما يعهد بين الإيجاب والقبول في العقود فإن أخر عن ذلك كان ابتداء سلام لا جوابا وإذا ورد عليه سلام في كتاب فجوابه بالكتابة أيضا واجب لقوله: وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا ومن قال لآخر أقرئ فلانا عني السلام وجب عليه أن يفعل. قال العلماء: المبتدئ يقول السلام عليكم والمجيب يقول:
وعليكم السلام ليقع الابتداء والاختتام بذكر الله. فإن خالف المبتدئ فليكن الاختتام بحاله. ويجوز «سلام عليكم» بل قالوا إنه أولى من المعرف لأن المنكر في القرآن أكثر، وإن المنكر ورد من الله والملائكة والمؤمنين، والمعرف ورد في تسليم الإنسان على نفسه، قال موسى: وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى [طه: ٤٧] وقال عيسى: وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ [مريم: ٣٣] وأيضا المعرف يدل على أصل الماهية والمنكر على الماهية مع وصف الكمال. ومن السنة أن يسلم الراكب لزيادة هيبته على الماشي، وراكب الفرس على راكب الحمار، والصغير على الكبير، والأقل على الأكثر احتراما للجماعة، والقائم على القاعد لأنه الواصل إليه لأن القائم أهيب ومن السنة الجهر بالسلام لأنه أقوى في إدخال السرور في القلب. ومنها الابتداء به إظهارا للتواضع، ومنها الإفشاء والتعميم لأن التخصيص إيحاش، والمصافحة عند السلام عادة النبي صلى الله عليه وسلم
قال: «إذا تصافح المسلمان تحاتت ذنوبهما كما يتحات ورق الشجر» «١»
ومن استقبله رجل واحد فليقل: سلام عليكم وليقصد الرجل والملكين لأنه إذا سلم عليهما ردا السلام عليه، ومن سلم الملك عليه فقد سلم من عذاب
روي أن واحدا سلم على رسول الله ﷺ وهو في قضاء الحاجة فقام وتيمم ثم رد الجواب.
وإذا دخل يوم الجمعة والإمام يخطب فلا ينبغي أن يسلم لاشتغال الناس بالاستماع، فإن سلم ورد بعضهم فلا بأس، ولو اقتصروا على الإشارة كان أحسن. ومن دخل الحمام فرأى الناس متزرين سلم عليهم فإن لم يكونوا متزرين لم يسلم عليهم. والأولى ترك السلام على القارئ كيلا يقطع عليه القراءة باشتغاله بالجواب، وكذا القول فيمن كان مشتغلا برواية الحديث ومذاكرة العلم أو بالأذان أو الإقامة. ولا يسلم على المشغول بالأكل هكذا أطلق وحمله بعضهم على ما إذا كانت اللقمة في فيه. ولا يسلم على قاضي الحاجة قال أبو يوسف: ولا على لاعب النرد ولا على المغني ومطير الحمام وكل من كان مشتغلا بنوع معصية، ولا مانع من السلام على من هو في مساومة أو معاملة. وإذا دخل الرجل بيته سلم على امرأته فإن حضرت أجنبية هناك لم يسلم عليها، وإذا سلمت الأجنبية عليه وكان يخاف في رد الجواب عليها تهمة أو فتنة لم يجب الرد بل الأولى أن لا يفعل. وحيث قلنا لا يسلم فلو سلم لم يجب عليها الرد لأنه أتى بفعل منهي عنه فكان وجوده كعدمه.
وروي عن النبي ﷺ أنه قال: «لا يبتدأ اليهودي بالسلام» «١»
وعن أبي حنيفة أنه قال: لا تبتدئه بسلام في كتاب ولا في غيره. وعن أبي يوسف: لا تسلم عليهم ولا تصافحهم وإذا دخلت فقل: السلام على من اتبع الهدى. ولا بأس في الدعاء له بما يصلحه في دنياه، ورخص بعض العلماء في ابتداء السلام عليهم إذا دعت إلى ذلك حاجة، أما إذا سلموا علينا فقال أكثر العلماء ينبغي أن نقول: وعليك لما روي أن اليهود تقول للمسلمين: السام عليكم، وعن الحسن: يجوز أن يقول للكافر وعليك السلام ولا يقل:
ورحمة الله. لأنها استغفار. وعن الشعبي أنه قال لنصراني سلم عليه عليك السلام ورحمة الله فقيل له في ذلك؟ فقال: أليس في رحمة الله يعيش؟ واعلم أن مذهب أبي حنيفة أن من وهب لغير ذي رحم محرم فله الرجوع فيها ما لم يثب منها، فإذا أثيب منها فلا رجوع له فيها. وقال الشافعي: له الرجوع في حق الولد وليس له الرجوع في حق الأجنبي. واحتج لأبي حنيفة بالآية وذلك أن التحية تشمل جميع أنواع الإكرام فتشمل الهبة ومقتضاها وجوب
روي عن ابن عباس وابن عمر أن النبي ﷺ قال: «لا يحل لرجل أن يعطي عطية أو يهب هبة فيرجع فيها إلّا الوالد فيما يعطي ولده» «١»
إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً فيحاسبكم على محافظة حقوق التحية وغيرها، فكونوا على حذر من مخالفته. ثم أكد الوعيد بقوله: اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ فالأول توحيد والثاني عدل كأنه تعالى يقول: من سلم عليكم وحياكم فاقبلوا سلامه وأكرموه وعاملوه بناء على الظاهر فإن البواطن إنما يعرفها الله الذي لا اله إلّا هو، وإنما تنكشف بواطن الخلق للخلق في يوم القيامة الذي يجمع فيه الأولون والآخرون للجزاء والحساب. وقوله: لا إِلهَ إِلَّا هُوَ إما خبر المبتدأ وإما اعتراض والخبر: لَيَجْمَعَنَّكُمْ والتقدير الله والله ليجمعنكم إلى يوم القيامة أي ليضمنكم إليه ويجمعن بينكم وبينه بأن يبعثكم فيه، والقيامة والقيام كالطلابة والطلاب وهي قيامهم من القبور أو قيامهم للحساب. قال تعالى: يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ [المطففين: ٦] وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً استفهام على سبيل الإنكار، وذلك أن الصدق من صفات الكمال والكمال للواجب أولى وأحق وأقدم وأتم من غيره، والمعتزلة نفوا عنه الكذب بناء على أنه قبيح، ومن كذب لم يكذب إلّا لأنه محتاج إلى أن يكذب لجر منفعة أو دفع مضرة، أو هو غني عنه إلّا أنه يجهل غناه أو هو جاهل بقبحه، أو هو سفيه لا يفرق بين الصدق والكذب في إخباره ولا يبالي بأيهما نطق، وربما كان الكذب أحلى على حنكه من الصدق، وكل هذه الأمور من الحكيم قبيح يجب تنزيهه عنها، واعلم أن المسائل الأصولية قسمان منها ما العلم بصحة النبوة يحتاج إلى العلم بصحته كعلمنا بافتقار العالم إلى صانع عالم بكل المعلومات قادر على كل الممكنات، فهذا القسم يمتنع إثباته بالقرآن والخبر وإلّا وقع الدور. ومنها غير ذلك كإثبات الحشر والنشر فإنه يمكن إثباته بالقرآن والحديث فاعلم.
ثم عاد إلى حكاية أحوال المنافقين فقال: فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ وهو منصوب على الحال والعامل معنوي مثل: ما لك قائما أي ما تصنع؟ وقيل: نصب على أنه خبر «كان» أي ما لكم كنتم في شأن المنافقين فئتين؟ استفهام على سبيل الإنكار أي لا تختلفوا في كفرهم ولكن اقطعوا بنفاقهم فقد ظهرت دلائل ذلك وانكشفت جلية الحال.
وهذا ظاهر في المقصود. والمعتزلة يقولون: قوله: أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا أي بسبب كسبهم وفعلهم ينفي القول بأن ضلالهم حصل بخلق الله فإذن المراد من إضلال الله حكمه بضلالهم كما يقال: فلان يكفر فلانا أي ينسبه إلى الكفر ويحكم عليه بذلك. أو المراد إضلالهم عن طريق الجنة وهو مفسر بمنع الألطاف. ثم ذكر أنهم بالغوا في الكفر إلى أن تمنوا أن تصيروا كفارا فكيف تطمعون في إيمانهم وهو قوله: وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً أي في الكفر. والمراد فتكونون أنتم وهم سواء إلّا أنه اكتفى بذكر المخاطبين عن ذكر غيرهم لتقدم ذكرهم. وقوله: فَتَكُونُونَ عطف على تَكْفُرُونَ.
فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ حَتَّى يُهاجِرُوا أي حتى يضموا إلى إيمانهم المهاجرة الصحيحة المعتمدة وهي الهجرة في سبيل الله لا لغرض من الأغراض الفانية مثل
قوله صلى الله عليه وسلم: «أنا بريء من كل مسلم قام بين أظهر المشركين وأنا بريء من كل مسلم مع مشرك» «١».
وكانت الهجرة واجبة إلى أن فتحت مكة.
عن ابن عباس قال: قال رسول الله ﷺ يوم فتح مكة «لا هجرة
وعن الحسن: إن حكم الآية ثابت في كل من أقام في دار الحرب فرأى فرض الهجرة إلى دار الإسلام قائما. قال المحققون: الهجرة في سبيل الله تشمل الانتقال من دار الكفر إلى دار الإيمان، والانتقال من أعمال الكفار إلى أعمال المسلمين بل هذا أقدم وأهم
لقوله صلى الله عليه وسلم: «المهاجر من هجر ما نهى الله عنه».
فَإِنْ تَوَلَّوْا عن الإيمان المظاهر بالهجرة الصحيحة فحكمهم حكم سائر المشركين فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ في الحل أو في الحرم وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ في هذه الحالة وَلِيًّا يتولى شيئا من مهماتكم وَلا نَصِيراً ينصركم على أعدائكم بل جانبوهم مجانبة كلية. ثم لما أمر بقتل هؤلاء الكفار استثنى عنه موضعين: الأول إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ أي ينتهون ويتصلون إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ والمعنى أن من دخل في عهد من كان داخلا في عهدكم فهم أيضا داخلون في عهدكم. قال القفال: وقد يدخل في الآية أن يقصد قوم حضرة الرسول ﷺ فيتعذر عليهم ذلك المطلوب فيلتجئوا إلى قوم بينهم وبين المسلمين عهد إلى أن يجدوا السبيل إليه. والقوم هم الأسلميون وذلك أنه ﷺ وادع وقت خروجه إلى مكة هلال بن عويمر الأسلمي على أن لا يعينه ولا يعين عليه، وعلى أن من وصل إلى هلال ولجأ إليه فله من الجوار مثل الذي لهلال. وقال ابن عباس: هم بنو بكر بن زيد مناة كانوا في الصلح.
وقال مقاتل: هم خزاعة وخزيمة. وهاهنا نكتة وهي أنه تعالى رفع السيف عمن التجأ إلى الكفار المصالحين فلأن يدفع النار عمن التجأ إلى محبة الله ومحبة رسوله كان أولى. وعن أبي عبيدة: المراد بالوصلة الانتساب. يقال: وصلت إلى فلان واتصلت به إذا انتهيت إليه.
واعترض عليه بأن أهل مكة أكثرهم كانوا متصلين بالرسول ﷺ من جهة النسب مع أنه كان قد أباح دم الكفار منهم. الاستثناء الثاني قوله: أَوْ جاؤُكُمْ وفي العطف وجهان: أحدهما أن يكون معطوفا على صفة قوم والمعنى إلا الذين يصلون إلى قوم معاهدين أو إلى قوم جاؤوكم ممسكين عن القتال لا لكم ولا عليكم. وثانيهما العطف على صلة الذين كأنه قيل:
الذين يتصلون بالمعاهد أو إلى الذين لا يقاتلونكم وهذا أنسب بقوله في صفتهم فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ إلى آخر الآية. إذ بين أن كفهم عن القتال سبب استحقاقهم لنفي التعرض لهم بالاستقلال لا بواسطة الاتصال. ومعنى حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ ضاقت.
والحصر الضيق والانقباض وهو في موضع الحال بإضمار «قد» بدلالة قراءة من قرأ
والثانية من صار إلى الرسول ولا يقاتل الرسول ولا أصحابه لأنه يخاف الله فيه، ولا يقاتل الكفار أيضا لأنهم أقاربه أو لأنه بقي أولاده وأزواجه بينهم فيخاف لو قاتلهم أن يقتلوا أولاده وأصحابه. فهذان الفريقان من المشركين لا يحل قتالهم وإن كان لم يوجد منهم الهجرة ومقاتلة الكفار، وعلى هذا فمعنى قوله: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ أي لو شاء لقوّى قلوبهم ليدفعوا عن أنفسهم إن أقدمتم على مقاتلتهم على سبيل الظلم. وعلى الأول معناه أن ضيق صدورهم عن قتالكم لأن الله قذف الرعب في قلوبهم، ولو قوّى قلوبهم لتسلطوا عليكم ولقاتلوكم وهو جواب «لو» على التكرير أو البدل. قال الكعبي: إنه تعالى أخبر أنه لو شاء لفعل وهذا ينبىء عن القدرة على الظلم وهو صحيح عندنا ولا يدل على أنه فعل الظلم وأراده والنزاع فيه فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ أي فإن لم يتعرضوا لكم وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ أي الانقياد والاستسلام فَما جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا فما أذن لكم في أخذهم وقتلهم سَتَجِدُونَ آخَرِينَ هم قوم من أسد وغطفان كانوا إذا أتوا المدينة أسلموا وعاهدوا ليأمنوا المسلمين فإذا رجعوا إلى قومهم كفروا ونكثوا عهودهم كُلَّما رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ كلما دعاهم قومهم إلى قتال المسلمين أُرْكِسُوا فِيها أي ردوا مقلوبين منكوسين فيها. وهذه استعارة لشدة إصرارهم على الكفر وعداوة المسلمين، لأن من وقع في حفر منكوسا تعذر خروجه فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا أي ولم يلقوا ولم يكفوا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ حيث تمكنتم منهم. قال الأكثرون: وفيه دليل على أنهم إذا اعتزلوا قتالنا وطلبوا الصلح منا وكفوا أيديهم عن إيذائنا لم يجز لنا قتالهم. ولا قتلهم. وهذا مبني على أن المعلق بكلمة «إن» على الشرط يعدم عند الشرط. أما قوله: سُلْطاناً فمعناه حجة واضحة لانكشاف حالهم في الكفر والغدر، أو تسلط ظاهر حيث أذنا لكم في قتلهم.
[سورة النساء (٤) : الآيات ٩٢ الى ١٠١]
وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ إِلاَّ أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (٩٢) وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً (٩٣) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (٩٤) لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً (٩٥) دَرَجاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (٩٦)إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً (٩٧) إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً (٩٨) فَأُولئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُوراً (٩٩) وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (١٠٠) وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً (١٠١)
القراآت:
فتثبتوا من التثبت وكذلك في الحجرات: حمزة وعلي وخلف. والباقون فَتَبَيَّنُوا من التبين السلم مقصورا: أبو جعفر ونافع وابن عامر وحمزة وخلف والمفضل وسهل. الباقون بالألف. غَيْرُ بالنصب: أبو جعفر ونافع وابن عامر وعلي وخلف. الباقون غَيْرُ بالرفع الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ مشددة التاء: البزي وابن فليح.
الوقوف:
إِلَّا خَطَأً ج يَصَّدَّقُوا ط لابتداء حكم آخر. مُؤْمِنَةٍ ط لذلك مُؤْمِنَةٍ ج مُتَتابِعَيْنِ ز لاحتمال كون تَوْبَةً مصدرا لفعل محذوف والأوجه كونه مفعولا له. مِنَ اللَّهِ ط حَكِيماً هـ عَظِيماً هـ مُؤْمِناً ج لأن ما بعده يصلح حالا واستفهاما الدُّنْيا ز لانقطاع النظم مع اتصال الفاء. كَثِيرَةٌ ط فَتَبَيَّنُوا ط خَبِيراً هـ وَأَنْفُسِهِمْ الأول ط دَرَجَةً ط الْحُسْنى ط عَظِيماً هـ لا لأن ما بعده بدل
التفسير:
لما لم يكن بد في مجاهدة الكفار من أنه قد يتفق أن يرى الرجل رجلا يظنه كافرا حربيا فيقتله ثم يتبين أنه كان مسلما، ذكر الله تعالى حكم هذه الواقعة وأمثالها في هذه الآيات. أما سبب النزول
فقد روى عروة بن الزبير أن حذيفة بن اليمان قاتل مع رسول الله ﷺ يوم أحد فأخطأ المسلمون وظنوا أن أباه اليمان واحد من الكفار فضربوه بأسيافهم وحذيفة يقول: إنه أبي فلم يفهموا قوله إلّا بعد أن قتلوه. فقال حذيفة: يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين. فلما سمع الرسول ﷺ ذلك زاد وقع حذيفة عنده ونزلت الآية.
وقيل: نزلت في أبي الدرداء وذلك أنه كان في سرية فعدل إلى شعب لحاجة له فوجد رجلا في غنم له فحمل عليه بالسيف، فقال الرجل: لا إله إلّا الله فقتله وساق غنمه. ثم وجد في نفسه شيئا فذكر الواقعة للرسول ﷺ فقال: هلا شققت عن قلبه؟ وندم أبو الدرداء.
والذي عليه أكثر المفسرين ما
ذكره الكلبي أن عياش بن أبي ربيعة المخزومي أسلم وخاف أن يظهر إسلامه فخرج هاربا إلى المدينة وذلك قبل هجرة رسول الله ﷺ فقدمها، ثم أتى أطما من آطامها فتحصن فيه فجزعت أمه جزعا شديدا وأقسمت لا تأكل ولا تشرب ولا يؤويها سقف حتى يرجع. فخرج أبو جهل ومعه الحرث بن زيد بن أبي أنيسة وكان أبو جهل أخا عياش لأمه، فأتياه وهو في الأطم فقالا: انزل فإن أمك لم يؤوها سقف بيت بعدك، وحلفت لا تأكل طعاما ولا شرابا حتى ترجع إليها، ولم يزل يفتل منه أبو جهل في الذروة والغارب ويقول: أليس محمد يحثك على صلة الرحم؟ انصرف وبرّ بأمك وأنت على دينك حتى نزل فذهب معهما. فلما أخرجاه من المدينة أو ثقاه بنسعة وجلده كل منهما مائة جلدة ثم قدما به على أمه فقالت: والله ما أحلك من وثاقك حتى تكفر بالذي آمنت به. ثم تركوه موثقا في الشمس فأعطاهم بعض الذي أرادوا، فأتاه الحرث بن زيد وقال: يا عياش، والله لئن كان الذي كنت عليه هدى لقد تركت الهدى، وإن كان ضلالة فقد دخلت الآن فيه. فغضب عياش من مقالته وقال له: هذا أخي- يعني أبا جهل- فمن أنت يا حارث؟ لله عليّ، إن وجدتك خاليا أن أقتلك. ثم إن عياشا أسلم بعد هجرة رسول الله ﷺ وهاجر إلى المدينة وأسلم الحرث بعده وهاجر وليس عياش يومئذ حاضرا ولم يشعر بإسلامه، فبينما هو يسير بظهر قباء إذ لقي الحرث بن زيد، فلما رآه حمل عليه فقتله فقال الناس: أي شيء صنعت؟ إنه قد أسلم. فرجع عياش إلى
وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أي ما صح له ولا استقام، أو ما كان له فيما أتاه من ربه وعهد إليه، أو ما كان له في شيء من الأزمنة ذلك. والغرض بيان أن حرمة القتل كانت ثابتة من أول زمان التكليف إِلَّا خَطَأً إلّا لهذا العذر وبهذا السبب فيكون مفعولا له، أو إلّا في حال الخطأ أو إلّا قتلا خطأ. قال أبو هاشم- وهو أحد رؤساء المعتزلة-: التقدير، وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا فيبقى مؤمنا إلا أن يقتله خطأ فيبقى حينئذ مؤمنا. وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ فعليه إعتاق رَقَبَةٍ أي نسمة مؤمنة. والحر العتيق الكريم لأنّ الكرم في الأحرار كما أن اللؤم في العبيد ومنه غتاق الخيل والطير لكرامها، وحر الوجه أكرم موضع منه. وعبر عن النسمة بالرقبة كما عبر عنها بالرأس في قولهم: «فلان يملك كذا رأسا من الرقيق». وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ الدية من الودي كالشية من الوشي. والأصل ودية وهي مخصوصة ببدل النفس دون سائر المتلفات، وقد تستعمل في بدل الأطراف والأعضاء والمراد بالأهل الورثة إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا أي يتصدقوا فأدغمت التاء في الصاد. والتصدق الإعطاء والمراد هاهنا العفو ومحله النصب على الظرف أو الحال والعامل. مُسَلَّمَةٌ أو عليه كأنه قيل: يجب عليه الدية أو يسلمها إلّا زمان التصدق أو إلّا متصدقين. وهاهنا مسائل: الأولى القتل على ثلاثة أقسام: عمد وخطأ وشبه عمد. أما العمد فهو أن يقصد قتله بالسبب الذي يعلم إفضاءه إلى الموت سواء كان جارحا أو لم يكن. وأما الخطأ فضربان:
أحدهما أن يقصد رمي مشرك أو طائر فأصاب مسلما، والثاني أن يظنه مشركا بأن كان عليه شعار الكفار. فالأول خطأ في الفعل، والثاني خطأ في القصد. وأما شبه العمد فهو أن يضربه مثلا بعصا خفيفة لا تقتل غالبا فيموت منه فهذا خطأ في القتل وإن كان عمدا في الضرب. الثانية قال أبو حنيفة: القتل بالمثقل ليس بعمد محض بل هو خطأ أو شبه عمد فيكون داخلا تحت الآية فيجب في الآية والكفارة ولا يجب فيه القصاص. وقال الشافعي:
إنه عمد محض يجب فيه القصاص حجة الشافعي أنه قتل عمد عدوان أما إنه قتل فبقوله تعالى لموسى: وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ [طه: ٤٠] يعني القبطي إذ وكزه موسى فقضى عليه. وأما أنه عمد عدوان فظاهر لأن من ضرب رأس الإنسان بحجر الرحى أو صلبه أو غرقه أو خنقه ثم قال ما قصدت قتله عد ما جنا، وإذا ثبت أنه قتل عمد عدوان فهو يوجب القصاص لقوله: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى [البقرة: ١٧٨] وأن المقصود أن شرع القصاص صون الأرواح عن الإهدار والإهدار في المثقل كهو في المحدد، والعلم الضروري حاصل بأن التفاوت في آلة الإهدار غير معتبر. حجة أبي حنيفة
قوله صلى الله عليه وسلم: «ألا ان قتيل العمد
هذا عام سواء كان السوط أو العصا صغيرا أو كبيرا، وأجيب بأن العصا والسوط يجب حملهما على الخفيف ليتحقق معنى الخطأ، فإن من ضرب رأس إنسان بقطعة جبل ثم قال: ما كنت أقصد قتله لم يعبأ بقوله. الثالثة قال أبو حنيفة: القتل العمد لا يوجب الكفارة لأنه شرط في الآية أن يكون القتل خطأ، وعند انتفاء الشرط لا يحصل المشروط. وقال الشافعي: يوجبها لما
روي أن واثلة بن الأسقع قال: أتينا رسول الله ﷺ في صاحب لنا أوجب النار بالقتل فقال: أعتقوا عنه يعتق الله بكل عضو منه عضوا منه من النار.
وأيضا نص الله تعالى على الكفارة في قتل الصيد عمدا في الحرم وفي الإحرام فأوجبها على الخاطئ بالاتفاق، فههنا نص على الخاطئ فبأن نوجبه على العامد كان أولى لأنه لما أخرج نفسا مؤمنة عن جملة الإحياء عمدا لزمه أن يدخل نفسا مثلها في جملة الأحرار لأن إطلاقها من قبل الرق كاحيائها من قبل أن الرقيق ممنوع من تصرف الأحرار كما أن الميت ممنوع من التصرف مطلقا، ولتحقيق هذا المعنى أوجب أن تكون الرقبة كاملة الرق، وأن تكون سليمة عن عيب مخل بالعمل كهرم وعمى وجنون.
الرابعة قال ابن عباس والحسن والشعبي والنخعي: لا تجزىء الرقبة إلّا إذا صام وصلى لأنه تعالى أوجب تحرير الرقبة المؤمنة. والإيمان إما التصديق وإما العمل وإما المجموع وعلى التقديرات فالكل فائت عن الصبي. وقال الشافعي ومالك وأبو حنيفة والأوزاعي: يجزىء الصبي إذا كان أحد أبويه مسلما لأن حكمه حكم المؤمن. الخامسة أنه تعالى أوجب الدية في القرآن ولم يبين كيفيتها وإنما عرفت من السنة.
عن عمرو بن حزم أن النبي ﷺ كتب إلى أهل اليمن أن في النفس مائة من الإبل. وهذه المائة إذا كان القتل خطأ مخمسة عشرون منها بنت مخاض وعشرون بنت لبون وعشرون ابن لبون وعشرون جذعة وعشرون حقة.
وبه قال مالك لما
روي عن ابن مسعود أن النبي ﷺ قضى في دية الخطأ بمائة من الإبل وفصلها كما ذكرنا.
وأبدل أبو حنيفة وأحمد أبناء اللبون بأبناء المخاض، لأن هذا الأقل متفق عليه والزائد منفي بالبراءة الأصلية. وقال غيرهما: أبناء المخاض غير معتبرة في باب الزكاة فيجب أن لا تعتبر في الدية التي سببها أقوى من السبب الموجب للزكاة. واتفقوا على أن الدية في العمد المحض مغلظة من ذلك التثليث في الإبل، وهو أن يكون ثلاثون حقة وثلاثون جذعة وأربعون خلفة في بطونها أولادها. ومنه الحلول على قياس أبدال سائر المتلفات خلاف دية الخطأ فإنها مؤجلة الثلث في السنة الأولى، والثلث الآخر في السنة
روي أن امرأتين من هذيل اقتتلنا فرمت إحداهما الأخرى بحجر، ويروى بعمود فسطاط. فقتلتها فقضى رسول الله ﷺ بالدية على عاقلة القاتلة.
وهذه صورة شبه العمد، والتحمل في الخطأ أولى. وجهات التحمل ثلاث: القرابة والولاء وبيت المال، والقرابة يعني بها العصبة الذين هم على حاشية النسب وهم الإخوة وبنوهم. وقال أبو حنيفة ومالك: يتحمل الآباء والبنون كغيرهم ويراعى الترتيب في العصبات فيقدم الأقرب فالأقرب، فإن كان فيهم وفاء إذا وزع عليهم لكثرتهم أو لقلة المال وإلّا شاركهم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم. وقال أبوبكر الأصم وجمهور الخوارج: الدية في الخطأ أيضا تجب على القاتل كما أن تحرير الرقبة أيضا عليه ويؤيده عطف الدية في الآية على التحرير. وأيضا الجناية صدرت عنه فلا يعقل تضمين غيره كما في سائر الاتلافات. وتخصيص عموم القرآن بخبر الواحد غير جائز، وأجيب بإجماع الصحابة على ذلك. السادسة مذهب أكثر الفقهاء أن دية المرأة نصف دية الرجل بإجماع المعتبرين من الصحابة، ولأن المرأة في الميراث وفي الشهادة نصف الرجل فكذلك في الدية. وقال الأصم وابن علية: ديتها مثل دية الرجل لعموم قوله:
وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً. السابعة إذا لم توجد الإبل فالواجب عند الشافعي في الجديد الرجوع إلى قيمة الإبل بالغة ما بلغت وإنما تقوم بغالب نقد البلد لما
روي أن النبي ﷺ كان يقوّم الإبل على أهل القرى، فإذا غلت رفع قيمتها.
وإذا هانت نقص من قيمتها، وقال أبو حنيفة: الواجب حينئذ ألف دينار أو عشرة آلاف درهم وعند مالك الدراهم اثنا عشر ألفا. الثامنة لا فرق بين هذه الدية وبين سائر الأموال في أنه يقضي منها الدين وينفذ منها الوصية ويقسم الباقي بين الورثة على فرائض الله لما
روي أن امرأة جاءت في أيام عمر تطلب نصيبها من دية الزوج فقال عمر:
لا أعلم لك شيئا إنما الدية للعصبة الذين يعقلون عنه. فشهد بعض الصحابة بأن رسول الله ﷺ أمر أن تورث الزوجة من دية زوجها فقضى عمر بذلك.
وعن ابن مسعود: يرث كل وارث من الدية غير القاتل. وعن شريك: لا يقضى من الدية دين ولا تنفذ وصية. وعن ربيعة: الغرة لأم الجنين وحدها وهذا خلاف الجماعة.
واعلم أنّ الله تعالى ذكر في هذه الآية أن من قتل مؤمنا خطأ فعليه تحرير الرقبة وتسليم الدية ثم قال: فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وسكت عن الدية. فالسكوت عن إيجاب الدية في هذه الصورة مع ذكرها فيما قبلها وفيما بعدها وهو قوله: وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ
لوازم التوبة. وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً بأنه لم يقصد ولم يتعمد حَكِيماً محكم الفعل لا يؤاخذ الإنسان بما لا يختار ولا يتعمد. وعند المعتزلة معنى الحكيم أن أفعاله واقعة على قانون الحكمة وقضية العدالة. ثم لما ذكر حكم القتل الخطأ أردفه ببيان حكم القتل العمد وله أحكام وجوب الدية والكفارة عند غير أبي حنيفة ومالك والقصاص كما مر في البقرة، فلا جرم اقتصر هاهنا على بيان ما فيه من الإثم والوعيد، ولا يخفى ما في الآية من التخويف والتهديد فلا جرم تمسكت الوعيدية بها في القطع بخلود الفاسق في النار. وأجيب بوجهين: الأول إجماع المفسرين على أنها نزلت في كافر قتل مؤمنا.
روى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أن مقيس بن ضبابة وجد أخاه قتيلا في بني النجار وكان مسلما، فأتى رسول الله ﷺ فذكر له ذلك، فأرسل رسول الله ﷺ معه رسولا من بني فهر وقال له: ائت بني النجار فاقرأهم السلام وقل لهم: إنّ رسول الله ﷺ يأمركم إن علمتم قاتل هشام بن ضبابة أن تدفعوه إلى أخيه فيقتص منه، وإن لم تعلموا له قاتلا أن تدفعوا إليه ديته. فأبلغهم الفهري ذلك عن النبي ﷺ فقالوا: سمعا وطاعة لله ولرسوله، والله ما نعلم له قاتلا ولكنا نؤدي إليه ديته فأعطوه مائة من الإبل ثم انصرفا راجعين إلى المدينة وبينهما وبين المدينة قريب، فأتى الشيطان مقيسا فوسوس إليه فقال: أي شيء صنعت تقبل دية أخيك فيكون عليك مسبة؟ اقتل الذي معك فتكون نفس مكان نفس وفضل الدية. فرمى الفهري بصخرة فشدخ رأسه ثم ركب بعيرا منها وساق بقيتها راجعا إلى مكة كافرا وجعل يقول في شعره:
قتلت به فهرا وحملت عقله سراة بني النجار أرباب فارع وأدركت ثأري واضطجعت موسدا وكنت إلى الأوثان أول راجع
وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً ثم أهدر النبي ﷺ دمه يوم فتح مكة فأدركه الناس بالسوق فقتلوه. الوجه الثاني أنه يجوز عندنا أن يخلف الله وعيد المؤمنين فإن خلف الوعيد كرم. وضعف الوجه الأول بأنّ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وبأن ما قبل الآية وما بعدها في نهي المؤمن عن قتل المؤمن فكذا هذه الآية، وبأن ترتيب الحكم على الوصف المناسب مشعر بالعلية فيجب أن يكون الموجب لهذا الوعيد هو مجرد القتل العمد، وبأن الكفر بالاستقلال موجب لهذا الوعيد فأي فائدة في ضم القتل إليه؟ وإذا لا أثر للقتل في هذه الصورة فيكون الكلام جاريا مجرى قول القائل «إنّ من تنفس لجزاؤه جهنم» وزيف الوجه الثاني بأن الوعيد قسم من أقسام الخبر. وإذا جاز الكذب فيه لغرض إظهار الكرم فلم لا يجوز في القصص والأخبار وغير ذلك لغرض المصلحة؟ وفتح هذا الباب يفضي إلى الطعن في الشرائع. قال القفال: الآية تدل على أنّ جزاء القتل العمد هو ما ذكر.
وقد يقول الرجل لغيره: جزاؤك أني أفعل بك كذا إلّا أني لا أفعله. ولا يخفى ضعف هذا الجواب أيضا لدلالة سائر الآيات كقوله: مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ [النساء: ١٢٣] وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [الزلزلة: ٨] على أنه يوصل الجزاء إلى المستحقين، ولأن قوله:
وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً صريح في أنه تعالى سيفعل به ذلك لا سيما وقد أخبر عنه بلفظ الماضي ليعلم أنه كالواقع. ولتأكد هذه المعاني نقل عن ابن عباس أن توبة من أقدم على القتل العمد العدوان غير مقبولة. وعن سفيان كان أهل العلم إذا سألوا قالوا: لا توبة له. وحمله الجمهور على التغليظ والتشديد وإلّا فكل ذنب ممحوّ بالتوبة حتى الشرك. هذا عند المعتزلة، وعند الأشاعرة كل الذنوب يحتمل العفو إلّا الشرك لقوله تعالى:
وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النساء: ٤٨].
ثم بالغ في تحريم قتل المؤمن فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا لتفعل هاهنا بمعنى الاستفعال أي اطلبوا بيان الأمر وثباته ولا تتهوّكوا فيه عن غير روية وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ وهو والسلم بمعنى الاستسلام، وقيل الإسلام، وقيل التحية يعني سلام أهل الإسلام.
قال السدي: بعث رسول الله ﷺ أسامة بن زيد على سرية، فلقي مرداس بن نهيك رجلا من أهل فدك أسلم ولم يسلم من قومه غيره وكان يقول لا إله إلّا الله محمد رسول الله ﷺ ولم يهرب ثقة بإسلامه، فقتله أسامة واستاق غنما كانت معه. فلما قدم على رسول الله ﷺ أخبره فقال: قتلت رجلا يقول لا إله إلّا الله. فقال: يا رسول الله إنما تعوذ من القتل. فقال: كيف أنت إذا خاصمك يوم القيامة بلا إله إلّا الله؟
قال: فما زال يردّدها عليّ أقتلت رجلا وهو يقول لا إله إلّا الله حتى تمنيت لو أنّ إسلامي
وقال الحسن: إنّ أصحاب النبي ﷺ خرجوا يتطرّفون فلقوا المشركين فهزموهم فشذ منهم رجل فتبعه رجل من المسلمين وأراد متاعه، فلما غشيه بالسنان قال: إني مسلم فكذبه ثم أوجره السنان فقتله وأخذ متاعه وكان قليلا، فرفع ذلك إلى النبي ﷺ فقال: قتلته بعد ما زعم أنه مسلم. قال:
يا رسول الله إنما قالها متعوّذا. قال: فهلّا شققت عن قلبه؟ قال: لم؟ قال: لتنظر أصادق هو أم كاذب. قال: وكنت أعلم ذلك يا رسول الله؟ قال: ويلك إنك لم تكن لتعلم ذلك إنما يبين عنه لسانه. قال: فما لبث القاتل أن مات فدفن فأصبح وقد وضع إلى جنب قبره. قال:
ثم عادوا فحفروا له فأمكنوا ودفنوه فأصبح وقد وضع إلى جنب قبره مرتين أو ثلاثا. فلما رأوا أنّ الأرض لا تقبله ألقوا عليه الحجارة.
قال الحسن: إنّ الأرض تجن من هو شر منه ولكن وعظ القوم أن لا يعودوا.
وعن سعيد بن جبير قال: خرج المقداد بن الأسود في سرية فإذا هم برجل في غنيمة له فأرادوا قتله فقال: لا إله إلّا الله. فقتله المقداد. فقيل له: أقتلته وقد قال لا إله إلّا الله؟ فقال: ودّ لو فرّ بأهله وماله. فلما قدموا على رسول الله ﷺ ذكروا ذلك له فنزلت.
قال القفال: ولا منافاة بين هذه الروايات، فلعلها نزلت عند وقوعها بأسرها فكان كل فريق يظن أنها نزلت في واقعته.
وعن أبي عبيدة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أشرع أحدكم الرمح إلى الرجل فإن كان سنانه عند نقرة نحره فقال لا إله إلّا الله فليرفع عنه الرمح».
قال الفقهاء: توبة الزنديق مقبولة لإطلاق هذه الآية. وقال أبو حنيفة: إسلام الصبي يصح لإطلاق الآية. وقال الشافعي: لا يصح وإلّا لوجب عليه لأنه لو لم يجب لكان ذلك إذنا في الكفر وهو غير جائز، لكنه غير واجب عليه
لقوله صلى الله عليه وسلم: «رفع القلم عن ثلاث عن الصبي حتى يبلغ» «١».
وقال أكثر الفقهاء: لو قال اليهودي أو النصراني أنا مؤمن أو مسلم لا يحكم بإسلامه لأنه يعتقد أن الإيمان والإسلام هو دينه. ولو قال لا إله إلّا الله محمد رسول الله ﷺ فلا يحصل الجزم بإسلامه لأنّ منهم من يقول إنه رسول العرب وحدهم ومنهم من يقول إنّ محمدا الذي هو الرسول الحق المنتظر بعد، فلا بد أن يعترف بأن الدين الذي كان عليه باطل، وأن الدين الذي هو موجود فيما بين المسلمين حق. تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا قال أبو عبيدة: جميع متاع الدنيا عرض بفتح الراء. يقال: إنّ الدنيا عرض حاضر
واعترض بأن لهم أن يقولوا ما كان إيماننا مثل إيمان هؤلاء لأنا آمنا بالاختيار وهؤلاء أظهروا الإيمان تحت ظلال السيوف، فكيف يمكن تشبيه أحدهما بالآخر؟ وعن سعيد بن جبير:
المراد أنكم كنتم تخفون إيمانكم عن قومكم كما أخفى إيمانه هذا الراعي عن قومه فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ بإعزازكم حتى أظهرتم دينكم. وأورد عليه أن إخفاء الإيمان ما كان عاما فيهم.
وفي التفسير الكبير: المراد أنكم في أول الأمر إنما حدث فيكم ميل ضعيف بأسباب ضعيفة إلى الإسلام فمنّ الله عليكم بتقوية ذلك الميل وتزايد نور الإيمان، فكذا هؤلاء قد حدث لهم ميل ضعيف إلى الإسلام بسبب هذا الخوف فاقبلوا منهم إيمانهم إلى أن تتكامل رغبتهم فيه.
وقيل: إنّ قوله: فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ منقطع عما تقدمه. وذلك أن القوم لما نهاهم عن قتل منّ تكلّم بلا إله إلّا الله ذكر أن الله من عليكم بأن قبل توبتكم عن ذلك الفعل المنكر، ثم أعاد الأمر بالتبين مبالغة في التحذير، ثم حذر عن الإضمار خلاف الإظهار فقال: إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً وفيه من الوعيد ما فيه.
ولما عاتبهم الله تعالى على ما صدر منهم وبدر عنهم كان مظنة أن يقع في قلبهم أن الأولى الاحتراز عن الجهاد فذكر من فضل الجهاد ما يزيح علّتهم ويزيد رغبتهم، أو نقول:
لما نهاهم عما نهاهم أتبعه فضيلة الجهاد ليبلغوا في الاحتراز عما يوجب خللا في هذا المنصب الجليل فقال: لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ
عن زيد بن ثابت قال: كنت عند النبي ﷺ حين نزلت عليه: لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ولم يذكر أُولِي الضَّرَرِ فقال ابن أم مكتوم: فكيف وأنا أعمى لا أبصر؟ قال زيد: فتغشّى النبي ﷺ في مجلسه الوحي فاتكأ على فخذي فو الذي نفسي بيده لقد ثقل عليّ حتى خشيت أن يرضها ثم سري عنه فقال: اكتب: لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فكتبتها. رواه البخاري.
والمراد بالضرر النقصان سواء كان في البنية كعمى وعرج ومرض أو بسبب عدم الأهبة. من قرأ غَيْرُ بالنصب فعلى الاستثناء من القاعدين أو
قوله ﷺ عند انصرافه من بعض غزواته «لقد خلفتم بالمدينة أقواما ما سرتم مسيرا ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم أولئك أقوام حبسهم العذر» «١»
وعنه صلى الله عليه وسلم: «إذا مرض العبد قال الله تعالى: اكتبوا لعبدي ما كان يعمله في الصحة إلى أن يبرأ» «٢».
ويعلم منه أن صحة النية وخلوص الطوية لها مدخل عظيم في قبول الأعمال. وذكروا في معنى
قوله: «نية المؤمن أبلغ من عمله»
أنّ ما ينويه المؤمن أبلغ من عمله إذ ما ينويه المؤمن من دوامه على الإيمان والأعمال الصالحة لو بقي أبدا خير من عمله الذي أدركه في مدة حياته. قيل: إنه قدّم ذكر النفس على المال في قوله: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ [التوبة: ١١١] وهاهنا أخر لأنّ النفس أشرف من المال. فالمشتري قدم ذكر النفس تنبيها على أنّ الرغبة فيها أشد، والبائع أخر تنبيها على أنّ المماكسة فيها أشد فلا يرضى ببذلها، إلّا في آخر الأمر. وفائدة نفي الاستواء ومعلوم أن القاعد بغير عذر والمجاهد لا يستويان تبيين ما بينهما من التفاوت ليهتم القاعد للجهاد ويترفع بنفسه عن انحطاط مرتبته فيجاهد كقوله: هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ [الزمر: ٩] تحريكا للجاهل لينهض بنفسه عن صفة الجهل إلى شرف العلم. ثم إن عدم الاستواء يحتمل الزيادة والنقصان فأوضح الحال بقوله: فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ كأنه قيل: مالهم لا يستوون؟ فأجيب بذلك. وانتصب دَرَجَةً على المصدر لأنّ الدرجة بدل على التفضيل. وقيل: حال أي ذوي درجة. وقيل: بنزع الخافض أي بدرجة. وقيل: على الظرف أي في درجة وَكُلًّا وكل فريق من القاعدين والمجاهدين وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى أي المثوبة الحسنى وهي الجنة. قال الفقهاء: فيه دليل على أن فرض الجهاد على الكفاية إذ لو كان واجبا على التعيين لم يكن القاعد أهلا للوعد. وانتصب أَجْراً بفضل لأنّ التفضيل يدل على الأجر. وهاهنا سؤال وهو أنه لم ذكر أولا درجة وثانيا درجات؟ وأجيب بأن اللام في قوله أوّلا على القاعدين للعهد والمراد بهم أولو الضرر، وقوله ثانيا على القاعدين للأصحاء الذين أذن لهم في التخلف اكتفاء بغيرهم لأن الغزو
(٢) رواه أحمد في مسنده (٢/ ١٨٩، ١٩٤، ١٩٨).
واستدلت الشيعة هاهنا بأنّ عليا رضي الله عنه أفضل من أبي بكر وغيره من الصحابة لأنه بالنسبة إليهم مجاهد وهم بالإضافة إليه قاعدون بما اشتهر من وقائعه وأيامه وشجاعته وحماسته. أجاب أهل السنة بأنّ جهاد أبي بكر بالدعوة إلى الدين وهو الجهاد الأكبر وحين كان الإسلام ضعيفا والاحتياج إلى المدد شديدا، وأما جهاد علي فإنما ظهر بالمدينة في الغزوات وكان الإسلام في ذلك الوقت قويا. والحق أنه لا تدل الآية إلّا على تفضيل المجاهدين على القاعدين، أما على تفضيل المجاهدين بعضهم على بعض فلا. قالت المعتزلة: هاهنا قد ظهر من الآية أنّ التفاوت في الفضل بحسب التفاوت في العمل، فعلة الثواب هو العمل ولهذا سمي أجرا. وأجيب بأنّ العمل علة الثواب لكن لا لذاته بل يجعل الشارع ذلك العمل موجبا له. قالت الشافعية: الاشتغال بالنوافل أفضل من الاشتغال بالنكاح لأنّ قوله: وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ عام يشمل الجهاد الواجب والمندوب وهو الزائد على قدر الكفاية، والمشتغل بالنكاح قاعد، فالاشتغال بالجهاد المندوب أفضل منه بالنكاح.
ثم لما ذكر ثواب المجاهدين أتبعه وعيد القاعدين الراضين بالسكون في دار الكفر فقال: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ وأنه يحتمل أن يكون ماضيا فيكون إخبارا عن حال قوم انقرضوا ومضوا. عن عكرمة عن ابن عباس قال: كانوا قوما من المسلمين بمكة فخرجوا في قوم من المشركين في قتال فقتلوا معهم فنزلت الآية. ويحتمل أن يكون مستقبلا بحذف إحدى التاءين فيكون الوعيد عاما في كل من كان بهذه الصفة. قال الجمهور: معنى تتوفاهم تقبض أرواحهم عند الموت. ولا منافاة بينه وبين قوله: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ [الزمر: ٤٢] قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ [السجدة: ١١] لأنه تعالى هو المتوفى والفاعل لكل الأشياء بالحقيقة إلّا أن الرئيس المفوّض إليه هذا العمل ملك الموت وسائر الملائكة أعوانه. وعن الحسن: تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ أي يحشرونهم إلى النار. أما قوله: ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ فمنصوب على الحال عن مفعول توفي والإضافة فيه لفظية ولذا لم تفد تعريفا فصح وقوعه حالا. والظلم قد يراد به الشرك إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان: ١٣] فالمراد أنهم ظالمون أنفسهم بنفاقهم وكفرهم وتركهم الهجرة. وقد يراد به المعصية فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ [فاطر: ٣٢] فالمراد الذين أسلموا في دار الكفر وبقوا هناك غير مهاجرين إلى دار
وأما من الرب فعسى إطماع وإطماع الكريم إيجاب. فالجزم بالعفو حاصل إلا أنّه يرد على لفظ العفو أنه لا يتقرر إلّا مع الذنب ولا ذنب مع العجز وجوابه أيضا يخرج مما قلنا:
وَكانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُوراً قال الزجاج: أي كان في الأزل موصوفا بهذه الصفة، أو أنه مع جميع العباد بهذه الصفة أي أنه عادة أجراها في حق غيره. وأيضا لو قال إنه عفو غفور كان
فبلغ خبره أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: فقالوا: لو وافى المدينة لكان أتم أجرا فأنزل الله تعالى فيه:
وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً أي مذهبا ومهربا ومضطربا قاله الفراء.
وفي الكشاف يقال: راغمت الرجل إذا فارقته وهو يكره مفارقتك لمذلة تلحقه بذلك وأصله من الرغام وهو التراب فإنهم يقولون: رغم أنفه يريدون أنه وصل إليه شيء يكرهه، وذلك لأنّ الأنف عضو في غاية العزة والتراب في غاية الذلة. ويمكن أن يقال: إنّ من فارق أهل بلدته فإذا استقام أمره في بلدة أخرى رغمت أنوف أهل بلدته بسبب سوء معاملتهم معه.
واعلم أنه سبحانه لما رغب في الهجرة ذكر بعده ما لأجله يمتنع الإنسان عن هجرة الوطن، وبين الجواب عنه والمانع أمران: الأوّل أن يكون له في وطنه نوع رفاهية وراحة فيخاف زوال ذلك عنه فأجاب الله تعالى عنه بقوله: وَمَنْ يُهاجِرْ كأنه قيل للمكلف إن كنت تكره الهجرة عن وطنك خوفا من أن تقع في المشقة والمحنة في السفر فلا تخف فإنّ الله تعالى يعطيك من النعم الجليلة والمراتب السنية في مهاجرك ما يكون سببا لرغم أنوف أعدائك، ويصير سببا لسعة عيشك، وإنما قدم في الآية ذكر رغم الأعداء على ذكر سعة العيش لأن ابتهاج المهاجر بدولته من حيث إنها سبب رغم آناف الأعداء أشد من ابتهاجه بها من حيث إنها سبب سعة رزقه وعيشه. المانع الثاني أن الإنسان يقول: إن خرجت من بيتي في طلب العمل والجهاد والمهاجرة إلى الله ورسوله، وفي معناه كل غرض ديني من طلب علم أو حج أو فرار إلى بلد يزداد فيه طاعة أو قناعة وزهدا في الدنيا وابتغاء رزق طيب، فربما وصلت إليه وربما لم أصل إليه، فالأولى أن لا أضيع الرفاهية الحاضرة لطلب شيء مظنون، فأجاب الله سبحانه عنه بقوله: وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ قال بعضهم: ثبت له أجر قصده وأجر القدر الذي أتى به من ذلك العمل، وأما أجر تمام العمل فمحال. والصحيح أن المراد من قصد طاعة
روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن المريض إذا عجز عما كان يفعله من الطاعة في حال الصحة كتب له ثواب مثل ذلك إلى أن يبرأ».
وأيضا من المعلوم أن كل من أتى بعمل فإنه يجد الثواب المرتب على ذلك القدر فلا يبقى في الآية فائدة الترغيب. وأيضا لا تكون الآية جوابا عن قول الصحابة في ضمرة لو وافى المدينة لكان أتم أجرا. قالت المعتزلة: في الآية دليل على أن العمل يوجب الثواب على الله لأن الوقوع والوجوب السقوط. قال تعالى: فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها [الحج: ٣٦] أي وقعت وسقطت ولفظ الأجر وكلمة «على» يؤكدان ما قلنا، وأجيب بأنا لا ننازع في أن الثواب يقع البتة لكن بحكم الوعد والعلم والتفضل والكرم. واستدل بعض الفقهاء بالآية على أن الغازي، إذا مات في الطريق وجب سهمه في الغنيمة كما وجب أجره، وردّ بأن قسم الغنيمة يتوقف على حيازتها بخلاف الأجر. وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً يغفر ما كان منه من القعود إلى أن خرج ويرحمه بإكمال أجر المجاهدين. ومما يفتقر المجاهد إليه معرفة كيفية أداء الصلاة في زمان الخوف والاشتغال بمحاربة العدو فلا جرم قال: وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ يقال: قصر صلاته وأقصرها وقصرها بمعنى.
ولفظ القصر مشعر بالتخفيف إلّا أنه ليس صريحا في أن التخفيف في كمية الركعات أو كيفية أدائها. والجمهور على أن المراد القصر في العدد وهو أن كل صلاة تكون في الحضر أربع ركعات وهي الظهر والعصر والعشاء فإنها تصير في السفر ركعتين، ويبقى المغرب والصبح بحالهما، وعن ابن عباس: فرض الله صلاة الحضر أربعا، وصلاة السفر ركعتين، وصلاة الخوف ركعة على لسان نبيكم. وعنه أيضا أن المراد التخفيف في كيفية الأداء كما يؤتى به عند شدة التحام القتال من الصلاة مع تلطخ الثوب بالدم ومن الإيماء مقام الركوع والسجود ويؤكد هذا الرأي بقوله: إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فإن خوف فتنة العدو لا يزول فيما يؤتى بركعتين على تمام أوصافهما، وإنما يزول بالتجوز والتخفيف فيهما. حجة الجمهور ما
روي عن يعلى بن أمية أنه قال: قلت لعمر بن الخطاب: كيف نقصر وقد أمنا وقال الله تعالى: فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ؟ فقال عمر: عجبت مما عجبت منه فسألت النبي ﷺ فقال: صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته.
فهذا الخبر يدل على أنهم فهموا من القصر التخفيف في أعداد الركعات ويؤيده
حديث ذي اليدين: «أقصرت الصلاة أم نسيت؟»
وأيضا القصر بمعنى تغيير هيئة الصلاة يجيء بعد ذلك، فجمل الكلام على ما لا يلزم منه التكرار أولى. أما تقييد القصر بحالة الخوف فلأن الآية نزلت على غالب أسفار النبي ﷺ وأكثرها لم يخل عن خوف قتال الكفار فلا يمكن الاستدلال بمفهومها على عدم جواز القصر في حالة الأمن ولا في حالة الخوف بسبب آخر، على أن
روي أن عائشة رضي الله عنها قالت: اعتمرت مع رسول الله ﷺ من المدينة إلى مكة، فلما قدمت مكة قلت: يا رسول الله بأبي وأمي قصرت. وأتممت وصمت وأفطرت. فقال: أحسنت يا عائشة وما عاب عليّ.
وكان عثمان يتم ويقصر وما ظهر إنكار من الصحابة عليه. وقال أبو حنيفة: القصر واجب فإنّ صلى المسافر أربعا ولم يقعد في الثنتين فسدت صلاته لما
روي عن ابن عباس قال: كان النبي ﷺ إذا خرج مسافرا صلى ركعتين، ولقوله صلى الله عليه وسلم: «فاقبلوا صدقته» «١»
وظاهر الأمر للوجوب. وعن عائشة: أول ما فرضت الصلاة فرضت ركعتين فأقرت في السفر وزيدت في الحضر. قال صاحب الكشاف: فإن قلت: فما تصنع بقوله:
فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا قلت: كأنهم ألفوا الإتمام فكانوا مظنة لأن يخطر ببالهم أن عليهم نقصانا في القصر فنفي عنهم الجناح لتطيب أنفسهم بالقصر ويطمئنوا إليه. وأجيب بأن هذا الاحتمال إنما يخطر ببالهم إذا قال الشارع لهم رخصت لكم في هذا القصر، أما إذا قال أوجبت عليكم هذا القصر وحرمت عليكم الإتمام وجعلته مفسدا لصلاتكم فلا يخطر هذا الاحتمال ببال عاقل. وحديث ابن عباس إنما يدل على كون القصر مشروعا لا على أن الإتمام غير جائز، وخبر عائشة لا تعاضده الآية لأن تقرير الصلاة على ركعتين لا يطلق عليه لفظ القصر. ثم إن بعض الظاهريين زعموا أن قليل السفر وكثيره سواء في القصر لإطلاق قوله: وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ وجمهور الفقهاء على أن السفر المرخص مقدر بمقدار مخصوص، فعن الأوزاعي والزهري ويروى عن عمر أن القصر في يوم تام، وعن ابن عباس إذا زاد على يوم وليلة قصر. وقال أنس بن مالك: المعتبر خمسة فراسخ. وقال الحسن: مسيرة ليلتين. وقال الشعبي والنخعي وسعيد بن جبير: من الكوفة إلى المدائن وهو ثلاثة أيام. وهو قول أبي حنيفة قياسا على مدة جواز المسح للمسافر، وأما أصحاب الشافعي فإنهم عوّلوا على ما
روي عن مجاهد وعطاء بن أبي رباح عن ابن عباس أن النبي ﷺ قال: يا أهل مكة لا تقصروا في أدنى من أربعة برد من مكة إلى عسفان.
والمراد بالبريد أربعة فراسخ ثلاثة أميال بأميال هاشم جد رسول الله صلى الله عليه وسلم، هو الذي قدر أميال البادية كل ميل اثنا عشر ألف قدم وهي أربعة
الدارمي في كتاب الصلاة باب ١٧٩. أحمد في مسنده (١/ ٢٥، ٣٦)، (٦/ ٦٣).
التأويل:
ليس لمؤمن الروح أن يقصد قتل مؤمن القلب إلّا أن يكون قتل خطأ وذلك أن الروح إذا خلص عن حجب ظلمات الصفات البشرية يتجلى الروح للقلب فيتنور بأنوار الروحانية، ثم تنعكس أنوار الروح عن مرآة القلب إلى النفس الأمارة فتموت عن صفاتها الذميمة الظلمانية، وتحيا بالصفات الحميدة الروحانية، وتطمئن إلى ذكر الله كاطمئنان القلب به، ففي بعض الأحوال يتأيد الروح بوارد روح قدسي رباني ويتجلى في تلك الحالة الروح للقلب فيخر موسى القلب صعقا ميتا بسطوة تجلي الروح القدسي الرباني ويجعل جبل النفس دكا. وكان قتله خطأ لأنه ما كان مقصودا بالقتل في هذا التجلي وكان القصد تنويره وتصفيته وقتل النفس الكافرة. مَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً أي قلبا مؤمنا: فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وهي رقبة السر الروحاني فتصير رقبة السر محررة عن رق المخلوقات وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ يعني يسلم العاقلة- وهو الله تعالى- دية القلب إلى أهل القلب وهم الأوصاف الحميدة الروحانية من جمال كمال ألطافه لتصير الأوصاف بها أخلاقا ربانية إلّا أن تتصدق الأوصاف بهذه الدية على مساكين أوصاف النفس الحيوانية والشيطانية فَإِنْ كانَ القتيل بالتجلي مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ أي من صفات النفس وَهُوَ مُؤْمِنٌ أي هذه الصفة قد آمنت بأنوار الروح القدسي دون أخواتها من الصفات: فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وهي رقبة القلب تصير محررة عن رق حب الدنيا ولا دية لأهل القتيل. وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ وهم صفات النفس وميثاقها قبول أحكام الشرع ظاهرا وترك المحاربة مع القلب وأوصافه فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ على عاقلة الرحمة إلى أهل تلك الصفة المقبولة وهم بقية صفات النفس كما قال تعالى: إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي [يوسف: ٥٣] وتحرير رقبة مؤمنة وهي رقبة الروح يصيرها محررة عن رقة الكونين. فَمَنْ لَمْ يَجِدْ رقبة مؤمنة من الروح والقلب والسر للتحرير بأن تكون رقابهم قد حررت عن رق ما سوى الله: فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ أي فعليه الإمساك عن مشارب العالمين على التتابع والدوام مراقبا قلبه لا يدخله شيئا من الدنيا والآخرة مراعيا وقته. فلو أفطر بأدنى شيء من المشارب كلها يستأنف الصوم ولا يفطر بشيء دون لقاء الله تعالى. قال قائلهم:
لقد صام طرفي عن شهود سواكم | وحق له لما اعتراه نواكم |
يعيد قوم حين يبدو هلالهم | ويبدو هلال الصب حين يراكم |
[سورة النساء (٤) : الآيات ١٠٢ الى ١١٣]
وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً واحِدَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (١٠٢) فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً (١٠٣) وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ ما لا يَرْجُونَ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (١٠٤) إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً (١٠٥) وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (١٠٦)وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً أَثِيماً (١٠٧) يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ ما لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ وَكانَ اللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً (١٠٨) ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فَمَنْ يُجادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (١٠٩) وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً (١١٠) وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (١١١)
وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (١١٢) وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَما يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً (١١٣)
القراءات:
عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ عباس بالاختلاس. اطْمَأْنَنْتُمْ وبابه بغير همز:
أبو عمرو ويزيد والأعشى والأصبهاني عن ورش وحمزة في الوقف. بريا بالتشديد: يزيد والشموتي وحمزة في الوقف.
الوقوف:
مِنْ وَرائِكُمْ ج. وَأَسْلِحَتَهُمْ ط لانقطاع النظم مع اتصال المعنى.
واحِدَةً ط أَسْلِحَتِكُمْ ج حِذْرَكُمْ ط مُهِيناً هـ وَعَلى جُنُوبِكُمْ ط للابتداء بإذا الشرطية مع الفاء. الصَّلاةَ ج لاحتمال فإن أو لأن. مَوْقُوتاً هـ الْقَوْمِ ط كَما تَأْلَمُونَ لا لاحتمال الواو الاستئناف أو الحال: ما لا يَرْجُونَ ط حَكِيماً هـ أَراكَ اللَّهُ ط لأن ما بعده استئناف. خَصِيماً هـ لا للعطف وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ ط رَحِيماً هـ للآية مع العطف. أَنْفُسَهُمْ
ط أَثِيماً
هـ ج لاحتمال ما بعد الوصف. مِنَ الْقَوْلِ
ط مُحِيطاً
هـ ط وَكِيلًا
هـ رَحِيماً
هـ عَلى نَفْسِهِ
ط حَكِيماً
هـ مُبِيناً
هـ يُضِلُّوكَ
ط مِنْ شَيْءٍ
ط تَعْلَمُ
ط عَظِيماً
هـ.
التفسير:
قال أبو يوسف والحسن بن زياد: صلاة الخوف كانت خاصة للرسول صلى الله عليه وسلم
وجمهور الفقهاء على أنها عامة لأن أئمة الأمة نواب عنه في كل عصر ألا ترى أن قوله:
خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً [التوبة: ١٠٣] لم يوجب كون الرسول ﷺ مخصوصا به دون أئمة أمته؟ وذهب المزني إلى نسخ صلاة الخوف محتجا بأنه ﷺ لم يصلها في حرب الخندق، وأجيب بأن ذلك قبل نزول الآية.
عن ابن عباس قال: خرج رسول الله ﷺ في غزاة فلقي المشركين بعسفان، فلما صلى رسول الله ﷺ الظهر فرأوه يركع ويسجد هو وأصحابه قال بعضهم لبعض: كأن هذا فرصة لكم لو أغرتم عليهم ما علموا بكم حتى تواقعوهم. فقال قائل منهم: فإن لهم صلاة أخرى هي أحب إليهم من أهليهم وأموالهم فاستعدّوا حتى تغيروا عليهم فيها فأنزل الله عز وجل على نبيه: وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ إلى آخر الآية
أما شرح صلاة الخوف فهو أن الإمام يجعل القوم طائفتين ويصلي بإحداهما ركعة واحدة، ثم إذا فرغوا من الركعة سلموا منها ويذهبون إلى وجه العدو وتأتي الطائفة الأخرى فيصلي بهم الإمام ركعة أخرى ويسلم. وهذا مذهب من يرى صلاة الخوف ركعة فللإمام ركعتان وللقوم ركعة، وهذا مروي عن ابن عباس وجابر بن عبد الله ومجاهد. وقال الحسن البصري: إن الإمام يصلي بتلك الطائفة ركعتين ويسلم، ثم تذهب تلك الطائفة إلى وجه العدوّ وتأتي الطائفة الأخرى فيصلي الإمام بهم مرة أخرى ركعتين كما فعل النبي ﷺ ببطن نخل. وليس في هذه الصلاة إلّا اقتداء مفترض بمتنفل، فإن الصلاة الثانية نافلة للإمام لا محالة. وفي جواز ذلك اختلاف بين العلماء. وقال الشافعي إن كان العدو في جهة القبلة صلى الإمام بجميع العسكر إلى الاعتدال عن ركوع الركعة الأولى، فإذا حان وقت السجدة حرست فرقة إما صف أو فرقة من صف إلى أن يفرغ الإمام وغير الحارسة من السجدتين، فإذا فرغ الإمام منهما سجدت الفرقة الحارسة ولحقت به حيث أمكنها، وإذا سجد الإمام الركعة الثانية حرست فرقة إما الفرقة الحارسة في الركعة الأولى أو الفرقة الأخرى وهذه أولى. فإذا فرغ الإمام من السجود سجدت الحارسة ولحقت بالإمام في التشهد ليسلم بهم.
وليس في هذه الصلاة إلّا التخلف عن الإمام بأركان السجدتين والجلسة بينهما، واحتمل لحاجة الخوف وظهور العذر وبمثله صلى رسول الله ﷺ بعسفان، وأما إن لم يكن العدوّ في وجه القبلة أو كانوا بحيث يمنعهم شيء من أبصار المسلمين صلى الإمام في الثنائية كالصبح أو الرباعية المقصورة بكل فرقة ركعة، وذلك أن ينحاز الإمام بفرقة إلى حيث لا تبلغهم سهام العدو فيصلي بهم ركعة، فإذا قام إلى الثانية انفردوا بها وسلموا وأخذوا مكان، إخوانهم في الصف، وانحاز الصف المقاتل إلى الإمام وهو ينتظر لهم واقتدوا به في
وهذه صلاة ذات الرقاع رواه أبو داود والنسائي عن صالح عن سهل بن أبي حثمة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال أبو حنيفة: ويروى عن ابن عمر وابن مسعود أن الطائفة الأولى يصلي بهم الإمام ركعة ويعودون إلى وجه العدو وتأتي الطائفة الثانية فيصلي بهم بقية الصلاة وينصرفون إلى وجه العدو، ثم تعود الطائفة الأولى فيقضون بقية صلاتهم بغير قراءة وينصرفون إلى وجه العدو، ثم تعود الطائفة الثانية فيقضون بقية صلاتهم بقراءة. والفرق أن الطائفة الأولى أدركت أول الصلاة فهي في حكم من خلف الإمام، وأما الثانية فلم تدرك أول الصلاة والمسبوق فيما يقضي كالمنفرد في صلاته. ولا خلاف في أن رسول الله ﷺ قد صلى بهذه الصلاة في أوقات مختلفة بحسب المصالح، وإنما وقع الاختلاف بين الفقهاء في أن الأفضل والأشد موافقة لظاهر الآية أيّ هذه الأقسام. فقال الواحدي: وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا يدل على أن الطائفة الأولى قد صلت عند إتيان الثانية كما هو مذهب الشافعي. وأما عند أبي حنيفة فالطائفة الثانية تأتي والأولى بعد في الصلاة وما فرغوا منها. وأيضا قوله: فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ ظاهره يدل على أن جميع صلاة الطائفة الثانية مع الإمام. قال أصحاب أبي حنيفة: فَإِذا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ يدل على أن الطائفة الأولى لم يفرغوا من الصلاة ولكنهم يصلون ركعة ثم يكونون من وراء الطائفة الثانية للحراسة. أجاب الواحدي بأن هذا إنما يلزم إذا جعلنا السجود والكون من ورائكم لطائفة واحدة، لكن السجود للأولى والكون من الوراء الذي بمعنى الحراسة للطائفة الثانية، أو معنى سجدوا صلوا وحينئذ لا يبقى إشكال وأيضا الذي اختاره الشافعي أحوط لأمر الحرب فإنها أخف على الطائفتين جميعا والحراسة خارج الصلاة أهون وليس فيها ما في غيرها من زيادة الذهاب والرجوع وكثرة الأفعال والاستدبار، وليس فيها إلّا الانفراد عن الإمام في الركعة الثانية وذلك جائز على الأصح في الأمن أيضا، وإلّا انتظار الإمام بالطائفة الثانية مرتين وإن كانت الصلاة مغربا فيصلي بالأولى ركعتين وبالثانية ركعة ويجوز العكس. وإن كانت رباعية فيصلي بكل طائفة ركعتين، ويجوز أن يفرقهم أربع فرق إن مست الحاجة إليه بأن لا يكفي نصف المسلمين لعدوهم. واعلم أن الصلاة على الوجه المشروع ليست عزيمة بل لو صلى الإمام بطائفة وأمر غيره فيصلي بالآخرين أو صلى بعضهم أو كلهم منفردين جاز، لكن كان أصحاب النبي ﷺ لا يسمحون بترك فضيلة الجماعة ويتنافسون في الاقتداء به فأمره الله تعالى بترتيبهم هكذا لتحوز إحدى الطائفتين فضيلة التكبير معه، والأخرى فضيلة التسليم معه. فالخطاب في قوله: وَإِذا كُنْتَ للنبي ﷺ أي إذا كنت أيها النبي مع المؤمنين في غزواتهم وخوفهم فَأَقَمْتَ لَهُمُ
فاجعلهم طائفتين: فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ فصل بهم وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فإن كان الضمير لغير المصلين فلا كلام، وإن كان للمصلين فليأخذوا من السلاح ما لا يشغلهم عن الصلاة كالسيف والخنجر، ويحتمل أن يكون أمرا للفريقين بحمل السلاح لأن ذلك أقرب إلى الاحتياط. ثم قال للطائفة الثانية: وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ فكأنه جعل الحذر والتيقظ آلة يستعملها الغازي. وفيه رحمة للخائف في الصلاة بأن يجعل بعض فكره في غير الصلاة. وإنما أمر هذه الطائفة بأخذ الحذر والأسلحة جميعا لأن العدو قلما يتنبه في أول الصلاة لكون المسلمين في الصلاة بل يظنونهم قياما للمحاربة، وأما في الركعة الثانية فيظهر لهم ذلك من ركوعهم وسجودهم الأولين فربما ينتهزون الفرصة في الهجوم عليهم كما ذكرنا في سبب النزول، فلا جرم خص الله تعالى هذا الموضع بزيادة تحذير مَيْلَةً واحِدَةً شدة واحدة. ثم رخص لهم في وضع السلاح إذا أصابه بلل المطر فيسود وتفسد حدته وجدته أو يثقل على المرء إذا كان محشوا، وحين كان الرجل مريضا فيشق عليه حمل السلاح ولكنه أعاد الأمر بأخذ الحذر لأن الغفلة عن كيد العدو لا تجوز بكل حال. قال بعض العلماء أخذ السلاح في صلاة الخوف سنة مؤكدة والأصح أنه واجب لأن ظاهر الأمر للوجوب، ولأن رفع لجناح عند العذر ينبىء عن وجود الجناح في غير ذلك الوقت لكن الشرط أن لا يحمل سلاحا فحسب أن أمكنه، ولا يحمل الرمح إلّا في طرف الصف. وبالجملة بحيث لا يتأذى به أحد وفي هذا دليل على أنه كان يجوز للنبي ﷺ أن يأتي بصلاة الخوف على جهة يكون بها حاذرا غير غافل عن كيد العدو، فلا يكون شيء من الروايات الواردة
فيها على خلاف نص القرآن وكما أن الآية دلت على وجوب الحذر عن العدو كذلك تدل على وجوب الحذر عن جميع المضار المظنون، وبهذا الطريق كان الإقدام على العلاج بالدواء والاحتراز عن الوباء في الجلوس تحت الجدار المائل واجبا. قالت المعتزلة: لو لم يكن العبد قادرا على الفعل والترك، وعلى جميع وجوه الحذر لم يكن للأمر بالحذر فائدة. والجواب أنا لا ننكر الأسباب لكنا ندعي انتهاء الكل إلى مسببها ولهذا ختم الآية بقوله: إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً ليعلموا أنه تعالى رتب على هذا الحذر كون الكفار مخذولين مقهورين وكان كما أخبر. أما قوله: فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ ففيه قولان: الأول فإذا قضيتم صلاة الخوف فواظبوا على ذكر الله في جميع الأحوال فإن ما أنتم عليه من الخوف والحرب جدير بذكر الله وإظهار الخشوع واللجا إليه. الثاني أن المراد بالذكر الصلاة أي صلوا قياما حال اشتغالكم بالمسايفة والمقارعة، وقعودا جاثين على الركب حال اشتغالكم بالرمي، وعلى جنوبكم مثخنين بالجراح. وأورد على هذا القول أن الذكر بمعنى الصلاة مجاز وأن المعنى يصير حينئذ: فإذا قضيتم الصلاة فصلوا وفيه بعد اللهم إلّا أن يقال: المراد فإذا أردتم قضاء الصلاة فصلوا في
واعلم أن الآية مسبوقة بحكمين: أحدهما بيان القصر في صلاة المسافر والثاني بيان صلاة الخوف. فقوله: فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ يحتمل أن يراد به فإذا صرتم مقيمين فأقيموا الصلاة تامة من غير قصر البتة، ويحتمل أن يراد فإذا زال الخوف وحصل سكون القلب فأقيموا الصلاة التي كنتم تعرفونها من غير تغيير شيء من هيئاتها إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً أي مكتوبة موقوتة محدودة بأوقات لا يجوز إخراجها عنها ولو في شدة الخوف، وفيه دليل للشافعي في إيجابه الصلاة على المحارب في حال المسايفة والاضطراب في المعركة إذا حضر وقتها. وعند أبي حنيفة هو معذور في تركها إلى أن يطمئن. وأوقات الصلاة الخمس مشهورة وقد يستدل عليها بقوله: حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى [البقرة: ٢٣٨] فإن الوسطى يجب أن تكون مغايرة للصلوات لئلا يلزم التكرار فهي زائدة على الثلاث، ولو كان الواجب أربعا لم يوجد لها وسطى فإذا أقلها خمس وسيجيء آيات أخر دالة على الأوقات الخمس كقوله: وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ [هود: ١١٤] أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ [الإسراء: ٧٨] وسنشرحها إن شاء الله تعالى في مواضعها. قال المحققون: إن للإنسان خمس مراتب: سن النمو إلى تمام سن الشباب، وسن الوقوف وهو أن يبقى ذلك الشخص على صفة كماله من غير زيادة ولا نقصان، وسن الكهولة ويظهر فيها نقصان خفي في الإنسان، وسن الشيخوخة ويظهر فيها نقصانات جلية فيه إلى أن يموت ويهلك. وأما المرتبة الخامسة فهي أخباره وآثاره إلى أن يندرس وينطمس ويصير كأن لم يكن، وكذا الشمس إذا ظهر سلطانها من المشرق لا يزال يزداد ضياؤها إلى طلوع جرمها، ثم يزداد ارتفاعها شيئا بعد شيء إلى أن يبلغ وسط السماء، ثم يظهر فيها نقصانات خفية من الانحطاط وضعف النور والحر إلى وقت العصر حين يصير ظل كل شيء مثله، ثم تظهر النقصانات الجلية إلى أن يصير في زمان لطيف ظل كل شيء مثليه، ثم أزيد إلى أن تغرب، ثم يبقى أثرها في أفق المغرب وهو الشفق، ثم ينمحي حتى يصير كأن الشمس لم توجد قط. فهذه الأحوال الخمس أمور عجيبة لا يقدر عليها إلّا خالقها وخالق جميع الأشياء، وموافقة لأسنان الإنسان فلهذا تعينت أوقاتها للعبادة والإقبال على المعبود الحق تعالى جده. ثم عاد إلى الحث على الجهاد فقال: وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ لا تضعفوا في طلب الكفار بالقتال والتعرض لهم بما يقلقهم. ثم ألزمهم الحجة بقوله: إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ والمعنى أن حصول الألم قدر مشترك بينكم وبينهم ولكم مع ذلك رجاء الثواب على الجهاد دونهم لأنهم ينكرون المعاد فأنتم أولى بالصبر على القتال
قال أكثر المفسرين: إن رجلا من الأنصار- يقال له طعمة بن أبيرق أحد بني ظفر بن الحرث- سرق درعا من جار له- يقال له قتادة بن النعمان- وجرابا فيه دقيق، فجعل الدقيق ينتثر من خرق في الجراب حتى انتهى إلى الدار وفيها أثر الدقيق، ثم خبأها عند رجل من اليهود- يقال له زيد بن السمين- فالتمست الدرع عند طعمة فلم توجد عنده وحلف لهم والله ما أخذها وما له بها من علم فتركوه واتبعوا أثر الدقيق حتى انتهى إلى منزل اليهودي فأخذوها فقال: دفعها إلى طعمة وشهد له ناس من اليهود. فقالت بنو ظفر: انطلقوا بنا إلى رسول الله ﷺ فكلموه في ذلك وسألوه أن يجادل عن صاحبهم وقالوا: إنك إن لم تفعل هلك صاحبنا وافتضح وبرىء اليهودي. فَهَمَّ رسول الله ﷺ أن يفعل وكان هواه ﷺ معهم وأن يعاقب اليهودي.
وقيل: همَّ أن يقطع يده فأنزل الله تعالى: إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ الآيات إلى قوله: وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيداً وفي الآية دليل على أن طعمة وقومه كانوا منافقين وإلا لما طلبوا من الرسول ﷺ نصرة الباطل وإلحاق السرقة باليهودي. قال أبو علي: قوله: بِما أَراكَ اللَّهُ ليس منقولا بالهمزة من رؤية البصر لأن حكم الحادثة لا يرى بالبصر ولا من رؤية القلب وإلا لاقتضى ثلاثة مفاعيل وليس في الآية إلا اثنان: أحدهما الكاف والآخر الضمير العائد المحذوف فهو إذن بمعنى الاعتقاد معناه بما علمك الله. وسمى ذلك العلم بالرؤية لأن العلم اليقيني المبرأ عن جهات الريب يكون جاريا مجرى الرؤية في القوة والظهور، وكان عمر يقول: لا يقولن أحدكم قضيت بما أراني الله فإن الله لم يجعل ذلك إلا لنبيه والرأي منا ظن وتكلف. قال بعض العلماء: في الآية دلالة على أنه ما كان يحكم إلا بالوحي والنص، وأن الاجتهاد ما كان جائزا له ﷺ وحينئذ يجب أن يكون حال الأمة كذلك لقوله: فَاتَّبِعُوهُ [الأنعام: ١٥٣] وأجيب بأن العمل بالقياس عمل بالنص أيضا وكأنه تعالى قال: مهما غلب على ظنك أن حكم الصورة المسكوت عنها مثل حكم الصورة المنصوص عليها بسبب أمر
وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ
يعني طعمة ومن عاونه من قومه ممن علموا كونه سارقا. والاختيان كالخيانة يقال: خانه واختانه، والعاصي خائن نفسه لأنه يحرم نفسه الثواب ويوصلها إلى العقاب. إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً أَثِيماً
قال المفسرون: إن طعمة خان في الدرع وأثم في نسبة اليهودي إلى تلك السرقة. وإنما ورد البناءان على المبالغة والعموم ليتناول طعمة وكل من خان خيانة فلا تخاصم لخائن قط ولا تجادل عنه لأن الله لا يحبه. وأيضا كان الله عالما من طعمة بالإفراط في الخيانة وركوب الإثم.
وروي أنه هرب إلى مكة وارتد ونقب حائطا بمكة ليسرق أهله فسقط الحائط عليه فقتله، ومن كانت تلك خاتمة أمره لا يشك في حاله.
وقالت العقلاء: إذا عثرت من رجل على سيئة فاعلم أن لها أخوات. وعن عمر أنه أمر بقطع يد سارق فجاءت أمه تبكي وتقول: هذه أول سرقة سرقها فاعف عنه. فقال: كذبت إن الله لا يؤاخذ عبده في أول مرة. وفي الآية دليل على أن من كان قليل الخيانة والإثم لم يكن في معرض السخط من الله. يَسْتَخْفُونَ
يستترون من الناس حياء منهم وخوفا من ضررهم وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ
أي لا يستحيون منه لأن الاستخفاء لازم الاستحياء وهو معهم بالعلم والقدرة والرؤية وكفى هذا زاجرا للإنسان عن المعاصي. إِذْ يُبَيِّتُونَ
يدبرون ما لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ
وهو تدبير طعمة أن يرمي بالدرع في دار زيد ليسرق دونه ويحلف ببراءته وتسمية التدبير وهو معنى في النفس قولا ليس فيها إشكال عند القائلين بالكلام النفسي، وأما عند غيرهم فمجاز، أو لعلهم اجتمعوا في الليل ورتبوا كيفية المكر فسمى الله تعالى كلامهم ذلك بالقول المبيت الذي لا يرضاه الله، أو المراد بالقول الحلف الكاذب الذي حلف به بعد أن بيته ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ
ها للتنبيه في أنتم
جملة موضحة للأولى كما يقال للسخي:
أنت حاتم تجود بمالك. أو المراد أنتم الذين جادلتم والخطاب لقوم مؤمنين كانوا يذبون عن طعمة وقومه لأنهم في الظاهر مسلمون. والمعنى: هبوا أنكم خاصمتم عن طعمة وقومه في الدنيا فمن الذي يخاصم عنهم في الآخرة إذا أخذهم الله بعذابه أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا
حافظا ومحاميا عن عذاب الله. وهذا الاستفهام معطوف على الأول وكلاهما للإنكار والتقريع.
ثم أردف الوعيد بذكر التوبة فقال: وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً
قبيحا متعديا يسوء به غيره كما فعل طعمة بقتادة واليهودي أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ
بما يجازي به كالحلف الكاذب. وإنما خص ما يتعدى إلى الغير باسم السوء لأن إيصال الضرر إلى الغير سوء حاضر بخلاف الذي يعود وباله إلى فاعله فإن ذلك في الأكثر لا يكون ضررا عاجلا، لأن الإنسان لا يوصل الضرر إلى نفسه. وقد يستدل بإطلاق الآية على أن التوبة مقبولة عن جميع الذنوب وإن كان كفرا أو قتلا عمدا أو غصبا للأموال، بل على أن مجرد الاستغفار كاف. وعن بعضهم أن الاستغفار لا ينفع مع الإصرار فلابد من اقترانه بالتوبة يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً
أي له فحذف هذا الرابط لدلالة الكلام عليه لأنه لا معنى للترغيب في الاستغفار إلا إذا كان المراد ذلك. وقيل: ومن يعمل سوءا من ذنب دون الشرك أو يظلم نفسه بالشرك، وهذا بعث لطعمة على الاستغفار والتوبة لتلزمه الحجة مع العلم بما يكون منه، أو بعث لقومه لما فرط منهم من نصرته والذب عنه. وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً
لكسب عبارة عما يفيد جر منفعة أو دفع مضرة ولذلك لم يجز وصف الباري تعالى بذلك. والمقصود منه ترغيب العاصي في الاستغفار وكأنه قال: الذنب الذي أتيت به إنما يعود وباله وضرره إليك لا إليّ فإني منزه عن النفع والضر، ولا تيأس من قبول التوبة.
وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً
تقتضي حكمته أن يتجاوز عن التائب ما علمه منه. وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً
صغيرة وَإِثْماً
كبيرة وقيل: الخطيئة الذنب القاصر على فاعله والإثم هو الذنب المتعدي إلى الغير كالظلم والقتل. وقيل الخطيئة ما لا ينبغي فعله سواء كان بالعمد أو الخطأ، والإثم ما حصل بسبب العمد. ثُمَّ يَرْمِ بِهِ
أي بأحد المذكورين أو بالإثم أو بذلك الذنب لأن الخطيئة في معنى الذنب، أو بذلك الكسب بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً
لأنه بكسب الإثم أثيم وبرمي البريء باهت فهو جامع بين الأمرين، فلا جرم يلحقه الذم في الدارين. وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ
ولولا أن خصك الله الفضل وهو النبوة وبالرحمة وهي العصمة لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ
من بني ظفر أو طائفة من الناس والطائفة بنو ظفر أَنْ يُضِلُّوكَ
عن القضاء الحق والحكم العدل وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ
بسبب تعاونهم على
لأنك إنما عملت بظاهر الحال وما أمرت الأنبياء إلا بالأحكام على الظواهر، أو هو وعد بإدامة العصمة له مما يريدون في الاستقبال من إيقاعه في الباطل. ثم أكد الوعيد بقوله:
وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ
أي إنه لما أمرك بتبليغ الشريعة إلى الخلق فكيف يليق بحكمته أن لا يعصمك عن الوقوع في الشبهات والضلالات؟ وعلى الأول يكون المراد أنه أوجب في الكتاب والحكمة بناء أحكام الشرع على الظاهر فكيف يضرك بناء الأمر عليه وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ
من أخبار الأولين. فيه معنيان: أحدهما أن يكون كما قال: ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ [الشورى: ٥٢] أي أنزل الله عليك الكتاب والحكمة وأطلعك على أسرارهما وأوقفك على حقائقهما مع أنك ما كنت قبل ذلك عالما بشيء منهما، فكذلك يفعل بك في مستأنف أيامك حتى لا يقدر أحد من المنافقين على إضلالك.
الثاني أن يكون المراد منها خفيات الأمور وضمائر القلوب أي علمك ما لم تكن تعلم من أخبار الأولين، فكذلك يعلمك من حيل المنافقين ووجوه مكايدهم ما تقدر على الاحتراز منهم وَكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً
فيه دليل ظاهر على شرف العلم حيث سماه عظيما وسمى متاع الدنيا بأسرها قليلا.
التأويل:
الصلاة صورة جذبة الحق ومعراج العبد فلهذا فرضت في الخوف والأمن وشدة القتال والسفر والحضر والصحة والمرض ليكون العبد مجذوب العناية على الدوام وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ أي أدمتها لهم لأن النظر إليك عبادة كما أن الصلاة عبادة، وكما أن الصلاة تنهي عن الفحشاء والمنكر فإنك تنهاهم عن الفحشاء والمنكر فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ هم الخواص مِنْهُمْ أي من عوامهم مَعَكَ أي مع الله لأنك مع الله كقوله: لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا [التوبة: ٤٠] وَلْيَأْخُذُوا يعني طائفة من بقية القوم أَسْلِحَتَهُمْ من الطاعات والعبادات دفعا لعدو النفس والشيطان فَإِذا سَجَدُوا يعني من معك ونزّلوا مقامات القرب فَلْيَكُونُوا أي هؤلاء القوم مِنْ وَرائِكُمْ في المرتبة والمقام والمتابعة يحفظونكم باشتغالهم بالأمور الدنيوية لحوائجكم الضرورية للإنسان. وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ في الصحبة فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ في الوصلة وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وهو آداب الطريقة وَأَسْلِحَتَهُمْ وهي أركان الشريعة وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا هم عدوّ النفس وصفاتها إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ يعني أشغال الدنيا وضروريات حوائج الإنسان يمطر عليكم في بعض الأوقات أن تضعوا أسلحة الطاعة والأركان ساعة فساعة. وَخُذُوا حِذْرَكُمْ من التوجه إلى الحق ومراقبة الأحوال وحفظ القلب وحضوره مع الله وخلو السر
[سورة النساء (٤) : الآيات ١١٤ الى ١٢٦]
لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (١١٤) وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً (١١٥) إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً (١١٦) إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ إِناثاً وَإِنْ يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطاناً مَرِيداً (١١٧) لَعَنَهُ اللَّهُ وَقالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (١١٨)
وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً (١١٩) يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاَّ غُرُوراً (١٢٠) أُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَلا يَجِدُونَ عَنْها مَحِيصاً (١٢١) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً (١٢٢) لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (١٢٣)
وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً (١٢٤) وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً (١٢٥) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً (١٢٦)
يؤتيه بالياء: أبو عمرو وحمزة وخلف وقتيبة وسهل. الباقون بالنون.
نُوَلِّهِ وَنُصْلِهِ مثل يُؤَدِّهِ [آل عمران: ٧٥]. يَدْخُلُونَ بضم الياء وفتح الخاء وكذلك في «مريم» و «حم المؤمن» : أبو عمرو وسهل ويعقوب وابن كثير ويزيد وأبو بكر وحماد. الآخرون بالعكس. إبراهام وما بعده في هذه السورة: هشام وكذلك روى الموصلي عن الأخفش عن ابن ذكوان.
الوقوف:
بَيْنَ النَّاسِ ط عَظِيماً هـ جَهَنَّمَ ط مَصِيراً هـ لِمَنْ يَشاءُ ط بَعِيداً هـ إِناثاً ج لابتداء النفي مع واو العطف. مَرِيداً لا لأن ما بعده صفة له.
لَعَنَهُ اللَّهُ م لأنّ قوله: وَقالَ غير معطوف على لَعَنَهُ. مَفْرُوضاً هـ لا للعطف خَلْقَ اللَّهِ ط مُبِيناً ط كيلا يصير يَعِدُهُمْ وصفا للخسران. وَيُمَنِّيهِمْ ط غُرُوراً هـ مَحِيصاً هـ أَبَداً ط حَقًّا ط قِيلًا هـ الْكِتابِ ط يجز به لا للعطف. نَصِيراً هـ نَقِيراً هـ حَنِيفاً ط خَلِيلًا هـ وَما فِي الْأَرْضِ ط مُحِيطاً هـ.
التفسير:
ثم أشار إلى ما كانوا يتناجون به حيث يبيتون ما لا يرضى من القول.
والنجوى سر بين اثنين وكذا النجو يقال: نجوته نجوا أي ساررته وكذلك ناجيته. قال الفراء: قد تكون النجوى اسما ومصدرا، والآية وإن نزلت في مناجاة بعض قوم ذلك السارق بعضا إلّا أنها في المعنى عامة. والمراد أنه لا خير فيما يتناجى به الناس ويخوضون فيه من الحديث. إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ وفي محل «من» وجوه مبنية على معنى النجوى. فإن كان النجوى السر جاز أن يكون «من» في موضع النصب لأنه استثناء الشيء من خلاف جنسه كقوله إلّا أواريّ ومعناه لكن من أمر بصدقة ففي نجواه الخير، أو في موضع الرفع كقوله:
إلّا اليعافير وإلّا العيس. وأبو عبيد جعل هذا من باب حذف المضاف معناه إلّا نجوى من أمر على أنه مجرور بدل من كثير كما تقول: لا خير في قيامهم إلّا قيام زيد أي في قيامه، وعلى هذا يكون الاستثناء من جنسه. وإن كان النجوى بمعنى ذوي نجوى كقوله: وَإِذْ هُمْ نَجْوى [الإسراء: ٤٧] كان محله أيضا مجرورا من كَثِيرٍ أو من نجوى كما لو قلت: لا خير في جماعة من القوم إلّا زيد إن شئت أتبعت زيدا الجماعة وإن شئت أتبعته القوم. وإنما قال: لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مع أنه يصدق الحكم كليا بدليل
قوله صلى الله عليه وسلم: «كلام ابن آدم كله عليه
أو ذكر الله استجلابا للقلوب وليكون أدخل في الاعتراف به، وليخرج عنه الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه. واعلم أن قول الخير إما أن يتعلق بإيصال المنفعة أو بدفع المضرة، والأول إن كان من الخيرات الجسمانية فهو الأمر بالصدقة، وإن كان من الخيرات الروحانية بتكميل القوة النظرية أو العملية فهو الأمر بالمعروف. والثاني هو الإصلاح بين الناس فثبت أن الآية مشتملة على جوامع الخيرات ومكارم الأخلاق، وهذه الأوامر وإن كانت مستحسنة في الظاهر إلّا أنها لا تقع في حيّز القبول إلّا إذا عمل صاحبها بما أمر كيلا يكون من زمرة أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ [البقرة: ٤٤] لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ [الصف: ١] وإلّا إذا طلب بها وجه الله فلهذا قال: وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً ويمكن أن يقال:
إنّ معنى وَمَنْ يَفْعَلْ الأمر والمراد أو؟؟؟ من يأمر فعبر عن الأمر بالفعل لأنّ الأمر فعل من الأفعال. والمراد بقوله: مَنْ أَمَرَ من فعل لأنّ الأمر يلزمه الفعل غالبا. ثم قال: وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ قال الزجاج: إنّ طعمة كان قد تبيّن له بما أظهر الله من أمره ما دلّه على صحة نبوة محمد ﷺ فعادى الرسول وأظهر الخلاف وارتد على عقبيه واتبع دين عبادة الأوثان وهو غير دين الموحدين وسبيلهم. ومعنى نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى نجعله واليا لما اختاره لنفسه ونكله إلى ما توكل عليه. قال بعض الأئمة: هذا منسوخ بآية السيف ولا سيما في حق المرتد. والظاهر أن المراد به الطبع والخذلان وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ نلزمه إياها وَساءَتْ مَصِيراً هي. وانتصب مَصِيراً على التمييز من الضمير المبهم في ساءت لأنه يعود إلى ما في الذهن لا إلى المذكور. يحكى أنّ الشافعي سئل عن آية في كتاب الله دالّة على أن الإجماع حجة، فقرأ القرآن ثلاثمائة مرة حتى وقف على هذه الآية. ووجه الاستدلال أن اتباع غير سبيل المؤمنين حرام لأنه تعالى جمع بين اتباع غير سبيلهم وبين مشاقة الرسول ورتب الوعيد عليهما، واتباع غير سبيل المؤمنين يلزمه عدم اتباع سبيل المؤمنين لاستحالة الجمع بين الضدين أو النقيضين. فعدم اتباع سبيل المؤمنين حرام فاتباع سبيلهم واجب كموالاة الرسول. وفي الآية دلالة على وجوب عصمة النبي ﷺ وعلى وجوب الاقتداء بأقواله وأفعاله وإلّا وجب المشاقة في بعض من الأمور وهي منهي عنها في الكل. قيل: في الآية دلالة على أنه لا يمكن تصحيح الدين إلّا بالنظر والاستدلال لأنّ الهدى اسم للدليل لا للعلم إذ لا معنى لتبين العلم لكنه رتب الوعيد على المخالفة بعد تبيين الدليل فيكون تبيين الدليل معتبرا في صحة الدين. وأقول: الموقوف على النظر هو معرفة وجود الواجب لذاته وصحة نبوّة
لقصة طعمة وإشراكه بالله. وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيداً لأنّه لا أجلى من وجود الصانع ووحدته، والمطلوب كلما كان أجلى كان نقيضه أبعد. ثم أوضح هذا المعنى بقوله سبحانه: إِنْ يَدْعُونَ أي ما يعبدون مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِناثاً أي أوثانا وكانوا يسمونها بأسماء الإناث كاللات والعزى، فاللات تأنيث الله، والعزى تأنيث الأعز. قال الحسن: لم يكن حي من أحياء العرب إلّا ولهم صنم يعبدونه ويسمونه أنثى بني فلان ويؤيده قراءة عائشة إلّا أوثانا وقراءة ابن عباس إلّا أثنا جمع وثن مثل أسد وأسد إلّا أن الواو أبدلت همزة كأجوه. وقيل: المراد إلّا أمواتا لأنّ الإخبار عن الأموات يكون كالإخبار عن الإناث.
تقول: هذه الأحجار أعجبتني كما تقول هذه المرأة أعجبتني، ولأن الأنثى أخس من الذكر والميت أخس من الحي. وقيل: كانوا يقولون في أصنامهم هنّ بنات الله. وقيل: إنّ بعضهم كان يعبد الملائكة ويقولون الملائكة بنات الله. وَإِنْ يَدْعُونَ ما يعبدون بعبادة الأصنام إِلَّا شَيْطاناً مَرِيداً بالغا في العصيان مجردا عن الطاعة. يقال: شجرة مرداء إذا تناثر ورقها، والأمرد ذلك الذي لم تنبت له لحية. قال المفسرون: كان في كل واحدة من تلك الأوثان شيطان يتراءى للسدنة يكلمهم. وقالت المعتزلة: جعلت طاعتهم للشيطان عبادة له لأنه هو الذي أغراهم على عبادتها فأطاعوه. والظاهر أنّ المراد بالشيطان هاهنا هو إبليس لأنه وصف بقوله: لَعَنَهُ اللَّهُ وَقالَ لَأَتَّخِذَنَّ وهو جواب قسم محذوف أي شيطانا جامعا بين لعنة الله إياه وبين هذا القول الشنيع وهو الإخبار عن الاتخاذ مؤكدا بالقسم. ويمكن أن يقال: المراد بلعنة الله ما استحق به اللعن من استكباره عن السجود كقولهم: أبيت اللعن أي لا فعلت ما تستحقه به. ومعنى نَصِيباً مَفْرُوضاً حظا مقطوعا واجبا فرضته لنفسي وأصل الفرض القطع ومنه الفريضة لأنه قاطع الأعذار وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً [البقرة: ٢٣٧] جعلتم لهن قطعة من المال. وفرض الجندي رزقه المقطوع المعين. قال الحسن: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون وذلك لما
روي عن أبي سعيد الخدري عن النبي ﷺ قال: يقول الله تعالى: «يا آدم فيقول لبيك وسعديك والخير بيديك. قال: أخرج بعث النار. قال:
وما بعث النار؟ قال: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون» «١» الحديث.
وهاهنا سؤال وهو أن حزب الشيطان وهم الذين يتبعون خطواته من الكفار والفساق لما كانوا أكثر من حزب الله
قالت المعتزلة: فيه دلالة على أصلين من أصولنا: الأول أنّ المضل هو الشيطان دون الله، والثاني أنّ الإضلال ليس عبارة عن خلق الكفر والضلال فإنّ الشيطان بالاتفاق لا يقدر على ذلك. وأجيب بأنّ هذا كلام إبليس فلا يكون حجة على أنّ كلامه في هذه المسألة مضطرب جدا فتارة يميل إلى القدر المحض وهو قوله: لَأُضِلَّنَّهُمْ لَأُغْوِيَنَّهُمْ [ص: ٨٢] وأخرى إلى الجبر المحض كقوله: رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي [الأعراف: ١٦] وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ الأماني الباطلة من طول الأعمار وبلوغ الآمال واقتحام الأهوال وانتظام الأحوال فلا يكاد يقدم على التوبة والإقبال على تهيئة زاد الآخرة حتى يصير قلبه كالحجارة أو أشد قسوة.
وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ البتك القطع، وسيف باتك أي صارم، والتبتيك التقطيع شدّد للكثرة. وجمهور المفسرين على أنّ المراد به هاهنا قطع آذان البحائر كانوا يشقون أذن الناقة إذا ولدت خمسة أبطن إذا جاء الخامس ذكرا وحرموا على أنفسهم الانتفاع بها ويسمونها بحيرة. وقال بعضهم: كانوا يقطعون آذان الأنعام نسكا في عبادة الأوثان فهم يظنون أن ذلك عبادة مع أنه في نفسه كفر وفسق. قوله: فَلَيُبَتِّكُنَّ صيغة غابر للغائبين واللام لجواب قسم آخر أي فو الله ليبتكن وأصله ليبتكون، فلما دخلت النون الثقيلة سقطت نون الرفع ولتوالي الأمثال وواو الجمع لالتقاء الساكنين واكتفى بالضمة، والفاء للتسبيب والإيذان بتلازم ما قبلها وما بعدها والجملة كالتفسير لقوله: وَلَآمُرَنَّهُمْ ومثله في الإعراب قوله: وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ والمراد من التغيير إما المعنوي وإما الحسي. فمن الأول قول سعيد بن المسيب وسعيد بن جبير والحسن والضحاك ومجاهد والنخعي وقتادة والسدي أنه تغيير دين الله بتبديل الحرام حلالا وبالعكس، أو بإبطال الاستعداد الفطري فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها [الروم: ٣٠]
«كل مولود يولد على الفطرة».
ومن الثاني قول الحسن المراد ما
روى ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم: «لعن الله الواشمات والواشرات والمتنمصات» «١»
وذلك أنّ المرأة تتوصل بهذه الأفعال إلى الزنا. أما وشم اليد فهو أن
ابن ماجه في كتاب النكاح باب ٥٢. الدارمي في كتاب الاستئذان باب ١٩. أحمد في مسنده (١/ ٨٣، ٨٧)، (٦/ ٢٥٠).
لَأُضِلَّنَّهُمْ ثم فصل ذلك بقوله: وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وهو الضرر من جنس التشويش لأن صاحب الأماني يتشوّش فكره في استخراج الحيل الدقيقة والوسائل اللطيفة في تحصيل مطالبه الشهوية والغضبية والشيطانية. وقوله: وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ إشارة إلى الضرر بالنقصان لأنّ الإنسان إذا صار مستغرق العقل في طلب الدنيا صار فاتر الرأي ضعيف العزم في طلب الآخرة. وقوله: وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ إشارة إلى البطلان لأن من بقي مواظبا على طلب اللذات العاجلة معرضا عن السعادات الباقية فلا يزال يتزايد ميله وركونه إلى الدنيا حتى يتغير قلبه بالكلية ولا يخطر بباله ذكر الآخرة. وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ بأن فعل ما أمره الشيطان به وترك ما أمره الرحمن به فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً إذ فاته أشرف المطالب بسبب الاشتغال بأخسها. والسبب فيه أنّ الشيطان يعدهم ويمنيهم فيقول للشخص إنه سيطول عمره وينال من الدنيا مقصوده ويستولي على أعدائه ويوقع في قلبه أن الدنيا دول فربما تيسرت لي كما تيسرت لغيري وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً لأنه ربما لم يطل عمره، وإن طال فربما لم يجد مطلوبه، وإن طال عمره ونال مأموله على أحسن الوجوه فلا بد أن يكون عند الموت في أشد حسرة وأبلغ حيرة لأنّ المطلوب كلما كان ألذ وأشهى وكان الإلف معه أدوم وأبقى كانت مفارقته آلم وأنكى.
وأيضا لعل الشيطان يعدهم أنه لا قيامة ولا حساب ولا جزاء ولا عقاب فاجتهدوا في استيفاء اللذات العاجلة واغتنموا فرصة الحياة الزائلة فلذلك قيل: أُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَلا يَجِدُونَ عَنْها مَحِيصاً مفرا ومعدلا وله معنيان: أحدهما لا بدّ لهم من ورودها، والثاني التخليد بمعنى الدوام للكفار أو طول المكث للفساق.
وقيل: الخطاب في: بِأَمانِيِّكُمْ لعبدة الأوثان، وأمانيهم أن لا يكون حشر ولا نشر ولا معاد ولا عقاب وإن اعترفوا به لكنهم يصفون أصنامهم بأنها شفعاؤهم عند الله. وقيل: الخطاب للمسلمين وأمانيهم أن يغفر لهم وإن ارتكبوا الكبائر، وأما أماني أهل الكتاب فقولهم:
لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى [البقرة: ١١١] نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ [المائدة: ١٨] ولَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً [البقرة: ٨٠] واسم «ليس» مضمر فقيل:
أي ليس وضع الدين على أمانيكم. وقيل: ليس الثواب الذي تقدم الوعد به في قوله:
سَنُدْخِلُهُمْ. وعن الحسن ليس الإيمان بالتمني ولكن ما وقر في القلب أي أثر فيه وصدقه العمل، إن قوما ألهتهم أماني المغفرة حتى خرجوا من الدنيا ولا حسنة لهم وقالوا: نحن نحسن الظن بالله وكذبوا لو أحسنوا الظن به لأحسنوا العمل. ويؤيد هذا المعنى قوله بيانا للمذكور: مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً فمن هنا استدلت المعتزلة بالآية على القطع بوعيد الفساق ونفي الشفاعة، وأجيب بأنه مخصوص بالكفار لأنهم مخاطبون بالفروع عندنا. سلمنا أنه يعم المؤمن والكافر إلّا أنه مخصوص في حق
روي أنه لما نزلت الآية قال أبو بكر: كيف الصلاح بعد هذه الآية؟ فقال صلى الله عليه وسلم: غفر الله لك يا أبابكر ألست تمرض أليس يصيبك اللأواء؟ فهو ما تجزون. عن عائشة أن رجلا قرأ هذه الآية فقال: أنجزي بكل ما نعمل لقد هلكنا. فبلغ النبي ﷺ كلامه فقال: يجزي المؤمن في الدنيا بمصيبة في جسده وبما يؤذيه.
وعن أبي هريرة لما نزلت الآية بكينا وحزنا وقلنا: يا رسول الله ما أبقت هذه الآية لنا شيئا، فقال صلى الله عليه وسلم: أبشروا فإنه لا يصيب أحدا منكم مصيبة في الدنيا إلّا جعلها الله له كفارة حتى الشوكة التي تقع في قدمه،
سلمنا أن الجزاء إنما يصل إليه في الآخرة لكنه
روي عن ابن عباس أنه لما نزلت الآية شقت على المسلمين وقالوا: يا رسول الله وأينا لم يعمل سوءا فكيف الجزاء؟ فقال صلى الله عليه وسلم: إنه تعالى وعد على الطاعة عشر حسنات، وعلى المعصية الواحدة عقوبة واحدة، فمن جوزي بالسيئة نقصت واحدة من عشرة وبقيت له تسع حسنات، فويل لمن غلبت آحاده أعشاره.
وأيضا المؤمن الذي أطاع الله سبعين سنة ثم شرب قطرة من الخمر فهو مؤمن قد عمل الصالحات فوجب القطع بأنه يدخل الجنة. قالوا: إن صاحب الكبيرة غير مؤمن، وأجيب بنحو قوله: وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا [الحجرات: ٩] أما حديث نفي الشفاعة فإذا كانت شفاعة الملائكة والأنبياء بإذن الله صدق أنه لا ولي لأحد ولا نصيرا إلّا الله. قال في الكشاف: «من» في قوله: مِنَ الصَّالِحاتِ للتبعيض أراد ومن يعمل بعض الصالحات لأن كلّا لا يتمكن من كل الصالحات لاختلاف الأحوال، وإنما يعمل منها ما هو في وسعه، وكم من مكلف لا حج عليه ولا جهاد ولا زكاة ولا صلاة في بعض الأحوال.
ومن في قوله: مِنْ ذَكَرٍ لتبيين الإبهام في: مَنْ يَعْمَلْ والضمير في: لا يُظْلَمُونَ عائد إلى عمال السوء وعمال الصالحات جميعا، أو يعود إلى الصالحين فقط. وذكره عند أحد الفريقين يغني عن ذكره عند الآخر والمسيء مستغن عن هذا القيد، فمن المعلوم أن أرحم الراحمين لا يزيد في عقابه وأما نقصان الفضل في الثواب كان محتملا فأزيل ذلك الوهم، ثم بين فضل الإيمان المشروط به الفوز بالجنة فقال: وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً وبيان الفضل من وجهين:
الأول أنه الدين المشتمل على إظهار كمال العبودية والانقياد لله وإليه الإشارة بقوله:
أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وهو راجع إلى الاعتقاد الحق وعلى إظهار كمال الطاعة وحسن العمل والإخلاص وإليه الإشارة بقوله: وَهُوَ مُحْسِنٌ وهو عائد إلى فعل الخيرات وترك المنكرات بصفاء النيات وخلوص الطويات. وفيه تنبيه على أن كمال الإيمان لا يحصل إلّا
وقد قال صلى الله عليه وسلم: «تخلفوا بأخلاق الله»
فلما بلغ إبراهيم عليه السلام في مكارم الأخلاق مبلغا لم يبلغه من تقدمه فلا جرم استحق اسم الخليل. وقيل: الخليل الذي يسايرك في طريقك من الخل وهو الطريق في الرمل، فلما كان إبراهيم منقادا لكل ما أمر به مجتنبا عن كل ما نهى عنه فكأنه ساير ووافق أوامر الله تعالى ونواهيه فاستحق اسم الخليل لذلك. هذا من جهة الاشتقاق، وأما من قبل أسباب النزول
فعن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا جبريل بم اتخذ الله إبراهيم خليلا؟ قال: لإطعامه الطعام يا محمد.
وقال عبد الله بن عبد الرحمن بن أبزي: دخل إبراهيم فجأة فرأى ملك الموت في صورة شاب لا يعرفه، فقال إبراهيم عليه السلام: بإذن من دخلت؟ فقال: بإذن رب المنزل. فعرفه إبراهيم عليه السلام. فقال له ملك الموت: إن ربك اتخذ من عباده خليلا. قال إبراهيم: ومن ذلك؟ قال: وما تصنع به؟ قال: أكون خادما له حتى أموت. قال: فإنه أنت.
وقال الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس: أصاب الناس سنة جهدوا فيها فحشدوا إلى باب إبراهيم يطلبون الطعام، وكانت الميرة له كل سنة من صديق له بمصر، فبعث غلمانه بالإبل إلى خليله بمصر يسأله الميرة، فقال خليله: لو كان إبراهيم إنما يريده لنفسه احتملنا ذلك له ولكنه يريد للأضياف وقد دخل علينا ما دخل على الناس من الشدة، فرجع رسل إبراهيم فمروا ببطحاء فقالوا: لو أنا احتملنا من هذه البطحاء ليرى الناس أنا قد جئنا بميرة إنا لنستحي أن نمرّ بهم وإبلنا فارغة، فملؤا تلك الغرائر. ثم إنهم أتوا إبراهيم وسارة نائمة فأعلموه ذلك فاهتم إبراهيم لمكان الناس فغلبته عيناه فنام واستيقظت
فقالت: من عند خليلك المصري. فقال: هذا من عند خليلي الله فيومئذ اتخذه الله خليلا.
وقال شهر بن حوشب: هبط ملك في صورة رجل وذكر اسم الله بصوت رخيم شج. فقال إبراهيم: اذكره مرة أخرى. فقال: لا أذكره مجانا. فقال: لك مالي كله. فذكره الملك بصوت أشجى من الأول. فقال: اذكره مرة ثالثة ولك أولادي. فقال الملك: أبشر فإني ملك لا أحتاج إلى مالك وولدك وإنما كان المقصود امتحانك. فلما بذل المال والأولاد على سماع ذكر الله فلا جرم اتخذه الله خليلا.
وروى طاوس عن ابن عباس أن جبريل والملائكة لما دخلوا على إبراهيم في صورة غلمان حسان الوجوه، فظن الخليل أنهم أضيافه وذبح لهم عجلا سمينا وقربه إليهم وقال: كلوا على شرط أن تسموا الله في أوله وتحمدوه في آخره.
فقال جبريل: أنت خليل الله.
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اتخذ الله إبراهيم خليلا وموسى نجيا واتخذني حبيبا. ثم قال: وعزتي لأوثرن حبيبي على خليلي ونجيي».
قلت: وذكرت الفرق بين الخليل والحبيب في سورة البقرة في تفسير قوله: إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ [البقرة:
١٣١] فتذكر، قال في التفسير الكبير: إذا استنار جوهر الروح بالمعارف القدسية والجلايا الإلهية صار الإنسان متوغلا في عالم القدس فلا يرى إلا الله، ولا يسمع إلا الله، ولا يتحرك إلا لله، ولا يسكن إلا لله، فهذا الشخص يستحق أن يسمى خليل الله لما أن محبة الله ونوره تخللت في جميع قواه. قال بعض النصارى: إذا جاز إطلاق الخليل على إنسان تشريفا فلم لم يجز إطلاق الابن على آخر لمثل ذلك؟ والجواب أن الخلة لا تقتضي الجنسية بخلاف النبوة وإنه سبحانه متعال عن مجانسة المحدثات. ولهذا قال بعد ذلك: وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً ليعلم أنه لم يتخذ إبراهيم خليلا للمجانسة أو الاحتياج، ولكنه اصطفاه لمجرد الفضل والامتنان، وفيه أنه مع خلته لم يستنكف أن يكون عبدا له داخلا تحت ملكه وملكه، وفيه أن من كان في القهر والتسخير بهذه الحيثية وجب على كل عاقل أن يخضع لتكاليفه وينقاد لأوامره ونواهيه كما قال إبراهيم: أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ [البقرة: ١٣١] وأيضا إنه لما ذكر الوعد والوعيد وإنه لا يمكن الوفاء بهما إلّا بالقدرة التامة على جميع الممكنات والعلم الكامل الشامل لجميع الكليات والجزئيات أشار إلى الأول بقوله: وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وإلى الثاني بقوله: وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً وإنما قدم القدرة على العلم لأن الفعل بحدوثه يدل على القدرة وبما فيه من الإحكام والإتقان يدل على العلم، ولا ريب أن الاعتبار الأول مقدم على الثاني. وقال بعضهم: الإحاطة أيضا هاهنا بمعنى القدرة كقوله تعالى: وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قَدْ أَحاطَ
[الفتح: ٢١] ولا يلزم تكرار لأن الأول لا يدل إلا على مالك لكل ما في السموات والأرض قادر عليهما والثاني يفيد القدرة المطلقة على جميع الأشياء وإن فرضت خارج السموات والأرض، وعلى أن سلسلة القضاء والقدر في جميع الممكنات إنما تنقطع بإيجاده وتكوينه وإبداعه.
التأويل:
لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ من نجوى النفس والهوى والشيطان إلّا فيمن أمر بالخيرات وهو الله بالوحي وبالخواطر الرحمانية ثم خواص عباده. وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ أي يخالف الإلهام الرباني وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ بأن يتبع الهوى وتسويل النفس والشيطان. نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى نكلله بالخذلان إلى ما تولى. وَنُصْلِهِ بسلاسل معاملاته.
جَهَنَّمَ الصفات البهيمية والسبعية والشيطانية. إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ ولو كان مغفورا لم يشرك به وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ الآن فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيداً وهو الضلال بالإضلال الأزلي فافهم إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِناثاً صفات ذميمة يتولد منها الشرك وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطاناً مَرِيداً هي الدنيا كما
قال عليه السلام: «الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلّا ذكر الله وما والاه» «١»
والنصيب المفروض طائفة خلقهم الله أهلا للنار. وَلَأُضِلَّنَّهُمْ كذب عدو الله فإنه مزين وليس إليه من الضلالة شيء كما
قال صلى الله عليه وسلم: «بعثت مبلغا وليس إليّ من الهداية شيء» «٢»
وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وهو
قوله: «هؤلاء إلى الجنة ولا أبالي وهؤلاء في النار ولا أبالي».
لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ يعني عوام الخلق الذين يذنبون ولا يتوبون ويطمعون أن يغفر الله لهم وقد قال: وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً [طه: ٨٢] ووَ لا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ علماء السوء الذين يغرون العوام بالرجاء والطمع ويقطعون عليهم طريق الطلب والاجتهاد فليس من تمنى نعمته من غير أن يتعنى في خدمته كمن تعنى في خدمته من غير أن يتمنى نعمته. مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ في الحال بإظهار الرين على مرآة قلبه كما
قال صلى الله عليه وسلم: «إذا أذنب عبد ذنبا نكت في قلبه نكتة سوداء فإن تاب ورجع منه صقل» «٣»
وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا يخرجه من ظلمات المعصية إلى نور الطاعة والتوبة. وَلا نَصِيراً ينصره بالظفر على النفس الأمارة. مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى أي من قلب أو نفس.
(٢)
رواه أحمد في مسنده (٤/ ١٠١) بلفظ: «أنا مبلّغ والله يهدي».
[.....] (٣) رواه مسلم في كتاب الإيمان حديث ٢٣١. والترمذي في كتاب تفسير سورة ٨٣ باب ١. الموطأ في كتاب الكلام حديث ١٨. أحمد في مسنده (٥/ ٣٨٦).
قال: «أسلم شيطاني على يدي» «١»
ومن إسلام نفسه يقول يوم القيامة:
«أمتي أمتي»
حين يقول الأنبياء نفسي نفسي. وَهُوَ مُحْسِنٌ بمعنى أنه من أهل المشاهدة يعبد الله كأنه يراه بل يراه ولأنه أحسن خلقه العظيم إلى أن بلغ حد الكمال والختم. واتبع ملة إبراهيم بأن الله اتخذه خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا. قيل لمجنون بني عامر: ما اسمك؟ قال: ليلى.
وقيل لمحمد صلى الله عليه وسلم: ما اسمك؟ قال: الحبيب.
فكان محمد ﷺ حبيبا خليلا أي فقيرا من الخلة الحاجة لأنه افتقر بالكلية إلى الله في كل أحواله. والفرق بين مقام الخليل ومقام الحبيب أن الخليل اتخذ الآلهة عدوا في الله فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ [الشعراء: ٧٧] والحبيب اتخذ نفسه عدوا في الله وقال: ليت رب محمد لم يخلق محمدا وهذا مقام الفناء في الفناء بل البقاء بعد الفناء فلا جرم يقول بالرب عن الرب.
[سورة النساء (٤) : الآيات ١٢٧ الى ١٤١]
وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ اللاَّتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِهِ عَلِيماً (١٢٧) وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (١٢٨) وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (١٢٩) وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللَّهُ كُلاًّ مِنْ سَعَتِهِ وَكانَ اللَّهُ واسِعاً حَكِيماً (١٣٠) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيداً (١٣١)
وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (١٣٢) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكانَ اللَّهُ عَلى ذلِكَ قَدِيراً (١٣٣) مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً (١٣٤) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (١٣٥) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً (١٣٦)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً (١٣٧) بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٣٨) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً (١٣٩) وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً (١٤٠) الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ قالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً (١٤١)
يُصْلِحا من الإصلاح: عاصم وعلي وحمزة وخلف. الباقون.
يصالحا من التصالح وإدغام التاء في الصاد. إِنْ يَشَأْ حيث كان بغير همز: الأعشى وأوقيه وورش من طريق الأصفهاني وحمزة في الوقف. وإن تلوا بواو واحدة: ابن عامر وحمزة. الباقون بالواوين. نَزَّلَ وأَنْزَلَ كلاهما على ما لم يسم فاعله من التنزيل والإنزال: ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو والباقون: نَزَّلَ وأَنْزَلَ مبنيين للفاعل من التنزيل والإنزال أيضا. وَقَدْ نَزَّلَ مشددا مبنيا للفاعل: عاصم ويعقوب. الباقون مبنيا للمفعول.
الوقوف:
فِي النِّساءِ ط فِيهِنَّ لا للعطف أي الله والمتلو يفتيكم الْوِلْدانِ لا للعطف أيضا أي في يتامى النساء وفي المستضعفين وفي أن تقوموا. بِالْقِسْطِ ط عَلِيماً هـ صُلْحاً ط خَيْرٌ ط الشُّحَّ ط خَبِيراً هـ كَالْمُعَلَّقَةِ ط رَحِيماً هـ سَعَتِهِ ط حَكِيماً هـ وَما فِي الْأَرْضِ ط أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ ط وَما فِي الْأَرْضِ ط حَمِيداً هـ وَما فِي الْأَرْضِ ط وَكِيلًا هـ بِآخَرِينَ ط قَدِيراً هـ وَالْآخِرَةِ ط بَصِيراً هـ وَالْأَقْرَبِينَ ج لابتداء الشرط مع اتفاق المعنى. أَنْ تَعْدِلُوا ج لذلك خَبِيراً هـ مِنْ قَبْلُ ط بَعِيداً هـ سَبِيلًا هـ أَلِيماً هـ لا لأن «الذين» صفة المنافقين وإن كان يحتمل النصب والرفع على الذم. الْمُؤْمِنِينَ ط جَمِيعاً هـ غَيْرِهِ ج لأن ما بعده كالتعليل.
التفسير:
أحسن الترتيبات اللائقة بالدعوة إلى الدين الحق والبعث على قبول التكاليف هو ما عليه القرآن الكريم من اقتران الوعد بالوعيد وخلط الترغيب بالترهيب وضم الآيات الدالة على العظمة والكبرياء إلى بيان الأحكام. والاستفتاء طلب الفتوى. يقال: استفتيت الرجل فأفتاني إفتاء وفتيا وفتوى وهما اسمان يوضعان موضع الإفتاء وهو إظهار المشكل من الفتى وهو الشاب الذي قوي وكمل كأنه قوي ببيانه ما أشكل فشب وصار فتيا قويا.
والاستفتاء لا يقع في ذوات النساء وإنما يقع في حالة من أحوالهن فلذلك اختلفوا فعن بعضهم أنهم كانوا لا يورثون النساء والصبيان شيئا من الميراث كما مر في أول السورة فنزلت في توريثهم. وقيل: إنه في الأوصياء. وقيل: في توفية الصداق لهن كانت اليتيمة تكون عند الرجل فإن كانت جميلة ومال إليها تزوج بها وأكل مالها، وإن كانت دميمة منعها من الأزواج حتى تموت فيرثها. أما قوله: وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ ففيه وجوه: أحدها أنه رفع بالابتداء معطوفا على اسم الله أي الله يفتيكم والمتلو في الكتاب يفتيكم أيضا. ويجوز أن يكون رفعا على الفاعلية لكونه عطفا على المستتر في يفتيكم، وجاز بلا تأكيد للفصل أي يفتيكم الله والمتلو في الكتاب في معنى اليتامى كقولك: أعجبني زيد وكرمه. وذلك المتلو هو قوله: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى [النساء: ٣] كما سلف في أول السورة جعل دلالة الكتاب على هذا الحكم إفتاء من الكتاب. وثانيها وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ مبتدأ وفِي الْكِتابِ خبره وهي جملة معترضة ويكون المراد من الكتاب اللوح المحفوظ. والغرض تعظيم حال هذه الآية وأن المخل بها وبمقتضاها من رعاية حقوق اليتامى ظالم متهاون بما عظمه الله، ونظيره في تعظيم القرآن قوله: وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ [الزخرف: ٤] وثالثها أنه مجرور على القسم لمعنى التعظيم أيضا كأنه قيل: قل الله يفتيكم فيهن وحق المتلو. ورابعها أن يكون مجرورا على أنه معطوف على المجرور في فِيهِنَّ.
قال الزجاج: إنه ليس بسديد لفظا لعدم إعادة الخافض، ومعنى لأنه لا معنى لقول القائل:
يفتي الله فيما يتلى عليكم من الكتاب، لأن الإفتاء إنما يكون في المسائل. وقوله: فِي يَتامَى النِّساءِ على الوجه الأول صلة يُتْلى أي يتلى عليكم في معناهن أو بدل من فِيهِنَّ وعلى سائر الوجوه بدل من فِيهِنَّ لا غير. والإضافة في يَتامَى النِّساءِ قال الكوفيون: إنها إضافة الصفة إلى الموصوف وأصله في النساء اليتامى. وقال البصريون: إنها
فجاؤا إلى رسول الله ﷺ فقال قدامة: أنا عمها ووصي أبيها. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنها صغيرة وإنها لا تزوج إلا بإذنها وفرق بينها وبين ابن عمر.
ولأنه ليس في الآية أكثر من ذكر رغبة الأولياء في نكاح اليتيمة، وذلك لا يدل على الجواز. وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ نزلت في ميراث الصغار.
والخطاب في أَنْ تَقُومُوا للأئمة في أن ينظروا لهم ويستوفوا حقوقهم. قيل: ويجوز أن يكون وَأَنْ تَقُومُوا منصوبا أي ويأمركم أن تقوموا. ومن جملة ما أخبر الله تعالى أنه يفتيهم به في النساء لكن لم يتقدم ذكره. قوله وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ ارتفاع امْرَأَةٌ بفعل يفسره خافت أي علمت. وقيل: ظنت والظاهر أنه على معناه الأصلي إلا أن الخوف لا يحصل إلا عند ظهور العلامات الدالة على وقوع المخوف كأن يقول الرجل لامرأته: إنك دميمة أو مسنة وإني أريد أن أتزوج شابة جميلة، والبعل الزوج، والنشوز يكون من الزوجين وهو كراهة كل منهما صاحبه ويتبع نشوز الرجل أن يعرض عنها ويقبح وجهها ويترك مجامعتها ويسيء عشرتها. عن عائشة أنها نزلت في المرأة تكون عند الرجل ويريد الرجل أن يستبدل بها غيرها فتقول: أمسكني وتزوج بغيري وأنت في حل من النفقة والقسم كما فعلت سودة بنت زمعة حين كرهت أن يفارقها رسول الله ﷺ وعرفت مكان عائشة من قلبه فوهبت لها يومها. ومعنى الصلح وهو مصدر من غير لفظ الفعل مثل وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً [نوح: ١٧] أن يصالحا على أن تطيب المرأة له نفسا عن القسمة أو عن بعضها أو عن المهر والنفقة فإن هذه الأمور هي التي تقدر المرأة على طلبها من الزوج شاء أم أبى. أما الوطء فليس كذلك لأن الزوج لا يجبر على الوطء. وَالصُّلْحُ خَيْرٌ من الفرقة أو من النشوز والإعراض فاللام للعهد، أو هو خير من الخصومة في كل شيء فاللام للاستغراق وبه تمسك أصحاب أبي حنيفة في جواز الصلح على الإنكار، أو الصلح خير من الخيرات كما أن الخصومة شر من الشرور. والجملة معترضة، وكذا قوله: وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ إلا أنه اعتراض مؤكد للمطلوب محصل للمقصود. والشح البخل مع
واعلم أنه رخص أولا في الصلح بقوله: فَلا جُناحَ عَلَيْهِما وغايته ارتفاع الإثم، ثم بين أنه كما لا جناح فيه فكذلك فيه خير كثير.
ثم حث على الإحسان والتقوى وحسم مادة الخصومة رأسا فقال: وَإِنْ تُحْسِنُوا أي بالإقامة على نسائكم فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ وأحببتم غيرهن وتتقوا النشوز والإعراض وما يؤدي إلى الأذى والخصومة المحوجة إلى الصلح فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ من الإحسان والتقوى خَبِيراً فيثيبكم على ذلك. وعلى هذا فالخطاب للأزواج، وقيل: الخطاب للزوجين أن يحسن كل منهما إلى صاحبه ويحترز عن الظلم. وقيل: لغيرهما أن يحسنوا في المصالحة بينهما ويتقوا الميل إلى واحد منهما. يحكى أن عمران بن حطان الخارجي كان من أدمّ بني آدم وامرأته من أجملهم. فأجالت يوما نظرها في وجهه ثم قالت: الحمد لله. فقال: مالك؟
فقالت: حمدت الله على إني وإياك من أهل الجنة. لأنك رزقت مثلي فشكرت، ورزقت مثلك فصبرت، والشاكر والصابر من أهل الجنة. وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا لن تقدروا على التسوية بين النساء في ميل الطباع وَلَوْ حَرَصْتُمْ وإذا لم تقدروا عليها بحيث لا يقع ميل البتة ولا زيادة ولا نقصان لم تكونوا مكلفين به، وهذا تفسير يناسب مذهب المعتزلة من أن تكليف ما لا يطاق غير واقع ولا جائز. فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ أي رفع عنكم تمام العدل وغايته ولكن ائتوا منه ما استطعتم بشرط أن تبذلوا فيه وسعكم وطاقتكم. وبوجه آخر لن تستطيعوا التسوية في الميل القلبي وَلَوْ حَرَصْتُمْ ولا التسوية الكلية في نتائج الحب من الأقوال والأفعال لأن الفعل بدون الداعي ومع قيام الصارف محال. فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فلا تجوروا على المرغوب عنها كل الجور فتمنعوها قسمتها ونفقتها وسائر حقوقها وحظوظها من غير رضا منها فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ بين السماء والأرض لا على قرار أي غير ذات بعل ولا مطلقة. والغرض النهي عن الميل الكلي مع جواز التفريط في العدل الكلي في نتائج الميل القلبي، وأما الميل القلبي فمعفو بالكل وبالبعض لأن القلب ليس في تصرف الإنسان وإنما هو بين أصبعين من أصابع الرحمن.
عن النبي ﷺ أنه كان يقسم بين نسائه فيعدل فيقول: «اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تؤاخذني فيما تملك ولا أملك» «١»
يعني المحبة لأن
وعنه ﷺ «من كانت له امرأتان يميل مع أحداهما جاء يوم القيامة وأحد شقيه مائل» «١»
وَإِنْ تُصْلِحُوا ما مضى من ميلكم وتتداركوه بالتوبة وَتَتَّقُوا فيما يستقبل فَإِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا يرزق كل واحد منهما زوجا خيرا من زوجه وعيشا أهنأ من عيشته. والسعة الغنى والمقدرة وَكانَ اللَّهُ واسِعاً من الرزق والفضل والرحمة والعلم وأي كمال يفرض ولهذ أطلق. حَكِيماً قال ابن عباس: فيما حكم ووعظ. وقال الكبي: فيما حكم على الزوج من إمساكها بمعروف أو تسريحها بإحسان.
ثم قال: وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وهو كالتفسير لسعة ملكه وملكه.
وفيه أن الذي أمر به من العدل والإحسان إلى اليتامى والنسوان ليس لعجز أو افتقار وإنما يعود فائدة ذلك إلى المكلف لأنه الأحسن له في دنياه وعقباه. ثم بين أن الأمر بتقوى الله شريعة قديمة لم يلحقها نسخ وتبديل، وإن استغناءه تعالى بالنسبة إلى الأمم السالفة كهو بالنسبة إلى الأمم الآتية فقال: وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ أي جنسه ليشمل التوراة والإنجيل والزبور وغيرها من الصحف. وقوله: مِنْ قَبْلِكُمْ إما أن يتعلق ب وَصَّيْنَا أو ب أُوتُوا وقوله: وَإِيَّاكُمْ عطف على الَّذِينَ ومعنى أَنِ اتَّقُوا بأن اتقوا وتكون «أن» المفسرة لأن التوصية في معنى القول. وَإِنْ تَكْفُرُوا عطف على اتَّقُوا أي أمرناهم وأمرناكم بالتقوى. وقلنا لهم ولكم إن تكفروا فإن لله ما في السموات وما في الأرض وهو خالقهم ومالكهم والمنعم عليهم بأصناف النعم كلها فحقه أن يكون مطاعا في خلقه غير معصى يخشون عقابه ويرجون ثوابه. أو قلنا لهم ولكم: إن تكفروا فإن لله في سمواته وأرضه من الملائكة وغيرهم من يوحده ويعبده ويتقيه. وَكانَ اللَّهُ مع ذلك غَنِيًّا عن خلقه وعن عباداتهم حَمِيداً في ذاته وإن لم يحمده واحد منهم. ثم كرر قوله: وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا تقريرا لأنه أهل أن يتقى وتوكيدا لاستغنائه عن طاعات المطيعين وسيئات المذنبين. ثم بالغ في هذا المعنى بقوله: إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ يعدمكم أيها الناس وَيَأْتِ بِآخَرِينَ يوجد خلقا آخرين غير الإنس أو من جنس الإنس وَكانَ اللَّهُ على ذلك الإعدام ثم الإيجاد قَدِيراً بليغ القدرة لم يزل موصوفا بذلك ولن يزال كذلك. وفي الآية من التخويف والغضب ما لا يخفى. وقيل: الخطاب لأعداء النبي ﷺ من العرب والمراد بآخرين ناس يوالونه.
يروى أنها لما نزلت ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم
ثم رغب الإنسان فيما عنده من الكرامة فقال: مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا كالمجاهد يريد بجهاده الغنيمة فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ فماله يطلب الأخس بالذات مع أنه إذا طلب الأشرف تبعه الأخس.
فالتقدير: فعند الله ثواب الدنيا والآخرة له إن أراده ليحصل ربط الجزاء بالشرط وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً لأقوال المجاهدين والطالبين بَصِيراً بمطامح عيونهم ومطارح ظنونهم فيجازيهم على نحو ذلك. ثم بيّن أنّ كمال سعادة الإنسان في أن يكون قوله لله وفعله لله وحركته لله وسكونه لله فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ مجتهدين في اختيار العدل محترزين عن ارتكاب الميل شُهَداءَ لِلَّهِ لوجهه ولأجل مرضاته كما أمرتم بإقامتها ولو كانت تلك الشهادة وبالا على أنفسكم، أو الوالدين والأقربين بأن يتوقع ضرره من سلطان ظالم أو غيره. وفي كلام الحكماء: «إذا كان الكذب ينجي فالصدق أنجى». أو المراد الإقرار على نفسه لأنه في معنى الشهادة عليها بإلزام الحق لها وأن يقول: أشهد أنّ لفلان على والدي كذا أو على أقاربي كذا. وإنما قدم الأمر بالقيام بالقسط على الأمر بالشهادة لله عكس قوله: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ [آل عمران: ١٨] لأنّ شهادة الله تعالى عبارة عن كونه خالقا للمخلوقات، وقيامه بالقسط عبارة عن رعاية قوانين العدل في تلك المخلوقات، والأول مقدم على الثاني. وأما في حق العباد فالعدالة مقدمة على الشهادة تقدم الشرط على المشروط فاعلم. إِنْ يَكُنْ المشهود عليه غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فلا تكتموا الشهادة طلبا لرضا الغني أو ترحما على الفقير فَاللَّهُ أَوْلى بأمورهما ومصالحهما. وكان حق النسق أن لو قيل فالله أولى به أي بأحد هذين إلّا أنه ثنى الضمير ليعود إلى الجنسين كأنه قيل: فالله أولى بجنسي الفقير والغني أي بالأغنياء والفقراء يريد بالنظر لهما وإرادة مصلحتهما ولولا أنّ الشهادة عليهما مصلحة لهما لما شرعها.
قال السدي: اختصم إلى النبي ﷺ غني وفقير وكان ميله إلى الفقير رأى أنّ الفقير لا يظلم الغني فأبى الله إلّا أن يقوم بالقسط في الغني والفقير وأنزل الآية.
وقوله: أَنْ تَعْدِلُوا يحتمل أن يكون من العدل أو من العدول فكأنه قيل: فلا تتبعوا الهوى كراهة أن تعدلوا بين الناس، أو إرادة أن تعدلوا عن الحق. واحتمال آخر وهو أن يراد اتركوا الهوى لأجل أن تعدلوا أي حتى تتصفوا بصفة العدالة لأنّ العدل عبارة عن ترك متابعة الهوى، ومن ترك أحد النقيضين فقد حصل له الآخر. وَإِنْ تَلْوُوا بواوين من لوى يلوي إذا فتل، وبواو واحدة من الولاية.
والمعنى وإن تلووا ألسنتكم عن شهادة الحق وحكومة العدل أَوْ تُعْرِضُوا عن الشهادة بما عندكم أو إن وليتم إقامة الشهادة أو تركتموها. واعلم أن الإنسان لا يكون قائما بالقسط إلّا
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تقليدا آمَنُوا استدلالا. الثالث: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا استدلالا إجماليا آمَنُوا استدلالا تفصيليا. الرابع: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بالله وملائكته وكتبه ورسله آمَنُوا بأن كنه الله تعالى وعظمته وكذلك أحوال الملائكة وأسرار الكتب وصفات الرسل لا ينتهي إليها عقولكم. الخامس
قال الكلبي: إن عبد الله بن سلام وأسدا وأسيدا ابني كعب وثعلبة بن قيس وجماعة من مؤمني أهل الكتاب قالوا: يا رسول الله، إنا نؤمن بك وبكتابك وبموسى والتوراة وعزير، ونكفر بما سواه من الكتب والرسل فأنزل الله هذه الآية فآمنوا بكل ذلك.
وقيل: إن المخاطبين ليسواهم المسلمين والتقدير: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بموسى والتوراة وبعيسى والإنجيل آمَنُوا بمحمد ﷺ والقرآن وبجميع الكتب المنزلة من قبل لا ببعضها فقط، لأن طريق العلم بصدق النبي هو المعجز وأنه حاصل في الكل، فالخطاب لليهود والنصارى. أو يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا باللسان آمَنُوا بالقلب فهم المنافقون، أو يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا باللات والعزى آمَنُوا بالله فهم المشركون، والمراد بالكتاب الذي أنزل من قبل جنسه. فإن قيل: لم ذكر في مراتب الإيمان أمورا ثلاثة: الإيمان بالله وبالرسل وبالكتب. وذكر في مراتب الكفر أمورا خمسة؟ أجيب بأن الإيمان بالثلاثة يلزم منه الإيمان بالملائكة وباليوم الآخر، لكنه ربما ادّعى الإنسان أنه يؤمن بالثلاثة ثم إنه ينكر الملائكة واليوم الآخر لتأويلات فاسدة، فلما كان هذا الاحتمال قائما نص على أن منكر الملائكة والقيامة كافر بالله. فإن قيل: لم قدم في مراتب الإيمان ذكر الرسول على ذكر الكتاب في مراتب الكفر عكس الأمر؟ فالجواب أن الكتاب مقدم على الرسول في مرتبة النزول من الخالق إلى الخلق، وأما في العروج فالرسول مقدم على الكتاب. وبوجه آخر الرسول الأول هو نبينا محمد ﷺ والرسل عام له ولغيره، فلما خص ذكره أولا للتشريف جعل ذكره تاليا لذكر الله لمزيد التشريف ولبيان أفضليته صلى الله عليه وسلم.
ثم لما رغب في الإيمان والثبات عليه بين فساد طريقة من يكفر بعد الإيمان فقال:
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً والمراد الذين تكرر منهم الكفر بعد الإيمان تارات وأطوارا. قال القفال: وليس المراد بيان العدد بل المراد ترددهم وتمرنهم على ذلك. وقيل: اليهود هم آمنوا بالتوراة وبموسى ثم كفروا بعزير ثم آمنوا بداود ثم كفروا بعيسى ثم ازدادوا كفرا عند مقدم محمد صلى الله عليه وسلم. وقيل: هم المنافقون أظهروا الإسلام
أحدها أنهم ماتوا على كفرهم. وثانيها بسبب ذنوب أصابوها حال كفرهم وعلى هذا فإصابة الطاعات وقت الإيمان تكون زيادة في الإيمان. وثالثها استهزاؤهم بالدين. أما قوله تعالى:
لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ فقيل عليه اللام تفيد نفي التأكيد وهذا لا يليق بالوضع إنما اللائق به تأكيد النفي. وأجيب بأن نفي التأكيد إذا ذكر على سبيل التهكم أفاد تأكيد النفي. ثم أورد عليه أن الكفر قبل التوبة غير مغفور على الإطلاق وحينئذ تضيع الشرائط المذكورة في الآية، وبعد التوبة مغفور ولو بعد ألف مرة فكيف يصح النفي؟ وأجيب بأن اللام في الذين لمعهودين وهم قوم علم الله منهم أنهم يموتون على الكفر لا يتوبون عنه قط، فقوله: لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ إخبار عن موتهم على الكفر، أو اللام للاستغراق وخرج الكلام على الغالب المعتاد وهو أن من كان مضطرب الحال كثير الانتقال من الإسلام إلى الكفر، لم يكن للإيمان في قلبه وقع واحتشام. فالظاهر من حال مثله أنه يموت على الكفر، فليس المراد أنه لو أتى بالإيمان الصحيح لم يكن معتبرا بل المراد منه الاستبعاد والاستغراب كالفاسق يتوب ثم يرجع ثم يتوب ثم يرجع فإنه لا يرجى منه الثبات والغالب أنه يموت على الفسق. وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا أي إلى الإيمان عند الأشاعرة، وعند المعتزلة إلى الجنة. أو محمول على المنع من زيادة الألطاف. بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ تهكم كقولهم: عتابك الصيف تحيتهم الضرب أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ. كان المنافقون يوادّون اليهود اعتقادا منهم أن أمر محمد ﷺ لا يتم وحينئذ يبتغون بودّهم أن يحصل لهم بهم قوة وغلبة، فخيّب الله آمالهم بقوله: فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وعزّة الله تستتبع عزة الرسول والمؤمنين كقوله: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ
[المنافقون: ٨] وجَمِيعاً حال من العزة أي مجموعة. قال المفسرون: إنّ المشركين كانوا بمكة يخوضون في ذكر القرآن في مجالسهم فيستهزؤن به
ثم حقق كون المنافقين مثل الكافرين بقوله: إِنَّ اللَّهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً يعني القاعدين والمقعود معهم. والضمير في مَعَهُمْ يعود إلى الكافرين المستهزئين بدلالة يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها وأراد جامِعُ بالتنوين لأنه بعد ما جمعهم ولكن حذف التنوين تخفيفا في اللفظ. والمعنى أنهم كما اجتمعوا على الاستهزاء بآيات الله في الدنيا فكذلك يجتمعون في عذاب جهنم يوم القيامة ومثله
قوله صلى الله عليه وسلم: «المرء مع من أحب».
يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ ينتظرون بكم ما يتجدد لكم من نصر أو إخفاق. فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ ظهور على اليهود قالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ مظاهرين فأسهموا لنا في الغنيمة وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ أي اليهود نصيب استيلاء ما في الظاهر قالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ الحوذ السوق السريع والاستحواذ الغلبة. وهذا جاء بالواو على أصله كما جاء استروح واستصوب. وفي الآية وجهان: الأول ألم نغلبكم ونتمكن من قتلكم وأسركم ثم لم نفعل شيئا من ذلك وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بأن ثبطناهم عنكم فهاتوا نصيبا لنا مما أصبتم.
الثاني أنّ أولئك الكفار كانوا قد هموا بالدخول في الإسلام. ثم إنّ المنافقين نفروهم
وفي تسمية ظفر المؤمنين فتحا وظفر الكافرين نصيبا تثبيت للمؤمنين وتعظيم لما هم عليه من الدين وتحقير لشأن الكافرين وتوهين لأمرهم، فكان ظفر المسلمين أمر عظيم يفتح له أبواب السماء حين ينزل على أولياء الله، وظفر الكافرين حظ دنيوي ينقضي ولا يبقى منه إلّا الذم في الدنيا والعقاب في الآخرة فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ. أي بين المؤمن والمنافق. والغرض أنه يقال: ما وضع السيف على المنافقين في الدنيا ولكن أخر عقابهم إلى يوم القيامة وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا
قال علي وابن عباس: المراد في الدنيا ولكن بالحجة أي حجة المسلمين غالبة على حجة الكل.
وقيل: في الآخرة. وقيل: عام في الكل. والشافعي بنى عليه مسائل منها: أن الكافر إذا استولى على مال المسلم وأحرزه إلى دار الحرب لم يملكه بدلالة هذه الآية. ومنها أن الكافر ليس له أن يشتري عبدا مسلما. ومنها أنّ المسلم لا يقتل بالذمي والله تعالى أعلم.
التأويل:
النفس للروح كالمرأة للزوج ويَتامَى النِّساءِ صفات النفوس وما كُتِبَ لَهُنَّ ما أوجب الله للنفوس من الحقوق. وحاصل المعنى أنّ نفسك مطيتك فارفق بها وإليه الإشارة بقوله: وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ فالروح تشح بترك حقوق الله، والنفس تشح بحظوظها فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ في رفض حظوظ النفس فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ بين العالم العلوي والعالم السفلي وَإِنْ يَتَفَرَّقا أي الروح والنفس فالروح تجتذب بجذبة دع نفسك وتعال إلى سعة غنى الله في عالم هويته لتستغني عن مركب النفس بالوصول إلى المقصود. والنفس تجتذب عن الروح بجذبة ارجعي إلى ربك إلى سعة غنى الله في عالم فادخلي في عبادي وادخلي جنتي. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا للإيمان ثلاث مراتب: إيمان للعوام أن يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله وبالبعث والجنة والنار والقدر وهذا إيمان غيبي، وإيمان للخواص وهو أنه تعالى إذا تجلّى للعبد بصفة من صفاته خضع له جميع أجزاء وجوده وآمن بالكلية وهذا إيمان عياني، وإيمان للأخص وهو بعد رفع الحجب الأنانية حين أفناه بصفة الجلال وأبقاه بصفة الجمال فلم يبق له إلا عين وبقي في العين وهذا إيمان عيني. إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا أي بالتقليد ثُمَّ كَفَرُوا إذ لم يكن للتقليد أصل ثُمَّ آمَنُوا بالاستدلال العقلي ثُمَّ كَفَرُوا إذ لم تكن عقولهم مشرقة بالنور الإلهي ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً بالشبهات والاعتراضات لَمْ يَكُنِ اللَّهُ في الأزل غافرا لهم بنوره عند الرش وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا اليوم لأن الأصل لا يخطىء بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ أي بشرهم بأن أصلهم من
تم الجزء الخامس، ويليه الجزء السادس أوله: إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ...
[سورة النساء (٤) : الآيات ١٤٢ الى ١٥٢]
إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى يُراؤُنَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٤٢) مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (١٤٣) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً (١٤٤) إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً (١٤٥) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً (١٤٦)
ما يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكانَ اللَّهُ شاكِراً عَلِيماً (١٤٧) لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً (١٤٨) إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً (١٤٩) إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (١٥٠) أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (١٥١)
وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (١٥٢)
القراآت:
فِي الدَّرْكِ بسكون الراء: حمزة وعلي وخلف وعاصم غير الأعشى.
الباقون بالفتح يُؤْتِيهِمْ بالياء: حفص وعياش. الباقون بالنون.
الوقوف:
خادِعُهُمْ
ط لعطف المختلفين. كُسالى
لا لأن يُراؤُنَ
. صفتهم قَلِيلًا
هـ ز بناء على أن مُذَبْذَبِينَ نصب على الذم، والأوجه أنه حال أي يراؤون مذبذبين. بَيْنَ ذلِكَ ق وقد قيل على تقدير الابتداء أي لا هم إلى هؤلاء، والأوجه أنه بيان الذبذبة أي لا منسوبين إلى هؤلاء هؤُلاءِ الثانية ط سَبِيلًا هـ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ط مُبِيناً هـ مِنَ النَّارِ ج لابتداء النفي مع العطف. نَصِيراً هـ ط للاستثناء. مَعَ الْمُؤْمِنِينَ ط عَظِيماً هـ وَآمَنْتُمْ ط عَلِيماً هـ ظُلِمَ ط عَلِيماً هـ قَدِيراً هـ بِبَعْضٍ لا للعطف سَبِيلًا هـ لا لأن ما بعده خبر «إن» وقيل:
إن الخبر محذوف أي هلكوا وما يتلوه مستأنف. حَقًّا ج لاحتمال ما بعده للعطف والاستئناف مُهِيناً هـ أُجُورَهُمْ ط رَحِيماً هـ.
قال الزجاج: أي يخادعون رسول الله ﷺ أي يظهرون له الإيمان ويبطنون الكفر كقوله: إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ [الفتح: ١٠] وهو خادعهم اسم فاعل من خادعته فخدعته إذا غلبته وكنت أخدع منه. قال ابن عباس: يعطيهم نورا كما يعطي المؤمنين فإذا وصلوا إلى الصراط انطفأ نورهم ويبقى نور المؤمنين فينادون انظرونا نقتبس من نوركم. وباقي تفسير المخادعة تقدم في أول البقرة. كسالى جمع كسلان كسكارى في سكران أي يقومون متثاقلين متباطئين متقاعسين كما يرى من يفعل شيئا على كره لا عن طيب نفس ورغبة وهو معنى الكسل. والسبب في ذلك أنهم يبتغون بها في الحال ولا يرجون من فعلها ثوابا ولا يخافون من تركها عقابا. يُراؤُنَ النَّاسَ
أي لا يقومون إلى الصلاة إلّا لأجل الرياء والسمعة. ومعنى المفاعلة في الرياء أن المرائي يرى الناس عمله وهم يرونه استحسان ذلك العمل، أو فاعل هاهنا بمعنى فعل بالتشديد كقولك: ناعمة ونعمه. وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ
أي ولا يصلون إِلَّا قَلِيلًا
لأنه متى لم يكن معهم أحد من الأجانب لا يصلون، وإذا كانوا مع الناس فعند دخول وقت الصلاة يتكلفون حتى يصيروا غائبين عن أعين الناس، فإن لم يجدوا مندوحة فحينئذ يصلون. وقيل: إنهم في صلاتهم لا يذكرون الله إلا قليلا وهو الذي يظهر مثل التكبيرات، فأما الذي يخفى وهو القراءة والتسبيحات فهم لا يذكرونها. وقيل: إنهم لا يذكرون الله في جميع الأوقات إلا ذكرا قليلا في الندرة كما ترى من بعض المتهاونين بأمور الدين لو صحبته أياما وليالي لم تسمع منه تهليلة ولا تسبيحة ولا تحميدة، ولكن حديث الدنيا يستغرق أوقاته، ويجوز أن يراد بالقلة العدم، قال قتادة: يريد أن الله لا يقبل صلاتهم لأن ما رده الله فكثيره قليل، وما قبله الله فقليله كثير. ومعنى مذبذبين ذبذبهم الشيطان والهوى. وحقيقة المذبذب الذي يذب عن كلا الجانبين أي يذاد ويدفع إلا أن الذبذبة فيها تكرير ليس في الذب كأن المعنى كلما مال إلى جانب ذب عنه. وقرأ ابن عباس مُذَبْذَبِينَ بالكسر أي يذبذبون قلوبهم أو دينهم أو رأيهم.
وعن أبي جعفر «مدبدبين» بالدال غير المعجمة والمعنى أخذ بهم تارة في دبة وتارة في دبة والدبة الطريقة. ومعنى بَيْنَ ذلِكَ أي بين الكفر والإيمان لأن ذكر الكافرين والمؤمنين يدل على الكفر والإيمان وذلك قد يشار به إلى اثنين كقوله: عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ [البقرة: ٦٨] واعلم أن السبب في التذبذب هو أن الفعل يتوقف على الداعي، فإذا كان الداعي إلى الفعل هو الأغراض المتعلقة بأحوال هذا العالم وأنها سيالة متغيرة لزم وقوع التغير في الميل والرغبة، وإذا تعارضت الدواعي والصوارف بقي الإنسان في الحيرة والتردد، وأما من كان مطلوبه في فعله اقتناء الخيرات الباقية واكتساب السعادات الروحانية وعلم أن تلك المطالب أمور باقية بريئة عن التغير والزوال، لا جرم كان هذا الإنسان ثابتا في
أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ [غافر: ٤٦] وقيل: إن النار سبع دركات سميت بذلك لأنها متداركة متتابعة بعضها فوق بعض. قال أبو حاتم: جمع الدرك أدراك كفرس وأفراس، وجمع الدرك أدرك كفلس وأفلس. ثم قال: وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً احتجوا بهذا على إثبات الشفاعة في حق الفساق من أهل القبلة لأنه تعالى ذكره في معرض الزجر عن النفاق، فلو حصل نفي الشفاعة مع عدم النفاق لم يبق هذا زجرا عن النفاق من حيث إنه نفاق. ثم استثنى منهم التائبين فشرط أمورا أربعة أولها التوبة. وثانيها إصلاح ما أفسدوا من أسرارهم.
وثالثها الاعتصام بدين الله. ورابعها الإخلاص لأنه إذا كان مطلوبه جلب المنافع ودفع المضار تغير عن التوبة وإصلاح العمل سريعا، أما إذا كان مطلوبه مرضاة الله وسعادة الآخرة والاعتصام بحبل الله بقي على هذه الطريقة ولم يتغير عنها. وعند حصول الشرائط قال:
فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ ولم يقل مؤمنون تشريفا للمؤمنين أنهم متبعون والمنافقون بعد الشرائط تبع لهم. ثم بين وعد المؤمنين بقوله: وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً ليشمل المنافقين التائبين بالتبعية. ثم برهن على أن فائدة الإيمان والعمل الصالح إنما ترجع على المكلفين فقال: ما يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ لأن تعذيب الملوك بعض الرعية إنما يكون للتشفي من الغيظ أو لدرك الثأر أو لجلب المنافع أو لدفع المضار وأمثال هذه الأمور في حقه تعالى محال، وإنما المقصود حمل المكلفين على فعل الحسن وترك القبيح لينالوا السعادة العظمى، فمن امتثل وأطاع فكيف يليق بكرمه تعذيبه. قالت المعتزلة:
ثم إنه سبحانه لما هتك ستر المنافقين وفضحهم وكان هتك الستر منافيا للكرم والرحمة ظاهرا ذكر ما يجري مجرى العذر من ذلك فقال: لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ الآية يعني أنه لا يحب إظهار الفضائح إلا في حق من ظلم وهم المسلمون الذين عظم ضرر المنافقين وكيدهم فيهم. وأيضا إن المنافق إذا تاب وأصلح لم يكد يسلم من تعيير المسلمين إياه على ما صدر عنه في الماضي فبيّن تعالى أن تعييرهم بعد التوبة أمر مذموم وأنه تعالى لا يرضى به إلا من ظلم نفسه وعاد إلى نفاقه. قالت المعتزلة: في الآية دلالة على أنه تعالى لا يريد من عباده فعل القبائح لأن محبة الله تعالى عبارة عن إرادته. وقالت الأشاعرة: المحبة عبارة عن إيصال الثواب على الفعل وحينئذ يصح أن يقال: إنه أراده وما أحبه. قال أهل العلم: إنه لا يحب الجهر بالسوء ولا غير الجهر، ولكنه ذكر هذا الوصف لأن كيفية الواقعة أوجبت ذلك كقوله: إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا [النساء: ٩٤] والتبين واجب في الطعن والإقامة. أما قوله: إِلَّا مَنْ ظُلِمَ فالاستثناء فيه متصل أو منقطع. وعلى الأول قال أبو عبيدة: تقديره إلّا جهر من ظلم فحذف المضاف. وقال الزجاج: الجهر بمعنى المجاهر أي
وقال مجاهد: له أن يخبر بظلم ظالمه له. وقال الأصم: لا يجوز إظهار الأحوال المستورة المكنونة حذرا من الغيبة والريبة لكن له إظهار ظلمه بأن يذكر أنه سرق أو غصب. وقال الحسن: له أن ينتصر من ظالمه. وعن مجاهد أن ضيفا تضيف قوما فأساؤا قراه فاشتكاهم فنزلت الآية رخصة في أن يشكو. وقرأ الضحاك وزيد بن أسلم وسعيد بن جبير إِلَّا مَنْ ظُلِمَ على البناء للفاعل. وقيل: إنه كلام منقطع عما قبله أي لكن من ظلم فدعوه وخلوه.
وقال الفراء والزجاج: معناه لكن من ظلم فإنه يجهر له بالسوء من القول وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً فليتق الله ولا يقل إلا الحق ولا يقذف مستورا. ثم حث على العفو بقوله: إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ وهو إشارة إلى إيصال النفع أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ وهذا إشارة إلى دفع الضرر، وعلى هذين تدور المعاشرة مع الخلق. فَإِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً قال الحسن: أي يعفو عن الجاني مع قدرته على الانتقام فعليكم أن تقتدوا بسنّة الله. وقيل: عفو لمن عفا، قدير على إيصال الثواب إليه. وقال الكلبي: معناه أن الله أقدر على عفو ذنوبك منك على عفو صاحبك.
وفي الخبر أن أبا بكر الصديق شتمه رجل فسكت مرارا ثم رد عليه فقام النبي ﷺ فقال أبوبكر: شتمني وأنت جالس فلما رددت عليه قمت. قال: إن ملكا كان يجيب عنك، فلما رددت ذهب الملك وجاء الشيطان فلم أجلس عند مجيء الشيطان.
ثم إنه سبحانه تكلم بعد ذكر أحوال المنافقين في مذاهب اليهود والنصارى وأباطيلهم. وذلك أنواع: الأول إيمانهم ببعض الأنبياء دون بعض فسلكهم في سلك من لا يقر بالوحدانية ولا بالنبوّات وهم الذين يكفرون بالله ورسله، وفي سلك من يقر بالوحدانية وينكر النبوّات وهم الذين يريدون أن يفرقوا بين الله ورسله في الإيمان بالله والكفر بالرسل وذلك أن اليهود آمنوا بموسى والتوراة وكفروا بعيسى والإنجيل ومحمد ﷺ والفرقان، والنصارى آمنوا بعيسى والإنجيل وكفروا لمحمد ﷺ والقرآن فآمنوا ببعض الأنبياء وكفروا بالبعض وأرادوا أن يتخذوا بين ذلك أي بين الإيمان بالكل وبين الكفر بالكل سبيلا أي واسطة أُولئِكَ أي الطوائف الثلاث هُمُ الْكافِرُونَ أما الطائفة الأولى فكفرهم ظاهر، وأما الثانية فلأنّ تكذيب الأنبياء وإنكارهم يستلزم تكذيب الله إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ [الفتح: ١٠] وأما الطائفة الثالثة فلأنّ الدليل الدال على نبوة بعض الأنبياء هو المعجزة ويلزم منه حصول النبوة حيث حصل المعجز فالقدح في بعض من ظهر على يده المعجزة هو القدح في كل نبي. فقيل: هب أنه يلزمهم الكفر بكل الأنبياء ولكن ليس إذا توجه بعض الإلزامات على إنسان لزم أن يكون ذلك الإنسان قائلا به، فإلزام الكفر أمر والتزام الكفر غيره. فالجواب أن الإلزام إذا كان خفيا
التأويل:
إنّ المنافقين يخادعون الله في الدنيا لأن الله خادعهم في الأزل حيث رش نوره وشاهدوه ثم أخطأهم إن شكرتم نعم الله عليكم وآمنتم أنفسكم من عذابه لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ من العوام ولا من التحدث بالنفس من الخواص ولا من الخواطر من الأخص إِلَّا مَنْ ظُلِمَ إما بتقاضي دواعي البشرية من غير اختيار أو بابتلاء من اضطرار. وأيضا لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ بإفشاء سر الربوبية، وإظهار مواهب الألوهية، أو بكشف القناع من مكنونات الغيب ومصونات غيب الغيب إِلَّا مَنْ ظُلِمَ بغلبات الأحوال وتعاقب كؤوس الجلال والجمال فاضطر إلى المقال فقال باللسان الباقي لا باللسان الفاني: أنا الحق وسبحاني إِنْ تُبْدُوا خَيْراً مما كوشفتم به من ألطاف الحق تنبيها للخلق وإفادة بالحق، أو تخفوه صيانة لنفوسكم عن آفات الشوائب وفطامها عن المشارب أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ مما يدعو إليه هوى النفس الأمارة، أو تتركوا إعلان ما جعل الله إظهاره سوءا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا فتكون عفوا متخلقا بأخلاقه إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ فيه إشارة إلى أن الإيمان لا يتبعض وإن كان يزيد وينقص مثاله شعاع الشمس إذا دخل كوّة البيت فيزيد وينقص بحسب سعة الكوة وضيقها، ولكن لا يمكن تجزئتها بحيث يؤخذ جزء منه فيجعل في شيء آخر غير محاذ للشمس والله تعالى أعلم.
[سورة النساء (٤) : الآيات ١٥٣ الى ١٦٩]
يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ وَآتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً (١٥٣) وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثاقِهِمْ وَقُلْنا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُلْنا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (١٥٤) فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٥٥) وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً (١٥٦) وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّباعَ الظَّنِّ وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً (١٥٧)
بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (١٥٨) وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً (١٥٩) فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً (١٦٠) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٦١) لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً (١٦٢)
إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (١٦٣) وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً (١٦٤) رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (١٦٥) لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (١٦٦) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالاً بَعِيداً (١٦٧)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً (١٦٨) إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (١٦٩)
لا تَعْدُوا بتشديد الدال مع سكون العين: أبو جعفر ونافع غير ورش.
وقرأ ورش مفتوحة العين مشددة. بَلْ طَبَعَ بالإدغام: علي وهشام وأبو عمر وعن حمزة بَلْ رَفَعَهُ مظهرا وبابه: الحلواني عن قالون سيؤتيهم حمزة وخلف وقتيبة. الباقون بالنون. زَبُوراً بضم الزاي حيث كان: حمزة وخلف والباقون بالفتح.
الوقوف:
بِظُلْمِهِمْ ج لأن «ثم» لترتيب الأخبار مع أن مراد الكلام متحد. عَنْ ذلِكَ ج لأن التقدير وقد آتينا. مُبِيناً هـ غَلِيظاً هـ غُلْفٌ ط قَلِيلًا هـ ص للعطف. عَظِيماً هـ لا لأنّ التقدير وفي قولهم. رَسُولَ اللَّهِ ج لأن ما بعده يحتمل ابتداء النفي والحال. شُبِّهَ لَهُمْ ط مِنْهُ ط الظَّنِّ ج لاحتمال الاستئناف والحال يَقِيناً ج لتقرير نفي القتل بإثبات الرفع. إِلَيْهِ ط حَكِيماً هـ قَبْلَ مَوْتِهِ ط لأن الواو للاستئناف مع اتحاد المقصود. شَهِيداً هـ ج للآية ولأن قوله: فَبِظُلْمٍ راجع إلى
وَسُلَيْمانَ ج لأنّ التقدير وقد آتينا التخصيص داود بإيتاء الزبر. زَبُوراً هـ ج لأنّ التقدير وقصصنا رسلا. عَلَيْكَ ط. تَكْلِيماً هـ ج لاحتمال البدل والنصب على المدح.
الرُّسُلِ ط ج حَكِيماً هـ بِعِلْمِهِ ج لاحتمال ما بعده الاستئناف والحال.
يَشْهَدُونَ ط شَهِيداً هـ بَعِيداً هـ طَرِيقاً هـ لا أَبَداً ط يَسِيراً هـ.
التفسير:
هذا نوع ثان من جهالات اليهود فإنهم قالوا: إن كنت رسولا من عند الله فأتنا بكتاب من السماء جملة كما جاء موسى بالألواح. وقيل: اقترحوا أن ينزل عليهم كتابا إلى فلان وكتابا إلى فلان بأنك رسول الله. وقيل: كتابا نعاينه حين ينزل. فإن استكبرت ما سألوه فَقَدْ سَأَلُوا بمعنى سأل آباؤهم ومن هؤلاء على مذهبهم مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً وإنما كان سؤال الرؤية أكبر من سؤال تنزيل الكتاب لأن التنزيل أمر ممكن في ذاته بخلاف رؤية الله عيانا فإنها ممتنعة لذاتها عند المعتزلة، أو ممتنعة في الدنيا عند غيرهم. وفي قوله: مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ وجوه: أحدها أن البينات الصاعقة لأنها تدل على قدرة الله تعالى وعلى علمه وعلى قدمه وعلى كونه مخالفا للأجسام والأعراض، وعلى صدق موسى عليه السلام في دعوى النبوة. وثانيها أنها إنزال الصاعقة وإحياؤهم بعد إماتتهم. وثالثها أنها الآيات التسع من العصا واليد وفلق البحر وغيرها.
وفحوى الكلام أن هؤلاء يطلبون منك يا محمد أن تنزل عليهم كتابا من السماء فاعلم أنهم لا يطلبونه منك إلّا عنادا ولجاجا فإن موسى عليه السلام قد أنزل عليه هذا الكتاب وأنزل عليه سائر المعجزات الباهرة ثم إنهم طلبوا الرؤية على سبيل العناد وأقبلوا على عبادة العجل، وكل ذلك يدل على أنهم مجبولون على اللجاج والعناد والبعد عن طريق الحق فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ حيث لم نستأصل عبدة العجل وَآتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً تسلطا ظاهرا وهو أن أمرهم بقتل أنفسهم، أو المراد قوّة أمره وكمال حاله وانكسار خصومه ففيه بشارة للنبي ﷺ بأن هؤلاء الكفار وإن كانوا يعاندونه فإنه بالآخرة يستولي عليهم ويقهرهم. ثم حكى عنهم سائر جهالاتهم وإصرارهم على أباطيلهم منها أنه تعالى رفع الطور بميثاقهم أي بسبب ميثاقهم ليخافوا فلا ينقضوه، ومنها قصة دخولهم الباب باب بيت المقدس، ومنها قصة اعتدائهم في السبت باصطياد السمك وقد مر جميع هذه القصص في سورة البقرة. وقيل: إن العدو هاهنا ليس بمعنى الاعتداء وإنما هو بمعنى الحضر والمراد به النهي عن العمل والكسب يوم السبت كأنه قيل لهم: اسكنوا عن العمل في هذا اليوم واقعدوا في منازلكم فأنا
فمسخ الله من سبهما قردة وخنازير، فأجمعت اليهود على قتله فلما هموا بأخذه وكان معه عشرة من أصحابه قال لهم: من يشتري الجنة بأن يلقى عليه شبهي؟ فقال واحد منهم: أنا.
فألقى الله شبه عيسى عليه فأخرج وقتل ورفع الله عيسى. وقيل: كان رجل يدعي أنه من أصحاب عيسى وكان منافقا، فذهب إلى اليهود ودلهم عليه فلما دخل مع اليهود لأخذه
ثم قال: وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ فقوله: إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ جملة قسمية واقعة صفة لموصوف محذوف «وإن» هي النافية. التقدير: وما من أهل الكتاب أحد إلّا ليؤمنن به كقوله: وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ [الصافات: ١٦٤] والضمير في بِهِ عائد إلى عيسى، وفي مَوْتِهِ إلى أحد. عن شهر بن حوشب قال لي الحجاج: آية ما قرأتها إلّا تخالج في نفسي شيء منها يعني هذه الآية وقال: إني أوتي بالأسير من اليهود والنصارى فأضرب عنقه فلا أسمع منه ذلك. فقلت: إن اليهودي إذا حضره الموت ضربت الملائكة دبره ووجهه وقالوا: يا عدوّ الله أتاك عيسى نبيا فكذبت به فيقول: آمنت أنه عبد نبي. وتقول للنصراني: أتاك عيسى نبيا فزعمت أنه الله أو ابن الله فيؤمن به ويقول: إنه
ممن قلت؟ قلت: حدثني محمد بن علي ابن الحنفية فأخد ينكت الأرض بقضيبه ثم قال:
لقد أخذتها من عين صافية أو من معدنها. وعن ابن عباس أنه فسره كذلك فقال له عكرمة:
فإن أتاه رجل فضرب عنقه؟ قال: لا تخرج نفسه حتى يحرك بها شفتيه. قال: وإن خر من فوق بيت أو احترق أو أكله سبع؟ قال: يتكلم بها في الهواء ولا تخرج روحه حتى يؤمن به.
وفائدة هذا الإخبار الوعيد وإلزام الحجة والبعث على معاجلة الإيمان به في أوان الانتفاع، لأنه إذا لم يكن بد من الإيمان به فلأن يؤمنوا به حال التكليف ليقع معتدا به أولى. وقيل:
الضميران في بِهِ وفي مَوْتِهِ لعيسى والمراد بأهل الكتاب الذين يكونون في زمان نزوله. روي أنه ينزل من السماء في آخر الزمان فلا يبقى أحد من أهل الكتاب إلا يؤمن به حتى تكون الملة واحدة وهي ملة الإسلام، ويهلك الله في زمانه المسيح الدجال وتقع الأمنة حتى ترتع الأسود والنمور مع الإبل والبقر، والذئاب مع الغنم، ويلعب الصبيان بالحيات، ويلبث في الأرض أربعين سنة ثم يتوفى ويصلي عليه المسلمون ويدفنونه. قال بعض المتكلمين: ينبغي أن يكون هذا عند ارتفاع التكاليف أو بحيث لا يعرف إذ لو نزل مع بقاء التكليف على وجه يعرف أنه عيسى. فأما أن يكون نبيا- ولا نبي بعد محمد صلى الله عليه وسلم- أو غير نبي وعزل الأنبياء لا يجوز. وأجيب بأنه كان نبيا إلى مبعث محمد ﷺ وبعد ذلك انتهت مدة نبوته فلا يلزم عزله فلا يبعد أن يصير بعد نزوله تبعا لمحمد صلى الله عليه وسلم. قال في الكشاف: ويجوز أن يراد أنه لا يبقى أحد من جميع أهل الكتاب إلّا ليؤمنن به على أن الله تعالى يحييهم في قبورهم في ذلك الزمان ويعلمهم نزوله وما أنزل له ويؤمنون به حين لا ينفعهم إيمانهم.
وقيل: الضمير في بِهِ يرجع إلى الله تعالى وقيل إلى محمد ﷺ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً يشهد على اليهود بأنهم كذبوه وعلى النصارى بأنهم دعوه ابن الله وكذلك كل نبي شاهد على أمته. قوله: فَبِظُلْمٍ التنوين للتعظيم يعني فبأي ظلم مِنَ الَّذِينَ هادُوا والذنوب نوعان: الظلم على الخلق وهو قوله: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا الآية والإعراض عن الدين الحق وهو قوله: وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً أي ناسا كثيرا أو صدا كثيرا.
ومن هذا القبيل أخذ الربا بعد النهي عنه وأكل أموال الناس بالباطل أي بالرشا على التحريف فهذه الذنوب هي الموجبة للتشديد عليهم في الدنيا والآخرة. أما في الدنيا فتحريم بعض المطاعم الطيبة كما يجيء في سورة الأنعام: وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ [الأنعام: ١٤٦] الآية وأما في الآخرة فقوله: وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً واعلم أن في متعلق قوله: فَبِما نَقْضِهِمْ وما عطف عليه قولين: الأوّل أنه محذوف والتقدير: فبنقضهم وبكذا وكذا لعناهم أو سخطنا عليهم أو نحو ذلك ثم استأنف قوله:
أما قوله: وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ ففيه أقوال: الأوّل روي عن عثمان وعائشة أنهما قالا: إن في المصحف لحنا وستقيمه العرب بألسنتها، ولا يخفى ركاكة هذا القول لأن هذا المصحف منقول بالتواتر عن رسول الله ﷺ فكيف يمكن ثبوت اللحن فيه؟ الثاني قول البصريين إنه نصب على المدح لبيان فضل الصلاة وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ رفع على المدح لبيان فضل الزكاة كقولك: جاءني قومك المطعمين في المحل والمغيثون في الشدائد. فتقدير الآية أعني المقيمين الصلاة وهم المؤتون الزكاة وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وطعن الكسائي في هذا القول بأن النصب على المدح إنما يكون بعد تمام الكلام وهاهنا الخبر وهو قوله:
أُولئِكَ إلخ منتظر. والجواب أن الخبر يُؤْمِنُونَ ولم سلم فما الدليل على أنه لا يجوز الاعتراض بالمدح بين المبتدأ وخبره؟ الثالث وهو اختيار الكسائي أن المقيمين خفض للعطف على ما في قوله: أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ والمراد بهم الأنبياء لأنه لم يخل شرع واحد منهم من الصلاة. قال تعالى: وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَإِقامَ الصَّلاةِ [الأنبياء: ٧٣] أو الملائكة لقوله: وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ [الصافات: ١٦٥] واعلم أن العلماء ثلاثة أقسام:
العلماء بأحكام الله وتكاليفه وشرائعه، والعلماء بذات الله وصفاته الواجبة والممتنعة وأحوال
بقوله صلى الله عليه وسلم: «جالس العلماء وخالط الحكماء ورافق الكبراء»
اللهم اجعلنا من زمرتهم بفضلك يا مستعان. ثم إنه سبحانه عاد إلى الجواب عن سؤال اليهود وهو اقتراح نزول الكتاب جملة فقال: إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ الآية. فبدأ بذكر نوح عليه السلام لأنه أول من شرع الله على لسانه الأحكام والحلال والحرام، ثم قال: وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ ثم خص بعض النبيين بالذكر لكونهم أفضل من غيرهم، ولم يذكر فيهم موسى لأن المقصود من تعداد هؤلاء الأنبياء أنهم كانوا رسلا مع أن واحدا منهم ما أوتي كتابا مثل التوراة دفعة واحدة. ثم ختم ذكر الأنبياء بقوله: وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً يعني أنكم اعترفتم، أن الزبور من عند الله، ثم إنه ما نزل على داود جملة واحدة وهذا إلزام حسن قوي والزبور كتاب داود عليه السلام. من قرأ بضم الزاي فعلى أنه جمع زبر وهو الكتاب كقدر وقدور. ثم قال: وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ والمعنى أنه تعالى إنما ذكر أحوال بعض الأنبياء في القرآن والأكثرون غير مذكورين على سبيل التفصيل. وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً هذا أيضا من تتمة الجواب. والمراد أنه بعث كل هؤلاء الأنبياء والرسل وخص موسى عليه السلام بشرف التكليم معه، ولم يلزم منه الطعن في سائر الأنبياء فكيف يلزم الطعن بإنزال التوراة عليه دفعة وإنزال غيرها على غيره منجما رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ يعني أن المقصود من بعثة الأنبياء إلزام التكاليف بالإنذار والتبشير، وقد يتوقف هذا المطلوب على إنزال الكتب وقد يكون إنزال الكتاب منجما مفرقا أقرب إلى المصلحة لأنه إذا نزل جملة كثرت التكاليف فيثقل القبول كما ثقل على قوم موسى فعصوا. ثم ختم الآية بقوله: وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً والمعنى أن عزته تقتضي أن لا يجاب المتعنت إلى مطلوبه وإن كان أمرا هينا في القدرة وكذلك حكمته تقتضي هذا الامتناع، لأنه لو فعل ذلك لأصروا على اللجاج في كل قضية. واحتج الأشاعرة بالآية على أن معرفة الله لا تثبت إلّا بالسمع لقوله: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ فيكون قبل البعثة لهم حجة في ترك الطاعات والمعارف.
وأجابت المعتزلة بأن الرسل منبهون عن الغفلة وباعثون على النظر وكان إرسالهم إزاحة للغفلة وتتميما لإلزام الحجة مع إفادة تفصيل أمور الدين وبيان أحوال التكليف وتعليم الشرائع. والمعتزلة قالوا: في الآية دلالة على امتناع تكليف ما لا يطاق لأن عدم إرسال الرسل إذا كان يصلح عذرا فبأن يكون عدم القدرة والمكنة صالحا للعذر أولى وعورض.
وأيضا قالوا: الآية تدل على أن العبد قد يحتج على الرب فيبطل قول أهل السنة إنه لا
نحن لا نشهد لك بذلك فنزل لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ ومعنى شهادة الله إنزال القرآن بحيث عجز عن معارضته الأولون والآخرون أي يشهد لك بالنبوة بواسطة هذا القرآن الذي أنزله إليك.
ثم فسر ذلك وأوضح بقوله: أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ أي متلبسا بعلمه الخاص الذي لا يعلمه غيره، أو بسبب علمه الكامل مثل: كتبت بالقلم وهذا كما يقال في الرجل المشهور بكمال الفضل إذا صنف كتابا واستقصى في تحريره إنما صنف هذا بكمال علمه يعني أنه اتخذ جملة علومه آلة ووسيلة إلى تصنيف ذلك الكتاب، أو أنزله وهو عالم بأنك أهل لإنزاله إليك وأنك مبلغه، أو أنزله بما علم من مصالح العباد فيه، أو أنزله وهو عالم به رقيب عليه حافظ له من شياطين الجن والإنس. وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ لأنهم لا يسبقونه بالقول فشهادته تستتبع شهادتهم ومن صدقه رب العالمين وملائكة السموات والأرضين لم يلتفت إلى تكذيب أخس الناس إياه وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً وإن لم يشهد غيره إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بمحمد ﷺ والقرآن وَصَدُّوا غيرهم عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بإلقاء الشبهات كقولهم: لو كان رسولا لأنزل عليه القرآن دفعة كما نزلت التوراة على موسى، وكقولهم إن شريعة موسى لا تنسخ وإن الأنبياء لا يكونون إلّا من ولد هارون وداود قَدْ ضَلُّوا ضَلالًا بَعِيداً لأن غاية الضلال أن ينضم معه الإضلال.
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا محمدا ﷺ بكتمان بعثته أو عوامهم بإلقاء الشبهات في قلوبهم.
ومعنى قوله: وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً أنهم لا يسلكون إلّا الطريق الموصل إلى جهنم أو لا يهديهم يوم القيامة إلّا طريقها. والعامل في خالِدِينَ معنى لا ليهديهم أي يعاقبهم أو يدخلهم النار خالدين. وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً لأنه لا صارف له عن ذلك ولا يتعذر عليه إيصال الألم إليه شيئا بعد شيء إلى غير النهاية. واللام في الَّذِينَ إما لقوم معهودين علم الله منهم أنهم يموتون على الكفر، وإما للاستغراق فيجب أن يضمر شرط عدم التوبة. وحمل المعتزلة قوله: وَظَلَمُوا على أصحاب الكبائر بناء على أنه لا فرق عندهم بين الكافر وصاحب الكبيرة في أنه لا يغفر لهما إلّا بالتوبة.
التأويل:
أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً لعل خرة موسى بلن تراني كانت بشؤم القوم وما كان في أنفسهم من سوء أدب هذا السؤال لئلا يطمعوا في مطلوب لم يعطه نبيهم، فما اتعظوا بحالة نبيهم لأنهم كانوا أشقياء والسعيد من وعظ بغيره. فكما زاد عنادهم زاد بلاؤهم وابتلاؤهم
[النجم: ١٠] وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ أي ليلة المعراج وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ [النساء: ١٦٤] الآن في القرآن مفصلة أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ تجلى له بصفة العالمية حتى علم بعلمه ما كان وما سيكون وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ على تلك الخلوة وإن لم يكونوا معك في الخلوة وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً على ما جرى.
قد كان ما كان سرا لا أبوح به | ظن خيرا ولا تسأل عن الخبر |
يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (١٧٠) يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلهٌ واحِدٌ سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (١٧١) لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً (١٧٢) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (١٧٣) يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً (١٧٤)
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً (١٧٥) يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالاً وَنِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٧٦)
فسنحشرهم بالنون: المفضل. الباقون بالياء.
الوقوف:
خَيْراً لَكُمْ ط. وَالْأَرْضِ ط حَكِيماً هـ إِلَّا الْحَقَّ ط.
وَكَلِمَتُهُ ج للاستئناف مع اتحاد المقصود. وَرُوحٌ مِنْهُ ز لعطف المختلفين ولكن فاء التعقيب توجب تعجيل الإيمان مع تمام البيان. وَرُسُلِهِ ط. ثَلاثَةٌ ط خَيْراً لَكُمْ ط إِلهٌ واحِدٌ ط. وَلَدٌ ج لأن المنفي منه مطلق الولد ولو وصل أوهم أن المنفي ولد موصوف بأن له ما في السموات وما في الأرض. وَكِيلًا هْ مُقَرَّبُونَ
طمِيعاً
هـ.
مِنْ فَضْلِهِ ج أَلِيماً هـ وَلا نَصِيراً هـ مُبِيناً هـ وَفَضْلٍ لا للعطف.
مُسْتَقِيماً هـ يَسْتَفْتُونَكَ ط. الْكَلالَةِ ط ما تَرَكَ ج لأن ما بعده مبتدأ ولكن الكلام متحد البيان. لَها وَلَدٌ ط لأن جملة الشرط تعود إلى قوله: فَلَها نِصْفُ وبينهما عارض مِمَّا تَرَكَ ط لابتداء حكم جامع للصنفين. الْأُنْثَيَيْنِ ط أَنْ تَضِلُّوا ط عَلِيمٌ هـ.
التفسير:
لما بيّن فساد طريقة اليهود وأجاب عن شبههم عمم الخطاب فقال: يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ أي بالقرآن والقرآن معجز فيكون حقا أو بالدعوة إلى عبادة الله والإعراض عن غيره وهو الحق الذي تشهد له العقول السليمة. فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ انتصابه بمضمر وكذا في انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ لأنه لما بعثهم على الإيمان والانتهاء عن التثليث علم أنه يحملهم على أمر. فالمعنى: اقصدوا وأتوا خيرا لكم مما أنتم فيه من الكفر والتثليث وهو الإيمان والتوحيد، فإن الإيمان لا شك أنه أحمد عاقبة من الكفر بل العاقبة كلها له. وقيل: إنه منصوب على خبرية «كان» أي يكن الإيمان خيرا لكم والأول أصح لئلا يلزم الحذف من غير قرينة وَإِنْ تَكْفُرُوا فإن الله غني عنكم لأنه مالك الكل، أو هو قادر على إنزال العذاب لأن الكل تحت قهره وتسخيره، أو له عبيد أخر يعبدونه غيركم وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً بأحوال العباد حَكِيماً لا يضيع أجر المحسن ولا يهمل جزاء المسيء.
ثم لما أجاب عن شبه اليهود خاطب النصارى ومنعهم عن الغلو في الدين وهو الإفراط في شأن المسيح إلى أن اعتقدوه إلها لا نبيا، وحثهم على أن لا يقولوا على الله إلّا الحق الذي يحق ويجب وصفه به وهو تنزيهه عن الحلول في بدن إنسان والاتحاد بروحه واتخاذه لصاحبة وولد إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ وجد بأمره من غير واسطة أب ولا نطفة أَلْقاها أي الكلمة إِلى مَرْيَمَ أي أوصلها إليها وحصلها فيها وَرُوحٌ مِنْهُ أي إنه طاهر نظيف بمنزلة الروح كما يقال: هذه نعمة من الله، أو سمي بذلك لأنه سبب حياة الأرواح أو كمالها كما سمي القرآن روحا في قوله: وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا [الشورى: ٥٢] وقيل: أي رحمة منه كقوله: وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ [المجادلة: ٢٢]
وقال صلى الله عليه وسلم: «إنما أنا رحمة مهداة»
وقيل: الروح هو الريح يعني أن النفخ من جبريل كان بأمر الله تعالى فهو منه والتنكير للتعظيم أي روح من الأرواح الشريفة القدسية العالية. وقوله: مِنْهُ إضافة لذلك الروح إلى نفسه لأجل التشريف. فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أي آمنوا به كإيمانكم بسائر الرسل ولا تجعلوه إلها وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ هي خبر مبتدأ محذوف أي الله ثلاثة إن كان معتقدهم أن الذات جوهر واحد وأنه ثلاثة بالصفات ويسمونها الأقانيم أقنوم الأب وأقنوم الابن وأقنوم روح القدس، وربما يقولون أقنوم الذات وأقنوم العلم وأقنوم الحياة، أو الآلهة ثلاثة إن كان في اعتقادهم أنها ذوات قائمة بأنفسها الأب والأم والابن. ولعل القولين مرجعهما إلى واحد لأنهم إذا جوزوا على الصفات الانتقال والحلول في عيسى وفي مريم فقد جعلوها مستقلة بأنفسها ولهذا لزم الكفر والشرك، وإلا فمجرد إثبات الصفات لله تعالى لا يوجب الشرك. فالأشاعرة أثبتوا لله تعالى ثمان صفات قدماء. انْتَهُوا عن التثليث واقصدوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلهٌ واحِدٌ لا تركيب فيه بوجه من الوجوه سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ أسبحه تسبيحا وأنزهه تنزيها من أن يكون له ولد فلا يتصل به عيسى اتصال الأبناء بالآباء ولكن من حيث إنه عبده ورسوله موجود بأمره جسدا حيا من غير أب لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ فكيف يكون بعض ملكه جزءا منه على أن الجزء إنما يصح في المنقسم عقلا أو حسا، وإنه لا ينقسم بجهة من الجهات لا العقلية ولا الحسية. وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا وإذا كان كافيا في تدبير المخلوقات وحفظ المحدثات فلا حاجة معه إلى القول بإثبات إله آخر مستقل أو مشارك.
قال الكلبي: إن وفد نجران قالوا: يا محمد لم تعيب صاحبنا؟ قال: ومن صاحبكم؟ قالوا: عيسى. قال: وأي شيء أقول فيه؟
قالوا: تقول إنه عبد الله ورسوله. فقال لهم: إنه ليس بعار لعيسى أن يكون عبد الله. قالوا:
بلى. فنزل نْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ
والتحقيق أن الشبهة التي عليها يعوّلون في دعوى أنه ابن الله هي أنه كان يخبر عن المغيبات ويأتي بخوارق العادات كإحياء الأموات فقيل لهم: نْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ
بسبب هذا القدر من العلم والقدرة عن عبودية الله تعالى فإن الملائكة المقربين أعلى حالا منه لأنهم مطلعون على اللوح المحفوظ، وقد حمل العرش مع عظمته ثمانية منهم ثم إنهم لم يستنكفوا عن كونهم عبادا لله تعالى فكيف يستنكف المسيح عن ذلك أي يمتنع ويأنف؟ والتركيب يدور على التنحية والإزالة من ذلك نكفت الدمع أنكفه إذا نحيته عن خدك بأصبعك، ونكفت عن الشيء أي عدلت.
والقائلون بأفضلية الملائكة استدلوا بهذه الآية وقد تقدم الاستدلال بها والجواب عنها والبحث عليها في سورة البقرة في تفسير قوله: وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا [البقرة: ٣٤]
فإنه معطوف علىْ مَسِيحُ
وهو الأظهر، وجوز بعضهم عطفه على الضمير في كُونَ
أو في بْداً
لمعنى الوصفية فيه فيكون المعنى: أنّ المسيح لا يأنف أن يكون هو ولا الملائكة موصوفين بالعبودية، أو لا يأنف أن يعبد الله هو والملائكة.
وفي المعنيين انحراف عن الغرض فالأول أولى. والمراد بالملائكة كل واحد منهم حتى يكون خبره أيضابْداً
أو يكون الخبر عِباداً وحذف لدلالةبْداً
عليه مَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ
أي يجمعهم يوم القيامة إليه حيث لا يملكون لأنفسهم شيئا.
ثم إنه تعالى لم يذكر ما يفعل بهم بل ذكر أولا ثواب المؤمنين المطيعين فسئل إن التفصيل غير مطابق للمفصل لأنه اشتمل على الفريقين والمفصل على فريق واحد فأجاب في الكشاف بأن هذا كقولك: جمع الإمام الخوارج فمن لم يخرج عليه كساه وحمله ومن خرج عليه نكل به. فحذف ذكر أحد الفريقين لدلالة التفصيل عليه، ولأن ذكر أحدهما يدل على ذكر الثاني كما حذف أحدهما في التفصيل في قوله: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ أو قدم ثواب المؤمنين توطئة كأنه قيل: ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيعذب بالحسرة إذا رأى أجور العاملين وسيعاقب مع ذلك بما يصيبهم من العذاب. أقول: لو جعل الضمير في قول: سَيَحْشُرُهُمْ
راجعا إلى الناس جميعا لم يحتج إلى هذه التكلفات ويحصل الربط بسبب العموم ومثله غير عزيز في القرآن كقوله: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا [الكهف: ٣٠] ثم عاد إلى تعميم الخطاب بقوله: يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ الآية. فيحتمل أن يراد بالبرهان والنور كليهما القرآن، ويحتمل أن يراد بالبرهان محمد ﷺ لأنه يقيم البرهان على تحقيق الحق وإبطال الباطل وبالنور المبين القرآن لأن سبب لوقوع نور الإيمان في القلب. فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ في ذاته وصفاته وأفعاله وأحكامه وأسمائه وَاعْتَصَمُوا بِهِ تمسكوا بدينه أو لجؤا إليه في أن يثبتهم على الإيمان ويصونهم عن زيغ الشيطان فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ قال ابن عباس: الرحمة الجنة، والفضل ما يتفضل عليهم مما لا عين رأت ولا أذن سمعت وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ أي إلى عبادته صِراطاً مُسْتَقِيماً هو الدين الحنيفي والتقدير صراطا مستقيما إليه، ويحتمل أن يراد بالرحمة والفضل اللذات الحسية الباقية، وبالهداية اللذات الروحانية الدائمة.
ثم إنه سبحانه ختم السورة بنحو مما بدأها به وهو أحكام المواريث فقال:
يَسْتَفْتُونَكَ الآية. قال أهل العلم: إنّ الله تعالى أنزل في الكلالة آيتين إحداهما في الشتاء وهي التي في أول هذه السورة، والأخرى في الصيف وهي هذه ولهذا تسمى آية الصيف.
أحسن. ثم خرج وتركني قال: ثم دخل فقال: يا جابر إني لا أراك تموت في وجعك هذا وإن الله قد أنزل فبيّن الذي لأخواتك وجعل لأخواتك الثلثين.
وروي أنه آخر ما نزل من الأحكام كان رسول الله ﷺ في طريق مكة عام حجة الوداع فأتاه جابر بن عبد الله فقال: إن لي أختا فكم آخذ من ميراثها إن ماتت؟ فنزلت.
هذا وقد تقدم أن الكلالة اسم يقع على الوارث وهو من عدا الوالد والولد وعلى المورث وهو الذي لا ولد له ولا والدين. إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ ارتفع امْرُؤٌ بمضمر يفسره هذا الظاهر، ومحل لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ الرفع على الصفة أي إن هلك امرؤ وغير ذي ولد. اعلم أن ظاهر الآية مطلق ولا بد فيه من تقييدات ثلاثة: الأول أن الولد مطلق والمراد به الابن لأنه هو الذي يسقط الأخت، وأما البنت فلا تسقطها ولكنها تعصبها لما
روي عن ابن مسعود أن النبي ﷺ قضى في بنت وبنت ابن وأخت بأن للبنت النصف ولبنت الابن السدس والباقي للأخت.
فعلى هذا فلو خلف بنتا وأختا فللبنت النصف والباقي للأخت بالعصوبة. الثاني أن ظاهر الآية يقتضي أنه إذا لم يكن للميت ولد فإن الأخت تأخذ النصف وليس كذلك على الإطلاق، بل الشرط أن لا يكون للميت ولد ولا والد لأن الأخت لا ترث مع الوالد بالإجماع. الثالث قوله: وَلَهُ أُخْتٌ المراد الأخت من الأب والأم أو من الأب لأن الأخت من الأم والأخ من الأم ذكر حكمهما في أول السورة بالإجماع. ثم قال: وَهُوَ يَرِثُها أي وأخوها يرثها ويستغرق مالها إن قدر الأمر على العكس من موتها وبقائه بعدها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ
أي ابن كما قلنا لأن الابن يسقط الأخ دون البنت. وأيضا إن هذا في الأخ من الأبوين أو من الأب، أما الأخ من الأم فإنه لا يستغرق الميراث. وأيضا المراد إن لم يكن لها ولد ولا والد لأن الأب أيضا مسقط للأخ
لقوله صلى الله عليه وسلم: «ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فلأولى عصبة ذكر»
والأب أولى من الأخ.
ثم قال: فَإِنْ كانَتَا يعني من يرث بالإخوة اثْنَتَيْنِ فأنث وثنى باعتبار الخبر كقولهم من كانت أمك وكذا الكلام في قوله: وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً وأراد بالإخوة الإخوة والأخوات لكنه غلب جانب الذكورة. روي أن الصديق قال في خطبة: ألا إنّ الآيات التي أنزلها الله في سورة النساء في الفرائض أولاها في الوالد والولد، وثانيتها في الزوج والزوجة والإخوة من الأم، والتي ختم بها السورة في الإخوة والأخوات من الأب والأم، والتي ختم بها الأنفال في أولي الأرحام يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا قال البصريون: المضاف محذوف أي كراهة أن تضلوا. وقال الكوفيون: لئلا تضلوا. وقال الجرجاني صاحب النظم: يبين الله لكم الضلالة لتعلموا أنها ضلالة فتتجنبوها وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ فيكون بيانه حقا وتعريفه صدقا. ختم
التأويل:
وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يعني إن تؤمنوا يكن لكم ماله وإن تكفروا فالكل له لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ لا تميلوا إلى طرفي التفريط والإفراط. فاليهود فرطوا في شأنه فلم يقبلوه نبيا وهموا بقتله، والنصارى أفرطوا في حبه فجعلوه ابن الله، وكذلك كل ولي له سبحانه يشقى قوم بترك احترامه وطلب أذيته، وقوم بالزيادة في إعظامه حتى يعتقد فيه ما ليس يرضى به كالخوارج والغلاة من الشيعة ولهذا
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم» «١».
وَرُوحٌ مِنْهُ لأنه تكوّن بأمركن من غير واسطة أب كما أن الروح تكون كذلك قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي [الإسراء: ٨٥] ولغلبة جانب الروحانية عليه كان يحيي الأجساد الميتة إذ ينفخ فيها وهذا الاستعداد الروحاني الذي هو من كلمة الله مركوز في جبلة الإنسان فمن تخلص جوهر روحانيته من معدن بشريته في إنسانيته يكون عيسى وقته فيحيي الله تعالى بأنفاسه القلوب الميتة ويفتح به آذانا صما وعيونا عميا فيكون في قومه كالنبي في أمته وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ يعني نفوسكم والرسول والله. بل انتهوا بنظر الوحدة عن رؤية الثلاثة فينكشف لكم إِنَّمَا اللَّهُ إِلهٌ واحِدٌ سبحانه أن يتولد من وحدانيته شيء له الوجود الحقيقي القائم الدائم أولا وآخرا وظاهرا وباطنا كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص: ٨٨] وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا لكل هالك. نْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ
لأن العبدية وهي حقيقة الإمكان الذاتي واجبة له ولهذا نطق في المهد بقوله: إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ [مريم: ٣٠] لَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ
إنما ذكرهم لأن بعض الكفار كانوا يقولون الملائكة بنات الله كما قالت النصارى المسيح ابن الله. قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ جعل نفس النبي برهانا لأنه برهان بالكلية وبرهان غيره كان في أشياء غير أنفسهم مثل ما كان برهان موسى في عصاه. فمن ذلك برهان بصره ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى [النجم: ١٧] ومنه برهان أنفه
«إني لأجد نفس الرحمن من جانب اليمن» «٢»
ومنه برهان لسانه وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى [النجم: ٣] وبرهان بصاقه بصق في العجين وفي البرمة فأكلوا من ذلك وهم ألف حتى تركوه والبرمة تفور كما هي والعجين يخبز. وبرهان تفله تفل في عين علي كرم الله وجهه وهي ترمد فبرأ بإذن الله وذلك يوم خيبر، وبرهان يده وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ
(٢) رواه أحمد في مسنده (٢/ ٥٤١).
«تنام عيناي ولا ينام قلبي» «١»
نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ [الشعراء: ١٩٣] وبرهان كله سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ [الإسراء: ١] اللهم ارزقنا الاقتناص من هذا البرهان والاقتباس من أنوار القرآن إنك أنت الرؤوف المنان.