ﰡ
قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر (١) عباده في الآية السابقة بنعمه عليهم بالتمكين لهم في الأرض، وخلق أنواع المعايش لهم فيها.. قفى على ذلك ببيان أنه خلق النوع الإنساني مستعدا للكمال، وأنه قد تعرض له وسوسة من الشيطان تحول بينه وبين هذا الكمال الذي يبتغيه.
قال أبو حيان: قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنه سبحانه وتعالى لما قدم (٢) ما يدل على تقسيم المكلفين إلى طائع وعاص، فالطائع ممتثل ما أمر الله به مجتنب ما نهى عنه، والعاصي بضده.. أخذ ينبه على أن هذا التقسيم كان في البدء الأول من أمر الله للملائكة بالسجود، فامتثل من امتثل، وامتنع من امتنع، وأنه تعالى أمر آدم ونهى، فحكى عنه ما يأتي خبره، فنبه أولا على موضع الاعتبار، وإبراز الشيء من العدم الصّرف إلى الوجود والتصوير في هذه الصورة الغريبة الشكل المتمكنة من بدائع الصانع.
التفسير وأوجه القراءة
١ - ﴿المص﴾ (١) هذه حروف تكتب بصورة كلمة ذوات الأربعة الأحرف، لكنّا نقرؤها بأسماء هذه الأحرف، فنقول: ألف لام ميم صاد، وحكمة افتتاح هذه السورة وأمثالها بأسماء الحروف التي ليس لها معنى مفهوم غير مسماها الذي تدل عليه.. تنبيه السامع إلى ما سيلقى إليه بعد هذا الصوت من الكلام حتى لا يفوته منه شيء، فكأنه أداة استفتاح بمنزلة (ألا) و (ها) التنبيه.
وبالاستقراء نرى أن السور التي بدئت بها وبذكر الكتاب هي التي نزلت
(٢) البحر المحيط.
وروي (١) عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال معناه: أنا الله أفصّل، وعنه: أنا الله أعلم وأفصّل، وعنه: أن ﴿المص (١)﴾ قسم أقسم الله به، وهو اسم من أسماء الله تعالى. وقال قتادة: ﴿المص (١)﴾ اسم من أسماء القرآن. وقال الحسن: هو اسم للسورة. وقال السدي: هو بعض اسمه تعالى المصور. وقال أبو العالية: الألف مفتاح اسمه الله، واللام مفتاح اسمه لطيف، والميم مفتاح اسمه مجيد، والصاد مفتاح اسمه صادق وصبور. وقيل: هي حروف مقطعة استأثر الله سبحانه وتعالى بعلمها، وهي سره في كتابه العزيز؛ وهذا القول هو الأصح الأسلم. وقيل: هي حروف اسمه الأعظم. وقيل هي حروف تحتوي معاني دل الله بها خلقه على مراده، وقد بسط الكلام على معاني الحروف المقطعة أوائل السور في أول سورة البقرة. قال أبو حيان (٢): وهذه الأقوال في الحروف المقطعة، لولا أن المفسرين شحنوا بها كتبهم خلفا عن سلف.. ضربنا عن ذكرها صفحا، فإن ذكرها يدل على ما لا ينبغي ذكره من تأويلات الباطنية، وأصحاب الألغاز والرموز.
(٢) البحر المحيط.
وقد كلف ﷺ هداية الثقلين، وكان من المتوقع أن يلقى أشد الإيذاء والمقاومة والطعن والإعراض، وتلك أمور توجب ضيق الصدر كما قال في سورة الحجر: ﴿وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ (٩٧)﴾ وقال في سورة النحل: ﴿وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (١٢٧)﴾ وقال في سورة هود: ﴿فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (١٢)﴾.
ويراد بالنهي عن مثل هذا الأمر الطبيعي الاجتهاد في مقاومته، والتسلي عنه بوعد الله، والتأسي بمن سبقه من الرسل أولي العزم صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين.
وقوله: ﴿لِتُنْذِرَ بِهِ﴾ متعلق بـ ﴿أُنْزِلَ﴾؛ أي: أنزل إليك ذلك الكتاب لتنذر وتخوف به الكافرين من عذاب الله تعالى ﴿وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ﴾؛ أي: ولتذكر وتعظ به المؤمنين به. وقال «الخازن»: وهذا من المؤخر الذي معناه التقدير، تقديره: كتاب أنزلناه إليك لتنذر به وذكرى للمؤمنين، فلا يكن في صدرك حرج منه، والمراد بالمؤمنين هنا من كتب الله لهم الإيمان، سواء أكانوا مؤمنين حين نزول هذه السورة أم لا.
(٢) المراغي.
٣ - قل يا محمد لهؤلاء المشركين، أو للناس كافة: ﴿اتَّبِعُوا﴾ أيها الناس ﴿ما أُنْزِلَ﴾؛ أي: الوحي الذي أنزل ﴿إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ الذي فيه الهدى والنور والبيان بامتثال أوامره واجتناب نواهيه؛ وهو القرآن وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ أي: قل لهم أيها الرسول: اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وخالقكم ومدبر أموركم، فهو وحده الذي له الحق في شرع الدين لكم، وفرض العبادات عليكم، وتحليل ما ينفعكم، وتحريم ما يضركم؛ إذ هو العليم بما فيه الفائدة أو الضر لكم ﴿وَلا تَتَّبِعُوا﴾؛ أي: ولا تتخذوا ﴿مِنْ دُونِهِ﴾ تعالى؛ أي: غيره ﴿أَوْلِياءَ﴾ تولونهم أموركم وتطيعونهم فيما يشرعونه لكم من الشياطين والكهان، والرهبان والأحبار، وقال «الخازن»: ولا تتخذوا (٢) الذين يدعونكم إلى الكفر والشرك أولياء، فتتبعوهم، والمعنى: ولا تتولوا من دونه شياطين الإنس والجن، فيأمروكم بعبادة الأصنام، واتباع البدع والأهواء الفاسدة، انتهى. وفي «البيضاوي»: وقيل: الضمير في ﴿مِنْ دُونِهِ﴾ لما أنزل؛ أي: ﴿وَلا تَتَّبِعُوا﴾ من دون دين الله دين أولياء انتهى.
والمعنى: أي ولا تتخذوا من أنفسكم، ولا من الشياطين الذين يوسوسون لكم أولياء تولونهم أموركم، وتطيعونهم فيما يرومون منكم من ضلال التقاليد، والابتداع في الدين، فيضعوا لكم أحكام الحرام والحلال زاعمين أنهم منكم، فيجب عليكم تقليدهم، ولا أولياء ينجونكم من الجزاء على ذنوبكم، وتقصدونهم في جلب النفع لكم، أو رفع الضر عنكم زاعمين أنهم يقربونكم إلى الله زلفى، أو يشفعون لكم عنده في الآخرة.
والخلاصة: أن الله وحده هو الذي يتولى أمر العباد بالتدبير والخلق والتشريع، وله وحده الخلق والأمر، وبيده النفع والضر. وقرأ الجحدري: ﴿ابتغوا ما أنزل إليكم﴾ من الابتغاء. وقرأ مجاهد ومالك بن دينار: {ولا
(٢) الخازن.
﴿قَلِيلًا ما﴾؛ أي: تذكرا قليلا؛ أي: قلة أو زمانا قليلا؛ أي: قلة ﴿تَذَكَّرُونَ﴾؛ أي: تتعظون أيها المشركون حيث تتركون دين الله وتتبعون غيره. والمعنى (١): أنتم ما تتعظون بقليل ولا كثير، والمراد: نفي التذكر من أصله، لا إثبات القليل منه. وفي هذا إيماء إلى النهي عن طاعة الخلق في أمر الدين غير ما أنزل الله من وحيه، كما فعل أهل الكتاب في طاعة أحبارهم ورهبانهم فيما أحلوا لهم، وزادوا على الوحي من العبادات، وما حرموا عليهم من المباحات كما جاء في قوله: ﴿اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْبابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ فكل من أطاع أحدا في حكم شرعي لم ينزله الله.. فقد اتخذه ربا.
واتباع الرسول ﷺ فيما صح عنه من بيان الدين داخل في عموم ما أنزل إلينا على رسوله؛ لأنه تعالى أمرنا باتباعه وطاعته، وأخبرنا أنه مبين لما نزل إليه كما قال: ﴿وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾ وقد صح الحديث أنه ﷺ قال: «إنما أنا بشر إذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوا به، وإذا أمرتكم بشيء من رأيي فإنما أنا بشر» رواه مسلم (٢٣٦٢) عن رافع بن خديج في مسألة تأبير النخل - تلقيح النخلة بطلع الذكر -.
وقرأ حفص وحمزة والكسائي (٢): ﴿تَذَكَّرُونَ﴾ - بتاء واحدة وتخفيف الذال -. وقرأ ابن عامر ﴿يتذكرون﴾ - بالياء والتاء وتخفيف الذال -. وقرأ باقي السبعة: ﴿تذّكّرون﴾ بتاء الخطاب وتشديد الذال. وقرأ أبو الدرداء وابن عباس وابن عامر في رواية بتائين. وقرأ مجاهد بياء وتشديد الذال.
٤ - ﴿وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ﴾؛ أي: وكثير من أهل قرية وبلدة ﴿أَهْلَكْناها﴾؛ أي: أردنا إهلاك أهلها لما كذبوا رسلنا ﴿فَجاءَها﴾؛ أي: فجاء أهلها ﴿بَأْسُنا﴾؛ أي: عذابنا ﴿بَياتًا﴾؛ أي: حالة كونهم بائتين واقعين في الليل كقوم لوط ﴿أَوْ هُمْ قائِلُونَ﴾؛ أي: أو حالة كونهم قائلين؛ أي: مستريحين أو نائمين وقت الظهيرة كقوم
(٢) البحر المحيط.
وفي ذلك (٢): تعريض بغرور كفار قريش بقوتهم وثروتهم وعزهم وعصبيتهم، وأن ذلك من دلائل رضا الله عنهم كما قال تعالى حكاية عنهم: ﴿وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالًا وَأَوْلادًا وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ﴾. ﴿فَما كانَ دَعْواهُمْ﴾؛ أي: دعاءهم وتضرعهم واستغاثتهم، أو ما كان قولهم: ﴿إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا﴾؛ أي: حين جاءهم عذابنا، ورأوا أمارته في الدنيا إلا أن قالوا: إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ أي: مشركين؛ أي: ما كان قولهم وقتئذ إلا اعترافهم بظلمهم تحصرا وندامة، وهيهات أن ينفع الندم.
٥ - أي: فما كان دعاءهم ربهم واستغاثتهم به حين جاءهم العذاب إلا أن اعترفوا بظلمهم فيما كانوا عليه، وشهدوا ببطلانه تحسرا وندامة، وطمعا في الخلاص، ولكن أنى ينفع الندم، وقد أزفت الآزفة ليس لها من دون الله كاشفة. وفي الآية من العبرة أن كل مذنب يقع عليه عقاب ذنب فعله في الدنيا.. يعترف بجرمه، ويندم على ما فرط منه إذا هو علم أنه سبب العقاب، وقلما يشعر المرء بعقاب في الدنيا على الذنوب؛ لأنه يأتي على التراخي غالبا، فالأمراض التي تتولد من شرب الخمر كأمراض القلب والكبد والجهاز التناسلي، وضعف النسل واستعداده للأمراض إلى نحو ذلك من الأمراض الجسدية والعقلية تحصل ببطء،
(٢) المراغي.
وربما عمّها الجهل، وران على قلوبها الفساد، فلا تشعر بأن ما حل بها إنما كان جزاء وفاقا، ونكالا من الله على ما قدمت من عمل، واقترفت من إثم، فترضى باستذلال الغاصب واستعباده واستئماره، كما رضيت من قبل بما اجترحت من الآثام والذنوب، كما هو مشاهد في بعض شعوب إفريقيا، وإذا أرادت لها علاجا، وتمنت لها دواء من دائها الدوي، وتلفتت يمنة ويسرة سرا وعلانية.. لم تجده إلا ما وصفه الكتاب الكريم: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ﴾ ولن يكون ذلك إلا بالإقلاع عما ترتكب من الجرائم، والتوبة الصادقة، والعمل الطيب الذي تصلح به القلوب، وتستقيم الأمور، وهاكم ما قاله العباس عم النبي ﷺ حين توسل به عمر والصحابة بتقديمه لصلاة الاستسقاء لما انقطع الغيث، وعم الجدب: اللهم إنه لا ينزل بلاء إلا بذنب، ولا يرفع إلا بتوبة.
وفي هذا عبرة أيما عبرة للشعوب الإسلامية التي ثلّت عروشها، وخوت صروح عظمتها، وقد كانت أجدر بهدى القرآن، ولكن أنى لها بذلك، وقد هجره
٦ - ﴿فـ﴾ وعزتي وجلالي ﴿لَنَسْئَلَنَّ﴾ الأمم ﴿الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ﴾؛ أي: الأمم التي أرسلت إليهم الرسل جميعا في موقف الحساب يوم القيامة توبيخا وتقريعا لهم هل بلغت الرسل إليكم أوامري، وماذا أجبتم، وماذا عملتم من إيمان وكفر؟ ولا (١) معارضة بين هذه الآية التي تثبت السؤال العام، وبين قوله تعالى: ﴿فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ (٣٩)﴾ وقوله: ﴿وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ﴾ لأن ليوم القيامة مواقف متعددة، والسؤال والجواب والاعتذار يكون في بعضها دون بعض.
﴿وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ﴾؛ أي: الرسل عن إبلاغ تكاليفي إلى الأمم تأنيسا واستشهادا لهم. قال ابن عباس: معناه نسأل الناس عما أجابوا المرسلين، ونسأل المرسلين عما بلغوه، والمراد بالسؤال حينئذ تقريع الكفار وتوبيخهم كما مر.
٧ - ﴿فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ﴾؛ أي: على المرسلين والأمم حين سكتوا بما عملوا في الدنيا ﴿بِعِلْمٍ﴾؛ أي: فلنخبرنهم حين سكتوا عن الجواب بما فعلوا في الدنيا إخبارا ناشئا عن علم ويقين.
أي: فلنقصن على الرسل، وعلى أقوامهم الذين أرسلوا إليهم كل ما وقع من الفريقين قصصا بعلم منا محيط بكل ما كان منهم، فلا يعزب عنه مثقال ذرة، وقد روي عن ابن عباس أنه يوضع الكتاب يوم القيامة، فيتكلم بما يعملون.
﴿وَما كُنَّا غائِبِينَ﴾ عن إبلاغ الرسل، وعما أجابت به أممهم حتى يخفى علينا شيء من أحوالهم؛ أي: وما كنا غائبين عنهم في وقت من الأوقات، ولا حال من الأحوال، بل كنا معهم نسمع ما يقولون، ونبصر ما يعملون، ونحيط
وما رواه المقدام قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «لا يكون رجل على قوم إلا جاء يقدمهم يوم القيامة بين يديه راية يحملها، ويتبعونه فيسأل عنهم ويسألون عنه».
وما رواه الترمذي عن أبي برزة الأسلمي مرفوعا «لا تزول قدما عبد حتى يسأل عن عمره فيم أفناه، وعن علمه فيم عمل به، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وعن جسمه فيم أبلاه».
وروى الحاكم وابن ماجه حديث شداد بن أوس مرفوعا «الكيس من دان - حاسب - نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني».
(٢) المراغي.
فإن قلت: أليس (٣) الله عز وجل يعلم مقادير أعمال العباد، فما الحكمة في وزنها؟.
قلت: فيه حكم كثيرة:
منها: إظهار العدل، وأن الله تعالى لا يظلم عباده.
ومنها: امتحان الخلق بالإيمان بذلك في الدنيا، وإقامة الحجة عليهم في العقبى.
ومنها: تعريف العباد ما لهم من خير وشر، وحسنة وسيئة.
ومنها: إظهار علامة السعادة والشقاوة، ونظيره أنه تعالى أثبت أعمال العباد في اللوح المحفوظ، ثم في صحائف الملائكة الموكلين ببني آدم من غير جواز النسيان عليه تعالى.
﴿فَمَنْ ثَقُلَتْ﴾ ورجحت ﴿مَوازِينُهُ﴾؛ أي: حسناته على سيئاته؛ فهو (٤) جمع موزون، وجمعه باعتبار اختلاف الموزونات والحسنات، أو المعنى: فمن رجحت وثقلت موازين أعماله بالإيمان وكثرة الحسنات؛ أي: ثقلت كفة اليمين بسبب قوة الإيمان وكثرة الحسنات على كفة الشمال؛ فهو جمع ميزان، فجمعه حينئذ
(٢) المراغي.
(٣) الخازن.
(٤) البيضاوي.
أي: فمن رجحت موازين أعماله بالإيمان وكثرت الحسنات.. فأولئك هم الفائزون بالنجاة من العذاب، والحائزون للنعيم في دار الثواب
٩ - ﴿وَمَنْ خَفَّتْ﴾ ونقصت ﴿مَوازِينُهُ﴾؛ أي: حسناته، أو موازين أعماله الحسنة بسبب الكفر وكثرة المعاصي ﴿فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا﴾ وغبنوا ﴿أَنْفُسَهُمْ﴾ وحرموها سعادتها، وحظوظها من جزيل ثواب الله تعالى وكرامته ﴿بـ﴾ سبب ﴿ما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ﴾؛ أي: يجحدون؛ أي: بسبب كفرهم وجحودهم، وتكذيبهم بمحمد ﷺ وبالقرآن؛ وهم الكفار، يعني (٢): سبب ذلك الخسران أنهم كانوا بحجج الله وأدلة توحيده يجحدون ولا يقرون بها.
والمعنى: ومن خفت موازين أعماله بسبب خفة الحسنات في الميزان أو بسبب الأعمال التي لا اعتداد بها في الوزن، أو بسبب كفره وكثرة ما اجترح من السيئات.. فأولئك الموصوفون بخفة الموازين هم الذين خسروا أنفسهم بسبب تكذيبهم بآياتنا؛ إذ حرموها السعادة التي كانت مستعدة لها لو لم يفسدوا فطرتها بالكفر والمعاصي، وإصرارهم على ذلك إلى نهاية أعمارهم.
والخلاصة (٣): أن المؤمنين على تفاوت درجاتهم في الأعمال هم المفلحون، فمن مات مؤمنا فهو مفلح، وإن عذب على بعض ذنوبه بمقدارها، وإن الكافرين على تفاوت دركاتهم هم في خسران عظيم، وهناك فريق ثالث استوت حسناتهم وسيئاتهم، وهم أصحاب الأعراف، وسيأتي ذكرهم بعد.
والحكمة في وضع ذلك الميزان (٤): أن يظهر ذلك الرجحان لأهل الموقف، فإن كان ظهور الرجحان في طرف الحسنات ازداد سروره بسبب ظهور فضله، وكمال درجته لأهل الموقف، فإن كان ظهور الرجحان في طرف السيئات، فيزداد حزنه وخوفه في الموقف.
(٢) الخازن.
(٣) المراغي.
(٤) المراح.
قال العلماء: الناس في الآخرة ثلاث طبقات: متقون لا كبائر لهم، وكفار، ومخلّطون وهم الذين يأتون الكبائر:
فأما المتقون: فإن حسناتهم توضع في الكفة النيرة، وصغائرهم لا يجعل الله لها وزنا، بل تكفر صغائرهم باجتنابهم الكبائر، وتثقل الكفة النيرة، ويؤمر بهم إلى الجنة، ويثاب كل واحد منهم بقدر حسناته.
وأما الكافر: فإنه يوضع كفره في الكفة المظلمة، ولا توجد له حسنة توضع في الكفة الأخرى، فتبقى فارغة، فيأمر الله تعالى بهم إلى النار، ويعذب كل واحد منهم بقدر أوزاره.
وأما الذين خلطوا: فحسناتهم توضع في الكفة النيرة، وسيئاتهم في الكفة المظلمة، فيكون لكبائرهم ثقل، فإن كانت الحسنات أثقل، ولو بصوأبة دخل الجنة، وإن كانت السيئات أثقل ولو بصوأبة دخل النار إلا أن يعفو الله، وإن تساويا كان من أصحاب الأعراف. هذا إن كانت الكبائر فيما بينه وبين الله، وأما إن كان عليه تبعات، وكانت له حسنات كثيرة جدا، فإنه يؤخذ من حسناته فيرد على المظلوم، وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات المظلوم، فيحمل على الظالم من أوزار من ظلمه، ثم يعذب على الجميع.
قال أبو إسحاق الزجاج (١): أجمع أهل السنة على الإيمان بالميزان، وأن أعمال العباد توزن يوم القيامة، وأن الميزان له لسان وكفتان ويميل بالأعمال.
وقال القرطبي: التي توزن هي الصحائف التي تكتب فيها الأعمال، والحق أن التي توزن هي الأعمال. فقد أخرج أبو داود والترمذي عن جابر مرفوعا: «توضع الموازين يوم القيامة، فتوزن الحسنات والسيئات، فمن رجحت حسناته على
والذي (١) عليه المعول في الإيمان بعالم الغيب أن كل ما ثبت من أخباره في الكتاب والسنة؛ فهو حق لا ريب فيه، فنؤمن به ولا نحكم رأينا في كيفيته، فنؤمن بأن في الآخرة وزنا للأعمال بميزان يليق بعالم الآخرة توزن به الأعمال، والإيمان، والأخلاق، ولا نبحث عن صورته وكيفيته.
١٠ - ﴿وَ﴾ عزتي وجلالي ﴿لَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ﴾ يا بني آدم ﴿فِي الْأَرْضِ﴾؛ أي: جعلنا لكم في الأرض مكانا وقرارا، وأقدرناكم على الصرف فيها بالزراعة والغراس والبناء. وقال البيضاوي: أي مكناكم من سكناها وزرعها، والتصرف فيها ﴿وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها﴾؛ أي: في الأرض ﴿مَعايِشَ﴾ جمع معيشة، وهي ما يعاش به من المطاعم والمشارب وغيرها؛ أي: جعلنا لكم فيها أسبابا تعيشون بها أيام حياتكم مما تأكلون وتشربون وتلبسون ﴿قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ﴾ الله تعالى؛ أي: تشكرون شكرا قليلا؛ أي: قلة على هذا الفضل والإنعام بالتمكين والجعل المذكورين.
وقرأ الجمهور (٢): ﴿مَعايِشَ﴾ - بالياء - وهو القياس؛ لأن الياء في المفرد هي أصل لا زائدة، فتهمز، وإنما تهمز الزائدة نحو صحائف في صحيفة. وقرأ الأعرج وزيد بن علي والأعمش وخارجة عن نافع وابن عامر في رواية: ﴿معائش﴾ - بالهمز - وليس بالقياس، لكنهم رووه وهم ثقات، فوجب قبوله، وشذ هذا الهمز كما شذ في منائر جمع منارة، وأصلها منورة، وكان القياس مناور.
والمعنى (٣): وعزتي وجلالي لقد جعلنا لكم يا بني آدم في الأرض أوطانا تتبؤونها وتستقرون فيها، وجعلنا لكم فيها معايش تعيشون بها أيام حياتكم من مطاعم ومشارب نعمة مني عليكم، وإحسانا مني إليكم، وأنشأنا لكم فيها ضروبا شتى من المنافع التي تعيشون بها عيشة راضية من نبات وأنعام، وطير وسمك، ومياه عذبة وأشربة مختلفة الطعوم والروائح، ووسائل مختلفة للتنقل والارتحال
(٢) البحر المحيط.
(٣) المراغي.
وشكر النعمة يكون بمعرفة المنعم بها، ثم حمده والثناء عليه بما هو له أهل، ثم التصرف فيها بما يحبه ويرضاه وتحقيق الأغراض التي أسداها لأجلها، فهذه النعم المعيشة ما خلقت إلا لحفظ الحياة الروحية التي بها تزكو النفس، وتستعد للحياة الأخرى الأبدية التي فيها النعيم المقيم، والسعادة المستقرة إلى غير نهاية.
وبالجملة: فنعم الله على الإنسان كثيرة، فلا إنسان إلا ويشكر الله تعالى في بعض الأوقات على نعمه، وإنما التفاوت في أن بعضهم يكون كثير الشكر، وبعضهم يكون قليل الشكر.
١١ - وقوله: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ...﴾ إلخ. تذكير (١) لنعمة عظيمة على آدم سارية إلى ذريته موجبة لشكرهم كافة؛ أي: وعزتي وجلالي لقد خلقنا أباكم آدم، وأوجدناه من العدم حين كان طينا غير مصور ﴿ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ﴾؛ أي: ثم بعد خلقه صورناه حين كان بشرا بتخطيطه وشق حواسه، فالكلام على حذف مضاف كما قدرناه، فالخطاب لبني آدم، والمراد أبوهم، فهو من باب الخطاب لشخص مرادا به غيره. وقيل: الخطاب لآدم، فكأنه قال: ولقد خلقناك يا آدم، ثم صورناك، وإنما خاطبه بصيغة الجمع، وهو واحد تعظيما له، ولأنه أصل الجميع.
والمعنى: ولقد خلقنا مادة هذا النوع الإنساني من الصلصال والحماء المسنون؛ أي: من الماء والطين اللازب، فمنه خلق الإنسان الأول، ثم جعلنا
﴿ثُمَّ﴾ بعد إكمال خلقه وتصويره ﴿قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ﴾؛ أي: أمرنا الملائكة بالسجود لآدم تكريما له ولذريته سجود تحية وإكرام بالانحناء. فالمراد (١) به السجود اللغوي، وهو الانحناء، وقيل: إن السجود شرعي بوضع الجبهة على الأرض لله، وآدم قبلة كالكعبة ﴿فَسَجَدُوا﴾؛ أي: سجد الملائكة بعد الأمر؛ أي: سجد جميعهم لآدم، وذلك قبل دخول الجنة ﴿إِلَّا إِبْلِيسَ﴾ أبا الجن كان مفردا مستورا بألوف من الملائكة متصفا بصفاتهم، فغلّبوا عليه في قوله: ﴿لِلْمَلائِكَةِ...﴾ الخ، وقيل: هو أبو الشياطين فرقة من الجن لم يؤمن منهم أحد؛ أي: سجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس أبى وامتنع من السجود له تكبرا وعنادا، فالاستثناء منقطع ﴿لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ﴾ له؛ أي: ممن سجدوا له.
والمعنى: وبعد أن سويناه ونفخنا فيه من روحنا، وصار مستعدا لأن يكون خليفة في الأرض، وعلمناه الأسماء كلها.. قلنا لجماعة الملائكة: ﴿اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ﴾؛ أي: سجد الملائكة جميعا إلا إبليس أبى واستكبر، وهو من الجن لا منهم، وهذا السجود سجود تكريم وتعظيم من الله لآدم، لا سجود عبادة، فقد قامت الدلائل القاطعة على أنه لا معبود إلا الله وحده.
١٢ - ﴿قالَ﴾ الله سبحانه وتعالى توبيخا للّعين ﴿ما مَنَعَكَ﴾ يا إبليس ﴿أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ﴾ بالسجود لآدم مع الملائكة؛ أي: أيّ شيء منعك من السجود لآدم حين أمرتك بالسجود له؟ فعلى (٢) هذا التأويل تكون ﴿لا﴾ زائدة في قوله: ﴿أَلَّا تَسْجُدَ﴾ كما في قوله تعالى: ﴿فَلا أُقْسِمُ﴾؛ أي: أقسم زيدت لتأكيد معنى النفي في منعك بدليل قوله في سورة ص: ﴿ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ﴾ بحذفها، وهو الأصل؛ لأن القرآن يفسر بعضه بعضا، فيصير المعنى؛ أي شيء منعك من امتثال أمري،
(٢) الخازن.
وخلاصة ذلك: أي شيء عرض لك، فحملك على أن لا تكون مع الملائكة في امتثال أمري؟ وقال ابن (١) كثير: واختار ابن جرير أن ﴿مَنَعَكَ﴾ مضمن معنى فعل آخر تقديره: ما أحوجك وألزمك واضطرك أن لا تسجد إذ أمرتك، وهذا القول قوي حسن، لأنه (٢) لا يجوز أن يقال: إن كلمة من كتاب الله تعالى زائدة أو لا معنى لها.
﴿قالَ﴾ اللعين الخبيث مجيبا للمولى عما سأله عنه ﴿أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ﴾؛ أي: إنما لم أسجد لآدم؛ لأني أنا خير وأفضل من آدم وأشرف منه، فكيف يسجد الفاضل ويعظم المفضول ولو أمره ربه؟ وإنما (٣) قال في الجواب: أنا خير منه، ولم يقل منعني كذا؛ لأنّ في هذه الجملة التي جاء بها مستأنفة ما يدل على المانع، وهو اعتقاده أنه أفضل منه، والفاضل لا يفعل مثل ذلك للمفضول مع ما تفيده هذه الجملة من إنكار أن يؤمر مثله بالسجود لمثله، ثم علل ما ادعاه من الخيرية بقوله: ﴿خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ﴾؛ أي: وإنما كنت خيرا منه؛ لأنني خلقتني من نار نورانية، فهي أغلب أجزائي ﴿وَخَلَقْتَهُ﴾؛ أي: وخلقت آدم ﴿مِنْ طِينٍ﴾ ظلماني، وهو أغلب أجزائه، فالنار أفضل من الطين؛ لأن النار مشرقة علوية لطيفة يابسة، مجاورة لجواهر السموات، والطين مظلم سفلي كثيف بعيد عن مجاورة السموات، والمخلوق من الأفضل أفضل.
وقد أخطأ إبليس اللعين طريق الصواب، فإن عنصر الطين أفضل من عنصر النار من جهة رزانته وسكونه وطول بقائه، والنار خفيفة مضطربة سريعة النفاد، ومع هذا فهو موجود في الجنة دونها، وهي عذاب دونه، وهي محتاجة إليه لتتحيز فيه، وهو مسجد وطهور، وهو سبب للحياة من إنبات النبات، وهي سبب لهلاك الأشياء، وهو سبب جمع الأشياء، وهي سبب تفريقها، ولولا سبق شقاوته
(٢) الخازن.
(٣) الشوكاني.
ولا شك (١) أن في جوابه هذا ضروبا من الجهالة، وأنواعا من الفسوق والعصيان، تتجلى وتتضح لك فيما يلي:
١ - اعتراضه على مولاه وخالقه بما تضمنه جوابه.
٢ - احتجاجه عليه بما يؤيد به اعتراضه، والمؤمن المذعن لأمر ربه يعلم أن لله الحجة البالغة والحكمة الكاملة فيما يفعل، ويأمر وينهى.
٣ - أنه جعل امتثال الأمر موقوفا على استحسانه له، وموافقته لهواه، وهذا رفض لطاعة الخالق، وترفع عن مرتبة العبودية، والمرؤوس في الدنيا إذا لم يطع أمر الرئيس إلا فيما يوافق هواه.. صار الأمر فوضى، والعاقبة وخيمة. فلا يصح عمل، ولا يتم الفوز والنجاج.
وقد روى أبو نعيم في «الحلية» عن جعفر الصادق أن رسول الله ﷺ قال:
«أول من قاس أمر الدين برأيه إبليس، قال الله تعالى له: اسجد لآدم. قال: أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين». قال جعفر: فمن قاس أمر الدين برأيه قربه الله يوم القيامة بإبليس.
٤ - استدلاله على خيريته بالمادة التي منها التكوين، وخيرية المواد بعضها على بعض أمور اعتبارية تختلف فيها الآراء، ولا تثبت بالبرهان إلى أن كثيرا من المواد النفسية خسيسة الأصل، ألا ترى أن أصل المسك الدم؛ وهو أطيب الطيب إلى أن الملائكة خلقوا من النور، وهو قد خلق من النار، والنور خير من النار، وهم قد سجدوا امتثالا لأمر ربهم.
٥ - أن جميع الأحياء النباتية والحيوانية التي في هذه الأرض إما من الطين مباشرة، أو بالواسطة، وهي خير ما فيها، وليس للنار شيء من هذه المزايا ولا ما يقرب منها.
فائدة: قال هنا (١): ﴿ما مَنَعَكَ﴾ وفي سورة الحجر: ﴿قالَ يا إِبْلِيسُ ما لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ﴾ وفي سورة ص: ﴿ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ..﴾ الآية. اختلاف العبارات عند الحكاية: دل على أن اللعين قد أدرج في معصية واحدة ثلاث معاص: مخالفة الأمر، ومفارقة الجماعة، والاستكبار مع تحقير آدم. وقد وبخ على كل واحدة منها، لكن اقتصر عند الحكاية في كل موطن على ما ذكر فيه: اكتفاء بما ذكر في موطن آخر، وقد تركت حكاية التوبيخ رأسا في سورة البقرة والإسراء والكهف وطه اهـ «أبو السعود» انتهت.
١٣ - ﴿قالَ﴾ المولى سبحانه وتعالى للعين عليه لعائن الله ﴿فَاهْبِطْ مِنْها﴾؛ أي (٢): بسبب عصيانك لأمري وخروجك عن طاعتي اهبط وانزل من الجنة، وقيل: من
(٢) ابن كثير.
١٤ - ﴿قالَ﴾ اللعين عند أمر المولى له بالخروج ﴿أَنْظِرْنِي﴾؛ أي: أجلني وأمهلني وأخرني، فلا تمتني، أو لا تعجل عقوبتي ﴿إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾؛ أي: قال رب أمهلني إلى يوم يبعث فيه آدم وذريته من قبورهم، فأكون أنا وذريتي أحياء ما داموا أحياء، وأشهد انقراضهم وبعثهم، وهو يوم النفخة الثانية عند قيام الساعة، ولا موت حينئذ؛ لأن الموت قد تم عند النفخة الأولى، فغرضه الفرار من الموت، والنجاة من ذوق مرارته، فطلب البقاء والخلود، فلم يجب إلى ما سأل، بل غاية ما أمهله الله تعالى إلى النفخة الأولى
١٥ - ﴿قالَ﴾ الله سبحانه وتعالى في جواب سؤاله: ﴿إِنَّكَ﴾ يا إبليس ﴿مِنَ الْمُنْظَرِينَ﴾؛ أي: من المؤجلين والمؤخرين
(٢) البيضاوي.
(٣) النسفي.
والخلاصة: أن إبليس يموت عقب النخفة الأولى التي يتلوها خراب هذه الأرض كما قال في سورة الحاقة: ﴿فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ (١٣) وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً (١٤)﴾ ولا يبقى إلى يوم البعث.
١٦ - ﴿قالَ﴾ إبليس اللعين ﴿فَبِما أَغْوَيْتَنِي﴾ وأضللتني؛ أي: فبسبب إغوائك وإضلالك إياي يا رب؛ لأجل آدم وذريته أقسم لك بقولي: ﴿لَأَقْعُدَنَّ﴾؛ أي: لأجلسن مترصدا ﴿لَهُمْ﴾؛ أي: لآدم وذريته ﴿صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ﴾؛ أي: على طريقك الحق الموصل لهم إلى الجنة مترصدا لهم كما يقعد القطاع على الطريق انتهابا للمارة. قال في «الجمل»: فغرض (١) إبليس اللعين بهذا أخذ ثأره منهم؛ لأنه لما طرد ومقت بسببهم على ما تقدم.. أحب أن ينتقم منهم أخذا بالثأر. وفي «السمين»: والمعنى: فبسبب وقوعي في الغيّ لأجتهدن في غوايتهم حتى يفسدوا بسببي كما فسدت بسببهم.
والمعنى: فبسبب إغوائك إياي لأجلهم؛ لأقعدنّ لهم على صراطك المستقيم، فأصدنهم عنه وأقطعنه عليهم بأن أزين لهم طرقا أخرى أشرعها لهم من جوانب هذا الطريق حتى يضلوا عنه، وهذا ما عناه سبحانه بقوله:
١٧ - ﴿ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ﴾؛ أي: لأشككنهم (٢) في الآخرة بأن لا بعث ولا حساب، ولا جنة ولا نار ﴿وَمِنْ خَلْفِهِمْ؛﴾ أي: لأرغبنهم في الدنيا، وأزيننها لهم بأنها لا تفنى، وآمرنهم بالجمع لها، والمنع والبخل والفساد ﴿وَعَنْ أَيْمانِهِمْ﴾؛ أي: ولأشبّهنّ عليهم أمر دينهم وأمنعنهم من الحسنات ﴿وَعَنْ شَمائِلِهِمْ﴾؛ أي: ولأزينن لهم المعاصي، وآمرنهم بالسيئات، قال الطبري: معناه: لآتينهم (٣) من جميع وجوه الحق والباطل، فأصدنهم عن الحق، وأحسنن لهم الباطل. قال ابن عباس: ولا
(٢) تنوير المقباس.
(٣) ابن جرير.
قال أبو حيان (١): والظاهر أن إتيانه من هذه الجهات الأربع كناية عن وسوسته وإغوائه له، والجد في إضلاله من كل وجه يمكن، ولما كانت هذه الجهات يأتي منها العدو غالبا ذكرها، لا أنه يأتي من الجهات الأربع حقيقة، وإنما خص بين الأيدي والخلف بحرف الابتداء الذي هو أمكن في الإتيان؛ لأنهما أغلب ما يجيء العدو منهما، فينال فرصته وقدم بين الأيدي على الخلف؛ لأنها الجهة التي تدل على إقدام العدو وبسالته في مواجهة قرنه غير خائف منه، والخلف من جهة غدر ومخاتلة، وجهالة القرن بمن يغتاله، ويتطلب غرته وغفلته، وخص الأيمان والشمائل بالحرف الذي يدل على المجاوزة؛ لأنهما ليستا بأغلب ما يأتي منهما العدو، وإنما يتجاوز إتيانه إلى الجهة التي هي أغلب في ذلك، وقدمت الأيمان على الشمائل؛ لأنها الجهة التي هي القوية في ملاقاة العدو، وبالأيمان البطش والدفع، فالقرن الذي يأتي من جهتها أبسل وأشجع إذ جاء من الجهة التي هي أقوى في الدفع والشمائل جهة ليست في القوة والدفع كالإيمان انتهى.
١٨ - ﴿قالَ﴾ سبحانه وتعالى لإبليس اللعين حين طرده عن بابه، وأبعده عن جنابه، وذلك بسبب مخالفته وعصيانه ﴿اخْرُجْ﴾ يا إبليس ﴿مِنْها﴾؛ أي: من الجنة،
والمعنى: أقسم أن من يتبعك من بني آدم فيما تزينه له من الشرك والفجور، ويصدق ظنك عليه.. ليكونن معك في جهنم دار العذاب، ولأملأنها منك، وممن تبعك منهم أجمعين. وفي قوله: ﴿مِنْهُمْ﴾ إشارة إلى أن الملء يكون من بعضهم، فإن بعض من يتبعه في بعض المعاصي من المؤمنين الموحدين يغفر الله لهم، ويعفو عنهم، ونحو الآية قول في سورة ص: ﴿لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ﴾.
وقرأ الزهري وأبو جعفر والأعمش (١): ﴿مذوما﴾ - بضم الذال من غير همز - فتحتمل هذه القراءة وجهين:
أحدهما - وهو الأظهر -: أن تكون من ذأم المهموز سهل، وحذفها وألقى حركتها على الذال.
والثاني: أن يكون من ذام يذيم - كباع يبيع - فأبدل الياء بواو كما قالوا: في مكيل مكول. وقرأ الجمهور: ﴿لَمَنْ تَبِعَكَ﴾ - بفتح اللام - والظاهر أنها اللام الموطئة للقسم، و ﴿من﴾ شرطية في موضع رفع على الابتداء، وجواب الشرط
الإعراب
﴿المص (١) كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (٢)﴾.
﴿المص﴾ (١): تقدم لك في نظيره من الحروف المقطعة أنه لا يوصف بإعراب ولا بناء؛ لأن الحكم على الكلمة بالإعراب، أو البناء فرع عن إدراك المعنى، وليس معناه معلوما لنا هذا على القول بأنه مما استأثر الله بعلمه، وأما على القول بأنه اسم للسورة؛ فهو خبر لمبتدأ محذوف تقديره: هذا المص، أو مبتدأ خبره: ﴿كِتابٌ أُنْزِلَ﴾ إلى آخر السورة، والجملة الاسمية مستأنفة، وعلى القول الأول ﴿كِتابٌ﴾ خبر لمبتدأ محذوف جوازا تقديره: هذا القرآن كتاب أنزل إليك، والجملة مستأنفة استئنافا نحويا. ﴿أُنْزِلَ﴾: فعل ماض مغير الصيغة، ونائب فاعله ضمير يعود على ﴿كِتابٌ﴾، والجملة الفعلية صفة لـ ﴿كِتابٌ﴾. ﴿إِلَيْكَ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿أُنْزِلَ﴾. ﴿فَلا يَكُنْ﴾: ﴿الفاء﴾: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفت يا محمد أن هذا القرآن كتاب أنزل إليك للإنذار به وللتذكير، وأردت بيان ما هو الأرشد والأصلح لك.. فأقول لك: ﴿فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ﴾ لأنه لا بد من تبليغه، ﴿لا﴾: ناهية جازمة.
﴿اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ (٣)﴾.
﴿اتَّبِعُوا﴾ فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. ﴿ما﴾: موصولة، أو موصوفة في محل النصب مفعول به. ﴿أُنْزِلَ﴾: فعل ماض مغير الصيغة، ونائب فاعله ضمير يعود على ﴿ما﴾، والجملة صلة لـ ﴿ما﴾، أو صفة لها. ﴿إِلَيْكُمْ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿أُنْزِلَ﴾. ﴿مِنْ رَبِّكُمْ﴾ جار ومجرور متعلق بـ ﴿أُنْزِلَ﴾ أيضا، وتكون ﴿مِنْ﴾ لابتداء الغاية المجازية، أو متعلق بمحذوف حال؛ إما من الموصول، أو من عائده القائم مقام الفاعل. ﴿وَلا تَتَّبِعُوا﴾: فعل وفاعل مجزوم بـ ﴿لا﴾:
﴿وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتًا أَوْ هُمْ قائِلُونَ (٤)﴾.
﴿وَكَمْ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية. ﴿كَمْ﴾: خبرية بمعنى عدد كثير، ولم ترد في القرآن إلا خبرية في محل النصب مفعول مقدم وجوبا؛ لكونه مما يلزم الصدارة حملا على الاستفهامية لفعل محذوف يفسره الفعل المذكور بعدها تقديره: وكم من قرية أهلكنا أهلكناها، أو في محل الرفع مبتدأ مبني على السكون لشبهها بالحرف شبها معنويا؛ لشبهها برب التكثيرية، أو لشبهها بالحرف شبها وضعيا. ﴿مِنْ﴾: زائدة. ﴿قَرْيَةٍ﴾: تمييز لـ ﴿كَمْ﴾ منصوب بها، وعلامة نصبه فتحة مقدرة. ﴿أَهْلَكْناها﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، أو جملة مفسرة للفعل المحذوف، والجملة الاسمية أو الفعلية المحذوفة مستأنفة. ﴿فَجاءَها﴾: ﴿الفاء﴾: حرف عطف وترتيب، ﴿جاءها﴾ فعل ومفعول. ﴿بَأْسُنا﴾: فاعل ومضاف إليه، والجملة معطوفة على جملة ﴿أَهْلَكْناها﴾. ﴿بَياتًا﴾: حال من مفعول ﴿جاء﴾، ولكنه بعد تأويله بمشتق تقديره: حال كونهم بائتين. ﴿أَوْ﴾: حرف عطف وتنويع. ﴿هُمْ قائِلُونَ﴾: مبتدأ وخبر، والجملة في محل النصب معطوفة على بياتا على كونها حالا من مفعول ﴿جاء﴾ تقديره: أو حالة كونهم قائلين.
﴿فَما كانَ دَعْواهُمْ إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا إِلَّا أَنْ قالُوا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (٥)﴾.
﴿فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (٦) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَما كُنَّا غائِبِينَ (٧)﴾.
﴿فَلَنَسْئَلَنَّ﴾: ﴿الفاء﴾: حرف عطف وترتيب لترتيب الأحوال الأخروية على الدنيوية في الذكر حسب ترتيبها عليها في الوجود انتهى. «أبو السعود»، ﴿اللام﴾: موطئة لقسم محذوف جوازا تقديره: فأقسم بعزتي وجلالي، ﴿نسألن﴾: فعل مضارع في محل الرفع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، ونون التوكيد حرف لا محل لها من الإعراب مبني على الفتح، وفاعله ضمير مستتر يعود على الله، والجملة الفعلية جواب القسم لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم المحذوف مع جوابه معطوفة على الجملة التي قبلها. ﴿الَّذِينَ﴾ اسم موصول في محل النصب مفعول أول لسأل مبني على الفتح والمفعول الثاني محذوف تقديره عما أجابوا الرسل. ﴿أُرْسِلَ﴾: فعل ماض مغير الصيغة. ﴿إِلَيْهِمْ﴾: جار ومجرور في محل الرفع نائب فاعل، والجملة صلة الموصول. ﴿وَلَنَسْئَلَنَّ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة، ﴿اللام﴾: موطئة لقسم محذوف،
﴿وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ﴾.
﴿وَالْوَزْنُ﴾: ﴿الواو﴾ استنافية. ﴿الْوَزْنُ﴾: مبتدأ. ﴿يَوْمَئِذٍ﴾ ﴿يوم﴾: منصوب على الظرفية الزمانية، وهو مضاف، ﴿إذ﴾: ظرف لما مضى من الزمان في محل الجر مضاف إليه مبني بسكون مقدر منع من ظهوره اشتغال المحل بحركة التخلص من التقاء الساكنين، والظرف متعلق بواجب الحذف؛ لوقوعه خبرا تقديره: والوزن كائن، أو مستقر يومئذ؛ أي: يومئذ يسأل الرسل والمرسل إليهم، فحذفت الجملة المضاف إليها إذ وعوض عنها التنوين هذا مذهب الجمهور خلافا للأخفش. وفي ﴿الْحَقُّ﴾ على هذا الوجه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه نعت للوزن؛ أي: الوزن الحق كائن في ذلك اليوم.
والثاني: أنه خبر مبتدأ محذوف كأنه جواب سؤال مقدر من قائل يقول: ما ذلك الوزن؟ فقيل: هو الحق لا الباطل.
والثالث: أنه بدل من الضمير المستكن في الظرف، وهو غريب ذكره المكي، ويصح أن يكون خبر المبتدأ ﴿الْحَقُّ﴾، و ﴿يَوْمَئِذٍ﴾ متعلق بـ ﴿الْوَزْنُ﴾.
﴿فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾.
﴿وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ (٩)﴾.
﴿وَمَنْ﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿مَنْ﴾: اسم شرط في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الجواب، أو الشرط، أو هما. ﴿خَفَّتْ مَوازِينُهُ﴾: فعل وفاعل في محل الجزم بـ مَنْ على كونها فعل شرط لها. ﴿فَأُولئِكَ﴾: ﴿الفاء﴾: رابطة، ﴿أولئك﴾: مبتدأ. ﴿الَّذِينَ﴾: اسم موصول في محل الرفع خبر، والجملة الاسمية في محل الجزم بـ ﴿مَنْ﴾ على كونها جوابا لها، وجملة ﴿مَنْ﴾ الشرطية في محل النصب معطوفة على جملة ﴿مَنْ﴾ الأولى على كونها مقولا لجواب إذا المقدرة. ﴿خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة صلة الموصول. ﴿بِما﴾: ﴿الباء﴾: حرف جر وسبب، ﴿ما﴾: مصدرية. ﴿كانُوا﴾: فعل ناقص واسمه. ﴿بِآياتِنا﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿يَظْلِمُونَ﴾، وجملة ﴿يَظْلِمُونَ﴾ في محل النصب خبر ﴿كان﴾، وجملة ﴿كان﴾ صلة لـ ﴿ما﴾ المصدرية، ﴿ما﴾ مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بالباء، والجار والمجرور متعلق بـ ﴿خَسِرُوا﴾، والتقدير: فأولئك الذين خسروا أنفسهم بسبب: ظلمهم لآياتنا.
﴿وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ (١٠)﴾.
﴿وَلَقَدْ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية. ﴿اللام﴾: موطئة للقسم، ﴿قد﴾: حرف تحقيق. ﴿مَكَّنَّاكُمْ﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة الفعلية جواب القسم لا
﴿وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (١١)﴾.
﴿وَلَقَدْ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية، ﴿اللام﴾: موطئة لقسم، ﴿قد﴾: حرف تحقيق. ﴿خَلَقْناكُمْ﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة جواب لقسم محذوف تقديره: أقسم بعزتي وجلالي لقد خلقناكم، وجملة القسم المحذوف مستأنفة. ﴿ثُمَّ﴾: حرف عطف وترتيب. ﴿صَوَّرْناكُمْ﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة معطوفة على جملة ﴿خَلَقْناكُمْ﴾ على كونها جوابا للقسم. ﴿ثُمَّ﴾: حرف عطف. ﴿قُلْنا﴾ فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة ﴿صَوَّرْناكُمْ﴾. ﴿لِلْمَلائِكَةِ﴾: متعلق بـ ﴿قُلْنا﴾. ﴿اسْجُدُوا لِآدَمَ﴾: مقول محكي لـ ﴿قُلْنا﴾، وإن شئت قلت ﴿اسْجُدُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة في محل النصب مقول لـ ﴿قُلْنا﴾. لِآدَمَ: جار ومجرور متعلق بـ ﴿اسْجُدُوا﴾. ﴿فَسَجَدُوا﴾: ﴿الفاء﴾: حرف عطف وتعقيب. ﴿سجدوا﴾: فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة ﴿قُلْنا﴾. ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء. ﴿إِبْلِيسَ﴾ مستثنى منقطع منصوب بـ ﴿إِلَّا﴾. ﴿لَمْ﴾: حرف جزم. ﴿يَكُنْ﴾: فعل ناقص مجزوم بـ ﴿لَمْ﴾، واسمه ضمير يعود على ﴿إِبْلِيسَ﴾. ﴿مِنَ السَّاجِدِينَ﴾: خبر ﴿يَكُنْ﴾، وجملة ﴿يَكُنْ﴾ من اسمها وخبرها في محل النصب حال من ﴿إِبْلِيسَ﴾ تقديره: حالة كونه ممتنعا من السجود، كما قاله أبو البقاء، وقيل: هذه الجملة مستأنفة؛ لأنها جواب سؤال مقدر.
﴿قالَ﴾: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة مستأنفة. ﴿ما مَنَعَكَ﴾ إلى قوله: قالَ ﴿أَنَا خَيْرٌ﴾ مقول محكي، وإن شئت قلت: ما: اسم استفهام في محل الرفع مبتدأ، والاستفهام فيه للتوبيخ. ﴿مَنَعَكَ﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره: هو يعود على ما، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ تقديره: أي شيء مانع إياك، والجملة الاسمية في محل النصب مقول ﴿قالَ﴾. ﴿أَلَّا﴾ ﴿أن﴾: مصدرية. ﴿لا﴾: زائدة زيدت لتأكيد معنى النفي في ﴿مَنَعَكَ﴾. ﴿تَسْجُدَ﴾: فعل مضارع منصوب بـ ﴿أن﴾. وفاعله ضمير يعود على ﴿إبليس﴾، والجملة الفعلية صلة أن المضمرة، أن مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بحرف جر محذوف تقديره: ما منعك من سجودك. ﴿إِذْ﴾: ظرف لما مضى من الزمان في محل النصب على الظرفية، والظرف متعلق بـ ﴿تَسْجُدَ﴾. ﴿أَمَرْتُكَ﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ إِذْ ﴿،﴾ والتقدير: ما منعك من السجود وقت أمري إياك به. ﴿قالَ﴾: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على ﴿إبليس﴾، والجملة مستأنفة استئنافا بيانيا. ﴿أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ﴾ إلى آخر الآية مقول محكي لـ ﴿قالَ﴾، وإن شئت قلت ﴿أَنَا خَيْرٌ﴾: مبتدأ وخبر. ﴿مِنْهُ﴾ متعلق بـ ﴿خَيْرٌ﴾، والجملة الاسمية في محل النصب مقول لـ ﴿قالَ﴾. ﴿خَلَقْتَنِي﴾: فعل وفاعل ومفعول. ﴿مِنْ نارٍ﴾: جار ومجرور متعلق به، والجملة الفعلية مستأنفة استئنافا بيانيا. ﴿وَخَلَقْتَهُ﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة معطوفة على جملة ﴿خَلَقْتَنِي﴾. ﴿مِنْ طِينٍ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿خلق﴾.
﴿قالَ فَاهْبِطْ مِنْها فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها﴾.
﴿قالَ﴾: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة مستأنفة. ﴿فَاهْبِطْ مِنْها﴾ إلى آخر الآية مقول محكي لـ ﴿قالَ﴾، وإن شئت قلت: ﴿الفاء﴾: سببية، ﴿اهبط﴾: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على ﴿إبليس﴾. ﴿مِنْها﴾: متعلق به، والجملة في محل النصب مقول ﴿قالَ﴾، وقال النسفي: والفاء في قوله:
﴿فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ قالَ أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١٤) قالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (١٥)﴾.
﴿فَاخْرُجْ﴾ ﴿الفاء﴾: عاطفة تفريعية، ﴿اخرج﴾: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على ﴿إبليس﴾، والجملة في محل النصب معطوفة مفرعة على جملة قوله: ﴿فَما يَكُونُ لَكَ﴾ مؤكدة لجملة قوله: ﴿فَاهْبِطْ إِنَّكَ﴾: ناصب واسمه. ﴿مِنَ الصَّاغِرِينَ﴾: جار ومجرور خبر ﴿إنّ﴾، وجملة ﴿إن﴾ في محل النصب مقول ﴿قالَ﴾ مسوقة لتعليل الخروج. ﴿قالَ﴾: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على ﴿إبليس﴾، والجملة مستأنفة. ﴿أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾ مقول محكي لـ ﴿قالَ﴾، وإن شئت قلت ﴿أَنْظِرْنِي﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة في محل النصب مقول ﴿قالَ﴾. ﴿إِلى يَوْمِ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿أَنْظِرْنِي﴾، وجملة ﴿يُبْعَثُونَ﴾ في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿يَوْمِ﴾. ﴿قالَ﴾: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة مستأنفة ﴿إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ﴾: مقول محكي لـ ﴿قالَ﴾، وإن شئت قلت ﴿إِنَّكَ﴾: ناصب واسمه. ﴿مِنَ الْمُنْظَرِينَ﴾: جار ومجرور خبر ﴿إن﴾، وجملة ﴿إن﴾ في محل النصب مقول ﴿قالَ﴾.
﴿قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (١٦)﴾.
﴿قالَ﴾: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على ﴿إبليس﴾، والجملة مستأنفة. ﴿فَبِما أَغْوَيْتَنِي﴾ إلى قوله: ﴿شاكِرِينَ﴾ مقول محكي لـ ﴿قالَ﴾، وإن شئت قلت ﴿فَبِما﴾:
﴿ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ (١٧)﴾.
﴿ثُمَّ﴾: حرف عطف وترتيب. ﴿لَآتِيَنَّهُمْ﴾: ﴿اللام﴾: موطئة للقسم أيضا، ﴿آتينهم﴾: فعل ومفعول ونون توكيد، وفاعله ضمير يعود على الشيطان، والجملة معطوفة على جملة قوله: ﴿لَأَقْعُدَنَّ﴾ على كونها جوابا لقسم محذوف. ﴿مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿آتين﴾. ﴿وَمِنْ خَلْفِهِمْ﴾: جار ومجرور معطوف على الجار والمجرور قبله، وكرر حرف الجر إشارة إلى أن كل جهة من الجهتين مقصودة استقلالا. ﴿وَعَنْ أَيْمانِهِمْ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه معطوف على الجار والمجرور ﴿مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ﴾. ﴿وَعَنْ شَمائِلِهِمْ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه معطوف على الجار والمجرور في قوله: ﴿وَعَنْ أَيْمانِهِمْ﴾، أو ﴿مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ﴾، وكرر الجار هنا أيضا إشارة إلى استقلال كل من الجهتين بالقصد، وإنما (١) عدّى الفعل إلى الأولين بـ ﴿مِنْ﴾ الابتدائية؛ لأنه منهما متوجه إليهم، وعدى إلى
﴿قالَ اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُمًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (١٨)﴾.
﴿قالَ﴾: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة مستأنفة. ﴿اخْرُجْ﴾: منها إلى آخر الآية مقول محكي لـ ﴿قالَ﴾، وإن شئت قلت ﴿اخْرُجْ﴾: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على إبليس، والجملة في محل النصب مقول ﴿قالَ﴾. ﴿مِنْها﴾: متعلق بـ ﴿اخْرُجْ﴾. ﴿مَذْؤُمًا﴾: حال أولى من فاعل ﴿اخْرُجْ﴾. ﴿مَدْحُورًا﴾: حال ثانية منه عند من يجوز تعدد الحال لذي حال واحد، وأما عند من لا يجوزه فـ ﴿مَدْحُورًا﴾: صفة لـ ﴿مَذْؤُمًا﴾. ﴿لَمَنْ﴾ ﴿اللام﴾: موطئة للقسم المحذوف تقديره: والله لمن تبعك.
فائدة: سميت (١) لام القسم موطئة؛ لأنها وطأت الجواب للقسم المحذوف؛ أي: مهدته له، وتسمى أيضا المؤذنة؛ لأنها تؤذن بأن الجواب بعدها مبني على قسم قبلها، لا على الشرط.
﴿من﴾: اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط، أو الجواب، أو هما. ﴿تَبِعَكَ﴾: فعل ومفعول في محل الجزم بـ ﴿من﴾ الشرطية على
قلت: هو متضمن في قوله: ﴿مِنْكُمْ﴾ لأنه لما اجتمع ضميران غيبة وخطاب.. غلب الخطاب كما تقدم. ﴿جَهَنَّمَ﴾: منصوب على الظرفية المكانية، والظرف متعلق بـ ﴿أملأن﴾. ﴿مِنْكُمْ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿أملأن﴾. ﴿أَجْمَعِينَ﴾: توكيد لضمير المخاطبين مجرور بالياء؛ لأنه جمع مذكر سالم.
التصريف ومفردات اللغة
﴿حَرَجٌ﴾ مِنْهُ الحرج: الضيق من عاقبة المخالفة. ﴿وَذِكْرى﴾ والذكرى: التذكر النافع والموعظة المؤثرة، وهو اسم مصدر لذكر يذكر تذكرة وذكرى.
﴿وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ﴾ وولاية (٢) الله لعباده تولي أمورهم فيما لا يصل إليه كسبهم من هدايتهم ونصرهم على أعدائهم، وشرعه لهم عبادته، وبيان الحلال والحرام. ﴿قَلِيلًا ما﴾ ﴿ما﴾: حرف زائد يؤكد به معنى القلة. ﴿تَذَكَّرُونَ﴾ أصله
(٢) المراغي.
﴿وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ﴾ ﴿كم﴾: اسم يفيد التكثير، وهي خبرية: هنا، وكذا في جميع القرآن حيثما وقعت، وكم في كلام العرب قسمان: خبرية: وهي التي بمعنى عدد كثير، واستفهامية: وهي التي تكون بمعنى أي عدد، وهي اسم (١) بسيط لا مركب من كاف التشبيه، وما الاستفهامية حذف ألفها لدخول حرف الجر عليها، وسكنت كما قالوا: لم؛ تركيبا لا ينفك، كما ركبت في كأين مع أي، ولم يأت تمييزها في القرآن إلا مجرورا وأحكامها في نوعيها مذكورة في كتب النحو.
والقرية تطلق على الموضع الذي يجتمع فيه الناس وعلى الناس معا، وتطلق على كل منهما كما جاء في قوله: ﴿وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ﴾؛ أي: أهل القرية، والقرية هنا تصلح لأن يراد بها القوم أنفسهم، وأن يراد بها المكان؛ لأنه يهلك كما يهلك أهله. ﴿بَأْسُنا﴾ البأس العذاب.
﴿بَياتًا﴾ والبيات: الإغارة على العدو ليلا، والإيقاع به على غرة، وهو في الأصل مصدر بات يبيت بيتا وبيتة وبياتا وبيتوتة. قال الليث: البيتوتة دخولك في الليل، فقوله: بياتا؛ أي: بائتين.
﴿أَوْ هُمْ قائِلُونَ﴾ والقائلون: هم الذين يستريحون، أو ينامون وسط النهار؛ أي: حين القائلة، وقال الليث: القيلولة نوم نصف النهار؛ وهي القائلة، وقال الأزهري: القيلولة الاستراحة نصف النهار إذا اشتد الحر وإن لم يكن نوم.
وقال الفراء: يقال: قال يقيل قيلا - كباع يبيع بيعا - وقائلة وقيلولة إذا استراح نصف النهار، فألفه منقلبة عن ياء بخلاف قال من القول، فهي منقلبة عن واو.
﴿فَما كانَ دَعْواهُمْ﴾ والدعوى: ما يدعيه الإنسان، وتطلق على القول أيضا.
﴿وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ﴾؛ أي: جعلنا لكم (٢) فيها أمكنة تتبوؤنها، وتتمكنون من الإقامة فيها.
(٢) المراغي.
إليك أشكو شدّة المعيش | وجهد أيّام نتفن ريشي |
والمد زيد ثالثا في الواحد | همزا يرى في مثل كالفلائد |
وفي «المصباح»: عاش يعيش عيشا - من باب سار - صار ذا حياة، فهو عائش، والأنثى عائشة، وعيّاش أيضا مبالغة، والمعيش والمعيشة مكسب الإنسان الذي يعبش به، والجمع معايش هذا على قول الجمهور أنه من عاش، فالميم زائدة، ووزن معايش مفاعل، فلا يهمز، وبه قرأ السبعة، وقيل: إنه من معش، فالميم أصلية، ووزن معيش ومعيشة فعيل وفعيلة، ووزن معائش فعائل، فيهمز كصحائف، وبه قرأ أبو جعفر المدني والأعرج. اه.
وفي «القاموس»: العيش الحياة، يقال: عاش يعيش عيشا ومعاشا ومعيشة وعيشة - بالكسر - وعيشوشة، والعيش أيضا الطعام وما يعاش به والخبز، والمعيشة أيضا ما يتعيش به من المطعم والمشرب، وما تكون به الحياة، وما يعاش به وفيه، والجمع معايش، والمتعيش من له بلغة من العيش. اه.
﴿وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ﴾ الخلق: التقدير (٢)، يقال: خلق الخياط الثوب إذا قدره قبل قطعه، وخلق الله الخلق أوجدهم على تقدير أوجبته الحكمة.
(٢) المراغي.
﴿فَاهْبِطْ مِنْها﴾ والهبوط الانحدار والسقوط من مكان إلى ما دونه، أو من منزلة إلى ما دونها؛ فهو إما حسي، وإما معنوي.
﴿أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها﴾ والتكبر جعل الإنسان نفسه أكبر مما هي عليه. ﴿مِنَ الصَّاغِرِينَ﴾ والصغار: الذلة والهوان ﴿أَنْظِرْنِي﴾: يقال: أنظره إذا أمهله وأخره.
﴿فَبِما أَغْوَيْتَنِي﴾: والإغواء: الإيقاع في الغواية، وهي ضد الرشاد، يقال: غوى يغوي - من باب رمى - غيا وغواية إذا فسد عليه أمره، وفسد هو في نفسه، ومنه غوى الفصيل إذا أكثر من شرب لبن أمه حتى فسد جوفها، وأشرف على الهلاك، وقيل: أصله الهلاك، ومنه: ﴿فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا﴾. ﴿وَعَنْ شَمائِلِهِمْ﴾ الشمائل (١): جمع شمال، وهو جمع كثرة، وجمعه في القلة على أشمل. قال الشاعر:
يأتي لها من أيمن وأشمل
وشمال يطلق على اليد اليسرى، وعلى ناحيتها، والشمائل أيضا جمع شمال؛ وهي الريح، والشمائل أيضا: الأخلاق. يقال: هو حسن الشمائل.
﴿مَذْؤُمًا﴾ بالهمز (٢): اسم مفعول من ذأمه يذأمه ذأما - كقطعه يقطعه قطعا - إذا عابه ومقته، وفي «المختار»: الذأم: العيب يهمز ولا يهمز، يقال: ذأمه - من باب قطع - إذا عابه وحقره، فهو مذؤوم. اه. وفيه مقته إذا أبغضه من باب نصر، فهو مقيت، ويجوز (٣) إبدال الهمزة ألفا. قال الشاعر:
صحبتك إذ عيني عليها غشاوة | فلمّا انجلت قطّعت نفسي أذيمها |
﴿مَدْحُورًا﴾ يقال: دحره إذا أبعده وأقصاه، ودحر الجند العدو إذا طرده
(٢) الفتوحات.
(٣) البحر المحيط.
دحرت بني الحصيب إلى قديد | وقد كانوا ذوي أشر وفخر |
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات أنواعا من البلاغة والفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: المجاز المرسل في قوله: ﴿فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ﴾ لما فيه من إطلاق المسبب وإرادة السبب؛ لأن المراد النهي عن أسباب الحرج. قال أبو السعود: توجيه (١) النهي إلى الحرج مع أن المراد نهيه ﷺ عنه؛ إما للمبالغة في تنزيهه ﷺ عن وقوع مثل الحرج منه، فإن النهي لو وجه له لأوهم إمكان صدور المنهي عنه منه، وإما للمبالغة في النهي، فإن وقوع الحرج في صدره سبب لاتصافه به، والنهي عن السبب نهي عن المسبب بالطريق البرهاني، ونفي له من أصله بالمرة، فالمراد نهيه عما يورث الحرج انتهى.
ومنها: المجاز المرسل أيضا في قوله: ﴿وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها﴾: لما فيه من إطلاق المحل وإرادة الحال؛ أي: وكم من أهل قرية أهلكناهم.
ومنها: الاعتراض بين الجار ومتعلقه، في قوله: ﴿فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ﴾، لأنه معترض بين قوله: ﴿أُنْزِلَ﴾ وبين قوله: ﴿لِتُنْذِرَ﴾.
ومنها: التعرض لوصف الربوبية مع الإضافة لضمير المخاطبين، في قوله: ﴿اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ لمزيد اللطف بهم وترغيبهم في امتثال الأمر.
ومنها: الطباق بين قوله: ﴿فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ﴾ وقوله: ﴿وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ﴾، وبين قوله: ﴿بَياتًا﴾ وقوله: ﴿أَوْ هُمْ قائِلُونَ﴾؛ لأن البيات معناه ليلا، وقائلون معناه نهارا وقت الظهيرة.
ومنها: الاستعارة التصريحية في قوله: ﴿لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ لأن الصراط حقيقة في الطريق الحسي، فاستعارة لطريق الهداية الموصل إلى جنات النعيم.
ومنها: المقابلة بين قوله: ﴿خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ﴾ وقوله: ﴿وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ﴾، وبين قوله: ﴿مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ﴾ وقوله: ﴿وَمِنْ خَلْفِهِمْ﴾، وبين قوله: ﴿وَعَنْ أَيْمانِهِمْ﴾ وقوله: ﴿وَعَنْ شَمائِلِهِمْ﴾.
ومنها: تغليب الحاضر على الغائب في قوله: ﴿لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ﴾ لأن فيه تغليب الحاضر الذي هو إبليس على الغائب، وهو الناس.
ومنها: التكرار في قوله: ﴿فَلَنَسْئَلَنَّ﴾، وقوله: ﴿وَلَنَسْئَلَنَ﴾، وفي قوله: ﴿مَوازِينُهُ﴾.
ومنها: الجناس المماثل في قوله: ﴿اسْجُدُوا﴾ ﴿فَسَجَدُوا﴾
ومنها: المغاير في قوله: ﴿فَسَجَدُوا﴾ وقوله: ﴿مِنَ السَّاجِدِينَ﴾، وفي قوله: ﴿أَنْظِرْنِي﴾ وقوله: ﴿مِنَ الْمُنْظَرِينَ﴾.
ومنها: المقابلة في قوله: ﴿اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ﴾ وقوله: ﴿وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ﴾.
ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
﴿وَيا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (١٩) فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما وَقالَ ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ (٢٠) وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ (٢١) فَدَلاَّهُما بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ (٢٢) قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (٢٣) قالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (٢٤) قالَ فِيها تَحْيَوْنَ وَفِيها تَمُوتُونَ وَمِنْها تُخْرَجُونَ (٢٥) يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباسًا يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (٢٦) يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (٢٧) وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٢٨) قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (٢٩) فَرِيقًا هَدى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (٣٠)﴾.
المناسبة
قوله تعالى: ﴿وَيا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ...﴾ الآية، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنه لا يزال (١) الحديث متصلا في الكلام في النشأة الأولى للبشر، وفي شياطين الجن، وقد ذكرت تمهيدا لهداية الناس بما يتلوها من الآيات في وعظ بني آدم وإرشادهم إلى ما به تكمل فطرتهم، وفي ذلك امتنان عليهم، وذكر لكرامة أبيهم.
قوله تعالى: ﴿يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباسًا يُوارِي سَوْآتِكُمْ...﴾ الآية، مناسبة
وعبارة أبي حيان هنا: مناسبة هذه الآيات لما قبلها (٢): هو أنه سبحانه وتعالى لما ذكر قصة آدم، وفيها ستر السوءات، وجعل له في الأرض مستقرا ومتاعا.. ذكر ما امتن به على بنيه، وما أنعم به عليهم من اللباس الذي يواري السوءات، والرياش الذي يمكن به استقرارهم في الأرض واستمتاعهم بما خولهم.
قوله تعالى: ﴿وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله تعالى، لما (٣) بين أنه جعل الشياطين قرناء للكافرين مسلطين عليهم متمكنين من إغوائهم.. ذكر هنا أثر ذلك التسليط عليهم؛ وهو الطاعة لهم في أقبح الأشياء مع عدم شعورهم بذلك القبح.
التفسير وأوجه القراءة
١٩ - وقوله: ﴿وَيا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ﴾ معطوف على قوله: ﴿ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ﴾ عطف قصة على قصة؛ أي: وقلنا يا آدم اسكن أنت ﴿وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ﴾؛ أي: انزل أنت وزوجك حواء في الجنة، وهذا القول بعد إخراج إبليس من الجنة، أو من السماء، أو من بين الملائكة، وقيل: معطوف (٤) على ﴿اخْرُجْ﴾؛ أي: وقلنا يا إبليس اخرج منها مذؤوما مدحورا، ويا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة، ومعنى
(٢) البحر المحيط.
(٣) المراغي.
(٤) المراح.
وفي «شرح المواهب» للزرقاني ما نصه (٢): واختلفوا في أن حواء خلقت في الجنة، فقال ابن إسحاق: خلقت قبل دخول آدم الجنة؛ لقوله تعالى: ﴿اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ﴾، وقيل: خلقت في الجنة بعد دخول آدم الجنة؛ لأنه لما أسكن الجنة مشى فيها مستوحشا، فلما نام خلقت من ضلعه القصرى من شقه الأيسر؛ ليسكن إليها، ويأنس بها. قاله ابن عباس، وينسب لأكثر المفسرين، وعلى هذا قيل: قال الله تعالى: ﴿اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ﴾ بعد خلقها، وهما في الجنة، وقيل: قبل خلقها، وتوجه الخطاب للمعدوم لوجوده في علم الله تعالى. اه.
وقال المراغي: الجنة هي (٣) التي خلق فيها آدم لا جنة الجزاء، فآدم خلق من الأرض في الأرض. وقد (٤) تكررت هذه القصة في سبعة مواضع من الكتاب العزيز، ولم يرد في موضع منها أن الله رفعه إلى الجنة التي هي دار الجزاء، وإن كان الجمهور على أنها جنة الجزاء على الأعمال، ويرده أنه كلف فيها أن لا يأكل من تلك الشجرة، ولا تكليف في دار الجزاء، ولأنه نام فيها، وأخرج منها، ودخل عليه إبليس، ولا نوم في الجنة، ولا خروج بعد الدخول، ولا يمكن دخول الشيطان فيها بعد الطرد والإخراج.
والآية تدل على أن آدم كان له زوج في الجنة، وفي التوراة: أن الله ألقى على آدم سباتا، فانتزع في أثنائه ضلعا من أضلاعه، فخلق منه حواء امرأته، وأنها سميت امرأة؛ لأنها من امرىء أخذت وليس في القرآن ما يدل على هذا، وما
(٢) الفتوحات.
(٣) المراغي.
(٤) المراغي.
فإنه لا شك أن المراد منه: لا تحاولوا تقويم النساء بالشدة والغلظة في المعاملة انتهى.
﴿فَكُلا﴾؛ أنتما يا آدم وحواء من ثمار الجنة ﴿مِنْ حَيْثُ شِئْتُما﴾؛ أي: من أي مكان أردتما الأكل منه، وفي أي وقت شئتما ﴿وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ﴾ من حيث الأكل منهما ﴿فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ لأنفسهم الضارين لها بتعريضها للعقوبة؛ أي: فتصيرا من الضارين لها.
والنهي عن القرب إلى الشيء أبلغ أثرا من النهي عن الشيء نفسه؛ إذ أنه يقتضي البعد عن موارد الشبهات التي تغرى به، كما جاء في الحديث: «ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه».
وقد أبهم سبحانه وتعالى هذه الشجرة، ولو كان في تعيينها خير لنا لعينها، وقد علل القرآن النهي عنها بأنهما إذا اقتربا منها كانا من الظالمين، لأنفسهما بفعلهما ما يعاقبان عليه، ولو بالحرمان من رغد العيش، وما يعقبه من التعب والمشقة.
فإن قلت: لم قال هنا: ﴿فَكُلا﴾ بالفاء، وفي البقرة ﴿وَكُلا﴾ بالواو؟
قلت: لا منافاة بين الحرفين؛ لأن الواو للجمع المطلق، فتحمل على إحدى معانيها التي هي عطف اللاحق على السابق، فتتحد مع الفاء في المعنى الذي هو الترتيب. فإن قلت (١): لم حذف ﴿رَغَدًا﴾ هنا على سبيل الاختصار، وأثبت في البقرة؟
قلت: لأن تلك مدنية وهذه مكية، فوفى المعنى هنا باللفظ.
٢٠ - ﴿فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ﴾؛ أي: حدّث (٢) لهما في أنفسهما، وفي «الخازن» يعني: فوسوس إليهما، والوسوسة: حديث يلقيه الشيطان في قلب الإنسان يقال: وسوس إذا تكلم كلاما خفيا مكررا، ومعنى وسوس لهما: فعل الوسوسة وألقاها إليهما. وقال المراغي: أي: زين لهما ما يضرهما ويسؤهما إذا هما رأيا ما يؤثران ستره، وأن لا يرى مكشوفا. والأرجح أن هذه الوسوسة كانت بأن تمثل الشيطان لآدم وزوجه وكلّمهما. انتهى.
فإن قلت: كيف وسوس إليهما وآدم وحواء في الجنة، وإبليس قد أخرج منها؟
قلت: أجيب عن هذا السؤال بأجوبة:
منها: أنه كان في السماء وكانا يخرجان إليه.
ومنها: أنه كان على باب الجنة، وهما على بابها من داخلها.
ومنها: ما قال الحسن: إنه وصلت وسوسته لهما في الجنة، وهو في الأرض بالقوة التي خلقها الله له، وقيل: كان يدخل إليهما في فم الحية، وهذان القولان ضعيفان؛ لمخالفتهما لفظ القرآن، ولكن البحث عن هذه المسألة ليس مما كلفنا الله بعلمه، فالكلام فيه لا يعنينا.
﴿لِيُبْدِيَ﴾؛ أي: ليظهر ﴿لهما ما ورى عنهما﴾؛ أي: ما ستر عنهما بلباس النور، أو بثياب الجنة. وقال الصاوي: واختلف في ذلك اللباس، فقيل: غطاء على الجسد من جنس الأظفار فنزع عنهما وبقيت الأظفار في اليدين والرجلين تذكرة وزينة وانتفاعا، ولذلك قالوا: إن النظر إلى الأظفار في حال الضحك يقطعه، وقيل: كان نورا، وقيل: كان من ثياب الجنة. انتهى.
﴿مِنْ سَوْآتِهِما﴾؛ أي: من عوراتهما، أراد الشيطان أن يسوءهما بظهور ما
(٢) الواحدي.
وفي الآية (٣): إيماء إلى تفضيل الملائكة على آدم، وخصصه بعضهم بملائكة السماء والعرش والكرسي، من العالين المقربين، دون ملائكة الأرض المسخرين لتدبير أمورها، وإحكام نظامها.
وقرأ الجمهور (٤): ﴿وُورِيَ﴾ وقرأ عبد الله: ﴿أوري﴾ - بإبدال الواو همزة وهو بدل جائز -. وقرأ ابن وثاب: ﴿ما وري﴾ - بواو مضمومة من غير واو
(٢) الخازن.
(٣) المراغي.
(٤) البحر المحيط.
وقرأ ابن عباس والحسن بن علي والضحاك ويحيى بن كثير والزهري وابن حكيم عن ابن كثير (١): ﴿ملكين﴾ - بكسر اللام - ويدل لهذه القراءة ما في سورة طه من قوله: ﴿هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى﴾.
٢١ - ﴿وَقاسَمَهُما﴾؛ أي: أقسم وحلف إبليس لهما، والمفاعلة ليس على بابها بقوله: ﴿والله إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ﴾؛ أي: إني لناصح لكما فيما رغبتكما فيه من الأكل من الشجرة، وأكد ذلك بأشد المؤكدات وأغلظها؛ إذ كان عندهما محل الظنة والتهمة في نصحه؛ لأن الله أخبرهما أنه عدو لهما. وقرىء: ﴿وقاسمهما بالله﴾.
٢٢ - ﴿فَدَلَّاهُما﴾؛ أي: جرأهما إبليس على أكل الشجرة ﴿بِغُرُورٍ﴾؛ أي: بسبب غروره وتزيينه لهما أكل الشجرة بالحلف لهما بالله، أو المعنى: فأسقطهما وحطهما عما كانا عليه من سلامة الفطرة وطاعة المولى بما غرهما به، وزين لهما من أكل الشجرة، وقد اغترا به وانخدعا بقسمه، وصدقا قوله اعتقادا منهما أن أحدا لا يحلف بالله كاذبا. وفي «الشوكاني» التدلية (٢) والإدلاء إرسال الشيء من أعلى إلى أسفل، يقال: أدلى دلوه أرسلها، والمعنى: أنه أهبطهما بذلك من الرتبة العلية إلى الأكل من الشجرة، وقيل معناه: أوقعهما في الهلاك، وقيل
(٢) الشوكاني.
وقيل معناه: فخدعهما (١) بزخرف من القول الباطل حتى أكلا قليلا قصدا إلى معرفة طعم ذلك الثمر؛ لغلبة الشهوة، لا لكونهما صدقا قول إبليس.
ويرى بعض العلماء (٢) أن الغرور كان بتزيين الشهوة، فإن من غرائز البشر وطبائعهم كشف المجهول، والرغبة في الممنوع، فقد نفخ الشيطان في نار هذه الشهوات الغريزية، وأثار النفس إلى مخالفة النهي حتى نسي آدم عهد ربه، ولم يكن له من قوة العزم ما يكفه عن متابعة امرأته، ويعتصم به من تأثير شيطانه كما قال في سورة طه: ﴿وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا (١١٥)﴾.
وجاء في الصحيح عن أبي هريرة: «ولولا حواء لم تخن أنثى زوجها»؛ أي: لأنها هي التي زينت له الأكل من الشجرة، وقد فطرت المرأة على تزيين ما تشتهيه للرجل، ولو بالخيانة له.
﴿فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ﴾؛ أي: فلما تناولا من ثمر تلك الشجرة يسيرا لمعرفة طعمه ﴿بَدَتْ لَهُما﴾؛ أي: ظهرت لكل منهما ﴿سَوْآتُهُما﴾؛ أي: سؤته وسؤة صاحبه، وكانت مستورة عنهما؛ أي: ظهر لكل منهما قبل نفسه وقبل صاحبه ودبره، وزال عنهما ثوبهما من حلل الجنة، فدبت فيهما شهوة التناسل بتأثير الأكل من الشجرة، فنبهتهما إلى ما كان خفيا عنهما من أمرها، فخجلا من ظهورها، وشعرا بالحاجة إلى سترها ﴿وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ﴾؛ أي: وشرعا يلزقان ويربطان على أبدانهما من ورق أشجار الجنة العريض ما يسترها.
والخلاصة (٣): أن الشيطان لما وسوس لهما بقوله: ﴿ما نَهاكُما رَبُّكُما...﴾ إلخ، ولم يقبلا منه ما قال.. لجأ إلى اليمين كما دل على ذلك قوله: ﴿وَقاسَمَهُما﴾ فلم يصدقاه أيضا، فعدل بعد ذلك إلى الخداع كما أشار إلى ذلك بقوله: ﴿فَدَلَّاهُما بِغُرُورٍ﴾؛ أي: أنه شغلهما بتحصيل اللذات، فجعلاها نصب أعينهما، ونسيا النهي كما يدل على ذلك قوله: ﴿فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا﴾.
(٢) المراغي.
(٣) المراغي.
وقد قيل فيهما شعر:
لله درّهم من فتية بكروا | مثل الملوك وراحوا كالمساكين |
روي (٢): أنه تعالى قال لآدم: ألم يكن فيما منحتك من شجر الجنة مندوحة عن هذه الشجرة؟ فقال: بلى وعزتك، ولكن ما ظننت أن أحدا من خلقك يحلف بك كاذبا،
(٢) المراح.
قال ابن عباس رضي الله عنهما (١): لما أكل آدم من الشجرة.. قيل له: لم أكلت من الشجرة التي نهيتك عنها؟ قال: حواء أمرتني. قال: فإني أعقبتها أن لا تحمل إلا كرها، ولا تضع إلا كرها قال: فرنت - صاحت - حواء عند ذلك رنة - صيحة - فقيل لها: الرنة عليك وعلى بناتك، وقال محمد بن قيس: ناداه ربه: يا آدم لم أكلت منها وقد نهيتك؟ قال: أطعمتني حواء، فقال: لم أطعمتيه؟ قالت: أمرتني الحية، فقال للحية: لم أمرتها؟ قالت: أمرني إبليس، قال الله تعالى: أما أنت يا حواء فكما أدميت الشجرة تدمين كل شهر، وأما أنت يا حية فأقطع رجليك، فتمشين على وجهك وسيشدخ رأسك من لقيك، وأما أنت يا إبليس فملعون مطرود مدحور عن الرحمة. وقيل: ناداه ربه يا آدم أما خلقتك بيدي، أما نفخت فيك من روحي، أما أسجدت لك ملائكتي، أما أسكنتك جنتي في جواري.
٢٣ - ﴿قالا﴾؛ أي: قال آدم وحواء ﴿رَبَّنا﴾ ويا مالك أمرنا ﴿ظَلَمْنا أَنْفُسَنا﴾؛ أي: أضررنا أنفسنا بطاعتنا للشيطان ومعصيتنا لأمرك، وقد أنذرتنا ﴿وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا﴾ ما ظلمنا به أنفسنا ﴿وَتَرْحَمْنا﴾ بالرضا عنا، وتوفيقنا إلى الهداية وترك الظلم، وبقبول توبتنا إذا نحن أنبنا إليك، وإعطائنا من فضلك فوق ما نستحق، والله ﴿لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ﴾ لأنفسنا الهالكين لها بتعريضها للعقوبة.
والخلاصة (٢): أن الظفر بالمقصود والفوز بالسعادة لا ينالهما أحد بمغفرتك ورحمتك إلا من ينيب إليك، ويتبع سبيلك، ولا ينالهما من يصر على ذنبه ويحتج على ربه، كما فعل الذي أبى واستكبر فكان من الخاسرين.
وقال الضحاك في قوله (٣): ﴿رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا...﴾ الخ. قال: هي الكلمات التي تلقاها آدم عليه السلام من ربه عز وجل. قالَ الله سبحانه وتعالى لآدم وحواء وإبليس والحية، كما قاله الطبري.
٢٤ - ﴿اهْبِطُوا﴾؛ أي: انزلوا من السماء
(٢) المراغي.
(٣) الخازن.
﴿وَلَكُمْ﴾ يا آدم وحواء وإبليس مع ذريتكم ﴿فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ﴾؛ أي: استقرار وبقاء إلى زمن مقدر في علم الله؛ وهو الأجل الذي تنتهي فيه أعماركم، وتقوم فيه القيامة ﴿وَ﴾: لكم فيها أيضا ﴿مَتاعٌ﴾؛ أي: ما تستمتعون وتنتفعون به من المطاعم والمشارب والملابس وغيرها ﴿إِلى حِينٍ﴾؛ أي: إلى حين انقضاء آجالكم، ونحو الآية قوله: ﴿وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ﴾.
ومعنى الآية (٢): أن الله سبحانه وتعالى أخبر آدم وحواء وإبليس والحية أنه إذا أهبطهم إلى الأرض، فإن بعضهم لبعض عدو، وأن لهم في الأرض موضع قرار يستقرون فيه إلى انقضاء آجالهم، ثم يستقرون في قبورهم إلى انقطاع الدنيا. قال ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: ﴿وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ﴾ يعني: إلى يوم القيامة،
(٢) الخازن.
٢٥ - ﴿قالَ﴾ الله سبحانه وتعالى لآدم وذريته، وإبليس وأولاده ﴿فِيها﴾؛ أي: في هذه الأرض التي خلقتم منها ﴿تَحْيَوْنَ﴾؛ أي: تعيشون مدة العمر المقدر لكل منكم، وللنوع بأسره ﴿وَفِيها﴾؛ أي: وفي الأرض ﴿تَمُوتُونَ﴾؛ أي: تكون وفاتكم، وموضع قبوركم حين انتهاء أعماركم ﴿وَمِنْها﴾؛ أي: ومن الأرض ﴿تُخْرَجُونَ﴾؛ أي: يخرجكم ربكم بعد موتكم كلكم حين ما يريد أن يبعثكم من مرقدكم للنشأة الآخرة، ويحشركم للحساب يوم القيامة. وهذا الكلام (١) كالتفسير لقوله: ﴿وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ﴾ ولذلك جاء ﴿قالَ﴾ بغير واو العطف، وقرأ حمزة والكسائي وابن ذكوان: تخرجون - بالبناء للفاعل هنا - وفي الجاثية والزخرف وأول الروم، وعن ابن ذكوان في أول الروم خلاف. وقرأ باقي السبعة مبنيا للمفعول. ونحو الآية قوله تعالى في سورة طه: ﴿مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى (٥٥)﴾.
فصل في مغزى هذا القصص
قص الله - سبحانه وتعالى - علينا خبر النشأة الأولى (٢)؛ ليرشدنا إلى ما فطرنا عليه، وإلى ما يجب علينا من شكره وطاعته، ويبين لنا أنه خلق الإنسان ليكون خليفة في الأرض، وجعله مستعدا لعلم كل شيء فيها، وتسخير ما فيها من القوى لمنافعه، وليهدينا إلى أنه كان في نشأته الأولى في جنة النعيم وراحة البال، وقد جعله مستعدا للتأثر بالأرواح الملكية التي تجذبه إلى الحق والخير، والأرواح الشيطانية التي تجذبه إلى الباطل والشر، وعاقبة التأثر الأولى سعادة الدارين، ونتيجة الثاني الشقاء فيهما، وهو أيضا محتاج إلى الوحي لإرشاده وهدايته. فعلينا أن نعرف غرائزنا، ونربي أنفسنا على أن نتذكر عهد الله إلينا بأن نعبده وحده، ولا نعبد معه أحدا سواه، ولا ننساه فننسى أنفسنا، ونغفل عن تزكيتها، ونتركها كالريشة في مهاب أهواء الشهوات، ووساوس شياطين
(٢) المراغي.
٢٦ - ويقول سبحانه وتعالى: ﴿يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ﴾ بقدرتنا من سمائنا لتدبير أموركم ﴿لِباسًا يُوارِي﴾ ويستر ﴿سَوْآتِكُمْ﴾ وعوراتكم التي قصد إبليس إبداءها من أبويكم حتى اضطروا إلى لزق الأوراق، فأنتم مستغنون عن ذلك باللباس يعني: ثياب القطن وغيره كالصوف والوبر والشعر ﴿وَ﴾ أنزلنا عليكم لباسا ﴿رِيشًا﴾ لكم؛ أي: يكون زينة لكم؛ أي: لباسا يزين لابسه كالريش الذي يزين الطائر، استعير من ريش الطائر؛ لأنه لباسه وزينته، وذلك كالحرير والخز والقز وحلي الذهب والفضة؛ أي أنزلنا عليكم لباسين؛ لباسا يواري سؤاتكم ولباسا يزينكم؛ لأن الزينة غرض صحيح. والمعنى (١): خلقناه لكم بتدبيرات سماوية، وأسباب نازلة منها كالمطر، فهو سبب لنبات القطن والكتان وغيرهما كالتوت، ولمعيشة الحيوانات ذوات الصوف وغيره فبهذا الاعتبار كأن اللباس نفسه أنزل من السماء، ونظير هذا: ﴿وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ...﴾ إلخ. ﴿وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ...﴾ إلخ. ومعنى إنزال ما ذكر من السماء: إنزال مادته من القطن والصوف والوبر والحرير وريش الطير وغيرها مما ولدته الحاجة، وافتن الناس في استعماله بعد أن تعلموا وسائل صنعه بما أوجد فيهم من الغرائز والصفات التي بها غزلوا ونسجوا وحاكوا ذلك على ضروب شتى، وخاطوه على أشكال لا حصر لها ولا عد، ولا سيما في هذا العهد الذي وفيت فيه الصناعات إلى أقصى مدى وأبعد غاية. ولا شك أن امتنانه علينا بلباس الزينة دليل على إباحتها والرغبة في استعمالها، والإسلام دين
وقرأ عثمان وابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة والسلمي وعلي بن الحسين وابنه زيد وأبو رجاء وزر بن جيش وعاصم في رواية وأبو عمرو في رواية (١): ورياشا فقيل: هما مصدران بمعنى واحد، يقال: راشه الله يريشه ريشا ورياشا إذا أنعم عليه.
﴿وَلِباسُ التَّقْوى﴾ بالرفع مبتدأ خبره جملة قوله: ﴿ذلِكَ خَيْرٌ﴾؛ أي: اللباس الناشيء عن تقوى الله تعالى وخوفه، وهو العمل الصالح والإخلاص فيه ذلك خير؛ أي: هذا اللباس الأخير خير من اللباسين الأولين؛ لأن الإنسان يكسى من عمله يوم القيامة، وإنما كان خيرا لأنه يستر من فضائح الآخرة. وفي (٢) الحديث: «إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم»، فإذا كان كذلك فينبغي للإنسان أن يشتغل بتحسين ظاهره بالأعمال الصالحة، وباطنه بالإخلاص، فإنه محل نظر لله تعالى، ولذلك قال بعضهم: إلهي زين ظاهري بامتثال ما أمرتني به ونهيتني عنه، وزين سري بالإسرار، وعن الأغيار فصنه. وقال المراغي: المشهور من كلام التابعين أن لباس التقوى لباس معنوي لا حسي. فقد قال ابن زيد: لباس هو التقوى خير، وعن ابن عباس أنه هو الإيمان والعمل الصالح، فإنهما خير من الريش واللباس، وروي عن زيد بن علي بن الحسين أنه لباس الحرب كالدرع والمغفر والآلات التي يتقى بها العدو، واختاره أبو مسلم الأصفهاني، ويدل عليه قوله تعالى: ﴿سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ﴾.
وقرأ نافع وابن عامر والكسائي بنصب (٣) ﴿لباس﴾ عطفا على ﴿لِباسًا﴾؛ أي: وأنزلنا عليكم لباس التقوى، وهو الإيمان كما قاله قتادة والسدي وابن جريج، أو العمل الصالح كما قاله ابن عباس، أو السمت الحسن كما قاله
(٢) الصاوي.
(٣) المراح.
﴿ذلِكَ﴾؛ أي: اللباس ﴿خَيْرٌ﴾ لصاحبه من اللباسين الأولين؛ لأنه يستر من فضائح الآخرة، وقرأ باقي السبعة بالرفع كما مر. ﴿ذلِكَ﴾: المنزل من اللباسين ﴿مِنْ آياتِ اللَّهِ﴾؛ أي: من دلائل قدرته؛ أي: ذلك الذي تقدم ذكره من النعم بإنزال الملابس من آيات الله الدالة على قدرته، وعظيم فضله، وعميم رحمته لعباده، وقوله: ﴿لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ﴾ فيه التفات من الخطاب إلى الغيبة، والمعنى: يا بني آدم قد أنزلنا عليكم أنواع الملابس؛ لكي تذكرون وتعرفون عظيم النعمة في ذلك اللباس، وتقومون بما يجب عليكم من الشكر والابتعاد من فتنة الشيطان، وإبداء العورات، أو لإسراف في استعمال الزينة.
٢٧ - ولما ذكر سبحانه وتعالى نعمة اللباس.. أراد أن ينبههم على أن الشيطان حسود وعدو لهم كما أنه حسود وعدو لأبيهم، فقال: ﴿يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ﴾؛ أي: لا يخرجنكم الشيطان عن طاعتي بفتنه ووسوته، فتمنعوا من دخول جنتي ﴿كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ﴾ آدم وحواء ﴿مِنَ الْجَنَّةِ﴾؛ أي: إخراجا مثل إخراجه أبويكم من الجنة بفتنته بأمره لهما بمخالفة أمري، فمنعا من سكنى الجنة.
وهذا في الظاهر نهي للشيطان، وفي الحقيقة نهي لبني آدم عن الإصغاء لفتنته ووسوسته واتباعه، فليس المراد النهي عن تسلطه؛ إذ لا قدرة لمخلوق على منع ذلك؛ لأنه قضاء مبرم، بل المراد النهي عن الميل إليه.
والمعنى (١): أي لا تغفلوا يا بني آدم عن أنفسكم، فتمكنوا الشيطان من وسوسته لكم، والتحيل في خداعكم، وإيقاعكم في المعاصي كما وسوس لأبويكم آدم وحواء، فزين لهما معصية ربهما، فأكلا من الشجرة التي نهاهم عنها، وكان ذلك سببا في خروجهما من الجنة التي كانا يتمتعان بنعيمها ودخولهما في طور آخر يكابدان فيه شقاء المعيشة وهمومها.
وقوله: ﴿إِنَّهُ يَراكُمْ﴾ تعليل للتحرز من الشيطان اللازم للنهي، كأنه قيل: فاحذروه لأنه يراكم ﴿هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ﴾؛ أي أن إبليس وجنوده وأعوانه من شياطين الجن يرونكم يا بني آدم من مكان لا ترونهم فيه، والضرر إذا جاء من حيث لا يرى كان خطره أشد، ووجوب العناية باتقائه أعظم، كما يرى ذلك في بعض الأوبئة التي ثبت وجودها في هذا العصر بالمجهر، فإنها تنفذ إلى الأجسام بنقل الذباب، أو البعوض، أو مع الطعام أو الشراب، أو الهواء، فتتوالد وتنمو بسرعة، وقد تسبب للإنسان أمراضا مستعصية العلاج كالحمى الصفراء، والسل والسرطان إلى غير ذلك.
وفعل جنة الشياطين في أرواح البشر كفعل هذه الجنة التي يسميها الأطباء الميكروبات في الأجسام، فكلاهما يؤثر من حيث لا يرى فيتقى، والثانية تتقى بالأخذ بنصائح الأطباء، واستعمال الوسائل العلاجية الواقية، والأولى تتقى أيضا
والحاصل:
أن الشياطين يرون بني آدم لكثافة أجسامهم وتلونهم، وبنو آدم لا يرونهم للطافتهم وعدم تلونهم، فأجسام الشياطين كالهواء، وأما رؤية الشياطين بعضهم بعضا، فحاصلة لقوة في أبصارهم. قال مجاهد: قال إبليس: جعل لنا أربع: نرى، ولا نرى، ونخرج من تحت الثرى، ويعود شيخنا شابا. وقال مالك بن دينار: إن عدوا يراك ولا تراه لشديد المجاهدة إلا من عصمه الله.
وهذا حيث كانوا بصورتهم الأصلية، وأما إذا تصوروا بغيرهم فنراهم؛ لأن الله تعالى جعل لهم قدرة على التشكل بالصور الجميلة أو الخسيسة، وتحكم عليهم الصورة كما في الأحاديث الصحيحة، فالآية ليست على عمومها، فالفرق بينهم وبين الملائكة أن الملائكة لا يتشكلون إلا في الصورة الجميلة، ولا تحكم عليهم، بخلاف الجن. وقد ورد أن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، وجعلت صدور بني آدم مساكن لهم إلا من عصمه الله تعالى. وقرأ اليزيدي: ﴿وقبيله﴾ - بالنصب - عطفا على اسم ﴿إن﴾.
ثم زاد في التحذير من الشيطان، وبيّن شديد عداوته للإنسان، فقال: ﴿إِنَّا جَعَلْنَا﴾ وصيرنا ﴿الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ﴾ وأعوانا وأصحابا ﴿لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ﴾: أي: لغير المؤمنين؛ أي: مكناهم من إغوائهم، فتحرزوا أنتم أيها المؤمنون منهم؛ أي: إنا صيرنا الشياطين قرناء للذين لا يؤمنون بمحمد ﷺ وبالقرآن مسلطين عليهم؛ أي: أن (١) سنتنا جرت بأن يكون الشياطين الذين هم شرار الجن أولياء لشرار الإنس؛ وهم الكفار الذين لا يؤمنون بالله تعالى وملائكته إيمان إذعان تزكو به نفوسهم لما بينهما من التناسب والتشاكل.
واكتساب الكفار لولاية الشياطين جاءت بسبب استعدادهم لقبول وسوستهم
٢٨ - ﴿وَإِذا فَعَلُوا﴾؛ أي: وإذا فعل الذين لا يؤمنون بالله ورسوله ممن جعلوا الشياطين أولياء لأنفسهم فعلة ﴿فاحِشَةً﴾؛ أي: فعلا قبيحا شرعا وعقلا من الأفعال التي تدينوا بها كتعريهم حين الطواف بالبيت، وسجودهم للأصنام، فلامهم لائم على ذلك ونهاهم عنه. قال أكثر المفسرين: المراد بالفاحشة هنا هي طواف المشركين بالبيت عراة. وقيل: هي الشرك، والظاهر أنها تصدق على ما هو أعم من الأمرين جميعا، والفاحشة في أصلها هي الذنوب التي بلغت الغاية في فحشها وقبحها. ﴿قالُوا﴾؛ أي: قال الذين لا يؤمنون بالله في جواب اللائم والناهي محتجين بأمرين، تقليد الآباء والافتراء على الله ﴿وَجَدْنا﴾ ورأينا ﴿عَلَيْها﴾؛ أي: على هذه الفاحشة ﴿آباءَنا﴾ وأجدادنا وأسلافنا؛ أي: قالوا: وجدنا آباءنا يفعلون مثل ما نفعل، فنحن نقتدي بهم ونستن بسنتهم ﴿وَاللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿أَمَرَنا بِها﴾؛ أي: بهذه الفعلة، فنحن نتبع أمره، فإن أجدادنا إنما كانوا يفعلونها بأمر الله تعالى بها، وقد رد تعالى عن الأمر الثاني بأمر رسوله أن يدحضه بقوله: ﴿قُلْ﴾ لهم يا محمد في جوابهم ردا عليهم في المقالة الثانية ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ﴾؛ أي: إن هذا الفعل من الفحشاء، والله سبحانه بكماله منزه عن أن يأمر بالفحشاء، فإن عادته تعالى جارية على الأمر بمحاسن الأعمال، والحث على نفائس الخصال، وإنما يأمر بالفحشاء الشيطان، كما جاء في قوله سبحانه: ﴿الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ﴾.
ثم رد عليهم المقالة الأولى، ووبخهم على تقليد الآباء والأجداد بقوله: ﴿أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ﴾ والاستفهام فيه للإنكار والتوبيخ، وهذا من جملة المأمور به في الجواب؛ أي: وقل لهم يا محمد: إنكم باتباعكم للآباء والأجداد في الآراء والشرائع غير المستندة إلى الوحي تقولون على الله ما لا تعلمون أنه
والخلاصة (٢): أنهم في عملهم الفاحشة استندوا إلى أمرين: أمر الله تعالى بها، وتقليد الآباء والأجداد، وقد رد الله عليهم في كل منهما، فرد على الأول ببيان أن الله لا يأمر بفاحشة، وأن الذي يأمر بها إنما هو الشيطان، ورد على الثاني بأن التشريع لا يعلم إلا بوحي من عنده إلى رسول يؤيده بالآيات البينات، وهو لم ينزل عليهم بفعل الفاحشة، فقولهم هذا إنما هو اتباع للأهواء فيما هو قبيح تنفر منه الطباع السليمة، وتستنقصه العقول الراجحة الحكيمة.
واعلم: أن في هذه الآية الشريفة لأعظم (٣) زاجر وأبلغ واعظ للمقلدة الذين يتبعون آباءهم في المذاهب المخالفة للحق، فإن ذلك من الاقتداء بأهل الكفر لا بأهل الحق، فإنهم القائلون: إنا وجدنا آباؤنا على أمة، وإنا على آثارهم مقتدون، والقائلون: وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها، والمقلد لولا اغتراره بكونه وجد أباه على ذلك المذهب مع اعتقاده بأنه الذي أمر الله به، وأنه الحق لم يبق عليه، وهذه الخصلة هي التي بقي بها اليهودي على اليهودية، والنصراني على النصرانية، والمبتدع على بدعته، فما أبقاهم على هذه الضلالات إلا كونهم وجدوا آباءهم في اليهودية أو النصرانية أو البدعية، وأحسنوا الظن بهم بأن ما هم عليه هو الحق الذي أمر الله به، ولم ينظروا لأنفسهم، ولا طلبوا الحق كما يجب، ولا بحثوا عن دين الله كما ينبغي، وهذا هو التقليد البحت والقصور الخالص، فيا من نشأ على مذهب من هذه المذاهب الإسلامية إنا لك النذير المبالغ في التحذير من أن تقول هذه المقالة، وتستمر على الضلالة، فقد اختلط الشر بالخير، والصحيح بالسقيم، وفاسد الرأي بصحيح الرواية، ولم يبعث الله إلى هذه الأمة إلا نبيا واحدا أمرهم باتباعه، ونهى عن مخالفته، فقال: {وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما
(٢) المراغي.
(٣) الشوكاني.
٢٩ - وبعد أن أنكر عليهم أن يكونوا على علم بأمر الله فيما فعلوا.. بين ما يأمر به من محاسن الأعمال، ومكارم الأخلاق بقوله لرسوله: ﴿قُلْ﴾ لهم يا محمد: ﴿إنما أَمَرَ﴾ ني ﴿رَبِّي بِالْقِسْطِ﴾؛ أي: بالاستقامة، والعدل في الأمور كلها، فأطيعوه، وقوله: ﴿وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ﴾ معطوف على المحذوف المقدر، أو على معنى ﴿بِالْقِسْطِ﴾ قال لهم: أمرني ربي بالقسط، فأقسطوا في الأمور كلها، وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد؛ أي (١): وجهوا وجوهكم في الصلاة إلى القبلة في أي مسجد كنتم فيه، أو في كل وقت سجود، أو في كل مكان سجود على أن المراد بالسجود الصلاة، أو المعنى (٢) أعطوا توجهكم إلى الله تعالى حقه من صحة النية، وحضور القلب، وصرف الشواغل عند كل مسجد تعبدونه فيه سواء كانت العبادة طوافا، أو صلاة، أو ذكرا ﴿وَادْعُوهُ﴾ سبحانه وتعالى؛ أي: واعبدوه وحده حالة كونكم ﴿مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾ والعبادة، ولا تتوجهوا إلى غيره من عباده المكرمين زعما منكم أنهم يشفعون لكم عند ربكم، ويقربونكم إليه زلفى، وقد جعلتم هذا من الدين افتراء على الله، وقولا عليه بغير علم.
٣٠ - وبعد أن أبان أصل الدين ومناط الأمر والنهي فيه.. ذكرنا بالبعث والجزاء على الأعمال، فقال: ﴿كَما بَدَأَكُمْ﴾ وأنشأكم ربكم خلقا وتكوينا بقدرته ﴿تَعُودُونَ﴾ إليه سبحانه وتعالى بالبعث يوم القيامة، وأنتم فريقان سعداء وأشقياء ﴿فَرِيقًا﴾ منكم ﴿هَدى﴾ هـ الله سبحانه وتعالى في الدنيا ببعثة الرسل، فاهتدى بهديهم، وأقام
(٢) المراغي.
وقرأ أبي: ﴿تعودون فريقين فريقا هدى﴾. وقيل المعنى: ﴿كَما بَدَأَكُمْ﴾ في (١) الخلق شقيا وسعيدا، فكذلك ﴿تَعُودُونَ﴾ سعداء وأشقياء يدل على صحة هذا المعنى قوله: ﴿فَرِيقًا هَدى﴾؛ أي: أرشد إلى دينه، وهم أولياؤه ﴿وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ﴾؛ أي: أضلهم، وهم أولياء الشياطين، أو المعنى: كما بدأكم من تراب تعودون إلى التراب.
وإنما حقت على الفريق الثاني الضلالة؛ لأنهم اقترفوا أسبابها، فوجدت نتائجها ومسبباتها، لا أنها جعلت لهم غرائز، فكانوا عليها مجبورين يرشد إلى ذلك قوله: ﴿إِنَّهُمُ﴾؛ أي: إن هؤلاء الفريق الثاني ﴿اتَّخَذُوا﴾ وجعلوا لأنفسهم ﴿الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ تعالى يطيعونهم في معصية الله، وهذه الجملة تعليل لقوله: ﴿وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ﴾؛ أي: أنهم حين أطاعوا الشياطين فيما زينوا لهم من الفواحش والمنكرات، فكأنهم ولّوهم أمورهم من دون الله الذي يأمر بالعدل والإحسان، وينهى عن الفحشاء والمنكر ﴿وَ﴾ هم مع عملهم هذا ﴿يَحْسَبُونَ ويظنون أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ﴾ راشدون فيما تلقنهم الشياطين من الشبهات، كجعل التوجه إلى غير الله، والتوسل إليه في الدعاء مما يقربهم إلى الله زلفى قياسا على الملوك الجاهلين الذين لا يقبلون الصفح عن مذنب إلا بواسطة بعض المقربين عنده، ودلت هذه الآية على أن مجرد الظن والحسبان لا يكفي في حصة الدين، بل لا بد من الجزم والقطع؛ لأنه تعالى ذم الكفار بأنهم بحسبون كونهم مهتدين، ولولا أن هذا الحسبان مذموم لما ذمهم بذلك، ودلت أيضا على أن كل من شرع في باطل؛ فهو مستحق للذم سواء حسب كونه هدى، أو لم
الإعراب
﴿وَيا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (١٩)﴾.
﴿وَيا آدَمُ﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿يا آدَمُ﴾: منادى مضافا، وجملة النداء في محل النصب معطوفة على جملة قوله: ﴿اسْجُدُوا لِآدَمَ﴾ على كونها مقولا لـ ﴿قُلْنا﴾، والتقدير: ثم قلنا للملائكة: ﴿اسْجُدُوا لِآدَمَ﴾، وقلنا: ﴿يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ﴾، كما ذكره صاحب «زاده» ﴿اسْكُنْ﴾: فعل أمر، وفاعله ضمير مستتر وجوبا. ﴿أَنْتَ﴾: ضمير منفصل مؤكد لضمير الفاعل؛ ليصح عطف ما بعده عليه كما قال ابن مالك:
وإن على ضمير رفع متصل | عطفت فافصل بالضمير المنفصل |
﴿فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما وَقالَ ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ (٢٠)﴾.
﴿فَوَسْوَسَ﴾: ﴿الفاء﴾: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفت أن الله سبحانه وتعالى نهاهما عن تلك الشجرة، وأوردت بيان هل امتثلا لذلك النهي أم لا.. فأقول لك: ﴿وسوس لهما الشيطان﴾: ﴿وسوس﴾: فعل ماض. ﴿لَهُمَا﴾ جار ومجرور متعلق به. ﴿الشَّيْطانُ﴾: فاعل، والجملة الفعلية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. ﴿لِيُبْدِيَ﴾: ﴿اللام﴾: حرف جر وعاقبة، ﴿يبدي﴾: فعل مضارع منصوب بأن مضمرة جوازا بعد لام كي، وفاعله ضمير يعود على ﴿الشَّيْطانُ﴾. ﴿لَهُمَا﴾: متعلق به، والجملة الفعلية صلة أن المضمرة، أن مع صلتها في تأويل مصدر مجرور باللام تقديره: لإبدائه لهما ما ووري، الجار والمجرور متعلق بـ ﴿فَوَسْوَسَ﴾. ﴿ما﴾: موصولة، أو موصوفة في محل النصب مفعول به
﴿وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ (٢١)﴾.
﴿وَقاسَمَهُما﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الشيطان، والجملة معطوفة على جملة ﴿قالَ﴾. ﴿إِنِّي﴾: ﴿إن﴾: حرف نصب، والياء اسمها. ﴿لَكُما﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿النَّاصِحِينَ﴾. ﴿لَمِنَ﴾: ﴿اللام﴾: حرف ابتداء، ﴿من الناصحين﴾: جار ومجرور خبر ﴿إن﴾ تقديره: إني لكائن من الناصحين لكما، وجملة ﴿إن﴾ جواب القسم لا محل لها من الإعراب.
﴿فَدَلَّاهُما بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ﴾.
﴿فَدَلَّاهُما﴾ ﴿الفاء﴾: عاطفة، ﴿دلى﴾: فعل ماض من باب فعل المضعف،
﴿وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾.
﴿وَناداهُما رَبُّهُما﴾ فعل ومفعول وفاعل، والجملة معطوفة على جملة بَدَتْ. ﴿أَلَمْ﴾ ﴿الهمزة﴾ للاستفهام التقريري، ﴿لَمْ﴾: حرف جزم ونفي. ﴿أَنْهَكُما﴾ فعل ومفعول مجزوم بـ ﴿لَمْ﴾، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة جملة مفسرة للنداء لا محل لها من الإعراب. ﴿عَنْ تِلْكُمَا﴾: ﴿عَنْ﴾: حرف جر. ﴿تـ﴾: اسم إشارة يشار بها للمفردة المؤنثة البعيدة في محل الجر بـ ﴿عَنْ﴾ مبني على الكسر لشبهه بالحرف شبها معنويا، ﴿اللام﴾: لبعد المشار إليه، و ﴿الكاف﴾: حرف دال على الخطاب، و ﴿الميم﴾: حرف عماد، و ﴿الألف﴾: حرف دال على التثنية. ﴿الشَّجَرَةَ﴾ بدل من اسم الإشارة، أو عطف بيان له، الجار والمجرور متعلق بـ ﴿أَنْهَكُما﴾. ﴿وَأَقُلْ﴾: فعل مضارع معطوف على أنه مجزوم بـ ﴿لَمْ﴾، وفاعله ضمير يعود على الله. ﴿لَكُما﴾: جار ومجرور متعلق به. ﴿إِنَّ الشَّيْطانَ﴾ إلى آخره مقول محكي لـ ﴿أَقُلْ﴾، وإن شئت قلت ﴿إِنَّ﴾ حرف نصب. ﴿الشَّيْطانَ﴾: اسمها. ﴿لَكُما﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿عَدُوٌّ﴾. ﴿عَدُوٌّ﴾: خبر إن ﴿مُبِينٌ﴾: صفة ﴿عَدُوٌّ﴾، وجملة ﴿إِنَّ﴾ في محل النصب مقول القول لـ ﴿أَقُلْ﴾.
﴿قالا﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة استئنافا بيانيا. ﴿رَبَّنا ظَلَمْنا﴾ إلى آخر الآية مقول محكي، وإن شئت قلت ﴿رَبَّنا﴾: منادى مضاف، وجملة النداء في محل النصب مقول ﴿قال﴾. ﴿ظَلَمْنا أَنْفُسَنا﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة جواب النداء على كونها مقول القول. ﴿وَإِنْ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿إِنْ﴾: حرف شرط. ﴿لَمْ﴾: حرف جزم. ﴿تَغْفِرْ﴾: فعل مضارع مجزوم بـ ﴿لَمْ﴾، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة الفعلية في محل الجزم بـ ﴿إِنْ﴾ الشرطية على كونها فعل شرط لها. ﴿لَنا﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿تَغْفِرْ﴾. ﴿وَتَرْحَمْنا﴾: فعل ومفعول معطوف على ﴿تَغْفِرْ﴾، وفاعله ضمير يعود على الله، وجواب الشرط محذوف دل عليه جواب القسم المقدر تقديره: نكن من الخاسرين، وجملة الشرط مع جوابه المحذوف معطوفة على جملة ﴿ظَلَمْنا﴾ على كونها جواب النداء. ﴿لَنَكُونَنَّ﴾: ﴿اللام﴾: موطئة لقسم محذوف تقديره: والله لئن لم تغفر لنا لنكونن، ﴿نكونن﴾: فعل مضارع ناقص في محل الرفع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، واسمها ضمير يعود على آدم وحواء. ﴿مِنَ الْخاسِرِينَ﴾: جار ومجرور خبر ﴿نكون﴾، وجملة ﴿نكونن﴾ جواب القسم لا محل لها من الإعراب.
﴿قالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (٢٤)﴾.
﴿قالَ﴾: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة مستأنفة. ﴿اهْبِطُوا﴾ إلى آخر الآية مقول محكي لـ ﴿قالَ﴾، وإن شئت قلت ﴿اهْبِطُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة في محل النصب مقول ﴿قالَ﴾. ﴿بَعْضُكُمْ﴾: مبتدأ ومضاف إليه. ﴿لِبَعْضٍ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿عَدُوٌّ﴾. ﴿عَدُوٌّ﴾: خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل النصب حال من فاعل ﴿اهْبِطُوا﴾ تقديره: اهبطوا حالة كونكم موصوفين بعداوة بعضكم لبعض. ﴿وَلَكُمْ﴾ ﴿الواو﴾: واو الحال، أو عاطفة. ﴿لَكُمْ﴾: جار ومجرور خبر مقدم. ﴿فِي الْأَرْضِ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿مُسْتَقَرٌّ﴾. مُسْتَقَرٌّ: مبتدأ مؤخر. ﴿وَمَتاعٌ﴾: معطوف عليه. ﴿إِلى حِينٍ﴾: جار
﴿قالَ فِيها تَحْيَوْنَ وَفِيها تَمُوتُونَ وَمِنْها تُخْرَجُونَ (٢٥)﴾.
﴿قالَ﴾: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة مستأنفة. ﴿فِيها تَحْيَوْنَ﴾ إلى آخر الآية مقول محكي لـ ﴿قالَ﴾، وإن شئت قلت فِيها: جار ومجرور متعلق بـ ﴿تَحْيَوْنَ﴾. ﴿تَحْيَوْنَ﴾: فعل وفاعل، والجملة في محل النصب مقول ﴿قالَ﴾ ﴿وَفِيها﴾: متعلق بـ ﴿تَمُوتُونَ﴾. ﴿تَمُوتُونَ﴾: فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة ﴿تَحْيَوْنَ﴾. ﴿وَمِنْها﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿تُخْرَجُونَ﴾. ﴿تُخْرَجُونَ﴾: فعل ونائب فاعل معطوف على ﴿تَحْيَوْنَ﴾.
﴿يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباسًا يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (٢٦)﴾.
﴿يا بَنِي آدَمَ﴾: منادى مضاف، وجملة النداء مستأنفة. ﴿قَدْ أَنْزَلْنا﴾: فعل وفاعل، والجملة جواب النداء. ﴿عَلَيْكُمْ﴾: متعلق بـ ﴿أَنْزَلْنا﴾. ﴿لِباسًا﴾: مفعول به لـ ﴿أَنْزَلْنا﴾. ﴿يُوارِي﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على ﴿لِباسًا﴾. وجملة ﴿يُوارِي﴾ صفة لـ ﴿لِباسًا﴾ ﴿سَوْآتِكُمْ﴾: مفعول به ومضاف إليه. ﴿وَرِيشًا﴾: معطوف على ﴿لِباسًا﴾. ﴿وَلِباسُ التَّقْوى﴾: بالنصب معطوف على ﴿لِباسًا﴾ أيضا. ﴿لِباسُ﴾ - بالرفع -: مبتدأ أول، ومضاف إليه. ذلِكَ: ﴿مبتدأ﴾ ثان. ﴿خَيْرٌ﴾: خبر للمبتدأ الثاني، وجملة المبتدأ الثاني وخبره خبر للأول، والجملة مستأنفة. ﴿ذلِكَ﴾: مبتدأ. ﴿مِنْ آياتِ اللَّهِ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه خبر المبتدأ، والجملة مستأنفة. ﴿لَعَلَّهُمْ﴾: ناصب واسمه، وجملة ﴿يَذَّكَّرُونَ﴾ خبرها، وجملة ﴿لعل﴾ مستأنفة مسوقة لتعليل جملة ﴿أَنْزَلْنا﴾.
﴿يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما﴾.
﴿يا بَنِي آدَمَ﴾: منادى مضاف، والجملة مستأنفة. ﴿لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ﴾:
﴿إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ﴾.
﴿إِنَّهُ﴾: ناصب واسمه. ﴿يَراكُمْ﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على ﴿الشّيطان﴾، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر ﴿إن﴾، وجملة ﴿إن﴾ في محل الجر باللام المقدره مسوقة لتعليل النهي المستفاد من قوله: ﴿لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ﴾ فكأنه قيل: فاحذروه لأنه يراكم. ﴿هُوَ﴾: تأكيد لضمير الفاعل المستتر في ﴿يَراكُمْ﴾ ليصح العطف عليه كما قيل. ﴿وَقَبِيلُهُ﴾: بالرفع معطوف على ضمير الفاعل، وبالنصب معطوف على اسم ﴿إن﴾. ﴿مِنْ حَيْثُ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿يَراكُمْ﴾. ﴿لا تَرَوْنَهُمْ﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿حَيْثُ﴾. ﴿إِنَّا﴾: ناصب واسمه. ﴿جَعَلْنَا﴾: فعل وفاعل. ﴿الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ﴾: مفعولان لـ ﴿جَعَلْنَا﴾، وجملة ﴿جَعَلْنَا﴾: في محل الرفع خبر ﴿إن﴾، وجملة ﴿إن﴾ جملة معللة مؤكدة لجملة قوله: ﴿إِنَّهُ يَراكُمْ﴾. ﴿لِلَّذِينَ﴾: جار
﴿وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٢٨)﴾.
﴿وَإِذا﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية. ﴿إِذا﴾: ظرف لما يستقبل من الزمان. ﴿فَعَلُوا فاحِشَةً﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل الخفص بإضافة إِذا إليها على كونها فعل شرط لها، والظرف متعلق بالجواب. ﴿قالُوا﴾ فعل وفاعل، والجملة جواب إِذا لا محل لها من الإعراب، وجملة إِذا مستأنفة. ﴿وَجَدْنا عَلَيْها﴾ إلى قوله: ﴿قُلْ﴾ مقول محكي لـ ﴿قالُوا﴾، وإن شئت قلت ﴿وَجَدْنا﴾: فعل وفاعل. ﴿عَلَيْها﴾: متعلق به. ﴿آباءَنا﴾: مفعول به ومضاف إليه؛ لأن وجد هنا بمعنى أصاب، والجملة الفعلية في محل النصب مقول ﴿قالُوا﴾. ﴿وَاللَّهُ﴾: مبتدأ. ﴿أَمَرَنا﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على ﴿الله﴾. ﴿بِها﴾: متعلق بـ ﴿أَمَرَنا﴾، وجملة ﴿أَمَرَنا﴾ في محل الرفع خبر المبتدأ والجملة الاسمية في محل النصب مقول ﴿قالُوا﴾. ﴿قُلْ﴾: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة مستأنفة. ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ﴾ إلى آخر الآية مقول محكي لـ ﴿قُلْ﴾، وإن شئت قلت ﴿إِنَّ﴾: حرف نصب. ﴿اللَّهُ﴾: اسمها. لا: نافية. ﴿يَأْمُرُ﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على ﴿الله﴾. ﴿بِالْفَحْشاءِ﴾: متعلق به، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر ﴿إِنَّ﴾، وجملة ﴿إِنَّ﴾ في محل النصب مقول ﴿قُلْ﴾. ﴿أَتَقُولُونَ﴾ ﴿الهمزة﴾: للاستفهام الإنكاري التوبخي، وفيه معنى النهي، ﴿تَقُولُونَ﴾: فعل وفاعل، والجملة في محل النصب مقول ﴿قُلْ﴾. ﴿عَلَى اللَّهِ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿تَقُولُونَ﴾. ﴿ما﴾: موصولة، أو موصوفة في محل النصب مفعول به لـ ﴿تَقُولُونَ﴾؛ لأنه بمعنى تذكرون وتفترون. ﴿لا تَعْلَمُونَ﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة لـ ﴿ما﴾، أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: ما لا تعلمونه.
﴿قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (٢٩)﴾.
﴿فَرِيقًا هَدى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ﴾.
﴿فَرِيقًا﴾: مفعول مقدم لـ ﴿هَدى﴾. ﴿هَدى﴾: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على ﴿الله﴾، والجملة مستأنفة، أو حال من فاعل بدأ؛ أي: تعودون كما بدأكم حال كونه هاديا فريقا، ومضلا فريقا، وقد مضمرة هنا. ﴿وَفَرِيقًا﴾: مفعول لفعل محذوف تقديره: وأضل فريقا، وجملة ﴿حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ﴾ صفة لـ ﴿فَرِيقًا﴾، والجملة المحذوفة معطوفة على جملة قوله: ﴿فَرِيقًا هَدى﴾ على كونه مستأنفة، أو حالا من فاعل بدأ تقديره: تعودون كما بدأكم حال كونه هاديا فريقا، ومضلا فريقا حق عليهم الضلالة.
﴿إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ﴾.
﴿إِنَّهُمُ﴾: ناصب واسمه. ﴿اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ﴾: فعل وفاعل ومفعولان، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر ﴿إن﴾، وجملة ﴿إن﴾ مستأنفة مسوقة لتعليل قوله: ﴿حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ﴾. ﴿مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾: جار ومجرور
التصريف ومفردات اللغة
﴿وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ﴾ قرب يستعمل لازما، فيكون بضم الراء في الماضي والمضارع، ويستعمل متعديا كما هنا فيكون بكسرها في الماضي، وفتحها في المضارع، وبفتحها في الماضي وضمها في المضارع، وفي «المصباح» قرب الشيء منا قربا؛ أي: دنا إلى أن قال: وقربت الأمر أقربه - من باب تعب، وفي لغة من باب قتل - قربانا - بالكسر - فعلته، أو دانيته، اه.
﴿فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ﴾ أصل الوسوسة: الصوت الخفي المكرر، ومنه قيل لصوت الحلي: وسوسة، ووسوسة الشيطان للبشر ما يجدونه في أنفسهم من الخواطر الرديئة التي تزين لهم ما يضرهم في أبدانهم أو أرواحهم، يقال: وسوس إذا تكلم كلاما خفيا مكررا.
﴿الشَّيْطانُ﴾ مأخوذ من شاط إذا احترق، أو من شطن بمعنى بعد.
﴿ما وُورِيَ﴾؛ أي: غطى وستر، وهو بوزن فوعل؛ لأنه مغير وارى على وزن فاعل كضارب، فلما بني للمفعول أبدلت الألف واوا كضورب، فالواو الأولى فاء الكلمة، والثانية: زائدة، فحينئذ لا يجب قلب الأولى همزة، وإنما يجب قلبها لو كانت الثانية أصلية كما أوضحوه في قول «الخلاصة»: وهمزا أول الواوين رد.
وقرأ عبد الله (١): ﴿أوري﴾ - بإبدال الأولى همزة - وهو بدل جائز لا واجب، وهذه قاعدة كلية، وهي أنه إذا اجتمع في أول الكلمة واوان، وتحركت الثانية، أو كان لها نظير متحرك.. وجب إبدال الأولى همزة تخفيفا، فإن لم
﴿مِنْ سَوْآتِهِما﴾ جمع سوءة، والسوءة ما يسوء الإنسان أن يراه غيره من أمر شائن، وعمل قبيح، وإذا أضيفت إلى الإنسان أريد بها عورته الفاحشة؛ لأنه يسوءه ظهورها بمقتضى الحياء الفطري. ﴿مِنَ الْخالِدِينَ﴾؛ أي: من الذين لا يموتون أبدا.
﴿وَقاسَمَهُما﴾؛ أي: أقسم وحلف لهما، وفي «السمين» المفاعلة هنا يحتمل أن تكون على بابها. فقال الزمخشري: كأنه قال لهما: أقسم لكما إني لمن الناصحين، فقالا له: أتقسم بالله أنت إنك لمن الناصحين لنا، فجعل ذلك مقاسمة بينهم، أو أقسم لهما بالنصيحة، وأقسما له بقبولها، أو أخرج قسم إبليس على وزن المفاعلة؛ لأنه اجتهد فيها اجتهاد المقاسم. وقال ابن عطية: وقاسمهما؛ أي: حلف لهما، وهي مفاعلة؛ إذ قبول المحلوف له، وإقباله على معنى اليمين، وتقديره: كالقسم وإن كان بادىء الرأي يعطي أنها من واحد، ويحتمل أن يكون فاعل بمعنى أفعل كباعدته وأبعدته، وذلك أن الحلف لما كان من إبليس دونهما كان فاعل بمعنى أصل الفعل. انتهى.
﴿لَمِنَ النَّاصِحِينَ﴾ جمع ناصح اسم فاعل من نصح، ونصح يتعدى لواحد؛ تارة بنفسه، وتارة بحرف الجر، ومثله شكر وكال ووزن، وهل الأصل التعدي بحرف الجر، أو التعدي بنفسه، أو كل منهما أصل؟ الراجح الثالث، وزعم بعضهم أن المفعول في هذه الأفعال محذوف، وأن المجرور باللام هو الثاني، فإذا قلت: نصحت لزيد، فالتقدير: نصحت لزيد الرأي، وكذلك شكرت له صنيعه، وكلت له طعامه، ووزنت له متاعه، فهذا مذهب رابع، وقال الفراء: العرب لا تكاد تقول: نصحتك إنما يقولون: نصحت لك، وأنصح لك، وقد يجوز نصحتك، اه «سمين». والنصيحة: هي إرادة الخير للغير، وإظهاره له.
﴿فَدَلَّاهُما بِغُرُورٍ﴾ يقال: دلى الشيء تدلية - كزكى تزكية - إذا أرسله، وأنزله من أعلى إلى أسفل رويدا رويدا، وقال الأزهري: وأصله أن الرجل العطشان يتدلى في البئر ليأخذ الماء، فلا يجد فيها ماء، فوضعت التدلية موضع الطمع فيما لا فائدة فيه. والغرور: إظهار النصح مع إبطان الغش، وقيل: حطهما من منزلة
ومعنى الآية (١): أن إبليس لعنه الله غر آدم باليمين الكاذبة، وكان آدم عليه السلام يظن أن أحدا لا يحلف بالله كاذبا، وإبليس أول من حلف بالله كاذبا، فلما حلف إبليس ظن آدم أنه صادق فاغتر به، والغرور: مصدر حذف فاعله ومفعوله، والتقدير بغروره إياهما.
﴿وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما﴾؛ أي: شرعا وأخذا يلزقان عليهما؛ أي: على القبل والدبر؛ أي: جعل كل منهما يستر عورتيه. يخصفان؛ أي (٢): يرقعان ويلزقان ورقة فوق ورقة، من قولهم: خصف الإسكافي النعل إذا وضع عليها مثلها. وفي «المختار»: طفق يفعل كذا؛ أي: جعل يفعل كذا، وبابه طرب، وبعضهم يقول: هو من باب جلس. اه. وفي «المصباح»: خصف الرجل نعله خصفا - من باب ضرب - فهو خصاف، وهو فيه كرقع الثوب.
﴿قالَ فِيها تَحْيَوْنَ﴾ من حيي (٣) من باب رضي، فتحيون أصله تحييون بوزن ترضيون، تحركت الياء الثانية وانفتح ما قبلها، فقلبت ألفا، ثم حذفت لالتقاء الساكنين، فوزنه تفعون بحذف لام الكلمة.
﴿وَرِيشًا وَلِباسُ التَّقْوى﴾ الريش: لباس (٤) الحاجة والزينة، ولباس التقوى ما يلبس من الدروع والجواشن والمغافر وغيرها مما يتقى به في الحرب.
وفي «الفتوحات»: والريش فيه قولان: أحدهما: أنه اسم لهذا الشيء المعروف.
والثاني: أنه مصدر يقال: راشه يرشه ريشا إذا جعل فيه الريش، فينبغي أن يكون الريش مشتركا بين المصدر والعين، وهذا هو التحقيق.
وقرىء: ﴿ورياشا﴾ وفيه تأويلان (٥):
(٢) المراغي.
(٣) الفتوحات.
(٤) المراغي.
(٥) الفتوحات.
والثاني: أنه مصدر أيضا، فيكون ريش ورياش مصدرين لراشه الله ريشا ورياشا؛ أي: أنعم عليه. وقال الزجاج: هما اللباس، فعلى هذا هما اسمان للشيء الملبوس كما قالوا: لبس ولباس.
﴿لا يَفْتِنَنَّكُمُ﴾ الفتنة: الابتلاء والاختبار من قولهم: فتن الصائغ الذهب، أو الفضة إذا عرضهما على النار ليعرف الزيف من النضار.
﴿وَقَبِيلُهُ﴾ والقبيل: الجماعة يكونون من ثلاثة فصاعدا من جماعة شتى، هذا قول أبي عبيد، والقبيلة: الجماعة من أب واحد، فليست القبيلة تأنيث القبيل لهذه المغايرة اه «سمين». وفي «المصباح»: والقبيل: الجماعة ثلاثة فصاعدا من قوم شتى، والجمع قبل بضمتين، والقبيلة لغة فيه، وقبائل الرأس القطع المتصل بعضها ببعض، وبها سميت قبائل العرب، الواحدة قبيلة، وهم بنو أب واحد. اه.
﴿وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً﴾ الفاحشة (١): الفعلة المتناهية في القبح، والمراد بها هنا طواف أهل الجاهلية عراة كما ولدتهم أمهاتهم، ويقولون لا نطوف بيت ربنا في ثياب عصيناه بها.
﴿بِالْقِسْطِ﴾ والقسط الاعتدال في جميع الأمور، وهو الوسط بين الإفراط والتفريط.
﴿وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ﴾ وإقامة الشيء: إعطاؤه حقه، وتوفيته شروطه كإقامة الصلاة، وإقامة الوزن بالقسط، والوجه قد يطلق على العضو المعروف من الإنسان كما في قوله: ﴿فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ﴾ وقد يطلق على توجه القلب وصحة القصد كما في قوله: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا﴾. ﴿فَرِيقًا هَدى﴾: وفي «القاموس»: والفرقة - بالكسر - الطائفة من الناس، والجمع فرق، والفريق كأمير أكثر منها، والجمع أفرقاء وأفرقة وفروق. اه.
وقد تضمنت هذه الآيات ضروبا من البلاغة والفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: الإيجاز بالحذف في قوله: ﴿وَيا آدَمُ﴾؛ أي: وقلنا يا آدم، وفي قوله: ﴿فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما﴾؛ أي: فكلا منها؛ أي: من ثمارها حيث شئتما.
ومنها: المبالغة في النهي عن الأكل في قوله: ﴿وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ﴾؛ لأنه عبر عن النهي من الأكل بالنهي عن القربان مبالغة.
ومنها: التأكيد في قوله: ﴿اسْكُنْ أَنْتَ﴾ وفي قوله: ﴿وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ﴾ أكد الخبر بالقسم وبـ ﴿إن﴾ وباللام وبإسمية الجملة؛ لدفع شبهة الكذب، وهو من الضرب الذي يسمى إنكاريا؛ لأن السامع متردد.
ومنها: تخصيص الخطاب بآدم (١)، في قوله: ﴿وَيا آدَمُ اسْكُنْ﴾ للإيذان بأصالته في تلقي الوحي، وتعاطي المأمور به، وتعميمه في قوله: ﴿فَكُلا﴾، وقوله: ﴿وَلا تَقْرَبا﴾ للإيذان بتساويهما في مباشرة المأمور به، وتجنب المنهى عنه.
ومنها: المجاز المرسل، في قوله: ﴿فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ﴾ لأنه مجاز عن الأكل من إطلاق المسبب وإرادة السبب.
ومنها: الاستفهام التقريري في قوله: ﴿أَلَمْ أَنْهَكُما﴾ وهو (٢) حمل المخاطب على الإقرار بما علم عنده ثبوته أو نفيه. والمعنى (٣): أقر بذلك على حد ﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ﴾ (١).
ومنها: الاستعارة التصريحية في قوله: ﴿وَرِيشًا﴾ شبه لباس الزينة بريش الطائر بجامع الزينة في كل؛ لأن الريش زينة الطائر، كما أن اللباس زينة الأدميين، فاستعير اسم المشبه به للمشبه على طريقة الاستعارة التصريحية.
ومنها: التشبيه في قوله: ﴿وَلا تَقْرَبا﴾ لأنه من إضافة المشبه به إلى المشبه، فهو من قبيل إضافة لجين الماء، وقال الشوكاني (٤): ومثل هذه الاستعارة كثير
(٢) الصاوي.
(٣) الصاوي.
(٤) فتح القدير.
إذا المرء لم يلبس ثيابا من التقى | تقلب عريانا، وإن كان كاسيا |
تغط بأثواب السخاء فإنني | أرى كل عيب والسخاء غطاؤه |
ومنها: الطباق في قوله: ﴿قالَ فِيها تَحْيَوْنَ وَفِيها تَمُوتُونَ﴾؛ لأن بين الجملتين طباقا، وهو من المحسنات البديعية.
ومنها: المقابلة في قوله: ﴿فَرِيقًا هَدى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ﴾.
ومنها: الإسناد المجازي في قوله: ﴿يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما﴾؛ لأنه أسند النزع إليه لتسببه فيه.
ومنها: حكاية الحال الماضية، في قوله: ﴿يَنْزِعُ﴾: عبر (٢) بلفظ المضارع وعلى أنه حكاية حال؛ لأنها قد وقعت وانقضت.
ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
(٢) الفتوحات.
﴿يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (٣١) قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٣٢) قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٣٣) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (٣٤) يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٣٥) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٣٦) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قالُوا أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ (٣٧) قالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعًا قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ (٣٨) وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (٣٩) إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (٤٠)
لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (٤١) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَها أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٤٢) وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدانَا اللَّهُ لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٤٣)﴾.
المناسبة
قوله تعالى: ﴿يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ...﴾ الآية، مناسبة (١)
قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما أنكر في الآية السالفة على المشركين وغيرهم من أرباب الملل الأخرى تحريم زينة الله التي أخرجها لعباده والطيبات من الرزق.. ذكر هنا أصول المحرمات التي حرمها على عباده لضررها، وجميعها من الأعمال الكسبية، لا من المواهب الخلقية؛ ليستبين للناس أن الله لم يحرم على عباده إلا ما هو ضار لهم.
قوله تعالى: ﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما بين جماع المحرمات على بني آدم لما فيها من المفاسد والمضار للأفراد والمجتمع إثر بيان المباحات من الزينة والطيبات من الرزق بشرط عدم الإسراف فيها.. ذكر هنا حال الأمم في قبول هذه الأصول، أو ردها، والسير على منهاجها بعد قبولها، أو الزيغ عنها.
قوله تعالى: ﴿يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي...﴾ الآيتين، مناسبة هاتين الآيتين لما قبلها (١): أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر أن لكل أمة أجلا لا تعدوه.. حكى هنا ما خاطب به كل أمة على لسان رسولها، وبينه لها من أصول الدين الذي شرعه لهدايتها، وتكميل فطرتها، وأرشدها إلى أنها إن كانت مطيعة تتقي الله فيما تأتي وتذر، وتصلح أعمالها، فلا يحصل لها في الآخرة خوف ولا حزن، وإن هي تمردت واستكبرت، وكذبت الرسل كانت عاقبتها النار، وبئس القرار.
قوله تعالى: ﴿فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا...﴾ الآيات، مناسبة هذه
قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن هذه الآية من تتمة ما سلف من وعيد الكفار، وجزاء المكذبين بالقرآن المستكبرين عن الايمان، بين بها أنهم خالدون في النار، وأنهم يلاقون فيها من الشدائد والأهوال ما لا يدرك العقل حقيقة كنهه، وأن هذا كفاء ظلمهم لأنفسهم، واستكبارهم عن طاعة ربهم، واتباع أوامره.
قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها، أن الله سبحانه وتعالى، لما ذكر (٢) وعيد أهل الكفار والمعاصي.. أردفه وعد أهل الطاعات، وقد جرت سنة القرآن بالجمع بينهما، فيبدأ بأحدهما لمناسبة سياق الكلام قبله، ثم يقفوه بالآخر.
أسباب النزول
قوله تعالى: ﴿يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ...﴾ الآية، سبب نزولها (٣): ما روى مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كانت المرأة تطوف بالبيت في الجاهلية، وهي عريانة وعلى فرجها خرقة، وهي تقول:
اليوم يبدو بعضه أو كلّه | فما بدا منه فلا أحلّه |
(٢) المراغي.
(٣) لباب النقول.
وأخرج (١) عبد بن حميد عن سعيد بن جبير عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: كان الناس يطوفون بالبيت عراة، ويقولون لا نطوف في ثياب أذنبنا فيها، فجاءت امرأة فألقت ثيابها، فطافت ووضعت يدها على قبلها، وقالت:
اليوم يبدو بعضه أو كلّه | فما بدا منه فلا أحلّه |
وقال مجاهد (٢): كان حي من أهل اليمن، كان أحدهم إذا قدم حاجا أو معتمرا يقول: لا ينبغي أن أطوف في ثوب قد عصيت فيه، فيقول: من يعيرني مئزرا، فإن قدر عليه، وإلا طاف عريانا، فأنزل الله تعالى فيه ما تسمعون: ﴿خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ﴾.
وقال الزهري: إن العرب كانت تطوف بالبيت عراة إلا الحمس، وهم قريش وأحلافهم، فمن جاء من غير الحمس وضع ثيابه، وطاف في ثوب أحمسي، ويرى أنه لا يحل له أن يلبس ثيابه، فإن لم يجد من يعيره من الحمس، فإنه يلقي ثيابه، ويطوف عريانا، وإن طاف في ثياب نفسه ألقاها إذا قضى طوافه وحرمها؛ أي: جعلها حراما عليه؛ فلذلك قال الله تعالى: ﴿خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ﴾ والمراد من الزينة لبس الثياب التي تستر العورة.
قال مجاهد: ما يواري عوراتكم ولو عباءة. وقال الكلبي: الزينة ما يواري العورة عند كل مسجد كطواف وصلاة، وقوله تعالى: ﴿خُذُوا زِينَتَكُمْ﴾ أمر، وظاهره الوجوب، وفيه دليل على أن ستر العورة واجب في الصلاة، والطواف، وفي كل حال من الأحوال، وإن كان الرجل خاليا كما دلت عليه الأحاديث الصحيحة.
(٢) الخازن.
٣١ - والخطاب في قوله: ﴿يا بَنِي آدَمَ﴾ عام (١) لجميع بني آدم، وإن كان واردا في سبب خاص، فالاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فالذي ينبغي للأمة التجمل بالثياب عند حضور مشاهد الخير مع القدرة ﴿يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ﴾؛ أي: البسوا ثيابكم التي تستر عوراتكم ﴿عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ﴾؛ أي: في كل وقت صلاة وطواف، والزينة ما يزين الشيء، أو الشخص، ومعنى أخذها: التزين بها، والمراد بالزينة هنا: الثياب الحسنة كما يدل على ذلك سبب نزول الآيات. وأقل هذه الزينة ما يدفع عن المرء أقبح ما يشينه بين الناس، وهو ما يستر عورته، وهو الواجب لصحة الصلاة والطواف، وما زاد على ذلك من التجمل بزينة اللباس عند الصلاة - ولا سيما صلاة الجمعة والعيد - فهو سنة لا واجب.
ويرى بعض العلماء (٢) وجوب الزينة عند كل مسجد بحسب عرف الناس في تزينهم في المجامع والمحافل؛ ليكون المؤمن حين عبادة ربه مع عباده المؤمنين في أجمل حال، لا تقصير فيها ولا إسراف. أخرج الطبراني والبيهقي عن ابن عمر أن رسول الله ﷺ قال: «إذا صلى أحدكم.. فليلبس ثوبيه، فإن الله عز وجل أحق من تزين له، فإن لم يكن له ثوبان. فليتزر إذا صلى، ولا يشتمل أحدكم في صلاته اشتمال اليهود».
وأخرج الشافعي وأحمد والبخاري عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي ﷺ قال: «لا يصلين أحدكم في الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شيء».
وعلى الجملة: فالزينة تختلف باختلاف حال الناس في السعة والضيق، فمن عنده ثوب واحد يستر جميع بدنه.. فليستر به جميع بدنه، وليصل به، فإن لم يستر إلا العورة كلها، أو الغليظة منها؛ وهي السوءتان... فليستر به ما يستره، ومن وجد ثوبين، أو أكثر فليصل بهما.
وهذا (٣) الأمر بالزينة عند كل مسجد أصل من الأصول الدينية والمدنية عند
(٢) المراغي.
(٣) المراغي.
وبهذا نقل الإسلام أمما وشعوبا كثيرة من الوحشية إلى الحضارة الراقية؛ أي: خذوا زينتكم عند المساجد وأداء العبادات ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا﴾ من الطيبات ﴿وَلا تُسْرِفُوا﴾ فيها بالتعدي إلى الحرام، أو بتحريم الحلال، أو بالإفراط في الطعام، بل عليكم بالاعتدال في جميع ذلك ﴿إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾؛ أي: لأن الله سبحانه وتعالى الخالق لهذه النعم لا يحب المسرفين؛ أي: لا يرتضي عنهم فعلهم، بل يعاقبهم على هذا الإسراف بمقدار ما ينشأ عنه من المضار والمفاسد؛ لأنهم قد خالفوا سنن الفطرة، وجنوا على أنفسهم في أبدانهم وأموالهم، وجنوا على أسرهم وأوطانهم إذ هم أعضاء في جسم الأسرة والأمة.
روى النسائي وابن ماجه أن النبي ﷺ قال: «كلوا واشربوا وتصدقوا والبسوا في غير مخيلة - كبر وإعجاب بالنفس - ولا سرف، فإن الله يحب أن يرى أثر نعمه على عبده».
وعن ابن عباس أنه قال: كل ما شئت، واشرب ما شئت، والبس ما شئت إذا أخطأتك اثنتان: سرف أو مخيلة. والإسراف تجاوز الحد في كل شيء، والحدود لها أقسام:
منها: طبيعي كالجوع والشبع، والظمأ والري، فمن أكل إذا أحس بالجوع، أو كف عن الأكل إذا شعر بالشبع، وإن كان يستلذ الاستزادة أو شرب إذا شعر بالظمأ، واكتفى بما يزيله، ولم يزد على ذلك.. لم يكن مسرفا في أكله وشربه، وكان طعامه وشرابه نافعين له.
ومنها: اقتصادي؛ وهو أن تكون النفقة على نسبة معينة من دخل الإنسان بحيث لا تستغرق كسبه.
والمعول عليه في الإنفاق في كل طبقة عرف المعتدلين فيها، فمن تجاوز طاقته مباراة لمن هم أغنى منه وأقدر كان مسرفا، وكم جر الإسراف إلى خراب بيوت عامرة، ولا سيما في المهور، وتجهيز العرائس، وحفل العرس والمأتم (١)، والزار، قال الشاعر:
ثلاثة تشقى بها الدّار | العرس والمأتم والزّار |
والخلاصة:
أن الطعام والشراب من ضرورات الحياة الحيوانية، ولكن ضل في ذلك فريقان:
١ - فريق البخلاء والغلاة في الدين، تركوا الأكل والشرب من الطيبات المستلذة؛ إما بخلا وشحا، أو تحرجا وتأثما؛ إما دائما، أو
في أوقات مخصوصة من السنة.
٢ - فريق المترفين الذين أسرفوا في اللذات البدنية، وجعلوها جل هممهم، فهم يأكلون ويشربون ويتمتعون كما تتمتع الأنعام، وليس لهم غاية يقفون عندها،
٣٢ - ﴿قُلْ﴾ يا محمد لهؤلاء الجهلة من العرب الذين يطوفون بالبيت عراة ﴿مَنْ حَرَّمَ﴾؛ أي: من الذي حرم عليكم ﴿زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ﴾ ـها وخلقها ﴿لِعِبادِهِ﴾ من النبات كالقطن والكتان، ومن الحيوان كالحرير والصوف، ومن المعادن كالدروع ﴿وَ﴾ من الذي حرم عليكم ﴿الطَّيِّباتِ﴾؛ أي: المستلذات ﴿مِنَ الرِّزْقِ﴾؛ أي: من المآكل والمشارب، والاستفهام فيه إنكاري توبيخي؛ أي: لا أحد حرم عليكم أن تتزينوا بها، وتلبسوها في الطواف وغيره، ولا أن تأكلوا المستلذات من الرزق في الحج وغيره.
ومعنى إخراج الله للزينة (١): خلق موادها، وتعليم طرق صنعها بما أودع في فطرهم من حبها، والميل إلى الافتتان في استعمالها؛ إذ خلقهم مستعدين لإظهار آياته في جميع ما خلق في هذا العالم الذي يعيشون فيه بما أودع في غرائزها من الميل إلى البحث في كشف المجهول، والاطلاع على خفايا الأمور، فهم لا يدعون شيئا عرفوه بحواسهم أو عقولهم حتى يبحثوه من طرق شتى، وأوجه لا نهاية لها، ولم تنتهي بحوثهم ما دام الإنسان على ظهر البسيطة.
وغريزة حب الزينة، وحب التمتع بالطيبات كانت من أهم الأسباب في اتساع أعمال الفلاحة والزراعة، ورقي ضروب الصناعة، واتساع وسائل العمران، ومعرفة سنن الله وآياته في الأكوان، وهما لا يذمان إلا بالإسراف فيهما، والغفلة عن شكر المنعم بهما.
والخلاصة:
أن الدين لم يحرمهما إلا إذا كانا عائقين عن الكمال الروحي، والكمال الخلقي، وأنه لم يجعل تركهما قربة إلى الله كما جرى على ذلك الوثنيون من البراهمة وغيرهم، وقلدهم في ذلك بعض المسلمين، وصاروا يبثون في الأمم الإسلامية تعاليم تقضي بأن روح الدين ومخ العبادة في التقشف، وحرمان النفس من التمتع بلذات الحياة. وقد بين الله سبحانه وتعالى وجه
وقرأ قتادة (٢): ﴿قل هي لمن آمن﴾ وقرأ نافع: ﴿خالصة﴾ - بالرفع -، وقرأ باقي السبعة ﴿خالِصَةً﴾ بالنصب، فأما النصب فعلى الحال من الضمير المستكن في الجار والمجرور الواقع خبرا، وأما الرفع فعلى أنه خبر بعد خبر، أو خبر لمبتدأ محذوف؛ أي: وهي خالصة.
وقصارى ذلك: أن الدين يورث أهلها سعادة الدنيا والآخرة جميعا كما يدل على ذلك قوله تعالى: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى (١٢٤)﴾، وقوله: ﴿وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقًا﴾.
ذاك أن المؤمن يزداد علما وإيمانا بربه، وشكرا له كلما عرف شيئا من سننه وآياته في نفسه، أو في غيرها من الكائنات، ومن أهم أركان الشكر استعمال النعمة فيما وهبها المنعم لأجله من شكر الجوارح، كشكر اللسان بالثناء عليه، وشكر سائر الأعضاء كذلك.
ففي حديث أبي هريرة عند أحمد والترمذي والحاكم: «الطاعم الشاكر بمنزلة الصائم الصابر» والسر في هذا: أن الأكل والشرب من الطيبات بدون
(٢) الخازن.
١ - حفظ الصحة.
٢ - كرامة من يتجمل بها في نفوس الناس.
٣ - إظهار نعمة الله على لابسها، والمؤمن يثاب بنيته على كل ما هو محمود من هذه الأمور بالشكر عليها.
روى أبو داود عن أبي الأحوص قال: أتيت رسول الله ﷺ في ثوب دون، فقال: «ألك مال»؟ قلت: نعم. قال: «من أي المال»؟ قال: قد آتاني الله من الإبل والغنم والخيل والرقيق قال: «فإذا آتاك الله.. فلير أثر نعمته عليك وكرامته لك».
وأخرج الترمذي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده» وقد كانت العرب تحرم زينة اللباس في الطواف تعبدا، وتحرم الادهان ونحوه حال الإحرام بالحج كذلك، وتحرم من الأنعام والحرث ما ذكر في سورة الأنعام، وحرم أهل الكتاب كثيرا من الطيبات، فجاء الدين الإسلامي الجامع بين مصالح الدنيا ومصالح الآخرة، والمطهر للنفوس، والمهذب للأخلاق، فأنكر هذا التحكم المخالف لسنن الفطرة، وبين أن هذا التحريم لم يكن إلا من وساوس الشيطان، ولم يوح به الله تعالى إلى أنبيائه ورسله المصطفين الأخيار.
﴿كَذلِكَ﴾؛ أي: كتفصيلنا هذا الحكم المذكور وتبيينا إياه ﴿نُفَصِّلُ﴾ ونبين ﴿الْآياتِ﴾؛ أي: الأحكام من الحلال والحرام ﴿لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ أني أنا الله وحدي لا شريك لي، فأحلوا حلالي، وحرموا حرامي.
أي: أن هذا التفصيل لحكم الزينة والطيبات، الذي ضل فيه كثير من الأمم والأفراد ما بين إفراط وتفريط، لا يعقله إلا الذين يعلمون سنن الاجتماع وطبائع
ولكن وا أسفا قد أضحى المسلمون من أجهل الشعوب بسنن الله في الأكوان، وبالعلوم والمعارف اللازمة لتقدم الحضارة والمدنية، وأصبحوا في مؤخرة الأمم، وصاروا مضرب الأمثال في التأخر والخمول والكسل، وبذلك استكانوا وذلوا، وصاروا أفقر الأمم وأضعفهم وأقلهم خدمة لدينهم، وخالفوا ما رسمه لهم ذلك من أن لهم زينة الدنيا وطيباتها وسعادتها وملكها، وأن عليهم أن يشكروا الله على ما يؤتيهم من ذلك، وأن عليهم أن يقوموا بما يرضيه من اتباع الحق والعدل، وكل ما تقتضيه خلافتهم في الأرض.
ولقد بلغ الجهل بكثير من المسلمين أن ظن - وبعض الظن إثم - أن دين الإسلام هو سبب ضعف المسلمين وجهلهم ومسكنتهم، وذهاب ملكهم، واستعباد الكفار لهم حتى رغب الجهال منهم الدخول في المسيحية والشيوعية؛ لطول ما عليهم من الاستئمار، كما رأينا ذلك في بعض القبائل من الشعوب الآرومية في شرقي إفريقيا؛ لاستعباد الجيوش لهم بأخذ أراضيهم، وضرب الجزية عليهم استعبادا لا نظير له إلا استعباد فرعون لبني إسرائيل، ولكن كتاب الله وسنة رسوله وتاريخ هذه الأمة شاهد صدق على فساد هذه القضية، وتزييف تلك الدعوى فليس لها من دعائم تستند إليها وتقف بها على رجليها.
٣٣ - ﴿قُلْ﴾ يا محمد لهؤلاء المشركين الذين يتجردون من ثيابهم في الطواف، والذين يحرمون أكل الطيبات ﴿إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ﴾؛ أي: الزنا ﴿ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ﴾؛ أي: جهرها وسرها ﴿وَالْإِثْمَ﴾؛ أي: شرب الخمر ﴿وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ﴾؛ أي: الظلم على الناس بغير الحق، فالقتل والقهر بالحق ليس بغيا {وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ
فالجنايات محصورة في خمسة أنواع (٢):
أحدها: الجناية على الأنساب؛ وهي المرادة بالفواحش الظاهرة والباطنة، وقد تقدم تفسيرها في سورة الأنعام، وهي إحدى الوصايا التي ذكرت هناك، وقد تقدم تخصيصها بفاحشة الزنا، وإن كان الأولى التعميم.
وثانيها: الجناية على العقول؛ وهي المشار إليها بالإثم والإثم (٣) يتناول كل معصية يتسبب عنها الإثم والذم، وعطفه على ما قبله من عطف العام على الخاص، والثلاثة بعده معطوفة عليه عطف خاص على عام؛ لمزيد الاعتناء بها، وقيل: هو الخمر خاصة ومنه قول الشاعر:
شربت الإثم حتّى ضلّ عقلي | كذاك الإثم تذهب بالعقول |
يشرب الإثم بالصّواع جهارا
وقد أنكر جماعة من أهل العلم على من جعل الإثم خاصا بالخمر. قال النحاس: فأما أن يكون الإثم الخمر.. فلا يعرف ذلك، وحقيقته أنه جميع المعاصي كما قال الشاعر:
(٢) الشوكاني.
قال في «الصحاح»: وقد يسمى الخمر إثما، وأنشد: شربت الإثم... البيت، وكذا أنشده الهروي قبله في غريبته.
وثالثها: الجناية على النفوس والأموال والأعراض، وإليها الإشارة بقوله: ﴿وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ﴾ وهو (١) الإثم الذي فيه تجاوز لحدود الحق، أو اعتداء على حقوق الأفراد أو جماعتهم، ومن ثم قرن بالعدوان في قوله: ﴿تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ﴾ وقيد البغي بكونه بغير الحق؛ لأن تجاوز الحدود المعروفة قد يكون فيما لا ظلم فيه ولا فساد، ولا هضم لحقوق الأفراد والجماعات كما في الأمور التي ليس لهم فيها حقوق، أو التي تطيب أنفسهم فيها عن بعض حقوقهم، فيبذلونها عن رضى وارتياح لمصلحة لهم يرجونها.
ورابعها: الجناية على الأديان؛ وهي من وجهين:
إما بالطعن في توحيد الله تعالى؛ وهو الشرك، وإليه الإشارة بقوله: ﴿وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ﴾ وهو أقبح الفواحش، فلا تقوم عليه حجة من عقل ولا برهان من وحي، وسميت الحجة سلطانا؛ لأن لها سلطانا على العقل والقلب.
وفي هذا إيماء إلى أن أصول الإيمان لا تقبل إلا بوحي من الله يؤيده البرهان كما قال: ﴿وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهًا آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ﴾ كما أن فيه إرشادا إلى عظم شأن الدليل والبرهان في الدين، حتى كأن من جاء بالبرهان على الشرك يصدق، وهذا من فرض المحال مبالغة في فضل الاستدلال كما قال: ﴿أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ﴾.
وإما بالقول في دين الله بغير معرفة، وإليه الاشارة بقوله تعالى: ﴿وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ﴾: وهو من أسس المحرمات التي حرمت على ألسنة الرسل جميعا؛ إذ هو منشأ تحريف الأديان المحرفة، وسبب الابتداع في الدين الحق، وقد انتشر الابتداع بين أهله، وتحكمت بينهم الأهواء، واتبعوا سنن من قبلهم
والخلاصة: أنه لا ينبغي لأحد أن يحرم شيئا تحريما دينيا على عباد الله، أو يوجب عليهم شيئا إلا بنص صريح عن الله ورسوله، ومن تهجم على ذلك.. فقد جعل نفسه شريكا لله، ومن تبعه في ذلك.. فقد جعله ربا له، ومن ثم كان فقهاء الصحابة والتابعين يتحامون القول في الدين بالرأي، وقد أنكر الله سبحانه وتعالى على من نسب إلى دينه تحليل شيء أو تحريمه من عنده بلا برهان، فقال:
﴿وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ﴾.
وهذه الجنايات الخمسة المذكورة في هذه الآية أصول الجنايات، وأما غيرها فهي كالفروع.
٣٤ - ﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٍ﴾: من الأمم التي كذبت الرسل ﴿أَجَلٌ﴾؛ أي: وقت معين لهلاكها ﴿فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ﴾؛ أي: وقت هلاكهم؛ أي: أجل واحد اندرج تحت الأمة ﴿لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً﴾؛ أي: لا يتركون بعد الأجل طرفة عين {وَلا
والمعنى (٤): قل يا محمد لقومك ولغيرهم لكل أمة أمد مضروب لحياتها مقدر لها بحسب السنن التي وضعها الخالق لوجودها، وهذا الأجل على ضربين: أجل لوجودها في الحياة الدنيا، وأجل لعزها وسعادتها بين الأمم:
الأول: أجل لأمة بعث فيها رسول لهدايتها، فردوا دعوته كبرا وعنادا، واقترحوا عليه الآيات فأعطوها مع إنذارهم بالهلاك إذا لم يؤمنوا، فاستمروا في تكذيبهم، فأخذهم ربهم أخذ عزيز مقتدر، كما وقع لقوم نوح وعاد وثمود وفرعون وإخوان لوط وغيرهم.
وهذا النوع من الهلاك كان خاصا بأقوام الرسل أولي الدعوة الخاصة بأقوامهم، وقد انتهى ذلك ببعثة النبي ﷺ الذي خاطبه الله بقوله: ﴿وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ..﴾ وقد مضت سنة الله في الأمم أن الذين يقترحون الآيات لا يؤمنون بها، ومن ثم لم يعط الله تعالى رسوله شيئا مما كانوا يقترحونه عليه.
(٢) الخازن.
(٣) البحر المحيط.
(٤) المراغي.
الساعة لغة: أقل مدة من الزمن؛ أي: فإذا جاء الوقت الذي وقته الله لهلاكهم، وحلول العقاب بهم لا يتأخرون عنه بالبقاء في الدنيا أقل تأخر، كما أنهم لا يتقدمون أيضا عن الوقت الذي جعله لهم وقتا للفناء والهلاك. فإن قلت:
لم أتى بالفاء هنا وفي سائر المواضع إلا في يونس فحذفها؟
قلت: لأن مدخولها في غير يونس جملة معطوفة على أخرى مصدرة بالواو، وبينهما اتصال وتعقيب، فحسن الإتيان بالفاء الدالة على التعقيب بخلاف ما في يونس. انتهى من «الفتوحات».
وفي الآية إيماء إلى أن الأمة قد تملك طلب تأخير الهلاك قبل مجيئه؛ أي:
قبل أن تغلبها على إرادتها أسباب الهلاك بأن تترك الفواحش والآثام والظلم والبغي، والإسراف المفسد للأخلاق، وخرافات الشرك المفسدة للعقول، وتترك البدع في التحريم والتحليل بما لم يخاطب به المولى بأن يقوم فيها جماعة من
وخلاصة معنى الآية: أن لكل أمة أجلا لا يتأخرون عنه إذا جاء ولا يتقدمون عليه أيضا، فيهلكوا قبل مجيئه، ونحو الآية قوله: ﴿ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ (٥)﴾ - ﷺ -.
٣٥ - ﴿يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ﴾؛ أي يا بني آدم إن يأتكم رسل من أبناء جنسكم من البشر ﴿يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي﴾؛ أي: يتلون عليكم آياتي التي أنزلتها عليكم لبيان ما آمركم به من صالح الأعمال، وترك ما أنهاكم عنه من الشرك والرذائل وقبيح الأعمال ﴿فَمَنِ اتَّقى﴾ واجتنب منكم ما نهيته عنه ﴿وَأَصْلَحَ﴾ نفسه بفعل ما أوجبته عليه ﴿فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ﴾ من عذاب الآخرة حين يخاف غيرهم ﴿وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ حين الجزاء على ما فاتهم في الدنيا، أما حزنهم على عقاب الآخرة فيرتفع بما حصل لهم من زوال الخوف.
وحكمة كون الرسول منهم (١): أنه أقطع لعذرهم، وأظهر في الحجة عليهم إذ معرفتهم بأحواله تبين لهم أن المعجزات التي ظهرت على يديه إنما هي بقدرة الله لا بقدرته إلى ما في ذلك من حصول الألفة، فالجنس يألف بالجنس ويركن إليه، ومن ثم قال: ﴿وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكًا لَجَعَلْناهُ رَجُلًا﴾.
وقرأ أبيّ والأعرج (٢): ﴿إما تأتينكم﴾ - بالتاء على تأنيث الجماعة - ﴿ويَقُصُّونَ﴾ محمول على المعنى إذ ذاك؛ إذ لو حمل على اللفظ لكان تقص.
٣٦ - ﴿وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا﴾ المنزلة على أحد من رسلنا ﴿وَاسْتَكْبَرُوا﴾ عَنْها؛ أي: امتنعوا عن اتباع من جاء بها حسدا له على الرياسة، وتفضيلا لأنفسهم عليه، أو لقومهم على قومه فـ ﴿أُولئِكَ﴾ المكذبون المستكبرون عنها ﴿أَصْحابُ النَّارِ﴾ ملازمون لها ﴿هُمْ فِيها﴾؛ أي: ماكثون فيها مكثا لا نهاية له.
(٢) البحر المحيط.
والخلاصة: أن جميع الرسل قد بلغوا أممهم أن اتقاءهم لما يفسد فطرتهم من الشرك والمعاصي، وإصلاح أنفسهم بالطاعة يوجب الأمن وعدم الخوف مما يتوقع، وعدم الحزن على ما وقع منهم في الدار الأولى، وأن تكذيب ما جاؤوا به من الآيات والاستكبار عن اتباعها يترتب عليه المكث في نار جهنم خالدين فيها أبدا كفاء ما فعلوا من التمرد وعصيان أوامر الديان.
٣٧ - والاستفهام في قوله: ﴿فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إنكاري﴾؛ أي: لا أحد أظلم وأقبح وأشنع ممن افترى واختلق على الله الكذب بأن أوجب على عباده من العبادات ما لم يوجبه، أو حرم عليهم من الدين ما لم يحرمه، أو عزا إلى دينه أحكاما لم تنزل على رسله، أو بنسبة الشريك والولد إليه ﴿أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ﴾ المنزلة عليهم سواء أكان بالقول، أو بما هو أدل منه كالاستهزاء بها، أو الاستكبار عن اتباعها، أو بتفضيل غيرها عليها.
﴿أُولئِكَ﴾ المفترون المكذبون بآيات الله ﴿يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ﴾؛ أي يصيبهم، ويوفى لهم نصيبهم وحظهم من الكتاب؛ أي: من الأعمار والأرزاق المكتوبة لهم في اللوح المحفوظ، فهم مع ظلمهم وافترائهم على الله لا يحرمون مما قدر لهم من الأرزاق إلى انقضاء آجالهم تفضلا منه سبحانه وتعالى؛ لكي يصلحوا ويتوبوا، ونحو الآية قوله تعالى: ﴿كُلًّا نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ﴾، وقوله: ﴿نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ (٢٤)﴾. و ﴿حَتَّى﴾ في قوله: ﴿حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا﴾ غاية (١) لنيلهم نصيبهم واستيفائهم له، وهي حتى التي يبتدأ بعدها الكلام، والكلام هنا الجملة الشرطية، وهي ﴿إِذا جاءَتْهُمْ﴾: أي: يوفى لهم نصيبهم من الأرزاق والأعمار المكتوبة لهم في اللوح
[الخلاصة:]
وخلاصة هذا: زجر الكافرين عما هم عليه من الكفر، وحملهم على النظر والتأمل في عواقب أمورهم، والتحذير من التقليد الذي سيرديهم في الهاوية.
٣٨ - ﴿قالَ﴾ الله سبحانه وتعالى يوم القيامة؛ أي: يقول الله تعالى يوم القيامة لهؤلاء الذين افتروا على الله الكذب، وجعلوا له شركاء بواسطة الملائكة ﴿ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ﴾؛ أي: ادخلوا بين أمم ﴿قَدْ خَلَتْ﴾ ومضت وسبقت ﴿مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ﴾؛ أي: أمم تقدم زمانهم على زمانكم؛ أي: ادخلوا في النار فيما بين الأمم الكافرين الذين تقدم زمانهم زمانكم من هذين النوعين الجن والإنس.
وفي هذا إيماء إلى أنه تعالى، لا يسوق الكفار بأجمعهم إلى النار دفعة
والخلاصة: فيلعن المشركون المشركين، واليهود اليهود، والنصارى النصارى، والصابئون الصابئين، والمجوس المجوس.
﴿حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعًا﴾؛ أي: حتى إذا تداركوا في النار وتلاحقوا فيها، واجتمع بعضهم بعضا، واستقروا فيها ﴿قالَتْ أُخْراهُمْ﴾؛ أي: قالت أخرى كل أمة منزلة وهم الأتباع والسفلة ﴿لِأُولاهُمْ﴾؛ أي: لأجل أولاهم منزلة، وهم القادة والرؤساء ﴿رَبَّنا﴾ ويا مالك أمرنا ﴿هؤُلاءِ﴾ الرؤساء والقادة ﴿أَضَلُّونا﴾ عن الحق باتباعنا لهم، وتقليدنا إياهم فيما كانوا عليه من أمر الدين وسائر أعمالنا ﴿فَآتِهِمْ﴾؛ أي: أعطهم ﴿عَذابًا ضِعْفًا﴾؛ أي: عذابا مضاعفا مزادا ﴿مِنَ النَّارِ﴾ مثلي عذابنا لإضلالهم إيانا فوق العذاب على ضلالهم في أنفسهم حتى يكون عذابهم ضعفي عذابنا ضعفا للضلال، وضعفا للإضلال؛ أي: عذبهم مثل عذابنا مرتين.
ومعنى قوله: ﴿لِأُولاهُمْ﴾؛ أي: في شأنهم، ولأجل إضلالهم، وليس المراد أنهم ذكروا هذا القول لأولاهم؛ لأنهم ما خاطبوهم، بل خاطبوا الله سبحانه بهذا الكلام.
﴿قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ﴾؛ أي: يقول الله سبحانه وتعالى جوابا لأخراهم: لكل منهم ومنكم (١) ضعف؛ أي: عذاب مضاعف، فكل ألم يحصل له يعقبه ألم آخر إلى غير نهاية، فالآلام متزايدة من غير نهاية، أما القادة فلكفرهم وإضلالهم، وأما الأتباع فلكفرهم وتقليدهم. ﴿وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ﴾ أيها السائلون ما لكل فريق
وقيل معنى: ﴿لِكُلٍّ ضِعْفٌ﴾؛ أي: يقول الله تعالى للأتباع السائلين: لكل (١) من الرؤساء القادة ضعف من العذاب بإضلاله فوق عذابه على ضلاله، ولكن أيها الأتباع لا تعلمون عذابهم، فإن العذاب روحي ونفسي، والأول أنكى وأشد ألما، فالرئيس العزيز في قومه إذا دخل السجن مع السفلة، وأوشاب الناس لا يكون ألمه كألمهم، وإن كان يشركهم فيما يأكلون ويشربون، وفي جميع ما يعملون؛ إذ يشعر بعذاب النفس وقهر الذل مما لا يشعر به الآخرون، وإن كانوا يظنون أن عقوبتهما واحدة في ألمها كما هي في صورتها، ونحو الآية قوله تعالى: ﴿لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾.
وقرأ أبو عمرو (٢): ﴿اداركوا﴾ - بقطع ألف الوصل - قال أبو الفتح: هذا مشكل، ولا يسوغ أن يقطعها ارتجالا، فذلك إنما يجيء شاذا في ضرورة الشعر في الاسم أيضا، لكنه وقف مثل وقفة المستنكر، ثم ابتدأ فقطع. وقرأ مجاهد بقطع الألف وسكون الدال وفتح الراء بمعنى أدرك بعضهم بعضا. وقرأ حميد: ﴿أدركوا﴾ - بضم الهمزة وكسر الراء -؛ أي: ادخلوا في أدراكها. وقرأ ابن مسعود والأعمش: ﴿تداركوا﴾ ورويت عن أبي عمرو وقال أبو البقاء، وقرىء: ﴿إذا ادّركوا﴾ - بألف واحدة ساكنة والدال بعدها مشددة -، وهو جمع بين ساكنين، وجاز في المنفصل كما جاز في المتصل.
وقرأ الجمهور: ﴿لا تَعْلَمُونَ﴾ - بالتاء على الخطاب للسائلين - كما مر تفسيره آنفا. وقرأ أبو بكر والمفضل عن عاصم بالياء في: ﴿لا يعلمون﴾؛ أي: لا يعلم كل فريق قدر ما أعد له من العذاب، أو قدر ما أعد للفريق الآخر من العذاب قال أبو حيان: وهذه الجملة رد على أولئك السائلين، وعدم إسعاف لما طلبوا.
٣٩ - ﴿وَقالَتْ أُولاهُمْ﴾ في الكفر، أو في الدخول يعني القادة مخاطبة ﴿لِأُخْراهُمْ﴾ يعني الأتباع حين سمعوا جواب الله تعالى لهم، إذا كان الأمر كما قلتم من أننا
(٢) البحر المحيط.
وقد جاء في سورة الصافات: ﴿وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (٢٧) قالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ (٢٨) قالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٢٩) وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْمًا طاغِينَ (٣٠) فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ (٣١) فَأَغْوَيْناكُمْ إِنَّا كُنَّا غاوِينَ (٣٢) فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (٣٣)﴾.
٤٠ - ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا﴾؛ أي: كذبوا بدلائل توحيدنا، ولم يصدقوا بها، ولم يتبعوا رسلنا ﴿وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها﴾؛ أي: وتكبروا عن الإيمان بها، والتصديق لها، وأنفوا عن اتباعها، والانقياد لها، والعمل بمقتضاها تكبرا ﴿لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ﴾؛ أي: لا تفتح لأرواحهم إذا خرجت من أجسادهم أبواب السماء، ولا يصعد لهم إلى الله عز وجل في وقت حياتهم قول ولا عمل؛ لأن أرواحهم وأقوالهم وأعمالهم كلها خبيثة، وإنما يصعد إلى الله سبحانه وتعالى الكلم الطيب، والعمل الصالح كما قال: ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ﴾. قال ابن عباس رضي الله عنهما (١): لا تفتح أبواب السماء لأرواح الكفار، وتفتح لأرواح المؤمنين. وفي رواية عن ابن عباس أيضا قال: لا يصعد لهم قول ولا عمل. وقال ابن جريج: لا تفتح أبواب السماء لأعمالهم ولا لأرواحهم.
وروى الطبري بسنده عن البراء بن عازب (٢): أن رسول الله ﷺ ذكر قبض
(٢) الخازن.
﴿وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ﴾؛ أي: ولا يدخل هؤلاء المكذبون المستكبرون الجنة ﴿حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ﴾؛ أي: حتى يدخل ذكر الإبل فِي ﴿سَمِّ الْخِياطِ﴾؛ أي: في ثقب الإبرة، والجمل معروف؛ وهو الذكر من الإبل، وسم الخياط: ثقب الإبرة. قال الفراء: الخياط والمخيط ما يخاط به، والمراد به في هذه الآية: الإبرة، وإنما خص (١) الجمل بالذكر من بين سائر الحيوانات؛ لأنه أكبر من سائر الحيوانات جسما عند العرب. قال الشاعر:
جسم الجمال وأحلام العصافير
وصف من هجاه بهذا بعظم الجسم مع صغر العقل، فجسم الجمل من أعظم الأجسام، وثقب الإبرة من أضيق المنافذ، فكان ولوج الجمل مع عظم جسمه في ثقب الإبرة الضيق محالا، فكذلك دخول الكفار الجنة محال؛ لأن المعلق بالمحال محال؛ لأن العرب إذا علقت ما يجوز كونه بما لا يجوز كونه استحال كون ذلك الجائز، وهذا كقوله: لا آتيك حتى يشيب الغراب، ويبيضّ القار. ومنه قول الشاعر:
إذا شاب الغراب أتيت أهلي | وصار القار كاللّبن الحليب |
من رام العلم بلا كدّ | سيدركها حين شاب الغراب |
وقرأ أبو عمرو: ﴿لا تفتح﴾ - بتاء التأنيث والتخفيف -. وقرأ الكسائي وحمزة: - بالياء والتخفيف -. وقرأ باقي السبعة: بالتاء من فوق التشديد. وقرأ أبو حيوة وأبو البرهسم بالتاء من فوق مفتوحة والتشديد.
وقرأ ابن عباس (٢) فيما روى عنه شهر بن حوشب ومجاهد وابن يعمر وأبو مجلز والشعبي ومالك بن الشخير وأبو رجاء وأبو رزين وابن محيصن وأبان عن عاصم: ﴿الجُمَّل﴾ - بضم الجيم وفتح الميم مشددة - وفسر بالقلس الغليظ؛ وهو حبل السفينة تجمع حبال وتفتل وتصير حبلا واحدا. وقيل: هو الحبل الغليظ من القنب. وقيل: الحبل الذي يصعد به في النخل.
وقرأ ابن عباس في رواية مجاهد وابن جبير وقتادة وسالم الأفطس بضم الجيم وفتح الميم مخففة. وقرأ ابن عباس في رواية عطاء والضحاك والجحدري بضم الجيم والميم مخففة. وقرأ عكرمة وابن جبير في رواية بضم الجيم وسكون الميم. وقرأ المتوكل وأبو الجوزاء بفتح الجيم وسكون الميم. ومعناه في هذه القرآت كلها: القلس الغليظ؛ وهو حبل السفينة. وقراءة الجمهور: ﴿الْجَمَلُ﴾ - بفتح الجيم والميم - أوقع لأن سم الإبرة يضرب بها المثل في الضيق، والجمل وهو هذا الحيوان المعروف
يضرب به المثل في عظم الجثة كما ذكرناه سابقا. وقرأ عبد الله بن مسعود (٣): ﴿حتى يلج الجمل الأصغر في سم الخياط﴾.
وقرأ عبد الله وقتادة وأبو رزين وابن مصرف وطلحة بضم سين (٤): ﴿سم﴾. وقرأ أبو عمران الحوفي وأبو نهيك والأصمعي عن نافع بكسر السين. وقرأ عبد الله وأبو رزين وأبو مجلز: ﴿المِخْيَط﴾ - بكسر الميم وسكون الخاء وفتح
(٢) البحر المحيط.
(٣) الشوكاني.
(٤) البحر المحيط.
﴿وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ﴾؛ أي: ونجزي كل من صار الإجرام والشرك وصفا له جزاء مثل جزاء هؤلاء المكذبين المستكبرين من عدم فتح أبواب السماء، وعدم دخولهم الجنة، لا من أجرموا جرما بثورة غضب، أو نزوة شهوة، ثم لا يلبثون أن يندموا على ما فرط منهم كما قال تعالى في وصف المؤمنين: ﴿ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ﴾ وقال أيضا: ﴿وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾.
٤١ - ولما بين الله سبحانه وتعالى أنّ الكفار لا يدخلون الجنة أبدا.. بين أنهم من أهل النار، ووصف ما أعد لهم فيها، فقال ﴿لَهُمْ﴾: أي: لهؤلاء المكذبين المستكبرين ﴿مِنْ﴾ نار ﴿جَهَنَّمَ مِهادٌ﴾؛ أي: فرش من تحتهم ﴿وَ﴾ لهم ﴿مِنْ فَوْقِهِمْ﴾ منها ﴿غَواشٍ﴾؛ أي: لحف وأغطية تغطيهم، والمراد: أنها محيطة بهم مطبقة عليهم من كل جانب، فلهم منها غطاء ووطاء وفراش ولحاف، وأصل المهاد المتمهد الذي يقعد عليه، ويضطجع عليه كالفراش والبساط، والغواش جمع غاشية، وهي الغطاء كاللحاف ونحوه. وقرىء: ﴿غواش﴾ - بالرفع - كقراءة عبد الله: ﴿وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ﴾. ﴿وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ﴾؛ أي: ونجزي كل من صار الظلم لنفسه وللناس وصفا لازما له جزاء مثل جزاء المكذبين المستكبرين من كون جهنم مهادا وغطاء لهم.
والآيتان تدلان على أن المجرمين والظالمين الراسخين في صفتي الإجرام والظلم هم الكافرون كما قال: ﴿وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ والمؤمنون لا يكونون كذلك بحال.
٤٢ - ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا﴾؛ أي: والذين صدقوا الله ورسوله، وأقروا بما جاءهم به من وحيه وتنزيله وشرائع دينه ﴿وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ﴾؛ أي: وعملوا بما أمرهم به وأطاعوه في ذلك واجتنبوا ما نهاهم عنه، وقوله: ﴿لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَها﴾؛ أي: ولا نكلف نفسا مكلفة إلا ما يسهل عليها من الأعمال، وما يدخل في قدرتها، ولا يضيق فيه عليها، كلام معترض بين المبتدأ والخبر، اعترض به لأنه من جنس ما قبله، فإنه بيان أن ذلك العمل غير خارج عن قدرتهم، وتنبيه على أن
٤٣ - ﴿وَنَزَعْنا﴾؛ أي: وقلعنا وأخرجنا، وأزلنا وصفينا ما في صدور المؤمنين ﴿مِنْ غِلٍّ﴾ وحسد وحقد وعداوة كانت بينهم في الدنيا، فجعلناهم إخوانا على سرر متقابلين، لا يحسد بعضهم بعضا على شيء خص الله تعالى به بعضهم دون بعض. ومعنى نزع الغل: تصفية الطباع، وإسقاط الوساوس، ودفعها عن أن ترد على القلوب، والمراد خلقناهم في الجنة على هذه الحالة، وليس المراد أنهم دخلوا الجنة بما ذكر، ثم نزع منهم فيها، بل المراد أنهم دخلوها مطهرين منه. قاله أبو حيان.
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يخلص المؤمنون من النار، فيحبسون على قنطرة بين الجنة والنار، فيقتص لبعضهم من بعض مظالم كانت بينهم في الدنيا، حتى إذا هذبوا ونقّوا أذن الله لهم في دخول الجنة، فو الذي نفس محمد بيده لأحدهم أهدى بمنزله في الجنة منه بمنزله في الدنيا». أخرجه البخاري.
وجملة قوله: ﴿تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ﴾ حال (١) من ضمير ﴿صُدُورُهُمْ﴾، والعامل فيها معنى الإضافة؛ أي حالة كونهم تجري وتسيل من تحت أشجارهم وقصورهم أنهار الخمر والعسل واللبن والماء زيادة في لذتهم وسرورهم، فيرونها وهم في غرفات قصورهم تتدفق في جناتها وبساتينها، فيزدادون حبورا وسرورا، لا تشوب صفاءهم شائبة كدر. قال أبو حيان: والظاهر أن جملة ﴿تَجْرِي﴾ خبر مستأنف عن صفة حالهم.
وقرأ ابن عامر (١): ﴿ما كنا﴾ بغير واو وكذا هي في مصاحف أهل الشام، وذلك لأنه جار مجرى التفسير لقوله: ﴿هَدانا لِهذا﴾ فلما كان أحدهما عين الآخر وجب حذف الحرف العاطف.
وقالوا أيضا حين رأوا ما وعدهم به الرسل عيانا تبجحا بما نالوه: والله ﴿لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا﴾ في الدنيا ﴿بِالْحَقِّ﴾؛ أي: ما أخبرونا به في الدنيا من الثواب صدق، فقد حصل لنا عيانا، وهذا مصداق ما وعدنا به في الدنيا على التوحيد وصالح العمل ﴿وَنُودُوا﴾؛ أي: نادتهم الملائكة عند رؤيتهم الجنة من مكان بعيد ﴿أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ﴾؛ أي: تلك الدار التي ترى لكم من بعد هي الجنة التي وعدتكم الرسل بها في الدنيا، فـ ﴿أَنْ﴾ مفسرة لما في النداء، وكذا في سائر المواضع الخمسة الآتية. وجملة قوله: ﴿أُورِثْتُمُوها﴾؛ أي: أعطيتموها حال من الجنة، والعامل فيها ما في تلك من معنى الإشارة؛ أي: حالة كونها موروثة معطاة لكم ﴿بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾، أي: بسبب أعمالكم الصالحة في الدنيا، فالجنة ومنازلها لا تنال إلا برحمة الله تعالى، فإذا دخلوها بأعمالهم.. فقد ورثوها برحمته، ودخلوها برحمته؛ إذ أعمالهم رحمة منه لهم، وتفضل منه عليهم.
وأخرج ابن جرير عن السدي قال (٢): ليس من مؤمن ولا كافر إلا وله في الجنة والنار منزل مبين، فإذا دخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، ودخلوا منازلهم رفعت الجنة لأهل النار، فنظروا إلى منازلهم فيها، فقيل: هذه منازلكم لو عملتم بطاعة الله، ثم يقال: يا أهل الجنة، أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ، فيقتسم أهل الجنة منازلهم.
وفي الآية (٣): دلالة واضحة على أن الجنة تنال بالعمل، وفي معناها آيات وأحاديث كثيرة. أما حديث أبي هريرة الذي رواه الشيخان: «لن يدخل أحدا عمله الجنة»، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: «ولا أنا إلا أن يتغمدني الله بفضله ورحمته» فيراد منه أن عمل الإنسان مهما كان عظيما.. فلا يستحق به الجنة لذاته لولا رحمة الله وفضله حين جعل هذا الجزاء العظيم على ذلك العمل القليل، فدخول الجنة بالعمل دخول بفضل الله ورحمته، ومن ثم قال بعده:
«فسددوا وقاربوا»؛ أي: لا تبالغوا ولا تغلوا في دينكم، ولا تتكلفوا من العمل ما لا طاقة لكم به.
وأدغم النحويان (٤) - أبو عمرو والكسائي - وحمزة وهشام الثاء المثلثة في التاء الفوقية في قوله: ﴿أُورِثْتُمُوها﴾ وأظهرها باقي السبعة.
الإعراب
﴿يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (٣١)﴾.
(٢) المراغي.
(٣) المراغي.
(٤) البحر المحيط.
﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ﴾.
﴿قُلْ﴾ فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة مستأنفة. ﴿مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ﴾ إلى قوله: ﴿قُلْ﴾ مقول محكي لـ ﴿قُلْ﴾، وإن شئت قلت: ﴿مَنْ﴾: اسم استفهام للاستفهام الإنكاري في محل الرفع مبتدأ. ﴿حَرَّمَ﴾: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على ﴿مَنْ﴾. ﴿زِينَةَ اللَّهِ﴾: مفعول به ومضاف إليه، والجملة الفعلية في محل خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل النصب مقول القول. ﴿الَّتِي﴾: اسم موصول في محل النصب صفة لـ ﴿زِينَةَ﴾. ﴿أَخْرَجَ﴾: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على ﴿اللَّهِ﴾. ﴿لِعِبادِهِ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿أَخْرَجَ﴾، والجملة صلة الموصول، والعائد محذوف تقديره: أخرجها لعباده. ﴿وَالطَّيِّباتِ﴾: معطوف على ﴿زِينَةَ اللَّهِ﴾. ﴿مِنَ الرِّزْقِ﴾: جار ومجرور حال من ﴿وَالطَّيِّباتِ﴾.
﴿قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٣٢)﴾.
﴿قُلْ﴾: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة مستأنفة. ﴿هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا﴾ إلى قوله: ﴿كَذلِكَ﴾ مقول محكي لـ ﴿قُلْ﴾، وإن شئت قلت: ﴿هِيَ﴾: مبتدأ. ﴿لِلَّذِينَ﴾: جار ومجرور خبر المبتدأ، والجملة في محل النصب مقول
﴿قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٣٣)﴾.
﴿قُلْ﴾: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة مستأنفة. ﴿إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ﴾ إلى آخر الآية مقول محكي لـ ﴿قُلْ﴾، وإن شئت قلت: ﴿إِنَّما﴾: أداة حصر بمعنى ما النافية، وإلا المثبتة. ﴿حَرَّمَ رَبِّيَ﴾: فعل وفاعل. ﴿الْفَواحِشَ﴾: مفعول به، والجملة الفعلية في محل النصب مقول لـ ﴿قُلْ﴾. ﴿ما﴾: موصولة في محل النصب بدل من ﴿الْفَواحِشَ﴾ بدل تفصيل من مجمل. ﴿ظَهَرَ﴾: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على ﴿ما﴾، والجملة صلة الموصول. ﴿مِنْها﴾: متعلق بـ ﴿ظَهَرَ﴾. ﴿وَما﴾: معطوف على ما الأولى. ﴿بَطَنَ﴾: صلته. ﴿وَالْإِثْمَ﴾: معطوف على ﴿الْفَواحِشَ﴾ عطف عام على خاص. ﴿وَالْبَغْيَ﴾: معطوف على ﴿الْإِثْمَ﴾ عطف خاص على عام لمزيد الاعتناء به، وكذلك ما بعده. ﴿بِغَيْرِ الْحَقِّ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿الْبَغْيَ﴾. ﴿وَأَنْ تُشْرِكُوا﴾: فعل وفاعل وناصب. ﴿بِاللَّهِ﴾: متعلق به، والجملة الفعلية صلة ﴿أَنْ﴾ المصدرية، ﴿أَنْ﴾ مع صلتها في تأويل مصدر معطوف على ﴿الْإِثْمَ﴾ عطف خاص على عام تقديره: وإشراككم بالله. ﴿ما﴾: موصولة، أو موصوفة. ﴿لَمْ يُنَزِّلْ﴾: فعل وجازم، وفاعله ضمير يعود على ﴿الله﴾. ﴿بِهِ﴾: متعلق بـ ﴿يُنَزِّلْ﴾. ﴿سُلْطانًا﴾: مفعول به لـ ﴿يُنَزِّلْ﴾، والجملة الفعلية صلة لـ ﴿ما﴾، أو صفة لها، والعائد أو الرابط ضمير
﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (٣٤)﴾.
﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٍ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه خبر مقدم. ﴿أَجَلٌ﴾: مبتدأ مؤخر، والجملة مستأنفة. ﴿فَإِذا﴾ ﴿الفاء﴾: عاطفة، أو فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفت لكل أمة أجلا، وأردت بيان كيفية ذلك الأجل.. فأقول لك: ﴿إذا جاء أجلهم﴾ ﴿إذا﴾: ظرف لما يستقبل من الزمان. ﴿جاءَ أَجَلُهُمْ﴾: فعل وفاعل والجملة في محل جر مضاف إليه لجواب ﴿إذا﴾، على كونها فعل شرط لها والظرف متعلق بالجواب الآتي ﴿لا يَسْتَأْخِرُونَ﴾ فعل وفاعل والجملة جواب ﴿إذا﴾ ولم يؤت هنا بالفاء الرابطة للجواب مع اقترانه بلا النافية؛ لأن المضارع المنفي بلا إذا وقع جوابا لإذا في الظاهر.. جاز أن يتلقى بالفاء، وأن لا يتلقى بها. قال الشيخ: ويبنغي أن يعتقد أن بين الفاء والفعل بعدها اسما مبتدأ، فتصير الجملة اسمية، ومتى كانت كذلك.. وجب أن تتلقى بالفاء أو إذا الفجائية ذكره في «الفتوحات». ﴿ساعَةً﴾: منصوب على الظرفية متعلق بـ ﴿يَسْتَأْخِرُونَ﴾. ﴿وَلا يَسْتَقْدِمُونَ﴾: فعل وفاعل معطوف على ﴿يَسْتَأْخِرُونَ﴾: على كونها جوابا لـ ﴿إذا﴾، وجملة ﴿إذا﴾ في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة.
﴿يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٣٥)﴾.
﴿يا بَنِي آدَمَ﴾: منادى مضاف، وجملة النداء مستأنفة. ﴿إِمَّا﴾ ﴿إن﴾: حرف شرط جازم مبني بسكون على النون المدغمة في ميم ﴿ما﴾ الزائدة، ﴿ما﴾:
﴿وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ﴾.
﴿وَالَّذِينَ﴾ مبتدأ أول. ﴿كَذَّبُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول. ﴿بِآياتِنا﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿كَذَّبُوا﴾. ﴿وَاسْتَكْبَرُوا﴾: فعل وفاعل معطوف على ﴿كَذَّبُوا﴾. ﴿عَنْها﴾: متعلق بـ ﴿اسْتَكْبَرُوا﴾. ﴿أُولئِكَ﴾: مبتدأ
﴿فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ﴾.
﴿فَمَنْ﴾ ﴿الفاء﴾: استئنافية. ﴿من﴾: اسم استفهام للاستفهام الإنكاري في محل الرفع مبتدأ. ﴿أَظْلَمُ﴾: خبره، والجملة مستأنفة. ﴿مِمَّنِ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿أَظْلَمُ﴾. افْتَرى: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على ﴿من﴾، والجملة صلة الموصول. ﴿عَلَى اللَّهِ﴾: متعلق بـ ﴿افْتَرى﴾. ﴿كَذِبًا﴾: مفعول به. ﴿أَوْ﴾ حرف عطف. ﴿كَذَّبَ﴾ فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على ﴿من﴾، والجملة معطوفة على جملة ﴿افْتَرى﴾ على كونها صلة لـ ﴿من﴾ الموصولة. ﴿بِآياتِهِ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿كَذَّبَ﴾. ﴿أُولئِكَ﴾: مبتدأ. ﴿يَنالُهُمْ﴾ فعل ومفعول. ﴿نَصِيبُهُمْ﴾: فاعل ومضاف إليه، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة استئنافا بيانيا. ﴿مِنَ الْكِتابِ﴾: جار ومجرور حال من قوله: ﴿نَصِيبُهُمْ﴾.
﴿حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قالُوا أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾.
﴿حَتَّى﴾: غائية لكونها غاية لما قبلها، ابتدائية لدخولها على الجملة. ﴿إِذا﴾: ظرف لما يستقبل من الزمان. ﴿جاءَتْهُمْ﴾: فعل ومفعول. ﴿رُسُلُنا﴾: فاعل ومضاف إليه، والجملة في محل الخفض فعل شرط لـ ﴿إِذا﴾، والظرف متعلق بالجواب الآتي. ﴿يَتَوَفَّوْنَهُمْ﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل النصب حال
﴿قالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ﴾.
﴿قالُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. ﴿ضَلُّوا عَنَّا﴾: مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿ضَلُّوا﴾: فعل وفاعل. ﴿عَنَّا﴾: متعلق به، والجملة مقول لـ ﴿قالُوا﴾. ﴿وَشَهِدُوا﴾: فعل وفاعل معطوف على قالُوا. ﴿عَلى أَنْفُسِهِمْ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿شَهِدُوا﴾. ﴿أَنَّهُمْ﴾: ناصب واسمه. ﴿كانُوا﴾: فعل ناقص واسمه. ﴿كافِرِينَ﴾: خبر ﴿كان﴾، وجملة ﴿كان﴾ في محل الرفع خبر ﴿أن﴾، وجملة ﴿أن﴾ في تأويل مصدر منصوب على المفعولية لـ ﴿شَهِدُوا﴾ تقديره: وشهدوا على أنفسهم كونهم كافرين.
﴿قالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ﴾.
﴿قالَ﴾: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة مستأنفة. ﴿ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ﴾: إلى قوله: ﴿كُلَّما دَخَلَتْ﴾: مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿ادْخُلُوا﴾: فعل وفاعل، ﴿فِي أُمَمٍ﴾: جار ومجرور متعلق به، والجملة في محل النصب مقول ﴿قالَ﴾. ﴿قَدْ خَلَتْ﴾ فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على ﴿أُمَمٍ﴾، والجملة في محل الجر صفة أولى لـ ﴿أُمَمٍ﴾ ﴿مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ جار ومجرور ومضاف إليه صفة ثانية لـ ﴿أُمَمٍ﴾. ﴿مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ﴾ جار ومجرور، صفة ثالثة لـ ﴿أُمَمٍ﴾. ﴿فِي النَّارِ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿ادْخُلُوا﴾، واعترض بأنه: كيف يتعلق حرفا جر
﴿كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعًا قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ﴾.
﴿كُلَّما﴾: اسم شرط غير جازم في محل النصب على الظرفية، والظرف متعلق بالجواب الآتي. ﴿دَخَلَتْ أُمَّةٌ﴾: فعل وفاعل، والجملة فعل شرط لـ ﴿كُلَّما﴾ لا محل لها من الإعراب، أو في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿كُلَّما﴾. ﴿لَعَنَتْ أُخْتَها﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على ﴿أُمَّةٌ﴾، والجملة جواب ﴿كُلَّما﴾ لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿كُلَّما﴾ مستأنفة. ﴿حَتَّى﴾: غائية ابتدائية. ﴿إِذَا﴾: ظرف لما يستقبل من الزمان. ﴿ادَّارَكُوا﴾: فعل وفاعل. ﴿فِيها﴾: متعلق به. ﴿جَمِيعًا﴾: حال من واو ﴿ادَّارَكُوا﴾، والجملة في محل الخفض فعل شرط لـ ﴿إِذَا﴾، والظرف متعلق بالجواب الآتي. ﴿قالَتْ أُخْراهُمْ﴾: فعل وفاعل. ﴿لِأُولاهُمْ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿قالَتْ﴾، واللام فيه للتعليل؛ أي: لأجلهم، والجملة جواب ﴿إِذَا﴾ لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿إِذَا﴾ مستأنفة، ولكنها غاية لما قبلها في المعنى. ﴿رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا﴾ إلى قوله: ﴿قالَ﴾ مقول محكي لـ ﴿قالَتْ﴾، وإن شئت قلت: ﴿رَبَّنا﴾ منادى مضاف، وجملة النداء في محل النصب مقول القول. ﴿هؤُلاءِ﴾: مبتدأ. ﴿أَضَلُّونا﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل النصب مقول القول على كونها جواب النداء. ﴿فَآتِهِمْ﴾ ﴿الفاء﴾: حرف عطف وتفريع، لكون ما قبلها علة لما بعدها، ﴿آتهم عذابا﴾: فعل ومفعولان؛ لأنه بمعنى أعطهم، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة الفعلية في محل الرفع معطوفة على جملة: ﴿أَضَلُّونا﴾ على كونها خبر المبتدأ. ﴿ضِعْفًا﴾: صفة أولى لـ ﴿عَذابًا﴾؛ لأنه بمعنى مضاعف. ﴿مِنَ النَّارِ﴾: صفة ثانية لـ ﴿عَذابًا﴾.
﴿قالَ﴾: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة مستأنفة. ﴿لِكُلٍّ ضِعْفٌ﴾ إلى آخر الآية مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿لِكُلٍّ﴾ خبر مقدم. ﴿ضِعْفٌ﴾: مبتدأ مؤخر، والجملة في محل النصب مقول ﴿قالَ﴾. ﴿وَلكِنْ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿لكِنْ﴾: حرف استدراك. ﴿لا تَعْلَمُونَ﴾: فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة قوله: ﴿لِكُلٍّ ضِعْفٌ﴾ على كونها مقول ﴿قالَ﴾.
﴿وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (٣٩)﴾.
﴿وَقالَتْ أُولاهُمْ﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة، أو معطوفة على جملة ﴿قالَتْ أُخْراهُمْ﴾، وما بينهما اعتراض. ﴿لِأُخْراهُمْ﴾: متعلق بـ ﴿قالَتْ﴾. ﴿فَما كانَ لَكُمْ﴾ إلى آخر الآية مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿فَما﴾: ﴿الفاء﴾: فاء الفصيحة، لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفتم ما قال لكم الرب جل جلاله، وأردتم بيان حالنا وحالكم.. فأقول لكم. ﴿ما كان لكم﴾:
﴿ما﴾: نافية. ﴿كانَ﴾: فعل ماض ناقص. ﴿لَكُمْ﴾: جار ومجرور خبر مقدم لـ ﴿كانَ﴾. ﴿عَلَيْنا﴾: متعلق بـ ﴿فَضْلٍ﴾. ﴿مِنْ﴾: زائدة. ﴿فَضْلٍ﴾: اسم ﴿كانَ﴾ مؤخر، والتقدير: فما كان من فضل علينا كائنا لكم، وجملة ﴿كانَ﴾ في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة في محل النصب مقول ﴿قالَتْ﴾. ﴿فَذُوقُوا الْعَذابَ﴾: فعل وفاعل ومفعول، و ﴿الفاء﴾ حرف عطف وتفريع، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة ﴿كانَ﴾. بِما ﴿الباء﴾: حرف جر وسبب، ﴿ما﴾: موصولة في محل الجر بالباء. ﴿كُنْتُمْ﴾ فعل ناقص واسمه، وجملة ﴿تَكْسِبُونَ﴾ خبر ﴿كان﴾، وجملة ﴿كان﴾ صلة ﴿ما﴾ الموصولة، والعائد محذوف تقديره: بالذي كنتم تكسبونه، أو بكسبكم، الجار والمجرور متعلق بـ ﴿ذوقوا﴾.
﴿إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ﴾.
﴿إِنَّ﴾: حرف نصب. ﴿الَّذِينَ﴾: اسمها. ﴿كَذَّبُوا﴾: فعل وفاعل صلة
﴿وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ﴾.
﴿وَلا يَدْخُلُونَ﴾: فعل وفاعل، والجملة في محل الرفع معطوفة على جملة ﴿لا تُفَتَّحُ﴾. ﴿الْجَنَّةَ﴾: منصوب على الظرفية المكانية متعلق بـ ﴿يَدْخُلُونَ﴾. ﴿حَتَّى﴾: حرف جر وغاية. ﴿يَلِجَ الْجَمَلُ﴾: فعل وفاعل منصوب بأن مضمرة وجوبا بعد ﴿حَتَّى﴾: بمعنى إلى. ﴿فِي سَمِّ الْخِياطِ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿يَلِجَ﴾، والجملة الفعلية صلة أن المضمرة، أن مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بـ ﴿حَتَّى﴾ بمعنى إلى تقديره: إلى ولوج الجملة في سم الخياط، الجار والمجرور متعلق بـ ﴿يَدْخُلُونَ﴾. ﴿وَكَذلِكَ﴾: ﴿الواو﴾: استئنافية. ﴿كَذلِكَ﴾: جار ومجرور صفة لمصدر محذوف. ﴿نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة مستأنفة، والتقدير: ونجزي المجرمين جزاء مثل جزاء المكذبين المستكبرين من عدم فتح أبواب السماء لهم، وعدم دخول الجنة إلى ولوج الجمل في سم الخياط.
﴿لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (٤١)﴾.
﴿لَهُمْ﴾: جار ومجرور خبر مقدم. ﴿مِنْ جَهَنَّمَ﴾: جار ومجرور بالفتحة؛ لأنه اسم لا ينصرف، والمانع له من الصرف العلمية والتأنيث المعنوي، الجار والمجرور حال من ﴿مِهادٌ﴾؛ لأنه صفة نكرة تقدمت عليها. ﴿مِهادٌ﴾: مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية مستأنفة، أو في محل النصب حال من واو ﴿يَدْخُلُونَ﴾. ﴿وَمِنْ فَوْقِهِمْ﴾: جار ومجرور خبر مقدم. ﴿غَواشٍ﴾: مبتدأ مؤخر مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء المحذوفة؛ للتخلص من التقاء الساكنين منع من ظهورها الثقل؛ لأنه اسم منقوص، وسيأتي البحث عنه في مبحث الصرف إن
﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَها أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٤٢﴾.
﴿وَالَّذِينَ﴾: مبتدأ. ﴿آمَنُوا﴾: فعل وفاعل صلة الموصول. ﴿وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ﴾: فعل وفاعل ومفعول معطوف على ﴿آمَنُوا﴾. ﴿لا﴾: نافية. ﴿نُكَلِّفُ﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الله. ﴿نَفْسًا﴾: مفعول به. ﴿إِلَّا وُسْعَها﴾: منصوب على الاستثناء، والجملة الفعلية معترضة بين المبتدأ والخبر الآتي، أو هي خبر أول له مع تقدير الرابط تقدر: لا نكلف نفسا منهم إلا وسعها. ﴿أُولئِكَ﴾: مبتدأ ثان. ﴿أَصْحابُ الْجَنَّةِ﴾: خبر للمبتدأ الثاني، والجملة من المبتدأ الثاني وخبره خبر للأول، والجملة من المبتدأ الأول وخبره جملة كبرى في ضمنها جملة صغرى مستأنفة. ﴿هُمْ﴾: مبتدأ. ﴿فِيها﴾: متعلق بـ ﴿خالِدُونَ﴾. ﴿خالِدُونَ﴾: خبر المبتدأ، والجملة في محل النصب حال من ﴿أَصْحابُ الْجَنَّةِ﴾.
﴿وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدانَا اللَّهُ﴾.
﴿وَنَزَعْنا﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية. ﴿نَزَعْنا﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. ﴿ما﴾: موصولة، أو موصوفة في محل النصب مفعول به. ﴿فِي صُدُورِهِمْ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه صلة لـ ﴿ما﴾، أو صفة لها. ﴿مِنْ غِلٍّ﴾: جار ومجرور حال من ﴿ما﴾. ﴿تَجْرِي﴾: فعل مضارع. ﴿مِنْ تَحْتِهِمُ﴾: متعلق به. ﴿الْأَنْهارُ﴾: فاعل، والجملة الفعلية حال من ضمير ﴿صُدُورِهِمْ﴾. ﴿وَقالُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة ﴿نَزَعْنا﴾. ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾ إلى قوله: ﴿ونودي﴾ مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾: مبتدأ وخبر، والجملة في محل النصب مقول
﴿لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾.
﴿لَقَدْ﴾ ﴿اللام﴾: موطئة للقسم، ﴿قد﴾: حرف تحقيق. ﴿جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا﴾: فعل وفاعل ومضاف إليه. ﴿بِالْحَقِّ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿جاءَتْ﴾، والجملة الفعلية جواب القسم المحذوف تقديره: نقسم والله، وجملة القسم مع جوابه في محل النصب مقول ﴿قالُوا﴾. ﴿وَنُودُوا﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة، أو استئنافية. ﴿نُودُوا﴾: فعل ونائب فاعل، والجملة معطوفة على جملة ﴿قالُوا﴾، أو مستأنفة. ﴿أَنْ﴾: مفسرة بمعنى: أي. ﴿تِلْكُمُ﴾ مبتدأ. ﴿الْجَنَّةُ﴾: خبر، والجملة مفسرة لجملة ﴿نُودُوا﴾ لا محل لها من الإعراب، أو ﴿أَنْ﴾ مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن. ﴿تِلْكُمُ﴾، مبتدأ. ﴿الْجَنَّةُ﴾: خبره، والجملة في محل الرفع خبر ﴿أَنْ﴾ المخففة، وجملة ﴿أَنْ﴾ المخففة في محل النصب مفعول ثان لـ ﴿نُودُوا﴾. ﴿أُورِثْتُمُوها﴾: فعل ونائب فاعل، ﴿الهاء﴾ في محل النصب مفعول ثان
أحدهما: أنه فصل بينهما بالخبر.
والثاني: أن تلك مبتدأ، والابتداء لا يعمل في الحال، ويجوز أن تكون ﴿الْجَنَّةُ﴾ نعتا لـ ﴿تِلْكُمُ﴾، أو بدلا، ﴿وأُورِثْتُمُوها﴾ الخبر، ولا يجوز أن تكون الجملة حالا من الكاف والميم؛ لأن الكاف حرف للخطاب، وصاحب الحال لا يكون حرفا، ولأن الحال تكون بعد تمام الكلام، والكلام لا يتم بتلكم. ذكره أبو البقاء. ﴿بِما﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿أورث﴾. ﴿كُنْتُمْ﴾: فعل ناقص واسمه، وجملة ﴿تَعْمَلُونَ﴾ خبرها، وجملة ﴿كان﴾ صلة لـ ﴿ما﴾، أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوفا تقديره: تعملونه.
التصريف ومفردات اللغة
﴿يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ﴾ والزينة (١): فعلة من التزين، وهو اسم لما يتجمل به من ثياب وغيرها كقوله: ﴿وَازَّيَّنَتْ﴾؛ أي: بالنبات، والزينة هنا المأمور بأخذها هو ما يستر العورة في الصلاة. قاله مجاهد والسدي والزجاج.
﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا﴾ قال الكلبي: معناه كلوا من اللحم والدسم، واشربوا من الألبان، وكانوا يحرمون جميع ذلك في الإحرام. ﴿وَلا تُسْرِفُوا﴾ قال ابن عباس: الإسراف: الخروج عن حد الاستواء.
﴿قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ﴾ الفواحش (٢): جمع فاحشة؛ وهي الخصلة التي يقبح فعلها لدى أرباب الفطر السليمة، والعقول الراجحة، ويطلقونها أحيانا على الزنا، والبخل، والقذف بالفحشاء، والبذاء المتناهي في القبح.
(٢) المراغي.
نهانا رسول الله أن نقرب الخنا | وأن نشرب الإثم الّذي يوجب الوزرا |
ورحت حزينا ذاهل العقل بعدهم | كأنّي شربت الإثم أو مسّني خبل |
شربت الإثم حتى زال عقلي
﴿وَالْبَغْيَ﴾ والبغي: تجاوز الحد، وقد يقال: بغى الجرح إذا تجاوز الحد في الفساد، ومنه قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ﴾.
﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ﴾؛ أي: مدة (٢) العمر من أولها إلى آخرها.
وقوله: ﴿فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ﴾؛ أي: آخر هذه المدة، فلذلك أظهر لاختلاف معنى الأجل في الموضعين، فالأجل يطلق على جميع مدة العمر بتمامها، وعلى الجزء الأخير منها. وفي «المصباح»: أجل الشيء مدته ووقته الذي يحل فيه، وهو مصدر أجل الشيء أجلا - من باب تعب - وأجل أجولا - من باب قعد لغة - وأجلته تأجيلا جعلت له أجلا، والآجال جمع أجل مثل سبب وأسباب. والأمة: قال ابن عطية: الفرقة والجماعة من الناس؛ وهي لفظة تستعمل في الكثير من الناس. وقال غيره: والأمة الجماعة قلوا أو كثروا، وقد يطلق على الواحد كقوله في قس بن ساعدة: يبعث يوم القيامة أمة وحده، وقال تعالى: ﴿إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتًا لِلَّهِ﴾. ﴿ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ﴾ المراد بهم الجماعات والأحزاب وأهل الملل.
﴿حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها﴾ أصله: تداركوا بوزن تفاعلوا، فأدغمت التاء في الدال بعد قلبها دالا وتسكينها، ثم اجتلبت همزة الوصل، فصار اداركوا، وهذه (٣) المسألة نصوا على نظيرتها، وهي أن تاء الافتعال إذا أبدلت إلى حرف
(٢) الفتوحات.
(٣) الفتوحات.
﴿قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ﴾ وأخراهم وأولاهم يحتمل أن يكون فعلى أنثى أفعل الذي للمفاضلة، والمعنى على هذا كما قال الزمخشري: أخراهم منزلة؛ وهم الأتباع والسفلة لأولاهم منزلة؛ وهم القادة والسادة والرؤساء، ويحتمل أن تكون أخرى بمعنى آخرة تأنيث آخر مقابل أول، لا تأنيث آخر الذي للمفاضلة كقوله: ﴿وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى﴾ والفرق بين أخرى بمعنى آخرة، وبين أخرى تأنيث آخر بزنة أفعل التفضيل أن التي للتفضيل لا تدل على الانتهاء كما لا يدل عليه مذكرها، ولذلك يعطف أمثالها عليها في نوع واحد تقول: مررت بامرأة وأخرى وأخرى، كما تقول: مررت برجل وآخر وآخر، وهذه تدل على الانتهاء كما يدل عليه مذكرها، ولذلك لا يعطف أمثالها عليها، ولأن الأولى تفيد إفادة غير، وهذه لا تفيد إفادة غير، والظاهر في هذه الآية الكريمة أنهما ليستا للتفضيل، بل لما ذكرت لك. اه «سمين».
﴿عَذابًا ضِعْفًا﴾ والمراد بالضعف هنا (١): تضعيف الشيء وزيادته إلى ما لا يتناهى، لا الضعف بمعنى مثل الشيء مرة واحدة. اه. «كرخي». وفي «السمين»: قوله: ﴿ضِعْفًا﴾ قال أبو عبيدة: الضعف: مثل الشيء مرة واحدة. وقال الأزهري: ما قاله أبو عبيدة هو ما يستعمله الناس في مجاري كلامهم، والضعف في كلام العرب المثل إلى ما زاد، ولا يقتصر به على مثلين، بل تقول: هذا ضعفه؛ أي: مثلاه وثلاثة أمثاله؛ لأن الضعف في الأصل زيادة غير محصورة، ألا ترى إلى قول الله تعالى: ﴿فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ﴾ لم يرد به مثلا ولا مثلين، وأولى الأشياء به أن يجعل عشرة أمثاله كقوله تعالى: {مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ
﴿حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ﴾ وفي «السمين»: والولوج: الدخول بشدة، ولذلك يقال: هو الدخول في ضيق، فهو أخص من مطلق الدخول، والوليجة: كل ما يعتمده الإنسان، والوليجة: الداخل في قوم ليس هو منهم. وفي «المصباح»: ولج الشيء في غيره يلج - من باب وعد - ولوجا إذا دخل، وأولجته إيلاجا: أدخلته. اه. والجمل: الذكر من الإبل قيل: لا يقال له ذلك إلا إذا بلغ أربع سنين، وأول ما يخرج ولد الناقة حوار إلى الفطام، وبعده فصيل إلى سنة، وفي الثانية ابن مخاض وبنت مخاض، وفي الثالثة ابن لبون وبنت لبون، وفي الرابعة حق وحقة، وفي الخامسة جذع وجذعة، وفي السادسة ثني وثنية، وفي السابعة رباع ورباعية مخففة، وفي الثامنة سديس لهما، وقيل: سديسة للأنثى، وفي التاسعة بازل وبازلة، وفي العاشر خلف وخلفة، وليس بعد البزول والأخلاف سن بل يقال: بازل عام أو عامين، وخلف عام وعامين حتى يهرم، فيقال: له عود.
﴿سَمِّ الْخِياطِ﴾ وفي «المصباح»: السم: ما يقتل بالفتح في الأكثر، وجمعه سموم - مثل فلس وفلوس - وسمام أيضا مثل: سهم وسهما، والضم لغة لأهل العالية، والكسر لغة لبني تميم، والسم ثقب الإبرة، وفيه اللغات الثلاث، وجمعه سمام كسهام. وفي «السمين»: وسم الخياط: ثقب الإبرة، وهو الخرق وسينه مثلثة، وكل ثقب ضيق فهو سم، وقيل: كل ثقب في البدن، وقيل: كل ثقب في أنف أو أذن فهو سم، وجمعه سموم، والسم القاتل سمي بذلك للطفه، وتأثيره في مسام البدن حتى يصل إلى القلب، وهو في الأصل مصدر، ثم أريد به معنى الفاعل؛ لدخوله باطن والبدن، وقد سمه إذا أدخله فيه، ومنه السامة للخاصة الذين يدخلون في باطن الأمور ومسامها، ولذلك يقال لهم: الدخال، والسموم: الريح الحارة؛ لأنها تؤثر تأثير السم القاتل. والخياط والمخيط: الآلة التي يخاط بها فعال ومفعل كإزار ومئزر، ولحاف وملحف، وقناع ومقنع. اه.
﴿لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ﴾؛ أي: فراش ﴿وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ﴾: جمع غاشية أصله: غواشي بتنوين الصرف، فاستثقلت الضمة على الياء فحذفت، فاجتمع ساكنان الياء والتنوين، فحذفت الياء، ثم لوحظ كونه على صيغة مفاعل في
وفي «السمين»: وللنحاة في الجمع الذي على مفاعل إذا كان منقوصا بقياس خلاف: هل هو منصرف أو غير منصرف؟ فبعضهم قال: هو منصرف؛ لأنه قد زالت منه صيغة منتهى الجموع، فصار وزنه وزن جناح، وقد زال فانصرف. وقال الجمهور: هو ممنوع من الصرف، والتنوين تنوين عوض، واختلف في المعوض عنه ماذا؟ فالجمهور: على أنه عوض من الياء المحذوفة.
وذهب المبرد: إلى أنه عوض من حركتها، والكسر ليس كسر إعراب، وهكذا جوار وموال، وبعض العرب يعرب غواش ونحوه بالحركات على الحرف الذي قبل الياء المحذوفة، فيقول: هؤلاء جوار، وقرىء: ﴿وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ﴾ - برفع الشين - كما مر.
﴿مِنْ غِلٍّ﴾ والغل: - بالكسر - الغش والحق أيضا، وقد غل صدره يغل - بالكسر - غلا إذا كان ذا غش أو ضغن أو حقد. اه من «المختار» ويجمع على غلال.
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات أنواعا من البلاغة والفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: التكرار في قوله: ﴿يا بَنِي آدَمَ﴾.
ومنها: المجاز المرسل في قوله: ﴿عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ﴾ لأن المراد بالمسجد الصلاة والطواف علاقته المحلية، ولما كان المسجد محل الصلاة والطواف أطلق عليهما ذلك.
ومنها: الطباق بين ظهر وبطن في قوله: ﴿ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ﴾ وبين أولاهم وأخراهم، في قوله: ﴿قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ﴾ وبين مهاد وغواش، في قوله: ﴿لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ﴾.
ومنها: الظرفية المجازية في قوله: ﴿ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ﴾؛ أي: ادخلوا حال كونكم في أمم.
ومنها: عطف العام على الخاص في قوله: ﴿وَالْإِثْمَ﴾؛ لأنه معطوف على ﴿الْفَواحِشَ﴾، فيشمل الفواحش وغيرها.
ومنها: عطف الخاص على العام؛ لمزيد الاعتناء به في الثلاثة المذكورة بعد ﴿الْإِثْمَ﴾.
ومنها: الاستعارة التصريحية الأصلية في قوله: ﴿سُلْطانًا﴾ استعاره للحجة؛ لأن لها تسلطا على القلب.
ومنها: التفصيل بعد الإجمال في قوله: ﴿ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ﴾.
ومنها: الطباق بين ﴿لا يَسْتَأْخِرُونَ.. وَلا يَسْتَقْدِمُونَ﴾
ومنها: الاعتراض في قوله: ﴿لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَها﴾ اعترض به بين المبتدأ والخبر.
ومنها: التهكم في قوله: ﴿فَذُوقُوا الْعَذابَ﴾.
ومنها: الكناية في قوله: ﴿لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ﴾ لأنه كناية عن عدم قبول عملهم ودعائهم.
ومنها: تعليق الممكن بالمستحيل إفادة لاستحالته في قوله: ﴿حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ﴾ فاستفيد منه أن دخول الكافر الجنة مستحيل.
ومنها: الإتيان باسم الإشارة البعيدة في قوله: ﴿أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ﴾ إشارة إلى عظم رتبتها ومكانتها على حد قوله: ﴿ذلِكَ الْكِتابُ﴾.
ومنها: الاستعارة في قوله: ﴿لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ﴾ قال أبو حيان: هذا استعارة لما يحيط بهم من النار.
ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
﴿وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (٤٤) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كافِرُونَ (٤٥) وَبَيْنَهُما حِجابٌ وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيماهُمْ وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ (٤٦) وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ قالُوا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٤٧) وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ رِجالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ قالُوا ما أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (٤٨) أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (٤٩) وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ (٥٠) الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا وَما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (٥١) وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٥٢) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٥٣) إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (٥٤) ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (٥٥) وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٥٦) وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحابًا ثِقالًا سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٥٧) وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِدًا كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (٥٨)﴾.
المناسبة
قوله تعالى: ﴿وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما
وفيها دليل على أن الدارين في أرض واحدة يفصل بينهما سور لا يمنع إشراف أهل الجنة، وهم في أعلى عليين على أهل النار؛ وهم في هاوية الجحيم، وأن بعضهم يخاطب بعضا بما يزيد أهل الجنة عرفانا بقيمة النعمة، ويزيد أهل النار حسرة وشقاء على ما كان من التفريط في جنب الله تعالى.
وهذا التخاطب لا يقتضي قرب المكان على ما هو معهود في الدنيا، فعالم الآخرة عالم تغلب فيه الروحانية على ظلمة الكثافة الجسدية، فيمكن الإنسان أن يسمع من بعيد المسافات، ويرى من أقاصي الجهات. وإن ما جد الآن من المخترعات والآلات التي يتخاطب بها الناس من شاسع البلاد، وتفصل بينهما ألوف الأميال، إما بالإشارات الكتابية كالبرق - التلغراف اللاسلكي والسلكي - وإما بالكلام اللساني كالمسرة التليفون اللاسلكي والسلكي، ليقرب هذا أتم التقريب، ويزيدنا فهما له. وقد تم لهم الآن أن يروا صورة المتكلم بالتليفون مطبوعة على الآلة التي بها الكلام، وأن ينقلوا الصور من أقصى البلدان إلى أقصاها بهذه الآلة التلفاز.
قوله تعالى: ﴿وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى، لما ذكر (٢) مقال أهل الجنة لأهل النار، ومقال أصحاب الأعراف لأهل النار.. أردف ذلك بما قال أهل النار لأهل الجنة، وطلبهم منهم بعض ما عندهم من نعم الله عليهم.
قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ...﴾ الآية، مناسبة هذه
(٢) المراغي.
قوله تعالى: ﴿إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ...﴾ الآيات، علمت مما سلف من قبل أن الأسس التي عني القرآن الكريم بشأنها هي التوحيد والنبوة والمعاد والقضاء والقدر، وإثبات المعاد موقوف على إثبات الوحدانية لله تعالى، والعلم الشامل والقدرة التامة. ومناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما (١) بسط القول فيما سلف في أمر المعاد، وبين فئات الناس في ذلك اليوم، وما يدور من حوار بين أصحاب النار وأصحاب الجنة.. قفى على ذلك بذكر الخلق والتكوين، وبيان مقدوراته تعالى وعظيم مصنوعاته؛ لتكون دليلا على الربوبية والألوهية، وأنه لا معبود سواه.
قوله تعالى: ﴿ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: لما ذكر الأدلة على توحيد الربوبية.. قفى على ذلك بالأمر بتوحيد الألوهية بإفراده تعالى بالعبادة، وروحها ومخها الدعاء والتضرع له.
قوله تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْرًا...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر (٢) تفرده بالملك والملكوت، وتصرفه في العلوي والسفلي وتدبيره الأمر وحده، وطلب إلينا أن ندعوه متضرعين خفية وجهرا، ونهانا عن الإفساد في الأرض بعد إصلاحها، وأبان لنا أن رحمته
(٢) المراغي.
وقال أبو حيان: مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما (١) ذكر الدلائل على كمال إلهيته وقدرته وعلمه من العالم العلوي.. أتبعها بالدلائل من العالم السفلي؛ وهي محصورة في آثار العالم العلوي، منها الريح والسحاب والمطر، وفي المعدن والنبات والحيوان، ويترتب على نزول المطر أحوال النبات، وذلك هو المذكور في الآية، وانجر مع ذلك الدلالة على صحة الحشر والنشر، والبعث والقيامة، وانتظمت هاتان الآيتان محصلتين المبدأ والمعاد.
انتهى.
التفسير وأوجه القراءة
٤٤ - ﴿وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ﴾ حين استقرار أهل الجنة في الجنة، واستقرار أهل النار في النار إذا ما وجهوا إليهم أبصارهم يسألونهم سؤال افتخار على حسن حالهم، وسؤال تهكم وتذكير بجناية أهل النار على أنفسهم بتكذيب الرسل، وسؤال تقرير لهم بصدق ما بلغهم الرسل من وعد ربهم لمن آمن واتقى بجنات النعيم قائلين لهم: ﴿أَنْ قَدْ وَجَدْنا﴾؛ أي: قد وجدنا وتيقنا ﴿ما وَعَدَنا رَبُّنا﴾ على ألسنة رسله من النعيم والكرامة ﴿حَقًّا﴾ وصدقا لا شبهة فيه، وها نحن نستمتع بما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر ﴿فَهَلْ وَجَدْتُمْ﴾ يا أهل النار ﴿ما وَعَدَ رَبُّكُمْ﴾؛ أي: ما أوعدكم ربكم من الخزي والنكال والعذاب على الكفر ﴿حَقًّا﴾؛ أي: صدقا ﴿قالُوا﴾؛ أي: قال أهل النار مجيبين لأهل الجنة: ﴿نَعَمْ﴾؛ أي: وجدنا ما أوعدنا به ربنا حقا كما بلغنا على ألسنة الرسل، و ﴿نَعَمْ﴾ حرف يجاب به عن الاستفهام في إثبات المستفهم عنه، ونونها
فإن قلت (١): هل هذا النداء من كل أهل الجنة لكل أهل النار، أو من البعض للبعض؟
قلت: ظاهر قوله: ﴿وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ﴾ يفيد العموم، والجمع إذا قابل الجمع يوزع الفرد على الفرد، فكل فريق من أهل الجنة ينادي من كان يعرفه من الكفار في دار الدنيا. فإن قلت: إذا كانت الجنة في السماء، والنار في الأرض فكيف يمكن أن يبلغ هذا النداء، أو كيف يصح أن يقع؟
قلت: إن الله قادر على أن يقوي الأصوات والأسماع، فيصير البعيد كالقريب. اه «خازن». ويحتمل أنه تعالى يقرب إحدى الدارين من الأخرى؛ إما بإنزال العليا، وإما برفع السفلى.
فإن قلت: كيف يرى أهل الجنة أهل النار وبالعكس مع أن بينهما حجابا وهو سور الجنة؟.
أجيب: باحتمال أن سور الجنة لا يمنع الرؤية لما وراءه لكونه شفافا كالزجاج، وباحتمال أن فيه طاقات تحصل الرؤية منها. وقرأ (٢) ابن وثاب والأعمش والكسائي في جميع القرآن: ﴿نعم﴾ - بكسر العين -. قال مكي من قال: ﴿نِعَم﴾ بكسر العين فكأنه أراد أن يفرق بين نعم التي هي جواب، وبين نعم التي هي اسم للبقر والغنم والإبل.
﴿فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ﴾؛ أي: فنادى مناد ﴿بَيْنَهُمْ﴾؛ أي: بين أهل الجنة وأهل النار؛ أي: نادى مناد أسمع الفريقين كلهم قائلا: ﴿أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ﴾ لأنفسهم الجانين عليها بما أوجب حرمانها من النعيم المقيم، وهذا المؤذن إما مالك خازن النار، وإما ملك غيره يأمره الله بذلك.
(٢) البحر المحيط وفتح القدير.
٤٥ - ثم المراد بالظالمين ﴿الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾؛ أي: الذين يعرضون بأنفسهم عن سلوك سبيل الله الموصلة إلى مرضاته وثوابه، ويمنعون الناس عن سلوكها تارة بالزجر والقهر، وأخرى بسائر الحيل ﴿وَيَبْغُونَها عِوَجًا﴾؛ أي: يطلبون اعوجاجها؛ أي: يريدون إثبات كونها معوجة مائلة عن الحق بإلقاء الشكوك في أدلتها، أو ينفرون الناس عنها، ويقدحون في استقامتها بقولهم: إنها غير حق، وأن الحق ما هم عليه. وفي «أبي السعود» في آل عمران: بأن يلبسوا على الناس، ويوهموهم أن فيها ميلا عن الحق بنفي النسخ، وتغيير صفة الرسول ﷺ عن وجهها، ونحو ذلك. اه. وفي «الخازن»: هنا (٢) ﴿وَيَبْغُونَها عِوَجًا﴾؛ أي: يحاولون أن يغيروا دين الله وطريقته التي شرع لعباده ويبدلونها. وقيل معناه: أنهم يصلون لغير الله، ويعظمون ما لم يعظمه الله، وذلك أنهم طلبوا سبيل الحق بالصلاة لغير الله، وتعظيم ما لم يعظمه الله، فأخطؤوا الطريق وضلوا عن السبيل. اه.
٤٦ - ﴿وَبَيْنَهُما﴾؛ أي: وبين الفريقين؛ فريقي أهل الجنة وأهل النار، أو بين الجنة والنار ﴿حِجابٌ﴾؛ أي: حاجز يفصل كلّا منهما من الآخر، ويمنعه من الاستطراق إليه، وهذا الحجاب هو السور الذي سيأتي ذكره في سورة الحديد بقوله: ﴿يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ (١٣)...﴾ الآية. ﴿وَعَلَى الْأَعْرافِ﴾؛ أي: وعلى أعالي ذلك السور المضروب بين الجنة والنار ﴿رِجالٌ﴾ يرون أهل الجنة وأهل النار جميعا قبل الدخول فيها، فـ ﴿يَعْرِفُونَ كُلًّا﴾ من أهل الجنة وأهل النار ﴿بِسِيماهُمْ﴾؛ أي: بعلامتهم التي أعلمهم الله تعالى بها كبياض الوجه وسواده، وهي التي وصفهم الله تعالى بها في نحو قوله: {وُجُوهٌ
(٢) الخازن.
وهؤلاء الرجال هم طائفة من الموحدين قصرت بهم سيئاتهم عن الجنة، وتجاوزت بهم حسناتهم عن النار جعلوا هناك حتى يقضى بين الناس، فبينما هم كذلك إذ يطلع عليهم ربهم فيقول لهم: «قوموا ادخلوا الجنة فإني قد غفرت لكم». أخرجه أبو الشيخ والبيهقي وغيرهما عن حذيفة، وفي رواية عنه: «يجمع الله الناس، ثم يقول لأصحاب الأعراف: ما تنتظرون؟ قالوا: ننتظر أمرك، فيقال: إن حسناتكم تجاوزن بكم النار أن تدخلوها، وحالت بينكم وبين الجنة خطاياكم، فادخلوها بمغفرتي ورحمتي».
وقيل (١): هؤلاء الرجال قوم قتلوا في سبيل الله، وهم عصاة لآبائهم، وقيل: هم قوم كان فيهم عجب، وقيل: هم قوم كان عليهم دين، فهذه الأقوال تدل على أن أصحاب الأعراف أقوام يكونون في الدرجة النازلة من أهل الثواب، وقيل: إنهم الأشراف من أهل الثواب، وقيل: إنهم الأنبياء، وإنما أجلسهم الله على ذلك المكان العالي تمييزا لهم على سائر أهل القيامة، وقيل: إنهم الشهداء وهم شهداء الله على أهل الإيمان والطاعة، وعلى أهل الكفر والمعصية، فهم يعرفون أن أهل الثواب وصلوا إلى الدرجات، وأهل العقاب وصلوا إلى الدركات، كما قال تعالى: ﴿يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيماهُمْ﴾.
﴿وَنادَوْا﴾؛ أي: ونادى رجال الأعراف ﴿أَصْحابَ الْجَنَّةِ﴾ حين رأوهم قائلين لهم ﴿أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ﴾ يا أهل الجنة، وهذا السلام إما تحية ودعاء، وإما إخبار بالسلامة من المكروه والنجاة من العذاب؛ أي سلمتم من الآفات، وحصل لكم الأمن والسلام، هذا إن كان قبل دخول الجنة. فإن كان بعدها فهي تحية خالصة تدخل في عموم قوله تعالى: ﴿لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا (٢٥) إِلَّا قِيلًا سَلامًا سَلامًا (٢٦)﴾ وجملة قوله: ﴿لَمْ يَدْخُلُوها﴾ حال من فاعل ﴿نادَوْا﴾ ﴿وَهُمْ يَطْمَعُونَ﴾ حال
٤٧ - ﴿وَإِذا صُرِفَتْ﴾؛ أي: وجهت ﴿أَبْصارُهُمْ﴾؛ أي: أبصار رجال الأعراف بغير قصد. وقرأ الأعمش: ﴿وإذا قلبت أبصارهم﴾. ﴿تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ﴾؛ أي: إلى جهنم، وقد قرىء ﴿تِلْقاءَ﴾ هنا بمده وقصره قراءتان سبعيتان. ﴿قالُوا﴾؛ أي: قال رجال الأعراف نعوذ بالله ﴿رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾؛ أي: وكلما وقعت أبصار أصحاب الأعراف على أهل النار تضرعوا إلى الله تعالى في أن لا يجعلهم من زمرتهم، والمقصود من جميع هذه الآيات الإنذار والتخويف من التقليد الرديء؛ ليتبصر المرء في عاقبة أمره، فيفوز بالثواب المقيم في جنات النعيم. وفي التعبير (٣) بصرف الأبصار وتحويلها إيماء إلى أنهم يوجهون أبصارهم إلى أصحاب الجنة بالقصد والرغبة، ويلقون إليهم السلام، ويكرهون رؤية أهل النار، فإذا حولت أبصارهم إليهم من غير قصد ولا رغبة، بل بصارف يصرفهم إليها.. قالوا: ربنا لا تجعلنا معهم حيث يكونون، وفي ذلك من استعظام حال الظالمين،
(٢) البحر المحيط.
(٣) المراغي.
قال: فأما أصحاب الحسنات، فإنهم يعطون نورا يمشون به بين أيديهم وبأيمانهم، ويعطي كل عبد يومئذ نورا، وكل أمة نورا، فإذا أتوا على الصراط سلب الله نور كل منافق ومنافقة، فلما رأى أهل الجنة ما لقي المنافقون ﴿يَقُولُونَ رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا﴾ وأما أصحاب الأعراف، فإن النور كان في أيديهم، فلم ينزع من أيديهم، فهنالك يقول الله تعالى: ﴿لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ﴾ فكان الطمع دخولا قال سعيد: فقال ابن مسعود: على أن العبد إذا عمل حسنة كتب له بها عشر، وإذا عمل سيئة لم تكتب إلا واحدة، ثم قال: هلك من غلب وحدانه أعشاره. اه.
٤٨ - ﴿وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ رِجالًا﴾ من أهل النار كانوا عظماء في الدنيا، وهذا نداء آخر من بعض أصحاب الأعراف لبعض المستكبرين الذين كانوا يعتزون في الدنيا بغناهم وقوتهم، ويحتقرون ضعفاء المؤمنين لفقرهم وضعف عصبيتهم، أو لحرمانهم من عصبية تمنعم وتذود عنهم، ويزعمون أن من أغناه الله، وجعله قويا في الدنيا فهو الذي يكون له نعيم الآخرة كما قال تعالى: ﴿وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (٣٤) وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالًا وَأَوْلادًا وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (٣٥)﴾. ومن هؤلاء زعماء قريش وطغاتها الذين قاوموا الإسلام في مكة، وعذبوا أهله كأبي جهل، والوليد بن المغيرة، والعاص بن وائل.
أي: نادى أصحاب الأعراف رجالا من أهل النار ﴿يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ﴾؛ أي: يعرف أصحاب الأعراف أولئك الرجال بسيماهم وعلاماتهم كسواد الوجوه وزرقة
والخلاصة (١): أنهم نادوهم قائلين لهم: ما أغنى عنكم جمعكم للأموال والخدم، ولا استكباركم على المستضعفين والفقراء من أهل الإيمان؛ إذ لم يمنع عنكم العقاب، ولا أفادكم شيئا من الثواب. وقرىء: ﴿تستكثرون﴾ - بالثاء المثلثة - من الكثرة؛ أي: وما أغنى عنكم إكثاركم من الأموال والجند.
٤٩ - ثم زادوا لهم على هذا التبكيت بقولهم: ﴿أَهؤُلاءِ﴾ الضعفاء الذين عذبتموهم في الدنيا كصهيب وبلال وسلمان وخباب وعمار وأشباههم هم ﴿الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ﴾؛ أي: حلفتم في الدنيا يا معشر الكفار ﴿لا يَنالُهُمُ اللَّهُ﴾ تعالى ولا يصيبهم ﴿بِرَحْمَةٍ﴾ منه؛ إذ لم يعطوا في الدنيا مثل ما أعطيتم من الأتباع والأشياع وكثرة الأموال؛ أي: أقسمتم في الدنيا لا يدخلهم الله الجنة في الآخرة، وقد دخلوا الجنة الآن على رغم أنوفكم. وقد قيل الآن من جهة الله لهؤلاء الذين أقسمتم على عدم دخولهم الجنة ﴿ادْخُلُوا الْجَنَّةَ﴾ بفضل الله تعالى، فهذا من بقية كلام أصحاب الأعراف، فهو خبر ثان عن اسم الاشارة؛ أي: أهؤلاء قد قيل لهم من
وقيل (١): إن أصحاب الأعراف لما قالوا لأهل النار ما قالوا.. قال لهم أهل النار: إن دخل هؤلاء الضعفاء، فأنتم لم تدخلوا الجنة، فلما عيروهم بذلك.. قيل لأصحاب الأعراف: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ، أي: لا خوف عليكم مما يكون في مستقبل أمركم، ولا أنتم تحزنون مما ينغص عليكم حاضركم. وقرأ الحسن وابن هرمز (٢): ﴿أدخلوا﴾ أمر من أدخل الرباعي؛ أي: أدخلوا أنفسكم، أو يكون خطابا للملائكة؛ أي: أدخلوا أيها الملائكة هؤلاء الضعفاء الجنة، ثم خاطب بعد للبشر بقوله: ﴿لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ﴾. وقرأ عكرمة: ﴿دخلوا﴾ إخبارا بفعل ماض. وقرأ طلحة وابن وثاب والنخعي: ﴿ادخلوا﴾ خبرا مبنيا للمفعول كما ذكرنا هاتين القراءتين آنفا.
٥٠ - ﴿وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ﴾؛ أي: بقولهم صبوا علينا من الماء صبا كثيرا ﴿أَوْ﴾ ألقوا علينا ﴿مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى من ثمار الجنة، وأطعمونا منها. وهذا الكلام يدل على حصول العطش الشديد، والجوع الشديد لأهل النار.
والمعنى: أن أهل النار يستغيثون بأهل الجنة ويطلبون منهم أن يفيضوا عليهم من النعم الكثيرة التي يتمتعون بها من شراب وطعام. وعن ابن عباس ينادي الرجل أخاه، فيقول: يا أخي أغثني، فإني قد احترقت، فأفض علي من الماء، فيقال: أجبه، فيقول: إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ.
(٢) البحر المحيط.
﴿قالُوا﴾؛ أي: قال أصحاب الجنة لأهل النار في جواب سؤالهم: ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى قد ﴿حَرَّمَهُما﴾؛ أي قد حرم ماء الجنة ورزقها ﴿عَلَى الْكافِرِينَ﴾ كما حرم عليهم دخولها، فلا سبيل لإفاضة شيء منهما عليهم، وهم في النار، إذ ليس لهم إلا ماؤها الحميم، وطعامها من الضريع والزقوم. وقوله:
٥١ - ﴿الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا﴾؛ أي: باطلا ﴿وَلَعِبًا﴾؛ أي: فرحا صفة للكافرين؛ أي: الذين جعلوا اللهو واللعب دينا وديدنا لهم، فاللهو صرف الهم إلى ما لا يحسن أن يصرف إليه، واللعب طلب الفرح بما لا يحسن أن يطلب به ﴿وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا﴾ عن الآخرة؛ أي: شغلهم
الطمع في طول العمر، وحسن العيش، وكثرة المال، وقوة الجاه، ونيل الشهوات عن الاستعداد والتزود للآخرة.
والخلاصة: أن الدنيا شغلتهم بزخارفها العاجلة، وشهواتها الباطلة، فغرتهم
(٢) المراغي.
والخلاصة: فاليوم نتركهم في العذاب كما تركوا العمل في الدنيا للقاء الله يوم القيامة، وكما كانوا بآيات الله وحججه التي احتج بها عليهم الأنبياء والرسل يجحدون، ولا يصدقون بشيء منها. ويجوز (١) أن تكون الكاف للتعليل، أي: نتركهم في النار لأجل نسيانهم وجحودهم بآياتنا، والتعليل واضح في المعطوف دون التشبيه.
٥٢ - ﴿وَلَقَدْ جِئْناهُمْ﴾؛ أي: وعزتي وجلالي لقد جئنا هؤلاء الكفار من مشركي مكة وغيرهم ﴿بِكِتابٍ﴾؛ أي: بقرآن كريم أنزلناه عليك يا محمد ﴿وفَصَّلْناهُ﴾؛ أي: بينا حلاله وحرامه، ومواعظه وقصصه حالة كوننا ﴿عَلى عِلْمٍ﴾ منا بما فيه من العقائد والأحكام وغيرها؛ أي: عالمين بكيفية تفصيل أحكامه، أو المعنى: حالة كون ذلك الكتاب مشتملا على علم كثير، وفضل كثير مختلف، وقد نظم بعضهم الأنواع التسعة التي اشتمل عليها القرآن في قوله:
حلال حرام محكم متشابه | بشير نذير قصّة عظة مثل |
(٢) البحر المحيط.
وحاصل المعنى: ولقد (١) جئنا هؤلاء القوم بكتاب كامل البيان؛ وهو القرآن فصلنا آياته تفصيلا على علم منا بما يحتاج إليه المكلفون من العلم والعمل تزكية لنفوسهم، وتطهيرا لقلوبهم، وجعلناه سبب سعادتهم في معاشهم ومعادهم، وهدى ورحمة لمن يؤمن به إيمانا يبعثه على العمل بما أمر به، والانتهاء عما نهى عنه. انظر إليه تجده قد أوضح أصول الدين العامة بما لا يطلب معه زيادة لمستزيد، فنعى على المقلدين الأخذ بآراء من تقدمهم من آبائهم ورؤسائهم دون بحث ولا تمحيص في مثل قوله: ﴿إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ﴾ وكرر القول ببطلان التقليد وضلال المقلدين، وحث على النظر والاستدلال، والاعتماد على البرهان في مثل قوله: ﴿قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ﴾ وبهذا كان الإسلام دين العقل والفطرة، وينبوع الهدى والحكمة.
٥٣ - والاستفهام في قوله: ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ﴾ إنكاري؛ أي: ما ينتظر هؤلاء الكفار من أهل مكة وغيرهم إذ أعرضوا عن الإيمان به ﴿إِلَّا تَأْوِيلَهُ﴾ وتفسيره؛ أي: إلا عاقبة ما وعدوا به في القرآن من حلول العذاب بهم يوم القيامة؛ أي ليس أمامهم شيء ينتظرونه في أمره إلا وقوع تأويله، وهو وقوع ما أخبر به من أمر الغيب الذي يقع في المستقبل في الدنيا، ثم في الآخرة مما وعد به المؤمنين من نصر وثواب، وأوعد به الكافرين من خذلان وعقاب.
والحاصل: أنهم (٤) يتمنون الخلاص بكل وسيلة ممكنة؛ إما بشفاعة الشفعاء، وإما بالرجوع إلى الدنيا ليعملوا فيها غير ما كانوا يعملون في حياتهم الأولى، فيكونون أهلا لمرضاة ربهم. وإنما تمنوا الشفعاء وتساءلوا عنهم من حيث كان من أسس الشرك أن النجاة عند الله إنما تكون بوساطة الشفعاء، وعندما يستبين لهم الحق الذي جاءت به الرسل؛ وهو أن النجاة إنما تكون بالإيمان
(٢) المراح.
(٣) فتح القدير.
(٤) المراغي.
وقرأ الجمهور (١): ﴿أَوْ نُرَدُّ﴾ - برفع الدال - ﴿فَنَعْمَلَ﴾ - بنصب اللام - عطف جملة فعلية على جملة اسمية، وتقدمهما استفهام، فانتصب الجوابان؛ أي: هل شفعاء لنا فيشفعوا لنا في الخلاص من العذاب، أو هل نرد إلى الدنيا فنعمل عملا صالحا. وقرأ الحسن فيما نقل الزمخشري بنصب الدال ورفع اللام. وقرأ الحسن فيما نقل ابن عطية وغيره برفعهما: عطف ﴿فَنَعْمَلَ﴾ على ﴿نُرَدُّ﴾. وقرأ ابن أبي إسحاق وأبو حيوة بنصبهما، فنصب ﴿أَوْ نُرَدُّ﴾ عطفا على ﴿فَيَشْفَعُوا لَنا﴾ جوابا على جواب، فيكون الشفعاء في أحد أمرين؛ إما في الخلاص من العذاب، وإما في الرد إلى الدنيا لاستئناف العمل الصالح، وتكون الشفاعة قد انسحبت على الرد، أو الخلاص، و ﴿فَنَعْمَلَ﴾ عطف على: ﴿أَوْ نُرَدُّ﴾، ويحتمل أن يكون ﴿أَوْ نُرَدُّ﴾ من باب لألزمنك أو تقضيني حقي، على تقدير من قدر ذلك: حتى تقضيني حقي، أو كي تقضيني حقي، فجعل اللزوم مغيا بقضاء حقه، أو معلولا له لقضاء حقه، وتكون الشفاعة إذ ذاك في الرد فقط.
قال تعالى: ﴿قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ﴾؛ أي: خسروا وغبنوا في تجارة أنفسهم حيث ابتاعوا الخسيس الفاني من الدنيا بالنفيس الباقي من الآخرة ﴿وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ﴾؛ أي: بطل وذهب وغاب عنهم ما كانوا يزعمون ويكذبون في الدنيا من أن الأصنام تشفع لهم، فلما أفضوا إلى الآخرة ذهب ذلك عنهم وعلموا أنهم في دعواهم كانوا كاذبين، والمعنى: أنه بطل كذبهم وافتراؤهم الذي كانوا يقولونه في الدنيا، أو غاب عنهم ما كانوا يجعلونه شريكا لله، فلم ينفعهم ولا حضر معهم.
وخلاصة ذلك: أنهم قد خسروا أنفسهم بتدنيسها بالشرك والمعاصي وعدم تزكيتهما بلفضائل والأعمال الصالحة فخسروا حظوظهما فيها وبطل كذبهم الذي
٥٤ - ثم ذكر سبحانه وتعالى دلائل القدرة والوحدانية، فقال: ﴿إِنَّ رَبَّكُمُ﴾ أيها العباد وخالقكم ومعبودكم الذي يستحق منكم العبادة هو ﴿اللَّهُ﴾؛ أي: المعبود بحق في الوجود المنفرد في ذاته وصفاته وأفعاله ﴿الَّذِي خَلَقَ﴾ وأوجد ﴿السَّماواتِ﴾ السبع ﴿وَالْأَرْضَ﴾ على غير مثال سابق فِي مقدار ﴿سِتَّةِ أَيَّامٍ﴾ من أيام الدنيا التي أولها الأحد، وآخرها الجمعة، وإنما خلقها في ستة أيام مع أنه قادر على خلقها في لحظة واحدة بأن يقول لها: كوني فتكون؛ ليعلم عباده الرفق والتأني والتثبت في الأمور، وعدم العجلة، وفي آية أخرى: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ (٣٨)﴾. ﴿ثُمَّ﴾ بعد خلق السموات والأرض وما بينهما ﴿اسْتَوى﴾؛ أي: علا وارتفع سبحانه وتعالى ﴿عَلَى الْعَرْشِ﴾ استواء يليق بجلاله من غير تشبيه ولا تمثيل، ولا تعطيل نثبته، ونؤمن به على الوجه الذي يليق به مع تنزيهه عما لا يجوز عليه ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ والإيمان بذلك غير موقوف على معرفة حقيقته وكيفيته، فالصحابة رضوان الله تعالى عليهم، والأئمة من بعضهم لم يشتبه أحد منهم فيه.
وقد أثر عن ربيعة شيخ الإمام مالك أنه سئل عن قوله: ﴿اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ﴾ كيف استوى؟ فقال: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، ومن الله الرسالة، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التصديق. وقال الحافظ بن حجر: مذهب السلف الصالح مالك والأوزاعي والثوري والليث بن سعد والشافعي وأحمد وإسحاق بن راهويه وغيرهم من أئمة المسلمين قديما وحديثا إمرارها كما جاءت من غير تكييف ولا تشبيه. وقال نعيم بن حماد شيخ البخاري: من شبه الله بخلقه كفر، ومن جحد ما وصف الله به نفسه.. فقد كفر، وليس فيما وصف الله به نفسه ولا رسوله تشبيه، فمن أثبت ما وردت به الآثار الصريحة والأخبار الصحيحية على الوجه الذي يليق بجلال الله، ونفى عن الله النقائص... فقد سلك سبيل الهدى. انتهى.
وقال الإمام مالك رحمه الله: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان
وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة صفة عرش الرحمن، وإحاطته بالسموات والأرض وما بينهما وما عليهما، وهو المراد هنا. وقوله: ﴿يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ﴾؛ أي: يجعل الليل كالغشاء والغطاء للنهار، فيغطي بظلمته ضوء النهار جملة حالية من فاعل ﴿اسْتَوى﴾؛ أي: استوى سبحانه وتعالى على العرش حالة كونه مغشيا الليل النهار. وقوله: ﴿يَطْلُبُهُ﴾؛ أي: يطلب الليل النهار طلبا ﴿حَثِيثًا﴾ حال من الليل ﴿اللَّيْلَ﴾؛ أي: حالة كون الليل طالبا للنهار طلبا حثيثا؛ أي: طلبا سريعا لا يفتر عنه بحال؛ أي: مسرعا.
وقرأ عاصم وحمزة والكسائي: ﴿يغشّي﴾ بالتشديد من باب فعل المضعف. وقرأ الباقون بالتخفيف من باب أفعل، وهما لغتان، يقال: أغشى يغشي إغشاء، وغشى يغشي تغشية، ولم يذكر في هذه الآية، ويغشي النهار الليل اكتفاء بأحد الأمرين عن الآخر على حد ﴿سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ﴾. وقرأ حميد بن قيس: ﴿يغشى الليل النهار﴾: على إسناد الفعل إلى الليل. وقوله: ﴿وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ﴾ قال الأخفش: معطوف على ﴿السَّماواتِ﴾ ﴿مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ﴾ حال منها؛ أي: وخلق الشمس والقمر والنجوم حالة كونها مذللات بأمره وإرادته، خاضعات لتصرفه، منقادات لحكمه، جاريات بمقتضى حكمته وتدبيره. وقرأ ابن عامر بالرفع في الأربعة على الابتداء والخبر، وقرأ أبان بن تغلب برفع والنجوم مسخرات فقط على الابتداء والخبر. ﴿أَلا﴾؛ أي: انتبهوا أيها العباد ﴿لَهُ﴾: سبحانه وتعالى لا لغيره ﴿الْخَلْقُ﴾؛ أي: الإيجاد والاختراع، فهو الخالق لجميع المخلوقات علويها وسفليها المالك لذواتها ﴿وَ﴾ له سبحانه وتعالى أيضا لا لغيره
وفي معنى الآية قوله: ﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ﴾ وقوله: ﴿فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ﴾ وقوله: ﴿لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ﴾ وجاءت هذه الجملة توكيدا لما قبلها؛ لبيان أنه هو الذي خلق السموات والأرض، وهو الذي دبرهما وصرفهما بحسب إرادته.
ولما ذكر الله سبحانه وتعالى في هذه الآية خلق السموات والأرض في ذلك الأمد اليسير، ثم ذكر استواءه على عرشه، وتسخير الشمس والقمر والنجوم، وأن له الخلق والأمر.. قال: ﴿تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ﴾؛ أي: تزايد خيره وبره، وكثرت بركته وإحسانه، وعم نواله وإنعامه. وقال الأزهري: معنى: ﴿تَبارَكَ﴾ تعالى وتعاظم؛ أي: تعالى الله مالك العالمين بوحدانيته وألوهيته، وتعاظم بربوبيته وصفاته، وأن كل ما في هذا العالم من الخيرات الكثيرة، والنعم العظيم؛ فهو منه، فيجب على عباده أن يشكروه عليها ويعبدوه دون غيره مما عبدوه معه، وليس له من الخلق ولا من الأمر شيء. وفي هذه الآية رد على من يقول من أهل الضلال: إن للشمس والقمر والكواكب تأثيرات في هذا العالم.
٥٥ - ﴿ادْعُوا رَبَّكُمْ﴾؛ أي: اسألوا أيها العباد ربكم، ومتولي أموركم، وخالقكم حال كونكم ﴿تَضَرُّعًا﴾؛ أي: متضرعين متذللين وخاضعين له ومبتهلين إليه ﴿وَ﴾ حالة كونكم ﴿خُفْيَةً﴾؛ أي: مخفين ومسرين دعاءكم عن غيركم، أو هما صفتان لمصدر محذوف؛ أي: ادعوه دعاء تضرع، ودعاء خفية، والتضرع: الذلة والخشوع والاستكانة، والخفية: الإسرار به، فإن ذلك أقطع لعرق الرياء، وأحسن لباب من يخالف الإخلاص. وقرأ الجمهور بضم خاء ﴿وَخُفْيَةً﴾، وقرأ أبو بكر بكسرها؛ وهما لغتان.
وفي هذا إيماء إلى أن الإخفاء في الدعاء أفضل إن لم يكن وجبا، ويدل على ذلك وجوه:
٢ - روى أبو موسى الأشعري رضي الله عنه قال: كنا مع النبي ﷺ في سفر، فجعل الناس يجهرون بالتكبير، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أيها الناس اربعوا على أنفسكم، فإنكم لا تدعون أصمّا ولا غائبا، إنكم تدعون سميعا قريبا، وهو معكم» رواه مسلم.
٣ - روي أنه ﷺ قال: «دعوة في السر تعدل سبعين دعوة في العلانية» وقال: «خير الذكر الخفي، وخير الرزق ما يكفي».
٤ - روي عن الحسن البصري أنه قال: إن كان الرجل لقد جمع، وما يشعر به الناس، وإن كان الرجل لقد فقه الفقه الكثير، وما يشعر به الناس، وإن كان الرجل ليصلي الصلاة الطويلة في بيته وعند الزور، وما يشعرون به، ولقد أدركنا أقواما ما كان على الأرض من عمل يقدرون أن يعملوه في السر فيكون علانية أبدا، ولقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء، وما يسمع لهم صوت إن كان إلا همسا بينهم وبين ربهم، وذلك أن الله تعالى يقول: ﴿ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً﴾ اه.
٥ - أن النفس شديدة الرغبة في الرياء والسمعة، فإذا رفع المرء صوته بالدعاء امتزج الرياء به، فلا يبقى فيه فائدة البتة، ومن ثم كان الأولى الإخفاء؛ ليبقى مصونا عن الرياء.
وفصل بعض العلماء، فقال: إن التضرع بالجهر المعتدل يحسن في حال الخلوة والأمن من رؤية الناس للداعي، ومن سماعهم لصوته، فلا جهره يؤذيهم، ولا الفكر فيهم يشغله عن التوجه إلى الرب وحده، أو يفسد عليه دعاءه بحب الرياء والسمعة، ويحسن الإسرار في حال اجتماع الناس في المساجد والمشاعر وغيرها إلا ما ورد فيه رفع الصوت من الجميع كالتلبية في الحج، وتكبير العيدين. وإذا كان الليل سترا ولباسا شرع فيه الجهر في قراءة الصلاة إلى أنه
وقال الشيخ محمد بن عيسى الحكيم الترمذي: إن كان خائفا على نفسه من الرياء.. فالأولى إخفاء العمل صونا لعمله عن البطلان، وإن كان قد بلغ في الصفاء وقوة اليقين إلى حيث صار آمنا عن شائبة الرياء.. كان الأولى في حقه الإظهار لتحصل فائدة الاقتداء به. ﴿إِنَّهُ﴾ سبحانه وتعالى. قرأ ابن أبي عبلة ﴿إن الله﴾ جعل مكان المضمر المظهر. ذكره أبو حيان. ﴿لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾؛ أي: المجاوزين لما أمروا به في الدعاء بترك هذين الأمرين التضرع والإخفاء، وفي كل شيء، فمن جاوز ما أمره الله به في شيء من الأشياء.. فقد اعتدى، والله لا يحب المعتدين؛ أي: لا يثيبه البتة، ولا يحسن إليه، وتدخل المجاوزة في الدعاء في هذا العموم دخولا أوليا، ومن الاعتداء (١) في الدعاء أن يسأل الداعي ما ليس له كالخلود في الدنيا، أو إدراك ما هو محال في نفسه، أو يطلب الوصول إلى منازل الأنبياء في الآخرة، أو يرفع صوته بالدعاء صارخا به.
وعن النبي ﷺ (٢): «سيكون قوم يعتدون في الدعاء، وحسب المرء أن يقول: اللهم إني أسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل، وأعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل» ثم قرأ: ﴿إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾. أخرجه ابن ماجه عن عبد الله بن مغفل رضي الله عنه..
وللاعتداء في الدعاء مظاهر شتى (٣):
١ - اعتداء خاص بالألفاظ كالمبالغة في رفع الصوت، والتكلف في صيغ الدعاء.
(٢) المراح.
(٣) المراغي.
٣ - اعتداء بالتوجه فيه إلى غير الله تعالى؛ ليشفع له عنده، وهذا شر أنواع الاعتداء كما قال: ﴿فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا﴾ ومن طلب ذلك من غير الله.. فقد اتخذه إلها؛ لأن الإله هو المعبود كما روى أحمد عن النعمان بن بشير أن النبي ﷺ قال: «الدعاء هو العبادة» وروى الترمذي عن أنس مرفوعا: «الدعاء مخ العبادة» وروي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سلوا الله لي الوسيلة»، قالوا: وما الوسيلة؟ قال: «القرب من الله عز وجل»، ثم قرأ: ﴿يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ﴾ وابتغاء ذلك يكون بدعائه وعبادته بما شرعه على لسان رسوله دون غيره.
فائدة أخرى: وأخرج ابن أبي الدنيا في كتاب «الدعاء» (١)، والخطيب في «تاريخه» عن الحسن بن علي قال: أنا ضامن لمن قرأ هذه العشرين آية في كل ليلة أن يعصمه الله من كل سلطان ظالم، ومن كل شيطان مريد، ومن كل سبع ضاري، ومن كل لص عادي: آية الكرسي، وثلاث آيات من الأعراف: ﴿إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ﴾، وعشرا من أول سورة الصافات، وثلاث آيات من الرحمن أولها: ﴿يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ﴾، وخاتمة الحشر. وأخرج أبو الشيخ بن عبيد بن أبي مرزوق قال: من قرأ عند نومه: ﴿إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ...﴾ الآية.. بسط عليه ملك جناحه حتى يصبح، وعوفي من السرق.
وأخرج أبو الشيخ عن محمد بن قيس صاحب عمر بن عبد العزيز قال: مرض رجل من أهل المدينة، فجاءه زمرة من أصحابه يعودونه، فقرأ رجل منهم:
٥٦ - ﴿وَلا تُفْسِدُوا﴾ أيها الناس ﴿فِي الْأَرْضِ﴾ بالمعاصي والكفر، والدعاء إلى غير طاعة الله تعالى: ﴿بَعْدَ إِصْلاحِها﴾؛ أي: بعد إصلاح الله إياها ببعثة الرسل، وبيان الشرائع، والدعاء إلى طاعة الله تعالى، وهذا المعنى قاله الحسن والسدي والضحاك والكلبي. وقيل معنى الآية: ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاح الله لها بما خلق فيها من المنافع، وما هدى الناس إليها من استغلالها، والانتفاع بتسخيرها لهم، وامتنانه بذلك في مثل قوله: ﴿وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (١٣)﴾ وهذا الإفساد شامل لإفساد النفوس بالقتل، وقطع الأطراف والأعضاء، وإفساد الأموال بالغصب والسرقة، وإفساد الأديان بالكفر والمعاصي والبدع، وإفساد الأنساب بالإقدام على الزنا، وإفساد العقول بشرب المسكر ونحوه.
والخلاصة (١): أن الإفساد شامل لإفساد العقول والعقائد، والآداب الشخصية والاجتماعية، والمعايش والمرافق من زراعة وصناعة وتجارة، ووسائل تعاون بين الناس.
وإصلاح الله تعالى لحال البشر كان بهداية الدين، وإرسال الرسل، وتمم ذلك ببعثة خاتم الأنبياء والمرسلين الذي كان رحمة للعالمين، فبه أصلحت عقائد البشر، وهذبت أخلاقهم وآدابهم بما جمع لهم فيها من مصالح الروح والجسد، وما شرع لهم من التعاون والتراحم، وبما حفظ لهم من العدل والمساواة، وبما شرع لهم من الشورى المقيدة بقاعدة: درء المفاسد وحفظ المصالح، وبذا امتاز
وبعد أن بين في الآية الأولى شرط الدعاء.. أعاد الأمر به إيذانا بأن من لا يعرف أنه محتاج إلى رحمة ربه مفتقر إليها، ولا يدعو ربه تضرعا وخفية، ولا يخاف من عقابه، ولا يطمع في غفرانه يكون أقرب إلى الإفساد منه إلى الإصلاح، فقال: ﴿وَادْعُوهُ﴾؛ أي: وادعوا أيها الناس ربكم حالة كونكم ﴿خَوْفًا﴾؛ أي: خائفين من عقابه على مخالفتكم لشرعه المصلح لأنفسكم وأجسامكم، أو ذوي خوف من عقابه ﴿وَ﴾ حالة كونكم ﴿طَمَعًا﴾؛ أي: طامعين في رحمته وإحسانه في دنياكم وآخرتكم، أو ذوي طمع في رحمته، والخوف: الانزعاج من المضار التي لا يؤمن من وقوعها، والطمع: توقع حصول الأمور المحبوبة.
فإن قلت (١): إنه تعالى قال في الآية الأولى: ﴿ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً﴾ وقال هنا: ﴿وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا﴾ وهذا من عطف الشيء على نفسه، فما فائدة ذلك؟
قلت: الفائدة فيه أن المراد بقوله تعالى: ﴿ادْعُوا رَبَّكُمْ﴾؛ أي: ليكن الدعاء مقرونا بالتضرع والإخبات، وقوله: ﴿وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا﴾ أن فائدة الدعاء أحد هذين الأمرين، فكانت الآية الأولى في بيان شرط صحة الدعاء، والآية الثانية في بيان فائدة الدعاء، وقيل معناه: كونوا جامعين في أنفسكم بين الخوف والرجاء في أعمالكم كلها، ولا تطمعوا أنكم وفيتم حق الله في العبادة والدعاء، وإن اجتهدتم فيهما.
ودعاء المولى حين الشعور بالعجز والافتقار إليه مما يقوي الأمل بالإجابة، ويحول بينها وبين اليأس إذا تقطعت الأسباب، وجهلت وسائل النجاح، والدعاء مخ العبادة ولبها، وإجابته مرجوة حين استكملت شرائطها وآدابها، فإن لم تكن
وأصل الرحمة (١): رقة تقتضي الإحسان إلى المرحوم، وتستعمل تارة في الرقة المجردة، وتارة في الإحسان المجرد عن الرقة، وإذا وصف بها الباري جل وعز، فليس يراد بها إلا الإحسان المجرد دون الرقة، فرحمة الله عز وجل عبارة عن الإفضال والإنعام على عباده، وإيصال الخير إليهم.
وكون الرحمة قريبة من المحسنين (٢)؛ لأن الإنسان في كل ساعة من الساعات في إدبار عن الدنيا، وإقبال على الآخرة، وإذا كان كذلك كان الموت أقرب إليه من الحياة، وليس بينه وبين رحمة الله التي هي الثواب في الآخرة إلا الموت؛ وهو قريب من الإنسان.
والأحسن (٣) في علة تذكير ﴿قَرِيبٌ﴾ مع أن ﴿الرحمة﴾ مؤنثة أن يقال: تذكيره إما باعتبار أن الرحمة مجازية التأنيث، أو باعتبار أن المراد بها الثواب؛
(٢) الخازن.
(٣) الجمل بتصرف.
٥٧ - قوله: ﴿وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ﴾ معطوف على قوله: ﴿إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ﴾، والمعنى: إن ربكم الذي دبر السموات والأرض، وهو الذي يرسل ويبعث الرياح والهواء حالة كون تلك الرياح ﴿بُشْرًا﴾ بالنون؛ أي: منتشرة متسعة، وبالباء أي مبشرة بمجيء المطر؛ أي: يرسلها ويهيجها ﴿بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ﴾؛ أي: أمام المطر الذي هو رحمته حالة كونها نشرا، أو بشرا، وإنما سمي المطر رحمة؛ لأنه سبب لحياة الأرض الميتة ﴿حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ﴾ ورفعت تلك الرياح، و ﴿حَتَّى﴾ غاية لقوله: ﴿يُرْسِلُ﴾ كما في «الشهاب» ﴿سَحابًا ثِقالًا﴾؛ أي: غيما مثقلا بالماء ﴿سُقْناهُ﴾؛ أي: سقنا ذلك السحاب ﴿لِبَلَدٍ مَيِّتٍ﴾؛ أي: إلى مكان لا نبات فيه لعدم الماء ﴿فَأَنْزَلْنا بِهِ﴾؛ أي: في ذلك البلد ﴿الْماءَ فَأَخْرَجْنا بِهِ﴾ أي: بذلك الماء، أو في ذلك البلد ﴿مِنْ كُلِّ﴾ أنواع ﴿الثَّمَراتِ﴾ والزروع ﴿كَذلِكَ﴾؛ أي: كما أخرجنا الثمرات بالماء ﴿نُخْرِجُ الْمَوْتى﴾ أحياء من قبورهم بعد فنائهم دروس آثارهم ﴿لَعَلَّكُمْ﴾ أيها المنكرون للبعث ﴿تَذَكَّرُونَ﴾ هذا الشبه، فيزول عنكم استبعادكم للبعث بنحو قولكم: ﴿مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ﴾ أو المعنى: لكي تعتبروا أيها المنكرون للبعث، وتتذكروا أن القادر على إحياء هذه الأرض بالأشجار المزينة بالأزهار والثمار بعد موتها قادر على أن يحيي الأجساد بعد موتها.
وحاصل معنى الآية: أن ربكم المدبر لأمور الخلق هو الذي يرسل الرياح بين يدي رحمته؛ أي: بين الأمطار وأمامها حال كونها مبشرات بها فينشيء بها سحابا ثقالا لكثرة ما فيها من الماء، حتى إذا أقلتها ورفعتها إلى الهواء ساقها لإحياء بلد ميت قد عفت مزارعه، ودرست مشاربه، وأجدب أهله. ونحو الآية قوله: ﴿وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحابًا فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذلِكَ النُّشُورُ (٩)﴾.
﴿فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ﴾؛ أي: فأنزلنا بالسحاب الماء؛ إذ قد ثبت أنه حينما يسخن الهواء القريب من سطوح البحار وغيرها بتأثير الحرارة.. يرتفع في الجو
وقد أثبت العلم ودلت المشاهدة: أن سكان الجبال الشامخة يبلغون في العلو حذاء السحاب الممطر، أو يتجاوزونه إلى ما فوقه، فيكون دونهم ﴿فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ﴾؛ أي: فأخرجنا بالماء أنواع الثمار على اختلاف طعومها وألوانها وروائحها، فتخرج كل أرض أنواعا مختلفة منها تدل على قدرة الله تعالى وعلمه، ورحمته وفضله كما قال: ﴿وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٤)﴾.
وبعد أن ذكرهم بهذه الآيات.. قفى على ذلك بما يزيل إنكارهم للبعث، فقال: ﴿كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى﴾؛ أي: ومثل هذا الإخراج لأنواع النبات من الأرض الميتة بإحيائها بالماء نخرج الموتى من الناس وغيرهم إذ القادر على هذا قادر على ذلك ﴿لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ هذا الشبه، فيزول استبعادكم للبعث بنحو قولكم: ﴿أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُرابًا وَعِظامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ﴾، وقولكم: ﴿أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُرابًا ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (٣)﴾.
فأمثال هذه المقالات الدالة على إنكار خروج الحي من الميت تزول إذا أنتم تذكرتم خروج النبات الحي من الأرض الميتة إذ لا فارق بين حياة النبات، وحياة الحيوان، فكل منهما خاضع لقدرة الإله القادر على كل شيء، والحياة في عرف المخاطبين كانت تعرف بالتغذي، والنمو في النبات، والحس والحركة
إعادة الموتى
جاء في الكتاب الكريم قوله: ﴿كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ﴾، وقوله: ﴿كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ﴾، وقوله: ﴿قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (٧٨) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (٧٩)﴾ فأثبت في هذه الآيات الإعادة، وشببها بالبدء، هو تشبيه في جملة ذلك، لا في تفصيله، فإنه كما خلق جسد الإنسان الأول خلقا ذاتيا مبتدأ، ونفخ فيه الروح يخلق أجسام أفراد الإنسان خلقا ذاتيا معادا، ثم ينفخ فيها أرواحها التي كانت بها أناسي في الحياة الدنيا، فما الأجساد إلا كالسكن للأرواح، وليس بالبعيد على خالق العالم كله أن يعيد أجساد ألوف الملايين دفعة واحدة.
وقرأ أبو عمرو وابن كثير ونافع والحسن والسلمي وأبو رجاء والأعرج وأبو جعفر وشيبة وعيسى بن عمر وأبو يحيى وأبو نوفل الأعرابيان (١): ﴿الرياح نُشُرا﴾ - جمعين بضم النون والشين - أرادوا جمع نشور، وهي الريح الطيبة الهبوب تهب من كل ناحية وجانب. وقرأ عبد الله وابن عباس وزر وابن وثاب والنخعي وطلحة بن مصرف والأعمش ومسروق وابن عامر وعبد الوارث والحسن البصري في رواية عنه: ﴿نُشْرا﴾ - بضم النون وسكون الشين - وهي في معنى ﴿نُشُرا﴾ - بضمتين - إلا أنهم سكنوا الشين تخفيفا من الضم كرسل في رسل. وقرأ حمزة والكسائي وخلف والمفضل عن عاصم: ﴿نَشْرا﴾ - بفتح النون وسكون الشين -. قال الفراء: النشر: الريح الطيبة اللينة التي تنشيء السحاب. وقال ابن الأنباري: النشر: المنتشرة الواسعة الهبوب. وقرأ أبو رجاء العطاردي وإبراهيم النخعي ومسروق في رواية عنهم ومورق العجلي: ﴿نَشَرا﴾ - بفتح النون والشين - إما جمع نشور كعمود وعمد، أو جمع ناشر كغائب وغيب وحافد وحفد. هذه
٥٨ - وبعد أن ضرب الله إحياء البلاد بالمطر مثلا لبعث الموتى.. ضرب اختلاف نتاج البلاد مثلا لما في البشر من اختلاف الاستعداد لكل من الهدى والكفر، والرشاد والغي، فقال: ﴿وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ﴾؛ أي: والأرض الطيبة التربة السهلة السمحة ﴿يَخْرُجُ نَباتُهُ﴾ ووافيا حسنا كثيرا غزير النفع ﴿بِإِذْنِ رَبِّهِ﴾؛ أي: بمشيئة الله تعالى وتيسيره بلا كد ولا عناء، كذلك المؤمن المخلص يؤدي ما أمر الله به بطيبة النفس ﴿وَالَّذِي خَبُثَ﴾؛ أي: والبلد الذي خبث أرضه السبخة ترابه ﴿لا يَخْرُجُ﴾ نباته ﴿إِلَّا نَكِدًا﴾؛ أي: إلا بتعب وعناء وكلفة، والمعنى: إلا حالة كونه قليلا عديم النفع. قال الشاعر في المعنى يذم إنسانا:
لا تنجز الوعد إن وعدت وإن | أعطيت أعطيت تافها نكدا |
ويدل (١) على صحة هذا التأويل ما روى الشيخان والنسائي وأحمد من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضا، فكان منها نقية قبلت الماء، فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكان منها أجادب التي تشرب ولا تنبت، أمسكت الماء، فنفع الله بها الناس، فشربوا وسقوا، وزرعوا، وأصاب طائفة أخرى منها إنما هي قيعان - أرض مستوية - لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه في دين الله، ونفعه ما بعثني الله به، فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا، ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به» وقد فسر النبي ﷺ القسم الأول؛ وهو الذي نفع وانتفع بالهادي المهتدي، وفسر القسم الثالث؛ وهو الذي لم ينفع ولم ينتفع بالجاحد، وسكت عن القسم الثاني؛ وهو الذي نفع غيره بعلمه، ولم ينتفع به هو؛ لأن له أحوالا كثيرة، فمنه المنافقون، ومنه المفرطون في دينهم، والمشاهدة تدل على أن الطيبي الأخلاق يفعلون الخير والبر بلا تكلف، وأن الخبيثين لا يفعلون الخير ولا يؤدون الواجب إلا نكدا بعد إلحاف أو إيذاء حين الطلب، أو إدلاء إلى الحكام.
وقرأ ابن أبي عبلة وأبو حيوة وعيسى بن عمر (٢): ﴿يُخْرَجُ نَباتُهُ﴾: - مبنيا للمفعول -؛ أي: يخرجه البلد. وقرأ ابن القعقاع: نَكَدا - بفتح الكاف - قال
(٢) البحر المحيط.
﴿كَذلِكَ﴾؛ أي: مثل ذلك التصريف البديع والتكرير العجيب ﴿نُصَرِّفُ الْآياتِ﴾؛ أي: نردد الآيات الدالة على القدرة القاهرة، والحكمة الباهرة، ونكررها ﴿لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ﴾ نعمتنا باستعمالها فيما تتم به حكمتنا، وبذلك يستحقون منا المزيد، ويكافؤون بالثواب عليها. وختم (١) هذه الآية بالشكر إذ كان موضوعها الاهتداء بالعلم والعمل والإرشاد، والآية التي قبلها بالتذكر لما كان موضوعها الاعتبار والاستدلال. وقرىء: ﴿يصرف﴾ - بالياء التحتية - مراعاة للغيبة في قوله: ﴿بِإِذْنِ رَبِّهِ﴾ ذكره أبو حيان.
الإعراب
﴿وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (٤٤)﴾.
﴿وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ﴾: فعل وفاعل ومضاف إليه، والجملة مستأنفة، وسيأتي مقابله بقوله: ﴿وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ...﴾ الخ. ﴿أَصْحابَ النَّارِ﴾: مفعول به ومضاف إليه. ﴿أَنْ﴾: مفسرة بمعنى: أي؛ لسبقها بجملة فيها معنى القول دون حروفه مبنية على السكون، وجملة الفعل بعدها جملة مفسرة لـ ﴿نادى﴾ لا محل لها من الإعراب، وإن شئت قلت: ﴿أَنْ﴾: مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن. ﴿قَدْ﴾: حرف تحقيق. ﴿وَجَدْنا﴾: فعل وفاعل، وجملة ﴿وَجَدْنا﴾: في محل الرفع خبر ﴿أَنْ﴾ المخففة، وجملة ﴿أَنْ﴾ المخففة: في محل النصب مفعول نادى، أو في محل الجر بجار محذوف تقديره: ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار بأنه قد وجدنا الخ. ﴿ما﴾: موصولة، أو موصوفة في محل النصب مفعول أول لـ ﴿وَجَدْنا﴾. ﴿وَعَدَنا رَبُّنا﴾: فعل ومفعول وفاعل، والجملة صلة لـ ﴿ما﴾،
﴿الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كافِرُونَ (٤٥)﴾.
﴿الَّذِينَ﴾: اسم موصول في محل الجر صفة لـ ﴿الظَّالِمِينَ﴾. ﴿يَصُدُّونَ﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول. ﴿عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿يَصُدُّونَ﴾. ﴿وَيَبْغُونَها﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة معطوفة على جملة ﴿يَصُدُّونَ﴾. ﴿عِوَجًا﴾: حال من الهاء في ﴿يَبْغُونَها﴾، ولكنها في تأويل معوجة، ويصح كونه مفعولا ثانيا. ﴿وَهُمْ﴾: مبتدأ. ﴿بِالْآخِرَةِ﴾: جار ومجرور متعلق
﴿وَبَيْنَهُما حِجابٌ وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيماهُمْ وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ (٤٦)﴾.
﴿وَبَيْنَهُما﴾: ظرف ومضاف إليه خبر مقدم. ﴿حِجابٌ﴾: مبتدأ مؤخر، والجملة مستأنفة. ﴿وَعَلَى الْأَعْرافِ﴾: جار ومجرور خبر مقدم. ﴿رِجالٌ﴾: مبتدأ مؤخر، والجملة معطوفة على الجملة التي قبلها. ﴿يَعْرِفُونَ كُلًّا﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل الرفع صفة لـ ﴿رِجالٌ﴾. ﴿بِسِيماهُمْ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿يَعْرِفُونَ﴾. ﴿وَنادَوْا﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. ﴿أَصْحابَ الْجَنَّةِ﴾: مفعول به ومضاف إليه. ﴿أَنْ﴾: تفسيرية بمعنى أي مبنية على السكون. ﴿سَلامٌ عَلَيْكُمْ﴾: مبتدأ وخبر، وسوغ الابتداء بالنكرة وقوعه في معرض الدعاء، والجملة الاسمية جملة مفسرة لجملة ﴿نادَوْا﴾ لا محل لها من الإعراب، وإن شئت قلت: ﴿أَنْ﴾ مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن أنه سلام عليكم، والجملة من المبتدأ والخبر في محل الرفع خبرها، وجملة ﴿أَنْ﴾ المخففة في محل النصب مفعول ﴿نادَوْا﴾؛ أي: نادوهم أنه سلام عليكم، أو في محل الجر بحرف جر محذوف تقديره: نادوهم بأنه سلام عليكم. ﴿لَمْ يَدْخُلُوها﴾: جازم وفعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل النصب حال من فاعل ﴿نادَوْا﴾، أو مستأنفة استئنافا بيانيا كأنه قيل: ما صنع بأصحاب الأعراف.. فقيل: لم يدخلوها. ﴿وَهُمْ﴾: مبتدأ، وجملة ﴿يَطْمَعُونَ﴾ خبره، والجملة الاسمية في محل النصب حال من فاعل ﴿يَدْخُلُوها﴾.
﴿وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ قالُوا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٤٧)﴾.
﴿وَإِذا﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية ﴿إِذا﴾: ظرف لما يستقبل من الزمان. ﴿صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ﴾: فعل ونائب فاعل، والجملة في محل الخفض بإضافة ﴿إِذا﴾ إليها على كونها فعل شرط لها، والظرف متعلق بالجواب الآتي. ﴿تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ﴾: ظرف
﴿وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ رِجالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ قالُوا ما أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (٤٨)﴾.
﴿وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ﴾: فعل وفاعل ومضاف إليه، والجملة مستأنفة. ﴿رِجالًا﴾: مفعول به. ﴿يَعْرِفُونَهُمْ﴾: فعل وفاعل ومفعول. ﴿بِسِيماهُمْ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿يعرفون﴾، وجملة ﴿يَعْرِفُونَهُمْ﴾: صفة لـ ﴿رِجالًا﴾، ولكنها سببية. ﴿قالُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة الفعلية بدل من جملة نادى بدل كل من كل. ﴿ما أَغْنى عَنْكُمْ﴾: إلى آخر الآية التالية مقول محكي لـ ﴿قالُوا﴾، وإن شئت قلت: ﴿ما﴾: استفهامية استفهام توبيخ في محل الرفع مبتدأ. ﴿أَغْنى﴾: فعل ماض. ﴿عَنْكُمْ﴾: متعلق به. ﴿جَمْعُكُمْ﴾: فاعل ومضاف إليه. ﴿وَما﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿ما﴾: مصدرية. ﴿كُنْتُمْ﴾: فعل ناقص واسمه، وجملة ﴿تَسْتَكْبِرُونَ﴾ خبرها، وجملة ﴿كان﴾ صلة ﴿ما﴾ المصدرية، ﴿ما﴾ مع صلتها في تأويل مصدر معطوف على ﴿جَمْعُكُمْ﴾ على كونه فاعل ﴿أَغْنى﴾ تقديره: ما أغنى عنكم جمعكم، وكونكم مستكبرين، أو استكباركم عن الحق، وجملة ﴿أَغْنى﴾ في محل الرفع خبر ﴿ما﴾ الاستفهامية، وجملة ﴿ما﴾ الاستفهامية في محل النصب مقول ﴿قالُوا﴾.
﴿أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (٤٩)﴾.
﴿أَهؤُلاءِ﴾ ﴿الهمزة﴾: للاستفهام التقريري التوبيخي، ﴿هؤُلاءِ﴾: مبتدأ.
﴿وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ (٥٠)﴾.
﴿وَنادى أَصْحابُ النَّارِ﴾: فعل وفاعل ومضاف إليه. ﴿أَصْحابَ الْجَنَّةِ﴾: مفعول به ومضاف إليه، والجملة الفعلية مستأنفة. ﴿أَنْ﴾: مفسرة. ﴿أَفِيضُوا﴾: فعل وفاعل. ﴿عَلَيْنا﴾: متعلق به، والجملة الفعلية مفسرة لجملة نادى لا محل لها من الإعراب، وإن شئت قلت: ﴿أَنْ﴾ مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن، وجملة ﴿أَفِيضُوا﴾ في محل الرفع خبرها، وجملة ﴿أَنْ﴾ المخففة في محل النصب مفعول ﴿نادى﴾، والتقدير: ونادى أصحاب النار أنه أفيضوا علينا، أو في محل الجر بجار محذوف تقديره: ونادى أصحاب النار بأنه أفيضوا علينا. ﴿مِنَ الْماءِ﴾: جار ومجرور صفة لمفعول محذوف تقديره: أن أفيضوا علينا شيئا من الماء. ﴿أَوْ مِمَّا﴾: جار ومجرور معطوف على الجار والمجرور قبله تقديره: أو أفيضوا علينا شيئا مما رزقكم الله تعالى. ﴿رَزَقَكُمُ اللَّهُ﴾: فعل ومفعول وفاعل، والجملة صلة لـ ﴿ما﴾، أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: مما رزقكم الله إياه.
﴿الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا وَما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (٥١)﴾.
﴿الَّذِينَ﴾: صفة لـ ﴿الْكافِرِينَ﴾: ﴿اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا﴾: فعل وفاعل ومفعولان. ﴿وَلَعِبًا﴾: معطوف على ﴿لَهْوًا﴾، والجملة صلة الموصول. ﴿وَغَرَّتْهُمُ﴾: فعل ومفعول. ﴿الْحَياةُ﴾: فاعل. ﴿الدُّنْيا﴾: صفة لـ ﴿الْحَياةُ﴾، والجملة معطوفة على جملة الصلة. ﴿فَالْيَوْمَ﴾ ﴿الفاء﴾: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفت حالهم ودينهم، وأردت بيان عاقبتهم.. فأقول لك، ﴿اليوم﴾: منصوب على الظرفية الزمانية متعلق بـ ﴿نَنْساهُمْ﴾. ﴿نَنْساهُمْ﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. ﴿كَما﴾: ﴿الكاف﴾: حرف جر، ﴿ما﴾: مصدرية. ﴿نَسُوا﴾: فعل وفاعل. ﴿لِقاءَ يَوْمِهِمْ﴾: مفعول به ومضاف إليه. هذا: في محل الجر صفة لـ ﴿يَوْمِهِمْ﴾، والجملة الفعلية صلة لـ ﴿ما﴾ المصدرية، ﴿ما﴾ مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بالكاف تقديره: كنسيانهم يومهم هذا، الجار والمجرور صفة لمصدر محذوف تقديره: فاليوم ننساهم نسيانا كنسيانهم يومهم هذا. ﴿وَما كانُوا﴾: ﴿الواو﴾ عاطفة. ﴿ما﴾: مصدرية. ﴿كانُوا﴾: فعل ناقص واسمه. ﴿بِآياتِنا﴾: متعلق بـ ﴿يَجْحَدُونَ﴾، وجملة ﴿يَجْحَدُونَ﴾ في محل النصب خبر ﴿كان﴾، وجملة ﴿كان﴾ صلة ﴿ما﴾ المصدرية. ﴿ما﴾ مع صلتها في تأويل مصدر معطوف على مصدر منسبك من ﴿ما﴾ الأولى والتقدير: ننساهم نسيانا كنسيانهم لقاء يومهم، وكونهم منكرين أن الآيات من عند الله تعالى، ويجوز أن تكون الكاف للتعليل؛ أي فاليوم نتركهم لأجل نسيانهم وجحودهم، والتعليل
﴿وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٥٢)﴾.
﴿وَلَقَدْ﴾ ﴿الواو﴾ استئنافية، ﴿اللام﴾: موطئة للقسم، ﴿قد﴾: حرف تحقيق. ﴿جِئْناهُمْ﴾: فعل وفاعل ومفعول. ﴿بِكِتابٍ﴾: متعلق به، والجملة الاسمية جواب القسم لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم مستأنفة. ﴿فَصَّلْناهُ﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة الفعلية في محل الجر صفة لـ ﴿كتاب﴾. ﴿عَلى عِلْمٍ﴾: جار ومجرور حال من فاعل ﴿فصلنا﴾؛ أي: حالة كوننا متلبسين بعلم، أو من المفعول؛ أي: حالة كون ذلك الكتاب مشتملا على علم. ﴿هُدىً وَرَحْمَةً﴾ إما حال من هاء ﴿فَصَّلْناهُ﴾؛ أي: فصلناه حالة كونه هاديا وذا رحمة للمؤمنين، أو حالا من ﴿كتاب﴾، وجاز مجيء الحال منه لتخصصه بالوصف، أو منصوبان على أنهما مفعولان لأجله؛ أي: فصلناه لأجل الهداية والرحمة للمؤمنين. ﴿لِقَوْمٍ﴾: جار ومجرور تنازع فيه كل من ﴿هُدىً وَرَحْمَةً﴾، وجملة ﴿يُؤْمِنُونَ﴾ صفة لـ ﴿قوم﴾.
﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ﴾.
﴿هَلْ﴾ حرف للاستفهام الإنكاري. ﴿يَنْظُرُونَ﴾: فعل وفاعل. ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ. ﴿تَأْوِيلَهُ﴾: مفعول به ومضاف إليه، والجملة الفعلية مستأنفة. ﴿يَوْمَ﴾: منصوب على الظرفية الزمانية متعلق بـ ﴿يَقُولُ﴾ الآتي. ﴿يَأْتِي تَأْوِيلُهُ﴾: فعل وفاعل، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿يَوْمَ﴾. ﴿يَقُولُ الَّذِينَ﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. ﴿نَسُوهُ﴾ فعل وفاعل ومفعول. ﴿مِنْ قَبْلُ﴾: جار ومجرور متعلق به، والجملة الفعلية صلة الموصول لا محل لها من الإعراب. ﴿قَدْ جاءَتْ رُسُلُ﴾ إلى قوله: ﴿قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ﴾ مقول محكي لـ ﴿يَقُولُ﴾، وإن شئت قلت: ﴿قَدْ﴾: حرف تحقيق. ﴿جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا﴾: فعل وفاعل ومضاف إليه، والجملة في محل النصب مقول لـ ﴿يَقُولُ﴾. ﴿بِالْحَقِّ﴾: جار ومجرور حال
﴿فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ﴾.
﴿فَهَلْ﴾ ﴿الفاء﴾: عاطفة، ﴿هل﴾: حرف للاستفهام الاستخباري، وفيه معنى التمني. ﴿لَنا﴾: جار ومجرور خبر مقدم. ﴿مِنْ شُفَعاءَ﴾: مبتدأ مؤخر، و ﴿مِنْ﴾ زائدة، والجملة الاسمية في محل النصب معطوفة على جملة: ﴿قَدْ جاءَتْ﴾ على كونها مقولا لـ ﴿يَقُولُ﴾. ﴿فَيَشْفَعُوا﴾: فعل وفاعل منصوب بأن مضمرة وجوبا بعد الفاء السببية الواقعة في جواب الاستفهام. ﴿لَنا﴾: جار ومجرور متعلق به، والجملة الفعلية صلة أن المضمرة، أن مع صلتها في تأويل مصدر معطوف على مصدر متصيد من الجملة التي قبلها من غير سابك لإصلاح المعنى تقديره: فهل لنا ثبوت شفعاء فشفاعتهم لنا. ﴿أَوْ﴾: حرف عطف وتفصيل. ﴿نُرَدُّ﴾ فعل مضارع مرفوع، وفاعله ضمير يعود على المتكلمين، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة قوله: ﴿فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ﴾ والتقدير: فهل لنا من شفعاء، أو هل نرد إلى الدنيا. ﴿فَنَعْمَلَ﴾: فعل مضارع منصوب بأن مضمرة وجوبا بعد الفاء السببية الواقعة في جواب الاستفهام، وفاعله ضمير يعود على المتكلمين، والجملة الفعلية صلة أن المضمرة، أن مع صلتها في تأويل مصدر معطوف على مصدر متصيد من الجملة التي قبلها من غير سابك لإصلاح المعنى تقديره: فهل يوجد لنا رد إلى الدنيا فعملنا غير الذي كنا نعمل. ﴿غَيْرَ الَّذِي﴾: مفعول به ومضاف إليه. ﴿كُنَّا﴾: فعل ناقص واسمه، وجملة ﴿نَعْمَلُ﴾ في محل النصب خبر ﴿كان﴾، وجملة ﴿كان﴾ صلة الموصول، والعائد محذوف تقديره: غيره الذي كنا نعلمه.
﴿قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ﴾.
﴿قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة مستأنفة. ﴿وَضَلَّ﴾: فعل ماض. ﴿عَنْهُمْ﴾: متعلق به. ﴿ما﴾ موصولة، أو مصدرية. ﴿كانُوا﴾: فعل ناقص واسمه، وجملة ﴿يَفْتَرُونَ﴾ في محل النصب خبر ﴿كان﴾، وجملة ﴿كان﴾
﴿إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا﴾.
﴿إِنَّ﴾: حرف نصب. ﴿رَبَّكُمُ﴾: اسمها. ﴿اللَّهُ﴾: خبرها، والجملة مستأنفة. ﴿الَّذِي﴾: صفة للجلالة. ﴿خَلَقَ﴾: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على الموصول، والجملة صلة الموصول. ﴿السَّماواتِ﴾: مفعول به. ﴿وَالْأَرْضَ﴾: معطوف عليه. ﴿فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿خَلَقَ﴾. ﴿ثُمَّ﴾: حرف عطف وترتيب. ﴿اسْتَوى﴾: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على الموصول. ﴿عَلَى الْعَرْشِ﴾: متعلق به، والجملة الفعلية معطوفة على جملة الصلة. ﴿يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ﴾: فعل ومفعولان، وفاعله ضمير يعود على ﴿اللَّهُ﴾، والجملة في محل النصب حال من فاعل ﴿خَلَقَ﴾، فالآية الكريمة من باب أعطيت زيدا عمرا؛ لأن كلا من الليل والنهار يصلح أن يكون غاشيا ومغشيا، فوجب جعل الليل في قراءة الجماعة هو الفاعل المعنوي، والنهار هو المفعول من غير عكس اه «سمين». ﴿يَطْلُبُهُ﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على ﴿اللَّيْلَ﴾، والضمير البارز يعود على ﴿النَّهارَ﴾، والجملة في محل النصب حال من فاعل ﴿يطلب﴾ ﴿حَثِيثًا﴾: صفة لمصدر محذوف تقديره: يطلبه طلبا حثيثا؛ أي: سريعا.
﴿وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (٥٤) ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (٥٥)﴾.
﴿وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ﴾: معطوفات على ﴿السَّماواتِ﴾. ﴿مُسَخَّراتٍ﴾ حال من الثلاثة. ﴿بِأَمْرِهِ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿مُسَخَّراتٍ﴾. ﴿أَلا﴾: حرف استفهام وتنبيه. ﴿لَهُ﴾: خبر مقدم. ﴿الْخَلْقُ﴾: مبتدأ مؤخر. ﴿وَالْأَمْرُ﴾:
﴿وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٥٦)﴾.
﴿وَلا﴾ الواو عاطفة. ﴿لا﴾: ناهية جازمة. ﴿تُفْسِدُوا﴾: فعل وفاعل مجزوم بـ ﴿لا﴾ الناهية، والجملة مستأنفة. ﴿فِي الْأَرْضِ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿لا تُفْسِدُوا﴾. ﴿بَعْدَ إِصْلاحِها﴾: ظرف ومضاف إليه متعلق بـ ﴿تُفْسِدُوا﴾ أيضا. ﴿وَادْعُوهُ﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة معطوفة على جملة قوله: ﴿وَلا تُفْسِدُوا﴾. ﴿خَوْفًا وَطَمَعًا﴾: حالان من واو ﴿ادْعُوهُ﴾، ولكن بعد تأويلهما بمشتق تقديره: ﴿وَادْعُوهُ﴾ تعالى حالة كونكم خائفين من عقابه وطامعين في رحمته. ﴿إِنَّ﴾: حرف نصب. ﴿رَحْمَتَ اللَّهِ﴾: اسمها ومضاف إليه. ﴿قَرِيبٌ﴾ خبرها. ﴿مِنَ الْمُحْسِنِينَ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿قَرِيبٌ﴾؛ لأنه صفة مشبهة، وجملة ﴿إِنَّ﴾ مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها.
﴿وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ﴾.
﴿وَهُوَ الَّذِي﴾: مبتدأ وخبر، والجملة مستأنفة، أو معطوفة على جملة قوله: ﴿إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ﴾. ﴿يُرْسِلُ الرِّياحَ﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الموصول، والجملة صلة الموصول. ﴿بُشْرًا﴾: حال من ﴿الرِّياحَ﴾؛ أي: حالة كونها مبشرات أو ناشرات. ﴿بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ﴾: ظرف ومضاف إليه متعلق بـ ﴿يُرْسِلُ﴾.
﴿حَتَّى﴾: ابتدائية غائية. ﴿إِذا﴾: ظرف لما يستقبل من الزمان. ﴿أَقَلَّتْ﴾: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على ﴿الرِّياحَ﴾. ﴿سَحابًا﴾: مفعول به. ﴿ثِقالًا﴾: صفة لـ ﴿سَحابًا﴾، والجملة الفعلية في محل الخفض على كونها فعل شرط لها، والظرف متعلق بالجواب الآتي. ﴿سُقْناهُ﴾: فعل وفاعل ومفعول به. ﴿لِبَلَدٍ﴾: متعلق بـ ﴿سقنا﴾. ﴿مَيِّتٍ﴾: صفة ﴿لِبَلَدٍ﴾، والجملة جواب إِذا لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿إِذا﴾ مستأنفة في اللفظ غاية لما قبلها في المعنى. ﴿فَأَنْزَلْنا﴾: فعل وفاعل معطوف على ﴿سقنا﴾. ﴿بِهِ﴾: متعلق بـ ﴿أنزلنا﴾. ﴿الْماءَ﴾: مفعول به. ﴿فَأَخْرَجْنا﴾: فعل وفاعل معطوف على ﴿أنزلنا﴾. بِهِ: متعلق بـ ﴿أخرجنا﴾. ﴿مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿أخرجنا﴾ أيضا. ﴿كَذلِكَ﴾: جار ومجرور صفة لمصدر محذوف تقديره: ﴿نُخْرِجُ الْمَوْتى﴾ من قبورهم إخراجا مثل إخراج الثمرات من الأرض. ﴿نُخْرِجُ﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة مستأنفة. ﴿لَعَلَّكُمْ﴾: ناصب واسمه، ﴿تَذَكَّرُونَ﴾ خبرها، وجملة ﴿لعل﴾ مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها.
﴿وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (٥٨)﴾.
﴿وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ﴾: مبتدأ وصفة. ﴿يَخْرُجُ نَباتُهُ﴾: فعل وفاعل، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة. ﴿بِإِذْنِ رَبِّهِ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه حال من فاعل ﴿يَخْرُجُ﴾. ﴿وَالَّذِي﴾: مبتدأ. ﴿خَبُثَ﴾: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على الموصول، والجملة صلة الموصول. ﴿لا﴾: نافية. ﴿يَخْرُجُ﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على النبات، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية معطوفة على جملة قوله: ﴿وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ﴾. ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ. ﴿نَكِدًا﴾: حال من فاعل ﴿يَخْرُجُ﴾. ﴿كَذلِكَ﴾: جار ومجرور صفة لمصدر محذوف تقديره: ونصرف الآيات
التصريف ومفردات اللغة
﴿وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ﴾ والنداء: رفع الصوت لطلب الإقبال ﴿ما وَعَدَنا﴾ والوعد: خاص بما كان في الخير أو يشمل الخير والشر، وهو الصحيح، والوعيد: خاص بالشر أو السوء، فتسمية ما كان لأهل النار وعدا؛ إما من قبيل التهكم، أو للمشاكلة.
﴿نَعَمْ﴾: هي حرف جواب كأجل وجير وإي وبلى، ونقيضها لا، ونعم لتكون لتصديق الأخبار، أو إعلام استخبار، أو وعد طالب، وقد يجاب بها النفي المقرون باستفهام، وهو قليل جدا، وتبدل عينها حاء، وهي لغة فاشية كما تبدل حاء حتى عينا، وكسر عينها لغة قريش. اه «سمين».
﴿فَأَذَّنَ﴾ التأذين: رفع الصوت بالإعلام بالشيء. ﴿أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ﴾ اللعنة: الطرد والإبعاد مع الخزي والإهانة.
﴿الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ يقال: صد عن الشيء يصد - بضم الصاد - صدودا أعرض عنه، وصده عن الأمر إذا منعه، وصرفه عنه من باب رد، فهو يتعدى ولا يتعدى.
﴿عِوَجًا﴾؛ أي: ذات عوج؛ أي: غير مستوية ولا مستقيمة حتى لا يسلكها أحد والعوج - بالكسر - يكون في المعاني كالملة والدين والرأي والقول، ويكون في الأعيان ما لم يكن منتصبا، وبالفتح مختص بالأعيان المنتصبة كالرمح والحائط كما في «أبي السعود».
﴿حِجابٌ﴾ والحجاب: هو السور الذي بين الجنة والنار كما قال في سورة الحديد: ﴿فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ﴾.
والتلقاء جهة اللقاء؛ وهي جهة المقابلة يقال: فلان تلقاء فلان إذا كان حذاءه، ويستعمل تلقاء ظرف مكان كما هنا، ويستعمل (١) مصدرا كالتبيان، ولم يجىء من المصادر على التفعال بالكسر غير التلقاء والتبيان والزلزال، وإنما يجيء ذلك في الأسماء نحو التمثال والتمساح والتصفار، وانتصاب ﴿تِلْقاءَ﴾ ههنا على الظرف؛ أي: ناحية أصحاب النار.
﴿أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ﴾ إفاضة الماء: صبه، ثم استعملت في الشيء الكثير، فيقال: فاض الرزق والخير، وأفاض عليه النعم، وقالوا: أعطاه غيضا من فيض؛ أي: قليلا من كثير، وما رزقهم الله يشمل الطعام والأشربة غير الماء.
﴿لَهْوًا وَلَعِبًا﴾ اللهو (٢): صرف الهم بما لا يحسن أن يصرف به، واللعب: طلب الفرح بما لا يحسن أن يطلب كما مر به ذكره «البيضاوي». ﴿بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ﴾ الكتاب: هو القرآن الكريم، والتفصيل جعل المسائل المراد بيانها مفصولا بعضها من بعض بما يزيل اشتباهها.
﴿إِلَّا تَأْوِيلَهُ﴾ وتأويل الشيء: عاقبته ومرجعه ومصيره الذي يؤول ذلك الشيء إليه.
﴿إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ﴾ والرب (٣): هو السيد والمالك والمدبر والمربي، والإله هو المعبود الذي يدعى لكشف الضر،
(٢) البيضاوي.
(٣) المراغي.
﴿ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ﴾ والاستواء لغة: استقامة الشيء واعتداله، واستوى الملك على عرشه؛ أي: ملك، وثل عرشه؛ أي: هلك، واستوى هنا بمعنى علا وارتفع استواء يليق به سبحانه وتعالى. والعرش لغة: كل شيء له سقف، ويطلق على هودج للمرأة يشبه عريش الكرم، وعلى سرير الملك وكرسيه في مجلس الحكم والتدبير، وعرش الرحمن من أعظم المخلوقات محيطا بالسموات والأرض وما بينهما وما عليهما.
﴿يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ﴾ يقال: غشي الشيء الشيء ستره وغطاه، وأغشاه إياه جعله يغشاه؛ أي: يغطيه ويستره، ومنه إغشاء الليل النهار.
﴿حَثِيثًا﴾؛ أي: مسرعا من قولهم: فرس حثيث السير؛ أي: سريعه، والحث: (١) الإعمال والسرعة، والحمل على فعل الشيء كالحض عليه، فالحث
﴿مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ﴾؛ أي: مذللات لما يراد منها طلوع وغروب، ومسير ورجوع بأمره؛ أي: بتدبيره وتصرفه. ﴿أَلا لَهُ الْخَلْقُ﴾ الخلق: التقدير، والمراد هنا الإيجاد بقدر ﴿تَبارَكَ اللَّهُ﴾؛ أي: تعاظمت بركاته وكثرت، والبركة: الخير الثابت الكثير، وهو فعل ماض جامد لا يتصرف؛ أي: لم يجئ منه مضارع ولا أمر، ولا اسم فاعل.
﴿تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾ التضرع: التذلل؛ وهو إظهار ذل النفس من قولهم: ضرع فلان لفلان وتضرع إذا أظهر الذل له في معرض السؤال، والخفية: ضد العلانية من أخفيت الشي؛ أي: سترته، والاعتداء: تجاوز الحد، ومحبة الله للعمل: إثابته عليه، ومحبته للعامل: رضاه عنه.
﴿خَوْفًا وَطَمَعًا﴾ أصل الخوف: انزعاج في الباطن يحصل من توقع أمر مكروه يقع في المستقبل، والطمع: توقع محبوب يحصل في المستقبل.
﴿وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ﴾ والرياح (١): جمع ريح؛ وهي الهواء المتحرك، وأصل ريح روح، والرياح عند العرب أربع بحسب مهابها من الجهات الأربع: الشمال والجنوب، وسميا كذلك باسم الجهة التي يهبان منها، والصبا أو القبول؛ وهي الشرقية، وقد ينسبونها إلى نجد كما ينسبون الجنوب إلى اليمن، والشمال إلى الشام، والدبور؛ وهي الغربية، والريح التي تنحرف عن الجهات الأصلية، فتكون بين اثنتين منها تسمى النكباء. قال الراغب: كل موضع ذكر الله فيه إرسال الريح بلفظ الواحد كان للعذاب، وكل موضع ذكر فيه بلفظ الجمع كان للرحمة. وفي الخبر أنه ﷺ كان يجثو على ركبته حين هبوب الرياح، ويقول: «اللهم اجعلها لنا رياحا، ولا تجعلها ريحا، اللهم لا تقتلنا بغضبك، ولا تهلكنا
﴿بُشْرًا﴾ - بسكون الشين - مخفف بشرا بضمتين واحدها بشير بمعنى مبشرة، كغدر جمع غدير، نشرا بسكون الشين مع النون مخفف نشرا بضمتين، جمع نشور بمعنى منشورة غير مطوية، كرسول يجمع على رسل، والرحمة هنا المطر.
﴿حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ﴾؛ أي: رفعت يقال: أقل (٢) الشيء حمله ورفعه من غير مشقة، ومنه إقلال البطن عن الفخذ في الركوع والسجود، ومنه القلة؛ لأن البعير يحملها من غير مشقة، وأصله من القلة، فكأن المقل يرى ما يرفعه قليلا، واستقل به أقله. وفي «المصباح»: كل شيء حملته، فقد أقللته. والسحاب: الغيم، واحده سحابة، والسحاب (٣) اسم جنس جمعي تصح مراعاة لفظه ومراعاة معناه، فالثاني في قوله: ﴿ثِقالًا﴾ والأول في قوله: ﴿سُقْناهُ﴾، والثقال منه: المشبعة ببخار الماء و ﴿سُقْناهُ﴾ سيرناه، وقال أبو حيان: والسوق حمل الشيء بعنف.
﴿لِبَلَدٍ مَيِّتٍ﴾ وفي «المصباح»: البلد: يذكر ويؤنث، والجمع بلدان، والبلدة البلد، وجمعها بلاد مثل كلبة وكلاب. اه. وقال المراغي: والبلد (٤) والبلدة الموضع من الأرض عامرا كان أو خلاء، وبلد ميت أرض لا نبات فيها ولا مرعى. وفي «القاموس»: والبلد والبلدة: مكة، وكل قطعة من الأرض متحيزة عامرة أو غير عامرة، والتراب والبلد القبر والمقبرة والدار والأثر الخ. اه.
﴿مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ﴾ واحدها: ثمرة، والثمرة: واحدة الثمر، وهو الحمل
(٢) البحر المحيط.
(٣) الفتوحات.
(٤) المراغي.
﴿إِلَّا نَكِدًا﴾ والنكد: كل شيء خرج إلى طالبه بتعسر يقال: رجل نكد - بفتح الكاف وكسرها - وناقة نكداء خفيفة الدر صعبة الحلب. وفي «المصباح»: نكد نكدا - من باب تعب - فهو نكد تعسر، ونكد العيش نكدا اشتد وعسر. اه. وفي «القاموس»: نكد عيشهم - كفرح - اشتد وعسر، والبئر قل ماؤها، ونكد زيد حاجة عمرو - كنصر - منعه إياها، ونكد فلانا منعه ما سأله، أو لم يعطه إلا أوله اه. ونكد الرجل (١): سئل إلحافا وأخجل، قال الشاعر:
وأعط ما أعطيته طيّبا | لا خير في المنكود والنّاكد |
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات ضروبا من البلاغة والفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: المقابلة في قوله: ﴿وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ﴾ لأنه قابل الجمع بالجمع، والقاعدة: أن الجمع إذا قوبل بالجمع يوزع الفرد على الفرد، فكل فريق من أهل الجنة ينادي من كان يعرفه من الكفار في دار الدنيا.
ومنها: المشاكلة في قوله: ﴿ما وَعَدَ رَبُّكُمْ﴾ لأنه عبر عن الوعيد بالوعد لمشاكلة ما قبله.
ومنها: التعبير بالماضي عما في المستقبل، في قوله: ﴿وَنادى﴾ إشعارا بتحقق وقوعه؛ لأن النداء إنما يكون في الآخرة.
ومنها: جناس الاشتقاق في قوله: ﴿فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ﴾. وفيه أيضا الإبهام إفادة
ومنها: الاستعارة التصريحية في قوله: ﴿حَرَّمَهُما﴾؛ لأنه استعار التحريم للمنع لانقطاع التكليف حينئذ، وفي قوله: ﴿لِبَلَدٍ مَيِّتٍ﴾؛ لأنه شبه البلد المجدب الذي لا نبات فيه بالجسد الذي لا روح فيه بجامع عدم الانتفاع في كل على طريق الاستعارة التصريحية.
ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: ﴿فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا﴾ وفي «زاده»: فشبه (١) معاملته تعالى مع الكفار بمعاملة من نسي عبده من الخير، ولم يلتفت إليه وشبه عدم إخطارهم لقاء الله ببالهم، وعدم مبالاتهم به بحال من عرف شيئا ونسيه، وكثر مثل هذه الاستعارات في القرآن؛ لأن تعليم المعاني التي في عالم الغيب لا يمكن أن يعبر عنها إلا بما يماثلها من عالم الشهادة. اه. وفي قوله: ﴿وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا﴾؛ لأنه شبه شغلهم بالدنيا بالطمع في طول العمر، وحسن العيش بغرور من يخدع في البيع مثلا، بجامع عدم الوصول إلى المقصود في الكل، وفي قوله: ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ﴾؛ لأنه شبه لحوق (٢) وعيده لهم، وعدم فرارهم منه بانتظار الشيء وترقبه، فعبر عنه بالانتظار.
ومنها: الالتفات في قوله: ﴿سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ﴾؛ لأنه التفت عن الغيبة في قوله: ﴿وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ﴾ إلى التكلم في قوله: ﴿فَسُقْناهُ﴾.
ومنها: التتميم في قوله: ﴿وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ...﴾ الخ؛ لأنه لما قال أولا: ﴿فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ﴾ تمم هذا المعنى ببيان كيفية ما يخرج من النبات من الأرض الكريمة والسبخة.
ومنها: تخصيص خروج النبات الطيب بقوله: ﴿بِإِذْنِ رَبِّهِ﴾ على سبيل
(٢) الفتوحات.
ومنها: الكناية في قوله: ﴿بِإِذْنِ رَبِّهِ﴾؛ أي: بمشيئته؛ لأنه كناية عن كثرة النبات وحسنه وغزارة نفعه، لأنه أوقعه في مقابلة قوله: ﴿وَالَّذِي خَبُثَ﴾.
ومنها: الطباق بين قوله: ﴿وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ﴾ وقوله: ﴿وَالَّذِي خَبُثَ﴾.
ومنها: التشبيه المرسل المجمل في قوله: ﴿كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى﴾؛ لأنه شبه قيام الموتى من قبورهم بإخراج النبات من الأرض، فذكرت الأداة، ولم يذكر وجه الشبه، وهو مطلق الإخراج من العدم.
ومنها: إيجاز القصر في قوله: ﴿أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ﴾ وهو جمع الألفاظ القليلة للمعاني الكثيرة، فالآية مع قلة ألفاظها جمعت معاني كثيرة استوعبت جميع الأشياء والشؤون على وجه الاستقصاء حتى قال ابن عمر: من بقي له شيء.. فليطلبه، وهذا الأسلوب البليغ يسمى إيجاز قصر.
ومنها: الاكتفاء في قوله: ﴿يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ﴾ وهو حذف أحد المتقابلين لعلمه من الآخر؛ لأن فيه محذوفا تقديره: ويغشي النهار الليل، وذكره في آية أخرى، فقال: ﴿يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ﴾.
ومنها: التكرار في قوله: ﴿وَنادى﴾ ﴿وَنادى﴾، وفي قوله: ﴿تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ﴾.
ومنها: جناس الاشتقاق في قوله: ﴿مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا﴾.
ومنها: الجناس المماثل في قوله: ﴿فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا﴾.
ومنها: الاستفهام التوبيخي في مواضع.
ومنها: الإنكاري في قوله: ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ﴾.
ومنها: الإضافة للتشريف في قوله: ﴿رُسُلُ رَبِّنا﴾.
ومنها: القصر في قوله: ﴿أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ﴾
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
﴿لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحًا إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (٥٩) قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٦٠) قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٦١) أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٦٢) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٦٣) فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمًا عَمِينَ (٦٤) وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُودًا قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (٦٥) قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٦٦) قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٦٧) أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ (٦٨) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٦٩) قالُوا أَجِئْتَنا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ ما كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٧٠) قالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجادِلُونَنِي فِي أَسْماءٍ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما نَزَّلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (٧١) فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنا دابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَما كانُوا مُؤْمِنِينَ (٧٢) وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحًا قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٧٣) وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٧٤)﴾.
المناسبة
قوله تعالى: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحًا إِلى قَوْمِهِ...﴾ الآيات، مناسبة (١) هذه الآية
وعبارة المراغي هنا: أنه سبحانه وتعالى لما ذكر (١) مبدأ الإنسان ومعاده، وأن مرده إلى الله في يوم تجازى فيه كل نفس بما كسبت.. أردف ذلك بذكر قصص الأنبياء مع أممهم، وإعراضهم عن دعوتهم؛ ليبين للرسول أن الإعراض عن قبول دعوة الأنبياء ليس ببدء في قومك، بل سبق به أقوام كثيرون، وفي ذلك تسلية له ﷺ إلى ما فيه من التنبيه إلى أن الله تعالى لا يهمل أمر المبطلين، بل يمهلهم، وتكون العاقبة للمتقين، ومن العظة والاعتبار بما حل بمن قبلهم من النكال والوبال كما قال: ﴿لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ﴾.
وفي «الخازن»: واعلم أن (٢) الله تبارك وتعالى لما ذكر في الآيات المتقدمة دلائل آثار قدرته، وغرائب خلقه وصنعته الدالة على توحيده وربوبيته، وأقام الدلالة القاطعة على صحة البعث بعد الموت.. أتبع ذلك بقصص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وما جرى لهم مع أممهم، وفي ذلك تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لم يكن الإعراض عن قبول الحق من قومه فقط، بل قد أعرض عنه سائر الأمم الخالية، والقرون الماضية، وفيه تنبيه على أن عاقبة أولئك الذين كذبوا الرسل كانت إلى الخسار والهلاك في الدنيا، وفي الآخرة إلى العذاب العظيم، فمن كذب بمحمد ﷺ من قومه.. كانت عاقبته مثل أولئك الذين خلوا من قبله من
(٢) الخازن.
التفسير وأوجه القراءة
٥٩ - واللام في قوله تعالى: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنا﴾ وبعثنا ﴿نُوحًا إِلى﴾ مشركي ﴿قَوْمِهِ﴾ واقعة في جواب قسم محذوف تقديره: وعزتي وجلالي لقد أرسلنا نوح بن لمك - بفتح الميم وسكونها - بن متوشلخ ابن أخنوخ، وهو اسم إدريس عليهما السلام، واسم نوح عبد الغفار، ولقب بنوح؛ لكثرة نياحته؛ وإما لدعوته على قومه بالهلاك، أو لمراجعته ربه في شأن ولده كنعان، أو لأنه مر بكلب مجذوم، فقال له: اخسأ يا قبيح، فأوحى الله إليه أعبتني أم عبت الكلب؟ فكثر نوحه على نفسه لذلك. وتركت (١) الواو هنا وذكرت في سورة هود والمؤمنون؛ لعدم تقدم ما يعطف عليه هنا بخلاف ما يأتي، وإنما أتى بالقسم هنا للرد على المنكرين، وهو مما يجب التأكيد فيه، وقدم قصة نوح؛ لأن قومه أول من كفر، ولأنه أول رسول أرسله الله إلى قومه المشركين كما هو رأي كثير من المحققين كما ثبت في حديث الشفاعة وغيره.
والحاصل: أن الله سبحانه وتعالى أقسم للمخاطبين بهذه الآية من أهل مكة ومن جاورهم من العرب بأنه سبحانه أرسل نوحا عليه السلام إلى قومه منذرا لهم بأسه، ومخوفهم سخطه على عبادتهم غيره، وقد كانوا ينكرون الرسالة والوحي إذ ليس عندهم من علوم الرسل والأمم شيء إلا ما يتلقونه من اليهود والنصارى في بلاد العرب والشام ﴿فَقالَ﴾ نوح ﴿يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ﴾؛ أي: وحدوه بالعبادة.
وقوله: ﴿ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ﴾ في حكم العلة لقوله: ﴿اعْبُدُوا اللَّهَ﴾؛ أي: اعبدوا
ثم ذكر السبب في الأمر بعبادته وحده، وترك أدنى شوائب الشرك مثبتا للبعث والجزاء، فقال: ﴿إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾؛ أي: إني أخاف عليكم عذاب يوم شديد هوله، وهو يوم البعث والجزاء إذا لم تمتثلوا ما أمرتكم به من عبادة الله وحده، وترك ما سواه، قال أبو السعود: هذه الجملة تعليل للعبادة ببيان الصارف عن تركها إثر تعليلها ببيان الداعي إليها، انتهى. قال أبو حيان: وفي هذه الجملة إظهار الشفقة والحنو عليهم. وقرأ (١) ابن وثاب والأعمش وأبو جعفر والكسائي: ﴿غيره﴾ - بالجر - على أنه بدل من لفظ إله، أو نعت له. وقرأ باقي السبعة بالرفع على أنه صفة لإله، أو بدل منه باعتبار محله الذي هو الرفع على الابتداء؛ لأن ﴿مِنْ﴾ زائدة، و ﴿لَكُمْ﴾ خبره. وقرأ عيسى بن عمر: ﴿غيره﴾ بالنصب على الاستثناء، والجر والرفع أفصح.
٦٠ - ﴿قالَ الْمَلَأُ﴾؛ أي: الأشراف والرؤساء والكبراء ﴿مِنْ قَوْمِهِ﴾ الذين جعلوا أنفسهم أضداد الأنبياء ﴿إِنَّا لَنَراكَ﴾ يا نوح ﴿فِي ضَلالٍ﴾ وخطأ عن الحق ﴿مُبِينٍ﴾؛ أي: بين واضح ظاهر بتركك ملة آبائك حيث نهيتنا عن عبادة آلهتنا ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر، وهم شفعاؤنا عند الله، ووسيلتنا إليه فببركتهم يتقبل منا صالح أعمالنا، ويعطينا سؤلنا لما كانوا من الصلاح والتقوى، ونحن لا نستطيع أن نوجه دعواتنا دون وساطتهم؛ لما نجترحه من السيئات التي تبعدنا عن حظيرة ذلك القدس الأعظم.
وخلاصة مقالتهم: أنت في غمرة من الضلال أحاطت بك، فجعلتك لا تجد إلى الصواب سبيلا، ولم يقل (٢) هنا: الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ كما قال في قوم هود فيما سيأتي؛ لأن الملأ من قوم هود كان فيهم من آمن ومن كفر، بخلاف
(٢) الفتوحات.
أن ما سيأتي في دعائهم إلى الإيمان في أثناء زمن رسالته، فكان فيهم من آمن ومن كفر، وأما ما هنا فهو في أول دعائه لهم.
٦١ - ﴿قالَ﴾ نوح عليه السلام مجيبا لهم: ﴿يا قَوْمِ﴾ ـي، ناداهم بإضافتهم إليه استمالة لقلوبهم نحو الحق ﴿لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ﴾؛ أي: ليس بي نوع من أنواع الضلالة البتة ﴿وَلكِنِّي رَسُولٌ إليكم مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ﴾.
والمعنى (١): قال نوح عليه السلام في الجواب لهم: يا قوم لم آمركم بما أمرتكم به من توحيد الله، وإخلاص الطاعة له دون الآلهة والأنداد خروجا مني عن محجة الحق، وضلالا عن سبيل الرشاد، ولكني رسول من رب العالمين إليكم أهديكم باتباعي إلى ما يوصلكم إلى السعادة في دنياكم وآخرتكم، وأنقذكم من الهلاك الأبدي بالشرك بالله والمعاصي المدنسة للأنفس، والمفسدة للأرواح، ومن رحمة ربكم بكم أن لا يدعكم في عمايتكم وشرككم الذي ابتدعتموه بجهلكم حتى يبين لكم الحق من الباطل على يد رسول من لدنه يسلك بكم السبيل السويّ الموصل إلى النجاة. وإنما (٢) قال: ﴿لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ﴾ ولم يقل: ليس بي ضلال؛ لأن نفيها أعم من نفي الضلال؛ لأن ضلالة دالة على واحدة غير معينة، ونفي فرد غير معين نفي عام بخلاف ضلال؛ فإنه مصدر يعم الواحد والتثنية والجمع، ونفيه لا يقتضي على سبيل القطع النفي العام، فكان قوله: ﴿لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ﴾ أبلغ في نفي الضلال عن نفسه من قوله: ليس بي ضلال.
ولكن جاءت هنا أحسن مجيء لأنها بين نقيضين؛ لأن الإنسان لا يخلو من أحد شيئين: ضلال وهدى، والرسالة لا تجامع الضلال. وفي قوله: ﴿مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ﴾ تنبيه على أنه ربهم؛ لأنهم من جملة العالم؛ أي: من ربكم المالك
(٢) الفتوحات.
٦٢ - ﴿أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي﴾ في محل رفع على أنها صفة لـ ﴿رَسُولٌ﴾، أو هي مستأنفة مبينة لحال الرسول؛ أي: أرسلني إليكم لأبلغكم ما طلب إلي تبليغه إليكم من التوحيد والإيمان بالله واليوم الآخر، والوحي والرسالة، والملائكة، والجنة والنار، والآداب والمواعظ والأحكام العامة من عبادات ومعاملات إلى نحو ذلك. والرسالات: كل ما أرسله الله به إليهم مما أوحاه إليه، وجمعها (١) باعتبار ما أوحى إليه في الأزمان المتطاولة، أو باعتبار المعاني المختلفة من الأمر والنهي، والزجر والوعظ، والتبشير والإنذار، أو باعتبار ما أوحي إليه، وإلى من قبله. قيل: في صحف إدريس وهي ثلاثون صحيفة، وفي صحف شيث وهي خمسون صحيفة.
وقرأ أبو عمرو: ﴿أبلغكم﴾ هنا في الموضعين، وفي الأحقاف بالتخفيف من أبلغ من باب أفعل، وباقي السبعة بالتشديد، والهمزة والتضعيف للتعدية فيه. ﴿وَأَنْصَحُ لَكُمْ﴾؛ أي: أخلص لكم النصيحة بتحذيركم عقاب الله تعالى على كفركم به، وتكذيبكم لي، وردكم نصحي. روى مسلم وأبو داود والنسائي عن تميم الداري أن رسول الله ﷺ قال: «الدين النصيحة». قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: «لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم». فتبليع (٢) الرسالة هو يعرفهم أنواع تكاليف الله، وأقسام أوامره ونواهيه، والنصيحة هي: أن يرغبهم في الطاعات، ويحذرهم عن المعاصي بأبلغ الوجوه. ﴿وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ﴾؛ أي: إنكم إن عصيتم أمره عاقبكم في الدنيا بالطوفان، وفي الآخرة بعقاب شديد خارج عما تتصوره عقولكم؛ أي: وأعلم من جهته بالوحي ما لا تعلمون من الأمور الآتية، أو أعلم من شؤونه وبطشه الشديد ما لا تعلمون.
وحاصل المعنى: أي وأنا (٣) في هذا التبليغ وذلك النصح على علم من الله أوحاه إلي لا تعلمون منه شيئا، كما أني أعلم من الله وشؤونه ما لا تعلمون في
(٢) المراح.
(٣) المراغي.
٦٣ - والهمزة في قوله: ﴿أَوَعَجِبْتُمْ﴾ للاستفهام الإنكاري التوبيخي داخلة على محذوف، والواو عاطفة ما بعدها على ذلك المحذوف؛ أي: أكذبتم وعجبتم من ﴿أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ﴾؛ أي: موعظة ووحي كائن ﴿مِنْ رَبِّكُمْ﴾؛ أي: من مالك أموركم ﴿عَلى﴾ لسان ﴿رَجُلٍ مِنْكُمْ﴾؛ أي: من جنسكم تعرفونه، ولم يكن ذلك على لسان من لا تعرفونه، أو لا تعرفون لغته، فإنهم كانوا يتعجبون من نبوة نوح عليه السلام، ويقولون: لو شاء ربنا لأنزل ملائكة. وقوله: ﴿لِيُنْذِرَكُمْ﴾ علة للمجيء؛ أي: جاءكم ليحذركم، ويخوفكم عاقبة الكفر والمعاصي. وقوله: ﴿وَلِتَتَّقُوا﴾ عبادة غير الله علة ثانية مرتبة على التي قبلها. وقوله: ﴿وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾؛ أي: ولكي ترحموا بالتقوى، فلا تعذبوا علة ثالثة مرتبة على التي قبلها، وهذا الترتيب في غاية الحسن، فإن المقصود من البعثة الإنذار، والمقصود من الإنذار التقوى عن كل ما لا ينبغي، والمقصود من التقوى الفوز بالرحمة في دار الآخرة.
وفائدة حرف الترجي هنا (٢): التنبيه على عزة المطلب، وأن التقوى غير موجبة للرحمة، بل هي منوطة بفضل الله تعالى، وأن المتقي ينبغي أن لا يعتمد على تقواه، ولا يأمن عذاب الله تعالى. والمعنى: أكذبتم وعجبتم من أن جاءكم ذكر وموعظة من ربكم على لسان رجل منكم، ليحذركم عاقبة كفرهم، ويعلمكم
(٢) الكرخي.
وفي قوله (١): ﴿عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ﴾ بيان لشبهتهم على الرسالة، وهي أن الرسول بشر مثلهم، فكأنهم كانوا يرون أن الاشتراك في البشرية والصفات العامة يقتضي التساوي في جميع الخصائص والمزايا، ويمنع الانفراد بشيء منها، والمشاهدة أكبر برهان على بطلان هذه القضية، فالتفاوت في الغرائز والصفات الفاضلة، والاختلاف في القوى العقلية والمعارف والأعمال الكسبية جد عظيم في البشر، وليس في الأنواع الأخرى ما يشبه الإنسان في ذلك إلى أنه لو فرض التساوي بينهم، فهل هذا يمنع أن يختص لله بعض عباده بما هو فوق المعهود في الغرائز والمكتسب بالتعلم؟ كلا، إنه تعالى قدير على ذلك، وقد قضت به مشيئته، ونفذت به قدرته.
٦٤ - ﴿فَكَذَّبُوهُ﴾؛ أي: فبعد ذلك كذبه جمهورهم، واستمروا على ذلك، وخالفوا أمر ربهم، ولجوا في طغيانهم يعمهون؛ أي: كذبوا نوحا في ادعاء النبوة، وتبليغ الأحكام من الله، وأصروا على ذلك التكذيب تلك المدة المتطاولة بعد ما كرر عليهم الدعوة مرارا، فلم يزدهم إلا فرارا حسبما نطق به قوله تعالى: ﴿قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهارًا (٥)...﴾ الآيات.
﴿فـ﴾ أغرقناهم كما سيأتي آنفا، و ﴿أنجيناه﴾؛ أي: أنجينا نوحا من الغرق. ﴿وَ﴾ أنجينا ﴿الَّذِينَ﴾ آمنوا وصحبوا ﴿مَعَهُ فِي الْفُلْكِ﴾ من الغرق قيل: كانوا أربعين رجلا وأربعين امرأة، وقيل: كانوا تسعة، أبناؤه الثلاثة، وستة من غيرهم، وقيل: كانوا ثلاثة عشر، نوح وبنوه الثلاثة سام وحام ويافث وأزواجهم، وستة ممن كانوا آمنوا به، وقد جاءت القصة مفصلة في سورة هود، وسيأتي فيها: ﴿وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ﴾.
﴿وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا﴾؛ أي: برسولنا نوح، بالطوفان ﴿إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمًا عَمِينَ﴾ عن الحق غير مستبصرين به لما قام بهم من عمى البصيرة والقلب.
أي (٢): وأغرقنا من كذب بآياتنا بالطوفان بسبب تكذيبهم وما كان ذلك التكذيب إلا لعمى بصائرهم الذي حال بينهم وبين الاعتبار بالآيات، وفهمهم للدلائل الدالة على وحدانية الله تعالى، وقدرته على إرسال الرسل، وحكمته في ذلك، والثواب والعقاب في يوم الجزاء يوم يحشر الناس لرب العالمين، ويوم تذهل كل مرضعة عما أرضعت، وترى الناس سكارى وما هم بسكارى، ولكنهم من شدة العذاب حيارى.
قال أبو حيان: وفي قوله: ﴿وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا﴾ إعلام بعلة الغرق؛ وهو التكذيب، وبآياتنا يقتضي أن نوحا عليه السلام كانت له آيات ومعجزات تدل على إرساله.
ذكر قصة هود عليه السلام
٦٥ - ﴿وَ﴾ لقد أرسلنا ﴿إِلى عادٍ﴾ الأولى؛ وهي قبيلة سميت باسم جدهم الأكبر، وهو عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح عليه السلام (٣) ﴿أَخاهُمْ﴾ في النسب لا في الدين، وقوله: ﴿هُودًا﴾ عطف بيان من ﴿أَخاهُمْ﴾، وهو هود بن عبد الله بن رباح بن الخلود بن عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح، وكانت منازل عاد بالأحقاف باليمن، والأحقاف: الرمل الذي عند عمان وحضر موت.
(٢) المراغي.
(٣) البحر المحيط.
وإنما جعل رسول كل قوم منهم (٣)؛ لأنهم أفهم لقوله، وأعرف بحاله، وأرغب في اتباعه؛ لمعرفتهم شمائله وأخلاقه ﴿قالَ﴾ هود لهم ﴿يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ﴾؛ أي: أفردوا الله سبحانه وتعالى بالعبادة، ولا تجعلوا معه إلها غيره؛ لأنه ﴿ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ﴾؛ أي: ليس لكم إله غيره تعالى يستحق العبادة منكم، لأنه هو الخالق لكم المدبر لأموركم.
والحكمة في قوله هنا (٤): ﴿قالَ﴾: بدون الفاء، وفي قصة نوح: ﴿فَقالَ﴾ بالفاء أن نوحا كان مواظبا على دعوة قومه غير متوان فيها على ما حكي عنه في سورة نوح من قوله تعالى: ﴿قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهارًا (٥)﴾ فناسبه التعقيب بالفاء، وأما هود فلم يكن كذلك، بل كان دون نوح في المبالغة في الدعاء، والهمزة في قوله: ﴿أَفَلا تَتَّقُونَ﴾ للاستفهام الإنكاري التوبيخي داخلة على محذوف، والفاء عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: أتركتم التفكر في مصنوعات الله وما فعله بقوم نوح عليه السلام، فلا تتقون، ولا تخافون عقابه بعبادتكم غيره، واقترافكم الشرك والمعاصي، وهذا استبعاد وإنكار لعدم اتقائهم العذاب بعد ما علموا ما حل بقوم نوح. وإنما قال هنا (٥): ﴿أَفَلا تَتَّقُونَ﴾ وفي سورة هود: ﴿أَفَلا تَعْقِلُونَ﴾ لعله خاطبهم بكل منهما، وقد اكتفى بحكاية كل منهما في موطن عن حكايته في موطن آخر، كما لم يذكر هنا ما ذكر هناك من قوله:
(٢) أبو السعود.
(٣) البيضاوي.
(٤) الخازن.
(٥) الفتوحات.
٦٦ - ﴿قالَ الْمَلَأُ﴾ والرؤساء ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ﴾؛ أي: من قوم هود، وجحدوا توحيد الله، وأنكروا رسالة هود إليهم، وإنما وصف (١) الملأ هنا بالكفر دون ملأ قوم نوح؛ لأن الملأ من قوم هود كان فيهم من آمن ومن كفر، فممن آمن منهم مرثد بن أسعد أسلم وكان ممن يكتم إيمانه، بخلاف الملأ من قوم نوح، فكلهم أجمعوا على ذلك الجواب، فلم يكن أحد منهم مؤمنا في أول دعائه إياهم إلى الإيمان ﴿إِنَّا لَنَراكَ﴾ يا هود ﴿فِي سَفاهَةٍ﴾ وحماقة وجهالة وقلة عقل؛ أي: إنا لنتيقن كونك يا هود متمكنا ومتعمقا في سفاهة وخفة عقل عن الحق، والصواب حيث فارقت ديننا، وتركت عبادة آلهتنا الذي اتخذت لهم الأمة الصور والتماثيل تخليدا لذكراهم، والتقرب بشفاعتهم إلى ربنا وربهم، وإنما (٢) أخبر الله سبحانه وتعالى عن قوم نوح عليه السلام أنهم قالوا له: في ضلال مبين، وعن قوم هود أنهم قالوا له: في سفاهة، لأن نوحا لما خوف قومه بالطوفان، وشرع في عمل السفينة، فعند ذلك قالوا له: ﴿إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ﴾ حتى تتعب نفسك في إصلاح سفينة في أرض ليس فيها من الماء شيء، وأما هود عليه السلام، فإنه لما نهاهم عن عبادة الأصنام التي سموها صمدا وصمودا، ونسب من عبدها إلى السفه، وهو قلة العقل.. قابلوه بمثل ما نسبهم إليه، فقالوا له: ﴿إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ﴾. اه «خازن».
﴿وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ﴾ يا هود ﴿مِنَ الْكاذِبِينَ﴾ في ادعائك أنك رسول من عند الله تعالى، وفي قولهم هذا إيماء إلى تكذيبهم كل رسول؛ إذ هم قد عبروا عن
(٢) الخازن.
٦٧ - ﴿قالَ﴾ هود لهؤلاء الملأ الذين نسبوه إلى السفه: ﴿يا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ﴾؛ أي: ليس بي شيء مما تنسبونني إليه من السفه؛ أي: ليس الأمر كما تدعون من أن بي سفاهة ﴿وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ﴾ أرسلني إليكم لأبلغكم رسالات ربي وأؤديها إليكم، والله أعلم حيث يجعل رسالته، فلا يختار لها إلا من عرفوا برجحان العقل، وحصافة الرأي، وكمال الصدق، وإنما جمع الرسالة نظرا لاختلاف أوقاتها، ولتنوع معانيها، أو لأن المراد بها المرسل به؛ وهو يتعدد. ذكره أبو السعود.
٦٨ - ثم بين وظيفة الرسول وحاله عليه السلام فيما بلغ، فقال: ﴿أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي﴾؛ أي: أؤدي إليكم ما أرسلني به ربي إليكم من أوامره ونواهيه، وشرائعه وتكاليفه ﴿وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ﴾ فيما آمركم به من عبادة الله عز وجل، وترك عبادة ما سواه أَمِينٌ؛ أي: موثوق فيما أبلغه عن ربي، فلا أكذب عليه في وحيه إلي، والأمين الثقة على ما ائتمن عليه.
وهذا رد لقولهم (١): ﴿وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ﴾ فكأن هودا قال لهم: كنت قبل هذه الدعوى أمينا فيكم، ما وجدتم مني غدرا ولا مكرا ولا كذبا، واعترفتم لي بكوني أمينا، فكيف نسبتموني الآن إلى الكذب؟ وفي هذا دليل على جواز مدح الإنسان نفسه في موضع الضرورة إلى مدحها، وإنما أتى هود (٢) بالجملة الاسمية في قوله: ﴿وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ﴾؛ ونوح بالفعلية حيث قال: ﴿وَأَنْصَحُ لَكُمْ﴾؛ لأن صيغة الفعل تدل على تجدده ساعة بعد ساعة، وكان نوح عليه السلام يكرر في دعائهم ليلا ونهارا من غير تراخ، فناسب التعبير بالفعل، وأما هود فلم يكن كذلك، بل كان يدعوهم وقتا دون وقت، فلذا عبر بالاسمية.
وفي إجابة (٣) هؤلاء الأنبياء لأقوامهم بتلك الإجابة الصادرة عن الحكمة والإغضاء عما قالوا من وصفهم إياهم بالسفاهة والضلالة أدب حسن، وخلق
(٢) الفتوحات.
(٣) المراغي.
٦٩ - والهمزة في قوله: ﴿أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ للاستفهام الإنكاري التوبيخي، داخلة على محذوف، والواو: عاطفة على ذلك المحذوف، كما مر نظيره آنفا تقديره: أكذبتم وعجبتم من أن جاءكم ذكر وموعظة وبيان من ربكم وخالقكم ﴿عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ﴾؛ أي: على لسان رجل من جنسكم ونسبكم ﴿لِيُنْذِرَكُمْ﴾ ويخوفكم من عقاب ربكم على ما أنتم عليه مقيمون من الضلالة ﴿وَاذْكُرُوا﴾ فضل الله عليكم ونعمته لكم ﴿إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ﴾ في الأرض ﴿مِنْ بَعْدِ﴾ إغراق ﴿قَوْمِ نُوحٍ﴾ وجعلكم ورثتهم ﴿وَزادَكُمْ﴾ على غيركم ﴿فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً﴾؛ أي: زادكم سعة في الأبدان والقوى على ما أعطاه لغيركم، وقد كانوا طوال الأجسام أقوياء الأبدان قيل: كان طول الطويل منهم خمسمئة ذراع، وطول القصير ثلاثمئة ذراع بذراع نفسه، وكان رأس الواحد منهم قدر القبة العظيمة، وكانت عينه بعد موته تفرخ فيها الضباع ﴿فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ﴾ هذا تعميم بعد تخصيص كما في «البيضاوي»؛ أي: فاذكروا نعم الله وفضله عليكم، واشكروه على ذلك بإخلاص العبادة له، وترك الإشراك به، وهجر الأوثان والأصنام ﴿لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾؛ أي: لكي تنجوا من العذاب، وتفوزوا بما أعده الله سبحانه وتعالى للشاكرين لنعمه الراجين للمزيد منها، وتدركون الخلود والبقاء، والنعيم الأبدي في دار القرار.
٧٠ - ثم ذكر ما ردوا به عليه، فقال: ﴿قالُوا﴾؛ أي: قال قوم هود مجيبين له عن تلك النصائح العظيمة: ﴿أَجِئْتَنا﴾ يا هود ﴿لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ﴾؛ أي: لأجل أن نخص الله سبحانه وتعالى بالعبادة وحده ﴿وَنَذَرَ ما كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا﴾؛ أي: ونترك ما كان يعبد أباؤنا معه من الأولياء والشفعاء، وهم الوسيلة عنده، وهم الذين يقربوننا إليه زلفى، وهل يقبل الله عبادتنا مع ذنوبنا إلا بهم ولأجلهم؟
وبعد أن استنكروا التوحيد، واحتجوا عليه بما لا يصلح عقلا ولا شرعا أن يكون حجة من تقليد الآباء والأجداد.. اقترحوا الوعيد، فقالوا: ﴿فَأْتِنا﴾؛ أي:
٧١ - فأجابهم هود على مقالتهم بقوله: ﴿قالَ﴾ هود لقومه: ﴿قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ﴾؛ أي: عذاب ﴿وَغَضَبٌ﴾؛ أي: سخط منه؛ أي: قد قضى عليكم ربكم ومالك أمركم بعذاب وطرد من رحمته، وقد كان عذابهم ريحا صرصرا ذات صوت شديد عاتية تنزع الناس من الأرض، ثم ترميهم صرعى كأنهم أعجاز نخل منقعر، أي: قد قلع من منابته وزال من أماكنه، وفي هذه الجملة جعل ما هو متوقع كالواقع تنبيها على تحقق وقوعه. ثم استنكر عليهم ما وقع منهم من المجادلة، فقال: ﴿أَتُجادِلُونَنِي﴾ والهمزة فيه للإنكار والاستقباح لإنكارهم مجيئه داعيا لهم إلى عبادة الله، وترك عبادة الأصنام؛ أي: أتخاصمونني ﴿فِي أَسْماءٍ﴾ عارية عن المسمى؛ إذ ليس فيها من معنى الألوهية شيء ﴿سَمَّيْتُمُوها﴾؛ أي: سميتم بها ﴿أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ﴾ أصناما، وكانت ثلاثة سموا أحدها صمودا، والأخرى صمدا، والثالثة هبا، فإنهم سموا الأصنام بالآلهة مع أن معنى الألوهية فيها معدوم؛ أي: وضعتموها أنتم وأباؤكم الذي قلدتموهم على غير علم ولا هدى منكم، ولا منهم لمسميات اتخذوها، فاتخذتموها آلهة زاعمين أنها تقربكم إلى الله زلفى، وتشفع عنده لكم ﴿ما نَزَّلَ اللَّهُ بِها﴾؛ أي: ما أنزل بعبادتها ﴿مِنْ سُلْطانٍ﴾؛ أي: من حجة ولا برهان يصدق زعمكم بأنه رضي أن تكون واسطة بينه وبينكم؛ لأن المستحق للعبادة بالذات هو الموجد للكل، وأن الأصنام لو استحقت العبادة.. كان استحقاقها بجعله تعالى؛ إما بإنزال آية، أو نصب دليل، فقوله تعالى: ﴿ما نَزَّلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ﴾ عبارة عن خلو مذاهبهم عن الحجة والبينة.
والخلاصة: (١) أنه هو الذي يتوجه إليه وحده، ولا يشرك معه أحد من خلقه
﴿فَانْتَظِرُوا﴾ ما يحصل لكم من عبادة هذه الأصنام، وهو نزول العذاب الذي طلبتموه بقولكم: ﴿فَأْتِنا بِما تَعِدُنا﴾ ﴿إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ﴾ لنزوله بكم، وفصل قضائه فينا وفيكم، وإنني لموقن بذلك وأنتم مرتابون.
٧٢ - ﴿فـ﴾ لما جاء أمرنا، ووقع ما وقع ﴿أنجيناه والذين معه﴾؛ أي: أنجينا هودا والذين آمنوا معه ﴿بِرَحْمَةٍ﴾ عظيمة كائنة ﴿مِنَّا﴾ لهم ﴿وَقَطَعْنا﴾؛ أي: استأصلنا ﴿دابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا﴾؛ أي: آخرهم مع أولهم ﴿وَما كانُوا مُؤْمِنِينَ﴾؛ أي: ما أبقينا أحدا من الذين لا يؤمنون، فلو علم الله أنهم سيؤمنون لأبقاهم.
والمعنى: فلما جاء أمرنا، ووقع ما وقع أنجينا هودا والذين آمنوا به وبما دعا إليه من توحيد الله، وهجر الأوثان، وكانوا شرذمة قليلة يكتمون إيمانهم برحمة عظيمة من جهتنا بأن جعلوا في حظيرة ما يصل إليهم من الريح إلا ما يلين عليهم جلودهم وتلتذ به أنفسهم. وبعد ذلك (١) أتوا مكة مع هود، فعبدوا الله فيها حتى ماتوا، واستأصلنا دابر الدين جحدوا بآياتنا، ولم نبق منهم أحدا بريح صرصر ﴿تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ﴾ وكانت باردة ذات صوت شديد، ولا مطر فيها، وكان وقت مجيئها في عجز الشتاء، وابتدأتهم صبيحة الأربعاء لثمان بقين من شوال، وسخرت عليهم سبع ليال وثمانية أيام، فأهلكت رجالهم ونساءهم وأولادهم وأموالهم بأن رفعت ذلك في الجو فمزقته. وفي «الخازن»: قال السدي: بعث الله عز وجل الريح العقيم، فلما دنت منهم نظروا إلى الإبل والرجال تطير بهم الريح بين السماء والأرض، فلما رأوها تبادروا إلى البيوت فدخلوها، وأغلقوا الأبواب، فجاءت الريح، فقلعت أبوابهم، ودخلت عليهم فأهلكتهم فيها، ثم أخرجتهم من البيوت، فلما أهلكتهم أرسل الله عليهم
٧٣ - ﴿وَ﴾ لقد أرسلنا ﴿إِلى ثَمُودَ﴾ اسم قبيلة من العرب سموا باسم أبيهم الأكبر، وهو ثمود بن عامر بن سام بن نوح، وتسمى عادا الثانية ﴿أَخاهُمْ﴾ في النسب ﴿صالِحًا﴾؛ لأنه صالح بن عبيد بن أسف بن ماسح بن عبيد بن حاذر بن المذكور، فهو من فروعه، فليس من أنبياء بني إسرائيل، وكان بين صالح وهود مئة سنة، وعاش صالح مئتين وثمانين سنة.
وكانت (١) مساكن ثمود الحجر بين الحجاز والشام إلى وادي القرى وما حوله، والمعنى: وأرسلنا إلى بني ثمود أخاهم صالحا؛ لأن ثمود قبيلة. قال أبو عمرو بن العلاء: سميت ثمود لقلة مائها، والثمد: الماء القليل.
﴿قالَ﴾ صالح لثمود: ﴿يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ﴾؛ أي: أفردوا الله بالعبادة وحده ﴿ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ﴾؛ أي: فليس لكم إله غيره تعالى يستحق منكم العبادة ﴿قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ﴾ ظاهرة ومعجزة واضحة كائنة ﴿مِنْ رَبِّكُمْ﴾ تدل على صدقي فيما أقول لكم، وأدعوكم إليه من توحيد الله سبحانه وتعالى، وإفراده بالعبادة دون ما سواه، وهي إخراج الناقة من الحجر الصلد.
وفي قوله: ﴿مِنْ رَبِّكُمْ﴾ إيماء إلى أنها ليست من فعله ولا مما ينالها كسبه، وهكذا سائر ما يؤيد الله به الرسل من خوارق العادات، وهذه المقالة كانت لهم بعد نصحهم وتذكيرهم بنعم الله، وتكذيبهم له كما جاء في سورة هود: ﴿هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها...﴾ إلى آخر الآيات، وجملة قوله: ﴿هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ﴾ حالة كونها ﴿لَكُمْ آيَةً﴾ على صدقي مشتملة على بيان البينة المذكورة أولا، وانتصاب ﴿آيَةً﴾ على الحال، والعامل فيها معنى الإشارة، وفي
ووجه كونها معجزة له خارقة للعادة أنها خرجت من صخرة في الجبل، وكونها لا من ذكر ولا من أنثى، وكان خلقها من غير حمل ولا تدريج؛ لأنه خلقت في ساعة، وخرجت من الصخرة، وقيل: لأنها كان لها شرب يوم ولجميع قبيلة ثمود شرب يوم، وهذه من المعجزة أيضا؛ لأن ناقة تشرب ما تشربه قبيلة معجزة، وكانوا يحلبونها في يوم شربها قدر ما يكفيهم جميعهم، ويقوم لهم مقام الماء، وهذا أيضا معجزة. وقيل: إن سائر الوحوش والحيوانات كانت تمتنع من شرب الماء في يوم نوبتها، وتشرب في يوم نوبة ثمود، وهذا أيضا معجزة، وإنما أضافها إلى الله؛ لأن الله تعالى خلقها من غير واسطة ذكر وأنثى. وقيل: لأنها لم يملكها أحد إلا الله تعالى. وقيل: لأنها كانت حجة الله على قوم صالح، وإنما استشهد صالح على صحة نبوته بالناقة؛ لأنهم سألوه إياها آية دالة على صدق دعوته، وصحة نبوته.
ثم ذكر ما يترتب على كونها آية من أنه لا ينبغي التعرض لها، فقال: ﴿فَذَرُوها﴾؛ أي: فاتركوها حالة كونها ﴿تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ﴾؛ أي: في الحجر؛ أي: إن الأرض أرض الله، والناقة ناقة الله، فاتركوها تأكل ما تأكل في أرض ربها، وليس لكم أن تحولوا بينها وبين أرض ربها، فليست الأرض لكم ولا ما فيها من النبات من إنباتكم، وكانت الناقة مع ولدها ترعى الشجر وتشرب الماء ترد غبا، فإذا كان يومها وضعت رأسها في البئر، فما ترفعه حتى تشرب كل ما فيها، ثم تفجج فيحلبون ما شاؤوا حتى تمتلىء أوانيهم، فيشربون ويدخرون. وقرأ أبو جعفر في رواية: ﴿تأكل﴾ - بالرفع - وهو في محل حال حينئذ.
﴿وَلا تَمَسُّوها﴾؛ أي: ولا تقربوها ﴿بِسُوءٍ﴾؛ أي: بضرر من عقر وضرب مثلا؛ أي: لا تضربوها ولا تعقروها ولا تطردوها ولا تقربوها بشيء من أنواع الأذى، ولا تتعرضوا لها بوجه من الوجوه التي تسوؤها وتضرها في نفسها، ولا في أكلها إكراما لآية الله تعالى: ﴿فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ﴾ بسبب أذاها؛ أي: فإنكم
٧٤ - ثم ذكرهم بنعم الله عليهم، وبوجوب شكرها بعبادته تعالى وحده، فقال: ﴿وَاذْكُرُوا﴾؛ أي: وتذكروا يا قومي نعم الله عليكم، وإحسانه إليكم ﴿إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ﴾؛ أي: جعلكم خلفاء في الأرض عن عاد في الحضارة والعمران والقوة والبأس ﴿وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ﴾؛ أي: أنزلكم وأسكنكم منازلهم في الأرض حالة كونكم ﴿تَتَّخِذُونَ﴾؛ أي: تعملون وتصنعون ﴿مِنْ سُهُولِها﴾؛ أي: من سهول الأرض - جمع سهل - والسهل من الأرض: اللين، وهو غير الجبل؛ أي: تصنعون وتأخذون من سهول الأرض وترابها ﴿قُصُورًا﴾؛ أي: مادة قصور كالطين واللبن والآجر، والمعنى: تتخذون من سهولها قصورا زاهية ودورا عالية بما ألهمكم الله من حذق في الصناعة، فجعلكم تضربون اللبن وتحرقونه آجرا - الطوب المحرق - وتستعملون الجص، وتجيدون هندسة البناء ودقة النجارة ﴿وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتًا﴾؛ أي: تنقبون من الجبال بيوتا؛ إذ علمكم صناعة النحت، وآتاكم القوة والجلد. روي أنهم كانوا يسكنون الجبال في الشتاء لما في البيوت المنحوتة من القوة، فلا تؤثر فيها الأمطار والعواصف، ويسكنون السهول في باقي الفصول للزراعة والعمل. وقال الشوكاني: ﴿وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتًا﴾؛ أي: تتخذون في الجبال التي هي صخور بيوتا تسكنون فيها، وقد كانوا لقوتهم وصلابة أبدانهم ينحتون الجبال، فيتخذون فيها كهوفا يسكنون فيها؛ لأن الأبنية والسقوف لطول أعمارهم كانت تفنى قبل فناء أعمارهم. اه.
أراد به عقر الناقة، وقيل: هو على ظاهره، فيدخل فيه النهي عن جميع أنواع الفساد، والمعنى على هذا: ولا تعملوا في الأرض شيئا من أنواع الفساد، والمعنى: وتذكروا هذه النعم العظام، واشكروها له بتوحيده، وإفراده بالعبادة، ولا تتصرفوا فيها تصرف كفران وجحود بفعل ما لا يرضي الله الذي خلقها لكم بالكفر، والعثي في الأرض بالفساد.
وقرأ الحسن (٣): ﴿وتنحَتون﴾ - بفتح الحاء - وزاد الزمخشري أنه قرأ: ﴿وتنحاتون﴾ - بإشباع الفتحة -. وقرأ ابن مصرف بالياء من أسفل وكسر الحاء. وقرأ أبو مالك بالياء من أسفل وفتح الحاء، ومن قرأ بالياء فهو التفات، وقرأ الأعمش: ﴿تِعثوا﴾ - بكسر التاء - لقولهم: أنت تعلم وهي لغة.
قصة الناقة
وروي: أن هذه الناقة هي آية مقترحة لقوم صالح لما حذرهم وأنذرهم سألوه آية، فقال: أية آية تريدون؟ قالوا: تخرج معنا إلى عيدنا في يوم معلوم لهم من السنة، فتدعو إلهك، وندعو آلهتنا، فإن استجيب لك اتبعناك، وإن استجيب
(٢) الخازن.
(٣) البحر المحيط.
الإعراب
﴿لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحًا إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (٥٩)﴾.
﴿لَقَدْ﴾ ﴿اللام﴾: موطئة للقسم المحذوف. ﴿قد﴾: حرف تحقيق ﴿أَرْسَلْنا نُوحًا﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة جواب القسم لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم المحذوف مستأنفة. ﴿إِلى قَوْمِهِ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿أَرْسَلْنا﴾. فَقالَ: ﴿الفاء﴾: حرف عطف وتفريع، ﴿قال﴾: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على ﴿نوح﴾، والجملة معطوفة مفرعة على جملة ﴿أَرْسَلْنا﴾. ﴿يا قَوْمِ﴾ إلى آخر الآية مقول محكي لـ ﴿قال﴾، وإن شئت قلت: ﴿يا﴾: حرف نداء، ﴿قَوْمِ﴾: منادى مضاف، وجملة النداء في محل النصب مقول ﴿قال﴾. ﴿اعْبُدُوا اللَّهَ﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل النصب مقول ﴿قال﴾ على كونها جواب النداء. ﴿ما﴾ نافية. ﴿لَكُمْ﴾: جار ومجرور خبر مقدم. ﴿مِنْ﴾ زائدة. ﴿يَشْكُرُونَ﴾: مبتدأ مؤخر. ﴿إِلهٍ﴾: صفة لـ ﴿إِلهٍ﴾ تابع لمحله، والتقدير: ما
﴿قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٦٠)﴾.
﴿قالَ الْمَلَأُ﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. ﴿مِنْ قَوْمِهِ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه حال من ﴿الْمَلَأُ﴾. ﴿إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ﴾ مقول محكي لـ ﴿قالَ﴾، وإن شئت قلت: ﴿إِنَّا﴾: ﴿إن﴾: حرف نصب. ﴿نا﴾: ضمير المتكلمين في محل النصب اسمها. ﴿لَنَراكَ﴾: ﴿اللام﴾: حرف ابتداء، ﴿نراك﴾: فعل ومفعول أول، وفاعله ضمير يعود على المتكلمين. ﴿فِي ضَلالٍ﴾: جار ومجرور في محل النصب على كونه مفعولا ثانيا لـ ﴿رأى﴾؛ لأن ﴿رأى﴾ هنا من أفعال القلوب. ﴿مُبِينٍ﴾: صفة ﴿ضَلالٍ﴾، وجملة ﴿رأى﴾: في محل الرفع خبر ﴿إن﴾، وجملة ﴿إن﴾ في محل النصب مقول ﴿قال﴾.
﴿قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٦١)﴾.
﴿قالَ﴾ فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على ﴿نوح﴾، والجملة مستأنفة. ﴿يا قَوْمِ﴾ إلى قوله: ﴿فَكَذَّبُوهُ﴾ مقول محكي لـ ﴿قالَ﴾، وإن شئت قلت: ﴿يا﴾: حرف نداء. ﴿قَوْمِ﴾: منادى مضاف، وجملة النداء في محل النصب مقول ﴿قالَ﴾. ﴿لَيْسَ﴾: فعل ماض ناقص. ﴿بِي﴾: جار ومجرور خبر لـ ﴿لَيْسَ﴾ مقدم على اسمها. ﴿ضَلالَةٌ﴾: اسمها مؤخر، وجملة ﴿لَيْسَ﴾ في محل النصب مقول على كونها جواب النداء. ﴿وَلكِنِّي﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة، ﴿لكن﴾: حرف استدراك، و ﴿النون﴾: للوقاية، و ﴿الياء﴾: اسمها. ﴿رَسُولٌ﴾: خبرها. {مِنْ رَبِ
﴿أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٦٢)﴾.
﴿أُبَلِّغُكُمْ﴾: فعل ومفعول أول. ﴿رِسالاتِ رَبِّي﴾: مفعول ثان ومضاف إليه، وفاعله ضمير يعود على ﴿نوح﴾. ﴿وَأَنْصَحُ﴾ فعل مضارع مرفوع والفاعل ضمير مستتر وجوبا تقديره آنا يعود على نوح ﴿لَكُمْ﴾: جار ومجرور متعلق به، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة ﴿أُبَلِّغُكُمْ﴾. ﴿وَأَعْلَمُ﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على نوح، والجملة معطوفة على جملة ﴿أُبَلِّغُكُمْ﴾. ﴿مِنَ اللَّهِ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿أَعْلَمُ﴾، أو حال من ﴿ما﴾ الموصولة المذكورة بعده، أو من عائده المحذوف؛ لأن علم هنا بمعنى عرف، فيتعدى إلى مفعول واحد. ﴿ما﴾: موصولة، أو موصوفة في محل النصب مفعول علم. ﴿لا تَعْلَمُونَ﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة لـ ﴿ما﴾، أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: ما لا تعلمونه.
﴿أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾.
﴿أَوَ﴾ ﴿الهمزة﴾: للاستفهام الإنكاري داخلة على محذوف، و ﴿الواو﴾: عاطفة على ذلك المحذوف، ﴿عَجِبْتُمْ﴾: فعل وفاعل، والجملة معطوفة على محذوف تقديره: أكذبتم وعجبتم، والجملة المحذوفة مع ما عطف عليها في محل النصب مقول ﴿قالَ﴾. ﴿أَنْ﴾: مصدرية. ﴿جاءَكُمْ﴾: فعل ومفعول في محل النصب بـ ﴿أَنْ﴾ المصدرية. ﴿ذِكْرٌ﴾: فاعل لـ ﴿جاء﴾. ﴿مِنْ رَبِّكُمْ﴾: صفة لـ ﴿ذِكْرٌ﴾، أو متعلق بـ ﴿جاء﴾، وجملة ﴿جاء﴾ في تأويل مصدر منصوب بـ ﴿عَجِبْتُمْ﴾ تقديره: أو عجبتم مجيء ذكر من ربكم. ﴿عَلى رَجُلٍ﴾: جار ومجرور إما متعلق بـ ﴿جاء﴾؛ لأنه بمعنى نزل، أو حال من الضمير المستكن في الجار والمجرور قبله؛ أي: ذكر كائن من ربكم حال كونه نازلا على رجل منكم.
﴿منكم﴾: جار ومجرور صفة لـ ﴿رَجُلٍ﴾. ﴿لِيُنْذِرَكُمْ﴾: ﴿اللام﴾: حرف جر وتعليل. ﴿ينذركم﴾: فعل ومفعول منصوب بأن مضمرة جوازا بعد لام كي،
﴿فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمًا عَمِينَ (٦٤)﴾.
﴿فَكَذَّبُوهُ﴾ ﴿الفاء﴾: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفت ما قال لهم نوح وما قالوا له، وأردت بيان عاقبة أمره وأمرهم.. فأقول لك:} كذبوه}: فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. ﴿فَأَنْجَيْناهُ﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة، ﴿أنجيناه﴾: فعل وفاعل ومفعول معطوف على ﴿كذبوه﴾. ﴿وَالَّذِينَ﴾: اسم موصول في محل النصب معطوف على الضمير في ﴿أنجيناه﴾. ﴿مَعَهُ﴾: ظرف ومضاف إليه صلة الموصول. ﴿فِي الْفُلْكِ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿أنجيناه﴾، أو متعلق بالاستقرار الذي تعلق به الظرف قبله. ﴿وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ﴾: فعل وفاعل ومفعول معطوف على ﴿أنجيناه﴾. ﴿كَذَّبُوا﴾: فعل وفاعل صلة الموصول. ﴿بِآياتِنا﴾: متعلق بـ ﴿كذّبوا﴾. ﴿إِنَّهُمْ﴾: ﴿إن﴾: حرف نصب، و ﴿الهاء﴾: اسمها. ﴿كانُوا﴾: فعل ناقص واسمه. ﴿قَوْمًا﴾: خبرها. ﴿عَمِينَ﴾: صفة لـ ﴿قَوْمًا﴾ منصوب بالياء، وجملة ﴿كان﴾ في محل الرفع خبر ﴿إن﴾، وجملة ﴿إن﴾ مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها أعني: أغرقنا.
﴿وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُودًا قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ﴾.
﴿قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٦٦)﴾.
﴿قالَ الْمَلَأُ﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. ﴿الَّذِينَ﴾: صفة لـ ﴿الْمَلَأُ﴾. ﴿كَفَرُوا﴾: صلة الموصول. ﴿مِنْ قَوْمِهِ﴾: جار ومجرور حال من واو ﴿كَفَرُوا﴾. ﴿إِنَّا لَنَراكَ﴾ إلى آخر الآية مقول محكي لـ ﴿قالَ﴾، وإن شئت قلت: ﴿إِنَّا﴾ ﴿إن﴾: حرف نصب، و ﴿نا﴾: ضمير المتكلمين اسمها. ﴿لَنَراكَ﴾: ﴿اللام﴾: حرف ابتداء، ﴿نراك﴾: فعل ومفعول أول. ﴿فِي سَفاهَةٍ﴾: جار ومجرور في محل المفعول الثاني؛ لأن ﴿رأى﴾ هنا قلبية، وفاعله ضمير يعود على المتكلمين، وجملة ﴿رأى﴾ في محل الرفع خبر ﴿إن﴾، وجملة ﴿إن﴾ في محل النصب مقول ﴿قالَ﴾. ﴿وَإِنَّا﴾: ناصب واسمه. ﴿لَنَظُنُّكَ﴾: ﴿اللام﴾: حرف ابتداء. ﴿نظنك﴾: فعل ومفعول أول، وفاعله ضمير يعود على المتكلمين. ﴿مِنَ الْكاذِبِينَ﴾: في محل المفعول الثاني، وجملة ﴿نظنك﴾ في محل الرفع خبر ﴿إن﴾، وجملة ﴿إن﴾ في محل النصب معطوفة على جملة إن الأولى.
﴿قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٦٧)﴾.
﴿أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ (٦٨)﴾.
﴿أُبَلِّغُكُمْ﴾: فعل ومفعول أول، وفاعله ضمير يعود على هود. ﴿رِسالاتِ رَبِّي﴾: مفعول ثان ومضاف إليه، والجملة الفعلية مستأنفة مسوقة لتقرير رسالته وتفصيل أحكامه، وقيل: صفة أخرى لـ ﴿رَسُولٌ﴾، ولكنه راعى الضمير السابق الذي للمتكلم، فقال: ﴿أُبَلِّغُكُمْ﴾، ولو راعى الاسم الظاهر بعده لقال: يبلغكم، والاستعمالان جائزان في كل اسم ظاهر سبقه ضمير حاضر من متكلم أو مخاطب، فيجوز لك وجهان: مراعاة الضمير السابق وهو الأكثر، ومراعاة الاسم الظاهر، فتقول: أنا رجل أفعل كذا مراعاة لأنا، وإن شئت قلت: أنا رجل يفعل كذا مراعاة لرجل، ومثله: أنت رجل تفعل ويفعل بالخطاب والغيبة اه «سمين». ﴿وَأَنَا﴾: مبتدأ. ﴿لَكُمْ﴾: متعلق بـ ﴿ناصِحٌ﴾. ﴿ناصِحٌ﴾: خبر المبتدأ. ﴿أَمِينٌ﴾: صفة له، والجملة الاسمية في محل النصب حال من فاعل ﴿أُبَلِّغُكُمْ﴾.
﴿أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ﴾.
﴿أَوَ﴾ ﴿الهمزة﴾: للاستفهام الإنكاري داخلة على محذوف. ﴿الواو﴾: عاطفة على ذلك المحذوف، ﴿عَجِبْتُمْ﴾: فعل وفاعل، والجملة معطوفة على محذوف تقديره: أكذبتم وعجبتم، والجملة المحذوفة في محل النصب مقول ﴿قالَ﴾. ﴿أَنْ﴾: مصدرية. ﴿جاءَكُمْ﴾: فعل ومفعول في محل النصب بـ ﴿أَنْ﴾ المصدرية. ﴿ذِكْرٌ﴾: فاعل ﴿جاء﴾. ﴿مِنْ رَبِّكُمْ﴾: صفة لـ ﴿ذِكْرٌ﴾، وجملة
﴿وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾.
﴿وَاذْكُرُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة في محل النصب مقول ﴿قالَ﴾. ﴿إِذْ﴾: ظرف لما مضى من الزمان متعلق بـ ﴿اذْكُرُوا﴾. ﴿جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ﴾: فعل ومفعولان، وفاعلة ضمير يعود على الله، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿إِذْ﴾. ﴿مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه صفة لـ ﴿خُلَفاءَ﴾. ﴿وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً﴾: فعل ومفعولان، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة الفعلية في محل الجر معطوفة على جملة ﴿جَعَلَكُمْ﴾ على كونها مضافا إليه لـ ﴿إِذْ﴾. ﴿فَاذْكُرُوا﴾ ﴿الفاء﴾: عاطفة، ﴿اذكروا﴾: فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة ﴿اذكروا﴾ الأول للتأكيد. ﴿آلاءَ اللَّهِ﴾: مفعول به ومضاف إليه. ﴿لَعَلَّكُمْ﴾: ناصب واسمه. ﴿تُفْلِحُونَ﴾: فعل وفاعل، والجملة في محل الرفع خبر ﴿لعل﴾، وجملة ﴿لعل﴾ مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها.
﴿قالُوا أَجِئْتَنا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ ما كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٧٠)﴾.
﴿قالُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. ﴿أَجِئْتَنا﴾ إلى آخر الآية مقول محكي لـ ﴿قالُوا﴾، وإن شئت قلت: ﴿أَجِئْتَنا﴾: ﴿الهمزة﴾: فيه للاستفهام الإنكاري، ﴿جِئْتَنا﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل النصب مقول ﴿قالُوا﴾، ﴿لِنَعْبُدَ اللَّهَ﴾ ﴿اللام﴾ لام كي، ﴿نعبد الله﴾: فعل ومفعول منصوب
﴿قالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجادِلُونَنِي فِي أَسْماءٍ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما نَزَّلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (٧١)﴾.
﴿قالَ﴾: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على ﴿هود﴾، والجملة مستأنفة. ﴿قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ﴾ إلى آخر الآية مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿قَدْ﴾: حرف تحقيق. ﴿وَقَعَ﴾: فعل ماض. ﴿عَلَيْكُمْ﴾: متعلق به. ﴿مِنْ رَبِّكُمْ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿وَقَعَ﴾ أيضا، أو حال من ﴿رِجْسٌ وَغَضَبٌ﴾؛ لأنه صفة نكرة قدمت عليها. ﴿رِجْسٌ﴾: فاعل ﴿وَقَعَ﴾. ﴿وَغَضَبٌ﴾: معطوف عليه، والجملة الفعلية في محل النصب مقول ﴿قالَ﴾. ﴿أَتُجادِلُونَنِي﴾: ﴿الهمزة﴾: فيه للاستفهام
﴿فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنا دابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَما كانُوا مُؤْمِنِينَ (٧٢)﴾.
﴿فَأَنْجَيْناهُ﴾ ﴿الفاء﴾: فاء الفصيحة كما في «أبي السعود»؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفت ما قالوا لهود وما قال هود لهم، وأردت بيان عاقبة الفريقين.. فأقول لك: أنجيناه، ﴿أنجيناه﴾: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. ﴿وَالَّذِينَ﴾: اسم موصول في محل النصب معطوف على هاء ﴿أنجيناه﴾. ﴿مَعَهُ﴾: ظرف ومضاف إليه صلة الموصول. ﴿بِرَحْمَةٍ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿أنجينا﴾. ﴿مِنَّا﴾: جار ومجرور صفة لـ ﴿رحمة﴾. ﴿وَقَطَعْنا﴾: فعل وفاعل معطوف على ﴿أنجينا﴾ على كونه مقولا لجواب إذا المقدرة. ﴿دابِرَ الَّذِينَ﴾: مفعول به ومضاف إليه. ﴿كَذَّبُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول. ﴿بِآياتِنا﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿كَذَّبُوا﴾. ﴿وَما﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿ما﴾: نافية. ﴿كانُوا﴾: فعل ناقص واسمه. ﴿مُؤْمِنِينَ﴾: خبره، وجملة ﴿كانُوا﴾
﴿وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحًا قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٧٣)﴾.
﴿وَإِلى ثَمُودَ﴾: جار ومجرور معطوف على قوله: ﴿إِلى عادٍ﴾ وهو ممنوع من الصرف للعلمية والتأنيث المعنوي؛ لأنه بمعنى القبيلة، فإن لم يرد به القبيلة، بل أريد به الحي.. صرف لكنه لم يقرأ بالصرف هنا إلا شذوذا، ذكره في «الفتوحات». ﴿أَخاهُمْ﴾: مفعول أرسلنا. ﴿صالِحًا﴾ بدل منه، أو عطف بيان له. ﴿قالَ﴾: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على ﴿صالح﴾، والجملة مستأنفة، أو حال من ﴿صالِحًا﴾. ﴿اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ﴾: إلى قوله: ﴿قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ﴾ مقول محكي لـ ﴿قالَ﴾، وإن شئت قلت: ﴿يا قَوْمِ﴾: منادى مضاف، وجملة النداء في محل النصب مقول ﴿قالَ﴾. ﴿اعْبُدُوا اللَّهَ﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل النصب مقول ﴿قالَ﴾ على كونها جواب النداء. ﴿ما﴾: نافية. ﴿لَكُمْ﴾ خبر مقدم. ﴿مِنْ إِلهٍ﴾: مبتدأ مؤخر. ﴿غَيْرُهُ﴾: صفة لـ ﴿إِلهٍ﴾، والجملة في محل النصب مقول ﴿قالَ﴾ على كونها معللة للعبادة. ﴿قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ﴾: فعل ومفعول وفاعل. ﴿مِنْ رَبِّكُمْ﴾: صفة لـ ﴿بَيِّنَةٌ﴾، والجملة في محل النصب مقول ﴿قالَ﴾ على كونها علة بعد علة. ﴿هذِهِ﴾: مبتدأ. ﴿ناقَةُ اللَّهِ﴾: خبر ومضاف إليه، والجملة الاسمية في محل النصب مقول ﴿قالَ﴾ على كونها مستأنفة مسوقة لبيان البينة، ويصح أن تكون الجملة في محل الرفع بدلا من ﴿بَيِّنَةٌ﴾. ﴿لَكُمْ﴾: جار ومجرور خبر ثان لاسم الاشارة، أو حال من ﴿ناقَةُ اللَّهِ﴾، أو معمول لمحذوف تقديره: أعني لكم. ﴿آيَةً﴾: حال من ﴿ناقَةُ اللَّهِ﴾، والعامل فيها: إما معنى التنبيه، وإما معنى الإشارة، كأنه قال: أنبهكم عليها، أو أشير إليها في هذه الحال. ﴿فَذَرُوها﴾ ﴿الفاء﴾: تفريعية لكون ما قبلها علة لما بعدها؛ أي: ذروها لكونها آية من آيات الله، ﴿ذروها﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل
﴿وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ﴾.
﴿وَاذْكُرُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة في محل النصب مقول ﴿قالَ﴾. ﴿إِذْ﴾ ظرف لما مضى متعلق بـ ﴿اذْكُرُوا﴾. ﴿جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ﴾: فعل ومفعولان، وفاعله ضمير يعود على ﴿اللَّهَ﴾. ﴿مِنْ بَعْدِ عادٍ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿جعل﴾، أو صفة لـ ﴿خُلَفاءَ﴾. ﴿وَبَوَّأَكُمْ﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على ﴿الله﴾، والجملة في محل الجر معطوفة على جملة ﴿جَعَلَكُمْ﴾. ﴿فِي الْأَرْضِ﴾: متعلق بـ ﴿بَوَّأَكُمْ﴾. ﴿تَتَّخِذُونَ﴾ فعل وفاعل، والجملة في محل النصب حال من كاف المخاطبين في ﴿بَوَّأَكُمْ﴾. ﴿مِنْ سُهُولِها﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿تَتَّخِذُونَ﴾، أو حال من ﴿قُصُورًا﴾؛ لأنه صفة نكرة قدمت عليها. ﴿قُصُورًا﴾: مفعول به لـ ﴿تَتَّخِذُونَ﴾ على احتمال كون اتخذ متعديا لواحد، ويجوز أن يكون متعديا لاثنين ثانيهما: ﴿مِنْ سُهُولِها﴾. ﴿وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتًا﴾: فعل وفاعل ومفعولان، والجملة معطوفة على جملة ﴿تَتَّخِذُونَ﴾ وهذا على تضمين نحت معنى ما يتعدى إلى مفعولين؛ أي: وتتخذون الجبال بيوتا بالنحت، ويجوز أن ينصب ﴿الْجِبالَ﴾: بنزع الخافض، و ﴿بُيُوتًا﴾: مفعولا به، ويجوز أن يكون
التصريف ومفردات اللغة
﴿لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحًا إِلى قَوْمِهِ﴾ في «المصباح»: قوم الرجل: أقرباؤه الذين يجتمعون معه في جد واحد، وقد يقيم الرجل بين الأجانب، فيسميهم قومه مجازا للمجاورة. وفي «التنزيل»: ﴿قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ﴾ قيل: كان مقيما بينهم، ولم يكن منهم، وقيل: كانوا قومه. اه.
﴿عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ واليوم هنا: يوم القيامة. ﴿قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ﴾ وفي «المصباح» أيضا: الملأ - مهموزا -: أشراف القوم سموا بذلك لملأتهم بما يلتمس عندهم من المعروف وجودة الرأي، أو لأنهم يملؤون العيون أبهة والصدور هيبة، والجمع أملاء مثل سبب وأسباب اه. وفي «أبي السعود»: الملأ: الذين يملؤون صدور المحافل بأجسادهم، والقلوب بجلالتهم وهيبتهم، والعيون بجمالهم وأبهتهم اه.
﴿فِي ضَلالٍ مُبِينٍ﴾ وفي «المصباح»: ضل الرجل الطريق وضل عنه يضل - من باب ضرب - ضلالا وضلالة إذا زل عنه، فلم يهتد إليه، فهو ضال هذه لغة نجد، وهي الفصحى، وبها جاء القرآن في قوله: ﴿إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي﴾ وفي لغة لأهل العالية من باب تعب، والأصل في الضلال الغيبة، ومنه قيل للحيوان الضائع: ضالة - بالهاء - للمذكر والمؤنث، والجمع الضوال مثل: دابة ودواب اه.
والمعنى: أنه قال: أبلغكم جميع تكاليف الله وشرائعه، وأرشدكم إلى الوجه الأصلح والأصوب لكم، وأدعوكم إلى ما دعاني إليه، وأحب لكم ما أحب لنفسي. قال بعضهم: والفرق بين إبلاغ الرسالة وبين النصيحة هو أن تبليغ الرسالة أن يعرفهم جميع أوامر الله ونواهيه، وجميع أنواع التكاليف التي أوجبها عليهم، وأما النصيحة فهي أن يرغبهم في قبول تلك الأوامر والنواهي والعبادات، ويحذرهم عذابه إن عصوه.
﴿ذِكْرٌ﴾ والذكر: الموعظة. ﴿عَلى رَجُلٍ﴾؛ أي: على لسانه ﴿مِنْكُمْ﴾؛ أي: من جنسكم ﴿فِي الْفُلْكِ﴾ وفي «المختار»: الفلك السفينة واحد وجمع تذكر وتؤنث قال تعالى: ﴿فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ﴾ فأفرد وذكر، وقال: ﴿وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ﴾ فأنث، ويحتمل الإفراد والجمع، وقال: ﴿حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ﴾ فجمع وكأنه يذهب (٢) بها إذا كانت واحدة إلى المركب فتذكر، وإلى السفينة فتؤنث. اه.
﴿عَمِينَ﴾ عن فهم الحق (٣) جمع عم صفة مشبهة لكن تصرف فيه بحذف لامه كقاض إذا جمع، فأصله عميين بيائين: الأولى مكسورة، والثانية ساكنة حذفت الأولى تخفيفا على حد قول ابن مالك:
واحذف من المقصور في جمع على | حدّ المثنّى ما به تكمّلا |
(٢) أي فكأنه يلاحظ فيها معنى المركب فتذكر، أو معنى السفينة فتؤنث اه مؤلفه.
(٣) الفتوحات.
وأعلم علم اليوم والأمس قبله | ولكنّني عن علم ما في غد عمي |
﴿أَخاهُمْ هُودًا﴾ الأخ هنا: هو الأخ في النسب، وتقول العرب في أخوة الجنس: يا أخا العرب. ﴿فِي سَفاهَةٍ﴾ والسفاهة: خفة العقل والحمق. ﴿فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ﴾ والآلاء (١): جمع إلي - بكسر الهمزة وسكون اللام - كحمل وأحمال، أو جمع ألي - بضم الهمزة وسكون اللام - كقفل وأقفال، أو جمع إلى - بكسر الهمزة وفتح اللام - كضلع وأضلاع وعنب وأعناب، أو جمع ألى - بفتحهما - كقفا وأقفاء اه «سمين». والإلى على جميع أوجهها النعمة، وأما إلى الذي هو من حروف الجر.. فلا يجمع؛ لأنها حرف، والحرف لا يجمع.
﴿لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ﴾ هو (٢) مصدر محذوف الزوائد، وأصل هذا المصدر: الإيجاد من قولك: أوجدته إيجادا إذا أفردته، فحذفت الهمزة والألف، وهما الزائدان.
﴿قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ﴾ والرجس (٣): العذاب من الأرجاس الذي هو الاضطراب، والغضب: إرادة الانتقام.
﴿أَتُجادِلُونَنِي﴾ المجادلة: المماراة والمخاصمة، والسلطان الحجة والدليل، والدابر الآخر، ويراد به الاستئصال؛ أي: أهلكناهم جميعا.
﴿وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحًا﴾ وأخوة صالح لهم أخوة في النسب كأخوة هود لقومه، كما تقدم في مبحث التفسير، والبينة: المعجزة الظاهرة الدلالة.
وَاذْكُرُوا؛ أي: تذكروا.
(٢) العكبري.
(٣) أبو السعود.
﴿وَتَنْحِتُونَ﴾ والنّحت: نجر الشيء الصلب اه «أبو السعود». وفي «القاموس»: نحته ينحته - كيضربه وينصره ويعلمه - براه، ونحت السفر البعير أنضاه، وفلانا صرعه، والنحاتة البراية، والمنحت ما ينحت به اه. والعيث والعثي: الفساد.
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات ضروبا من البلاغة والفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: التكرار في قوله: ﴿يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ﴾، وفي قوله: ﴿أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ﴾، وفي قوله: ﴿قالَ الْمَلَأُ﴾، وفي قوله: ﴿أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي﴾، وفي قوله: ﴿وَاذْكُرُوا﴾، وفي قوله: ﴿فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ﴾، وفي قوله: ﴿سَفاهَةٍ﴾.
ومنها: المبالغة (١) بجعل الضلال ظرفا له حيث قالوا: ﴿إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ﴾ وزادوا في المبالغة حيث صدروا الجملة بـ ﴿إن﴾ وزادوا في خبرها اللام.
ومنها: التعميم في قوله: ﴿لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ﴾ لأنها أعم من الضلال، وذلك لأن ضلالة دالة على واحدة غير معينة، ونفي فرد غير معين نفي عام. وفيه أيضا المبالغة في الرد عليهم؛ لأنه نفى أن تلتبس به ضلالة واحدة فضلا عن أن يحيط به الضلال، ولو قال: لست ضالا لم يؤد هذا المؤدى.
ومنها: الإضافة في قوله: ﴿يا قَوْمِ﴾ استمالة لقلوبهم إلى الحق.
ومنها: الاستعطاف (٢) والتحضيض على تحصيل التقوى في قوله: ﴿أَفَلا تَتَّقُونَ﴾.
(٢) البحر المحيط.
ومنها: الرجوع في قوله: ﴿لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ﴾، وفي قوله: ﴿لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ﴾: وهو العود إلى الكلام السابق بالنقض والإبطال.
ومنها: جناس الاشتقاق في قوله: ﴿فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ﴾، وفي قوله: ﴿فِي أَسْماءٍ سَمَّيْتُمُوها﴾.
ومنها: المجاز العقلي في قوله: ﴿أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ لأن إسناد المجيء إلى الذكر مجاز.
ومنها: المجاز بالحذف في قوله: ﴿رَجُلٍ مِنْكُمْ﴾؛ أي: على لسان رجل منكم.
ومنها: الاستفهام الإنكاري التوبيخي في مواضع كقوله: ﴿أَوَعَجِبْتُمْ﴾ مثلا.
ومنها: الكناية في قوله: ﴿وَقَطَعْنا دابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا﴾ لأنه كناية لطيفة عن استئصالهم جميعا بالهلاك.
ومنها: التنكير في قوله: ﴿وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ﴾ إفادة للتقليل والتنكير؛ أي: لا تمسوها بأدنى سوء.
ومنها: الإتيان بحرف الترجي في قوله: ﴿وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ للتنبيه (١) على عزة المطلب، وأن التقوى غير موجبة للرحمة، بل هي منوطة بفضل الله تعالى، وأن المتقي ينبغي له أن لا يعتمد على تقواه، ولا يأمن عذاب الله تعالى، كما مر.
ومنها: الطباق في قوله: ﴿تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتًا﴾ بين لفظي الجبال والسهول.
ومنها: الاستعارة في قوله: ﴿وَالَّذِينَ مَعَهُ﴾ لأن المعية (٢) مجاز عن
(٢) شهاب.
ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع.
والله سبحانه تعالى أعلم
* * *
﴿قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (٧٥) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (٧٦) فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقالُوا يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (٧٧) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (٧٨) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (٧٩) وَلُوطًا إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ (٨٠) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (٨١) وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ (٨٢) فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (٨٣) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (٨٤) وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْبًا قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٨٥) وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَها عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (٨٦) وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنا وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (٨٧)﴾.
التفسير وأوجه القراءة
٧٥ - قوله تعالى: ﴿قالَ الْمَلَأُ﴾ والأشراف ﴿الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا﴾؛ أي: تكبروا عن الإيمان بالله تعالى وبصالح ﴿مِنْ قَوْمِهِ﴾؛ أي: من قوم صالح. قرأ (١) ابن عامر: وقال الملأ - بواو عطف -. وقرأ الجمهور: ﴿قالَ﴾ بغير واو -. ﴿لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا﴾ منهم؛ أي: للمساكين الذين استضعفهم المستكبرون
وعبارة المراغي هنا: ﴿قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ...﴾ الخ. قد (٣) جرت سنة الله أن يكون الفقراء المستضعفون أسرع الناس إلى إجابة دعوة الأنبياء والرسل، وإلى كل دعوة لإصلاح، فإنه لا يثقل عليهم أن يكونوا تابعين لغيرهم، وأن يكفر بها أكابر القوم وأغنياؤهم المترفون إذ يشق عليهم أن يكونوا مرؤوسين لسواهم، كما يصعب عليهم الامتناع عن الإسراف في الشهوات، والوقوف عند حدود الاعتدال. وعلى هذا السنن سار الملأ من قوم صالح إذ قالوا للمؤمنين منهم: أتعلمون أن صالحا رسول من عند الله، ومرادهم بهذا: التهكم والاستهزاء بهم.
﴿قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ﴾؛ أي: إنا بما أرسل به صالح من
(٢) الشوكاني.
(٣) المراغي.
٧٦ - ﴿قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا﴾ عن أمر الله، وأمر رسوله صالح ﴿إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ﴾؛ أي: صدقتم به من نبوة صالح، وأن الذي جاء به هو الحق ﴿كافِرُونَ﴾؛ أي: جاحدون منكرون لا نصدق به ولا نقر. وإنما لم يقولوا: إنا بالذي أرسل به صالح كافرون؛ لأن ذلك يتضمن إثبات الرسالة، فلو قالوه لكان شهادة منهم على أنفسهم بجحود الحق على علمهم به استكبارا وعنادا.
٧٧ - ثم ذكر ما فعلوه مما يدل على كفرهم بآيات ربهم، فقال: ﴿فَعَقَرُوا﴾؛ أي: عقر أولئك المستكبرون ﴿النَّاقَةَ﴾؛ أي: ناقة صالح وقتلوها، ونسب الفعل إليهم جميعا، والفاعل واحد منهم، وهو (١) قدار بن سالف، وكان رجلا أحمر أزرق قصيرا يزعمون أنه ابن زانية، ولم يكن لسالف، ولكنه ولد على فراشه، وكان قدار عزيزا متبعا في قومه قتلها بأمرهم في يوم الأربعاء، فقال لهم صالح: إن آية العذاب أن تصبحوا غدا صفرا، ثم أن تصبحوا يوم الجمعة حمرا، ثم أن تصبحوا يوم السبت سودا، ثم يصبحكم العذاب يوم الأحد؛ أي: نسب الفعل إليهم مع كون العاقر واحدا منهم كما جاء في سورة القمر: ﴿فَنادَوْا صاحِبَهُمْ فَتَعاطى فَعَقَرَ (٢٩)﴾ وجاء في «صحيح البخاري» مرفوعا: «فانتدب لها رجل ذو عزة ومنعة في قومه كأبي زمعة؛ لأنهم لما اتفقوا عليه ورضوا به صاروا كأنهم فعلوه جميعا». وفي ذلك تهويل وتفظيع لأمرهم، وإن أضراره ستصيبهم جميعا، ومثل هذا من الأعمال ينسب إلى الأمة في جملتها، وتعاقب عليه جميعها كما قال تعالى:
﴿وَعَتَوْا﴾؛ أي: تكبروا ﴿عَنْ﴾ قبول ﴿أَمْرِ رَبِّهِمْ﴾ الذي أمرهم به صالح؛ أي: وتمردوا وتجبروا عن اتباع الحق الذي بلغهم صالح إياه، وهو ما سلف ذكره. روى أحمد والحاكم عن جابر قال: لما مر رسول الله ﷺ بالحجر قال: «لا تسألوا الآيات فقد سألها قوم صالح، وكانت الناقة ترد من هذا الفج، وتصدر من هذا الفج، فعتوا عن أمر ربهم، وكانت تشرب يوما، ويشربون لبنها يوما، فعقروها، فأخذتهم صيحة أخمد الله من تحت أديم السماء منهم إلا رجلا واحدا كان في حرم الله، وهو أبو رغال، فلما خرج من الحرم أصابه ما أصاب قومه».
﴿وَقالُوا﴾ استهزاء وتهكما ﴿وَقالُوا يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا﴾ وتخوفنا به من العذاب ﴿إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ من عند الله تعالى حقا، فإنهم كذبوا صالحا في قوله: ﴿وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ﴾.
وقرأ ورش والأعمش: ﴿يا صالِحُ ائْتِنا﴾ وأبو عمرو إذا أدرج بإبدال همزة فائتنا واوا لضمة حاء صالح. وقرأ باقي السبعة بإسكانها. وفي كتاب ابن عطية قال أبو حاتم: قرأ عيسى وعاصم: ﴿أوتنا﴾ - بهمزة وإشباع ضم - انتهى. فلعله عاصم الجحدري، لا عاصم بن أبي النجود أحد القراء السبعة ذكره أبو حيان في «البحر». والوعد يكون في الخير والشر؛ أي: قالوا له: ائتنا بما وعدتنا به من عذاب الله ونقمته إن كنت رسولا إلينا، وتدعي أن وعيدك تبليغ عنه، فالله ينصر رسله على أعدائه، فعجل ذلك لنا
٧٨ - ﴿فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ﴾؛ أي: الزلزلة الشديدة من الأرض، والصيحة من السماء ﴿فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ﴾؛ أي: فصاروا في بلدهم خامدين ميتين، لا يتحركون، والمراد: كونهم كذلك عند ابتداء نزول العذاب من غير اضطراب ولا حركة؛ أي: لم يلبثوا أن سقطوا مصعوقين جثثا هامدة نزلت بهم الصيحة في أرضهم.
وفي سورة الحجر: ﴿فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ﴾، وفي سورة حم السجدة: ﴿فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ﴾ وفي سورة الذاريات: ﴿فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ﴾ والمراد
وقد علم أن سبب حدوثها اتصال كهربائية الأرض بكهربائية الجو التي يحملها السحاب، فتحدث صوتا كالصوت الذي يحدث باشتعال قذائف المدافع، وهذا الصوت هو المسمى بالرعد، وتحدث الصاعقة تأثيرات عظيمة، كصعق الناس والحيوان، وهدم المباني أو تصديعها، وإحراق الشجر ونحو ذلك، وقد هدى العلم إلى الطريق في اتقاء أضرارها بالمباني العظيمة بوضع ما يسمونه: «مانعة الصواعق».
وقد يجوز أن الله سبحانه وتعالى جعل هلاكهم في وقت ساق فيه السحاب المشبع بالكهرباء إلى أرضهم بحسب السنن المعروفة، وقد يجوز أن الله قد خلق تلك الصاعقة لأجلهم على سبيل خرق العادة، وأيهما كان قد وقع.. فقد صدق الله رسوله، وحدث ما أنذرهم به.
٧٩ - ﴿فَتَوَلَّى﴾ وأعرض صالح ﴿عَنْهُمْ﴾؛ أي: خرج من بينهم قبل موتهم ﴿وَقالَ﴾؛ أي: صالح ﴿يا قَوْمِ﴾ والله ﴿لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ﴾ وأوصلت إليكم ﴿رِسالَةَ رَبِّي﴾؛ أي: ما أرسلني به ربي إليكم ﴿وَنَصَحْتُ لَكُمْ﴾؛ أي: بذلت لكم النصيحة بالترغيب والترهيب، وبذلت وسعي في نصيحتكم، ولكن لم تقبلوا مني ذلك كما قال: ﴿وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ﴾؛ أي: لا تطيعوا الناصحين لكم، بل تستمروا على عداوتهم. وروي (١) أن صالحا خرج في مئة وعشرة من المسلمين وهو يبكي، فالتفت فرأى الدخان ساطعا، فعلم أنهم قد هلكوا، وكانوا ألفا وخمس مئة دار.
والمعنى (٢): قال لهم صالح بعد أن جرى عليهم ما جرى، مغتما متحسرا، كما يقول المتحسر على من مات جانيا على حياته بالتفاني في شهواته: ألم أنهك عما يوردك ريب المنون؟ ألم أحذرك تلك العاقبة الوخيمة التي لم تتداركها قبل
(٢) المراغي.
وروي مثل هذا مرفوعا عن النبي ﷺ من ندائه بعض قتلى قريش ببدر بعد دفنهم في القليب - البئر غير المبنية - «يا فلان بن فلان، ويا فلان بن فلان أيسركم أنكم أطعتم الله ورسوله، فإنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا، فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا؟». قال راوي الحديث أبو طلحة الأنصاري، قال عمر: يا رسول الله، ما تكلم من أجساد لا أرواح لها - أو فيها - فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«والذي نفسي بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم» رواه البخاري وغيره من طريق قتادة عن أبي طلحة الأنصاري رضي الله عنه ثم قال: قال قتادة أحياهم الله حتى أسمعهم قوله ﷺ توبيخا وتصغيرا لهم، ونقمة وحسرة وندما عليهم اه. قال العلماء: ومثل هذا مما اختص به الأنبياء وبهذا الحديث ونحوه مما ورد من حياة الأنبياء والشهداء في البرزخ يستدل زوار الأضرحة والقبور الذين يدعون أصحابها لقضاء حاجاتهم، ويقولون إن كل من دعا ميتا من الصالحين يسمع منه، ويقضي حاجته قياسا على ذلك مع علمهم بأن الأمور الغيبية يقتصر فيها على ما سمع عن الأنبياء، ولا يدخلها باب القياس.
وحاصل قصة قوم صالح عليه السلام (١): أن الله سبحانه وتعالى لما أهلك عادا.. أقام ثمود مقامهم، وطال عمرهم، وكثر تنعمهم، ثم عصوا الله وعبدوا الأصنام، فبعث الله إليهم صالحا - وكان منهم - فطالبوه بالمعجزة، فقال: ما تريدون؟ فقالوا: تخرج معنا في عيدنا ونخرج أصناما، فتسأل إلهك، ونسأل أصنامنا، فإذا ظهر أثر دعائك اتبعناك، وإن ظهر أثر دعائنا اتبعتنا، فخرج معهم، ودعوا أوثانهم، فلم تجبهم، ثم قال: سيدهم جندع بن عمرو لصالح عليه السلام، وأشار إلى صخرة منفردة في ناحية الجبل - يقال لتلك الصخرة كاثبة -:
أخرج لنا من هذه الصخرة ناقة كبيرة جوفاء براء، فإن فعلت ذلك صدقناك. فأخذ
مسمى بقارة، فرغا ثلاثا، وقال لهم صالح عليه السلام: أدركوا الفصيل عسى أن يرفع عنكم العذاب، فلم يقدروا عليه، وانفتحت الصخرة بعد رغائه، فدخلها فقال لهم صالح: تصبحون غدا وجوهكم مصفرة، وبعد غد وجوهكم محمرة، واليوم الثالث وجوهكم مسودة، ثم يصبحكم العذاب، فلما رأوا العلامات طلبوا أن يقتلوه، فأنجاه الله تعالى إلى أرض فلسطين. ولما كان اليوم الرابع واشتد الضحى تحنطوا بالصبر، وتكفنوا بالإنطاع، فأتتهم صيحة من السماء ورجفة من الأرض، فتقطعت قلوبهم وهلكوا.
٨٠ - ﴿وَ﴾ لقد أرسلنا ﴿لُوطًا﴾؛ أي: لوط بن هاران بن تارخ، وهو ابن أخ إبراهيم، وإبراهيم عمه: ﴿إِذْ قالَ﴾؛ أي: وقت قوله: ﴿لِقَوْمِهِ﴾ أهل سدوم، وكان قد أرسل إليهم، وذلك أن لوطا بعد موت والده هاجر مع عمه إبراهيم عليه السلام إلى الشام، وكانت ولادته في الطرف الشرقي من جنوب العراق في موضع يسمى أرض بابل، فنزل إبراهيم عليه السلام أرض فلسطين، ونزل لوط عليه السلام الأردن، فأرسله الله تعالى إلى أهل سدوم يدعوهم إلى الله تعالى، وينهاهم عن فعلهم القبيح، وهو قوله تعالى: ﴿أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ﴾؛ أي: أتفعلون الفعلة الخسيسة القبيحة التي هي غاية في القبح، وكانت فاحشتهم: إتيان الذكران في
والمعنى: ما سبقكم أيها القوم بهذه الفعلة الفاحشة أحد من العالمين قبلكم. والجملة (٢) استئنافية مقررة للإنكار كأنه وبخهم أولا بإتيان الفاحشة، ثم باختراعها، فإنه أسوأ. قال عمرو بن دينار: ما نزا ذكر على ذكر في الدنيا قبل قوم لوط عليه السلام. والمعنى (٣): أي ما عملها أحد قبلكم في أي زمان، بل هي من مبتدعاتكم في الفساد، فأنتم فيها أسوة وقدوة، فتبؤون بإثمها وإثم من اتبعكم فيها إلى يوم القيامة. وفي هذا بيان بأن ما اجترحوه من السيئات مخالف لمقتضيات الفطرة، ومن ثم لم تتطلع إليه نفوس أحد من البشر قبلهم إلى ما فيه من مخالفة لهدي الدين. قال الحسن: كانوا يأتون الغرباء كانت بلادهم الأردن تؤتى من كل جانب لخصبها، فقال لهم إبليس - وهو في صورة غلام -: إن أردتم دفع الغرباء.. فافعلوا بهم هكذا، فمكنهم من نفسه تعليما لهم، ثم فشا، واستحلوا ما استحلوا.
وفي تسمية (٤) هذا الفعل بالفاحشة دليل على أنه يجري مجرى الزنا يرجم من أحصن، ويجلد من لم يحصن، وفعله عبد الله بن الزبير: أتى بسبعة منهم، فرجم أربعة أحصنوا، وجلد ثلاثة، وعنده ابن عمر وابن عباس، ولم ينكروا به، وبه قال الشافعي. وقال مالك: يرجم أحصن أو لم يحصن، وكذا المفعول به إن كان محتلما، وعنده يرجم المحصن ويؤدب، ويحبس غير المحصن؛ وهو مذهب عطية وابن المسيب والنخعي وغيرهم. وعن مالك أيضا: يعزر أحصن أو لم يحصن؛ وهو مذهب أبي حنيفة. وحرّق خالد بن الوليد رضي الله عنه رجلا يقال له الفجاء عمل ذلك العمل، وذلك برأي أبي بكر وعلي، وإن أصحاب
(٢) البيضاوي.
(٣) المراغي.
(٤) البحر المحيط.
٨١ - والاستفهام في قوله: ﴿إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ﴾ للإنكار والتوبيخ أيضا، وهذا أشنع مما سبق؛ لتأكيده بأن وباللام واسمية الجملة. ذكره أبو السعود، وهذا بيان لقوله: ﴿أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ﴾؛ أي: أئنكم أيها القوم لتأتون وتطؤون أدبار الرجال ﴿شَهْوَةً﴾؛ أي: لمجرد الشهوة واللذة، لا للولد ولا للألفة، وقوله: ﴿مِنْ دُونِ النِّساءِ﴾ حال من الواو في ﴿تَأْتُونَ﴾؛ أي: تطؤون أدبار الرجال حال كونكم متجاوزين النساء، وتاركين إياهن، أو حال من ﴿الرِّجالَ﴾؛ أي: حال كونهم منفردين عن النساء. والمراد بالإتيان هنا: الاستمتاع الذي عهد بمقتضى الفطرة بين الزوجين، وداعيته الشهوة وقصد النسل.
وإنما (١) ذمهم وعيرهم ووبخهم بهذا الفعل القبيح الخبيث؛ لأن الله تبارك وتعالى خلق الإنسان، وركب فيه شهوة النكاح لبقاء النسل وعمران الدنيا، وجعل النساء محلا للشهوة وموضعا للنسل، فإذا تركهن الإنسان، وعدل عنهن إلى غيرهن من الرجال، فكأنما أسرف وجاوز الحد واعتدى؛ لأنه وضع الشيء في غير محله، وموضعه الذي خلق له؛ لأن أدبار الرجال ليست محلا للولادة التي هي مقصودة بتلك الشهوة المركبة في الإنسان.
وقد سجل عليهم هنا أنهم يبتغون الشهوة وحدها، فهم أخس من سائر أفراد الحيوان؛ لأن الذكور منها تطلب الإناث بدافع الشهوة والنسل الذي يحفظ النوع، ألا ترى أن الطيور والحشرات تبدأ حياتها الزوجية ببناء الأعشاش في أعلى الأشجار، أو الوكن في قلل الجبال، أو الأحجار في باطن الأرضين، ولكن هؤلاء المجرمين لا غرض لهم إلا إرضاء شهواتهم، ومن يقصد اللذة وحدها دون النسل.. فقد أسرف فيها، وانقلب نفعها ضرا، وصار خيرها شرا.
وقرأ نافع وحفص عن عاصم (٢): ﴿إنّكم﴾ - بهمزة واحدة مكسورة - على
(٢) المراح.
و ﴿بَلْ﴾ في قوله: ﴿بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ﴾ للإضراب الانتقالي من قصة إلى قصة؛ أي: بل أنتم قوم مجاوزون الحلال إلى الحرام؛ أي: إنكم لا تأتون هذه الفاحشة، ثم تندمون على ما فعلتم، بل أنتم قوم مسرفون فيها وفي سائر أعمالكم، ولا تقفون فيها عند حد الاعتدال، وقد جاء في سورة النمل: ﴿بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ﴾؛ أي: أنتم ذو سفه وطيش، وفي سورة العنكبوت: ﴿أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ﴾ وفي كل هذا دليل على أنهم كانوا مسرفين في لذاتهم متعدين حدود العقل والفطرة، لا يعقلون ضرر ما يفعلون بجنايتهم على النسل والصحة والآداب العامة، فهم لو عقلوا ذلك.. لاجتنبوها، ولو كان لديهم شيء من الفضيلة.. لانصرفوا عنها. وقال هنا (١): ﴿مُسْرِفُونَ﴾ بصيغة اسم الفاعل؛ ليدل على الثبوت، ولموافقة ما سبق من رؤوس الآي في ختمها بالأسماء. وقال في النمل: ﴿تَجْهَلُونَ﴾ بالمضارع لتجدد الجهل فيهم، ولموافقة ما سبق من رؤوس الآي في ختمها بالأفعال.
٨٢ - ﴿وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا﴾؛ أي: ما كان جوابا من جهة قومه شيء من الأشياء في المرة الأخيرة من مرات المحاورة بينه وبينهم إلا قولهم لبعضهم الآخرين المباشرين لتلك الأمور معرضين عن مخاطبة لوط عليه السلام ﴿أَخْرِجُوهُمْ﴾؛ أي: أخرجوا لوطا وابنتيه زعورا ورييشا ﴿مِنْ قَرْيَتِكُمْ﴾ سذوم - بوزن رسول بالذال المعجمة - من قرى حمص بالشام ﴿إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ﴾؛ أي: أي يتنزهون من أدبار الرجال، قالوا ذلك على سبيل السخرية بلوط وأهله، وعلى سبيل الافتخار بما هم فيه. وأتى هنا بقوله: ﴿وَما﴾ وفي النمل والعنكبوت بقوله: ﴿فَما﴾ والفاء هي الأصل في هذا الباب؛ لأن المراد أنهم لم يتأخر جوابهم عن نصحته، وأما الواو فالتعقيب أحد محاملها، فتعين هنا أنها للتعقيب
والمعنى (١): أي وما كان جواب قومه عن هذا الإنكار وتلك النصيحة شيئا من الحجج المقنعة، أو الأعذار المسكنة لثورة الغصب، بل كان جوابهم الأمر بإخراجه هو ومن آمن معه من قريتهم، وما حجتهم على تبرير ما عزموا عليه إلا أن قالوا: إن هؤلاء أناس يتطهرون، ويتنزهون عن مشاركتهم في فسوقهم ورجسهم، فلا سبيل إلى معاشرتهم ولا مساكنتهم لما بينهم من الفوارق في الصفات والأخلاق. والظاهر أن قوله: ﴿إِنَّهُمْ﴾ تعليل للإخراج؛ أي: لأنهم لا يوافقوننا على ما نحن عليه، ومن لا يوافقنا.. وجب أن نخرجه. ذكره أبو حيان.
وهذا الجواب منهم يدل على منتهى السخرية والتهكم والافتخار بما كانوا فيه من القذارة كما يقول الفسقة لبعض الصلحاء إذا وعظوهم: أبعدوا عنا هذا المتقشف، وأريحونا من هذا المتزهد. وقد بلغ من قحتهم وفجورهم أن يفعلوا الفاحشة ويفخروا بها، ويحتقروا من يتنزه عنها، وهذا أسفل الدركات، ولا يهبط إليه إلا من لا يؤمن بالله واليوم الآخر.
٨٣ - ﴿فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ﴾؛ أي: فأنجينا لوطا وأهله؛ وهم بنتاه من العذاب الذي حل بقومه ﴿إِلَّا امْرَأَتَهُ﴾؛ أي: زوجته الكافرة - واسمها واهلة -؛ لأنها ﴿كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ﴾؛ أي: من الباقين في ديارهم، فهلكت في العذاب مع الهالكين فيها؛ لأنها تسر الكفر موالية لأهل سذوم، وقال: ﴿مِنَ الْغابِرِينَ﴾ تغليبا للذكور. وأما لوط فخرج مع بنتيه من أرضهم، وطوى الله له الأرض في وقته حتى نجا، ووصل إلى إبراهيم، وهو في فلسطين؛ أي: فأنجيناه وأهل بيته الذين آمنوا معه إلا امرأته، فإنها لم تؤمن به، بل خانته بولاية قومه الكافرين، فكانت من جماعة الهالكين، أو الباقين الذين نزل بهم العذاب في الدنيا، وبعده عذاب الآخرة.
والإمطار (٣) حقيقة في المطر مجاز فيما يشبهه في الكثرة من خير وشر مما يجيء من السماء، أو من الأرض؛ أي: وأرسلنا عليهم مطرا عجيبا أمره؛ وهو الحجارة التي رجموا بها. وجاء في سورتي هود والحجر أنها حجارة من سجيل مسومة؛ أي: معلمة ببياض في حمرة، وقد يكون سبب إمطار الحجارة عليهم إرسال إعصار من الريح حمل تلك الحجارة، وألقاها عليهم، أو أن تلك الحجارة من بعض النجوم المحطمة التي يسميها علماء الفلك: الحجازة النيزكية؛ وهي بقايا كوكب محطم تجذبه الأرض إليها إذا صار بالقرب منها؛ وهي تحترق غالبا من سرعة الجذب وشدته، وهي الشهب التي ترى بالليل، فإذا سلم منها شيء من الاحتراق، ووصل إلى الأرض.. ساخ فيها، وكان لسقوطه صوت شديد، وقد وجد بعض الناس بعض تلك الحجارة ووضعوها في دور الآثار.
﴿فَانْظُرْ﴾ يا محمد ﴿كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ﴾ هؤلاء ﴿الْمُجْرِمِينَ﴾ وآخر أمرهم الذين كذبوا بالله ورسوله الذي أرسل إليهم، وعملوا الفواحش كيف أهلكناهم بعذاب مستأصل لهم، وهذا الخطاب، وإن كان للنبي صلى الله عليه وسلم، لكن المراد به غيره من أمته؛ ليعتبروا بما جرى على هؤلاء، فينزجروا بذلك الاعتبار عن
(٢) المراح.
(٣) المراغي.
وهذا العقاب أثر طبيعي لذلك، فإنك ترى الترف والفسق يفسدان أخلاق الأمم، ويذهبان ببأسها، ويفرقان كلمتها، ويجعلانها شيعا وأحزابا متعادية، فيسلط الله عليها من يستذلها، ويسلبها استقلالها، ويسخرها لمنافعه، ولا يزال بها هكذا حتى تنقرض وتكون من الهالكين، وقد يكون هلاكها بسنن الله في الأرض من إرسال الجوائح كالزلازل والرياح العاصفة، أو بالأوبئة والأمراض الفتاكة، أو بالثورات والفتن والحروب، ونحو ذلك مما يكون سببا في انقراض الأمم وفنائها.
وخلاصة القول في تحريم هذه الفاحشة:
١ - أنها مفسدة للشبان بالإسراف في الشهوات.
٢ - أنها مفسدة للنساء اللواتي ينصرف أزواجهن عنهن، ويقصرون فيما يجب عليهم من إحصانهن.
٣ - قلة النسل، فإن من لوازم ذلك الرغبة عن الزواج، والرغبة في إتيان الأزواج في غير مأتى الحرث. وفي الحياة الزوجية الشرعية إحصان كل من الزوجين للآخر بقصر لذة الاستمتاع عليه، وجعل ذلك وسيلة للحياة الوالدية التي تنمو بها الأمة، ويحفظ بها النوع الإنساني من الزوال.
٨٥ - ﴿وَ﴾ أرسلنا ﴿إِلى﴾ أولاد ﴿مَدْيَنَ﴾ بن إبراهيم عليه السلام ﴿أَخاهُمْ﴾ في النسب، لا في الدين ﴿شُعَيْبًا﴾ بن ثويب بن مدين بن إبراهيم الخليل بن تارخ بن ناحور بن ساروغ بن أرغو بن فالغ بن عابر؛ وهو هود عليه السلام، فبين شعيب وهود على هذا القول ثمانية آباء، وكان شعيب أعمى، وكان يقال له خطيب الأنبياء لحسن مراجعته قومه. وقال قتادة: أرسل شعيب مرتين: مرة إلى مدين، ومرة إلى أصحاب الأيكة.
قيل: شعيب هو ابن بنت لوط، وقيل: زوج بنته، وهذه مناسبة بين قصته وقصة لوط. وقيل: مدين اسم لقرية شعيب بينها وبين مصر ثمانية مراحل سميت
والمعنى: أرسلنا إلى أهل مدين أخاهم في النسب لا في الدين؛ إذ ﴿قالَ﴾ شعيب لقومه؛ وهم أهل كفر، وبخس للكيل والميزان ﴿يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ﴾ وحده ﴿ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ﴾؛ أي: ليس لكم إله يستحق العبادة منكم غيره تعالى؛ لأنه خالقكم وموجدكم ﴿قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ﴾؛ أي: معجزة واضحة ﴿مِنْ رَبِّكُمْ﴾ دالة على صدقي، ولم يذكر هنا ولا في أي سورة من سور القرآن آية معينة لشعيب عليه السلام، ولكن لا بد أن تكون له آية تدل على صدقه، وتقوم بها الحجة عليهم، وليست كل آيات الأنبياء مذكورة في القرآن. وقيل: أراد بالبينة مجيء شعيب بالرسالة إليهم، وقيل: أراد بالبينة الموعظة المذكورة بقوله الآتي: ﴿فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ...﴾ الخ. فقد روى الشيخان من حديث أبي هريرة أن النبي ﷺ قال: «ما من الأنبياء نبي إلا أعطي من الآيات ما مثلها آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيت وحيا أوحاه الله إلي، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة»؛ أي: أن كل نبي مرسل أعطاه الله تعالى من الآيات الدالة على صدقه وصحة دعوته ما شأنه أن يؤمن البشر على مثله. والبينة كل ما يتبين به الحق، فتشمل المعجزات الكونية والبراهين العقلية، والأمم القديمة لم تكن تذعن إلا لخوارق العادات.
وكانت عادة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أن يبدؤوا في الدعوة بالأهم فالأهم، ولما كانت الدعوة إلى توحيد الله وعبادته أهم الأشياء قال شعيب: اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ، ثم بعد الدعوة إلى التوحيد شرع في نهيهم عما هم عليه من المعاصي، ولما كان المعتاد من أهل مدين البخس في الكيل والوزن.. دعاهم إلى ترك هذه العادة القبيحة، وهي تطفيف الكيل والوزن، فقال: ﴿فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ﴾؛ أي: أتموا كيل المكيال ووزن الميزان إذا بعتم أموالكم للناس ﴿وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ﴾؛ أي: ولا تنقصوا عن الناس أشياءهم وأثمانهم إذا اشتريتم من الناس، أو المعنى (١): ولا تنقصوا حقوق الناس
وعبارة المراغي هنا: قوله: ﴿فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ﴾ قد (١) ثنى الله سبحانه وتعالى بالأمر بإيفاء الكيل والميزان إذا باعوا، والنهي عن بخس الناس أشياءهم إذا اشتروا بعد أن أمرهم بتوحيد الله؛ لأن ذلك كان فاشيا فيهم أكثر من سائر المعاصي، ومن ثم اهتم به كما اهتم لوط بنهي قومه عن الفاحشة السوء أي التي كانت فاشية فيهم، فقد كانوا من المطففين الذين إذا اكتالوا على الناس، أو وزنوا عليهم لأنفسهم ما يشترون من المكيلات والموزونات يستوفون حقهم، ويزيدون عليه، وإذا كالوهم، أو وزنوهم ما يبيعون لهم يخسرون الكيل والميزان؛ أي: ينقصونه، فيبخسون أشياءهم، وينقصونهم حقوقهم.
والبخس: يشمل نقص المكيل والموزون وغيرهما من المبيعات كالمواشي والأشياء المعدودة، ويشمل البخس في المساومة والغش والحيل التي تنتقص بها الحقوق، وفي الحقوق المعنوية كالعلوم والفضائل، وقد فشا كل من هذين النوعين في هذا العصر، فكثير من التجار باخسون مطففون فيما يبيعون وما يشترون، وكثير من المشتغلين بالعلوم والآداب والسياسة بخّاسون لحقوق بني جلدتهم، مدّعون للتفوق عليهم، منكرون لما خص الله به سواهم من المزايا والخصائص حسدا عليهم وبغيا. وقد روي أن قوم شعيب كانوا إذا دخل عليهم الغريب يأخذون دراهمه، ويقولون: هذه زيوف، فيقطعونها قطعا، ثم يشترونها منه بالبخس؛ أي: بالنقصان الظاهر، وأعطوه بدلها زيوفا، وكانت هذه المعصية قد فشت فيهم في ذلك الزمان مع كفرهم الذي نالتهم الرجفة بسببه.
﴿وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ﴾ بالكفر والمعاصي ﴿بَعْدَ إِصْلاحِها﴾؛ أي: بعد أن أصلحها الله سبحانه وتعالى ببعثة الرسل، وإقامة العدل، وإفاضة النعم فيها،
وحاصل المعنى: أنه (٢) سبحانه وتعالى أصلح حال البشر بنظام الفطرة، ومكنهم في الأرض بما آتاهم من القوى العقلية وقوة الجوارح، وبما أودع في خلق الأرض من سنن حكيمة وقوانين مستقيمة، وبما بعث به الرسل من المكملات لنظام الفطرة من آدات وأخلاق، ونظم في المعاملات والاجتماع، وبما أرشد إليه المصلحين من العلماء والحكماء الذين يأمرون بالقسط، ويهدون الناس إلى ما فيه صلاحهم في دينهم، والعاملين من الزراع والصناع والتجار أهل الأمانة والاستقامة الذين ينفعون الناس في دنياهم.
فعليكم أن لا تفسدوا فيها ببغي ولا عدوان على الأنفس والأعراض والأخلاق بارتكاب الإثم والفواحش، ولا تفسدوا فيها بالفوضى وعدم النظام، وبث الخرافات والجهالات التي تقوض نظم المجتمع، وقد كانوا من المفسدين للدين والدنيا كما يستفاد من هذه الآية وما بعدها ﴿ذلِكُمْ﴾ الذي أمرتكم به من الإيمان بالله، ووفاء الكيل والميزان، وترك الظلم والبخس ﴿خَيْرٌ لَكُمْ﴾ مما أنتم عليه من الكفر والمعاصي وظلم الناس في دينكم ودنياكم، فإن ربكم لا يأمر إلا بالنافع، ولا ينهى إلا عن الضار، ولأن الناس إذا علموا منكم الوفاء والصدق والأمانة.. رغبوا في المعاملات معكم، فكثرتم أموالكم ﴿إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾؛ أي: مصدقين لي في قولي هذا؛ أي: وإنما يكون ذلك خيرا لكم إن كنتم مؤمنين بوحدانية الله وبرسوله، وبما جاءكم به من شرع وهدى، فالإيمان يقتضي الامتثال والعمل بما جاء به الرسول من عند الله، وإن خالف النفس
(٢) المراغي.
هذا والبشر لم يصلوا في عصر من العصور إلى عشر ما وصلوا إليه في هذا العصر من العلم بالمنافع والمضار، ومعرفة المصالح والمفاسد في المعاملات والآداب، ومع هذا فإن العلم وحده لم يغنم شيئا، فكثرت في البلاد الجرائم من قتل وسلب وإفساد زرع وفسق وفجور ونحو ذلك مما كان سببا في تدهور نظم المجتمعات، فلم يبق اليوم من الإسلام إلا رسمه، ولا من الدين إلا اسمه، فإنا لله وإنا إليه راجعون. فخير وسيلة لإصلاح الأمم تربية الأحداث والنابتة تربية دينية بإقناعهم بمنافع الفضائل كالصدق والأمانة والعدل، وإقناعهم بمضار الرذائل؛ لأن الوازع النفسي أقوى من الوازع الخارجي.
٨٦ - ﴿وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ﴾؛ أي: ولا تجلسوا على كل طريق محسوس حالة كونكم توعدون، وتخوفون بالقتل من مر عليكم ممن يذهب إلى شعيب ليؤمن به. وقد روي عن ابن عباس: أن بلادهم كانت خصبة، وكان الناس يمتارون منهم، فكانوا يقعدون على الطريق، ويخوفون الناس أن يأتوا شعيبا، ويقولون لهم إنه كذا فلا يفتننكم عن دينكم؛ أي: يقعدون على الطريق، ويخوفون الغرباء الذين يريدون الإيمان بشعيب بالقتل إن آمن به.
﴿وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾؛ أي: وتمنعون عن طاعة الله وعبادته ﴿مَنْ آمَنَ بِهِ﴾؛ أي: من آمن بالله أو بشعيب ﴿وَتَبْغُونَها عِوَجًا﴾؛ أي: وتطلبون لسبيل الله ودينه زيغا وميلا عن الحق، وعدولا عن القصد والصواب بإلقاء الشكوك والشبهات فيها. وجملة الأفعال الثلاثة - التي هي توعدون وتصدون وتبغون - أحوال؛ أي: لا تقعدوا موعدين وصادين وباغين.
والخلاصة:
أنه نهاهم عن أشياء ثلاثة:
١ - قعودهم على الطرقات التي توصل إليه مخوفين من يجيئه ليرجع عنه
٢ - صدهم من وصل إليه وآمن به بصرفه عن الثبات على الإيمان، والاستقامة على الطريق الموصلة إلى سعادة الدارين.
٣ - ابتغاؤهم جعل سبيل الله المستقيمة معوجة بالطعن، وإلقاء الشبهات المشككة فيها، أو المشوهة لها، وهم بعملهم هذا ارتكبوا ضلالتين: التقليد والعصبية للآباء والأجداد، وضلالة الغلو في الحرية الشخصية التي أباحت لهم الطعن في الأديان حتى بلغوا في ذلك حد الطغيان.
﴿وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا﴾؛ أي: وتذكروا الزمن الذي كنتم فيه قليلي العدد ﴿فَكَثَّرَكُمْ﴾ الله سبحانه وتعالى بما بارك في نسلكم، واشكروا له ذلك بعبادته وحده واتباع وصاياه في الحق، والإعراض عن الفساد في الأرض. وقد روي أن مدين بن إبراهيم تزوج بنت لوط، فولدت له، فرمى الله في نسلهما البركة والنماء فكثروا. وقيل المعنى: إذ كنتم مقلين فقراء، فجعلكم مكثرين موسرين، وقيل: إذ كنتم أذلة قليلي العدد، فأعزكم بكثرة العدد والعدد.
﴿وَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ﴾؛ أي: فانظروا وتأملوا نظر اعتبار كيف كان آخر أمر المفسدين في الأرض من الأمم والشعوب المجاورة لكم كقوم نوح وعاد وثمود، وكيف أهلكهم الله بفسادهم وبغيهم في الأرض، فاعتبروا بما حل بهم واحذروا أن يصيبكم مثل ما أصابهم.
٨٧ - ﴿وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ﴾؛ أي: جماعة كائنة ﴿مِنْكُمْ﴾ أيها القوم ﴿آمَنُوا﴾ وصدقوا ﴿بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ﴾ إليكم من الأحكام والشرائع التي شرعها الله تعالى لكم ﴿وَطائِفَةٌ﴾ أخرى منكم ﴿لَمْ يُؤْمِنُوا﴾ ولم يصدقوا بما أرسلت به إليكم ﴿فَاصْبِرُوا﴾؛ أي: فانتظروا أيها المؤمنون والكافرون من الطائفتين ﴿حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنا﴾ وبينكم جميعا من مؤمن وكافر بإعلاء درجات المؤمنين ونصرهم، وبإظهار خزي الكافرين وذلهم ﴿وَهُوَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿خَيْرُ الْحاكِمِينَ﴾؛ أي: أفضلهم وأعلمهم؛ لأنه تعالى حاكم عادل منزه عن الجور لا معقب لحكمه ولا حيف فيه، ولا يخفى ما في هذا من الوعيد والتهديد، وحكم الله بين عباده ضربان:
٢ - حكم فعلي يفصل فيه بين الخلق بمقتضى سننه فيهم كقوله في آخر سورة يونس: ﴿وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (١٠٩)﴾.
والمعنى: وإن كان جماعة صدقوا بالذي أرسلت به إليكم من إخلاص العبادة لله، وترك معاصيه من ظلم الناس وبخسهم في المكاييل والموازين، واتبعوني في كل ذلك، وجماعة أخرى لم يصدقوني وأصروا على شركهم، وإفسادهم. فاصبروا على قضاء الله الفاصل بيننا وبينكم، وهو خير من يفصل، وأعدل من يقضي؛ لتنزهه عن الباطل والجور، وليعتبر كفاركم بعاقبة من قبلهم، وسيحل بهم مثل ما حل بأولئك بحسب السنن التي قدرها العليم الحكيم، ولن تجد لسنة الله تبديلا، ولن تجد لسنة الله تحويلا، والله أعلم.
الإعراب
﴿قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (٧٥)﴾.
﴿قالَ الْمَلَأُ﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. ﴿الَّذِينَ﴾: صفة لـ ﴿الْمَلَأُ﴾. ﴿اسْتَكْبَرُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول. ﴿مِنْ قَوْمِهِ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه حال من واو ﴿اسْتَكْبَرُوا﴾. ﴿لِلَّذِينَ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿قالُوا﴾ ﴿اسْتُضْعِفُوا﴾: فعل ونائب فاعل صلة الموصول. ﴿لِمَنْ﴾: جار ومجرور بدل من الجار والمجرور قبله كقولهم: مررت بزيد بأخيك. ﴿آمَنَ﴾: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على ﴿من﴾، والجملة صلة ﴿من﴾ الموصولة. ﴿مِنْهُمْ﴾: جار ومجرور حال من فاعل ﴿آمَنَ﴾. ﴿أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ﴾ مقول محكي لـ ﴿قالُوا﴾، وإن شئت قلت: ﴿الهمزة﴾: للاستفهام الإنكاري. ﴿تَعْلَمُونَ﴾: فعل وفاعل، والجملة في محل النصب مقول لـ ﴿قالُوا﴾. ﴿أَنَّ﴾: حرف نصب ﴿صالِحًا﴾: اسمها. ﴿مُرْسَلٌ﴾: خبرها. ﴿مِنْ رَبِّهِ﴾: متعلق به، أو
﴿قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقالُوا يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (٧٦)﴾.
﴿قالَ الَّذِينَ﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. ﴿اسْتَكْبَرُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصولة. ﴿إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ﴾ مقول محكي لـ ﴿قالَ﴾، وإن شئت قلت: ﴿إن﴾: حرف نصب، و ﴿نا﴾: اسمها. ﴿بِالَّذِي﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿كافِرُونَ﴾. ﴿آمَنْتُمْ﴾: فعل وفاعل. ﴿بِهِ﴾: جار ومجرور متعلق به، والجملة صلة الموصول. ﴿كافِرُونَ﴾: خبر ﴿إن﴾، وجملة ﴿إن﴾ في محل النصب مقول ﴿قال﴾. ﴿فَعَقَرُوا﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة، ﴿عقروا الناقة﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة معطوفة على جملة قوله: ﴿قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا﴾. ﴿وَعَتَوْا﴾: فعل وفاعل معطوف على ﴿فَعَقَرُوا﴾. ﴿عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ﴾ جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿عَتَوْا﴾. ﴿وَقالُوا﴾ فعل وفاعل معطوف على ﴿عَتَوْا﴾. ﴿يا صالِحُ ائْتِنا﴾ إلى آخر الآية مقول محكي لـ ﴿قالُوا﴾، وإن شئت قلت: ﴿يا صالِحُ﴾: منادى مفرد العلم، وجملة النداء في محل النصب مقول ﴿قالُوا﴾. ﴿ائْتِنا﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على ﴿صالِحُ﴾، والجملة في محل النصب مقول ﴿قالُوا﴾ على كونها جواب النداء. ﴿بِما﴾ جار ومجرور متعلق بـ ﴿ائْتِنا﴾. ﴿تَعِدُنا﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على ﴿صالِحُ﴾ والجملة صلة لـ ﴿ما﴾ أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: بما تعدنا إياه. ﴿إِنْ﴾: حرف شرط. ﴿كُنْتَ﴾: فعل ناقص، واسمه في محل الجزم
﴿فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (٧٨)﴾.
﴿فَأَخَذَتْهُمُ﴾ ﴿الفاء﴾: حرف عطف وتفريع، ﴿أخذتهم الرجفة﴾: فعل ومفعول وفاعل، والجملة معطوفة على جملة قوله: ﴿فَعَقَرُوا النَّاقَةَ﴾. ﴿فَأَصْبَحُوا﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة تفريعية، ﴿أصبحوا﴾: فعل ناقص واسمه. ﴿فِي دارِهِمْ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿جاثِمِينَ﴾. ﴿جاثِمِينَ﴾: خبر ﴿أصبح﴾ منصوب بالياء، وجملة ﴿أصبحوا﴾: معطوفة على جملة قوله: ﴿فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ﴾. ﴿فَتَوَلَّى﴾ ﴿الفاء﴾: حرف عطف وتفريع، ﴿تولى﴾: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على ﴿صالِحُ﴾ ﴿عَنْهُمْ﴾: متعلق به، والجملة معطوفة على جملة ﴿أصبحوا﴾. ﴿وَقالَ﴾: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على ﴿صالِحُ﴾، والجملة معطوفة على جملة ﴿تولى﴾. ﴿يا قَوْمِ﴾ إلى آخر الآية: مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿يا قَوْمِ﴾: منادى مضاف، وجملة النداء في محل النصب مقول ﴿قالَ﴾. ﴿لَقَدْ﴾ ﴿اللام﴾: موطئة لقسم محذوف. ﴿قد﴾: حرف تحقيق. ﴿أَبْلَغْتُكُمْ﴾: فعل وفاعل ومفعول أول. ﴿رِسالَةَ رَبِّي﴾: مفعول ثان ومضاف إليه، والجملة الفعلية جواب للقسم المحذوف، وجملة القسم مع جوابه في محل النصب مقول ﴿قالَ﴾ على كونه جواب النداء. ﴿وَنَصَحْتُ﴾: فعل وفاعل معطوف على ﴿أَبْلَغْتُكُمْ﴾. ﴿لَكُمْ﴾: جار ومجرور متعلق به. ﴿وَلكِنْ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. لكِنْ: حرف استدراك. ﴿لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ﴾: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة معطوفة على جملة قوله: ﴿وَنَصَحْتُ لَكُمْ﴾ على كونها مقولا لـ ﴿قالَ﴾.
﴿وَلُوطًا إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ (٨٠)﴾.
﴿إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (٨١)﴾.
﴿إِنَّكُمْ﴾ ﴿إنّ﴾: حرف نصب، و ﴿الكاف﴾: اسمها، ﴿لَتَأْتُونَ﴾: ﴿اللام﴾: حرف ابتداء، ﴿تأتون الرجال﴾: فعل وفاعل ومفعول. ﴿شَهْوَةً﴾: مفعول من أجله، أو حال من واو ﴿تأتون﴾؛ أي: مشتهين، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر ﴿إنّ﴾، وجملة ﴿إنّ﴾ في محل النصب مقول ﴿قالَ﴾. ﴿مِنْ دُونِ النِّساءِ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه حال من الواو في ﴿تأتون﴾؛ أي: حال كونكم متجاوزين النساء، أو من الرجال؛ أي: حال كونهم منفردين من النساء. ﴿بَلْ﴾: حرف للاضراب الانتقالي. ﴿أَنْتُمْ﴾: مبتدأ. ﴿قَوْمٌ﴾: خبر. ﴿مُسْرِفُونَ﴾: صفته، والجملة في محل النصب مقول ﴿قالَ﴾.
﴿وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ (٨٢)﴾.
﴿وَما﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية. ﴿ما﴾: نافية. ﴿كانَ﴾: فعل ماض ناقص. ﴿جَوابَ قَوْمِهِ﴾: خبرها ومضاف إليه مقدما على اسمها. ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ. ﴿أَنْ﴾: حرف نصب ومصدر. ﴿قالُوا﴾: فعل وفاعل في محل النصب بـ ﴿أَنْ﴾ المصدرية، والجملة في تأويل مصدر مرفوع على كونه اسم ﴿كانَ﴾
﴿فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (٨٣)﴾.
﴿فَأَنْجَيْناهُ﴾: ﴿الفاء﴾: فاء الفصيحة، لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفت ما قال لهم لوط وما قالوا له، وأردت بيان عاقبة أمره وأمرهم.. فأقول لك، ﴿أنجيناه﴾: فعل وفاعل ومفعول. ﴿وَأَهْلَهُ﴾: معطوف على الهاء في ﴿أنجيناه﴾، والجملة في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء. ﴿امْرَأَتَهُ﴾: مستثنى ومضاف إليه. ﴿كانَتْ﴾: فعل ماض ناقص، واسمها ضمير يعود على المرأة. ﴿مِنَ الْغابِرِينَ﴾: جار ومجرور خبرها، وجملة ﴿كان﴾: مستأنفة استئنافا بيانيا وقع جوابا عن سؤال نشأ من استثنائها، كأنه قيل: فماذا كان حالها؟ فقيل: كانت من الغابرين. ذكره أبو السعود.
﴿وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (٨٤)﴾.
﴿وَأَمْطَرْنا﴾: فعل وفاعل. ﴿عَلَيْهِمْ﴾: متعلق به ﴿مَطَرًا﴾: مفعول به، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة قوله: ﴿فَأَنْجَيْناهُ﴾ على كونها مقولا لجواب إذا المقدرة. ﴿فَانْظُرْ﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة، ﴿انظر﴾: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد، أو على كل من يصلح للخطاب، والجملة معطوفة على جملة ﴿وَأَمْطَرْنا﴾. ﴿كَيْفَ﴾: اسم استفهام في محل النصب خبر ﴿كانَ﴾ مقدم عليها وجوبا. ﴿كانَ﴾: فعل ماض ناقص. ﴿عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ﴾: اسمها ومضاف إليه. وفي «الفتوحات»: ﴿كَيْفَ﴾ وما في حيزها معلقة للنظر عن العمل،
﴿وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْبًا قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ﴾.
﴿وَإِلى مَدْيَنَ﴾: جار ومجرور متعلق بأرسلنا محذوفا ممنوع من الصرف للعلمية والتأنيث المعنوي. ﴿أَخاهُمْ﴾: مفعول أرسلنا المحذوف. ﴿شُعَيْبًا﴾: بدل من ﴿أَخاهُمْ﴾، أو عطف بيان له، والجملة المحذوفة معطوفة على جملة قوله: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحًا﴾. ﴿قالَ﴾: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على ﴿شعيب﴾، والجملة مستأنفة. ﴿يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ﴾ إلى قوله: ﴿قالَ الْمَلَأُ﴾ مقول محكي لـ ﴿قالَ﴾، وإن شئت قلت: ﴿يا قَوْمِ﴾: منادى مضاف، وجملة النداء مقول ﴿قالَ﴾. ﴿اعْبُدُوا اللَّهَ﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل النصب مقول ﴿قالَ﴾ على كونها جواب النداء. ﴿ما﴾: نافية. ﴿لَكُمْ﴾: خبر مقدم. ﴿مِنْ إِلهٍ﴾: مبتدأ مؤخر. ﴿غَيْرُهُ﴾: صفة لـ ﴿إِلهٍ﴾ تابع لمحله، والجملة في محل النصب مقول ﴿قالَ﴾. ﴿قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ﴾: فعل ومفعول وفاعل. ﴿مِنْ رَبِّكُمْ﴾: صفة لـ ﴿بَيِّنَةٌ﴾، والجملة في محل النصب مقول ﴿قالَ﴾. ﴿فَأَوْفُوا الْكَيْلَ﴾: ﴿الفاء﴾: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفتم مجيء بينة من ربكم، وأردتم بيان ما هو اللازم لكم.. فأقول لكم: ﴿أوفوا الكيل﴾: فعل وفاعل ومفعول. ﴿وَالْمِيزانَ﴾: معطوف على ﴿الْكَيْلَ﴾، والجملة في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة في محل النصب مقول ﴿قالَ﴾. ﴿وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ﴾: فعل وفاعل ومفعولان، والجملة معطوفة على جملة قوله ﴿أوفوا﴾.
﴿وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾.
﴿وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَها عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (٨٦)﴾.
﴿وَلا تَقْعُدُوا﴾: فعل وفاعل. ﴿بِكُلِّ صِراطٍ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق به، والجملة معطوفة على جملة ﴿فَأَوْفُوا الْكَيْلَ﴾. ﴿تُوعِدُونَ﴾: فعل وفاعل، والجملة في محل النصب حال من واو ﴿تَقْعُدُوا﴾. ﴿وَتَصُدُّونَ﴾: فعل وفاعل، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة ﴿تُوعِدُونَ﴾. ﴿عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿تَصُدُّونَ﴾. ﴿مَنْ﴾: اسم موصول في محل النصب مفعول تصدون. ﴿آمَنَ﴾: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على ﴿مَنْ﴾. ﴿بِهِ﴾: متعلق بـ ﴿آمَنَ﴾، والجملة صلة الموصول. ﴿وَتَبْغُونَها﴾: فعل وفاعل ومفعول. ﴿عِوَجًا﴾: حال من الهاء، والجملة الفعلية في محل النصب معطوفة على ﴿تَصُدُّونَ﴾ على كونها حالا من واو ﴿تَقْعُدُوا﴾. ﴿وَاذْكُرُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة ﴿فَأَوْفُوا﴾. ﴿إِذْ﴾: ظرف لما مضى في محل النصب على الظرفية متعلق بـ ﴿اذْكُرُوا﴾. ﴿كُنْتُمْ﴾: فعل ناقص واسمه. ﴿قَلِيلًا﴾: خبره، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿إِذْ﴾. ﴿فَكَثَّرَكُمْ﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة، ﴿كثركم﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على ﴿الله﴾، والجملة في محل الجر معطوفة على جملة ﴿كُنْتُمْ﴾. ﴿وَانْظُرُوا﴾:
﴿وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنا وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (٨٧)﴾.
﴿وَإِنْ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية. إِنْ: حرف شرط. كانَ طائِفَةٌ: فعل ناقص، واسمه في محل الجزم بـ ﴿إِنْ﴾ على كونه فعل شرط لها. ﴿مِنْكُمْ﴾: صفة لـ ﴿طائِفَةٌ﴾. ﴿آمَنُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة في محل النصب خبر ﴿كانَ﴾. ﴿بِالَّذِي﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿آمَنُوا﴾. ﴿أُرْسِلْتُ﴾: فعل ونائب فاعل. ﴿بِهِ﴾: متعلق به، والجملة صلة الموصول. ﴿وَطائِفَةٌ﴾: معطوف على ﴿طائِفَةٌ﴾. ﴿لَمْ يُؤْمِنُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة في محل النصب خبر ﴿كانَ﴾؛ أي: وإن كانت طائفة منكم مؤمنين بالذي أرسلت به وطائفة غير مؤمنين. ﴿فَاصْبِرُوا﴾ ﴿الفاء﴾: رابطة لجواب ﴿إِنْ﴾ الشرطية وجوبا، ﴿اصبروا﴾: فعل وفاعل في محل الجزم بـ ﴿إِنْ﴾ الشرطية على كونه جوابا لها، وجملة ﴿إِنْ﴾ الشرطية في محل النصب مقول ﴿قالَ﴾ على كونها مستأنفة. ﴿حَتَّى﴾: حرف جر وغاية. ﴿يَحْكُمَ اللَّهُ﴾: فعل وفاعل منصوب بأن مضمرة وجوبا بعد ﴿حَتَّى﴾. ﴿بَيْنَنا﴾: ظرف ومضاف إليه متعلق به، والجملة في تأويل مصدر مجرور بـ ﴿حَتَّى﴾ بمعنى إلى، والجار والمجرور متعلق بـ ﴿فَاصْبِرُوا﴾، والتقدير: فاصبروا إلى حكم الله بيننا وبينكم. ﴿وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ﴾: مبتدأ وخبر ومضاف إليه، والجملة في محل النصب حال من الجلالة.
التصريف ومفردات اللغة
﴿قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا﴾؛ أي: تكبروا، فالسين فيه زائدة.
قول الأزهري. وقال ابن قتيبة: العقر: القتل كيف كان، يقال: عقرتها فهي معقور، وقيل: العقر الجرح. اه.
وفي «المصباح»: عقره عقرا - من باب ضرب - جرحه وعقر البعير بالسيف عقرا ضرب قوائمه به، ولا يطلق العقر في غير القوائم، وربما قالوا: عقره إذا نحره، فهو عقير وجمال عقري. اه.
﴿وَعَتَوْا﴾؛ أي: تمردوا مستكبرين، والعتو: الامتناع من الشيء: إما عن عجز وضعف ومنه عتا الشيخ عتيا إذا أسن وكبر، وإما عن قوة كعتو الجبارين والمستكبرين، ويقولون: نخلة عاتية إذا كانت عارية يمتنع جناها على من يريدها إلا بمشقة التسلق والصعود.
وفي «الفتوحات»: العتو والعتي النتو؛ أي: الارتفاع عن الطاعة، يقال منه: عتى يعتو عتوا وعتيا بقلب الواوين ياءين، والأحسن فيه إذا كان مصدرا تصحيح الواوين -: كقوله تعالى: ﴿وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا﴾ - وإذا كان جمعا الإعلال: نحو قوم عتي؛ لأن الجمع أثقل، فناسبه الإعلال تخفيفا، وقوله تعالى: ﴿أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا﴾ يحتمل الوجهين. اه «سمين».
﴿فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ﴾ الرجفة: المرة من الرجف، وهو الحركة والاضطراب، يقال: رجف البحر إذا اضطربت أمواجه، ورجفت الأرض زلزلت واهتزت، ورجف القلب والفؤاد من الخوف. ﴿فِي دارِهِمْ﴾ دار الرجل ما يسكنها هو وأهله، ويطلق على البلد؛ وهو المراد هنا.
﴿جاثِمِينَ﴾ يقال: جثم الناس إذا قعدوا لا حراك بهم، وفي «السمين» وقال: أبو عبيدة: الجثوم للناس والطير كالبروك للإبل. اه. وفي «المصباح»:
﴿وَلُوطًا﴾ هو (١) لوط بن هاران ابن أخي إبراهيم عليهما السلام ولد في الطرف الشرقي من جنوب العراق، وكانت تسمى أرض بابل، وكان قد سافر بعد موت والده مع عمه إبراهيم عليه السلام إلى ما بين النهرين، وكان يسمى جزيرة قورا، وهناك كانت مملكة أشور، ثم أسكنه إبراهيم شرقي الأردن، لجودة مراعيها، وكان في ذلك المكان المسمى بعمق السديم بقرب البحر الميت، أو بحر لوط قرى خمس سكن لوط في إحداها المسماة بسذوم، وكانت تعمل الخبائث، ولا يوجد الآن ما يدل على موضعها بالتحديد، وبعض الناس يقول: إن البحر قد غمرها، ولا دليل لهم على ذلك.
﴿شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ﴾ شهوة إما مفعول لأجله، أو مصدر واقع موقع الحال؛ أي: مشتهين ملتذين، أو باق على مصدريته، ناصبه أَتَأْتُونَ؛ لأنه بمعنى: أتشتهون شهوة، ويقال: شهي يشهى شهوة وشهى يشهو شهوة من بابي تعب وعلا. كما في «المصباح».
﴿مِنَ الْغابِرِينَ﴾ في «المصباح»: غبر غبورا - من باب قعد - إذا بقي، ويستعمل فيما مضى أيضا، فيكون من الأضداد، قال الزبيدي: غبر غبورا: مكث. اه.
﴿وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ﴾ قال أبو عبيد (٢): يقال: مطر في الرحمة، وأمطر في
(٢) الفتوحات.
﴿فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ﴾ والكيل (١): مصدر كنى به عن الآلة التي يكال بها كقوله في هود: ﴿الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ﴾، فطابق قوله: ﴿وَالْمِيزانَ﴾ وهو باقي على المصدرية، وأريد بالميزان المصدر كالميعاد لا الآلة، فتطابقا، أو حمل الميزان على حذف مضاف؛ أي: ووزن الميزان والكيل على إرادة المكيال، فتطابقا.
﴿وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ﴾ يقال: بخسه حقه؛ أي: نقصه ﴿وَلا تُفْسِدُوا﴾ والإفساد شامل لإفساد نظام الاجتماع بالظلم، وأكل أموال الناس بالباطل، وإفساد الأخلاق والآداب بارتكاب الإثم والفواحش، وإفساد العمران بالجهل وعدم النظم.
﴿بَعْدَ إِصْلاحِها﴾ وإصلاح الأرض هو إصلاح حال أهلها بالعقائد الصحيحة، والأعمال الصالحة المزكية للأنفس، والأعمال المرقية للعمران المحسنة لأحوال المعيشة. ﴿بِكُلِّ صِراطٍ﴾ الصراط: الطريق المحسوس.
﴿تُوعِدُونَ﴾؛ أي: تخوفون الناس بالقتل والضرب. وفي «القاموس» الوعيد: التهديد، والتوعد: التهدد كالإيعاد. اه. ثم قال: وهدده خوفه. اه.
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات ضروبا من البلاغة والفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: الطباق بين قوله: ﴿الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا﴾.. و ﴿لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا﴾: وبين ﴿مُؤْمِنُونَ﴾ و ﴿كافِرُونَ﴾، وبين ﴿الرِّجالَ﴾ و ﴿النِّساءِ﴾ في قوله: ﴿لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ﴾، وبين قوله: ﴿وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا﴾ وقوله ﴿وَطائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا﴾.
ومنها: الجناس المغاير في قوله: ﴿وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ﴾، وفي قوله: ﴿أَنَّ صالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ﴾، وفي قوله: ﴿وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَرًا﴾، وفي قوله: ﴿حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ﴾.
ومنها: المجاز المرسل في قوله: ﴿فَعَقَرُوا﴾ لأن العاقر واحد منهم، فنسب العقر إلى الكل لرضاهم له نسبة لما للبعض إلى الكل.
ومنها: الاكتفاء في قوله: ﴿فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ﴾؛ أي: والصيحة من السماء وقد وقع التصريح بها آية أخرى، فكان عذابهم بالرجفة والصيحة، فذكر في كل موضع واحدة منهما اه «قاري».
ومنها: الاستفهام الإنكاري التوبيخي في قوله: ﴿أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ﴾.
ومنها: السخرية والاستهزاء بلوط وأهله في قوله: ﴿إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ﴾
ولا عيب فيهم غير أنّ سيوفهم | بهنّ فلول من قراع الكتائب |
* * *
وكان الفراغ من مسودة هذا الجزء بالمسفلة حارة الرشد من مكة المكرمة زادها الله شرفا، ورزقنا الموت فيها، في اليوم التاسع عشر من الشهر المبارك الربيع الأول يوم الأربعاء قبيل الغروب من شهور سنة عشر وأربعمئة وألف من الهجرة النبوية - على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التحية - بتاريخ: ١٩/ ٣/ ١٤١٠ هـ، الموافق ١٨/ ١٠/ ١٩٨٩ م في شهر أكتوبر.
وكان الانتهاء إلى هذا الموضع في التاريخ المذكور في أعلى الصحيفة بيد مؤلفه: محمد أمين بن عبد الله الأرمي الأثيوبي الهرري الراجي من ربه سبحانه أن يعينه على إكماله، وييسره عليه، ويوفقه لما هو المعنى عنده، ويجعل في عمره البركة إلى تمامه، ويحفظ عليه سمعه وبصره وفهمه وعقله وجسمه وجميع قواه إلى انتهائه، وينفع به من شاء من عباده، ويجعله لهم مرجعا في علوم كتابه، وذخيرة له عند وفوده إلى دار الآخرة، ويجعله خالصا مخلصا لوجهه، إنه على ما يشاء قدير، وبالإجابة جدير، وصلى الله وسلم على سيدنا ومولانا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه أجمعين والحمد لله رب العالمين.
تم المجلد التاسع من شرح حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن، ويليه المجلد العاشر وأوله قوله تعالى: ﴿قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ...﴾ الآية.
أُطْلُبْ وَلاَ تَضْجَرَنَّ مِنْ مَطْلَبٍ | فَآفَةُ الطَّالِبِ أَنْ يَضْجَرَا |
أَمَا تَرَى الْحَبْلَ بِتَكْرَارِهِ | فِيْ الصَّخْرَةِ الصَّمَّاءِ قَدْ أَثَّرَا |
دَبَبْتُ لِلْمَجْدِ وَالسَّاعُوْنَ قَدْ بَلَغُوْا | حَدَّ النُّفُوْسِ وَأَلْقَوْا دُوْنَهُ الأُزُرَا |
وَكَابَدُوْا الْجُهْدَ حَتَّى مَلَّ أَكْثَرُهُمْ | وَعَانَقَ الْمَجْدَ مَنْ وَافَى وَمَنْ صَبَرَا |
لاَ تَحْسَبِ الْمَجْدَ تَمْرًا أَنْتَ آكِلُهُ | لَنْ تَبْلُغَ الْمَجْدَ حَتَّى تَلْعَقَ الصَّبْرَا |
كِتَابٌ لَوْ يُبَاعُ بَوْزْنِهِ ذَهَبًا | لَكَانَ الْبَائِعُ فِيْهِ الْمَغْبُوْنَا |
حَوَى مِنْ ثِمَارِ التَّفْسِيْرِ أَفْنَانَا | فَالْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى مَا حَبَانَا |
جَزَى اللَّهُ خَيْرًا مَنْ تَأَمَّلَ صَنْعَتِيْ | وَقَابَلَ مَا فِيْهَا مِنَ السَّهْوِ بِالْعَفْوِ |
وَأَصْلَحَ مَا أَخْطَأْتُ فِيْهِ بِفَضْلِهِ | وَفِطْنَتِهِ أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ مِنْ سَهْوِيْ |
يَا طَالِبَ الْعِلْمِ بَاشِرُ الْوَرَعَا | وَجَانِب النَّوْمَ وَاحْذَرِ الشِّبَعَا |
دَاوِمْ عَلَى الدَّرْسِ لاَ تُفَارِقْهُ | فَالْعِلْمُ بِالدَّرْسِ قَامَ وَارْتَفَعَا |
فإن تكن الأيّام أحسنّ مدّة | إليّ فقد عادت لهنّ ذنوب |
انتهى.
﴿قالَ﴾ شعيب عليه السلام ﴿أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ﴾؛ أي (٣): أتأمروننا أن نعود
(٢) الخازن.
(٣) المراغي.
والمعنى: لا تطمعوا في عودنا مختارين ولا مكرهين، فتأمل - ذكره الصاوي - إنّكم لقد جهلتم أنّ الدين عقيدة وأعمال، يتقرب بها إلى الله الذي شرعها لتكميل الفطرة البشرية، كما جهلتم أنّ حب الوطن لا يبلغ منزلة حب الدين لدي ولدى قومي، فظننتم فيّ وفيمن آمن معي أنّنا نؤثر التمتع بالإقامة في الوطن على مرضاة الله تعالى بالتوحيد المطهّر من أدران الخرافات، وبالفضائل المهذبة للنفوس، والمرقية لها في معارج الكمال، حتى تتم لنا سعادة الدنيا والآخرة.
فللدين منزلة في النفوس لا تسمو إليها منزلة أخرى، فإن تمكن صاحبه من إقامته في وطنه، وإصلاح أهله به.. فهم أحق به، وإن فتن في دينه فيه.. كان تركه واجبا عليه، وقد أوجب الله الهجرة على من يستضعف في وطنه، فيمنع من إقامة دينه فيه، فإن لم يفعل ذلك.. دخل تحت وعيد قوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيرًا ٩٧ إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ﴾ الآية.
وقال الشوكاني (١): وجملة قوله: ﴿قالَ أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ﴾ مستأنفة جواب عن سؤال مقدر، والهمزة لإنكار وقوع ما طلبوه من الإخراج أو العود، والواو للحال؛ أي: أتعيدوننا في ملتكم في حال كراهتنا للعود إليها، أو أتخرجوننا من قريتكم في حال كراهتنا للخروج منها، أو في حال كراهتنا للأمرين جميعا؟
والمعنى: أنّه ليس لكم أن تكرهونا على أحد الأمرين، ولا يصح لكم ذلك، فإنّ المكره لا اختيار له، ولا تعد موافقته مكرها موافقة، ولا عوده إلى ملتكم مكرها عودا، وبهذا التقدير يندفع ما استشكله كثير من المفسرين في هذا
٨٩ - ﴿قَدِ افْتَرَيْنا﴾ واختلقنا ﴿عَلَى اللَّهِ﴾ سبحانه وتعالى ﴿كَذِبًا﴾ عظيما وتخرصنا عليه من القول باطلا ﴿إِنْ﴾ نحن ﴿عُدْنا﴾ ورجعنا ودخلنا في ﴿مِلَّتِكُمْ﴾ الباطلة، وقد علمنا فساد ما أنتم عليه من الملة والدين ﴿بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى وخلصنا ﴿مِنْها﴾ وبصرنا خطأها، وهدانا الصراط المستقيم، باتباع ملة إبراهيم، وإذا كان اتباع ملتكم يعد افتراء على الله لأنّه قول عليه، لا علم لنا به بوحي ولا برهان من العقل.. فكيف بمن يفتري عليه ويضل عن صراطه على علم؟ فالكفر بالحق وغمطه بعد العلم به هو شر أنواع الكفر، والافتراء على الله فيه أفظع ضروب الافتراء، التي لا تقبل فيها الأعذار بحال.
وفي قوله: ﴿إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ﴾، أيضا فيه من الإشكال (١) مثل ما في الأول، وهو أنّ شعيبا عليه السلام ما كان في ملتهم قط حتى يقول: ﴿إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْها﴾ والجواب عنه مثل ما أجيب به عن الإشكال الأول، وهو أن تقول: إنّ الله نجى قومه الذين آمنوا به من تلك الملة الباطلة، إلا أنّ شعيبا نظم نفسه في جملتهم وإن كان بريئا مما كانوا عليه من الكفر، فأجرى الكلام على حكم التغليب، وقيل: معنى ﴿نَجَّانَا اللَّهُ مِنْها﴾ علمنا قبح ملتكم، وفسادها، فكأنّه خلصنا منها. وعبارة المراغي قوله: ﴿إِذْ نَجَّانَا﴾؛ أي: نجى أصحابي منها، فهو تغليب بإدخاله في زمرتهم، أو: نجاني من الإنتماء إلى هذه الملة التي ما كنت أؤمن بعقيدتها، ولا أعمل بعمل أهلها. انتهى.
﴿وَما يَكُونُ لَنا﴾؛ أي: ما ينبغي لنا، ولا يصح منا، ولا يستقيم ﴿أَنْ نَعُودَ﴾ ونرجع إلى ملتكم وندخل ﴿فِيها﴾ ونترك الحق الذي نحن عليه في حال من الأحوال ﴿إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّنا﴾؛ أي: إلا في حال مشيئة ربنا أن نعود فيها، فهو وحده القادر على ذلك، لا أنتم ولا نحن، لأنّا موقنون بأن ملتكم باطلة، وملتنا هي الحق، التي بها صلاح حال البشر وعمران الأرض، فحينئذ يمضي
وهذه الجملة (١) رفض آخر للعود إلى ملتهم، مؤكد أبلغ التأكيد، مؤس لهم من عودته ومن آمن معه إلى ملتهم، فبعد أن نفى وقوع العود منهم باختيارهم، نفاه نفيا مؤكدا بأنّه ليس من شأنهم، ولا يجىء من قبلهم بحال من الأحوال، كالترغيب والترهيب، بالرجاء في المنافع، والخوف من المضار، كالإخراج من الديار إلا حالا واحدة، وهي مشيئة الله، ومشيئته تجري بحسب علمه وحكمته في خلقه، وسنته في خلقه أن ينصر أهل الحق على أهل الباطل ما داموا ناصرين له، وقائمين بما هداهم إليه منه.
وخلاصة ذلك: لا تطمعوا أن يشاء ربنا الحفي بنا، عودتنا في ملتكم، بعد إذ نجانا منها بفضله، فما كان الله ليدحض حجته ويغير سنته.
وقال الواحدي: معنى (٢) العود هنا الابتداء.
والذي عليه أهل العلم والسنة في هذه الآية: أنّ شعيبا وأصحابه قالوا: ما كنا نرجع إلى ملتكم بعد أن وقفنا على أنّها ضلالة تكسب دخول النار، إلا أن يريد الله إهلاكنا، فأمورنا راجعة إلى الله، غير خارجة عن قبضته، يسعد من يشاء بالطاعة، ويشقي من يشاء بالمعصية، وهذا من شعيب وقومه استسلام لمشيئة الله تعالى، ولم تزل الأنبياء والأكابر يخافون العاقبة وانقلاب الأمر، ألا ترى إلى قول الخليل عليه السلام: ﴿وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ﴾. وكان نبينا محمد صلى الله عليه وسلّم كثيرا ما يقول: «يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك». قال الزجاج - رحمه الله تعالى -: المعنى: وما يكون لنا أن نعود فيها، إلا أن يكون قد سبق في علم الله ومشيئته أن نعود فيها، وتصديق ذلك قوله: ﴿وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا﴾؛ أي: أحاط علم ربنا سبحانه وتعالى أزلا بكل الأشياء، ويعلم ما كان وما سيكون، قبل أن يكون، فالسعيد من سعد في علم الله، والشقي من شقي في علم الله، فهو سبحانه وتعالى يعلم كل حكمة ومصلحة ومشيئة تجري على موجب الحكمة، فكل
(٢) الواحدي.
كيف وقد قال النبي صلى الله عليه وسلّم لمن سأله: أيترك ناقته سائبة ويتوكل على الله؟ «إعقلها وتوكل». رواه الترمذي، وقال تعالى مخاطبا رسوله صلى الله عليه وسلّم، بعد أن أمره بمشورة أصحابه في غزوة أحد: ﴿فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ﴾؛ وإنما يكون العزم بعد الأخذ في الأسباب، فقد لبس من يومئذ در عين، وأعد العدة لقتال أعدائه، ورتب الجيوش بحسب القوانين المعروفة في ذلك العصر.
وخلاصة رد شعيب على الملأ من قومه: أنّه عجب من تهديدهم وإنذارهم، وأقام الأدلة على امتناع عودهم إلى ملة الكفر باختيارهم، وعدم استطاعة أحد إجبارهم عليه، غير الله الفعال لما يريد، ثمّ ثنى بذكر توكله على الله الذي يكفي من توكل عليه ما أهمه، مما هو فوق كسبه واختياره، ثمّ ثلث بالدعاء الذي لا يكون مرجو الإجابة إلا بعد القيام بعمل ما في الطاقة من الأعمال الكسبية مع التوكل على الله فقال: ﴿رَبَّنَا افْتَحْ﴾ واحكم وافصل واقض ﴿بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ﴾؛ أي: بالعدل الذي لا جور فيه، ولا ظلم ولا حيف، الذي مضت به سنتك في التنازع بين المرسلين والكافرين، وبين المحقين والمبطلين. وكرر الظرف في قوله: ﴿بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا﴾ بخلاف قوله: ﴿حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنا﴾ زيادة في تأكيد تميزه ومن معه من قومه ا. هـ. «سمين» ﴿وَأَنْتَ﴾: يا ربنا {خَيْرُ
٩٠ - ﴿قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ﴾؛ أي: وقال جماعة من أشراف قوم شعيب ممن كفر به لآخرين منهم؛ أي: قال الرؤساء من قومه للسفلة ﴿لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا﴾ في دينه ﴿إِنَّكُمْ إِذًا﴾ في حال اتبعتموه فيما يقول ﴿لَخاسِرُونَ﴾؛ أي: لمغبونون في الدين وفي الدنيا؛ لأنّه يمنعكم من أخذ الزيادة من أموال الناس.
والمعنى: وقال الكافرون من قوم شعيب - وهم الملأ الذين جحدوا آيات الله، وكذبوا رسوله، وتمادوا في غيهم - لآخرين منهم: والله لئن اتبعتم شعيبا فيما يقول، وأجبتموه إلى ما يدعوكم إليه من توحيد الله، وأقررتم بنبوته..
إنّكم إذا لخاسرون في فعلكم وترككم ملتكم التي أنتم عليها، وعمموا الخسران ليشمل خسران الشرف والمجد، إذ بإيثاركم ملته على ملة آبائكم وأجدادكم، تعترفون بأنّهم كانوا ضالين ومعذبين عند الله، وخسران الثروة والربح بما تحترفونه من تطفيف الكيل والميزان، وبخس الغرباء أشياءهم.
ووصف الملأ أولا بالاستكبار؛ لأنّه هو الذي جرّأهم على تهديده، وإنذاره بالإخراج من القرية، وإشعاره بأنّهم أرباب السلطان فيها، وثانيا بالكفر؛ لأنّه هو الحامل على الإغواء وصدهم عن الإيمان، والأخذ بما جاء به، ثم عللوا لهم صدهم بأنّ في ذلك لهم مصلحة أيما مصلحة، وفائدة أيما فائدة.
والخلاصة: أنه تعالى وصفهم أولا بالضلال، ثم وصفهم ثانيا بالإغواء والإضلال.
٩١ - ثم ذكر عاقبة أمرهم وما أصابهم من نكال فقال: ﴿فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ﴾؛ أي: الزلزلة الشديدة المهلكة ﴿فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ﴾؛ أي: فصاروا في مساكنهم ﴿جاثِمِينَ﴾؛ أي: منكبين على وجوههم ميّتين. وقد بين سبحانه في سورة الشعراء أنّ الله أرسل شعيبا إلى أصحاب الأيكة - وهم إخوة مدين في النسب -. أخرج ابن عساكر، عن ابن عباس في قوله: ﴿كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ﴾ قال: كانوا أصحاب غيضة بين ساحل البحر ومدين، وفي ذلك دليل على أن الله أرسله
٩٢ - ﴿الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا﴾؛ أي: استؤصلوا بالمرة، وصاروا كأنّهم لم يقيموا في قريتهم أصلا؛ أي: عوقبوا بقولهم: ﴿لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا﴾. وصاروا هم المخرجين من القرية إخراجا لا دخول بعده أبدا ﴿الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ﴾ دينا ودنيا دون الذين اتبعوه؛ فإنّهم الرابحون في الدارين.
وعبارة «المراغي» هنا: قوله: ﴿الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا﴾ الآية. جاءت هذه الجملة بيانا من الله لما انتهى إليه أمرهم، وكيف كان عاقبة عملهم، فكأنّ سائلا سأل عما آل إليه تهديدهم لشعيب وقومه بقولهم: ﴿لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا﴾ وقولهم لقومهم: ﴿لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخاسِرُونَ﴾ فأجاب عن الأول جوابا مناقضا له بقوله: ﴿الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا...﴾ إلخ؛ أي: الذين كذبوا شعيبا وأنذروه بالإخراج من قريتهم قد هلكوا وهلكت قريتهم، فحرموها كأن لم يقيموا فيها، ولم يعيشوا فيها بحال، وأجاب عن الثاني: بقوله: ﴿الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ﴾؛ أي: الذين كذبوا وزعموا أنّ من يتبعه يكون خاسرا، كانوا هم الخاسرين لما كانوا موعودين به من سعادة الدنيا والآخرة، دون الذين اتبعوه؛ فإنّهم كانوا هم الفائزين المفلحين.
وفي الآية (١) إيماء إلى أنّ الحريص على التمتع بالوطن والاستبداد فيه على أهل الحق، تكون عاقبته الحرمان الأبدي منه، كما أنّ الحريص على الربح، بأكل أموال الناس بالباطل، ينتهي بالحرمان منه ومن غيره.
والمعنى (١): لقد أعذرت إليكم في الإبلاغ والنصيحة مما حل بكم، فلم تسمعوا قولي، ولم تقبلوا نصحي، فكيف آسى عليكم؟ والمراد: أنّهم ليسوا مستحقين بأن يأسى الإنسان عليهم، والاستفهام فيه للإنكار وفيه معنى التعجب.
٩٤ - ﴿وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ﴾ من القرى ﴿مِنْ نَبِيٍّ﴾؛ أي: نبيا من الأنبياء فكذبه أهلها ﴿إِلَّا أَخَذْنا أَهْلَها﴾؛ أي: عاقبناهم ﴿بِالْبَأْساءِ﴾؛ أي: بالشدة في أحوالهم، كالخوف وضيق العيش ﴿وَالضَّرَّاءِ﴾؛ أي: الأمراض والأوجاع، أي: وما أرسلنا في قرية من القرى نبيا من الأنبياء، فكذبه أهلها، إلا أخذنا أهلها وعاقبناهم بالفقر والجوع، والأوجاع والأمراض ﴿لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ﴾؛ أي: لكي يتضرعوا ويتذللوا، فيدعوا ما هم عليه من الاستكبار وتكذيب الأنبياء، وينقادوا لأمر الله تعالى.
والمعنى: أنّ سنتنا قد جرت - ولا مبدل لها - أنّنا إذا أرسلنا نبيا في قوم وكذبوه.. أنزلنا بهم الشدائد والمصائب، لنعدّهم ونؤهّلهم للتضرع والإخلاص في دعائنا بكشفها، وقد ثبت بالتجارب لدى علماء الأخلاق: أنّ الشدائد تربي الناس، وتصلح فساد أحوالهم، فالمؤمن قد يشغله هناء العيش عن حاجته إلى
٩٥ - ﴿ثُمَّ﴾ بعدما أخذناهم بالبأساء والضراء ﴿بَدَّلْنا﴾؛ أي: أعطينا لهم ﴿مَكانَ السَّيِّئَةِ﴾؛ أي: بدل ما كانوا فيه من البلاء والمحنة ﴿الْحَسَنَةَ﴾؛ أي: الرخاء والسعة؛ أي: ثمّ أعطيناهم السعة والصحة بدل ما كانوا فيه من البلاء والمرض؛ لأنّ ورود النعمة في المال والبدن يدعو إلى الاشتغال بالشكر، والمراد: بدلنا مكان الحال السيئة من البأساء والضراء، الحال الحسنة من السراء والنعمة حَتَّى ﴿عَفَوْا﴾؛ أي: حتى كثروا في أنفسهم وأموالهم ونموا، إذ إنّ الرخاء مما يكون سببا في كثرة النسل، وبه تتم النعمة في الدنيا على الموسرين، ومن هذه الحسنات: ما حدث لقوم هود من النعم التي بطروا بها، وذكرهم هود بها في قوله: ﴿وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ وكذا ما قاله صالح لقومه: ﴿وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ﴾. ﴿وَقالُوا﴾ قولا يدل على أنّهم لا يعتبرون بأحداث الزمان، إذ قالوا: ﴿قَدْ مَسَّ آباءَنَا﴾ ممن قبلنا ﴿الضَّرَّاءُ﴾؛ أي: ما يسؤهم من الشدائد والأمراض ﴿وَالسَّرَّاءُ﴾؛ أي: ما يسرهم من الرخاء والراحة والخصب، كما أصابنا، وما نحن إلا مثلهم، فيصيبنا مثل ما أصابهم، وهذه عادة الزمان في أهله، فمرة يحصل فيهم الشدة والنكد، ومرة يحصل لهم الرخاء والراحة، وتلك عادة الدهر بأبنائه، فلا الضراء عقاب على ذنب يرتكب، ولا السراء جزاء على صالحات تكتسب، فصبروا على دينهم، فنحن مثلهم، نقتدي بهم، فليست عقوبة من الله بسبب ما نحن عليه من الدين والعمل، فلمّا لم ينقادوا بالشدة وبالرخاء، ولم ينتفعوا بذلك الإمهال.. أخذهم الله بغتة أينما كانوا، كما قال تعالى: ﴿فَأَخَذْناهُمْ﴾ بعد ذلك ﴿بَغْتَةً﴾؛ أي: فجأة بالعذاب ﴿وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ﴾؛ أي: والحال أنّهم لا يعلمون وقت نزول العذاب بهم، ولا يخطرون ببالهم شيئا من المكاره، أي: فكان عاقبة أمرهم أن أخذناهم بالعذاب فجأة، وهم لا شعور لديهم بما سيحل بهم، إذ هم
فالكافرون إذا مسهم الشر.. يئسوا وابتأسوا، وإذا مسهم الخير.. بطروا واستكبروا وبغوا في الأرض، وأهلكوا الحرث والنسل، والمؤمنون بالله وما جاء به رسله تكون الشدائد والمصائب تربية لهم وتمحيصا.
ولما ترك (١) المسلمون هدى القرآن في حكوماتهم ومصالحهم العامة، في أعمال الأفراد.. سلبهم الله ما أعطاهم من أنواع العلم والحكمة، واتبعوا سنن من قبلهم شبرا بشبر، وذراعا بذراع، فاتبعوا أهل الكتاب في خرافاتهم وحفلهم، وتقليد آبائهم وأجدادهم، فغشيهم الجهل والثابتة منهم قلدوا الإفرنج في الفسق والفجور، وشر ما وصلوا إليه في طور فساد حضارتهم، وقلدوهم حتى فيما لا يوافق أحوالهم وبلادهم ومصالحهم.
٩٦ - ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى﴾ الذين أهلكناهم ﴿آمَنُوا﴾ بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ﴿لَفَتَحْنا﴾؛ أي: لبسطنا ﴿عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ﴾ بالمطر ﴿وَ﴾ بركات من ﴿الْأَرْضِ﴾ بالنبات، والثمار، والحبوب، والمواشي، والأمن، والسلامة؛ أي: لوسعنا عليهم الخيرات من فوقهم ومن تحتهم، ومن كل الجوانب من النعم التي لم يروا مثلها قط. وقال (٢) السدّي: المعنى: لفتحنا عليهم أبواب السماء والأرض بالرزق، وقيل: بركات السماء إجابة الدعاء، وبركات الأرض تيسير الحاجات. وقيل: البركات النمو والزيادة، فمن السماء بجهة المطر والريح والشمس والقمر، ومن الأرض بجهة النبات والحفظ لما نبت؛ وذلك لأنّ السماء تجري مجرى الأب، والأرض تجري مجرى الأم،
(٢) البحر المحيط.
وقرأ ابن (١) عامر وعيسى الثقفي وأبو عبد الرحمن: ﴿لَفَتَحْنا﴾ بتشديد التاء. ومعنى الفتح هنا التيسير عليهم، كما تيسر على الأبواب المنغلقة بفتحها، ومنه: فتحت على القارىء، إذا يسرت عليه بتلقينك إياه ما تعذر عليه حفظه من القرآن إذا أراد القراءة.
والمعنى (٢): ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى﴾ التي أرسلنا إليها رسلنا ﴿آمَنُوا﴾ بالرسل المرسلين إليهم ﴿وَاتَّقَوْا﴾ ما صمموا عليه من الكفر، ولم يصروا على ما فعلوا من القبائح ﴿لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ﴾؛ أي: ليسرنا لهم خير السماء والأرض، كما يحصل التيسير للأبواب المغلقة بفتح أبوابها، ويجوز أن يكون اللام في ﴿الْقُرى﴾ للجنس، والمعنى: ولو أنّ أهل القرى أينما كانوا، وفي أي بلد سكنوا آمنوا واتقوا. إلى آخر الآية.
وقيل المعنى (٣): ولو أنّ أهل مكة ومن حولهم من أهل القرى آمنوا بما دعاهم إليه خاتم الرسل صلوات الله وسلامه عليه، من عبادته تعالى وحده، واتقوا ما نهاهم عنه من الشرك والفساد في الأرض، بارتكاب الفواحش والآثام.. لفتحنا عليهم أنواعا من بركات السماء والأرض لم يعهدوها من قبل، فتكون لهم أبواب نعم وبركات، غير التي عهدوا في صفاتها ونمائها وثباتها وأثرها فيهم، فأنزلنا عليهم الأمطار النافعة التي تخصب الأرض، وتكسب البلاد رفاهية العيش، وآتيناهم من العلوم والمعارف، وفهم سنن الكون، ما لم يصل إلى مثله البشر من قبل.
والخلاصة: أنّهم لو آمنوا.. لوسعنا عليهم الخير من كل جانب، ويسرناه لهم، بدل ما أصابهم من عقوبات بعضها من السماء، وبعضها من الأرض.
والقاعدة التي أقرها القرآن الكريم: أنّ الإيمان الصحيح، ودين الحق سبب
(٢) الشوكاني.
(٣) المراغي.
﴿وَلكِنْ كَذَّبُوا﴾ بالأنبياء ولم يؤمنوا ولا اتقوا ﴿فَأَخَذْناهُمْ﴾ بالعذاب والجدوبة ﴿بـ﴾ سبب ﴿ما كانوا يكسبون﴾ من الذنوب والمعاصي الموجبة لعذابهم، أو بسبب كسبهم الذنوب.
أي: ولكنهم لم يؤمنوا ولم يتقوا، بل كذبوا، فأخذناهم بما كانوا يعملون من أعمال الشرك والمعاصي التي تفسد نظم المجتمع البشري، وذلك الأخذ بالشدة أثر لازم لكسبهم المعاصي، بحسب السنن التي وضعها المولى في الكون، ويكون فيه العبرة لأمثالهم، إن كانوا يعقلون هذه النواميس العامة، التي لا تبديل فيها ولا تغيير.
٩٧ - ثم عجب من حالهم وذكر من غفلتهم فقال: ﴿أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى﴾ والاستفهام فيه للإنكار والتوبيخ والتقريع، والهمزة داخلة على محذوف، والفاء عاطفة ما بعدها على ذلك المحذوف، والتقدير: أجهل أهل مكة وغيرهم من أهل القرى الذين بلغتهم الدعوة والذين ستبلغهم ما نزل بمن قبلهم، وغرهم ما هم فيه من نعمة فأمنوا؟ ﴿أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا﴾؛ أي: عذابنا ﴿بَياتًا﴾؛ أي: ليلا ﴿وَهُمْ نائِمُونَ﴾؛ أي: والحال أنهم غافلون عن ذلك، فلا ينبغي لهم أن يأمنوا ذلك،
٩٨ - والهمزة في قوله: ﴿أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى﴾ للاستفهام الإنكاري التوبيخي أيضا، داخلة على محذوف، والواو عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: أجهلوا ذلك وأمنوا؟ ﴿أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا﴾؛ أي: عذابنا ﴿ضُحًى﴾؛ أي: نهارا ﴿وَهُمْ يَلْعَبُونَ﴾؛ أي: والحال أنّهم يشتغلون بما لا ينفهم؛ أي: والحال أنّهم مشتغلون باللعب،
والخلاصة: أنّه تعالى خوفهم نزول العذاب بهم في أوقات الغفلات، إما وقت النوم، وإمّا وقت الضحى، إذ يكثر فيه تشاغل الناس باللذات. وفي «الخازن»: والمقصود من الآية أنّ الله سبحانه وتعالى خوفهم بنزول العذاب وهم في غاية الغفلة، وهو حال النوم في الليل، ووقت الضحى في النهار؛ لأنّه الوقت الذي يغلب على الإنسان التشاغل فيه بأمور الدنيا، وأمور الدنيا كلها لعب، ويحتمل أن يكون المراد خوضهم في كفرهم، وذلك لعب أيضا يضر ولا ينفع.
انتهى.
وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر (١): ﴿أو أمن﴾ بسكون الواو، وجعل أو عاطفة، ومعناها التنويع، لا أن معناها الإباحة أو التخيير، خلافا لمن ذهب إلى ذلك، وحذف ورش همزة: ﴿أَمِنَ﴾ ونقل حركتها إلى الواو الساكنة، والباقون بهمزة، فالاستفهام بعدها واو العطف، وتكرر لفظ ﴿أَهْلُ الْقُرى﴾ لما في ذلك من التسميع والإبلاغ والتهديد والوعيد بالسامع، ما لا يكون في الضمير لو قال: أو أمنوا؛ فإنه متى قصد التفخيم والتعظيم والتهويل جيء بالاسم الظاهر.
٩٩ - والاستفهام في قوله: ﴿أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ﴾ للتقريع (٢) والتوبيخ وإنكار ما هم عليه من أمان ما لا يؤمن من مكر الله بهم وعقوبته لهم في هذين الوقتين، وفي تكرير هذا الاستفهام زيادة تقرير لإنكار ما أنكره عليهم، وجاء العطف بالفاء وإسناد الفعل إلى الضمير؛ لأن الجملة المعطوفة تكرير لقوله: ﴿أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى﴾ أو ﴿أَمِنَ﴾ وتأكيد لمضمون ذلك، فناسب إعادة الجملة مصحوبة بالفاء.
وقال أبو السعود: تكرير المكرر لزيادة التوبيخ والتقريع، والمراد بـ ﴿مَكْرَ اللَّهِ﴾ هنا إتيان بأسه في الوقتين المذكورين؛ ولذلك عطف الأول والثالث بالفاء؛ فإنّ الإنكار فيهما متوجه إلى ترتب الأمن على الأخذ المذكور، وأما الثاني فمن تتمته
(٢) الشوكاني.
و ﴿مَكْرَ اللَّهِ﴾ مصدر مضاف إلى الفاعل، وهو كناية عن أخذه العبد من حيث لا يشعر. قال ابن عطية: و ﴿مَكْرَ اللَّهِ﴾ هي إضافة مخلوق إلى الخالق، كما تقول: ناقة الله وبيت الله، والمراد فعل معاقب به مكر الكفرة، فلما كان عقوبة الذنب.. أضيف إلى الله؛ فإن العرب تسمى العقوبة - على أي جهة كانت - باسم الذنب الذي وقعت عليه العقوبة. وهذا نص في قوله: ﴿وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ﴾. انتهى، وقال عطية: ألقوا في مكر الله: عذابه وجزاؤه على مكرهم، وقيل: مكره تعالى استدراجه بالنعمة والصحة، وأخذه على غرة، وكرر المكر مضافا إلى الله تحقيقا لوقوع جزاء المكر بهم. ذكره أبو حيان في «البحر».
والمذهب الأسلم الذي نلقى الله عليه: أن مكر الله تعالى صفة ثابتة له تعالى فنثبتها، ولا نكيفه ولا نعطله، أثرها أخذ العبد من حيث لا يشعر.
والمعنى: أجهلوا بأس الله تعالى بمن قبلهم، فأمنوا مكر الله لهم في هذين الوقتين: البيات والضحى ﴿فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ﴾ وعذابه ﴿إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ﴾؛ أي: إلا الكافرون الذين خسروا أنفسهم، حتى صاروا إلى النار المؤبدة.
وقال المراغي: وإذا كانت الآية ناطقة بأن أمن الصالح المتعبد من مكر الله جهلا يورث الخسر، فما بال من يأمن مكر الله وهو مسترسل في معاصيه، إتكالا على عفوه ومغفرته ورحمته؟!. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلّم يكثر من الدعاء بقوله: «اللهم يا مقلب القلوب والأبصار ثبت قلبي على دينك». وذكر سبحانه أنّ الراسخين في العلم يدعونه فيقولون: ﴿رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ
هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ﴾.
وكما أن الأمن من مكر الله خسران ومفسدة.. فاليأس من رحمة الله كذلك، فكلاهما مفسدة تتبعها مفاسد.
١٠٠ - والهمزة في قوله: ﴿أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِها﴾ للتوبيخ والتقريع، كالتي قبلها، وهي داخلة على محذوف، والواو عاطفة ما بعدها على
والمراد (١): لو شئنا نفعل بهؤلاء الوارثين إما الإهلاك وإما الطبع على القلب؛ لأنّ الإهلاك لا يجتمع مع الطبع على القلب، فإذا أهلك شخص يستحيل أن يطبع على قلبه؛ وإنّما يجعل الطبع حال استمراره على الكفر، فهو يكفر أولا، ثم يكون مطبوعا عليه في الكفر، ولم يكن هذا التقرير منافيا لصحة عطف قوله: ﴿وَنَطْبَعُ﴾ على ﴿أَصَبْناهُمْ﴾.
والمعنى: أي أكان (٢) ما ذكر آنفا مجهولا لأهل القرى، وأنه هو سنة الله، ولم يتبين لأولئك الذين يرثون الأرض من بعد أهلها، قرنا بعد قرن، وجيلا بعد جيل، أنّ شأننا فيهم، كشأننا فيمن سبقهم، فهم خاضعون لمشيئتنا، فلو نشاء أن نعذبهم بسبب ذنوبهم لعذبناهم، كما أصبنا أمثالهم ممن قبلهم بمثلها، وأهلكناهم كما أهلكناهم، فإن لم نهلكهم بالعذاب.. نطبع على قلوبهم، فلا يسمعون
(٢) المراغي.
وفي «زاد المسير» وقرأ يعقوب (١): ﴿نهد﴾ بالنون، وكذلك في طه والسجدة. قال الزجاج: من قرأ بالياء.. فالمعنى: أو لم يبين الله لهم؟ ومن قرأ بالنون.. فالمعنى: أو لم نبين؟ انتهى.
وقال الشوكاني: قرىء ﴿نهد﴾ (٢) بالنون وبالتحتية، فعلى قراءة النون يكون فاعل الفعل هو الله سبحانه وتعالى، ومفعول الفعل: ﴿أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ﴾؛ أي: أنّ الشأن هو هذا، وعلى قراءة التحتية يكون فاعل يَهْدِ هو ﴿أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ﴾؛ أي: أخذناهم بكفرهم وتكذيبهم، والهداية هنا بمعنى التبيين، ولهذا عدّيت باللام. انتهى.
١٠١ - ﴿تِلْكَ الْقُرى﴾ التي بعد عهدها، وطال الأمد على تاريخها، وجهل قومك حقيقة حالها التي أهلكناها - وهي قرى قوم نوح، وهود وصالح، ولوط، وشعيب - المتقدم ذكرها ﴿نَقُصُّ﴾ ونتلو ﴿عَلَيْكَ﴾ يا محمد ونخبرك ﴿مِنْ أَنْبائِها﴾؛ أي: بعض أخبارها، مما فيه العبرة لقومك، والتسلية لك وللمؤمنين؛ لأنّه (٣) إنّما قص عليه صلى الله عليه وسلّم ما فيه عظة وإنزجار، دون غيرهما، ولها أنباء غيرها لم يقصها عليه؛
(٢) فتح القدير.
(٣) الفتوحات.
أي: نقص أنباءها عليك لتتسلى، وليحذر كفار قريش أن يصيبهم مثل ما أصاب هذه القرى، والمضارع يحتمل أن يكون على معناه، والمعنى: نقص عليك فيما سيأتي مفترقا في السور، كما هو الواقع، فإنّ القرى المذكورة فيما سبق ستأتي قصصها في السور الآتية بأبسط مما ذكر هنا، ويحتمل أن يكون بمعنى الماضي، ويحتمل أن يكون بالمعنيين.
وقال المراغي: والحكمة في تخصصها بالذكر، أنّها كانت في بلاد العرب وما جاورها، وكان أهل مكة. وغيرهم ممن وجهت إليهم الدعوة أول الإسلام يتناقلون بعض أخبارها، وهي جميعا طبعت على غرار واحد في تكذيب الرسل، والمماراة فيما جاؤوا به من النذر، فحل بهم النكال بعذاب الاستئصال، فالعبرة في جميعها واحدة، ومن ثم فصلها في قصة موسى الآتية؛ لأنّ قومه آمنوا به، وإنّما كذب فرعون. انتهى.
واللام في قوله: ﴿وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ﴾ موطئة للقسم؛ أي: إنّ من أخبارهم - والله - لقد جاءتهم؛ أي: لقد جاءت كل أمة من تلك الأمم المهلكة أنبياءهم، الذين أرسلوا إليهم بالبينات؛ أي: المعجزات الواضحة، الدالة على صحة رسالتهم الموجبة للإيمان ﴿فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ﴾؛ أي: فما كان أهل تلك القرى - بعد رؤية تلك المعجزات - ليؤمنوا بالشرائع التي كذبوها قبل رؤية تلك المعجزات، والمعنى (١): كانت كلّ أمة من تلك الأمم في زمن الجاهلية يتسامعون بكلمة التوحيد من بقايا من قبلهم فيكذبونها، ثم كانت حالهم بعد مجيء نبيهم الذي أرسل إليهم كحالتهم قبل ذلك، كأن لم يبعث إليهم أحد.
ذاك أنّ شأن المكذبين عنادا أو تقليدا.. أن يصروا على التكذيب بعد إقامة الحجة، إذ لا قيمة لها في نظرهم، فهم إمّا جاحدون ومعاندون ضلوا على علم، وإما مقلدون يأبون النظر والفهم.
﴿كَذلِكَ﴾؛ أي: كما طبع الله سبحانه وتعالى، وختم على قلوب كفار الأمم الخالية، من أهل القرى المذكورة وأهلكهم ﴿يَطْبَعُ اللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ويختم ﴿عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ﴾ الذين كتب عليهم أنّهم لا يؤمنون من قومك، فلا تلين شكيمتهم بالآيات والنذر، فلا ينجع فيهم بعد ذلك وعظ ولا تذكير، ولا ترغيب ولا ترهيب؛ أي: مثل ما ذكر من عناد هؤلاء وإصرارهم على الضلال، وعدم تأثير الدلائل والبينات في عقولهم.. يكون الطبع على قلوب من ران الكفر على قلوبهم، وصار العناد ديدنهم، سنة الله في أخلاق البشر وأحوالهم، إذ هم يأنسون بالكفر وأعماله، وتستحوذ أوهامه على عقولهم، ويملأ حب الشهوات أفئدتهم، فلا يقبلون بحثا، ولا فيما هم عليه نقدا، فما مثلها إلا مثل السكة التي طبعت على طابع خاص أثناء سبك معدنها وإذابته، ثمّ جمدت، فلا تقبل بعد ذلك نقضا ولا شكلا آخر. وفي الآية تسلية للنبي صلى الله عليه وسلّم، وإعلام له بأنّ أهل مكة قد وصلوا إلى حال من الجمود والعناد، وفساد الفطرة وإهمال النظر والعقل، لا تؤثر فيها البينات وإن وضحت، والآيات وإن اقترحت، وقد كانوا يقترحون عليه الآيات، وكان يتمنى أن يؤتيه الله ما اقترحوا منها حرصا على إيمانهم، حتى بين الله له طباعهم وأخلاقهم، ليعرف مبلغ أمرهم في قبول دعوته، وأنّه لا أمل له
١٠٢ - ﴿وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ﴾؛ أي: وما وجدنا (١) لأكثر الأمم الخالية والقرون الماضية، الذين قصصنا خبرهم عليك يا محمد - من وفاء بالعهد الذي عهدنا إليهم، وأوصيناهم به يوم أخذ الميثاق - قال ابن عباس: إنّما أهلك الله أهل القرى.. لأنهم لم يكونوا حفظوا ما وصاهم به؛ أي: وما وجدنا (٢) لأكثر أولئك الأقوام عهدا يفون به، سواء أكان عهد الفطرة التي فطر الله الناس عليها، إذ قد فطر الله أنفس البشر على الشعور بسلطان غيبي فوق جميع القوى، وعلى إيثار الحسن، واجتناب غيره، وعلى حب الكمال، وكراهة النقص، أم كان العهد الذي أخذه ربهم عليهم - وهم في الأصلاب - أنه ربهم ومليكهم، وأنّه لا إله إلا هو، وأقروا بذلك، وشهدوا على أنفسهم به، وخالفوه وتركوه وراء ظهورهم، وعبدوا معه غيره، بلا دليل ولا حجة من عقل ولا شرع، وقد جاء في «صحيح مسلم»: «يقول الله: إنّي خلقت عبادي حنفاء، فجاءتهم الشياطين، فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم» وفي «الصحيحين»: «كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه»..
﴿وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ﴾؛ أي: وما وجدنا أكثرهم إلا فاسقين خارجين عن طاعتنا وأمرنا، وهذا المعنى على مذهب الكوفيين من كون ﴿إِنْ﴾ للنفي واللام بمعنى إلا، وعند غيرهم إنّ ﴿إِنْ﴾ مخففة، واسمها ضمير الشأن، واللام فارقة، والمعنى حينئذ أي: وإنّ الشأن والحال وجدنا أكثر الأمم في عالم الشهادة، خارجين عن كل عهد فطري وشرعي وعرفي، فهم ناكثون غادرون للعهود، مرتكبون أفانين المعاصي، وفي التعبير بالأكثر إيماء إلى أنّ بعضهم قد آمن والتزم كل عهد عاهده الله عليه، أو تعاهد عليه مع الناس.
الإعراب
﴿قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا قالَ أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ﴾.
(٢) المراغي.
﴿قالَ أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ﴾.
﴿قالَ﴾: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على ﴿شُعَيْبُ﴾: والجملة مستأنفة. ﴿أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ﴾ إلى قوله: ﴿قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ مقول محكي لـ ﴿قالَ﴾. وإن شئت قلت: الهمزة: للاستفهام الإنكاري، داخلة على محذوف تقديره: أتعيدوننا في ملتكم، أو تخرجوننا من قريتكم كارهين، كلا الأمرين، والجملة المحذوفة في محل النصب مقول ﴿قالَ﴾ (١). قال الزمخشري: الهمزة:
﴿قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْها وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّنا وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ﴾.
﴿قَدِ افْتَرَيْنا﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة على كونها مقول ﴿قالَ﴾. وجواب القسم محذوف تقديره: والله لقد افترينا ﴿عَلَى اللَّهِ﴾: جار ومجرور، متعلق بـ ﴿افْتَرَيْنا﴾. ﴿كَذِبًا﴾: مفعول به ﴿إِنْ﴾: حرف شرط ﴿عُدْنا﴾: فعل وفاعل في محل الجزم بـ ﴿إِنْ﴾، على كونها فعل شرط لها فِي ﴿مِلَّتِكُمْ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ ﴿عُدْنا﴾: وجواب ﴿إِنْ﴾ معلوم مما قبلها تقديره: إن عدنا في ملتكم.. فقد افترينا على الله كذبا. وجملة ﴿إِنْ﴾: الشرطية في محل النصب مقول ﴿قالَ﴾. ﴿بَعْدَ﴾: منصوب على الظرفية، متعلق بـ ﴿عُدْنا﴾. ﴿بَعْدَ﴾: مضاف ﴿إِذْ﴾: ظرف لما مضى من الزمان مضاف إليه، ﴿نَجَّانَا اللَّهُ﴾: فعل وفاعل ومفعول. ﴿مِنْها﴾: متعلق به، والجملة الفعلية مضاف إليه لـ ﴿إِذْ﴾، والتقدير: بعد وقت تنجية الله تعالى إيانا منها ﴿وَما﴾ الواو: عاطفة ما: نافية، ﴿يَكُونُ﴾:
﴿وَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخاسِرُونَ (٩٠)﴾.
﴿وَقالَ الْمَلَأُ﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة ﴿الَّذِينَ﴾: صفة لـ ﴿الْمَلَأُ﴾، كَفَرُوا: صلة الموصول، ﴿مِنْ قَوْمِهِ﴾: حال من الواو ﴿لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا﴾: إلى آخر الآية مقول محكي، وإن شئت قلت: اللام: موطئة للقسم ﴿إن﴾: حرف شرط ﴿اتَّبَعْتُمْ﴾: فعل وفاعل في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ الشرطية على كونه فعل شرط لها، ﴿شُعَيْبًا﴾: مفعول به، ﴿إِنَّكُمْ﴾: ﴿إن﴾: حرف نصب، والكاف:
﴿لَخاسِرُونَ﴾: اللام: حرف ابتداء، ﴿خاسرون﴾: خبر ﴿إن﴾ وجملة ﴿إن﴾: من اسمها وخبرها جواب القسم لا محل لها من الإعراب، وجواب الشرط محذوف دل عليه جواب القسم تقديره: إن اتبعتم شعيبا.. فإنّكم لخاسرون.
﴿فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ﴾.
﴿فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ﴾ الفاء: حرف عطف وتعقيب ﴿أخذتهم الرجفة﴾: فعل ومفعول وفاعل، والجملة معطوفة على جملة قوله: ﴿وَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ﴾. ﴿فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ﴾، الفاء: عاطفة ﴿أصبحوا﴾: فعل ناقص، واسمه ﴿فِي دارِهِمْ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ ﴿جاثِمِينَ﴾، جاثِمِينَ خبر ﴿أصبحوا﴾، وجملة ﴿أصبحوا﴾ معطوفة على جملة قوله: ﴿فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ﴾.
﴿الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ﴾.
﴿الَّذِينَ﴾: مبتدأ ﴿كَذَّبُوا شُعَيْبًا﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة صلة الموصول، ﴿كَأَنْ﴾: مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن تقديره: كأنهم ﴿لَمْ﴾: حرف نفي وجزم، ﴿يَغْنَوْا﴾: فعل وفاعل مجزوم بـ ﴿لَمْ﴾. ﴿فِيهَا﴾: جار ومجرور متعلق به، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر ﴿كَأَنْ﴾ وجملة ﴿كَأَنْ﴾ في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة ﴿الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا﴾: مبتدأ، ﴿كانُوا﴾: فعل ناقص واسمه، ﴿هُمُ﴾: ضمير فصل، ﴿الْخاسِرِينَ﴾: خبره، وجملة ﴿كان﴾ في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة.
﴿فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ (٩٣)﴾.
﴿فَتَوَلَّى﴾: الفاء: عاطفة، ﴿تولى﴾: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على شعيب، والجملة معطوفة على جملة قوله: ﴿فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ﴾، وما بينهما اعتراض، ﴿عَنْهُمْ﴾: متعلق بـ ﴿تولى﴾ ﴿وَقالَ﴾: معطوف على ﴿تولى﴾، ﴿يا قَوْمِ﴾: إلى آخر الآية مقول محكي لقال، وإن شئت قلت: ﴿يا قَوْمِ﴾: منادى
﴿وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ﴾.
﴿وَما﴾: نافية ﴿أَرْسَلْنا﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة ﴿فِي قَرْيَةٍ﴾، متعلق بـ ﴿أَرْسَلْنا﴾. ﴿مِنْ﴾: زائدة، ﴿نَبِيٍّ﴾: مفعول ﴿أَرْسَلْنا﴾ ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ من عام الأحوال، ﴿أَخَذْنا﴾: فعل وفاعل، ﴿أَهْلَها﴾: مفعول ﴿أَخَذْنا﴾، ﴿بِالْبَأْساءِ﴾: متعلق بـ ﴿أَخَذْنا﴾، ﴿وَالضَّرَّاءِ﴾: معطوف على ﴿البأساء﴾، والجملة الفعلية في محل النصب حال من فاعل ﴿أَرْسَلْنا﴾ ولكنها على تقدير قد والتقدير: وما أرسلنا في قرية من القرى المهلكة، نبيا من الأنبياء، في حال من الأحوال، إلا في حال كوننا آخذين أهلها بالبأساء والضراء، ﴿لَعَلَّهُمْ﴾: ﴿لعل﴾: حرف ترج، والهاء اسمها وجملة ﴿يَضَّرَّعُونَ﴾: في محل الرفع خبر ﴿لعل﴾، وجملة ﴿لعل﴾ مستأنفة: مسوقة لتعليل ما قبلها.
﴿ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقالُوا قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ﴾.
﴿ثُمَّ﴾: حرف عطف ﴿بَدَّلْنا﴾: فعل وفاعل، ﴿مَكانَ السَّيِّئَةِ﴾: مفعول ﴿كان﴾ ومضاف إليه، أو منصوب بنزع الخافض؛ أي: في مكان السيئة، ﴿الْحَسَنَةَ﴾: مفعول أول، والمعنى: بدلنا مكان الحال السيىء الحال الحسن، فالحسنة هي المأخوذة الحاصلة، ومكان السيئة هو المتروك الذاهب، وهو الذي تصحبه الباء في مثل هذا التركيب، والجملة الفعلية معطوفة على جملة ﴿أَخَذْنا﴾
﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٩٦)﴾.
﴿وَلَوْ﴾ الواو: استئنافية ﴿لَوْ﴾: حرف شرط ﴿أَنَّ﴾: حرف نصب ﴿أَهْلَ الْقُرى﴾: اسمها ﴿آمَنُوا﴾: فعل وفاعل، ﴿وَاتَّقَوْا﴾: فعل وفاعل معطوف على ﴿آمَنُوا﴾ وجملة ﴿آمَنُوا﴾: في محل الرفع خبر ﴿أَنَّ﴾ وجملة ﴿أَنَّ﴾ في تأويل مصدر مرفوع على الفاعلية لفعل محذوف بعد لو الشرطية؛ لأن ﴿لَوْ﴾ لا يليها إلا الفعل، والتقدير: ولو ثبت إيمان أهل القرى وتقواهم.. ﴿لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ﴾ اللام:
رابطة لجواب ﴿لَوْ﴾. ﴿فتحنا﴾: فعل وفاعل، ﴿عَلَيْهِمْ﴾: متعلق به: ﴿بَرَكاتٍ﴾ مفعول به، ﴿مِنَ السَّماءِ﴾: صفة لـ ﴿بَرَكاتٍ﴾، ﴿وَالْأَرْضِ﴾: معطوف على ﴿السَّماءِ﴾ وجملة ﴿فتحنا﴾ جواب ﴿لَوْ﴾: لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿لَوْ﴾ الشرطية مستأنفة، ﴿وَلكِنْ﴾: الواو عاطفة ﴿لكِنْ﴾: حرف استدراك، ﴿كَذَّبُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة معطوفة، على جملة ﴿لَوْ﴾ الشرطية، ﴿فَأَخَذْناهُمْ﴾: الفاء: حرف عطف وتفريع، ﴿أخذناهم﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة معطوفة على جملة ﴿كَذَّبُوا﴾، ﴿بِما﴾: جار ومجرور، متعلق بـ ﴿أخذنا﴾، ﴿كانُوا﴾: فعل ناقص واسمه، وجملة ﴿يَكْسِبُونَ﴾: خبر ﴿كان﴾، وجملة ﴿كان﴾ صلة لـ ﴿ما﴾ أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: بما كانوا يكسبونه.
﴿أَفَأَمِنَ﴾ الهمزة: للاستفهام الإنكاري التوبيخي، داخلة على محذوف، والفاء عاطفة على ذلك المحذوف ﴿أمن أهل القرى﴾: فعل وفاعل، والجملة معطوفة على ذلك المحذوف، والتقدير: أجهل أهل القرى من مكة وما حولها سنتنا فيمن قبلهم فأمنوا؟ ﴿أَنْ﴾: حرف مصدر، ﴿يَأْتِيَهُمْ﴾: فعل ومفعول، ﴿بَأْسُنا﴾: فاعل ومضاف إليه، والجملة في تأويل مصدر منصوب على المفعولية، والتقدير: أفأمنوا إتيان بأسنا إياهم؟، ﴿بَياتًا﴾: حال من ﴿بَأْسُنا﴾؛ أي: بائتا مستخفيا في الليل، وقيل: هو منصوب على الظرفية؛ أي: ليلا، ﴿وَهُمْ نائِمُونَ﴾: مبتدأ وخبر، والجملة في محل النصب حال من هاء ﴿يَأْتِيَهُمْ﴾، والجملة المحذوفة جملة إنشائية لا محل لها من الإعراب، هذا على مذهب الزمخشري، وأما على مذهب الجمهور: الفاء: عاطفة ما بعدها على ﴿أخذناهم بغتة﴾، وما بينهما اعتراض.
﴿أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (٩٨)﴾.
﴿أَوَ﴾ الهمزة: للاستفهام الإنكاري، داخلة على محذوف، والواو: عاطفة على ذلك المحذوف، ﴿أَمِنَ أَهْلُ الْقُرى﴾: فعل وفاعل، والجملة معطوفة على ذلك المحذوف، والتقدير: أغفل أهل القرى عن سنننا فيمن قبلهم، وأمنوا أن يأتيهم بأسنا؟ والجملة المحذوفة جملة إنشائية لا محل لها من الإعراب، ﴿أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا﴾: جملة فعلية في تأويل مصدر منصوب على المفعولية تقديره:
إتيان بأسنا إياهم، ﴿ضُحًى﴾: منصوب على الظرفية، متعلق بـ ﴿يأتي﴾. ﴿وَهُمْ﴾: مبتدأ، وجملة ﴿يَلْعَبُونَ﴾: خبره، والجملة الاسمية في محل النصب حال من هاء ﴿يَأْتِيَهُمْ﴾.
﴿أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ (٩٩)﴾.
﴿أَفَأَمِنُوا﴾ الهمزة: داخلة على محذوف، والفاء: عاطفة على ذلك المحذوف ﴿أمنوا﴾: فعل وفاعل، ﴿مَكْرَ اللَّهِ﴾: مفعول به ومضاف إليه، والتقدير: أجهلوا سنتنا فأمنوا مكر الله؟ والجملة المحذوفة جملة إنشائية لا محل لها من الإعراب، ﴿فَلا يَأْمَنُ﴾: الفاء: استئنافية، ﴿لا﴾: نافية {يَأْمَنُ مَكْرَ
﴿أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِها أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ﴾.
﴿أَوَلَمْ﴾ الهمزة: للاستفهام التوبيخي داخلة على محذوف، والواو: عاطفة على ذلك المحذوف، ﴿لَمْ﴾: حرف نفي وجزم، ﴿يَهْدِ﴾ - ﷺ -: فعل مضارع مجزوم بـ ﴿لَمْ﴾: وعلامة جزمه حذف حرف العلة، ﴿لِلَّذِينَ﴾: جار ومجرور متعلق به ﴿يَرِثُونَ الْأَرْضَ﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة صلة الموصول، ﴿مِنْ بَعْدِ أَهْلِها﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿يَرِثُونَ﴾. ﴿أَنْ﴾: مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن؛ أي: أنه ﴿لَوْ﴾: حرف شرط ﴿نَشاءُ﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على ﴿اللَّهِ﴾ ومفعول المشيئة محذوف تقديره: لو نشاء أصبنا إياهم، والجملة الفعلية فعل شرط لـ ﴿لَوْ﴾. ﴿أَصَبْناهُمْ﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة جواب ﴿لَوْ﴾ لا محل لها من الإعراب، وأتى بجواب ﴿لَوْ﴾ هنا خاليا عن اللام، وهو جائز على قلة، وجملة ﴿لَوْ﴾ الشرطية في محل الرفع خبر ﴿أَنْ﴾ المخففة، وجملة ﴿أَنْ﴾ المخففة في تأويل مصدر مرفوع على الفاعلية لـ ﴿يَهْدِ﴾ والتقدير: أغفل الذين يرثون الأرض من بعد أهلها، عن سننا فيمن قبلهم، ولم يهد ويبين لهم إصابتنا إياهم بذنوبهم لو نشاء الإصابة لهم، والجملة المحذوفة جملة إنشائية لا محل لها من الإعراب ﴿بِذُنُوبِهِمْ﴾: جار ومجرور متعلقان بـ ﴿أَصَبْناهُمْ﴾ ﴿وَنَطْبَعُ﴾ الواو: عاطفة بمعنى ﴿أو﴾ التي تمنع الجمع، ﴿نَطْبَعُ﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الله، ﴿عَلى قُلُوبِهِمْ﴾: متعلق بـ ﴿نَطْبَعُ﴾، والجملة معطوفة على ﴿أَصَبْناهُمْ﴾ على كونها جواب ﴿لَوْ﴾. ﴿فَهُمْ﴾ الفاء: حرف عطف وتفريع، ﴿هم﴾: مبتدأ وجملة ﴿لا يَسْمَعُونَ﴾ خبره، والجملة الاسمية معطوفة مفرعة على ﴿نَطْبَعُ﴾:
﴿تِلْكَ الْقُرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ (١٠١)﴾.
وكلّ لام قبله ما كانا أو | لم يكن فللجحود بانا |
﴿وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ (١٠٢)﴾.
﴿وَما﴾ الواو: إستئنافية، ﴿ما﴾: نافية، ﴿وَجَدْنا﴾: فعل وفاعل، والجملة
وخفّفت أنّ فقلّ العمل | وتلزم اللّام إذا ما تهمل |
التصريف ومفردات اللغة
﴿أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا﴾ وفي السمين (٣): وعاد في لسانهم لها استعمالان:
أحدهما: وهو الأصل، أنّه الرجوع إلى ما كان عليه من الحال الأول.
والثاني: استعمالها بمعنى صار، وحينئذ ترفع الاسم وتنصب الخبر، فلا تكتفي
(٢) البحر المحيط.
(٣) الفتوحات.
أحدها: أنّ هذا القول من رؤسائهم قصدوا به التلبيس على العوام، والإيهام لهم أنّه كان على دينهم وعلى ملتهم.
الثاني: أن يراد بعوده رجوعه إلى حاله قبل بعثته من السكون؛ لأنّه قبل أن يبعث إليهم كان يخفي إيمانه، وهو ساكت عنهم، بريء من معبوداتهم غير الله.
الثالث: تغليب الجماعة على الواحد؛ لأنّهم لما أصحبوه مع قومه في الإخراج.. سحبوا عليه وعليهم حكم العود إلى الملة تغليبا لهم عليه، وأما إذا جعلنا بمعنى صار.. فلا إشكال في ذلك، إذ المعنى: لتصيرن في ملتنا بعد أن لم تكونوا، وفي ملتنا حال على الأول، خبر على الثاني، وعدي عاد بفي الظرفية تنبيها على أنّ الملة صارت لهم بمنزلة الوعاء المحيط بهم.
﴿رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا﴾؛ أي: اقض؛ لأنهم يسمون القاضي: الفاتح والفتاح؛ لأنّه يفتح مواضع الحق اه كرخي، وفي «السمين»: أن الفتح: الحكم بلغة حمير، وقيل: بلغة مراد، وفي «المراغي» الفتح: إزالة الإغلاق والإشكال وهو قسمان: حسي يدرك بالبصر، كفتح العين والقفل والكلام الذي يكون من القاضي، ومعنوي يدرك بالبصيرة، كفتح أبواب الرزق والمغلق من مسائل العلم، والنصر في وقائع الحرب، والمبهم من قضايا الحكم، ويقال: فتح الله عليه إذا جد وأقبلت عليه الدنيا، وفتح الله عليه نصره، وفتح الحاكم بينهم، وما أحسن فتاحته؛ أي: حكمه كما قال شاعرهم:
ألا أبلغ بني وهب رسولا | بأنّي عن فتاحتهم غنيّ |
انتهى.
﴿فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ﴾ الرجف الحركة والاضطراب، والمراد منها: الزلزلة
وقال قتادة (١): بعث الله شعيبا إلى أصحاب الأيكة وإلى أهل مدين، فأما أصحاب الأيكة.. فأهلكوا بالظلة، وأمّا أهل مدين.. فأخذتهم الرجفة، صاح بهم جبريل عليه السلام صيحة فهلكوا جميعا، وقال أبو عبد الله البجلي: كان أبو جاد وهوز، وحطي، وكلمن، وسعفص، وقرشت، ملوك مدين، وكان ملكهم في يوم الظلة اسمه كلمن، فلما هلك رثته ابنته بشعر اه.
﴿كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا﴾ أصله يغنيوا بوزن يفعلوا، استثقلت الضمة على الياء ثم حذفت، فالتقى ساكنان، فحذفت الياء، أو يقال: تحركت الياء وانفتح ما قبلها، قلبت ألفا، فالتقى ساكنان ثم حذفت الألف فصار: يغنوا بوزن يفعوا، وفي «المصباح»: غني بالمال يغنى غنى، مثل رضي يرضى رضى، فهو غني، والجمع أغنياء، وغني بالمكان: إذا نزل به واقام فيه فهو غان. اه.
﴿فَكَيْفَ آسى﴾ والأسى شدة الحزن، وأصل آسى أأسى بهمزتين، قلبت الثانية ألفا، وفي «المصباح» وأسى أسا - من باب تعب - حزن، فهو أسى مثل حزين. اه.
﴿ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ﴾ قال أهل اللغة: السيئة كل ما يسوء صاحبه، والحسنة: كل ما يستحسنه الطبع والعقل، فأخبر الله تعالى في هذه الآية بأنه يؤاخذ أهل المعاصي والكفر تارة بالشدة، وتارة بالرخاء على سبيل الاستدراج.
﴿وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ﴾ القرية المدينة الجامعة لزعماء الأمة ورؤسائها - العاصمة - والبأساء الشدة والمشقة، كالحرب والجدب، وشدة الفقر، والضراء ما
والتضرع إظهار الضراعة؛ أي: الضعف والخوضع ﴿حَتَّى عَفَوْا﴾؛ أي: حتى نموا وكثروا عددا وعددا، من عفا النبات والشعر إذا كثر وتكاثف ﴿بَغْتَةً﴾؛ أي: فجأة، فهو الأخذ حال السعة والرخاء، لا حال الجدب كما قيل؛ فإنّه قد بدل بالسعة. اه أبو السعود.
﴿بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ﴾ تشمل معارف الوحي العقلية، ونفحات الإلهام الربانية، والمطر، ونحوه مما يوجب الخصب والخير في الأرض، وبركات الأرض، النبات والثمار، وجميع ما فيها من الخيرات والأنعام والأرزاق، والأمن، والسلامة من الآفات، وكل ذلك من فضل الله وإحسانه على عباده، وأصل البركة: ثبوت الخير الإلهي في الشيء، وسمي المطر بركة السماء لثبوت البركة فيه، وكذا ثبوت البركة في نبات الأرض، لأنّه نشأ من بركات السماء، وهي المطر، وقال البغوي: أصل البركة المواظبة على الشي؛ أي: تابعنا عليهم المطر من السماء، والنبات من الأرض، ورفعنا عنهم القحط والجدب. اه خازن.
﴿بَأْسُنا بَياتًا﴾ البأس العذاب، بياتا؛ أي: وقت بيات، وهو الليل.
﴿ضُحًى﴾؛ أي: ضحوة النهار، وهي في الأصل ضوء الشمس إذا ارتفعت، اه أبو السعود، وفي «السمين»: والضحى: انبساط الشمس، وامتداد النهار، وسمى به الوقت، ويقال: ضحى وضحاء، إذا ضممته قصرته، وإذا فتحته مددته، وقال بعضهم: الضحى - بالضم والقصر - لأول ارتفاع الشمس، والضحاء - بالفتح والمد - لقوة ارتفاعها قبل الزوال، والضحى مؤنث اه.
﴿يَلْعَبُونَ﴾؛ أي: يلهون من فرط غفلتهم ﴿مَكْرَ اللَّهِ﴾: والمكر التدبير الخفي الذي يفضي بالممكور به إلى ما لا يحتسب، وفي «المختار»: المكر الاحتيال والخديعة، وقد مكر من باب نصر، فهو ماكر ومكّار. اه وفي «السمين»: والمراد بمكر الله هنا: فعل يعاقب به الكفرة على كفرهم، وأضيف إلى الله لما كان عقوبة على ذنبهم ﴿أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ﴾ يقال: هداه
﴿مِنْ عَهْدٍ﴾ العهد الوصية، والوصية تارة يراد بها إنشاؤها وإيجادها، وأخرى يراد بها ما يوحى به، ويقال: عهدت إليه بكذا؛ أي: وصيته بفعله أو حفظه، وهو إما أن يكون بين طرفين - وهو المعاهدة - وإما من طرف واحد، بأن يعهد إليك بشيء، أو تلزم بشيء، والميثاق: هو العهد الموثق بضرب من ضروب التوكيد.
وقال الراغب (١): عهد الله تارة يكون بما ركزه في عقولنا، وتارة يكون بما أمرنا به في الكتاب وألسنة رسله، وتارة بما نلتزمه وليس بلازم في أصل الشرع، كالنذور وما يجري مجراها اه ﴿الفاسقين﴾ والفسوق: الخروج عن كل عهد فطري وشرعي، بالنكث والغدر وغير ذلك من المعاصي، ووجدنا الأولى بمعنى ألفينا، والثانية بمعنى علمنا.
البلاغة
وقد تضمنت هذه الأيات أنواعا من البلاغة والفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: تغليب حكم الجماعة على الواحد في قوله: ﴿أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا﴾؛ لأنّ شعيبا لم يكن في ملتهم قط، فيعود فيها.
ومنها: الاستفهام الإنكاري في قوله: ﴿أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ﴾.
ومنها: التكرار في قوله: ﴿وَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾.
ومنها: الإطناب في قوله: ﴿أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى﴾، وقوله: ﴿أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى﴾ لزيادة التقرير.
ومنها: الاستعارة التصريحية في قوله: ﴿وَسِعَ رَبُّنا﴾؛ لأنّه كناية عن الإحاطة، وفي قوله: ﴿رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا﴾؛ لأن الفتح حقيقة في الأجسام كفتح الباب، وفي قوله: ﴿فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ﴾؛ لأنّه استعارة لاستدراجه العبد وأخذه من حيث لا يحتسب، كما ذكره أبو السعود. وفي قوله: {لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ
ومنها: المجاز العقلي في قوله: ﴿فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ﴾، من الإسناد إلى السبب؛ أي: فأخذهم الله بالرجفة.
ومنها: الطباق بين لفظ ﴿الْحَسَنَةَ﴾ و ﴿السَّيِّئَةِ﴾ وبين لفظ ﴿الضَّرَّاءِ﴾ و ﴿السراء﴾ في قوله: ﴿إِلَّا أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ﴾، وقوله: ﴿ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ﴾ وبين قوله: ﴿الضَّرَّاءُ﴾ و ﴿السَّرَّاءُ﴾ في قوله: ﴿قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ﴾.
ومنها: التفخيم (١) والتهويل في تكرار لفظ ﴿أَهْلَ الْقُرى﴾ لما في ذلك من التسميع والإبلاغ والتهديد، ما لا يكون في الضمير لو قال: أو أمنوا؛ فإنّه متى قصد التفخيم والتعظيم والتهويل جيء بالاسم الظاهر.
ومنها توسيط (٢) النداء باسمه العلمي بين المعطوفين في قوله: ﴿لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ﴾، لزيادة التقرير والتهديد، الناشئة عن غاية الوقاحة والطغيان؛ أي: والله لنخرجنك وأتباعك.
ومنها: الإخبار المتضمن معنى التعجب في قوله: ﴿قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا﴾، كأنّه قيل: ما أكذبنا على الله إن عدنا إلى الكفر، قاله الزمخشري.
ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
(٢) أبو السعود.
﴿ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَظَلَمُوا بِها فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (١٠٣) وَقالَ مُوسى يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٠٤) حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ (١٠٥) قالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (١٠٦) فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (١٠٧) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ (١٠٨) قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ (١٠٩) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَماذا تَأْمُرُونَ (١١٠) قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (١١١) يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ (١١٢) وَجاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قالُوا إِنَّ لَنا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (١١٣) قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (١١٤) قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (١١٥) قالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (١١٦) وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ (١١٧) فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١١٨) فَغُلِبُوا هُنالِكَ وَانْقَلَبُوا صاغِرِينَ (١١٩) وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (١٢٠) قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (١٢١) رَبِّ مُوسى وَهارُونَ (١٢٢) قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (١٢٣) لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (١٢٤) قالُوا إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (١٢٥) وَما تَنْقِمُ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْرًا وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ (١٢٦)﴾.
المناسبة
لما قص (١) الله سبحانه وتعالى على نبيه أخبار نوح وهود وصالح ولوط وشعيب، وما آل إليه أمر قومهم، وكان هؤلاء لم يبق منهم أحد أتبع بقصص موسى وفرعون وبني إسرائيل، إذ كانت معجزاته من أعظم المعجزات، وأمته من أكثر الأمم تكذيبا وتعنتا واقتراحا وجهلا، وكان قد بقي من أتباعه عالم وهم اليهود.. فقص الله علينا قصصهم لنعتبر ونتعظ وننزجر عن أن نتشبه بهم.
وعبارة «المراغي» هنا: هذه هي القصة السادسة من قصص الأنبياء التي ذكرت في هذه السورة، وفيها من الإيضاح والتفصيل ما لم يذكر في غيرها؛ لأن معجزات موسى كانت أقوى من معجزات غيره ممن سبق ذكرهم، وجهل قومه كان أفحش، وقد ذكرت قصته في عدة سور مكية بين مطولة ومختصرة، وذكر اسمه في سور كثيرة، زادت على مئة وثلاثين مرة، وسر هذا أنّ قصته أشبه قصص الرسل بقصص النبي صلى الله عليه وسلّم، إذ أنّه أوتي شريعة دينية دنيوية، وكوّن الله تعالى به أمة عظيمة، ذات ملك ومدنية.
التفسير وأوجه القراءة
١٠٣ - ﴿ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى﴾؛ أي: ثمّ بعثنا من بعد نوح وهود وصالح ولوط وشعيب عليهم السلام، أو من بعد إهلاك الأمم المذكورة؛ أي: ثم بعدما فرغنا من ذكر قصص الأنبياء المذكورين وأممهم، نذكر قصة موسى وقومه فنقول: وعزتي وجلالي لقد أرسلنا موسى بن عمران من بعد إرسالنا لهؤلاء الرسل المذكورين في هذه السورة، وإهلاك أممهم، وقطع دوابرهم، حالة كونه مؤيدا ﴿بِآياتِنا﴾ ومعجزاتنا التسع، وملتبسا بأدلتنا وحججنا الدالة على صدقه، مثل العصا واليد، وغيرهما من الآيات التي جاء بها موسى عليه السلام، كما سيأتي التعبير عنها بهذا العدد في سورة الإسراء إن شاء الله تعالى: ﴿إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ﴾؛ أي: أشراف قومه، وتخصيصهم (٢) بالذكر مع عموم الرسالة لهم ولغيرهم؛ لأنّ من عداهم كالأتباع لهم، سموا (٣) ملأ لأنّهم يملؤون المجالس بأجرامهم،
(٢) الشوكاني.
(٣) أبو السعود.
وقال في «التحبير» (١): فرعون اسمه الوليد بن مصعب بن الريان، وكنيته أبو مرة، وقيل: أبو العباس، وهو فرعون الثاني الذي أرسل إليه موسى، وكان قبله فرعون آخر، وهو أخوه، واسمه قابوس بن مصعب ملك العمالقة، ولم يذكر في القرآن، وفرعون إبراهيم النمروذ، وفرعون هذه الأمة أبو جهل. انتهى.
فائدة: كان ملك فرعون أربع مئة سنة، وعاش ست مئة وعشرين سنة، ولم ير مكروها قط، ولو كان حصل له في تلك المدة جوع يوم، أو حمى ليلة، أو وجع.. لما ادعى الربوبية، وفرعون في الأصل علم لشخص، ثم صار لقبا لكل من ملك مصر، كما في «الشهاب».
﴿فَظَلَمُوا بِها﴾؛ أي: ظلم فرعون وأتباعه بتلك الآيات، وجحدوا بها وأنكروها؛ لأنّ الظلم وضع الشيء في غير موضعه، وكانت هذه الآيات معجزات ظاهرة قاهرة، فكفروا بها؛ أي (٢): وضعوا الإنكار في موضع الإقرار بها، ووضعوا الكفر في موضع الإيمان، وذلك ظلم منهم على تلك الآيات الظاهرة، أو معنى ﴿فَظَلَمُوا بِها﴾؛ أي: ظلموا الناس بسببها لما صدوهم عن الإيمان بها، أو ظلموا أنفسهم بسببها ﴿فَانْظُرْ﴾ يا محمد، أو أيها المخاطب بعين بصيرتك ﴿كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ﴾ بالكفر من إهلاكهم؛ أي: أنظر بعين العقل والبصيرة كيف فعلنا بهم وكيف أهلكناهم، حيث صاروا مغرقين، وجعلناهم مثلا نوعد به كفرة من كان في عصرك يا محمد.
وحاصل المعنى: أي ثمّ (٣) بعثنا - من بعد أولئك الرسل - موسى بالمعجزات التي تدل على صدقه فيما يبلغه عنا إلى فرعون وأشراف قومه، فظلموا أنفسهم وقومهم بالكفر بها كبرا وجحودا، فكان عليم إثم ذلك وإثم قومهم الذين حرموا من الإيمان باتباعهم لهم، وقال: ﴿إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ﴾ ولم يقل فرعون
(٢) المراغي.
(٣) أبو السعود.
وفي هذا تشويق وتوجيه للنظر إلى ما سيقصه الله تعالى من عاقبة أمرهم، إذ نصر رسوله موسى - وهو واحد من شعب مستضعف مستعبد لهم - على فرعون وملئه، وهم أعظم أهل الأرض قوة وصولة، بأن أبطل سحرهم، وأقنع علماءهم وسحرتهم بصحة رسالته، وكون آياته من عند الله تعالى، ثم نصره بإرسال أنواع العذاب على البلاد، ثم بإنقاذ قومه وإغراق فرعون ومن تبعه من ملئه وجنوده، وهذه عبرة قائمة على وجه الدهر، وحجة على أنّ الغلب ليس للقوة المادية فحسب، كما يقوله المغرورون بعظمة الأمم الظالمة الأجنبية لمن استضعفتهم من أهل الوطن، كما هو مشاهد الآن في شرقي أفريقيا كأرمينيا.
وبعد التشويق والتنبيه المتقدم، قص الله تعالى ما كان من أولئك القوم في ابتداء أمرهم، حتى انتهوا إلى تلك العاقبة فقال:
١٠٤ - ﴿وَقالَ مُوسى يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٠٤)﴾ وهذا كلام (١) مستأنف لتفصيل ما أجمل قبله من كيفية إظهار الآيات، وكيفية عاقبة المفسدين، ولم يكن هذا القول وما بعده من جواب فرعون إثر ما ذكر ههنا، بل بعد ما جرى بينهما من المحاورات المحكية بقوله تعالى: ﴿قالَ فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى﴾ الآيات. وقوله: ﴿وَما رَبُّ الْعالَمِينَ﴾ الآيات. فطوى ذكره هنا للإيجاز؛ أي: وقال موسى عليه السلام - حين دخل على فرعون ودعاه إلى الإيمان بالله تعالى، وإلى الإيمان به:
١٠٥ - وأنا ﴿حَقِيقٌ﴾؛ أي: جدير وحريص ﴿عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا﴾ القول ﴿الْحَقَّ﴾ والكلام الصدق، فهو لا يقول على الله إلا القول الحق، إذ لا يمكن أن يبعث الله رسولا يكذب عليه، وهو الذي بيده ملكوت كل شيء، فهو معصوم من الكذب والخطأ في التبليغ.
والخلاصة: أنّ كلامه اشتمل على عقيدة الوحدانية، وهي أنّ للعالمين ربا واحدا، وعلى عقيدة الرسالة المؤيدة منه تعالى بالعصمة في التبليغ والهداية.
وقرأ نافع (١): ﴿عليّ أن لا أقول﴾ بتشديد الياء، جعل ﴿على﴾ داخلة على ياء المتكلم، ف ﴿حَقِيقٌ﴾: مبتدأ، وخبره ما دخلت عليه ﴿أَنْ﴾؛ أي: واجب وثابت علي ترك القول على الله إلا بالحق، وقرأ باقي السبعة عَلى بمد اللام على أنّها جارة للمصدر المنسبك مما بعدها، فـ ﴿حَقِيقٌ﴾: خبر مبتدأ محذوف، والتقدير: وأنا حقيق وحريص على عدم القول على الله إلا الحق، كما مر آنفا في حلنا. وقال أبو الحسن والفراء والفارسي: ﴿عَلى﴾: بمعنى الباء؛ أي: حقيق بأن لا أقول على الله إلا الحق، كما أنّ الباء تكون بمعنى ﴿على﴾ في قوله: ﴿وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ﴾؛ أي: على كل صراط، فكأنه قيل: حقيق بأن لا أقول، كما تقول: فلان حقيق بهذا الأمر وخليق به، ويشهد لهذا التوجيه قراءة أبي ﴿بأن لا أقول﴾ وضع مكان ﴿عَلى﴾ الباء، وقرأ عبد الله والأعمش ﴿حقيق أن لا أقول﴾ بإسقاط ﴿عَلى﴾ فاحتمل أن يكون على إضمار ﴿على﴾، كقراءة من قرأ بها، واحتمل أن يكون على إضمار الباء كقراءة أبي، وعلى كلا الاحتمالين يكون التعلق بـ ﴿حَقِيقٌ﴾.
ولمّا ذكر أنّه رسول من عند الله، وأنّه لا يقول على الله إلا الحق.. أخذ يذكر المعجزة والخارق الذي يدل على صدق رسالته فقال: ﴿قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ﴾ والخطاب فيه لفرعون وملائه الحاضرين معه؛ أي: قد جئتكم ببرهان قاطع {مِنْ
وكان (٢) بين اليوم الذي دخل فيه يوسف مصر، واليوم الذي دخل فيه موسى أربع مئة عام، والظاهر أن موسى لم يطلب من فرعون في هذه الآية إلا إرسال بني إسرائيل معه، وفي غير هذه الآية دعاه إياه إلى الإقرار بربوبية الله تعالى وتوحيده، قال تعالى: ﴿هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى (١٨) وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى (١٩)﴾ وكل نبي داع إلى توحيد الله تعالى، وقال تعالى حكاية عن فرعون: ﴿أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ﴾ فهذا ونظائره دليل على أنّه طلب منه الإيمان، خلافا لمن قال: إنّ موسى لم يدعه إلى الإيمان، ولا إلى التزام شرعه. وليس بنو إسرائيل من قوم فرعون والقبط؛ ألا ترى أنّ بقية القبط - وهم الأكثر - لم يرجع إليهم موسى، ثمّ حكى سبحانه ما قاله فرعون حينئذ:
١٠٦ - ﴿قالَ﴾ فرعون لموسى ﴿إِنْ كُنْتَ﴾ يا موسى ﴿جِئْتَ﴾ وأتيت من عند من أرسلك ﴿بِآيَةٍ﴾ ومعجزة وحجة دالة
(٢) البحر المحيط.
أي: قال فرعون لموسى: إن كنت قد جئت مؤيدا بآية من عند من أرسلك كما تدّعي.. فأتني بها، وأظهرها لدي إن كنت ممن يقول الصدق، ويلتزم قول الحق.
١٠٧ - ثم ذكر أن موسى أجابه إلى ما طلبه فقال: ﴿فَأَلْقى﴾ موسى ﴿عَصاهُ﴾؛ أي: فلم يلبث موسى أنّ ألقى ورمى عصاه - التي كانت بيمينه - أمام فرعون ﴿فَإِذا هِيَ﴾؛ أي: العصا ﴿ثُعْبانٌ﴾؛ أي: حية ضخمة صفراء ذكر ﴿مُبِينٌ﴾؛ أي: ظاهر بيّن، لا خفاء ولا شك في كونه ثعبانا حقيقيا، يسعى وينتقل من مكان إلى آخر، وتراه الأعين من غير أن يسحرها ساحر فيخيل إليها أنّها تسعى.
روي (١) أنّه لما ألقاها صارت ثعبانا أشعر فاغرا فاه، بين لحييه ثمانون ذراعا، قائما على ذنبه، مرتفعا من الأرض بقدر ميل، وضع لحيه الأسفل على الأرض، والأعلى على سور القصر، ثم توجه نحو فرعون ليبتلعه، فوثب فرعون عن سريره هاربا وأحدث، وانهزم الناس مزدحمين، فمات منهم خمسة وعشرون ألفا، فصاح فرعون: يا موسى أنشدك بالذي أرسلك خذه وأنا أؤمن بك وأرسل بني إسرائيل، فأخذه فعاد عصا، فإن قلت: وصفها هنا بالثعبان، والثعبان من الحيات العظيم الضخم، ووصفها في آية أخرى بأنّها جان، والجان الحية الصغيرة، فبين الوصفين معارضة؟
قلت: يمكن الجمع بين الوصفين أنّها كانت في عظم الحية كالثعبان العظيم، وفي خفة الحركة كالحية الصغيرة، وهي الجان. ذكره في «الخازن».
قيل (٢): بدأ بالعصا دون سائر المعجزات لأنّها معجزة تحتوي على معجزات كثيرة، قالوا منها: أنّه ضرب بها باب فرعون ففزع من قرعها، فشاب رأسه فخضبه بالسواد، فهو أول من خضب السواد. ومنها: انقلابها ثعبانا،
(٢) البحر المحيط.
١٠٨ - ﴿وَنَزَعَ يَدَهُ﴾؛ أي: نزع موسى يده اليمنى، وجذبها وأخرجها وأظهرها من جيب قميصه بعد أن وضعها فيه - بعد إلقاء العصا - أو من تحت إبطه، وفي التنزيل ﴿وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ﴾، ﴿فَإِذا هِيَ﴾؛ أي: يده التي أخرجها ﴿بَيْضاءُ﴾ بياضا نورانيا، تتلألأ نورا غلب شعاعه شعاع الشمس يظهر ﴿لِلنَّاظِرِينَ﴾ إليها؛ أي: لكل من ينظر إليها.
١٠٩ - ثم حكى الله سبحانه وتعالى ما قاله قومه، بعد أن رأوا من موسى ما رأوا فقال: ﴿قالَ الْمَلَأُ﴾؛ أي: الأشراف ﴿مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ﴾ وهم أهل مشورته ورؤساء دولته ﴿إِنَّ هذا﴾ الرجل، يعنون موسى ﴿لَساحِرٌ عَلِيمٌ﴾؛ أي: حاذق في علم السحر، كثير في فهمه ومعرفته وفائق فيه، يعنون أنّه ليأخذ بأعين الناس، حتى يخيل لهم أنّ العصا صارت حية، ويرى الشيء بخلاف ما عليه، كما أراهم يده بيضاء وهو آدم اللون، وإنّما قالوا ذلك لأنّ السحر كان هو الغالب في ذلك الزمان، فلما أتى بما يعجز عنه غيره.. قالوا: ﴿إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ﴾.
فإن قلت (١): قد أخبر الله تعالى في هذه السورة أنّ هذا الكلام من قول الملأ لفرعون، وقال في سورة الشعراء: ﴿قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ﴾ فكيف الجمع بين الآيتين؟
قلت: لا يمتنع أن يكون قاله فرعون أولا، ثم إنّهم قالوه بعده، فأخبر الله تعالى عنهم هنا، وأخبر عن فرعون في سورة الشعراء. وقيل: يحتمل أنّ فرعون
١١٠ - وجملة قوله: ﴿يُرِيدُ﴾؛ أي: موسى ﴿أَنْ يُخْرِجَكُمْ﴾ أيها القبطيون ﴿مِنْ أَرْضِكُمْ﴾ ووطنكم مصر، صفة ثانية لساحر.
والمعنى: قال (١) الأشراف والرؤساء من قوم فرعون: إنّ هذا الرجل لساحر عليم؛ أي: ماهر في فنون السحر، قد وجه كل همه لسلب ملككم منكم، وإخراجكم من أرضكم بسحره، إذ به يستميل الشعب إليه، وينتزع منكم الملك، ثم يخرج الملك وعظماء رجاله من البلاد، حتى لا يناوئوه في شؤون الملك واستعادته منه، استشعرت (٢) نفوسهم الخبيثة ما صار إليه أمرهم، من إخراجهم من أرضهم، وخلو مواطنهم منهم، وخراب بيوتهم، فبادروا إلى الإخبار بذلك، وكان الأمر كما استشعروا، إذ أغرق الله فرعون وآله، وأخلى منازلهم منهم، وهذا المذكور من كلام الملأ لفرعون، وأما قوله: ﴿فَماذا تَأْمُرُونَ﴾ فقيل (٣): هو من كلام فرعون؛ أي: قال فرعون للملأ - لما قالوا ما تقدم - بأي شيء تأمرونني فيه؟ وقيل: هو من كلام الملأ؛ أي: قالوا لفرعون: فبأي شيء تأمرنا فيه؟ وخاطبوه بما يخاطب به الجماعة تعظيما له، كما يخاطب الرؤساء أتباعهم، ولكن كون هذا من كلام فرعون هو الأولى، بدليل ما بعده، وهو قوله: ﴿قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (١١١)﴾؛ أي: قال الملأ لفرعون حين استشارهم بقوله: ﴿فَماذا تَأْمُرُونَ﴾ أرجه وأخاه هارون؛ أي: أخر الفصل والقضاء في أمره وأمر أخيه، وأرسل في مدائن ملكك جماعات من رجال شرطتك وجندك، ﴿حاشِرِينَ﴾؛ أي: جامعين لك السحرة منها، وسائقيهم إليك، وكان رؤساء السحرة ومهرتهم في أقصى مدائن الصعيد.
(٢) البحر المحيط.
(٣) الشوكاني.
﴿يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ (١١٢)﴾؛ أي: إن ترسلهم.. يأتوك هؤلاء الذين أرسلتهم بكل ساحر عليم؛ أي: بكل ماهر في السحر، كثير العلم بصناعته، فيكشفوا لك حقيقة ما جاء به موسى، فلا يفتن به أحد، وإنّما قالوا: ﴿فِي الْمَدائِنِ﴾؛ لأن السحر من العلوم التي توجد في المدائن الجامعة المأهولة بدور العلم والصناعة؛ وإنّما نصحوه بإحضار السحرة الماهرين؛ لأنّهم الجديرون أن يأتوا موسى بمثل ما أتى به من الأمر العظيم.
وقرأ الجمهور (١): ﴿فَماذا تَأْمُرُونَ﴾ بفتح النون، على أنّ النون نون علامة الرفع هنا وفي الشعراء، وروى كردم عن نافع: بكسر النون فيهما، على أنّ النون نون الوقاية، حذفت بعدها ياء المتكلم.
١١١ - ﴿قالُوا أَرْجِهْ﴾ فيه (٢) ست قراءات، ثلاث بإثبات الهمزة التي بعد الجيم، وهي: كسر الهاء من غير إشباع لابن ذكوان عن أبي عامر، وضمها كذلك لأبي عمرو، وبإشباع حتى يتولد من الضمة واو على الأصل لابن كثير وهشام عن ابن عامر، وثلاث بحذف الهمزة، وهي: سكون الهاء وصلا ووقفا لعاصم وحمزة، وكسر الهاء من غير إشباع لقالون، وبه حتى يتولد منها ياء لنافع والكسائي وورش.
وقرأ الأخوان حمزة والكسائي (٣): ﴿بكل سحار﴾ هنا، وفي يونس والباقون
(٢) المراح.
(٣) البحر المحيط.
١١٢ - ﴿بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ﴾.
فذلكة في السحر وضروبه: السحر (١) أعمال غريبة وحيل تخفى حقيقتها على جماهير الناس لجهلهم لأسبابها، وقد كان فنا من الفنون التي يتعلمها قدماء المصريين في مدارسهم الجامعة مع كثير من العلوم الكونية، واقتفى أثرهم في ذلك البابليون، والهنود، وغيرهم، ولا يزال يؤثر عن الوثنيين من الهنود أعمال غريبة مدهشة من السحر، اهتم بعض الإنجليز وغيرهم بالبحث عن حقيقة أمرها، فعرفوا بعضا وجهلوا تعليل الأكثر.
وهو لا يروج إلا بين الجاهلين، وله مكانة عظيمة في القبائل الهمجية، والبلاد ذات الحضارة تسميه بالشعوذة - الاحتيال والدجل - وهو أنواع ثلاثة:
١ - ما يعمل بأسباب طبيعية من خواص المادة، معروفة للساحر، مجهولة عند من يسحرهم بها، كالزئبق الذي قيل إن سحرة فرعون وضعوه في حبالهم وعصيهم، كما سنذكره بعد، ولو ادعى علماء الطبيعة والكيمياء في هذا العصر السحر في أواسط أفريقيا وغيرها من البلاد التي يروج فيها السحر.. لأروهم العجب العجاب من غرائب الكهرباء وغيرها، حتى لو ادعوا فيهم الألوهية..
لخضعوا لهم، فضلا عن النبوة والولاية.
٢ - الشعوذة التي ملاك أمرها خفة اليدين في إخفاء بعض الأشياء وإظهار بعض، وإراءة بعضها بغير صورها، وغير ذلك مما هو
معروف في هذه البلاد وغيرها من البلاد المتمدنة.
٣ - ما يكون مداره على تأثير الأنفس ذات الإرادة القوية، في الأنفس الضعيفة، القابلة للأوهام والانفعالات التي يسميها علماء النفس: بالأنفس الهستيرية، وأصحاب هذا النوع يستعينون على أعمالهم بأرواح الشياطين، ومنهم
وبعد أن ذكر فيما سلف أنّهم طلبوا إليه تأخير الفصل في أمره، حتى يحضر السحرة ليفسدوا عليه أعماله، ويبينوا خبيىء حيله.. ذكر هنا أن السحرة جاؤوا وطلبوا المثوبة من فرعون إن هم نفذوا ما طلبه، فأجابهم إلى ذلك، ففعلوا أفاعيلهم السحرية التي أوقعت الرهب في قلوب المشاهدين فقال:
١١٣ - ﴿وَجاءَ السَّحَرَةُ﴾ الذين حشرهم أعوان فرعون وشرطته ﴿فِرْعَوْنَ﴾ اللعين، وقال أبو حيان: وفي الكلام حذف يقتضيه المعنى، تقديره: فأرسل جنده حاشرين، وجمعوا السحرة، وأمرهم بالمجيء، وجاؤوا إليه وحين جاؤوا ﴿قالُوا﴾ لفرعون ﴿إِنَّ لَنا لَأَجْرًا﴾؛ أي: إن لنا عليك لجعلا عظيما وأجرا وجائزة، كفاء ما نقوم به من العمل العظيم الذي يتم به الغلب على موسى ﴿إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ﴾ على موسى. قرأ (١) نافع وابن كثير وحفص عن عاصم ﴿إِنَّ لَنا﴾ بهمزة واحدة على الإخبار فكأنهم قاطعون بالجعل، وإنّه لا بد لهم منه، وجوز أبو علي أن تكون ﴿إِنَّ﴾ استفهاما حذفت منه الهمزة، كقراءة الباقين الذين أثبتوها، قال: والاستفهام أشبه بهذا الموضع؛ لأنّهم لم يقطعوا أن لهم الأجر، وإنّما استفهموا عنه. ذكره ابن الجوزي في «زاد المسير»، وقرأ حمزة والكسائي، وابن عامر وأبو بكر وأبو عمرو بهمزتين، فمنهم من حققهما، ومنهم من سهل الثانية، ومنهم من أدخل بينهما ألفا، كأبي عمرو، والخلاف في كتب القراءات مبسوط على الاستفهام، استفهموا فرعون عن الجعل الذي سيجعله لهم على الغلبة، والاستفهام هنا للتقرير.
واشتراط (٢) الأجر وإيجابه على تقدير الغلبة، لا يريدون مطلق الأجر، بل المعنى: إن لنا لأجرا عظيما، ولهذا قال الزمخشري: والتنكير للتعظيم، كقول
(٢) البحر المحيط.
١١٤ - وعلى من لا يعلم مثل علمه ﴿قالَ﴾ فرعون مجيبا لهم إلى ما طلبوا ﴿نَعَمْ﴾. قرأ الكسائي (١) بكسر العين؛ أي: إنّ لكم لأجرا عظيما على ما تقومون به من ذلك العمل الجليل ﴿وَإِنَّكُمْ﴾ مع ذلك الأجر ﴿لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ﴾ إلينا، فتجمعون بين المال والجاه، وذلك منتهى ما تطمعون فيه من نعيم الدنيا وسعادتها، والمعنى (٢): إنّ فرعون قال للسحرة: إنّي لا أقتصر معكم على الأجر، بل أزيدكم عليه، وتلك الزيادة أني أجعلكم من المقربين إلي بالمنزلة، قال الكلبي: تكونون أول من يدخل علي، وآخر من يخرج من عندي.
وفي (٣) مبادرة فرعون لهم بالوعد والتقريب منه، دليل على شدة اضطراره لهم، وأنّهم كانوا عالمين بأنّه عاجز، ولذلك احتاج إلى السحرة في دفع موسى عليه السلام.
١١٥ - ﴿قالُوا﴾؛ أي: قالت السحرة لموسى بعد وعد فرعون لهم: ﴿يا مُوسى﴾ اختر ﴿إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ﴾ ما عندك أولا ﴿وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ﴾؛ أي: وإما أن نلقي نحن ما عندنا أولا، وفي هذا التخير منهم له دليل على اعتدادهم بسحرهم، وثقتهم بأنفسهم، وعدم المبالاة بعمله، ولولا ذلك لما خيروه، إذ المتأخر في العمل يكون أبصر بما تقتضيه الحال بعد وقوفه على منتهى جهد خصمه.
١١٦ - ﴿قالَ﴾ لهم موسى عليه السلام - وهو واثق بشأنه، محتقر لهم غير مبال بهم - ﴿أَلْقُوا﴾ ما أنتم ملقون، وهو عليه السلام لم يأمرهم بفعل السحر ابتداء؛ وإنّما أمرهم بأن يتقدموه فيما جاؤوا به لأجله، ولا بد لهم منه، وأراد بذلك التوصل إلى إظهار بطلان السحر لا إثباته، وإلى بناء ثبوت الحق على بطلانه، ولم يكن هناك وسيلة للإبطال إلا ذلك، وقد صرح فيما حكاه الله تعالى عنه: {قالَ مُوسى ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ وَيُحِقُّ اللَّهُ
(٢) الخازن.
(٣) البحر المحيط.
﴿فَلَمَّا أَلْقَوْا﴾ ما ألقوا من حبالهم وعصيهم ﴿سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ﴾؛ أي: قلبوها وغيروها عن صحة إدراكها بما جاؤوا به من التمويه والتخييل الذي يفعله المشعوذون وأهل الخفة؛ أي: خيلوا إليهم ما لا حقيقة له، كما قال تعالى: ﴿يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى﴾. ﴿وَاسْتَرْهَبُوهُمْ﴾؛ أي: استرهبوا الناس وأفزعوهم وأوقعوا في قلبهم الرهب والخوف، وأرهبوهم إرهابا شديدا، حيث خيلوها حيات تسعى ﴿وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ﴾ في مظهره، كبير في تأثيره في أعين الناس، يخافه كل من رآه، قال ابن كثير: أي: خيلوا إلى الأبصار أنّ ما فعلوه له حقيقة في الخارج، ولم يكن إلا مجرد صنعة وخيال. قال ابن عباس رضي الله عنهما: ألقوا حبالا غلاظا، وخشبا طوالا، فأقبلت يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى، وهذا هو السحر الذي هو محض تخييل في عين الرائي، والشيء المسحور حقيقته على ما هي عليه لم تقلب، وأما المعجزة ففيها قلب حقيقة الشيء - كالعصا - حيث صارت حية، هذا هو الفارق بين السحر والمعجزة اه. «خازن».
قال ابن إسحاق (١): صف خمسة عشر ألف ساحر، مع كل ساحر حباله وعصيه، وفرعون في مجلسه مع أشراف مملكته، فكان أول ما اختطفوا بسحرهم بصر موسى وبصر فرعون، ثم أبصار الناس بعد، ثم ألقى رجل منهم ما في يده من العصيّ والحبال، فإذا هي حيات كأمثال الجبال - قد ملأت الوادي - يركب بعضها بعضا، وكانت سعة الأرض ميلا في ميل، فصارت كلها حيات، قيل (٢): إنّهم أتوا بالحبال والعصي ولطخوا تلك الحبال بالزئبق، وجعلوا الزئبق في دواخل تلك العصي، فلما أثّر تسخين الشمس فيها.. تحركت والتوى بعضها على بعض، وكانت كثيرة جدا، فالناس تخيلوا أنها تتحرك وتلتوي باختيارها وقدرتها ﴿اسْتَرْهَبُوهُمْ﴾؛ أي: بالغوا في تخويف عظيم للعوام من حركات تلك الحيات والعصي، وخاف موسى أن يتفرقوا قبل ظهور معجزته، فكان خوفه لأجل فزع الناس واضطرابهم مما رأوه من أمر تلك الحيات، وليس خوفه لأجل سحرهم؛
(٢) المراح.
فعلى هذا (١): يكون سحرهم لأعين الناس عبارة عن هذه الحيلة الصناعية إذا صح خبرها، ويمكن أن تكون هناك حيلة أخرى، كإطلاق أبخرة أثرت في الأعين، فجعلتها تبصر ذلك، أو أنّ الحبال والعصي جعلت على صور الحيات، وحركت بمحركات خفية سريعة، لا تدركها أبصار الناظرين.
١١٧ - ﴿وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى﴾ على لسان جبريل بـ ﴿أَنْ أَلْقِ عَصاكَ﴾ فألقاها، فلما ألقاها ﴿فَإِذا هِيَ﴾؛ أي: العصا ﴿تَلْقَفُ﴾؛ أي: تأخذ وتبتلع ﴿ما يَأْفِكُونَ﴾؛ أي: ما يكذبون فيه من الحبال والعصى، ويقلبونه من الحق إلى الباطل؛ لأنّه لا حقيقة له في الواقع، بل هو كذب وزور وتمويه وشعوذة؛ أي (٢): ولما ألقى موسى العصا.. صارت حية عظيمة، حتى سدت الأفق، ثم فتحت فكها، فكان ما بين فكيها ثمانين ذراعا، وابتلعت ما ألقوا من حبالهم وعصيهم، وكانت حمل ثلاث مئة بعير، فلما أخذها موسى.. صارت عصا كما كانت من غير تفاوت في الحجم أصلا.
وظاهر السياق (٣) يقتضي أن إلقاء العصا وانقلابها حية وقع مرتين بحضرة فرعون: الأولى كانت سببا في جمع السحرة، والثانية بحضرتهم، فالأولى ذكرت سابقا بقوله: ﴿فَأَلْقى عَصاهُ﴾ الخ، والثانية هي المذكورة هنا، ووقع انقلابها حية أيضا مرة أخرى قبل هاتين المرتين، ولم يكن حاضرا هناك أحد غير موسى، وقد ذكرت هذه المرة في صورة طه في قوله: ﴿وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (٩) إِذْ رَأى نارًا إلى قوله: قالَ أَلْقِها يا مُوسى (١٩) فَأَلْقاها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى (٢٠)﴾.
وقرأ حفص (٤): ﴿تَلْقَفُ﴾، بسكون اللام من لقف، من باب علم وفهم، وقرأ باقي السبعة بفتح اللام وتشديد القاف، من تلقف يتلقف، من باب تفعل الخماسي، حذفت إحدى تائيه، إذ الأصل: تتلقف، وقرأ البزي بإدغام تاء المضارعة في التاء في الأصل، وقرأ ابن جبير ﴿تلقم﴾ بالميم؛ أي: تبلع كاللقمة
(٢) المراح.
(٣) الفتوحات.
(٤) البحر المحيط.
أنت عصا موسى الّتي لم تزل | تلقم ما يأفكه آلسّاحر |
١١٩ - ﴿فَغُلِبُوا﴾؛ أي: فرعون وقومه ﴿هُنالِكَ﴾؛ أي: في ذلك الموقف الذي أظهروا فيه سحرهم ﴿وَانْقَلَبُوا صاغِرِينَ﴾؛ أي: صاروا ذليلين مبهوتين؛ أي: غلب موسى فرعون وجموعه في ذلك الجمع العظيم، الذي كان في عيد لهم، ضربه موسى موعدا لهم كما جاء في سورة طه: ﴿قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (٥٩)﴾ وعادوا من ذلك الحفل صاغرين أذلة بما رزئوا من خيبة وخذلان.
١٢٠ - ﴿وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (١٢٠)﴾؛ أي: خروا سجدا لله تعالى؛ أي: فكأنّهم من سرعة سجودهم ألقوا؛ أي: وألقي السحرة حينما عاينوا عظيم قدرة الله تعالى ساقطين على وجوههم سجدا لربهم؛ لأنّ الحق قد بهرهم واضطرهم إلى السجود، حتى كأن أحدا دفعهم وألقاهم.
والخلاصة (١): أن ظهور بطلان سحرهم، وإدراكهم فجأة لآية موسى، وعلمهم بأنّها من عند الله تعالى، لا صنع فيها لمخلوق، ملأت عقولهم يقينا، وقلوبهم إيمانا، فكأن اليقين الحاكم على الأعضاء والجوارح هو الذي ألقاهم على وجوههم سجدا لرب العالمين، الذي بيده ملكوت كل شيء، وزالت من نفوسهم عظمة فرعون الدنيوية الزائلة، بعد أن ظهر لهم صغاره أمام هذه الآية، فنطقوا بما حكى الله عنهم
١٢١ - ﴿قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (١٢١)﴾؛ أي: قالوا صدقنا بما
١٢٢ - ﴿رَبِّ مُوسى وَهارُونَ (١٢٢)﴾؛ أي: مالكهما ومعبودهما.
ولما (١) ظفروا بالمعرفة.. سجدوا لله تعالى في الحال، وجعلوا ذلك السجود شكرا لله تعالى على الفوز بالإيمان والمعرفة، وعلامة على انقلابهم من الكفر إلى الإيمان، وإظهارا للخضوع والتذلل لله تعالى، فكأنهم جعلوا ذلك السجود الواحد علامة على هذه الأمور الثلاثة، على سبيل الجمع، وأولئك القوم كانوا عالمين بحقيقة السحر، فلما وجدوا معجزة موسى خارجة عن حد السحر..
علموا أنّها أمر من الله، فاستدلوا بها على أن موسى نبي صادق من عند الله تعالى.
فصل
اختلفوا في عدد السحرة على ثلاثة عشر قولا (٢):
أحدها: اثنان وسبعون، رواه أبو صالح عن ابن عباس.
والثاني: اثنان وسبعون ألفا، روي عن ابن عباس أيضا، وبه قال مقاتل.
والثالث: سبعون، روي عن ابن عباس أيضا.
والرابع: إثنا عشر ألفا، قاله كعب.
والخامس: سبعون ألفا، قاله عطاء، وكذلك قال وهب في رواية، إلا أنّه قال: فاختار منهم سبعة آلاف.
والسادس: سبع مئة، وروى عبد المنعم بن إدريس عن أبيه عن وهب أنه
(٢) زاد المسير.
والسابع: خمسة وعشرون ألفا. قاله الحسن.
والثامن: تسع مئة. قاله عكرمة.
والتاسع: ثمانون ألفا. قاله محمد بن المنكدر.
والعاشر: بضعة وثلاثون ألفا. قاله السدي.
والحادي عشر: خمسة عشر ألفا. قاله ابن إسحاق.
والثاني عشر: تسعة عشر ألفا. رواه أبو سليمان الدمشقي.
والثالث عشر: أربع مئة. حكاه الثعلبي.
فأما أسماء رؤسائهم.. فقال ابن إسحاق: رؤوس السحرة: ساتور، وعاذور، وحطحط، ومصفى، وهم الذين آمنوا، كذا حكاه ابن ماكولا، ورأيت عن غير ابن إسحاق: سابورا، وعاذورا وقال مقاتل: اسم أكبرهم شمعون.
قال ابن زيد (١): كان اجتماعهم بالاسكندرية، وبلغ ذنب الحية وراء البحر، ثم فتحت فاها ثمانين ذراعا، فكانت تبتلع حبالهم وعصيهم، واحدا واحدا، حتى ابتعلت الكل، وقصدت القوم الذين حضروا ذلك المجمع، ففزعوا ووقع الزحام، فمات منهم خمسة وعشرون ألفا، وفرعون يضحك تجلدا، فأقبلت الحية نحو فرعون، فصاح: يا موسى يا موسى، فأخذها موسى فصارت في يده عصا كما كانت، فلما رأت السحرة ذلك.. عرفوا أنّه ليس بسحر، فعند ذلك خروا ساجدين، وآمنوا برب العالمين.
وكل هذا مبالغات إسرائيلية، وتهويلات لم يصح شيء منها، وليس في التوراة ما يأيدها.
قال المتكلمون: وفي الآية دلالة على فضيلة العلم؛ لأنّهم لما كانوا كاملين في علم السحر.. علموا أنّ ما جاء به موسى حق خارج عن جنس السحر، ولولا العلم.. لتوهموا أنّه سحر، وأنّه أسحر منهم. ذكره أبو حيان في «البحر».
١٢٣ - ﴿قالَ فِرْعَوْنُ﴾ للسحرة ﴿آمَنْتُمْ بِهِ﴾؛ أي: آمنتم برب موسى وهارون، أو صدقتم بموسى واتبعتموه مذعنين لرسالته ﴿قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ﴾ فيه وآمركم به؛ أي: قال ما ذكر منكرا على السحرة، موبخا لهم على ما فعلوه، فالاستفهام للإنكار والتوبيخ ﴿إِنَّ هذا﴾ الصنيع الذي صنعتموه من الإيمان بموسى واتباعه ﴿لَمَكْرٌ﴾؛ أي: لحيلة وخديعة ﴿مَكَرْتُمُوهُ﴾؛ أي: احتلتموه ودبرتموه اتفاقا مع موسى، وأنتم ﴿فِي الْمَدِينَةِ﴾؛ أي: في مدينة مصر قبل أن تخرجوا إلى هذا الميعاد وإلى هذه الصحراء، بما أظهرتم من المعارضة والرغبة في الغلب عليه مع إسرار اتباعه، بعد ادعاء ظهور حجته، كما قال في سورة طه: ﴿إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ﴾ فأجمعتم كيدكم لنا في هذه المدينة ﴿لِتُخْرِجُوا مِنْها﴾؛ أي: من المدينة ﴿أَهْلَها﴾ من القبطيين؛ أي: لأجل أن تخرجوا المصريين منها بسحركم، ويكون لكم فيها مع بني إسرائيل ما هو لنا الآن من الملك والرياسة والتصرف في البلاد.
وكل (٢) ذي لب وفطنة يعلم أنّ هذه مقالة لا نصيب لها من الصحة، ولا ظل لها من الحقيقة؛ فإن موسى - إثر مجيئه من مدين - دعا فرعون إلى الله، وأظهر المعجزات الباهرة، فلم يكن من فرعون إلا أن أرسل جنده في المدائن حاشرين، ووعدهم بالعطاء الجزيل، وموسى لا يعرف منهم أحدا، ولا رآه ولا
(٢) المراغي.
والحاصل (١): أن قوله: ﴿إِنَّ هذا لَمَكْرٌ﴾ وقوله: ﴿لِتُخْرِجُوا مِنْها﴾ الخ. هاتان شبهتان ألقاهما إلى أسماع عوام القبط، فأراهم أنّ إيمان السحرة مبني على المواطأة بينهم وبين موسى، وأنّ غرضهم بذلك إخراج القوم من المدينة، وإبطال ملكهم، ومعلوم أنّ مفارقة الأوطان مما لا يطاق فجمع اللعين بين الشبهتين تثبيتا للقبط على ما هم عليه، وتهييجا لعداوتهم لموسى، ثم عقبهما بالوعيد ليريهم أن لهم قوة فقال: ﴿فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾ ما أصنع بكم من العذاب جزاء على هذا المكر والخداع،
١٢٤ - ثم بين ذلك بقوله: ﴿لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ﴾؛ أي: والله لأنكّلن بكم أشد التنكيل، فلأقطعن الأيدي والأرجل منكم، حالة كونها مختلفة في شق وجانب؛ أي: أنه يقطع من كل شق طرفا فيقطع اليد اليمنى والرجل اليسرى، فيخالف بينهما في القطع ﴿ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ﴾؛ أي: ثم بعد قطع الأيدي والأرجل لأعلقنكم على الأخشاب، ممدودة أيديكم على صورة الصليب؛ أي: ثمّ لأصلّبنّ كل واحد منكم - وهو على تلك الحال - لتكونوا عبرة لمن تحدثه نفسه بالكيد لنا، والترفع عن الخضوع لعظمتنا، قال ابن عباس رضي الله عنه: أول من قطع الأيدي والأرجل وصلب فرعون.
والخلاصة: أنّ اتهامه السحرة بالتواطؤ مع موسى، إنّما كان تمويها على قومه المصريين، إذ خاف عاقبة إيمان الشعب بموسى، فادعى أنّه لا ينتقم من السحرة إلا حبا فيهم، ودفاعا عنهم، وابقاء لاستقلالهم في وطنهم، كما هو شأن كل رئيس أو ملك في شعب يخاف أن ينتفض عليه وتجتمع كلمته على اختيار زعيم آخر، يقوم بدعوة دينية أو سياسية، وجاء هنا بـ ﴿ثُمَّ﴾ وفي يونس والشعراء بـ ﴿الواو﴾؛ لأنّ الواو صالحة للمهلة، فلا تنافي في الآيات. ذكره في «الفتوحات».
الأولى: قراءة الأخوين حمزة والكسائي وأبي بكر، عن عاصم وهي تحقيق الهمزتين في السور الثلاث من غير إدخال ألف بينهما، وهو استفهام إنكار، وأما الألف الثالثة فالكل يقرؤونها كذلك، وهي فاء الكلمة يجب قلبها ألفا لكونها بعد همزة مفتوحة، وأما الأولى: فمحققة ليس إلا، والثانية: قراءة حفص وهي ﴿أمنتم﴾ بهمزة واحدة بعدها ألف، والثالثة: قراءة نافع وأبي عمرو وابن عامر والبزي عن ابن كثير وهي تحقيق الأولى وتسهيل الثانية بين بين، والرابعة: قراءة قنبل عن ابن كثير فقرأ في هذه السورة حال الابتداء ﴿أآمنتم﴾ بهمزتين، أولاهما محققة والثانية مسهلة بين بين وألف بعدها، كقراءة البزي، وحال الوصل يقرأ ﴿قال فرعون وآمنتم﴾ بإبدال الأولى واوا، وتسهيل الثانية بين بين وألف بعدها، وقرأ في سورة طه كقراءة حفص، وفي سورة الشعراء كقراءة البزي.
وقرأ (٢) مجاهد وحميد المكي وابن محيص: ﴿لأقطعن﴾: مضارع قطع الثلاثي، و ﴿لأصلبنكم﴾ مضارع صلب الثلاثي، بضم لام ﴿لأصلبنكم﴾ وروي بكسرها، وجاء هنا بـ ﴿ثُمَّ﴾ وفي السورتين بالواو في ﴿وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ﴾ فدل على الواو أريد بها معنى (ثم)، من كون الصلب بعد القطع، والتعدية قد يكون معها مهلة وقد لا يكون.
١٢٥ - وعند ما سمع السحرة التهديد والوعيد السابق من ذلك الجبار المتكبر أجابوه بقولهم: ﴿قالُوا﴾؛ أي: السحرة ﴿إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ﴾؛ أي: راجعون بالموت بلا شك، سواء كان بقتلك أو لا، فيحكم بيننا وبينك، وإنّا إلى رحمة ربنا راغبون.
أي (٣): إنّهم لا يبالون بقتلهم؛ لأنّهم راجعون إلى ربهم، راجون مغفرته ورحمته، فتعجيل القتل يكون سببا لقرب لقائه، والتمتع بجزائه، قال أبو حيان (٤): وهذا تسليم واتكال على الله تعالى، وثقة بما عنده، والمعنى: إنّا نرجع
(٢) البحر المحيط.
(٣) المراغي.
(٤) البحر المحيط.
وقد يكون المعنى: إنا وإياك سننقلب إلى ربنا، وما أنت بمخلّد بعدنا، فلئن قتلتنا.. فسيحكم الله بعدله بينك وبيننا، وما أحسن قول الشاعر:
إلى ديّان يوم الدّين نمضي | وعند الله تجتمع الخصوم |
وما جاء في سورة الشعراء من قولهم: ﴿قالُوا لا ضَيْرَ إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (٥٠) إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (٥١)﴾ يؤيد المعنى الأول.
١٢٦ - ﴿وَما تَنْقِمُ مِنَّا﴾؛ أي: وما تكره منا ﴿إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا﴾؛ أي: إلا إيماننا وتصديقنا بآيات ربنا ومعجزاته، التي ظهرت على يد عبده ورسوله موسى عليه السلام ﴿لَمَّا جاءَتْنا﴾؛ أي: حين جاءتنا على يد موسى؛ أي: ما تعيب علينا إلا إيماننا بآيات ربنا، أو: ما لنا عندك ذنب تعذبنا عليه إلا إيماننا بآيات ربنا حين جاءتنا، وهذا الاستثناء شبيه بقوله:
ولا عيب فيهم غير أنّ سيوفهم | بهنّ فلول من قراع الكتائب |
وقرأ الحسن وأبو حيوة وأبو اليسر هاشم، وابن أبي عبلة (١): ﴿وما تنقم﴾ بفتح القاف، مضارع نقم بكسرها، وهما لغتان، والأفصح قراءة الجمهور.
وقد ختم الله سبحانه وتعالى كلام السحرة بدعائهم بقولهم: ﴿رَبِّنا﴾ ويا
قال الكلبي: إن فرعون قطع أيديهم وأرجلهم وصلبهم، وقال غيره إنّه لم يقدر عليهم لقوله تعالى: ﴿فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما بِآياتِنا أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ﴾.
الإعراب
﴿ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ فَظَلَمُوا بِها فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (١٠٣)﴾.
﴿ثُمَّ﴾: حرف عطف وتراخ، ﴿بَعَثْنا﴾: فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة قوله: ﴿وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْبًا﴾. ﴿مِنْ بَعْدِهِمْ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ ﴿بَعَثْنا﴾. ﴿مُوسى﴾: مفعول به ﴿بِآياتِنا﴾: جار ومجرور ومضاف إليه، حال من موسى؛ أي: حال كونه ملتبسا بآياتنا. ﴿إِلى فِرْعَوْنَ﴾: جار ومجرور، متعلق بـ ﴿بَعَثْنا﴾. ﴿وَمَلَائِهِ﴾: معطوف على ﴿فِرْعَوْنَ﴾. ﴿فَظَلَمُوا﴾ فعل وفاعل، معطوف على ﴿بَعَثْنا﴾ ﴿بِها﴾: متعلق بـ ﴿ظلموا﴾. ﴿فَانْظُرْ﴾: ﴿الفاء﴾:
﴿وَقالَ مُوسى يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٠٤)﴾.
﴿وَقالَ مُوسى﴾: فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة ﴿بَعَثْنا﴾ ﴿يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ﴾ إلى قوله: ﴿قالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ﴾ مقول محكى لـ ﴿قالَ﴾ وإن شئت قلت: ﴿يا﴾: حرف نداء، ﴿فِرْعَوْنُ﴾: في محل النصب منادى مفرد العلم، وجملة النداء في محل النصب مقول ﴿قالَ﴾ ﴿إِنِّي﴾: ﴿إن﴾ حرف نصب، والياء اسمها ﴿رَسُولٌ﴾: خبرها ﴿مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ﴾: صفة لـ ﴿رَسُولٌ﴾، وجملة ﴿إن﴾ جواب النداء في محل النصب مقول ﴿قالَ﴾.
﴿حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ (١٠٥)﴾.
﴿حَقِيقٌ﴾: خبر مبتدأ محذوف تقديره: أنا حقيق ﴿عَلى﴾: حرف جر ﴿أَنْ﴾: حرف نصب ﴿لا﴾ نافية. ﴿أَقُولَ﴾ فعل مضارع منصوب ﴿أَنْ﴾ المصدرية، وفاعله ضمير المتكلم يعود على موسى، ﴿عَلَى اللَّهِ﴾: جار ومجرور، متعلق بـ ﴿أَقُولَ﴾ ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ ﴿الْحَقَّ﴾: مفعول به لـ ﴿أَقُولَ﴾ لأنّه بمعنى: أذكر أو صفة لمصدر محذوف؛ أي: إلا القول الحق، وجملة ﴿أَنْ﴾ المصدرية في تأويل مصدر مجرور بـ ﴿عَلى﴾ تقديره: على عدم قولي إلا الحق، والجار والمجرور متعلق بـ ﴿حَقِيقٌ﴾ ولكن ﴿عَلى﴾ بمعنى الباء؛ أي: حقيق بعدم قولي إلا الحق، هذا على قراءة الجمهور، وقرأ نافع: ﴿حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ﴾
﴿مَعِيَ﴾: ظرف ومضاف إليه، متعلق بـ ﴿أرسل﴾، ﴿بَنِي إِسْرائِيلَ﴾: مفعول به ومضاف إليه.
﴿قالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ﴾.
﴿قالَ﴾: فعل ماض وفاعله ضمير يعود على ﴿فِرْعَوْنُ﴾، والجملة مستأنفة ﴿إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ﴾ إلى قوله: ﴿فَأَلْقى﴾ عَصاهُ مقول محكي لـ ﴿قالَ﴾، وإن شئت قلت: إِنْ ﴿:﴾ حرف شرط ﴿كُنْتَ﴾: فعل ناقص واسمه في محل الجزم بـ ﴿إِنْ﴾ الشرطية ﴿جِئْتَ﴾: فعل وفاعل، ﴿بِآيَةٍ﴾: متعلق به، والجملة الفعلية في محل النصب خبر كان ﴿فَأْتِ﴾ ﴿الفاء﴾: رابطة لجواب إن الشرطية ﴿ائت﴾ فعل أمر في محل الجزم بـ ﴿إِنْ﴾ الشرطية على كونه جوابا لها، مبني على حذف حرف العلة، وفاعله ضمير يعود على ﴿مُوسى﴾. ﴿بِها﴾ جار ومجرور، متعلق به، وجملة ﴿إِنْ﴾ الشرطية في محل النصب مقول ﴿قالَ﴾ إِنْ ﴿:﴾ حرف شرط ﴿كُنْتَ﴾: فعل ناقص واسمه في محل الجزم بـ ﴿إِنْ﴾ الشرطية على كونه فعل شرط لها، ﴿مِنَ الصَّادِقِينَ﴾: جار ومجرور خبر ﴿كان﴾ وجواب ﴿إِنْ﴾ معلوم مما قبلها تقديره: إن كنت من الصادقين.. فأت بها، وجملة ﴿إِنْ﴾ الشرطية في محل النصب مقول ﴿قالَ﴾.
﴿فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (١٠٧) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ (١٠٨)﴾.
﴿قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ (١٠٩) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَماذا تَأْمُرُونَ (١١٠)﴾.
﴿قالَ الْمَلَأُ﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة، ﴿مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه، حال من ﴿الْمَلَأُ﴾. ﴿إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ﴾ إلى قوله: ﴿قالُوا﴾ مقول محكي لـ ﴿قالَ﴾ وإن شئت قلت: ﴿إِنَّ﴾ هذا حرف نصب، واسم الإشارة اسمها ﴿لَساحِرٌ﴾: ﴿اللام﴾: حرف ابتداء ﴿ساحر﴾ خبر ﴿إِنَّ﴾. ﴿عَلِيمٌ﴾: صفة ﴿ساحر﴾، وجملة ﴿إِنَّ﴾ في محل النصب مقول ﴿قالَ﴾. ﴿يُرِيدُ﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على ﴿مُوسى﴾ أو على ﴿ساحر﴾، والجملة الفعلية في محل النصب، حال من الضمير المستكن في ﴿ساحر﴾، أو في محل الرفع صفة ثانية ﴿لَساحِرٌ﴾، ﴿أَنْ يُخْرِجَكُمْ﴾: ناصب وفعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على ﴿مُوسى﴾، والجملة في تأويل مصدر منصوب على المفعولية تقديره: يريد إخراجه إياكم ﴿مِنْ أَرْضِكُمْ﴾، متعلق بـ ﴿يُخْرِجَكُمْ﴾. ﴿فَماذا﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة داخلة على قول محذوف تقديره: فقال فرعون: ماذا تأمرون؟ ﴿ماذا﴾: اسم استفهام مركب في محل النصب مفعول ثان مقدم وجوبا للزومه صدر الكلام، ﴿تَأْمُرُونَ﴾: فعل وفاعل، والواو عائدة على ﴿الْمَلَأُ﴾، والمفعول الأول محذوف تقديره: فقال فرعون: أي شيء تأمرونني فيه؟ والجملة الفعلية في
﴿قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (١١١) يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ (١١٢)﴾.
﴿قالُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة استئنافيا بيانيا ﴿أَرْجِهْ وَأَخاهُ﴾ إلى قوله: ﴿وَجاءَ السَّحَرَةُ﴾ مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿أَرْجِهْ﴾: فعل أمر مبني بسكون على الهمزة المحذوفة للتخفيف؛ لأنه من أرجأ و ﴿الهاء﴾: ضمير للمفرد المذكر الغائب في محل النصب مفعول به، مبني على السكون تشبيها له بهاء السكت مع إجراء الوصل مجرى الوقف، وفاعله ضمير يعود على ﴿فِرْعَوْنَ﴾، والجملة في محل النصب مقول ﴿قالُوا﴾، ﴿وَأَخاهُ﴾: معطوف على ضمير المفعول ﴿وَأَرْسِلْ﴾: فعل أمر معطوف على ﴿أَرْجِهْ﴾، وفاعله ضمير يعود على ﴿فِرْعَوْنَ﴾، ﴿فِي الْمَدائِنِ﴾: متعلق به، ﴿حاشِرِينَ﴾: مفعول به لـ ﴿أَرْسِلْ﴾، ومفعول ﴿حاشِرِينَ﴾ محذوف تقديره: حاشرين السحرة ﴿يَأْتُوكَ﴾: فعل وفاعل ومفعول مجزوم بالطلب السابق ﴿بِكُلِّ ساحِرٍ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق به. ﴿عَلِيمٍ﴾: صفة ﴿ساحِرٍ﴾، والجملة الفعلية في محل النصب مقول ﴿قالُوا﴾.
﴿وَجاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قالُوا إِنَّ لَنا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (١١٣)﴾.
﴿وَجاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة مستأنفة ﴿قالُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة معطوفة بعاطف مقدر على جملة ﴿جاءَ﴾ تقديره: وجاء السحرة فرعون فقالوا: ﴿إِنَّ لَنا لَأَجْرًا﴾ إلى آخر الآية. مقول محكي لـ ﴿قالُوا﴾ وإن شئت قلت: ﴿إِنَّ﴾ حرف نصب ﴿لَنا﴾: خبر مقدم لـ ﴿إِنَّ﴾، ﴿لَأَجْرًا﴾: اسمها مؤخر ﴿واللام﴾: حرف ابتداء وجملة ﴿إِنَّ﴾: في محل النصب مقول ﴿قالُوا﴾، ﴿إِنَّ﴾: حرف شرط، ﴿كُنَّا﴾: فعل ناقص، واسمه في محل الجزم بإن على كونه فعل شرط لها، ﴿نَحْنُ﴾: ضمير فصل، أو مؤكد لاسم كان،
﴿قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (١١٤)﴾.
﴿قالَ﴾: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على ﴿فِرْعَوْنَ﴾ والجملة مستأنفة استئنافا بيانيا، ﴿نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ:﴾ مقول محكي لـ ﴿قالَ﴾، وإن شئت قلت: ﴿نَعَمْ﴾: حرف جواب وتصديق، قائم مقام الجملة الجوابية تقديرها: قال: إن لكم لأجرا، والجملة المحذوفة في محل النصب مقول ﴿قالَ﴾، ﴿وَإِنَّكُمْ﴾: الواو عاطفة ﴿إن﴾: حرف نصب ﴿والكاف﴾: اسمها ﴿لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ﴾ جار ومجرور خبر ﴿إن﴾ وجملة ﴿إن﴾ في محل النصب معطوفة على جملة ﴿إن﴾ المحذوفة، القائم مقامها حرف ﴿نَعَمْ﴾ على كونها مقولا لـ ﴿قالَ﴾.
﴿قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ﴾.
﴿قالُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة ﴿يا مُوسى﴾: إلى آخر الآية. مقول محكي لـ ﴿قالُوا﴾ وإن شئت قلت: ﴿يا مُوسى﴾ منادى مفرد العلم، وجملة النداء في محل النصب مقول ﴿قالُوا﴾. ﴿إِمَّا﴾: حرف تخيير ﴿أَنْ﴾: حرف نصب ومصدر، ﴿تُلْقِيَ﴾: فعل مضارع منصوب بـ ﴿أَنْ﴾ المصدرية، وفاعله ضمير يعود على موسى، وجملة ﴿أَنْ﴾ المصدرية في تأويل مصدر منصوب، على كونه مفعولا لفعل محذوف تقديره: اختر إما إلقاءك، والجملة المحذوفة في محل النصب مقول ﴿قالُوا﴾ على كونها جواب النداء، ﴿وَإِمَّا﴾: الواو عاطفة لـ ﴿إِمَّا﴾ على ﴿إِمَّا﴾، ﴿أَنْ نَكُونَ﴾: ناصب وفعل ناقص، واسمه ضمير مستتر يعود على السحرة ﴿نَحْنُ﴾: ضمير فصل، أو مؤكد لاسم ﴿نَكُونَ﴾، ﴿الْمُلْقِينَ﴾: خبر نكون، وجملة ﴿نَكُونَ﴾ في تأويل مصدر معطوف على مصدر منسبك من الجملة التي قبلها تقديره: إختر إما إلقاءك وإما إلقاءنا، ومفعول الإلقاء في الموضعين محذوف لعلمه تقديره: إختر إما إلقاءك حبالك وعصيك، وإما إلقاءنا حبالنا وعصينا.
﴿قالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ﴾.
﴿وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ (١١٧)﴾.
﴿وَأَوْحَيْنا﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة ﴿إِلى مُوسى﴾: جار ومجرور، متعلق به ﴿أَنْ﴾: مفسرة أو مصدرية ﴿أَلْقِ﴾: فعل أمر في محل النصب بـ ﴿أَنْ﴾ المصدرية مبني على حذف حرف العلة، وفاعله ضمير يعود على ﴿مُوسى﴾ ﴿عَصاكَ﴾: مفعول به، ومضاف إليه، وجملة ﴿أَنْ﴾ المصدرية في تأويل مصدر منصوب على المفعولية تقديره: وأوحينا إلى موسى إلقاءه عصاه ﴿فَإِذا هِيَ﴾ ﴿الفاء﴾: عاطفة على محذوف تقديره: فألقاها فإذا هي ﴿إذا﴾: فجائية حرف لا محل لها من الإعراب، ﴿هِيَ﴾: مبتدأ، ﴿تَلْقَفُ﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على العصا، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية معطوفة على الجملة المحذوفة، ﴿مَا﴾: موصولة في محل النصب مفعول ﴿تَلْقَفُ﴾، أو مصدرية، وجملة ﴿يَأْفِكُونَ﴾ صلة الموصول، والعائد محذوف تقديره: ما يأفكونه، أو الجملة صلة ما المصدرية، والتقدير: تلقف إفكهم؛ أي: مأفوكهم من الحبال والعصي.
﴿فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١١٨) فَغُلِبُوا هُنالِكَ وَانْقَلَبُوا صاغِرِينَ (١١٩)﴾.
﴿وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (١٢٠) قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (١٢١) رَبِّ مُوسى وَهارُونَ (١٢٢)﴾.
﴿وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ﴾: فعل ونائب فاعل، معطوف على ﴿غلبوا﴾ ﴿ساجِدِينَ﴾: حال من ﴿السَّحَرَةُ﴾. ﴿قالُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة الفعلية حال ثانية من ﴿السَّحَرَةُ﴾ والتقدير: وألقي السحرة حالة كونهم ساجدين قائلين: آمنا برب العالمين. ﴿آمَنَّا﴾: فعل وفاعل، ﴿بِرَبِّ الْعالَمِينَ﴾ متعلق به، والجملة في محل النصب مقول ﴿قالُوا﴾. ﴿رَبِّ مُوسى﴾: بدل من ﴿بِرَبِّ الْعالَمِينَ﴾، ﴿وَهارُونَ﴾:
معطوف على ﴿مُوسى﴾.
﴿قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (١٢٣)﴾.
﴿قالَ فِرْعَوْنُ﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. ﴿آمَنْتُمْ بِهِ﴾ إلى قوله: ﴿قالُوا﴾ مقول محكي، وإنّ شئت قلت: ﴿آمَنْتُمْ﴾: فعل وفاعل، ﴿بِهِ﴾: جار ومجرور، متعلق به، والجملة في محل النصب مقول القول، ﴿قَبْلَ﴾: منصوب
﴿لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (١٢٤) قالُوا إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (١٢٥)﴾.
﴿لَأُقَطِّعَنَّ﴾ ﴿اللام﴾: موطئة للقسم ﴿أقطعن﴾: فعل مضارع في محل الرفع لتجرده عن الناصب والجازم، مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، وفاعله ضمير المتكلم المستتر يعود على ﴿فِرْعَوْنُ﴾، ﴿أَيْدِيَكُمْ﴾: مفعول به ومضاف إليه، ﴿وَأَرْجُلَكُمْ﴾: معطوف عليه ﴿مِنْ خِلافٍ﴾: جار ومجرور، حال من الأيدي والأرجل؛ أي: حالة كونها مختلفة في القطع، والجملة الفعلية جواب لقسم محذوف، وجملة القسم مع جوابه في محل النصب مقول ﴿قالَ﴾، ﴿ثُمَّ﴾: حرف عطف وتراخ، ﴿لَأُصَلِّبَنَّكُمْ﴾: ﴿اللام﴾: موطئة للقسم، ﴿أصلبنكم﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على ﴿فِرْعَوْنُ﴾، ﴿أَجْمَعِينَ﴾: تأكيد لضمير المخاطبين، والجملة الفعلية جواب القسم، وجملة القسم في محل النصب
﴿وَما تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْرًا وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ (١٢٦)﴾.
﴿وَما﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة، ﴿ما﴾: نافية، ﴿تَنْقِمُ﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على ﴿فِرْعَوْنُ مِنَّا﴾: جار ومجرور، متعلق به، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة ﴿إِنَّا إِلى رَبِّنا﴾، ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ، ﴿أَنْ﴾: حرف نصب ومصدر، ﴿آمَنَّا﴾: فعل ماض، وفاعله في محل النصب بـ ﴿أَنْ﴾ المصدرية، ﴿بِآياتِ رَبِّنا﴾: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ ﴿آمَنَّا﴾، والجملة الفعلية صلة ﴿أَنْ﴾ المصدرية، ﴿أَنْ﴾ مع صلتها في تأويل مصدر منصوب على الاستثناء تقديره: إلا إيماننا بآيات ربنا، ﴿لَمَّا﴾: حينية في محل النصب على الظرفية، ﴿جاءَتْنا﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الآيات، والجملة الفعلية في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿لَمَّا﴾ تقديره: حين مجيئها إيانا، والظرف متعلق بـ ﴿آمَنَّا﴾، ﴿رَبِّنا﴾: منادى مضاف، وجملة النداء في محل النصب مقول ﴿قالُوا﴾، ﴿أَفْرِغْ﴾: فعل دعاء سلوكا مسلك الأدب مع الباري سبحانه، وفاعله ضمير يعود على الله، ﴿عَلَيْنا﴾: متعلق به، ﴿صَبْرًا﴾: مفعول به، والجملة الفعلية في محل النصب مقول ﴿قالُوا﴾ على كونها جواب النداء ﴿وَتَوَفَّنا﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الله، ﴿مُسْلِمِينَ﴾: حال من ضمير المتكلمين، والجملة الفعلية معطوفة على جملة ﴿أَفْرِغْ﴾ على كونها جواب النداء.
التصريف ومفردات اللغة
﴿ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ﴾. ﴿مُوسى﴾ (١) موسى ابن عمران
والمدّ زيد ثالثا في الواحد | همزا يرى في مثل كالقلائد |
﴿تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ﴾ (١) قرأ العامة: ﴿تَلْقَفُ﴾ بتشديد القاف من ﴿تَلْقَفُ﴾ والأصل تتلقف بتائين، فحذفت إحداهما، إما الأولى وإما الثانية، وقد تقدم ذلك في نحو ﴿تذكرون﴾ والبزي: على أصله وإدغامها فيما بعدها، فيقرأ: ﴿فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ﴾ بتشديد التاء أيضا، وقرأ حفص ﴿تَلْقَفُ﴾ بتخفيف القاف من لقف، كعلم يعلم، وركب يركب، يقال: لقفت الشيء ألقفه لقفا، وتلقفته أتلقفه تلقفا إذا أخذته بسرعة فأكلته أو ابتلعته، ويقال: لقف ولقم بمعنى واحد، قاله أبو عبيد اه «سمين»، وفي «المختار»: لقف من باب فهم، وتلقفته؛ أي: تناولته بسرعة اه.
﴿ما يَأْفِكُونَ﴾ أصل الإفك قلب الشيء عن وجهه، ومنه قيل للكذاب أفّاك؛ لأنّه يقلب الكلام عن وجهه الصحيح إلى الباطل. اه «خازن». وفي «المصباح» أفك يأفك من باب ضرب، إفكا بالكسر فهو أفوك وأفاك، وأفكته صرفته، وكل أمر صرف عن وجهه فقد أفك. اه وفي «المراغي»: المأفوك (٢) المصروف عن وجهه الذي يحق أن يكون عليه، ومن ثم يقال للرياح التي عدلت عن مهابها: مؤتفكة، كما قال تعالى: ﴿وَجاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكاتُ بِالْخاطِئَةِ (٩)﴾ وقال: ﴿قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾؛ أي: يصرفون عن الحق في الاعتقاد إلى الباطل، وعن الصدق في المقال إلى الكذب، وعن الجميل في الفعل إلى القبيح، فالإفك بالقول كالكذب، وقد يكون بالفعل، كعمل سحرة فرعون.
﴿فَغُلِبُوا هُنالِكَ﴾. ﴿هُنالِكَ﴾: يجوز أن يكون مكانا؛ أي: غلبوا في المكان الذي وقع فيه سحرهم، وهذا هو الظاهر، وقيل: يجوز أن يكون زمانا، وهذا ليس أصله، وقد أثبت له بعضهم هذا المعنى في قوله تعالى: ﴿هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ﴾ وفي قول الشاعر:
(٢) المراغي.
ولا حجة فيهما؛ لأن المكان فيهما واضح. اه «سمين» ﴿وَانْقَلَبُوا﴾؛ أي: عادوا ﴿صاغِرِينَ﴾؛ أي: أذلة بما رزئوا به من الخذلان والخيبة ﴿وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (١٢٠)﴾؛ أي: خروا - سجدا؛ لأنّ الحق بهرهم، واضطرهم إلى السجود.
﴿قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ﴾؛ أي: قال (١) ما ذكر منكرا على السحرة، موبخا لهم على ما فعلوه، فالاستفهام فيه للإنكار والتوبيخ، وأصل هذا الفعل آمن بوزن آدم، وأصله أأمن بهمزتين، فقلبت الثانية ألفا وجوبا على القاعدة، والثانية هي فاء الكلمة، والأولى زائدة، فهو بوزن أفعل، كأكرم ثمّ إنّه دخلت عليه همزة الاستفهام، فاجتمع همزتان صريحتان، وبعدهما ألف منقلبة عن همزة في الأصل ﴿قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ﴾ أصله (٢) أأذن وهو فعل مضارع منصوب بأن المصدرية، والهمزة الأولى همزة المتكلم التي تدخل على المضارع، والثانية قلبت ألفا لوقوعها ساكنة بعد همزة أخرى، وأصله أأذن على وزن أعلم. المكر: صرف الإنسان عن مقصده بحيلة، وهو نوعان، محمود: يراد به الخير، ومذموم: يراد به الشر ﴿لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ﴾ وتقطيع الأيدي والأرجل من خلاف أن تقطع اليد اليمنى والرجل اليسرى، والعكس بالعكس ﴿ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ﴾ والصلب: الشد على خشبة ونحوها، وشاع في تعليق الشخص بنحو حبل في عنقه ليموت، وهو المتعارف اليوم.
﴿وَما تَنْقِمُ مِنَّا﴾ عبارة «الخازن» يعني: وما تكره منا وما تطعن علينا. وقال عطاء: معناه وما لنا عندك ذنب تعذبنا عليه. انتهت. وفي «المصباح» نقمت عليه أمره ونقمت منه نقما، من باب ضرب، ونقوما، ونقمته أنقمه من باب تعب لغة إذا عبته وكرهته أشد الكراهة لسوء فعله، وفي «التنزيل»: ﴿وَما تَنْقِمُ مِنَّا﴾ على اللغة الأولى؛ أي: وما تطعن فينا وتقدح، وقيل: ليس لنا عندك ذنب، ولا ركبنا
(٢) الفتوحات.
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات أنواعا من البلاغة والفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: الإبهام في قوله: ﴿بِآياتِنا﴾ إفادة للتفخيم والتعظيم.
ومنها: التضمين في قوله: ﴿فَظَلَمُوا بِها﴾ وهو إشراب كلمة معنى كلمة أخرى؛ لأنّه ضمن (ظلموا) بمعنى ﴿كفروا﴾ فعداه بالباء.
ومنها: الاستفهام التعجبي في قوله: ﴿فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ﴾.
ومنها: التضمين أيضا في قوله: ﴿حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ﴾.
على قراءة العامة؛ لأنّه ضمن ﴿حَقِيقٌ﴾ بمعنى (حريص) فعداه بعلى.
ومنها: المقابلة في قوله: ﴿إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ﴾، فإنّه في مقابلة قوله: ﴿قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ﴾.
ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: ﴿فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ﴾؛ لأنّه بمعنى خل أمرهم، واترك سبيلهم حتى يذهبوا معي إلى الأرض المقدسة، وفي قوله: ﴿وَنَزَعَ يَدَهُ﴾؛ لأنّه استعار النزع - الذي هو بمعنى أخذ الشيء بسرعة - للإخراج؛ لأنّه بمعنى: أخرج يده من جيبه، أو من كمه.
ومنها: جمع المؤكدات في قوله: ﴿إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ﴾ للمبالغة، أكده بإن وبإسمية الجملة، وباللام، وفي قوله: ﴿نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ﴾ أكد الجملة بإن، وباللام لإزالة الشك من نفوس السحرة، ويسمى هذا النوع من أنواع الخبر إنكاريا.
ومنها: التنكير إفادة للتعظيم في قوله: ﴿إِنَّ لَنا لَأَجْرًا﴾ قال الزمخشري:
ومنها: الإبهام في قوله: ﴿فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾؛ أي: ما يحل بكم، ثم البيان بقوله: ﴿لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ﴾ جاء به في جملة قسمية تأكيدا لما يفعله.
ومنها: الجناس المغاير بين ﴿تُلْقِيَ﴾ و ﴿الْمُلْقِينَ﴾ في قوله: ﴿يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ﴾. وتغيير النظم في الجملة الثانية - بتعريف الخبر وتوسيط ضمير الفصل، وتأكيد الضمير المتصل بالمنفصل - يدل على رغبتهم في التقدم وعدم مبالاتهم بموسى؛ لأن مثل هذا الكلام لا يصدر إلا ممن له قوة وملكة في الأمر الذي يدعيه، فيخير من يقابله في الابتداء في العمل أو التأخر، فكأنّه يقول: لا أبالي بفعلك سواء تقدم أو تأخر.
ومنها: الجناس المماثل في قوله: ﴿قالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا﴾.
ومنها: الاستعارة التصريحية في قوله: ﴿فَوَقَعَ الْحَقُّ﴾ لأنّه استعار الوقوع للثبوت والحصول، وفي قوله: ﴿أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْرًا﴾؛ لأنّ الإفراغ حقيقة في الماء.
ومنها: تأكيد المدح بما يشبه الذم في قوله: ﴿وَما تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا﴾ مثل قوله:
ولا عيب فيهم غير أنّ سيوفهم | بهنّ فلول من قراع الكتائب |
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
﴿وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قالَ سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ (١٢٧) قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (١٢٨) قالُوا أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا قالَ عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (١٢٩) وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (١٣٠) فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (١٣١) وَقالُوا مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (١٣٢) فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (١٣٣) وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قالُوا يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ (١٣٤) فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ (١٣٥) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ (١٣٦) وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا وَدَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَما كانُوا يَعْرِشُونَ (١٣٧) وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهًا كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (١٣٨) إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٣٩) قالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (١٤٠) وَإِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (١٤١)﴾.
المناسبة
قوله تعالى: ﴿وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنّ الله سبحانه وتعالى (١) يخبر عما تمالأ عليه
قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ...﴾ مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما حكى وعد موسى لقومه بقوله: ﴿عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ...﴾.. ذكر هنا مبادىء الهلاك الموعود به بما أنزله على فرعون وقومه من المحن، حالا بعد حال، إلى أن حل بهم عذاب الاستئصال تنبيها للسامعين، وزجرا لهم عن الكفر وتكذيب الرسل، حذر أن ينزل بهم من الشر مثل ما نزل بهؤلاء.
قوله تعالى: ﴿وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قالُوا يا مُوسَى...﴾ الآيات (١)، مناسبتها لما قبلها: لما ذكر الله سبحانه وتعالى الآيات الخمس التي سبق ذكرها.. بين هنا ما كان من أثرها في نفوس المصريين جميعا، وطلبهم من موسى أن يرفع الله عنهم العذاب، فإذا هو فعل.. آمنوا به، ثم تبين نكثهم وخلفهم للوعد كل مرة حدث فيها الطلب، حتى حل بهم عذاب الاستئصال بالغرق في البحر.
قوله تعالى: ﴿وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا...﴾ مناسبتها لما قبلها: أنّه سبحانه وتعالى لما بين ما حل بالمصريين من الغرق عقوبة لهم على تكذيبهم بموسى، بعد وجود الآية تلو الآية الدالة على صدقه.. ذكر هنا ما فعله ببني إسرائيل من الخيرات، إذ أصبحوا أعزة بعد أن كانوا أذلة، وملكوا الأرض المقدسة التي بارك الله فيها، وهي بلاد الشام.
قوله تعالى: ﴿وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ...﴾ الآيات، مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما بين أنواع نعمه على بني إسرائيل، بأن أهلك عدوهم، وأورثهم أرضهم وديارهم.. أتبع ذلك بالنعمة الكبرى عليهم، وهي أنّه جاوز بهم البحر آمنين، ثم ارتدوا وطلبوا من موسى أن يعمل لهم آلهة وأصناما. وفي هذا تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلّم عما رآه من اليهود بالمدينة، فإنّهم جروا معه على دأب
التفسير وأوجه القراءة
١٢٧ - ﴿وَقالَ الْمَلَأُ﴾ والأشراف ﴿مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ﴾ لفرعون لما خلى سبيل موسى: ﴿أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ﴾؛ أي: أتترك موسى وقومه بني إسرائيل أحرارا آمنين؟ والاستفهام للإنكار التعجبي؛ أي: لا تذرهم ﴿لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ﴾؛ أي: في أرض مصر؛ أي: لتكون عاقبتهم أن يفسدوا عليك قومك القبطيين بإدخالهم في دينهم، أو بجعلهم تحت سلطانهم ورياستهم. ﴿وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ﴾؛ أي: ويترك عبادتك وعبادة آلهتك، فلا يعبدوك ولا يعبدوها، فيظهر لأهل مصر عجزك وعجزها، ولا يغيبن عنك إيمان السحرة، فقد يكون مقدمة لما بعده.
والتاريخ (١) المصري المستمد من العادات المصرية يدل على أنه كان للمصريين آلهة كثيرة، منها: الشمس ويسمونها: رع، وفرعون عندهم سليل الشمس وابنها.
قال ابن عباس رضي الله عنهما (٢): كانت لفرعون بقرة كان يعبدها، وكان إذا رأى بقرة حسنة أمرهم بعبادتها، ولذلك أخرج لهم السامري عجلا، وقال السدي: كان فرعون قد اتخذ لقومه أصناما، وكان يأمرهم بعبادتها، وقال لهم: أنا ربكم ورب هذه الأصنام، وذلك قوله: ﴿أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى﴾، والأولى أن يقال: إن فرعون كان دهريا منكرا لوجود الصانع، فكان يقول: مدبر هذا العالم السفلي هي الكواكب، فاتخذ أصناما على صورة الكواكب، وكان يعبدها ويأمر بعبادتها، وكان يقول في نفسه،: إنه هو المطاع والمخدوم في الأرض، فلهذا قال: أنا ربكم الأعلى. اه من «الخازن».
(٢) الخازن.
وقرأ أبي وعبد الله (٢): ﴿ليفسدوا في الأرض وقد تركوك أن يعبدوك وآلهتك﴾ وقرأ الأعمش: ﴿وقد تركك وآلهتك﴾ وقرأ الجمهور: ﴿وَآلِهَتَكَ﴾ بفتح الهمزة على صيغة الجمع. والظاهر: أن فرعون كان له آلهة يعبدها كما مر عن ابن عباس، وقيل: إن الإضافة لأدنى ملابسة باعتبار أنّه صنعها وأمرهم بعبادتها، لتقربهم إليه. وقرأ ابن مسعود وعلي وابن عباس وأنس رضي الله عنهم، والشعبي والضحاك: ﴿وإلهتك﴾: بكسر الهمزة، وفسروا ذلك بأمرين:
أحدهما: أن المعنى: ويذكر وعبادتك فلا يعبدك؛ لأن فرعون كان يعبد ولا يعبد، فيكون حينئذ مصدرا بمعنى العبادة.
والثاني: أن المعنى: ويذرك ومعبودك، والمراد بالآلهة الشمس التي كان يعبدها، والشمس تسمى إلهة، علما عليها ممنوعة من الصرف للعلمية والتأنيث، ونقل ابن الأنباري عن ابن عباس أنّه كان ينكر قراءة الجمهور ويقرأ: ﴿وإلهتك﴾ ويقول إن فرعون يعبد ولا يعبد. اه «سمين».
واعلم (٣): أن فرعون بعد واقعة السحر كان كلما رأى موسى خافه أشد
(٢) البحر المحيط.
(٣) المراح.
وقال ابن عباس (١): كان فرعون قد ترك القتل في بني إسرائيل بعد ما ولد موسى، فلما جاءه موسى بالرسالة - وكان من أمره ما كان - أعاد فيهم القتل، وقيل: لم يعد فيهم القتل بل وعده وهدده إياهم، وقرأ نافع وابن كثير ﴿سَنُقَتِّلُ﴾ بالتخفيف مع فتح النون وسكون القاف، وقرأ الباقون بالتشديد مع ضم النون ﴿وَإِنَّا فَوْقَهُمْ﴾؛ أي: فوق بني إسرائيل في المنزلة والتمكن في الدنيا؛ أي: مستعلون عليهم بالغلبة والسلطان ﴿قاهِرُونَ﴾ لهم وغالبون عليهم، كما كنا من قبل فلا يقدرون على إذايتنا، ولا على الإفساد في أرضنا، ولا على الخروج من عبوديتنا، وإنما تركنا موسى وقومه بلا حبس لعدم التفاتنا إليهم، وعدم مبالاتنا لهم، لا لعجز ولا لخوف.
واختلف المفسرون (٢): هل أعاد عليهم القتل أم لا؟ فمنهم من قال: أعاد عليهم القتل، ومنهم من قال: لم يفعل ذلك لعدم قدرته لقوله تعالى: ﴿أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ﴾.
١٢٨ - ولكن لما سمع بنو إسرائيل هذا الوعيد.. خافوا من فرعون، فشكوا ذلك إلى موسى، فطمأنهم موسى كما حكى الله عنه بقوله: ﴿قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ﴾: بني إسرائيل يا قوم ﴿اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ﴾؛ أي: اطلبوا معونة الله وتأييده على رفع ذلك الوعيد عنكم، ورفع أذاهم عنكم؛ فإن الله هو الكافي لكم ﴿وَاصْبِرُوا﴾ على أذاهم، أو على ما سمعتم من أقاويله الباطلة، ولا تحزنوا ﴿إِنَّ الْأَرْضَ﴾؛ أي: أرض مصر وكذا سائر أقطار الأرض، شرقها وغربها ﴿لِلَّهِ﴾ سبحانه وتعالى
(٢) المراح.
وقرأ الحسن، ورويت عن حفص (١): ﴿يورثها﴾: بضم الياء وفتح الواو وتشديد الراء المكسورة للتكثير، وقرأت فرقة: ﴿يورثها﴾: بفتح الراء، مبينا للمفعول. وقرأ ابن مسعود: ﴿الْعاقِبَةُ﴾: بالنصب عطفا على الأرض، فالاسم معطوف على الاسم، والخبر على الخبر فهو من عطف المفردات، فنتيجة طلب الإعانة توريث الأرض لهم، ونتيجة الصبر العاقبة المحمودة، والنصر على من عاداهم، فلذلك كان الأمر شيئين ينتج عنهما شيئان:
قال الزمخشري (٢): فإن قلت: لم أخليت هذه الجملة - أعني قوله: ﴿قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ﴾ - من الواو، وأدخلت على التي قبلها - أعني قوله: ﴿وَقالَ الْمَلَأُ﴾؟
قلت: هذه جملة مستأنفة، والتي قبلها معطوفة على ما سبقها من قوله: ﴿قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ﴾. انتهى.
والخلاصة: ليس الأمر كما قال فرعون، بل القهر والغلبة لمن صبر واستعان بالله، ولمن وعده الله تعالى توريث الأرض، ونحن الموعودون بذلك، ولكن بشرط أن نقيم شرعه ونسير على سننه في الخلق، وليس الأمر كما يظن فرعون وقومه من بقاء القوي على قوته، والضعيف على ضعفه، اعتمادا على أنّ
(٢) الكشاف.
١٢٩ - ﴿وقالُوا﴾؛ أي: قال بنو إسرائيل لموسى استكشافا لكيفية وعد موسى إياهم بزوال تلك المضار، هل في الحال، أو لا، لا كراهة لمجيء موسى بالرسالة، وشكا في وعده ﴿أُوذِينا﴾ يا موسى من جهة فرعون وقومه، بقتل أبنائنا، واستخدام نسائنا ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا﴾ بالرسالة ﴿وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا﴾ رسولا بإعادة ذلك علينا، وذلك (١) أن بني إسرائيل كانوا مستضعفين في يد فرعون وقومه، وكان يستعملهم في الأعمال الشاقة نصف النهار، فلما جاء موسى - وجرى بينه وبين فرعون ما جرى - شدد فرعون في استعمالهم، فكان يستعملهم جميع النهار، وأعاد القتل فيهم، ولما ذكروا ذلك لموسى.. أجابهم بما حكاه الله سبحانه وتعالى عنه: ﴿قالَ﴾ موسى لقومه مسليا لهم، حين رأى شدة جزعهم بما شاهدوه من فعل فرعون ﴿عَسى رَبُّكُمْ﴾؛ أي حقق ربكم ﴿أَنْ يُهْلِكَ﴾ ويستأصل ﴿عَدُوَّكُمْ﴾ فرعون وقومه ﴿وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ﴾؛ أي: يجعلكم خلفاء في أرض مصر بعد هلاك أهلها، أو المعنى: قال (٢) موسى لهم: إن رجائي من فضل الله أن يهلك عدوكم الذي ظلمكم، ويجعلكم خلفاء في الأرض.
﴿فَيَنْظُرَ﴾ سبحانه وتعالى ويرى ﴿كَيْفَ تَعْمَلُونَ﴾ بعد استخلافه إياكم فيها، أتشكرون النعمة أم تكفرون، وتصلحون في الأرض أم تفسدون، ويكون جزاؤكم في الدنيا والآخرة وفق ما تعملون، وعبر بالرجاء - دون أن يجزم بذلك - لئلا يتركوا ما يجب من العمل، ويتكلوا على ذلك، أو لئلا يكذبوه؛ لأنّ أنفسهم قد ضعفت بما طال عليها من الذل والاستخدام لفرعون وقومه، واستعظامهم لقومه وملكه، وقال التبريزي: يحتمل أن يكون قد أوحي بذلك إلى موسى، فعسى: للتحقيق، أو لم يوح، فيكون على الترجي منه، وهذا تصريح (٣) بما رمز إليه أولا. من أن الأرض لله، وقد حقق الله تعالى رجاءه وملكوا مصر في زمان
(٢) المراغي.
(٣) الشوكاني.
١٣٠ - ثم شرع في تفصيل مبادىء هلاكهم فقال: ﴿وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ﴾؛ أي: وعزتي وجلالي لقد ابتلينا آل فرعون وقومه، في المدة التي كان موسى أقام بينهم يدعوهم إلى الله تعالى، والأخذ (١) - التناول باليد - ومعناه: هنا الابتلاء ومعنى ﴿بِالسِّنِينَ﴾ بالقحوط والجدوب، والسنة تطلق على الحول، وتطلق على الجدب ضد الخصب. ﴿وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ﴾ وذهابها بالعاهات؛ أي: ابتليناهم بالجدب وضيق المعيشة. ﴿لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ﴾؛ أي: لكي يتذكروا ضعفهم أمام قدرة الله، وعجز ملكهم العالي الجبار، وعجز آلهتهم، ويرجعوا عن ظلمهم لبني إسرائيل، ويجيبوا دعوة موسى عليه السلام، إذ قد دلت التجارب على أن الشدائد ترقق القلوب، وتهذب الطباع، وتوجه النفوس إلى مناجاة الرب سبحانه، والعمل على مرضاته والتضرع له، دون غيره من المعبودات متى اتخذوها وسائل إليه وشفعاء عنده.
فإن لم تجد المصائب في تذكر المولى، وبلغ الأمر بالناس أن يشركوا به، حتى في أوقات الشدائد، فهم في خسران مبين، وضلال بعيد، وكذلك كان دأب آل فرعون، بعد أن أنذرهم موسى عليه السلام.
قال ابن عباس وقتادة (٢): أما السنون فكانت لباديتهم ومواشيهم، وأما نقص الثمرات فكان في أمصارهم، وهذه سيرة الله في الأمم، يبتليها بالنقم ليزدجروا ويتذكروا بذلك ما كانوا فيه من النعم، فإن الشدة تجلب الإنابة والخشية ورقة القلب، والرجوع إلى طلب لطف الله وإحسانه، وكذا فعل بقريش حين دعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «اللهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف» وروي أنه يبس لهم كل شيء، حتى نيل مصر، ونقصوا من الثمرات، حتى كانت النخلة تحمل التمرة الواحدة.
١٣١ - ثم بين أن المصائب لم تفدهم ذكرى، بل زادتهم عتوا فقال: ﴿فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ﴾؛ أي: فإذا جاءهم الخصب، والثمار، والمواشي، والسعة في الرزق
(٢) البحر المحيط.
وهذه المعاملة يعامل بها الآن الأجنبي في الوطن أو في الدين، كما نراه الآن في بعض الدول العصرية، فإنا لله وإنّا إليه راجعون.
قال الزمخشري (١): فإن قلت: كيف قيل: ﴿فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ﴾ بـ ﴿إذا﴾ وتعريف الحسنة، ﴿وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ﴾ بـ ﴿إِنْ﴾ وتنكير السيئة؟
قلت: لأنّ جنس الحسنة وقوعه، كالواجب لكثرته واتساعه، وأما السيئة: فلا تقع إلا في الندرة، ولا يقع إلا يسير منها، ومنه قول بعضهم:
وقد عدّدت أيّام البلاء | فهل عددت أيّام الرّخاء |
وقرأ عيسى بن عمر وطلحة بن مصرف: ﴿تطيروا﴾ بالتاء وتخفيف الطاء، فعلا ماضيا ﴿أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ﴾؛ أي: حظهم ﴿عِنْدَ اللَّهِ﴾؛ أي: سبب خيرهم وشرهم في جميع ما ينالهم من خصب وقحط، هو من عند الله تعالى، ليس بسبب موسى ومن معه؛ أي: إن كل ما يصيبهم من خير أو شر فهو بقضاء الله وتقديره، وهو الذي وضع لنظام الكون سننا تكون فيه المسببات وفق أسبابها، وبمقتضى هذه السنن والأقدار ينزل عليها البلاء، ويكون إمتحانا واختبارا لهم، ليتوبوا ويرجعوا عن ظلمهم وبغيهم على بني إسرائيل، وعن طغيانهم وإسرافهم في
١٣٢ - وبعد أن ذكر أن هذه الحسنات والسيئات لم تردعهم عماهم فيه من الطغيان.. ذكر أنّه أصابهم بضروب أخرى من العذاب، وهي في أنفسها آيات بينات وهم مع ذلك لم يرعووا عن كفرهم وعنادهم ﴿وَقالُوا﴾؛ أي: آل فرعون وهم القبطيون لموسى عليه السلام ﴿مَهْما تَأْتِنا بِهِ﴾؛ أي: أي شيء تأتنا به وتظهره لدينا ﴿مِنْ آيَةٍ﴾؛ أي: من علامة من عند ربك ﴿لِتَسْحَرَنا﴾؛ أي: لتصرفنا عما نحن عليه من الدين بِها؛ أي: بتلك الآية ﴿فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ﴾؛ أي: بمصدقين لك في الرسالة بسبب تلك الآية.
أي: إنّك إن جئتنا بكل نوع من أنواع الآيات، التي يستدل بها على أنّك محق في دعوتك، لأجل أن تسحرنا بها، وتصرفنا بها بدقة ولطف عما نحن فيه من ديننا، ومن تسخيرنا لقومك في خدمتنا، فما نحن بمصدقين لك، ولا بمتبعين رسالتك، والضميران في ﴿بِهِ﴾ و ﴿بِها﴾ راجعان لـ ﴿مَهْما﴾ الأول مراعاة للفظها، والثاني مراعاة لمعناها.
وهذا شروع في بيان ضرب آخر مما أخذوا به من فنون العذاب، التي هي أنفسها آيات بينات، وعدم رجوعهم مع ذلك عما كانوا عليه من العناد؛ أي: قالوا بعد ما رأوا ما رأوا من شأن العصا والسنين، ونقص الثمار: ﴿مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ...﴾ الخ. وكان موسى رجلا حديدا حارا، فعند ذلك دعا عليهم وقال: يا رب إنّ عبدك فرعون علا في الأرض وبغى وعتا، وإنّ قومه قد نقضوا العهد، رب فخذهم بعقوبة تجعلها عليهم نقمة، ولقومي عظة، ولمن بعدهم آية،
١٣٣ - ﴿فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ﴾؛ أي: أرسلنا على آل فرعون عقوبة على جرائمهم، وقد عدد سبحانه هنا من الآيات والعقوبات خمسا، وفي سورة الإسراء تسعا، الأول: منها ما ذكره بقوله: ﴿الطُّوفانَ﴾؛ أي: أنزلنا عليهم مطرا أغرق أرضهم، وأتلف زرعهم وثمارهم، وبيوت بني إسرائيل وبيوت القبط متشبكة مختلطة، فامتلأت بيوت القبط حتى قاموا في الماء إلى تراقيهم، ومن جلس منهم غرق، ولم يدخل من ذلك الماء في بيوت بني إسرائيل شيء، وركب ذلك الماء على أرضهم، فلم يقدروا أن يحرثوا ولا يعملوا شيئا، ودام ذلك عليهم سبعة أيام، من السبت إلى السبت، حتى كان الرجل منهم لا يرى شمسا ولا قمرا، ولا يستطيع الخروج من داره، فصرخوا إلى فرعون فاستغاثوا به، فأرسل إلى موسى عليه السلام فقال: اكشف عنا العذاب فقد صارت مصر بحرا واحدا؛ فإن كشفت هذا العذاب عنا.. آمنا بك، فأزال الله تعالى عنهم المطر، وأرسل الريح، فجفت الأرض، وخرج من النبات ما لم ير مثله قط، فقالوا: هذا الذي جزعنا منه خير لنا، لكنا لم نشعر، فلا والله لا نؤمن بك ولا نرسل معك بني إسرائيل، فنكثوا العهد ولم يؤمنوا، فأقاموا شهرا في عافية ﴿وَ﴾ أرسل الله عليهم ﴿الْجَرادَ﴾ فأكل زروعهم وثمارهم، وأبوابهم وسقوفهم وثيابهم، وابتلي الجراد بالجوع، فكانت لا تشبع، ولم يصب بني إسرائيل شيء من ذلك، وعظم الأمر عليهم، حتى صارت عند طيرانها تغطي الشمس، ووقع بعضها على بعض في الأرض ذراعا، فضجوا في ذلك إلى موسى وقالوا: يا موسى أدع لنا ربك لئن كشفت عنا الرجز.. لنؤمنن لك، فأعطوه عهد الله وميثاقه، فدعا موسى عليه السلام، فكشف الله تعالى عنهم الجراد بعد ما أقام عليهم سبعة أيام، من السبت إلى السبت، فأرسل الله تعالى ريحا فألقته في البحر، وكان قد بقي من زرعهم وغلاتهم بقية، فنظروا إلى ما بقي منها فقالوا: هذا الذي بقي يكفينا، ولا نؤمن بك ﴿وَ﴾ أقاموا شهرا في عافية، فأرسل الله عليم ﴿الْقُمَّلَ﴾ واختلفوا في معنى القمل، والصحيح أنّه هو القمل المعروف الذي يكون في بدن الإنسان وثيابه، ويؤيد هذا المعنى قراءة الحسن: ﴿وَالْقُمَّلَ﴾ - بفتح القاف وسكون الميم - فيكون فيه لغتان. القمل - بصم القاف وتشديد الميم المفتوحة - كقراءة الجمهور، والقمل
والذي دلت عليه الآية (١): أنّه أرسل عليهم ما ذكر فيها، وأما كيفية الإرسال ومكث ما أرسل عليهم من الأزمان والهيئات، فمرجعه إلى النقل عن الأخبار الإسرائيليات، إذ لم يثبت من ذلك في الحديث النبوي شيء.
١٣٤ - فقوله ﴿وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ....﴾ الخ، موزع (٢) على الخمسة المذكورة، وهي الطوفان وما بعده، إذ كانوا في كل واحدة من الخمس المذكورة يلتجؤون إلى موسى ويطلبون منه الدعاء، ويسألونه أن يطلب لهم من ربه كشف ما نزل بهم، ويواعدونه بالإيمان به وإرسال بني إسرائيل معه، ويدعو الله فيكشف عنهم،
(٢) الفتوحات.
١٣٥ - ﴿فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ﴾؛ أي: فكلما كشفنا ورفعنا عنهم الرجز والعذاب، مرة بعد أخرى من المرات الخمسة السابقة ﴿إِلى أَجَلٍ﴾ ومدة من الزمن ﴿هُمْ بالِغُوهُ﴾ ومنتهون إليه لا بد، وهو وقت إهلاكهم بالغرق في اليم ﴿إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ﴾ وينقضون عهدهم ويحنثون في قسمهم في كل مرة؛ أي: فكلما رفعنا عنهم العذاب فاجؤوا نكث العهد من غير تأمل وتوقف، ثم عند حلول ذلك الأجل لا نزيل عنهم العذاب، بل نهلكهم به.
والخلاصة (١): أنه كشف العذاب عنهم إلى حين من الزمان هم واصلون إليه ولا بد، فمعذبون فيه أو مهلكون، وهو وقت الغرق، كما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما.
١٣٦ - ﴿فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ﴾ عند بلوغ الأجل المضروب لهم؛ أي: فلما بلغوا الأجل المؤقت لهم.. أردنا الانتقام منهم، والعقوبة لهم على ما أسلفوا من المعاصي ﴿فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ﴾؛ أي: فأهلكناهم في البحر الملح ﴿بـ﴾ سبب ﴿أنهم كذبوا بآياتنا﴾ التسع كلها الدالة على صدق رسولنا ﴿وَكانُوا عَنْها﴾، أي: عن تلك الآيات ﴿غافِلِينَ﴾؛ أي: معرضين غير ملتفتين إليها.
أي فانتقمنا منهم عند بلوغ الأجل المضروب لهم، بأن أغرقناهم في البحر وذلك بسبب تكذيبهم بالآيات، وعدم تفكرهم فيها، حتى صاروا كالغافلين عنها،
والخلاصة: أنّهم كانوا يظهرون الإيمان عند كل آية من آيات العذاب، ثم يكذبون، حتى إذا انقضى الأجل المضروب لهم، انتقمنا منهم بسبب أنّهم كذبوا بها كلها، وكانوا غافلين عما يعقبها من العذاب في الدنيا والآخرة، إذ كانت في نظر الكثير منهم من قبيل السحر والصناعة، ومن ثم كانوا يكابرون أنفسهم في كل آية منها، ويحاولون أن يأتي سحرتهم وعلماؤهم بمثلها.
ومنهم من اهتدى إلى الحق وظهر له صدقه، فآمن به جهرة ككبار السحرة، ومنهم من كتم إيمانه كالذي عارض فرعون وملأه بالحجة والبرهان، في قتل موسى كما سيأتي في سورة غافر، ومنهم من جحد بها كبرا وعلوا في الأرض، كفرعون وأكابر وزرائه ورؤسائه.
١٣٧ - ﴿وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ﴾؛ أي: يغلبون ويذلون ويمتهنون بقتل أبنائهم، واستبقاء نسائهم، وضرب الجزية عليهم، واستعمالهم في الأعمال الشاقة لفرعون وقومه، وهم بنو إسرائيل ﴿مَشارِقَ الْأَرْضِ﴾ التي كانت للعمالقة أولا، التي باركنا فيها بكثرة الأشجار والثمار والأنهار فيها، وهي الشام ﴿وَمَغارِبَهَا﴾ التي كانت للفراعنة أولا ﴿الَّتِي بارَكْنا فِيها﴾ بالخصب وسعة الأرزاق، وبالنيل وهي مصر؛ أي: ملكها بنو إسرائيل بعد الفراعنة والعمالقة وتمكنوا فيها ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى﴾؛ أي: نفذت كلمة الله وقضاؤه، ومضت على بني إسرائيل تامة كاملة، وأنجز لهم وعده الحسن الذي وعدهم بالنصر لهم على أعدائهم حيث قال: ﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ (٥) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ﴾ فالمراد بالكلمة: وعدهم بالنصر على عدوهم والتمكين في الأرض من بعدهم، وتمامها: إنجاز ما وعدهم به من تمكينهم في الأرض وإهلاك عدوهم، وقوله: ﴿كَلِمَتُ رَبِّكَ﴾ يرسم لفظ كلمت هنا بالتاء المبسوطة، وما عداها في القرآن يرسم بالهاء المربوطة على الأصل، ذكره في «الفتوحات» والحسنى صفة لكلمة، وهي تأنيث الأحسن ﴿بِما صَبَرُوا﴾؛ أي:
﴿وَدَمَّرْنا﴾؛ أي: دمرنا ﴿ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ﴾ في مصر من المباني والقصور التي كانوا يبنونها للمصريين، والمكايد السحرية والصناعية التي كان يصنعها السحرة لإبطال آياته، والتشكيك فيها، كما قال تعالى: ﴿إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ﴾.
فـ ﴿فِرْعَوْنُ﴾ (١) اسم كان، و ﴿يَصْنَعُ﴾ خبر لـ ﴿كانَ﴾ مقدم؛ أي: وخربنا الذي كان فرعون وقومه يصنعه من المدائن والقصور ﴿وَ﴾ خربنا ﴿ما كانُوا يَعْرِشُونَ﴾؛ أي: ما كان فرعون وقومه يعرشونه ويرفعونه من الشجر والكروم، أو ما كانوا يرفعونه من البنيان كصرح هامان.
وقرأ (٢) ابن عامر وشعبة وأبو بكر بضم الراء، وباقي السبعة والحسن ومجاهد، وأبو رجاء بكسر الراء هنا، وفي «النحل» وهي لغة الحجاز، وقال الزيدي: هي أفصح، وقرأ ابن أبي عبلة ﴿يعرشون﴾ بضم الياء وفتح العين وتشديد الراء، قال الزمخشري: وبلغني أنّه قرأ بعض الناس ﴿يغرسون﴾ من غرس الأشجار، وما أحسبه إلا تصحيفا.
وأسباب هذا التدمير لتلك المصانع والعروش أمور (٣):
١ - الآيات التي أيد الله تعالى بها موسى من الطوفان والجراد وغيرها، وسمتها التوراة الضربات العشر.
٢ - إنجاء بني إسرائيل، وحرمان فرعون وقومه من استعبادهم في أعمالهم.
(٢) البحر المحيط.
(٣) المراغي.
ووجه العبرة في هذه الآيات ما كان للإيمان في قلب موسى وهارون من التأثير، إذ تصديا لأكبر ملك، في أكبر دولة في الأرض استعبدت قومه في خدمتها عدة قرون، وما زالا يكافحانه بالحجج والآيات حتى أظفرهما الله تعالى به، وأنقذا قومهما من ظلمه، ولهذا يحذر ألا تستعظم قوة الدول الظالمة أمام قوة الحق كما قال: ﴿إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ﴾ وقال: ﴿وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ﴾.
وهذا (١) آخر ما قص الله تعالى من نبأ فرعون والقبط، وتكذيبهم بآيات الله وظلمهم ومعارضته، ثم أتبعه اقتصاص نبأ بني إسرائيل وما أحدثوه بعد إنقاذهم من مملكة فرعون واستعباده، ومعاينتهم الآيات العظام، ومجاوزتهم البحر من عبادة البقر، وطلب رؤية الله جهرة، وغير ذلك من أنواع الكفر والمعاصي، ليعلم حال الإنسان، وأنّه كما وصف: ظلوم كفار، جهول كفور إلا من عصمه الله تعالى ﴿وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ﴾. وليسلي رسول الله صلى الله عليه وسلّم مما رأى من بني إسرائيل بالمدينة.
١٣٨ - ﴿وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ﴾ وهذا (٢) شروع في قصة بني إسرائيل، وشرح ما أحدثوه من الأمور الشنيعة، بعد أن أنقذهم الله من مهلكة فرعون، والمقصود من سياقها تسلية رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وتنبيه المؤمنين، حتى لا يغفلوا عن محاسبة أنفسهم.
أي: عبرنا بهم ﴿الْبَحْرَ﴾ بالسلامة، بأن فلق الله تعالى البحر عند ضرب موسى البحر بالعصا؛ أي: إنّهم تجاوزوه وخرجوا منه بعناية الله تعالى وتأييده وحفظه، حتى كانوا من الشط الغربي إلى الشط الشرقي، والبحر بحر القلزم طرف من بحر فارس، كما في النهر، وهو عند خليج السويس الآن، وروي (٣) أنه عبر
(٢) الفتوحات.
(٣) البحر المحيط.
وقرأ الحسن وإبراهيم وأبو رجاء ويعقوب: ﴿وجوّزنا﴾ بتشديد الواو المفتوحة، من باب فعل المضعف، وهو مما جاء فيه فعل بمعنى فعل المجرد، نحو: قدر وقدر، وليس التضعيف للتعدية.
﴿فَأَتَوْا﴾؛ أي: مروا عقب مجاوزتهم البحر ودخولهم في بلاد العرب من البحر الآسيوي. ﴿عَلى قَوْمٍ﴾ قال (١) قتادة وأبو عمرو الجوني: هم من لخم وجذام، كانوا يسكنون الريف، وقيل كانوا نزولا بالرقة رقة مصر، وهي قرية بريف مصر، تعرف بساحل البحر، يتوصل منها إلى الفيّوم، وقيل: هم الكنعانيون الذين أمر موسى بقتالهم ﴿يَعْكُفُونَ﴾؛ أي: يقيمون ويواظبون ﴿عَلى﴾ عبادة ﴿أَصْنامٍ﴾ وتماثيل على صور البقر كانت ﴿لَهُمْ﴾؛ أي: لأولئك القوم الذين مروا عليهم، وهذا مبدأ شأن العجل الذي اتخذوه بعد ذلك وتعلقوا به، وكان ذلك أول فتنة العجل.
وقرأ الأخوان - حمزة والكسائي - وأبو عمرو في رواية عبد الوارث ﴿يَعْكُفُونَ﴾ بكسر الكاف، وباقي السبعة بضمها وهما فصيحتان.
فصل في حقيقة الصنم
والأصنام (٢) جمع صنم، وهو ما يصنع وينحت من الخشب أو الحجر أو المعدن، مثالا لشيء حقيقي أو خيالي، ليعظم تعظيم العبادة، وقد اتخذ بعض العرب في الجاهلية أصناما من عجوة التمر فعبدوها، ثم جاعوا فأكلوها، والتمثال لا بد أن يكون مثالا لشيء حقيقي، وقد يكون للعبادة فيسمى صنما، وقد يكون للزينة، كالذي يكون على جدران بعض القصور، أو أبوابها، أو في حدائقها، وقد يكون للتعظيم غير الديني، كالتماثيل التي تنصب لبعض الملوك
(٢) المراغي.
﴿قالُوا﴾؛ أي: قال بنو إسرائيل لموسى لما رأوا تلك التمثال عند أولئك القوم: ﴿يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهًا﴾؛ أي: عيّن لنا تمثالا نتقرب بعبادته إلى الله تعالى. ﴿كَما لَهُمْ﴾؛ أي: كما لهؤلاء القوم ﴿آلِهَةٌ﴾؛ أي: تماثيل يعبدونها.
قالوا (١) ذلك حنينا منهم إلى ما ألفوا في مصر من عبادة المصريين وتماثيلها وأنصابها وقبورها، وسر هذا الطلب أنّهم لم يكونوا قد فهموا التوحيد الذي جاء به موسى كما فهمه من آمن من سحرة المصريين، إذ إن السحرة كانوا من العلماء، فأمكنهم التمييز بين آيات الله التي لا يقدر عليها غيره، والسحر الذي هو من صناعات البشر وعلومهم.
ولم يذكر القرآن شيئا يعين شأن هؤلاء القوم الذين أتى عليهم بنو إسرائيل، والراجح أنّهم من العرب الذين كانوا يقيمون بقرب حدود مصر، روي عن قتادة أنّهم من عرب لخم كما مر، وعن ابن جريج أن أصنامهم كانت تماثيل بقر من النحاس.
﴿قالَ﴾ موسى للقائلين من قومه ﴿إِنَّكُمْ﴾ يا قوم ﴿قَوْمٌ تَجْهَلُونَ﴾؛ أي: جاهلون عظمة الله تعالى، وأنّه لا يستحق أن يعبد سواه؛ لأنّه هو الذي أنجاكم من فرعون وقومه، فأغرقهم في البحر وأنجاكم منه، فلا جهل أعظم مما قلتم؛ فإنّكم قلتموه بعدما شاهدتم المعجزة العظمى، وعن (٢) واقد الليثي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم: لما خرج إلى غزوة حنين.. مر بشجرة للمشركين كانوا يعلقون عليها أسلحتهم يقال لها: ذات أنواط، فقالوا: يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «سبحان الله! هذا كما قال قوم موسى: اجعل لنا إلها كما لهم آلهة، والذي نفسي بيده لتركبن سنن من قبلكم» أخرجه الترمذي، قال أبو حيان (٣): تعجب موسى عليه السلام من قولهم على إثر ما رأوا من الآيات العظيمة، والمعجزات الباهرة، ووصفهم بالجهل المطلق، وأكده بـ ﴿إن﴾؛ لأنّه لا جهل أعظم من هذه المقالة، ولا أشنع، وأتى بلفظ
(٢) الخازن.
(٣) البحر المحيط.
والخلاصة (١): أنّكم تجهلون مقام التوحيد، وما يجب من تخصيص الله بالعبادة بلا واسطة ولا مظهر من المظاهر، كالأصنام والتماثيل والعجل، فالله قد كرم البشر، وجعلهم أهلا لمعرفته ودعائه ومناجاته بلا واسطة تقربهم إليه، فإنه أقرب إليهم من حبل الوريد.
وبعد أن بين لهم جهلهم وسفههم، بين لهم فساد ما طلبوه، عسى أن تستعد عقولهم لفهمه واستبانة قبحه فقال:
١٣٩ - ﴿إِنَّ هؤُلاءِ﴾ القوم الذين يعبدون تلك التماثيل ﴿مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ﴾؛ أي: مهلك مدمّر مكسر مضمحل معدوم، منمحق ما هم عليه من الدين والعبادة؛ أي: إنّ الله سبحانه وتعالى يهدم دينهم عن قريب، ويحطم أصنامهم ﴿وَباطِلٌ﴾ زائل ﴿ما كانُوا يَعْمَلُونَ﴾ من عبادتها؛ أي: فلا يعود عليهم من ذلك العمل نفع ولا دفع ضر.
والمعنى: إن هؤلاء القوم الذين يعكفون على هذه الأصنام مقضي على ما هم فيه بالتبار والهلاك، بما سيظهر من التوحيد الحق في هذه الديار، وزائل ما كانوا يعملون من عبادة غير الله تعالى، فإنما بقاء الباطل في ترك الحق له وبعده عنه.
١٤٠ - وفي هذا بشارة منه عليه السلام بزوال الوثنية من تلك الأرض، وقد حقق الله تعالى ما قال: ﴿قالَ﴾ لهم موسى متعجبا من قولهم: ﴿أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلهًا﴾؛ أي: أأطلب لكم معبودا غير الله سبحانه وتعالى: ﴿وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ﴾؛ أي: والحال أنّه سبحانه وتعالى قد فضلكم على عالمي زمانكم، بالإسلام والتوحيد، أو فضلكم على العالمين كلهم بتخصيصكم بنعم لم يعطها
والخلاصة (٢): أن موسى بدأ جوابه لقومه بإثبات جهلهم بربهم وبأنفسهم، وثنى ببيان فساد ما طلبوه، وكونه عرضة للتبار والزوال؛ لأنّه باطل في نفسه، ثم انتقل إلى بيان أن العبادة لغير الله لا تصح ألبتة، سواء أكان المعبود أفضل المخلوقات كالملائكة والنبيين، أو أخسها كالأصنام، ثم أنكر عليهم أن يكون هو الوساطة في هذا الجعل الذي دعا إليه الجهل، ليعلمهم أن طلب هذا الأمر المنكر منه عليه السلام جهل بمعنى رسالته، وأيد إنكاره لكلا الأمرين بما يعرفون من فضل الله تعالى عليهم، بتفضيلهم على أهل زمانهم، ممن كانوا أرقى منهم مدنية وحضارة، وسعة ملك وسيادة على بعض الشعوب، وهم فرعون وقومه، برسالة موسى وهارون منهم، وتجديد ملة إبراهيم فيهم، وإيتائهما من الآيات ما تقدم ذكره.
١٤١ - ثم ذكر سبحانه وتعالى منته على بني إسرائيل فقال: ﴿وَإِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ﴾؛ أي: واذكروا يا بني إسرائيل قصة وقت إنجائنا إياكم من فرعون وقومه بإهلاكهم بالكلية، حالة كون آل فرعون ﴿يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ﴾؛ أي: يذيقونكم أشد العذاب باستعمالكم في الأعمال الشاقة، وحالة كونهم ﴿يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ﴾ صغارا ﴿وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ﴾؛ أي: ويبقون بناتكم بلا قتل لاستخدامهن، وجملة ﴿يُقَتِّلُونَ﴾ وما بعدها مفسرة لـ ﴿يَسُومُونَكُمْ﴾، أو بدل منه ﴿وَفِي ذلِكُمْ﴾
(٢) المراغي.
وحاصل المعنى: واذكروا إذ أنجيناكم - بإرسال موسى وبما أيدناه من الآيات - من آل فرعون الذين كانوا يسومونكم سوء العذاب بجعلكم عبيدا مسخرين لخدمتهم، ويقتلون ما يولد لكم من الذكور، ويستبقون نساءكم لتزدادوا ضعفا بكثرتهن، وفي ذلك العذاب والإنجاء منه - بفضل الله عليكم، وتفضيله إياكم على غيركم من سكان مصر، وسكان الأرض المقدسة التي سترثونها - بلاء عظيم؛ أي: اختبار لكم من ربكم، المدبر لأموركم، ليس هناك اختبار أعظم منه، فلا أجدر بالاعتبار والاستفادة من أحداث الزمان ممن يعطى النعمة بعد النقمة، وأحق الناس بمعرفة الله تعالى، وإخلاص العبادة له، من يرى في نفسه وفي الآفاق ما يوقن به، أنّه لا يمكن أن يكون فيه شركة لغير الله، وإن أعجب العجب أن تطلبوا بعد هذا كله ممن رأيتم على يديه هذه الآيات أن يجعل لكم آلهة من أخس المخلوفات، تجعلونها واسطة بينكم وبين الله تعالى، وهو قد فضلكم عليها وعلى من يعبدونها، ومن هم أرقى منهم.
وقرأ الجمهور: ﴿أَنْجَيْناكُمْ﴾ وفرقة: ﴿نجيناكم﴾: مشددا، وابن عامر: ﴿أنجاكم﴾، فعلى قراءة: ﴿أنجاكم﴾، يكون جاريا على قوله: ﴿وَهُوَ فَضَّلَكُمْ﴾ خاطب به موسى قومه، وفي قراءة النون خاطبهم الله تعالى بذلك، قال الطبري: الخطاب لمن كان على عهد الرسول صلى الله عليه وسلّم تقريعا لهم بما فعل أسلافهم، وبما جاؤوا به، وقرأ نافع: ﴿يقتلون﴾ من قتل الثلاثي، والجمهور ﴿يُقَتِّلُونَ﴾ بالتشديد من قتل المضعف.
الإعراب
﴿وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قالَ سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ (١٢٧)﴾.
﴿وَقالَ﴾ الواو: عاطفة أو مستأنفة، ﴿قالَ الْمَلَأُ﴾: فعل وفاعل، والجملة
﴿قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾.
﴿قالَ مُوسى﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة ﴿لِقَوْمِهِ﴾: جار ومجرور، متعلق به ﴿اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ﴾ إلى آخر الآية مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿اسْتَعِينُوا﴾ فعل وفاعل ﴿بِاللَّهِ﴾ متعلق به، والجملة في محل النصب مقول ﴿قالَ﴾ ﴿وَاصْبِرُوا﴾: فعل وفاعل معطوف على ﴿اسْتَعِينُوا﴾. ﴿إِنَّ﴾: حرف نصب ﴿الْأَرْضَ﴾: اسمها ﴿لِلَّهِ﴾: جار ومجرور خبر إنّ، والجملة في محل
﴿قالُوا أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا قالَ عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (١٢٩)﴾.
﴿قالُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. ﴿أُوذِينا﴾: إلى قوله: ﴿قالَ﴾ مقول محكي لـ ﴿قالُوا﴾، وإن شئت قلت: ﴿أُوذِينا﴾: فعل ونائب فاعل، والجملة في محل النصب مقول ﴿قالُوا﴾، ﴿مِنْ قَبْلِ﴾: جار ومجرور، متعلق بـ ﴿أُوذِينا﴾ ﴿أَنْ تَأْتِيَنا﴾: ناصب وفعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على ﴿مُوسى﴾، والجملة في تأويل مصدر مجرور بإضافة الظرف إليه تقديره: من قبل إتيانك إلينا، ﴿وَمِنْ بَعْدِ﴾: جار ومجرور، معطوف على الجار والمجرور قبله، ﴿ما﴾: مصدرية ﴿جِئْتَنا﴾: فعل وفاعل ومفعول، في تأويل مصدر مجرور بإضافة الظرف إليه تقديره: ومن بعد مجيئك إيانا، ﴿قالَ﴾: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على ﴿مُوسى﴾ والجملة مستأنفة ﴿عَسى رَبُّكُمْ﴾ إلى آخر الآية مقول محكي لـ ﴿قالَ﴾، وإن شئت قلت: ﴿عَسى﴾: من أفعال الرجاء تعمل عمل كان، ﴿رَبُّكُمْ﴾: اسمها ﴿أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ﴾ ناصب وفعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة في تأويل مصدر منصوب على كونه خبر ﴿عَسى﴾ تقديره: عسى ربكم إهلاكه عدوكم، ولكنه في تأويل مهلكا عدوكم، ﴿وَيَسْتَخْلِفَكُمْ﴾: فعل ومفعول، معطوف على ﴿يُهْلِكَ﴾، وفاعله ضمير يعود على الله. ﴿فِي الْأَرْضِ﴾: متعلق به،
﴿وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (١٣٠)﴾.
﴿وَلَقَدْ﴾ الواو: استئنافية، و ﴿اللام﴾: موطئة للقسم، ﴿قد﴾: حرف تحقيق ﴿أَخَذْنا﴾: فعل وفاعل ﴿آلَ فِرْعَوْنَ﴾: مفعول ومضاف إليه، والجملة جواب القسم لا محل لها من الإعراب، ﴿بِالسِّنِينَ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿أَخَذْنا﴾، ﴿وَنَقْصٍ﴾: معطوف على ﴿السنين﴾، ﴿مِنَ الثَّمَراتِ﴾ متعلق بـ ﴿نَقْصٍ﴾. ﴿لَعَلَّهُمْ﴾: ناصب واسمها، وجملة ﴿يَذَّكَّرُونَ﴾: في محل الرفع خبر ﴿لعل﴾ وجملة ﴿لعل﴾ مستأنفة مسوقة لتعليل جواب القسم.
﴿فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (١٣١)﴾.
﴿فَإِذا﴾ ﴿الفاء﴾: فاء الفصيحة لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفت أخذنا إياهم بالسنين وما بعده، وأردت بيان حالهم ومقالتهم حينئذ.. فأقول لك: (إذا جاءتهم الحسنة): ﴿إذا﴾: ظرف لما يستقبل من الزمان، ﴿جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ﴾: فعل ومفعول وفاعل، والجملة في محل الخفض بإضافة إذا إليها على كونها فعل شرط لها، والظرف متعلق بالجواب، ﴿قالُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة جواب ﴿إذا﴾ لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿إذا﴾: في محل النصب مقول لجواب ﴿إذا﴾ المقدرة، وجملة ﴿إذا﴾ المقدرة مستأنفة، ﴿لَنا هذِهِ﴾: مقول محكي، أو مبتدأ وخبر، والجملة في محل النصب مقول ﴿قالُوا﴾، ﴿وَإِنْ﴾ الواو: عاطفة، ﴿تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ﴾: فعل ومفعول، وفاعل مجزوم
﴿وَقالُوا مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (١٣٢)﴾.
﴿وَقالُوا﴾ الواو: استئنافية ﴿قالُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة، ﴿مَهْما تَأْتِنا بِهِ﴾ إلى آخر الآية مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿مَهْما﴾: اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، أو في محل النصب مفعول مقدم، والخبر جملة الجواب، أو الشرط أو هما، على الخلاف المذكور، ﴿تَأْتِنا﴾: فعل ومفعول مجزوم بـ ﴿مَهْما﴾ على كونه فعل شرط لها، وفاعله ضمير المخاطب يعود على ﴿مُوسى﴾ ﴿بِهِ﴾: جار ومجرور، متعلق بـ ﴿تَأْتِنا﴾ والضمير عائد على ﴿مَهْما﴾ ذكره نظرا للفظه ﴿مِنْ آيَةٍ﴾: جار ومجرور، حال من ضمير به ﴿لِتَسْحَرَنا﴾: فعل ومفعول منصوب بأن مضمرة جوازا بعد لام كي، وفاعله ضمير يعود على ﴿مُوسى﴾. ﴿بِها﴾: متعلق به، والضمير عائد على ﴿مَهْما﴾، وأنثه نظرا إلى كونه بمعنى ﴿آيَةٍ﴾، وجملة ﴿تسحرنا﴾ في تأويل مصدر مجرور باللام تقديره:
لسحرك إيانا، الجار والمجرور متعلق بـ ﴿تَأْتِنا﴾، ﴿فَما﴾ ﴿الفاء﴾: رابطة لجواب ﴿مَهْما﴾ وجوبا، ﴿ما﴾: حجازية أو تميمية، ﴿نَحْنُ﴾: في محل الرفع اسمها أو مبتدأ، ﴿لَكَ﴾: متعلق بـ ﴿بِمُؤْمِنِينَ﴾، ﴿بِمُؤْمِنِينَ﴾: خبر ﴿ما﴾ الحجازية، أو خبر المبتدأ، وجملة ﴿ما﴾ الحجازية، أو جملة المبتدأ في محل الجزم بـ ﴿مَهْما﴾ على كونها جوابا لها، وجملة ﴿مَهْما﴾ الشرطية في محل النصب مقول ﴿قالُوا﴾.
﴿فَأَرْسَلْنا﴾ ﴿الفاء﴾: عاطفة على محذوف تقديره: فدعا عليهم، والجملة المحذوفة معطوفة على جملة قوله: ﴿وَقالُوا مَهْما تَأْتِنا بِهِ﴾. ﴿أرسلنا﴾: فعل وفاعل، ﴿عَلَيْهِمُ﴾ متعلق به، ﴿الطُّوفانَ﴾: مفعول به، ﴿وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ﴾: معطوفات على ﴿الطُّوفانَ﴾، وجملة ﴿أرسلنا﴾: معطوفة على جملة دعا المحذوفة، ﴿آياتٍ﴾: حال من الأشياء الخمسة، ﴿مُفَصَّلاتٍ﴾: صفة لآيات، ﴿فَاسْتَكْبَرُوا﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة، ﴿استكبروا﴾: فعل وفاعل والجملة معطوفة على جملة ﴿أرسلنا﴾، ﴿وَكانُوا﴾: فعل ناقص واسمه، ﴿قَوْمًا﴾ خبرها، ﴿مُجْرِمِينَ﴾: صفة لـ ﴿قَوْمًا﴾، وجملة كان معطوفة على جملة ﴿استكبروا﴾.
﴿وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قالُوا يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ (١٣٤)﴾.
﴿وَلَمَّا﴾ الواو: استئنافية ﴿لَمَّا﴾: حرف شرط غير جازم، ﴿وَقَعَ﴾: فعل ماض، ﴿عَلَيْهِمُ﴾: متعلق به، ﴿الرِّجْزُ﴾: فاعل، والجملة فعل شرط لـ ﴿ما﴾ لا محل لها من الإعراب، ﴿قالُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة جواب ﴿لَمَّا﴾ لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿لَمَّا﴾ مستأنفة، ﴿يا مُوسَى﴾ إلى آخر الآية مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿يا مُوسَى﴾: منادى مفرد العلم، وجملة النداء في محل النصب مقول ﴿قالُوا﴾، ﴿ادْعُ﴾: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على ﴿مُوسَى﴾، ﴿لَنا﴾: متعلق به، ﴿رَبَّكَ﴾: مفعول به، وجملة ﴿ادْعُ﴾ جواب النداء، في محل النصب مقول ﴿قالُوا﴾، ﴿بِما﴾: ﴿الباء﴾: حرف جر، ﴿ما﴾ مصدرية، ﴿عَهِدَ﴾: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على ﴿اللَّهِ﴾، ﴿عِنْدَكَ﴾: متعلق بـ ﴿عَهِدَ﴾، والجملة الفعلية صلة ﴿ما﴾ المصدرية، وجملة ﴿ما﴾ المصدرية مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بالباء تقديره: بعهده عندك؛ أي: برسالته عندك؛ أي: متوسلا بالرسالة التي جعلها عندك، الجار والمجرور متعلق بـ ﴿ادْعُ﴾، ويصح أن تكون ﴿ما﴾ موصولا اسميا ﴿لَئِنْ﴾ ﴿اللام﴾: موطئة للقسم ﴿إن﴾: حرف شرط: ﴿كَشَفْتَ﴾: فعل وفاعل في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ الشرطية على كونه فعل
﴿فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ (١٣٥)﴾.
﴿فَلَمَّا﴾ ﴿الفاء﴾: عاطفة على محذوف تقديره: فدعا موسى الكشف عنهم فكشفنا عنهم الرجز المذكور، ﴿لما﴾: حرف شرط غير جازم، ﴿كَشَفْنا﴾: فعل وفاعل، ﴿عَنْهُمُ﴾: متعلق به، ﴿الرِّجْزَ﴾: مفعول به، والجملة الفعلية فعل شرط لـ ﴿لما﴾: لا محل لها من الإعراب، ﴿إِلى أَجَلٍ﴾: جار ومجرور، متعلق بـ ﴿كَشَفْنا﴾، ﴿هُمْ بالِغُوهُ﴾: مبتدأ وخبر، والجملة الاسمية في محل الجر صفة، لـ ﴿أَجَلٍ﴾، ولكنها سببية، ﴿إِذا﴾: فجائية خلف عن الفاء الرابطة، حرف لا محل لها من الإعراب، ﴿هُمْ﴾: مبتدأ، وجملة ﴿يَنْكُثُونَ﴾: خبره، والجملة الاسمية جواب ﴿لما﴾ لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿لما﴾ معطوفة على الجملة المحذوفة.
﴿فَانْتَقَمْنا﴾ ﴿الفاء﴾: عاطفة على محذوف تقديره: فنكثوا عهودهم فانتقمنا منهم، ﴿انتقمنا﴾: فعل وفاعل، والجملة معطوفة على الجملة المحذوفة، ﴿مِنْهُمْ﴾: متعلق بـ ﴿انتقمنا﴾، ﴿فَأَغْرَقْناهُمْ﴾ ﴿الفاء﴾: تفسيرية عاطفة، ﴿أغرقناهم﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة معطوفة على جملة ﴿انتقمنا﴾، مفسرة لها لأنّ الإغراق عين الانتقام، ﴿فِي الْيَمِّ﴾ متعلق بـ ﴿أغرقنا﴾، ﴿بِأَنَّهُمْ﴾: الباء حرف جر وسبب، ﴿أن﴾: حرف نصب و ﴿الهاء﴾: اسمها، ﴿كَذَّبُوا﴾: فعل وفاعل، ﴿بِآياتِنا﴾: متعلق به، ﴿وَكانُوا﴾: فعل ناقص واسمه، ﴿غافِلِينَ﴾: خبر كان، ﴿عَنْها﴾: متعلق بـ ﴿غافِلِينَ﴾، وجملة ﴿كانُوا﴾: معطوفة على جملة ﴿كَذَّبُوا﴾، على كونها خبرا لـ ﴿أن﴾، وجملة ﴿كَذَّبُوا﴾: في محل الرفع خبر أنّ، وجملة أنّ في تأويل مصدر مجرور بالباء تقديره: فأغرقناهم بسبب تكذيبهم بآياتنا، وغفلتهم عنها، الجار والمجرور متعلق بـ ﴿أغرقنا﴾.
﴿وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا﴾.
﴿وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ﴾: فعل وفاعل ومفعول أول، والجملة مستأنفة أو معطوفة على جملة ﴿أغرقنا﴾ ﴿الَّذِينَ﴾: صفة لـ ﴿الْقَوْمَ﴾، ﴿كانُوا﴾: فعل ناقص واسمه ﴿يُسْتَضْعَفُونَ﴾: فعل ونائب فاعل، والجملة الفعلية في محل النصب خبر كان صلة الموصول ﴿مَشارِقَ الْأَرْضِ﴾: مفعول ثان لـ ﴿أَوْرَثْنَا﴾، ﴿وَمَغارِبَهَا﴾: معطوف على ﴿مَشارِقَ الْأَرْضِ﴾، ﴿الَّتِي﴾: صفة للمشارق والمغارب كما أشرنا إليه في مبحث التفسير ﴿بارَكْنا﴾: فعل وفاعل ﴿فِيها﴾: متعلق به، والجملة صلة الموصول ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ﴾: فعل وفاعل ومضاف إليه ﴿الْحُسْنى﴾: صفة لـ ﴿كَلِمَتُ رَبِّكَ﴾، والجملة معطوفة على جملة ﴿أَوْرَثْنَا﴾، ﴿عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ ﴿تَمَّتْ﴾، ﴿بِما صَبَرُوا﴾ الباء حرف جر، ﴿ما﴾: مصدرية، ﴿صَبَرُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة في تأويل مصدر مجرور بالباء، والجار والمجرور متعلق بـ ﴿تَمَّتْ﴾ تقديره: وتمت عليهم كلمت ربك بسبب صبرهم على إذاية فرعون.
﴿وَدَمَّرْنا﴾: فعل وفاعل معطوف على جملة قوله: ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ﴾، ولكن الواو لا تقتضي ترتيبا فلا يقال: إن التدمير قبل تمام النعمة، ﴿ما﴾: موصولة أو موصوفة في محل النصب مفعول ﴿دَمَّرْنا﴾، ﴿كانَ﴾: فعل ماض ناقص، ﴿يَصْنَعُ﴾ فعل مضارع مرفوع بالضم والفاعل تقرير هو ﴿فِرْعَوْنُ﴾: اسم كان مؤخر، ﴿وَقَوْمُهُ﴾: معطوف عليه، وجملة ﴿يَصْنَعُ﴾: خبر كان، وجملة ﴿كانَ﴾ صلة لـ ﴿ما﴾ أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: ما كان فرعون وقومه يصنعونه، ﴿وَما﴾ الواو: عاطفة، ﴿ما﴾: معطوفة على ﴿ما﴾ الأولى على كونها مفعول ﴿دَمَّرْنا﴾، ﴿كانُوا﴾: فعل ناقص، واسمه، وجملة ﴿يَعْرِشُونَ﴾: خبر كان، وجملة ﴿كان﴾: صلة لـ ﴿ما﴾، أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره وما كانوا يعرشون.
﴿وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهًا كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (١٣٨)﴾.
﴿وَجاوَزْنا﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة، ﴿بِبَنِي إِسْرائِيلَ﴾: متعلق بـ ﴿جاوَزْنا﴾، ﴿الْبَحْرَ﴾ منصوب على الظرفية المكانية متعلق بـ ﴿جاوَزْنا﴾، ﴿فَأَتَوْا﴾: فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة ﴿جاوَزْنا﴾. ﴿عَلى قَوْمٍ﴾: متعلق بـ ﴿أتوا﴾، وجملة ﴿يَعْكُفُونَ﴾ في محل الجر صفة لـ ﴿قَوْمٍ﴾، ﴿عَلى أَصْنامٍ﴾: متعلق بـ ﴿يَعْكُفُونَ﴾، ﴿لَهُمْ﴾: صفة لـ ﴿أَصْنامٍ﴾، ﴿قالُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة جواب لما المحذوفة تقديرها: فلما رأوهم وأصنامهم قالوا: يا موسى... إلى قوله: ﴿قالَ﴾: مقول محكي لـ ﴿قالُوا﴾ وإن شئت قلت: ﴿يا مُوسَى﴾: منادى مفرد العلم، وجملة النداء مقول: ﴿قالُوا﴾ ﴿اجْعَلْ﴾: فعل أمر، وفاعله ضمير يوعد على ﴿مُوسَى﴾ والجملة في محل النصب مقول ﴿قالُوا﴾. على كونها جواب النداء، ﴿لَنا﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿اجْعَلْ﴾، ﴿إِلهًا﴾: مفعول به لـ ﴿اجْعَلْ﴾؛ لأنه بمعنى اصنع فتعدى إلى مفعول واحد، ﴿كَما﴾: ﴿الكاف﴾: حرف جر، ﴿ما﴾: مصدرية ﴿لَهُمْ آلِهَةٌ﴾: مبتدأ وخبر، والجملة صلة ﴿ما﴾: المصدرية، وحسن ذلك كون الظرف مقدرا بالفعل. كما ذكره أبو البقاء. الجار والمجرور صفة لـ ﴿إِلهًا﴾ تقديره: إلها كائنا كالآلهة التي
﴿إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ﴾.
﴿إِنَّ﴾ حرف نصب ﴿هؤُلاءِ﴾ في محل النصب اسمها، ﴿مُتَبَّرٌ﴾: خبرها، ولكنه خبر سببي، وجملة إنّ في محل النصب مقول ﴿قالَ﴾. ﴿ما هُمْ فِيهِ﴾، ﴿ما﴾: موصولة في محل الرفع نائب فاعل لـ ﴿مُتَبَّرٌ﴾: لأنه اسم مفعول يعمل عمل الفعل المغير لاعتماده على المخبر عنه، ﴿هُمْ﴾: مبتدأ ﴿فِيهِ﴾: جار ومجرور خبر المبتدأ، والجملة الاسمية صلة ﴿ما﴾ الموصولة ﴿وَباطِلٌ﴾: معطوف على ﴿مُتَبَّرٌ﴾، ﴿ما﴾: موصولة في محل الرفع فاعل، ﴿باطِلٌ﴾، ﴿كانُوا﴾: فعل ناقص واسمه، وجملة ﴿يَعْمَلُونَ﴾: خبر ﴿كان﴾، وجملة كان صلة ﴿ما﴾ الموصولة.
﴿قالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (١٤٠)﴾.
﴿قالَ﴾: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على ﴿مُوسَى﴾، والجملة مستأنفة ﴿أَغَيْرَ اللَّهِ﴾: ﴿الهمزة﴾: للاستفهام الإنكاري حقها أن تدخل على الفعل المذكور بعده، ﴿غَيْرَ اللَّهِ﴾: مفعول به لـ ﴿أَبْغِيكُمْ﴾ مقدم عليه أصله: أأبغي غير الله لكم إلها؟ فلمّا قدم غير حذف الجار، واتصل الكاف بالفعل.. فصار، أبغيكم، ﴿إِلهًا﴾: تمييز لـ ﴿غَيْرَ﴾ منصوب به، أو منصوب على الحال ﴿وَهُوَ﴾ الواو: واو الحال، هو: مبتدأ، وجملة ﴿فَضَّلَكُمْ﴾: خبره، والجملة الاسمية في محل النصب إما حال من الجلالة، أو من ضمير المخاطبين، أو مستأنفة، ﴿عَلَى الْعالَمِينَ﴾: متعلق بـ ﴿فضل﴾.
﴿وَإِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (١٤١)﴾.
﴿وَإِذْ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية، ﴿إِذْ﴾: ظرف لما مضى من الزمان في محل النصب على الظرفية مبنية على السكون، والظرف متعلق بمحذوف، تقديره:
التصريف ومفردات اللغة
﴿وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ﴾ كثر استعمال الأخذ في العذاب كقوله: وَ ﴿كَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (١٠٢)﴾، و ﴿آلَ فِرْعَوْنَ﴾ قومه وخاصته وأعوانه في أمور الدولة، وهم الملأ من قومه، ولا يستعمل هذا اللفظ إلا فيمن يختص بالإنسان بقرابة قريبة، كما قال عزّ اسمه. ﴿وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ﴾ أو بموالاة ومتابعة في الرأي، كما قال: ﴿أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ﴾.
﴿بِالسِّنِينَ﴾: جمع سنة، وهي بمعنى الحول، ولكن أكثر ما تستعمل في الحول الذي فيه الجدب، كما هنا بدليل نقص الثمرات، وأصل سنة سنهة، فلامها هاء لقولهم: عاملته مسانهة، وقيل لامها واو لقولهم: سنيوة، وفي لفظ سنين لغتان:
أشهرهما: إجراؤه مجرى جمع المذكر السالم فيرفع بالواو وينصب ويجر بالياء، وتحذف نونه للإضافة، كما في الحديث الصحيح «اللهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف».
واللغة الثانية: أن يجعل الإعراب على النون، ولكن مع الياء خاصة، نقل هذه اللغة أبو زيد والفراء.
وأصل (٢) ﴿يَطَّيَّرُوا﴾: يتطيروا فأدغمت التاء في الطاء لمقاربتها لها في المخرج، وقيل أصل التطير: أن يفرق المال ويطير بين القوم، فيطير لكل واحد حظه وما يخصه، ثم أطلق على الحظ والنصيب السيء بالغلبة، وفي «الخازن»: قال ابن عباس (٣): طائرهم ما قضي لهم وقدر عليهم من عند الله تعالى، وفي رواية عنه: شؤمهم عند الله، ومعناه أنّ ما جاءهم بكفرهم بالله تعالى، وقيل الشؤم العظيم هو الذي لهم عند الله تعالى من عذاب النار. انتهى.
وفي «المصباح»: طائر الإنسان عمله الذي يقلده، وتطير من الشيء واطّير منه، والاسم الطيرة، وزان عنبة أو هي التشاؤم. اه وفيه أيضا: الشؤم الشر، ورجل مشؤوم غير مبارك، وتشاءم القوم به مثل تطيروا به.
﴿الطُّوفانَ﴾ الطوفان لغة: ما طاف بالشيء وغشيه، وغلب في طوفان الماء سواء كان من السماء أو من الأرض، وفيه قولان، أحدهما: أنّه جمع طوفانه؛ أي: هو اسم جنس كقمح وقمحة، وشعير وشعيرة، وقيل: بل هو مصدر كالنقصان والرجحان. وهذا قول المبرد مع آخرين، والأول قول الأخفش، قال: هو فعلان من الطواف؛ لأنه يطوف حتى يعم، وواحدته في القياس طوفانة، والطوفان الماء الكثير. قاله الليث، اه «سمين» ﴿الْجَرادَ﴾ جمع جرادة، الذكر والأنثى فيه سواء، يقال: جرادة ذكر وجرادة أنثى، كنملة وحمامة، قال أهل اللغة: وهو مشتق من
(٢) الفتوحات.
(٣) الخازن.
﴿وَالضَّفادِعَ﴾ جمع ضفدع بوزن درهم، ويجوز كسر داله، فيصير بزنة زبرج، والضفدع مؤنث وليس بمذكر، فعلى هذا يفرق بين مذكره ومؤنثه بالوصف فيقال: ضفدع ذكر، وضفدع أنثى، كما قلنا ذلك في الملتبس بتاء التأنيث نحو: حمامة وجرادة وقملة اه «سمين».
وفي «القاموس» (٢) الضفدع كزبرج وجعفر وجندب ودرهم، وهذا أقل ومردود، الواحدة بهاء، والجمع ضفادع وضفادي اه ﴿وَالدَّمَ﴾ هو الرعاف، وقيل هو دم كان يحدث في مياه المصريين. ﴿وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ﴾، ﴿الرِّجْزُ﴾ (٣): العذاب الذي يضطرب له الناس في شؤونهم ومعايشهم، وذلك شامل نقمة وجائحة أنزلها الله تعالى على قوم فرعون، كالخمس التي ذكرت قبل. ﴿بِما عَهِدَ عِنْدَكَ﴾ والعهد النبوة والرسالة كما مر ﴿إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ﴾ والنكث لغة نقض ما غزل أو ما فتل من الحبال، ثم استعمل في الحنث في العهود والمواثيق، وأصله (٤) من نكث الصوف ليغزله. ثانيا، فاستعير لنقض العهد بعد إحكامه وإبرامه.
﴿وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ﴾ وفي «القاموس»: غفل عنه غفولا إذا تركه وسها عنه اه وفي «المصباح» وقد تستعمل الغفلة في ترك الشيء إهمالا وإعراضا اه ﴿فِي الْيَمِّ﴾، ﴿الْيَمِّ﴾: البحر في اللغة المصرية الموافقة للغة العربية في كثير من مفرداتها، مما يدل على أن أصل الأمتين واحد ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ﴾ وتمام الشيء وصوله إلى آخر حده، وكلمة الله هي وعده لبني إسرائيل بإهلاك عدوهم
(٢) القاموس.
(٣) المراغي.
(٤) زاده.
﴿وَجاوَزْنا﴾ وفي «الخازن» يقال: جاز الوادي وجاوزه إذا قطعه وخلفه وراء ظهره اه، وجاز الشيء وجاوزه وتجاوزه بمعنى؛ أي: عداه وانتقل عنه، وجاوز هنا بمعنى جاز، ففاعل بمعنى فعل ﴿يَعْكُفُونَ﴾ والعكوف على الشيء الإقبال عليه وملازمته تعظيما له يقال: عكف يعكف بضم الكاف وكسرها من بابي قعد وضرب.
﴿مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ﴾ والتبتر الإهلاك والتدمير، يقال: تبره إذا أهلكه ودمره، والتبار الهلاك، ومنه التبر وهو كسارة الذهب لتهالك الناس عليه، وقيل: التبتير التكسير والتحطيم، ومنه التبر؛ لأنّه كسارة الذهب اه «سمين» ﴿وَباطِلٌ﴾؛ أي: هالك وزائل لا بقاء له، ﴿أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلهًا﴾ يقال بغى وابتغاه إذا طلبه.
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات أنواعا من البلاغة والفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: الجناس المماثل في، قوله: ﴿أَتَذَرُ مُوسى﴾ ﴿وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ﴾، والجناس المغاير في قوله: ﴿يَطَّيَّرُوا﴾ وفي قوله: ﴿أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ﴾.
ومنها: التكرار في قوله: ﴿وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ﴾ وقوله: ﴿لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ﴾ وقوله: ﴿فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ﴾.
ومنها: الطباق بين قوله: ﴿سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ﴾ وقوله: ﴿وَنَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ﴾ وبين قوله: ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا﴾ وقوله: ﴿وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا﴾ وبين قوله: ﴿أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ﴾ وقوله: ﴿وَيَسْتَخْلِفَكُمْ﴾ وبين قوله: ﴿فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ﴾ وقوله: ﴿وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ﴾ وبين قوله: ﴿يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ﴾ وقوله ﴿وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ﴾.
ومنها: الإسناد المجازي في قوله: ﴿فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ﴾ وقوله: ﴿وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ﴾ ومنها الوصل في قوله: ﴿وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ﴾.
ومنها: الاستفهام الإنكاري التعجبي في قوله: ﴿أَتَذَرُ مُوسى﴾، وفي قوله: ﴿أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلهًا﴾.
ومنها: العدول عن صيغة الماضي إلى المضارع في قوله: ﴿إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ﴾ ولم يقل (١) جهلتم إشعارا بأن ذلك منهم كان كالطبع والغريزة لا ينتقلون عنه في ماض ولا مستقبل.
ومنها: تصدير (٢) الجملة بالقسم في قوله: ﴿وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ﴾ لإظهار الاعتناء بمضمونها.
ومنها: تصديرها بحرف التنبيه في قوله: أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ لإبراز كمال العناية بمضمونها.
ومنها: الاستعارة في قوله: ﴿وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ﴾؛ لأنّه استعار الأخذ للابتلاء على طريقة الاستعارة التصريحية التبعية، وفي قوله: ﴿أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ﴾؛ لأنّ الطائر حقيقة في الحيوان استعارة للحظ والنصيب أو الشؤم، ومنها الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: ﴿إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ﴾؛ لأن النكث (٣) حقيقة في حل الصوف ليغزله ثانيا، استعاره هنا لنقض العهد على طريقة الاستعارة التصريحية التبعية.
ومنها: الاستعارة التصريحية في قوله: ﴿بِالسِّنِينَ﴾؛ لأنّ السنة حقيقة في الحول، استعارها هنا للجدوب والقحوط ونقص الثمرات تجريد، وهو ذكر ما يلائم المشبه المستعار له.
ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
(٢) الفتوحات.
(٣) الفتوحات.
﴿وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (١٤٢) وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقًا فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (١٤٣) قالَ يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ ما آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (١٤٤) وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْها بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ (١٤٥) سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ (١٤٦) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٤٧) وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكانُوا ظالِمِينَ (١٤٨) وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا وَيَغْفِرْ لَنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (١٤٩) وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفًا قالَ بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْواحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (١٥٠) قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (١٥١)﴾.
المناسبة
قوله تعالى: ﴿وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنّ الله سبحانه وتعالى لما ذكر (١) ما أنعم به على بني إسرائيل من النجاة من العبودية، ومن جعلهم أمة حرة مستقلة قادرة على القيام بما يشرّعه الله
قوله تعالى: ﴿سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما بين في الآيات السالفة ما لحق فرعون وقومه من الهلاك بسبب استكباره وظلمه، وفساده في الأرض.. ذكر هنا سننه تعالى في ضلال البشر بعد مجيء البينات، وتكذيبهم لدعاة الحق والخير من الرسل وأتباعهم، وأبان أن السبب الأول لذلك هو التكبر، فإن من شأن الكبر أن يصرف أهله عن النظر والاستدلال على الحق والهدى، فهم يكونون دائما من المكذبين بالآيات الدالة عليه، ومن الغافلين، كما هي حال الملوك والرؤساء والزعماء الضالين، كفرعون وملئه، وفي هذا إيماء للنبي صلى الله عليه وسلّم بأن الطاغين المستكبرين من صناديد قومه لن ينظروا في دعوته، ولا في آيات القرآن الدالة على وحدانية الله تعالى، بما أقامته عليها من البراهين الكثيرة من آيات كونية، وآيات في الآفاق والأنفس.
وجملة الموانع الصادة لهم عن اتباعه ترجع إلى التكبر، فإنّهم بزعمهم يعتقدون أنهم سادة قريش وكبراؤها وأقوياؤها، فلا ينبغي أن يتبعوا من دونهم سنا وقوة وثروة وعصبية.
قوله تعالى: ﴿وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أنّه سبحانه وتعالى لما ذكر خبر مناجاة موسى لربه، واصطفائه إياه برسالاته وبكلامه، وأمره بأخذ الألواح بقوة.. ذكر هنا ما حدث أثناء المناجاة من اتخاذ قومه بني إسرائيل عجلا مصوغا من الذهب والفضة، ثم عبادته من دون الله تعالى، لما رسخ في نفوسهم من فخامة المظاهر الوثنية الفرعونية في
قوله تعالى: ﴿وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفًا...﴾ مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر ما أحدثه السامري من اتخاذه العجل لبني إسرائيل وعبادته له، ثم ندمهم على ما فرط منهم في جنب الله، وطلبهم الرحمة من ربهم.. ذكر هنا ما حدث من موسى من الأسى والحزن، حين رأى قومه على هذه الحال من الضلال والغي، ومن التعنيف واللوم لهارون على السكوت على قومه، حين رآهم في ضلالتهم يعمهون.
التفسير وأوجه القراءة
١٤٢ - ﴿وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً﴾؛ أي: ضربنا وجعلنا موعدا لموسى عليه السلام لمكالمته وإعطائه الألواح المشتملة على أصول الشريعة ثلاثين ليلة، قيل هي شهر ذي القعدة. ﴿وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ﴾؛ أي: وزدنا على تلك الثلاثين بعشر ليال تامات، وفي مصحف أبي ﴿تممناها﴾ بالتضعيف ﴿فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ﴾؛ أي: فتم ميقات وعد ربه للمكالمة بتلك العشر المزيدة ﴿أَرْبَعِينَ لَيْلَةً﴾ صعد على جبل سيناء في أول هذا الموعد، وهبط في آخره، قيل: وكان التكليم في يوم النحر، وفائدة الإتيان بقوله: ﴿فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً﴾ مع العلم بأنّ الثلاثين والعشر أربعون، لئلا يتوهم أنّ المراد أتممنا الثلاثين بعشر منها، وقيل: إزالة توهم أن تكون عشر ساعات؛ أي: اتممناها بعشر ساعات، والذي يظهر أن هذه الجملة تأكيد وإيضاح ما ذكره أبو حيان في «البحر».
وروي (١) عن أبي العالية أنّه قال في بيان زمان الموعد - يعني ذا القعدة وعشرا من ذي الحجة -: فمكث على الطور ليلة، وأنزل عليه التوراة في الألواح فقربه الرب نجيا، وكلمه وسمع صريف الأقلام، والمعنى أي (٢): وعدناه بأن نكلمه عند انتهاء ثلاثين ليلة يصومها، وإنّما عبر بالليالي مع أن الصوم في الأيام
(٢) الفتوحات.
وفي «الخازن» (١) قال المفسرون: إن موسى عليه السلام وعد بني إسرائيل - وهو بمصر - إذا أهلك الله تعالى عدوهم فرعون أن يأتيهم بكتاب من عند الله تعالى، فيه بيان ما يأتون وما يذرون، فلما أهلك الله تعالى فرعون سأل موسى ربه أن ينزل عليه الكتاب الذي وعد به بني إسرائيل، فأمره أن يصوم ثلاثين يوما فصامها - وهي شهر ذي القعدة - فلما أتم الثلاثين.. أنكر خلوف فمه فتسوك بعود خرنوب فقالت الملائكة: كنا نشم من فيك رائحة المسك فأفسدته بالسواك، فأمره الله أن يصوم عشر ذي الحجة وقال له: «أما علمت أن خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك؟» فكانت فتنة بني إسرائيل في تلك العشر التي زادها الله تعالى لموسى عليه السلام، وقيل: أمره بأن يتخلى ثلاثين يوما بالصوم والعبادة، ويعمل فيها ما يتقرب به، ثم كلمه وأعطاه الألواح في العشر التي زادها فلهذا قال: وأتممناها بعشر.
وهذا التفصيل الذي ذكره هنا هو تفصيل ما أجمله في سورة البقرة وهو قوله تعالى: ﴿وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً﴾ فذكره هناك على الإجمال وهنا على التفصيل اه.
وفي «زاده على البيضاوي» (٢): ما الحكمة في تفصيل الأربعين هنا إلى الثلاثين والعشر مع الاقتصار على الأربعين في البقرة حيث قال: ﴿وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً﴾؟ وتقرير الجواب: أنّ الحكمة في التفصيل هنا الإشارة إلى أنّ أصل المواعدة كان على صوم الثلاثين، وزيادة العشرة كانت لإزالة الخلوف، وما ذكره في سورة البقرة فهو بيان للحاصل وجمع بين العددين، أو يقال: فصل الأربعين هنا إلى مدتين لكون ما وقع في إحدى المدتين مغايرا لما وقع في الأخرى، فالثلاثون للتقرب، والعشر لإنزال التوراة. انتهى.
(٢) زاده.
والمقصود (١) من هذا النهي التأكيد؛ لأنّ هارون عليه السلام لم يكن ممن يتبع سبيل المفسدين، فهو كقوله: ﴿وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي﴾ وكقولك للقاعد: أقعد، بمعنى دم على ما أنت عليه من القعود، والمعنى: دم على عدم اتباع سبيل المفسدين.
١٤٣ - ﴿وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا﴾؛ أي: لميعادنا الذي وقتنا له للكلام فيه، ولإعطاء الشريعة له، وعبارة «المراح»: ولما جاء موسى لميعادنا في مدين، في يوم الخميس، يوم عرفة، فكلمه الله تعالى فيه من غير واسطة وأعطاه التوراة صبيحة يوم الجمعة يوم النحر. انتهى.
﴿وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ﴾ من وراء حجاب بغير واسطة ملك؛ أي: أزال الحجاب بين موسى وبين كلامه فسمعه من جميع جهاته، استشرفت نفسه للجمع بين فضيلتي الكلام والرؤية فـ ﴿قالَ﴾ موسى ﴿رَبِّ أَرِنِي﴾ ذاتك المقدسة، واجعل لي من القوة على حمل تجليك ما أقدر به على النظر إليك، وكمال المعرفة بك؛ أي: مكنّي من رؤيتك ﴿أَنْظُرْ إِلَيْكَ﴾ يا إلهي ﴿قالَ﴾ سبحانه وتعالى لموسى: ﴿لَنْ تَرانِي﴾؛ أي: إنك لا تراني الآن ولا فيما يستقبل من الزمان الدنيوي، إذ ليس لبشر أن يطيق النظر إلي في الدنيا.
وقال السدي: لما كلم الله موسى عليه السلام.. غاص عدو الله إبليس الخبيث في الأرض حتى خرج من بين قدمي موسى، فوسوس إليه أن مكلمك شيطان، فعند ذلك سأل موسى ربه الرؤية اه «خازن».
وسؤال موسى (١) للرؤية يدل على أنّها جائزة عنده في الجملة، ولو كانت مستحيلة عنده لما سألها، والجواب بقوله: ﴿لَنْ تَرانِي﴾ يفيدا أنّه لا يراه في هذا الوقت الذي طلب رؤيته فيه، أو أنّه لا يرى ما دام الرائي حيا في دار الدنيا، وأما رؤيته في الآخرة فقد ثبت بالأحاديث المتواترة تواترا لا يخفى على من يعرف السنة المطهرة، والجدال في مثل هذا لا يأتي بفائدة، ومنهج الحق واضح، والاستدراك بقوله: ﴿وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ﴾ معناه أنّك لا تثبت لرؤيتي ولا يثبت لها ما هو أعظم منك جرما وصلابة وقوة، وهو الجبل فانظر إليه ﴿فَإِنِ اسْتَقَرَّ﴾ الجبل ﴿مَكانَهُ﴾ ولم يتزلزل عند رؤيتي له ﴿فَسَوْفَ تَرانِي﴾؛ أي: فلعلك تراني وإن ضعف الجبل عن ذلك فأنت منه أضعف، فهذا الكلام بمنزلة ضرب المثل لموسى عليه السلام بالجبل، أو من باب التعليق بالمحال، وعلى تسليم هذا فهو في الرؤية في الدنيا لما قدمنا.
والمعنى: فإن (٢) ثبت الجبل لدى التجلي، وبقي مستقرا في مكانه.. فسوف
(٢) المراغي.
ولا وجه له في مثل هذا المقام.
والخلاصة (١): أنّ موسى لما نال فضيلة التكليم بلا واسطة، فسمع من عالم الغيب ما لم يسمع من قبل، تاقت نفسه أن يمنحه الرب شرف رؤيته، فطلب ذلك منه، وهو يعلم أنّه ليس كمثله شيء، لا في ذاته، ولا في صفاته التي منها كلامه، ولكن الله تبارك وتعالى قال له: ﴿لَنْ تَرانِي﴾ ولكي يخفف عليه ألم الرد أراه بعينه من تجليه للجبل ما فهم منه أنّ المانع من جهته لا من جانب الفيض الإلهي، حينئذ نزه الله وسبّحه وتاب إليه من هذا الطلب، فبشره بأنّه اصطفاه على الناس برسالته وبكلامه، وأمره أن يأخذ ما أعطاه ويكون من الشاكرين له كما قال.
١٤٤ - ﴿قالَ﴾ الله سبحانه وتعالى: ﴿يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ﴾ واخترتك وفضلتك ﴿عَلَى النَّاسِ﴾ المعاصرين لك من بني إسرائيل ﴿بِرِسالاتِي﴾، قرأ نافع وابن كثير بالإفراد، وهو مراد به المصدر؛ أي: بإرسالي، أو يكون على حذف مضاف؛ أي: بتبليغ رسالتي؛ لأنّ مدلول الرسالة غير مدلول المصدر، وقرأ باقي السبعة بالجمع نظرا إلى أن الذي أرسل به ضروب وأنواع من الوحي ﴿وَ﴾ اصطفيتك ﴿بِكَلامِي﴾؛ أي: بتكليمي لك بلا توسط ملك، وإن كان من وراء حجاب، وقد طلب موسى رفع هذا الحجاب لتحصل له الرؤيا مع الكلام، وقرأ الجمهور ﴿وَبِكَلامِي﴾ بالإفراد، على أنّه مصدر كما فسرنا، أو على أنّه على حذف مضاف؛ أي: وبسماع كلامي، وقرأ أبو رجاء ﴿برسالتي وبكلمي﴾ جمع كلمة؛ أي: وسماع كلمي، وقرأ الأعمش ﴿برسالاتي وتكلمي﴾ ﴿فَخُذْ ما آتَيْتُكَ﴾؛ أي: فخذ ما أعطيتك من الشريعة، وهي التوراة ﴿وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ﴾؛ أي: من جماعة الشاكرين لنعمتي عليك وعلى قومك بإقامتها بقوة وعزيمة، والعمل بها، وأداء حقوق نعمي جميعها عليك، تنل المزيد من فضلي ﴿لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ﴾.
فصل في كلام الله تعالى ورؤيته
وأعلم (١): أن إثبات الكلام والتكليم لله تعالى صريح في القرآن الكريم في آيات عدة، لا تعارض بينها، وأما الرؤية ففيها آيات متعارضة كقوله تعالى: ﴿لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ﴾ وقوله: ﴿لَنْ تَرانِي﴾ وهما أصرح في النفي من دلالة قوله تعالى: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ (٢٢) إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ (٢٣)﴾ على الإثبات؛ فإن استعمال النظر بمعنى الانتظار كثير في القرآن وفي كلام العرب، كقوله: ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ﴾ وقوله: ﴿ما يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً﴾ وفي الأحاديث الصحيحة تصريح بإثبات الرؤية بحيث لا تحتمل تأويلا، والمرفوع منها مروي عن أكثر من عشرين صحابيا، ولم يرد في معارضتها شيء أصرح من حديث عائشة عن مسروق قال: قلت لعائشة رضي الله عنها: يا أماه هل رأى محمد صلى الله عليه وسلّم ربه ليلة المعراج؟ فقالت: لقد قف شعري مما قلت، ثلاث من حدثكهن.. فقد كذب، من حدثك أن محمدا صلى الله عليه وسلّم رأى ربه.. فقد كذب وفي رواية: فقد أعظم الفرية، ثم قرأت ﴿لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (١٠٣)﴾. ﴿وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ﴾ ومن حدثك أنه يعلم ما في غد.. فقد كذب، ثم قرأت ﴿وَما تَدْرِي نَفْسٌ ماذا تَكْسِبُ غَدًا﴾ ومن حدثك أنّه كتم شيئا من الدين.. فقد كذب، ثم قرأت ﴿يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ﴾ قال مسروق - وكنت متكئا - فجلست وقلت: ألم يقل الله ﴿وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى (١٣)﴾؟ فقالت: أنا أول هذه الأمة سأل رسول الله صلى الله عليه وسلّم على ذلك؟ فقال: «إنما هو جبريل».
ومن هذا تعلم أنّ عائشة تنفي دلالة سورة النجم على رؤية النبي صلى الله عليه وسلّم لربه بالحديث المرفوع، وتنفي جواز الرؤية مطلقا، أو في هذه الحياة الدنيا بالاستدلال بقوله تعالى: ﴿لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ﴾ وقوله: ﴿وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ﴾ وهذا الاستدلال ليس نصا في النفي حتى يرجح على الأحاديث الصريحة في الرؤية، وقد قال بها بعض علماء الصحابة، كابن
وجمهرة المسلمين: أن رؤية العباد لربهم في الآخرة حق، وأنّها أعلى وأكمل للنعيم الروحاني التي يرتقي إليه البشر في دار الكرامة، وأنّها أحق ما يصدق عليه قوله صلى الله عليه وسلّم: «قال الله عز وجل: اعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر» وهي المعبر عنها بقولهم: إنّها رؤية بلا كيف.
١٤٥ - وبعد أن أخبر سبحانه في الآيات السالفة أنّه منع موسى رؤيته في الدنيا، وبشره بأنّه اصطفاه على أهل زمانه برسالته وبكلامه، اخبرنا فيما بعد بما أتاه يومئذ بالإجمال فقال: ﴿وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ﴾؛ أي: وكتبنا لموسى في ألواح التوراة ﴿مِنْ كُلِّ شَيْءٍ﴾؛ أي: كل شيء يحتاج إليه موسى وقومه في دينهم من الحلال والحرام، والمحاسن والقبائح، فـ ﴿مِنْ﴾ زائدة في المفعول. وقوله: ﴿مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا﴾ بدل ﴿مِنْ كُلِّ شَيْءٍ﴾، باعتبار محله وهو النصب على المفعولية. وقوله: ﴿لِكُلِّ شَيْءٍ﴾؛ متعلق بتفصيلا؛ أي: وكتبنا (١) له في الألواح كل شيء من المواعظ التي توجب الرغبة في الطاعة، والنفرة عن المعصية، ومن تفصيل الأحكام وشرح أقسامها؛ أي: إننا (٢) أعطيناه ألواحا كتبنا له فيها أنواع الهداية، والمواعظ التي تؤثر في القلوب، ترغيبا، وترهيبا، وتفصيلا لأصول الشرائع، وهي أصول العقائد والآداب، وأحكام الحلال والحرام، والراجح أنّ هذه الألواح كانت أول ما أوتيه من وحي التشريع الإجمالي، أما سائر الأحكام
(٢) المراغي.
وهذه (١) الألواح هي التوراة، قيل كانت من زمردة خضراء، وقيل: من ياقوتة حمراء، وقيل: من زبرجد، وقيل: من صخرة صماء، وقد اختلفوا في عدد الألواح، فمن مقل قال: إنّها اثنان وهذا ضعيف؛ لأنّ أقل ما يصدق عليه الجمع ثلاثة على المشهور، ومن مكثر قال: إنّها اثنا عشر، أو عشرة، أو سبعة، والله أعلم بحقيقة الحال. والألواح جمع لوح، وسمي لوحا لكونه تلوح فيه المعاني، وأسند الله سبحانه وتعالى الكتابة إلى نفسه تشريفا للمكتوب في الألواح، وهي مكتوبة بأمره سبحانه، وقيل: هي كتابة خلقها الله تعالى في الألواح.
﴿فـ﴾ قلنا له ﴿خذها﴾؛ أي: خذ الألواح واعمل بما فيها ﴿بِقُوَّةٍ﴾؛ أي: بجد ونشاط، لا بتراخ وكسل؛ فإن العلم لا يأتي إلا للمجد المشتاق، سواء كان كسبيا أو وهبيا، فلا بد لمتعاطي العلم من الكد والتعب، ومخالفة النفس قال بعضهم:
بقدر الكدّ تكتسب المعالي | ومن طلب العلا سهر اللّيالي |
تروم العزّ ثمّ تنام ليلا | يغوص البحر من طلب الّلآلي |
فجد بالرّوح والدّنيا خليلي | كذا الأوطان تدرك من سناه |
وهذا الأمر على إضمار القول كما قدرنا؛ أي: وكتبنا له في الألواح ما ذكر، وقلنا له: هذه وصايانا وأصول شريعتنا وكلياتها، فخذها بقوة وجد وعزم ذاك أنّك ستكون بها شعبا جديدا بعادات جديدة، وأخلاق جديدة، مخالفة في جوهرها وصفاتها لما كان عليه هذا الشعب من الذل والعبودية لدى فرعون وقومه، وما كانوا عليه من الشرك والوثينة التي ألفوها من فرعون وقومه، وراضت
وقيل المعنى (١): يعملوا بمحكمها، ويؤمنوا بمتشابهها، وقال بعضهم: الحسن يدخل فيه الواجب والمندوب والمباح، وأحسن هذه الثلاثة الواجبات، والمندوبات، وقال المراغي: أي: وأمر قومك بالاعتصام بهذه الموعظة، والأحكام المفصلة في الألواح التي هي منتهى الكمال والحسن، كالإخلاص لله في العبادة، إذ يتحلى العقل، وتتزكى النفس مع ترك اتخاذ الصور والتماثيل؛ لأنّها ذرائع للشرك، وسبب للوصول إليه ﴿سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ﴾ قيل (٢) هي أرض مصر التي كانت لفرعون وقومه، وقيل: منازل عاد وثمود، وقيل: هي جهنم، وقال مجاهد: وهذا المعنى أحسن، وقيل منازل الكفار من الجبابرة والعمالقة ليعتبروا بها، والمعنى على هذا القول: سأدخلكم الشام بطريق الايراث، وأريكم منزال الكافرين الذيك كانوا متوطنين فيها من الجبابرة والعمالقة لتعتبروا بها، فلا تفسقوا مثل فسقهم، وقيل: الدار بمعنى الهلاك، والمعنى: سأريكم هلاك الفاسقين والخارجين عن طاعتنا كفرعون وقومه.
وقرأ الحسن (٣): ﴿سأوريكم﴾ بواو ساكنة بعد الهمزة، على ما يقتصيه رسم المصحف، وقال الزمخشري: وهذه لغة فاشية بالحجاز، يقال: أورني كذا
(٢) الشوكاني.
(٣) البحر المحيط.
وقال المراغي: ﴿سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ﴾؛ أي (١): إن لم تأخذوا ما آتيناكم بقوة، وتتبعوا أحسنه.. كنتم فاسقين عن أمر ربكم، فيحل بكم ما حل بالفاسقين من قوم فرعون الذين أنجاكم الله منهم، ونصركم عليهم، وسيريكم ما حل بهم بعدكم من الغرق.
قال ابن كثير: أي سترون عاقبة من خالف أمري، وخرج عن طاعتي، كيف يصير إلى الهلاك والدمار.
قال ابن جرير: وإنّما قال: ﴿سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ﴾ كما يقول القائل لمن يخالفه: سؤريك غدا ما يصير إليه حال من خالف أمري، على وجه التهديد والوعيد لمن عصاه وخالف أمره، وفي الآية عبرة لمن يقرأها ويتدبر أمرها من وجوه:
١ - أن الشريعة يجب أن تتلقى بعزيمة وجد لتنفيذ ما بها من الإصلاح، وتكوين الأمة تكوينا جديدا، ومظهر ذلك الرسول المبلّغ لها والداعي إليها، والمنفذ لها بقوله وعمله، فهو الأسوة والقدوة، وهذه سنة الله في كل انقلاب وتجديد اجتماعي وسياسي، وإن لم يكن بهدى الله، فما بالك بالدين - وهو أحوج ما يكون إلى إصلاح الظاهر والباطن - وقد أخذ سلفنا الصالح القرآن بقوة بالعمل بهداية دينهم، فسادوا جميع الأمم التي كانت لها القوة الحربية والصناعية والمالية والعددية، وسعدوا به في دنياهم، وسيكونون كذلك في آخرتهم، وخلف من بعدهم خلف أعرضوا عنه، وتركوا هدايته، فشقوا في دنياهم وآخرتهم كما قال: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي
٢ - أن شعب إسرائيل عظم ملكه حين أقام شريعته بقوة، حتى إذا غلبه الغرور، وظن أن الله ينصره لنسبه، وأنّه شعب الله، ففسق وظلم.. أنزل الله به البلاء، وسلط عليهم البابليين، فأزالوا ملكه، ثم ثاب إلى رشده، فرحمه وأعاد إليه بعض ملكه، ثم ظلم وأفسد، فسلط عليه النصارى، فمزقوه كل ممزق.
٣ - أن المسلمين الذين اتبعوا سننهم، اغتروا بدينهم كما اغتروا واتكلوا على لقب الإسلام ولقب أمة محمد ولم يثوبوا إلى رشدهم، فزالت دولتهم، وذهب ريحهم، وامتلك عدوهم ناصيتهم، وجد في إفساد عقائدهم وأخلاقهم، وإيقاع الشقاق فيما بينهم، وتولى تربيتهم وتعليمهم كما يحب ويهوى، كما يرى ذلك كثيرا في أكثر بلدان المسلمين، خصوصا في الجهات التي دخلها الشيوعيون شرقا وغربا، خاصة في شرقي إفريقيا كالشعوب الأروميا التي استعبدها استعمار الحبوش، ولله الأمر من قبل ومن بعد.
١٤٦ - ﴿سَأَصْرِفُ﴾ وادفع ﴿عَنْ آياتِيَ﴾ التي جاء بها موسى وغيره من الرسل ﴿الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ﴾؛ أي: مكر الذين يتكبرون ﴿فِي الْأَرْضِ﴾ حالة كونهم ملتبسين ﴿بِغَيْرِ الْحَقِّ﴾ ويترفعون عن الإيمان بها بإهلاكهم؛ أي: سأزيل (١) الذين يتكبرون في الأرض بالدين الباطل، وأدفعهم عن إبطال آياتي بإهلاكهم على يد موسى، وإن اجتهدوا كما اجتهد فرعون في إبطال ما رآه من الآيات على يد موسى، فلا يقدرون على منع موسى من تبغليها، وعلى منع المؤمنين من الإيمان بها، وقال الشوكاني (٢): سأمنعهم فهم كتابي، وقيل: سأصرفهم عن الإيمان بها، وقيل: سأصرفهم عن نفعها مجازاة على تكبرهم، كما في قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ﴾. وقيل: سأطبع على قلوبهم حتى لا يتفكروا فيها، ولا يعتبروا بها، واختلف في تفسير الآيات فقيل: هي المعجزات، وقيل: الكتب المنزلة، وقيل:
هي خلق السموات والأرض، وصرفهم عنها أن لا يعتبروا بها، ولا مانع من
(٢) فتح القدير.
وقال المراغي: ﴿سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ...﴾ إلخ، أي: سأمنع (١) قلوب المتكبرين عن طاعتي وعلى الناس بغير حق، فهم الأدلة والحجج الدالة على عظمتي وعلى ما في شرائعي من هدى وسعادة لهم كما قال: ﴿فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ﴾. كما منعت فرعون وقومه عن فهم آيات موسى التي أوحيناها إليه، وقوله: ﴿بِغَيْرِ الْحَقِّ﴾؛ أي: بتلبسهم بالباطل، وانغماسهم فيه، إذ لا قيمة للحق عندهم، فهم لا يبحثون عنه، ولا يطلبونه، وقد تظهر لهم آياته ويجحدونها، وهم بها موقنون، كما قال تعالى في قوم فرعون: ﴿وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا﴾ ثم بين صفات المتكبرين وأحوالهم فقال:
١ - ﴿وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها﴾؛ أي: وإن يشاهدوا كل معجزة كفروا بكل واحدة منها، فهذه الجملة (٢) معطوفة على ﴿يَتَكَبَّرُونَ﴾ منتظمة معه في حكم الصلة، والمعنى: سأصرف عن آياتي المتكبرين التاركين للإيمان بما يرونه من الآيات، ويدخل تحت كل آية الآيات المنزلة، والآيات التكوينية والمعجزات، أي: لا يؤمنون بآية من الآيات كائنة ما كانت.
والمعنى (٣): أنّهم إذا رأوا الآيات التي تدل على الحق وتثبته... لا يستفيدون منها فائدة ما، فلا يؤمنون بها؛ لأنّ كثرة الآيات وتعدد أنواعها إنّما تفيد من تكون نفسه تواقة لمعرفة الحق لكنه يجهل الوصول إليه، أو يشك في الطريق الموصلة إليه، لتعارض الأدلة لديه لخفاء دلالتها، أو لسوء فهمه لها، فإذا خفيت عليه دلالة بعضها.. فقد تظهر له دلالة غيره، فتنكشف الحقيقة واضحة أمامه، وتسفر له عن وجهها، وفي هذا إيماء إلى النبي صلى الله عليه وسلّم بأن الذين يقترحون
(٢) الشوكاني.
(٣) المراغي.
٢ - ﴿وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ﴾؛ أي: سبيل الهدى والبيان الذي جاء من الله تعالى: ﴿لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا﴾؛ أي (١): لا يسلكوا سبيله؛ أي: وهم ينفرون من سبيل الهدى والرشاد، وهي السبيل المعبدة الواضحة، فإذا رأى أحدهم هذه السبيل لا يختارها لنفسه، ولا يفضلها على ما هو عليه من الغي، وهذا منتهى ما يكون من الطبع على القلب، والخروج عن جادة العقل، والفطرة، ومن الناس من يسلك هذه السبيل عن جهل، فإذا رأى لنفسه مخرجا منها ارعوى وتركها، واختار لنفسه سبيل الرشاد.
٣ - ﴿وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ﴾؛ أي: الضلال ﴿يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا﴾؛ أي: يختارونه مسلكا لأنفسهم؛ أي: إنّهم إذا رأوا سبيل الغي والضلال... هرعوا إليها، وخبوا فيها، وأوضعوا بما تزينه لهم أنفسهم من سلوكها، والسير فيها إلى آخر الحلبة، وهذه حال لهم شر من سابقتيها، وهؤلاء الذين اجتمعت لهم هذه الصفات هم الذين طبع الله على قلوبهم، وختم على سمعهم، وجعل على أبصارهم غشاوة، فسبيل الحق بغيضة إليهم، وطريقه مكروهة لديهم.
قال الشوكاني (٢): وجملة قوله: ﴿وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا﴾ معطوفة على ما قبلها، داخلة في حكمها، وكذلك جملة قوله: ﴿وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا﴾ المعنى: أنّهم إذا وجدوا سبيلا من سبل الرشد.. تركوه وتجنبوه، وإن رأوا سبيلا من سبل الغي.. سلكوه واختاروه لأنفسهم.
وقرأ حمزة والكسائي (٣): ﴿الرَّشَد﴾ بفتح الراء والشين، والباقون بضم الراء وسكون الشين. وروي عن ابن عامر بضمتين، وقال أبو عمرو بن العلاء
(٢) الشوكاني.
(٣) المراح والبحر المحيط.
ثم علل ما سلف من صرفهم عن النظر في الآيات، وعدم اعتبارهم بها فقال: ﴿ذلِكَ﴾؛ أي: تكبرهم وعدم إيمانهم بشيء من الآيات، وإعراضهم عن سبيل الرشد، وإقبالهم التام إلى سبيل الغي، حاصل ﴿بـ﴾ سبب ﴿أنهم كذبوا بآياتنا﴾ الدالة على صدق رسلنا، وباهر قدرتنا ﴿وَ﴾ بسبب أنّهم ﴿كانُوا عَنْها غافِلِينَ﴾؛ أي: كانوا معرضين عن النظر والتفكر فيها؛ أي: ذلك حاصل بسبب تكذيبهم بالآيات وغفلتهم عنها.
أي: إننا (١) عاقبناهم على تكذيبهم بالآيات والغفلة عن النظر إلى الأدلة الموصلة إلى الحق، فيما أمرنا به ونهينا عنه بالختم على قلوبهم والغشاوة على أعينهم، حتى لا يجد الحق منفذا في الوصول إليها.
والخلاصة: أنّ الله سبحانه وتعالى لم يخلق هؤلاء مطبوعين على الغي والضلال طبعا، ولم يجبرهم إجبارا ويكرههم عليه إكراها، بل كان ذلك بكسبهم واختيارهم، إذ هم آثروا التكذيب بالآيات، والصد عن السبيل الموصلة إلى الرشاد، وغفلوا عن النظر في أدلتها لشغلهم بأهوائهم، واتباع شهواتهم، وبذا لجوا في الطغيان، وتمادوا في العصيان، واحتقروا ما سوى ذلك، مما يهدي عقولهم إلى صواب الحق وسلوك طريقه، وأمثال هؤلاء هم الذين عناهم الله تعالى بقوله: ﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (١٧٩)﴾.
ذاك أنّهم رأوا أنفسهم بعيدين عن الفنون والصناعات وزخرف الحياة الذي وصل فيه الغربيون إلى الغاية القصوى، وهم عبيد شهواتهم، منصرفون عن هداية الأديان إلى أبعد غاية، فحدثتهم أنفسهم أن ينهجوا نهجهم، ويسيروا على سنتهم، علهم يصلون في ذلك إلى بعض ما وصلوا إليه، ولو ساغ لبني إسرائيل أن لا يتبعوا موسى عليه السلام؛ لأنّه لم يكن عنده من زينة الدنيا ومن الفنون والصناعات، ومن رائع المدنية مثل ما كان عند فرعون وقومه، لساغ لهم أن ينحدروا في تلك الهوة ويقعوا في تلك الحفرة، ولله في خلقه شؤون، وهو يصرف الأمور بيده، وله الأمر من قبل ومن بعد
١٤٧ - ﴿وَالَّذِينَ كَذَّبُوا﴾ وجحدوا ﴿بِآياتِنا﴾ المنزلة على رسلنا؛ أي: لم يصدقوها، ولم يأتمروا بأوامرها، ولم ينتهوا بنواهيها ﴿وَلِقاءِ الْآخِرَةِ﴾؛ أي: وكذبوا بلقائهم الدار الآخرة، وما فيها من المجازاة بالبعث والنشور، وماتوا على ذلك ﴿حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ﴾؛ أي (١): حسناتهم التي لا تتوقف على نية، كصلة الأرحام، وإغاثة الملهوفين؛ أي: لا يثابون عليها في الآخرة وإن نفعتهم في تخفيف العذاب، لكن التخفيف لا يقال له ثواب، والاستفهام في قوله: ﴿هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ﴾ إنكاري، بمعنى النفي؛ أي: ما يجزون في الآخرة إلا على ما كانوا يعملون في الدنيا من الكفر والمعاصي.
والمعنى (٢): والذين كذبوا بآياتنا المنزلة بالحق، والهدى على رسلنا، فلم يؤمنوا بها، ولم يهتدوا بهديها، وكذبوا بما يكون في الآخرة من الجزاء على الأعمال، من ثواب على الخير وعقاب على الشر، تحبط أعمالهم وتذهب
(٢) المراغي.
١٤٨ - ﴿وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى﴾؛ أي: وصاغ بنو إسرائيل ﴿مِنْ بَعْدِهِ﴾؛ أي: من بعد إنطلاق موسى عليه السلام وذهابه إلى الجبل لمناجاة ربه، وفاء للموعود الذي وعده إياه ﴿مِنْ حُلِيِّهِمْ﴾؛ أي: من حلي القبط وذهبهم التي استعاروها منهم لعلة العرس ﴿عِجْلًا﴾، أي: تبيعا وأبدل منه قوله: ﴿جَسَدًا﴾؛ أي: جرما وتمثالا، لدفع توهم أنّه صورة عجل منقوشة على حائط مثلا ﴿لَهُ خُوارٌ﴾؛ أي: له صوت مثل صوت تبيع البقر؛ أي: صاغ لهم موسى السامري - رجل منهم، وكان رجلا مطاعا فيهم، ذا منزلة واحترام؛ لأنّه رباه جبريل في الجبل -، ﴿مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا﴾ وتمثالا على صورة عجل البقر، له صوت وصياح، فقال لهم: هذا إلهكم وإله موسى فاعبدوه، وإنّما نسب الاتخاذ إليهم - مع أن الصائغ له هو موسى السامري - لأنّه عمله برأي جمهورهم الذين طلبوا أن يجعل لهم إلها يعبدونه.
قيل (١): إن بني إسرائيل كان لهم عيد يتزينون فيه، ويستعيرون من القبط الحلي، فلما أغرق الله القبط بقيت تلك الحلي في أيدي بني إسرائيل، وصارت ملكا لهم، فجمع السامري تلك الحلي - وكان رجلا مطاعا فيهم، صائغا - فصاغ السامري عجلا، وأخذ كفا من تراب حافر فرس جبريل عليه السلام، فألقاه في جوف ذلك العجل، فانقلب لحما ودما، وظهر منه الخوار مرة واحدة، فقال السامري: هذا إلهكم وإله موسى عليه السلام، وكان (٢) اسم السامري موسى بن ظفر، من قرية تسمى سامرة، وكان ابن زنا، وضعته أمه في جبل فأرسل الله جبريل فصار يرضعه من إصبعه، فكان يعرفه إذا نزل إلى الأرض، فلما نزل جبريل يوم غرق فرعون، وكان راكبا فرسا، فكان كل شيء وطئه بحافرها يخضر
(٢) الصاوي.
إذا المرء لم يخلق سعيدا من الأزل | فقد خاب من ربّى وخاب المؤمّل |
فموسى الّذي ربّاه جبريل كافر | وموسى الّذي ربّاه فرعون مرسل |
ويرى (٢) الرأي الأول قتادة والحسن البصري، في جماعة آخرين، وتعليل ذلك عندهم: أن السامري رأى جبريل حين جاوز ببني إسرائيل البحر راكبا فرسا، ما وطىء بها أرضا إلا حلت فيها الحياة، واخضر نباتها، فأخذ من أثرها قبضة فنبذها في جوف تمثال العجل، فحلت فيه الحياة وصار يخور كما يخور العجل.
ويرى جماعة آخرون الرأي الثاني، ويقولون: إن خواره كان بتأثير دخول الريح في جوفه وخروجها من فيه، ذاك أنّه صنع تمثال عجل مجوفا، ووضع في جوفه أنابيب على طريق فنية، مستمدة من دراسة علم الصوت، وجعل وضعه على مهب أنابيب الرياح، فمتى دخلت الريح في جوف التمثال انبعث منه صوت يشبه خوار العجل، وقال آخرون: بل ذلك الخوار كان تمويها وعملا منه يشبه عمل الحواة، ذاك أنّه جعل التمثال أجوف، وجعل تحت الموضع الذي نصب فيه من ينفخ فيه من حيث لا يشعر الناس، فسمعوا الصوت من جوفه كالخوار، والناس يفعلون مثل هذا في النافورات التي تجري فيها المياه، وبهذا الطريق ونحوه ظهر
(٢) المراغي.
جعل في بطن العجل بيتا يفتح ويغلق، فإذا أراد أن يخور.. أدخل غلاما يخور بعلامة بينهما إذا أراد، وقيل: يحتمل أن يكون الله أخاره ليفتن بني إسرائيل، وخواره قيل مرة واحدة ولم يثنّ، رواه أبو صالح عن ابن عباس. وقيل مرارا، فإذا خار سجدوا، وإذا سكت رفعوا رؤوسهم، وقال ابن عباس وأكثر المفسرين: إن هذا العجل قد ذبحه موسى وحرقه وذرأه في الهواء، كما سيأتي في سورة طه في قوله: ﴿لَنُحَرِّقَنَّهُ﴾ الخ.
وقرأ الكسائي وحمزة (٢): ﴿مِنْ حُلِيِّهِمْ﴾ بكسر الحاء، إتباعا لحركة اللام، كما قالوا: عصي، وهي قراءة أصحاب عبد الله ويحيى بن وثاب، وطلحة والأعمش، وقرأ باقي السبعة والحسن وأبو جعفر وشيبة بضم الحاء، وهو جمع نحو: ثدي وثديّ، وقرأ يعقوب: مِنْ حُلِيِّهِمْ بفتح الحاء وسكون اللام وهو مفرد، ويراد به الجنس، أو اسم جنس مفرده حلية، كثمر وثمرة، وأضيفت الحلي إليهم لأنّهم ملكوها غنيمة لما غرق قوم فرعون، أو أضيفت إليهم وإن كانت لغيرهم تجوزا لأدنى ملابسة.
وقرأ علي وأبو السمال وفرقة ﴿جؤار﴾ بالجيم والهمز، من جار إذا صاح بشدة صوت. فرد الله عليهم ضلالاتهم، وأبان لهم فساد آرائهم، وقرعهم على جهالاتهم فقال: ﴿أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ﴾ والاستفهام فيه للتقريع والتوبيخ؛ أي: ألم يعلم قوم موسى أنّ هذا العجل لا يكلمهم بشيء ﴿وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا﴾؛ أي: طريقا توصلهم إلى مصالحهم وسعادتهم بوجه من الوجوه.
أي: ألم يروا أنّه فاقد لما يعرف به الإله الحق من تكليمه لمن يختاره من البشر لرسالته، لتعليم عباده ما يجب عليهم معرفته من صفاته، وسبيل عبادته، كما كلم رب العالمين موسى عليه السلام، وألقى إليه الألواح التي فيها من
(٢) البحر المحيط.
وخلاصة ذلك: أنّه فاقد لأهم صفة من صفات الإله الحق، وهي صفة الهداية والإرشاد للعباد، بإرسال الرسل الذين يختارهم إلى الناس، ومرجعها صفة الكلام، ثم أكد ما سلف وقرره بقوله: ﴿اتَّخَذُوهُ﴾ أي: اتخذوا ذلك العجل إلها وعبدوه ﴿وَكانُوا ظالِمِينَ﴾ لأنفسهم حيث أعرضوا عن عبادة الله تعالى، واشتغلوا بعبادة العجل.
أي: إنهم لم يتخذوه عن دليل وبرهان، بل اتخذوه عن تقليد للمصريين، إذ رأوهم يعبدون العجل - أبيس - من قبل، وعن تقليد لما رأوه من العاكفين على أصنام لهم من بعد، فعبدوه مثلهم،
﴿وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ﴾؛ أي: ولما اشتد ندمهم على عبادة العجل، وازدادت حسرتهم على ما فرط منهم في جنب الله تعالى، وتحيروا بعد عود موسى من الميقات ﴿وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا﴾؛ أي: وعلموا أنّهم قد ضلوا ضلالا بعيدا بعبادة العجل ﴿قالُوا﴾؛ أي: قال بعضهم لبعض: إن ذنبنا لعظيم، وإن جرمنا لكبير، وإنّه لن يسعهم بعد هذا الذنب إلا رحمة الله التي وسعت كل شيء و ﴿لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا﴾ بقبول توبتنا ﴿وَيَغْفِرْ لَنا﴾ بالتجاوز عن جريمتنا ﴿لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ﴾؛ أي: من الذين خسروا سعادة الدنيا - وهي الحرية والاستقلال في أرض الموعد - وخسروا سعادة الآخرة وهي دار الكرامة والنعيم المقيم وجنات النعيم.
١٤٩ - وفي «الفتوحات» قوله: ﴿وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ﴾ هذا كناية عن (١) الندم، ومعلوم أنّ الندم متأخر عن علمهم بالخطأ، فتقديمه على الرؤية للمسارعة إلى بيانه، والإشعار بغاية سرعته، حتى كأنّه سابق على الرؤية. اه «أبو السعود».
﴿وسُقِطَ﴾ فعل ماض مبني للمجهول، وأصل الكلام: سقطت أفواههم على أيديهم، ففي بمعنى على، وذلك من شدة الندم، فإن العادة أنّ الإنسان إذا ندم بقلبه على شيء عض بفمه على أصابعه، فسقوط الأفواه على الأيدي لازم للندم،
وقرأ ابن أبي عبلة (١): ﴿أسقط في أيديهم﴾ رباعيا مبنيا للمفعول، وقرأ ابن السميقع ﴿سقط في أيديهم﴾ مبنيا للفاعل، وفاعله مضمر؛ أي: الندم، هذا قول الزجاج، وقال الزمخشري: سقط العض، وقال ابن عطية: سقط الخسران والخيبة. وكل هذه أمثلة، ذكره في «الفتوحات».
وقرأ الأخوان - حمزة والكسائي - والشعبي وابن وثاب، والجحدري وابن مصرف، والأعمش وأيوب: بالخطاب في ﴿ترحمنا وتغفر لنا﴾ ونصب ﴿ربنا﴾ على النداء حكاية لدعائهم، وفاعل الفعلين مستتر؛ أي: لئن لم تغفر أنت يا ربنا. وقرأ باقي السبعة ومجاهد والحسن والأعرج، وأبو جعفر وشيبة بن نصاح وغيرهم: ﴿يَرْحَمْنا رَبُّنا وَيَغْفِرْ لَنا﴾ بالياء فيهما، ورفع ﴿رَبُّنا﴾ على الفاعلية حكاية لأخبارهم فيما بينهم؛ أي: قال بعضهم لبعض: لئن يرحمنا ربنا ويغفر لنا، وفي مصحف أبي: ﴿قالوا ربنا لئن ترحمنا وتغفر لنا﴾ بتقديم المنادى، وهو ﴿ربنا﴾ وفي قولهم: ﴿رَبُّنا﴾ استعطاف حسن إذ الرب هو المالك الناظر في أمر عبيده، والمصلح منهم ما فسد.
١٥٠ - ﴿وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى﴾ عليه السلام من مناجاته لربه في جبل الطور ﴿إِلى قَوْمِهِ﴾ بني إسرائيل حالة كونه ﴿غَضْبانَ﴾ على أخيه هارون، إذ رأى أنّه لم يكن فيهم صلب الرأي، قوي الشكيمة، نافذ الكلمة ﴿أَسِفًا﴾؛ أي: حزينا لما فعله قومه من عبادة غير الله تعالى، وكان قد أخبره الله تعالى بذلك قبل رجوعه كما سيأتي في سورة طه: ﴿قالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (٨٥)﴾ فقوله: ﴿غَضْبانَ أَسِفًا﴾ حالان من موسى، وذكر جواب لما بقوله ﴿قالَ﴾ موسى لهم ﴿بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي﴾؛ أي: بئس وقبح خلافة خلفتمونيها ﴿مِنْ بَعْدِي﴾؛ أي: من بعد ذهابي عنكم إلى مناجاة ربي، وقد كنت لقنتكم التوحيد، وكففتكم عن الشرك، وبينت
وقد كان من الحق عليكم أن تقتفوا أثري وتتبعوا سيرتي، بيد أنّكم سلكتم ضد ذلك، فصنعتم صنما كأحد أصنامهم، فعبده بعضكم، ولم يردعكم عن ذلك باقيكم ﴿أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ﴾ والاستفهام فيه للإنكار والتوبيخ، قال صاحب «الكشاف»: المعنى: أعجلتم عن أمر ربكم - وهو انتظار موسى - حافظين لعهده وما وصاكم به، فبنيتم الأمر على أن الميعاد قد بلغ آخره، ولم أرجع إليكم فحدثتكم أنفسكم بموتي، فغيرتم كما غيرت الأمم بعد أنبيائهم.
وعبارة «المراح» هنا قوله: ﴿بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي﴾؛ أي: بئسما قمتم مقامي، وكنتم خلفائي من بعد انطلاقي إلى الجبل، وهذا الخطاب إما لعبدة العجل - السامري وأشياعه - أي: بئسما خلفتموني حيث عبدتم العجل مكان عبادة الله تعالى، وإما لهارون والمؤمنين معه؛ أي: بئسما خلفتموني حيث لم تمنعوهم من عبادة غير الله تعالى، والمخصوص بالذم محذوف تقديره: بئس خلافة خلفتمونيها من بعدي خلافتكم هذه ﴿أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ﴾؛ أي: أعجلتم وعد ربكم من الأربعين، فلم تصبروا له، وذلك أنّهم قدروا أن موسى لما لم يأت على رأس الثلاثين ليلة قد مات.
﴿وَأَلْقَى﴾ موسى ﴿الْأَلْواحَ﴾؛ أي: ألواح التوراة التي جاء بها؛ أي: وضعها في موضع ليتفرغ لما قصده من مكالمة قومه، فلما فرغ من مكالمتهم عاد إليها فأخذها؛ أي: طرحها من يديه ﴿وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ﴾؛ أي: بشعر رأس هارون بيمينه ولحيته بشماله حالة كونه ﴿يَجُرُّهُ﴾؛ أي: يجر هارون ﴿إِلَيْهِ﴾؛ أي: إلى نفسه بذؤابته لا على سبيل الإهانة، بل ليستكشف منه كيفية تلك الواقعة، ظنا منه أنه قد قصر في ردعهم وتأنيبهم، وكفهم عن عبادة العجل، كما فعل هو بتحريقه وإلقائه في اليم إن قدر، أو أن يتبعه إلى جبل الطور إن لم يستطع، كما حكى الله تعالى عنه في سورة طه ﴿يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (٩٣)﴾ ولا شك أنّ سياسة الأمم تختلف باختلاف أحوال رعاتها وسائسيها،
ثم ذكر سبحانه جواب هارون لموسى فقال: ﴿قالَ﴾ هارون لموسى ﴿ابْنَ أُمَّ﴾؛ أي: يا ابن أمي لا تعجل بلومي وتعنيفي، ولا تظنن تقصيري في جنب الله تعالى، فإنّي لم آل جهدا في الإنكار على القوم والنصح لهم ﴿إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي﴾؛ أي: ولكن القوم قد وجدوني واعتقدوني ضعيفا، ولم يرعووا لنصحي، ولم يمتثلوا لأمري ﴿وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي﴾؛ أي: بل وأوشكوا وقاربوا أن يقتلونني لأنّي نهيتهم عن عبادة العجل.
ناداه (١) نداء استعطاف وترفق، وكان شقيقه، وهي عادة العرب تتلطف وتتحنن بذكر الأم، كما قال:
يا ابن أمّي ويا شقيق نفسي
وقال آخر:
يا ابن أمّي فدتك نفسي ومالي
وأيضا: فكانت أمهما مؤمنة، قالوا: وكان أبوه مقطوعا عن القرابة بالكفر، كما قال تعالى: لنوح عليه السلام ﴿إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ﴾ وأيضا لما كان حقها أعظم، لمقاساتها الشدائد في حمله وتربيته، والشفقة عليه.. ذكره بحقها، وكان هارون أكبر من موسى بثلاث سنين، وكان كثير الحلم، ولهذا كان محببا في بني إسرائيل.
وقرأ الحرميان (٢) - نافع وابن كثير - وأبو عمرو وحفص ﴿ابْنَ أُمَّ﴾ بفتح الميم، فقال الكوفيون أصله: يا ابن أماه، فحذفت الألف تخفيفا كما حذفت في يا غلام، أصله: يا غلاما، وسقطت هاء السكت لأنّه درج، فعلى هذا الاسم معرب، إذ الألف منقلبة عن ياء المتكلم فهو مضاف إليه لابن، وقال سيبويه:
(٢) البحر المحيط.
وقرأ باقي السبعة: بكسر الميم، فقياس قول الكوفيين: أنّه معرب وحذفت ياء المتكلم، واجتزىء عنها بالكسرة، كما اجتزؤا بالفتحة عن الألف المنقلبة عن ياء المتكلم، وقال سيبويه: هو مبني أضيف إلى ياء المتكلم، كما قالوا: يا أحد عشر أقبلوا، وحذفت الياء، واجتزؤا عنها بالكسرة، وقرىء بإثبات ياء الإضافة فتقول: يا ابن أمي. وقرىء ابن أمّ بكسر الهمزة والميم. ﴿فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ﴾؛ أي: فلا تفرح الأعداء أصحاب العجل بما تفعل بي من المكروه؛ أي: فلا تفعل بي من اللوم والتقريع ما يجعل الأعداء يشمتون ويفرحون بي.
وقرأ ابن محيصن (١): ﴿تُشْمِتْ﴾ بفتح التاء وكسر الميم ونصب الأعداء.
ومجاهد كذلك، إلا أنّه فتح الميم، وعن مجاهد أيضا ﴿فَلا تُشْمِتْ﴾ بفتح التاء والميم ورفع الأعداء، وعن حميد بن قيس كذلك، إلا أنّه كسر الميم، جعلاه فعلا لازما فارتفع به الأعداء.
﴿وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾؛ أي: لا تعجلني في زمرة القوم الظالمين لأنفسهم، وهم الذين عبدو العجل، فتغضب مني كما غضبت منهم، وتؤاخذني كما آخذتهم؛ فإني لست منهم في شيء؛ أي: ولا تظن أنّي واحد من الذين عبدوا العجل مع برائتي منهم، وإنما قال هارون تلك المقالة لأنّه خاف أن يتوهم جهال بني إسرائيل أنّ موسى عليه السلام غضبان عليه، كما أنّه غضبان على عبدة العجل.
وفي هذا دليل على أنّ هارون كان دون موسى في شدة العزيمة، وقوة الإرادة، وأخذ الأمور بالحزم، وهذا ما أطبق عليه المسلمون وأهل الكتاب،
١٥١ - ثم أبان سبحانه أثر هذا الاستعطاف في قلب موسى عليه السلام فقال: ﴿قالَ﴾ موسى ﴿رَبِّ اغْفِرْ لِي﴾ فيما أقدمت على أخي هارون من هذا الغضب ﴿وَلِأَخِي﴾ في تركه
وحاصل المعنى: أي قال موسى: رب اغفر لي ما فرط مني من قول وفعل فيهما غلظة وجفاء، واغفر له ما عساه يكون قد قصر فيه من مؤاخذة القوم على ما اجترموه من الآثام، خوفا مما توقعه من الإيذاء الذي قد يصل إلى القتل، ﴿وَأَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ﴾ التي وسعت كل شيء، واغمرنا بجودك وفضلك، فأنت أرحم بعبادك من كل رحم، والآية صريحة في براءة هارون من جريمة اتخاذ العجل وفي إنكاره على متخذيه وعابديه من قومه.
الإعراب
﴿وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً﴾.
﴿وَواعَدْنا﴾ الواو استئنافية، ﴿واعَدْنا﴾: فعل وفاعل، ﴿مُوسى﴾: مفعول أول، ﴿ثَلاثِينَ﴾: مفعول ثان ولكنه على تقدير مضاف؛ أي: انقضاء ثلاثين أو تمام ثلاثين، ﴿لَيْلَةً﴾: تمييز لـ ﴿ثَلاثِينَ﴾. منصوب به، والجملة الفعلية مستأنفة، ﴿وَأَتْمَمْناها﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة معطوفة على جملة ﴿واعَدْنا﴾، بِعَشْرٍ: جار ومجرور، متعلق بـ ﴿أتممنا﴾، ﴿فَتَمَّ﴾: الفاء عاطفة تفريعية ﴿تم﴾: فعل ماض ﴿مِيقاتُ رَبِّهِ﴾: فاعل ومضاف إليه، ﴿أَرْبَعِينَ﴾: مفعول به، ﴿لَيْلَةً﴾: تمييز لـ ﴿أَرْبَعِينَ﴾ منصوب به، وجملة ﴿تم﴾ من الفعل والفاعل معطوفة مفرعة على جملة ﴿أتممنا﴾.
﴿وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ﴾.
﴿وَقالَ مُوسى﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة، ﴿لِأَخِيهِ﴾: جار ومجرور، متعلق بـ ﴿قالَ﴾، ﴿هارُونَ﴾: بدل من ﴿أخيه﴾ بدل كل من كل، أو عطف بيان منه، ﴿اخْلُفْنِي﴾ إلى آخر الآية مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿اخْلُفْنِي﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على ﴿هارُونَ﴾، والجملة في محل النصب مقول
﴿وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ﴾.
﴿وَلَمَّا﴾ الواو: استئنافية ﴿لَمَّا﴾: حرف شرط غير جازم، ﴿جاءَ مُوسى﴾: فعل وفاعل، والجملة فعل شرط لـ ﴿لَمَّا﴾ لا محل لها من الإعراب، ﴿لِمِيقاتِنا﴾: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ ﴿جاءَ﴾، ﴿وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ﴾: فعل ومفعول، وفاعل معطوف على ﴿جاءَ﴾. ﴿قالَ﴾: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على ﴿مُوسى﴾، والجملة جواب ﴿لَمَّا﴾ لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿لَمَّا﴾ مستأنفة، ﴿رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ﴾ مقول محكي لـ ﴿قالَ﴾، وإنّ شئت قلت: ﴿رَبِّ﴾: منادى مضاف حذف منه حرف النداء، وجملة النداء في محل النصب مقول ﴿قالَ﴾، ﴿أَرِنِي﴾ (أر): فعل أمر مبني على حذف حرف العلة وهي الياء، والكسرة قبلها دليل عليها، والنون نون الوقاية والياء ضمير المتكلم في محل النصب مفعول أول، والمفعول الثاني محذوف تقديره: أرني نفسك، والجملة الفعلية جواب النداء في محل النصب مقول القول، ﴿أَنْظُرْ﴾: فعل مضارع مجزوم بالطلب السابق؛ لأنّه في تقدير: فإن فعلت بي ذلك أنظر إليك، وفاعله ضمير يعود على ﴿مُوسى﴾، والجملة في محل النصب مقول القول، ﴿إِلَيْكَ﴾ متعلقان بـ ﴿أَنْظُرْ﴾ ﴿قالَ﴾: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على الرب، والجملة مستأنفة، ﴿لَنْ تَرانِي﴾ إلى قوله: ﴿فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ﴾ مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿لَنْ﴾: حرف نصب، ﴿تَرانِي﴾: فعل مضارع منصوب بـ ﴿لَنْ﴾ وعلامة نصبه فتحة مقدرة منع من ظهورها التعذر، وفاعله ضمير يعود على ﴿مُوسى﴾، والنون نون الوقاية، والياء ضمير المتكلم في محل النصب مفعول به لـ ﴿ترى﴾؛ لأنّ ترى
﴿فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقًا فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ﴾.
﴿فَإِنِ﴾ ﴿الفاء﴾: عاطفة، ﴿إن﴾: حرف شرط، ﴿اسْتَقَرَّ﴾: فعل ماض في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ الشرطية، على كونه فعل شرط لها، وفاعله ضمير يعود على ﴿الْجَبَلِ﴾، ﴿مَكانَهُ﴾ منصوب على الظرفية، متعلق بـ ﴿اسْتَقَرَّ﴾، ﴿فَسَوْفَ﴾ ﴿الفاء﴾: رابطة لجواب ﴿إن﴾ الشرطية وجوبا لكون الجواب جملة تسويفية، ﴿سوف﴾: حرف تنفيس، ﴿تَرانِي﴾ فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على ﴿مُوسى﴾، والجملة في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ الشرطية على كونها جوابا لها، وجملة ﴿إن﴾ الشرطية معطوفة على الجملة الاستدراكية: ﴿فَلَمَّا﴾ ﴿الفاء﴾: عاطفة على محذوف تقديره: فتجلى ربه للجبل، ﴿لما﴾: حرف شرط غير جازم، ﴿تَجَلَّى رَبُّهُ﴾: فعل وفاعل، ﴿لِلْجَبَلِ﴾: جار ومجرور، متعلق بـ ﴿تَجَلَّى﴾، والجملة فعل شرط لـ ﴿لما﴾. ﴿جَعَلَهُ دَكًّا﴾ فعل ومفعولان، وفاعله ضمير يعود على ﴿اللَّهِ﴾، والجملة جواب ﴿لما﴾، وجملة ﴿لما﴾ معطوفة على الجملة المحذوفة ﴿وَخَرَّ مُوسى﴾ فعل وفاعل ﴿صَعِقًا﴾ حال من موسى، والجملة معطوفة على جملة ﴿جعل﴾، ﴿فَلَمَّا﴾ ﴿الفاء﴾: عاطف على محذوف وتقديره: ثم أفاق موسى، ﴿لما﴾: حرف شرط، ﴿أَفاقَ﴾: فعل ماض وفاعله ضمير يعود على ﴿مُوسى﴾، والجملة فعل شرط لـ ﴿لما﴾، ﴿قالَ﴾: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على ﴿مُوسى﴾، والجملة جواب لما، وجملة لما معطوف على جملة محذوفة، ﴿سُبْحانَكَ﴾... إلى آخر الآية مقول محكي لـ ﴿قالَ﴾، وإنّ شئت قلت: ﴿سُبْحانَكَ﴾: منصوب على المفعولية المطلقة بفعل محذوف وجوبا تقديره: أسبحك سبحانا، والجملة المحذوفة في محل النصب مقول ﴿قالَ﴾، ﴿تُبْتُ﴾:
﴿قالَ يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ ما آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (١٤٤)﴾.
﴿قالَ﴾: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على ﴿اللَّهِ﴾، والجملة مستأنفة ﴿يا مُوسى﴾ إلى آخر الآية مقول محكي لـ ﴿قالَ﴾، وإن شئت قلت: ﴿يا مُوسى﴾ منادى مفرد العلم، وجملة النداء في محل النصب مقول ﴿قالَ﴾، ﴿إِنِّي﴾ ﴿إن﴾: حرف نصب، والياء اسمها ﴿اصْطَفَيْتُكَ﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل الرفع خبر ﴿إن﴾، وجملة ﴿إن﴾ في محل النصب مقول ﴿قالَ﴾ على كونها جواب النداء، ﴿عَلَى النَّاسِ﴾: جار ومجرور، متعلق بـ ﴿اصطفى﴾، ﴿بِرِسالاتِي﴾: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق أيضا بـ ﴿اصطفى﴾، ﴿وَبِكَلامِي﴾: جار ومجرور، معطوف على الجار والمجرور قبله، وكرر حرف الجر تنبيها على مغايرة الاصطفاء للكلام، كما في السمين، ﴿فَخُذْ﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة، ﴿خذ﴾: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على ﴿مُوسى﴾ والجملة في محل النصب، معطوفة على جملة ﴿إِنِّي﴾ على كونها مقول ﴿قالَ﴾، ﴿ما﴾: موصولة أو موصوفة في محل النصب مفعول به، ﴿آتَيْتُكَ﴾: فعل وفاعل ومفعول أول، والمفعول الثاني محذوف تقديره: آتيتكه، والجملة صلة لـ ﴿ما﴾: أو صفة لها، والعائد أو الرابط الضمير المحذوف من ﴿آتَيْتُكَ﴾، ﴿وَكُنْ﴾: فعل ناقص واسمه، ضمير يعود على موسى، ﴿مِنَ الشَّاكِرِينَ﴾: جار ومجرور خبر ﴿كُنْ﴾، وجملة ﴿كُنْ﴾ من اسمها وخبرها في محل النصب، معطوفة على جملة قوله: ﴿فَخُذْ ما آتَيْتُكَ﴾.
﴿وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ﴾.
﴿وَكَتَبْنا﴾ الواو: استئنافية ﴿كَتَبْنا﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة، ﴿لَهُ﴾: جار ومجرور، متعلق بـ ﴿كَتَبْنا﴾، وكذا يتعلق به قوله: ﴿فِي الْأَلْواحِ﴾،
﴿فَخُذْها بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ﴾.
﴿فَخُذْها﴾ ﴿الفاء﴾: عاطفة داخلة على قول محذوف تقديره: فقلنا له خذها، وجملة القول المحذوف معطوفة على جملة ﴿كَتَبْنا﴾ ﴿خذها﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على ﴿مُوسى﴾، والجملة في محل النصب مقول للقول المحذوف الذي قدرناه آنفا، ﴿بِقُوَّةٍ﴾: جار ومجرور حال من فاعل ﴿خذها﴾؛ أي: خذها حال كونك متلبسا بقوة ونشاط، لا بتكاسل وغفلة، ﴿وَأْمُرْ﴾: فعل أمر وفاعله ضمير يعود على ﴿مُوسى﴾، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة ﴿خذها﴾، ﴿قَوْمَكَ﴾: مفعول به ومضاف إليه، ﴿يَأْخُذُوا﴾ فعل وفاعل مجزوم بالطلب السابق تقديره: إن أمرتهم يأخذوا، ﴿بِأَحْسَنِها﴾: جار ومجرور، متعلق بـ ﴿يَأْخُذُوا﴾، ﴿سَأُرِيكُمْ﴾: فعل ومفعول أول، وفاعله ضمير يعود على ﴿اللَّهِ﴾، ﴿دارَ الْفاسِقِينَ﴾: مفعول به ومضاف إليه، والجملة مستأنفة.
﴿سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا﴾.
﴿سَأَصْرِفُ﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة مستأنفة مسوقة لتحذيرهم عن التكبر الموجب لعدم التفكر في الآيات، التي هي ما كتب في ألواح التوارة أو ما يعمها وغيرها، ﴿عَنْ آياتِيَ﴾: جار ومجرور، متعلق بـ ﴿أصرف﴾. ﴿الَّذِينَ﴾: اسم موصول للجمع في محل النصب مفعول به، ﴿يَتَكَبَّرُونَ﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، ﴿فِي الْأَرْضِ﴾: متعلق بـ ﴿يَتَكَبَّرُونَ﴾، ﴿بِغَيْرِ الْحَقِّ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه، حال من ﴿الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ﴾؛ أي: حالة كونهم ملتبسين بالدين غير الحق، ﴿وَإِنْ﴾: الواو: عاطفة ﴿إِنْ﴾ حرف شرط، ﴿يَرَوْا﴾: فعل وفاعل مجزوم بإن الشرطية، ﴿كُلَّ آيَةٍ﴾: مفعول به لـ ﴿يَرَوْا﴾؛ لأنّ رأى بصرية تتعدى إلى مفعول واحد، ﴿لا يُؤْمِنُوا﴾:
﴿وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ﴾.
﴿وَإِنْ﴾ الواو: عاطفة ﴿إِنْ يَرَوْا﴾: فعل وفاعل مجزوم بإن على كونه فعل شرط لها، ﴿سَبِيلَ الغَيِّ﴾: مفعول به ومضاف إليه، ﴿يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا﴾: فعل وفاعل ومفعولان مجزوم بإن الشرطية على كونه جوابا لها، وجملة ﴿إِنْ﴾ الشرطية معطوفة على جملة الصلة أيضا. ﴿ذلِكَ﴾: مبتدأ ﴿بِأَنَّهُمْ﴾: ﴿الباء﴾: حرف جر، وسبب، ﴿أنّهم﴾: ناصب واسمه، ﴿كَذَّبُوا﴾: فعل وفاعل، ﴿بِآياتِنا﴾: جار ومجرور، متعلق به، ﴿وَكانُوا﴾ فعل ناقص واسمه، ﴿عَنْها﴾ متعلق بـ ﴿غافِلِينَ﴾ ﴿غافِلِينَ﴾ خبر كان، وجملة كان في محل الرفع، معطوفة على جملة ﴿كَذَّبُوا﴾، وجملة ﴿كَذَّبُوا﴾ في محل الرفع خبر أنّ، وجملة أن من اسمها وخبرها في تأويل مصدر مجرور بالباء، والجار والمجرور متعلق بمحذوف خبر المبتدأ تقديره: ذلك الصرف المذكور عن آياتنا كائن بسبب تكذيبهم آياتنا، وبسبب غفلتهم عنها، والجملة الاسمية مستأنفة استئنافا بيانيا.
﴿وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٤٧)﴾.
﴿وَالَّذِينَ﴾: مبتدأ، وجملة ﴿كَذَّبُوا﴾ صلة الموصول ﴿بِآياتِنا﴾: جار ومجرور، متعلق بـ ﴿كَذَّبُوا﴾، ﴿وَلِقاءِ الْآخِرَةِ﴾: معطوف على ﴿آياتنا﴾ مجرور بالكسرة الظاهرة، ﴿حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ﴾: فعل وفاعل، والجملة الفعلية في محل
﴿وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكانُوا ظالِمِينَ (١٤٨)﴾.
﴿وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى﴾: فعل وفاعل ومضاف إليه، والجملة مستأنفة، ﴿مِنْ بَعْدِهِ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ اتَّخَذَ، ﴿مِنْ حُلِيِّهِمْ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ ﴿اتَّخَذَ﴾ أيضا، وجاز (١) تعلق حرفي جر بلفظ واحد بعامل واحد، لاختلاف مدلوليهما؛ لأنّ ﴿مِنْ﴾ الأولى لابتداء الغاية والثانية للتبعيض، وأجاز أبو البقاء أن يكون ﴿مِنْ حُلِيِّهِمْ﴾: في موضع الحال، فيتعلق بمحذوف؛ لأنه لو تأخر لكان صفة؛ أي: عجلا كائنا من حليهم ﴿عِجْلًا﴾: مفعول أول لـ ﴿اتَّخَذَ﴾. ﴿جَسَدًا﴾: بدل من ﴿عِجْلًا﴾ أو عطف بيان منه أو صفة له. اه. والمفعول الثاني محذوف تقديره: واتخذوا عجلا جسدا له خوار إلها ﴿لَهُ خُوارٌ﴾ مبتدأ، وخبر، والجملة في محل النصب صفة ﴿عِجْلًا﴾. ﴿أَلَمْ يَرَوْا﴾: ﴿الهمزة﴾: للاستفهام التقريري، وقالوا: الهمزة للاستفهام الإنكاري التقريعي، ﴿لَمْ يَرَوْا﴾: جازم وفعل وفاعل، والجملة الفعلية إنشائية لا ملح لها من الإعراب ﴿أَنَّهُ﴾ ناصب واسمه، والضمير عائد للعجل، ﴿لا يُكَلِّمُهُمْ﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على العجل، والجملة في محل الرفع خبر أنّ، ﴿وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا﴾: فعل ومفعولان، وفاعله ضمير يعود على العجل، والجملة في محل الرفع معطوفة على جملة قوله: ﴿لا يُكَلِّمُهُمْ﴾ على كونها خبرا لـ ﴿أن﴾،
﴿وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا وَيَغْفِرْ لَنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (١٤٩)﴾.
﴿وَلَمَّا﴾ الواو: استئنافية، ﴿لَمَّا﴾: حرف شرط غير جازم ﴿سُقِطَ﴾: فعل ماض مغير الصيغة ﴿فِي أَيْدِيهِمْ﴾: جار ومجرور في محل الرفع نائب فاعل، وأصله سقطت أفواههم على أيديهم، ففي بمعنى على، والجملة فعل شرط لـ ﴿لَمَّا﴾ لا محل لها من الإعراب، ﴿وَرَأَوْا﴾: فعل وفاعل معطوف على ﴿سُقِطَ﴾، ﴿أَنَّهُمْ﴾ ناصب واسمه، وجملة ﴿قَدْ ضَلُّوا﴾ في محل الرفع خبر ﴿أن﴾، وجملة ﴿أن﴾ في تأويل مصدر ساد مسد مفعولي رأى تقديره: ورأوا ضلالهم، ﴿قالُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة جواب ﴿لَمَّا﴾، وجملة ﴿لَمَّا﴾ من فعل شرطها وجوابها مستأنفة، ﴿لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا﴾ إلى آخر الآية: مقول محكي، وإن شئت قلت: لَئِنْ، ﴿اللام﴾: موطئة للقسم المحذوف، ﴿إن﴾: حرف شرط جازم، ﴿لَمْ﴾: حرف نفي وجزم، ﴿يَرْحَمْنا﴾: فعل ومفعول مجزوم بـ ﴿لَئِنْ﴾، ﴿رَبُّنا﴾: فاعل، والجملة الفعلية في محل الجزم، بـ ﴿إن﴾ على كونها فعل شرط لها، ﴿وَيَغْفِرْ لَنا﴾ معطوف على ﴿يَرْحَمْنا﴾، وجواب ﴿إن﴾ الشرطية محذوف دل عليه جواب القسم الآتي تقديره: إن لم يرحمنا نكن من الخاسرين، وجملة ﴿إن﴾ الشرطية في محل النصب مقول ﴿قالُوا﴾، ﴿لَنَكُونَنَّ﴾ ﴿اللام﴾: موطئة للقسم، مؤكدة للأولى، زيدت إشعارا بأنّ ما بعدها جواب القسم لا جواب الشرط، لتقدم القسم عليه، ﴿نكونن﴾ فعل مضارع ناقص في محل الرفع لتجرده عن الناصب والجازم، مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد، واسمها ضمير يعود على المتخذين عجلا، ﴿مِنَ الْخاسِرِينَ﴾: جار ومجرور خبر نكون، وجملة نكون جواب القسم لا محل
﴿وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفًا قالَ بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْواحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ﴾.
﴿وَلَمَّا﴾ الواو: عاطفة ﴿لَمَّا﴾: حرف شرط، ﴿رَجَعَ مُوسى﴾: فعل وفاعل، والجملة فعل شرط لـ ﴿لَمَّا﴾، ﴿إِلى قَوْمِهِ﴾ متعلق: بـ ﴿رَجَعَ﴾ ﴿غَضْبانَ أَسِفًا﴾: حالان من ﴿مُوسى﴾ عند من يجيز تعدد الحال، وقيل: ﴿أَسِفًا﴾: بدل من ﴿غَضْبانَ﴾ بدل بعض من كل، أو بدل اشتمال ﴿قالَ﴾: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على ﴿مُوسى﴾، والجملة جواب ﴿لَمَّا﴾، وجملة لما معطوفة على جملة قوله: ﴿وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى﴾، أو مستأنفة ﴿بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ﴾ مقول محكي لـ ﴿قالَ﴾ وإن شئت قلت: ﴿بِئْسَما﴾: فعل ماض لإنشاء الذم، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره: هو، يعود على الشيء المبهم و ﴿ما﴾: نكرة موصوفة في محل النصب على التمييز لفاعل بئس، ﴿خَلَفْتُمُونِي﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل النصب صفة ﴿لَمَّا﴾، والرابط محذوف تقديره: بئس الشيء خلافة خلفتمونيها، والمخصوص بالذم محذوف تقديره: خلافتكم، وجملة بئس في محل النصب مقول ﴿قالَ﴾ ﴿مِنْ بَعْدِي﴾: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ ﴿خَلَفْتُمُونِي﴾ ﴿أَعَجِلْتُمْ﴾ ﴿الهمزة﴾: للاستفهام التوبيخي التقريعي، ﴿عَجِلْتُمْ﴾: فعل وفاعل، والجملة في محل النصب مقول ﴿قالَ﴾ ﴿أَمْرَ رَبِّكُمْ﴾: مفعول به ومضاف إليه، عداه إلى المفعول بلا واسطة حرف جر لتضمينه معنى سبق، والأصل: أعجلتم عن أمر ربكم ﴿وَأَلْقَى الْأَلْواحَ﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على ﴿مُوسى﴾، والجملة معطوفة على جملة ﴿قالَ﴾، ﴿وَأَخَذَ﴾. فعل ماض معطوف على ﴿أَلْقَى﴾ وفاعله ضمير يعود على ﴿مُوسى﴾ ﴿بِرَأْسِ أَخِيهِ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ ﴿أَخَذَ﴾ ﴿يَجُرُّهُ﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على ﴿مُوسى﴾، ﴿إِلَيْهِ﴾، متعلق به، والجملة في محل النصب حال من فاعل ﴿أَخَذَ﴾.
{قالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ وَلا
﴿قالَ﴾: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على ﴿هارُونَ﴾، والجملة مستأنفة، ﴿ابْنَ أُمَّ﴾ إلى آخر الآية. مقول محكي لـ ﴿قالَ﴾ وإن شئت قلت: ﴿ابْنَ﴾: منادى مضاف حذف منه حرف النداء، وعلامة نصبه فتحة ظاهرة في آخره، ﴿ابْنَ﴾ مضاف، ﴿أُمَّ﴾: مضاف إليه مجرور وعلامة جره كسرة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم المنقلبة ألفا للتخفيف، بعد قلب الكسرة فتحة، المحذوفة تلك الألف اجتزاء عنها بالفتحة، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة المناسبة؛ لأنّ ما قبل ياء المتكلم لا يكون إلا مكسورا، ﴿أُمَّ﴾: مضاف، وياء المتكلم المنقلبة ألفا للتخفيف في محل الجر مضاف إليه، مبني على السكون، هذا على قراءة فتح ميم ﴿أم﴾. وأما على قراءة كسر ميم ﴿أُمَّ﴾ فتقول في إعرابه ﴿ابْنَ﴾: مضاف، ﴿أُمَّ﴾: مضاف إليه مجرور بالمضاف، وعلامة جره كسرة مقدرة منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة المناسبة لياء المتكلم المحذوفة، اجتزاء عنها بالكسرة ﴿أُمَّ﴾ مضاف، وياء المتكلم المحذوفة اجتزاء عنها بالكسرة في محل الجر مضاف إليه، وجملة النداء في محل النصب مقول ﴿قالَ﴾، ﴿إِنَّ الْقَوْمَ﴾: ناصب واسمه، ﴿اسْتَضْعَفُونِي﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل الرفع خبر ﴿إِنَّ﴾، وجملة ﴿إِنَّ﴾ في محل النصب مقول ﴿قالَ﴾ على كونها جواب النداء، ﴿وَكادُوا﴾: فعل ناقص واسمه، وهو من أفعال المقاربة، ﴿يَقْتُلُونَنِي﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل النصب خبر ﴿كادُوا﴾، جملة كاد في محل الرفع معطوفة على جملة ﴿اسْتَضْعَفُونِي﴾ على كونها خبرا لـ ﴿إِنَّ﴾ ﴿فَلا﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة تقريعية ﴿لا﴾: ناهية جازمة ﴿تُشْمِتْ﴾: فعل مضارع مجزوم بـ ﴿لا﴾ الناهية، وفاعله ضمير يعود على ﴿مُوسى﴾، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة ﴿إِنَّ﴾ على كونها مقولا لـ ﴿قالَ﴾، ﴿بِيَ﴾: جار ومجرور، متعلق بـ ﴿تُشْمِتْ﴾، ﴿الْأَعْداءَ﴾: مفعول به، ﴿وَلا تَجْعَلْنِي﴾: جازم وفعل ومفعول أول، وفاعله ضمير يعود على ﴿مُوسى﴾، ﴿مَعَ الْقَوْمِ﴾: ظرف ومضاف إليه في محل المفعول الثاني لجعل، ﴿الظَّالِمِينَ﴾: صفة لـ ﴿الْقَوْمَ﴾ وجملة ﴿لا تَجْعَلْنِي﴾ في محل النصب معطوفة على جملة قوله: ﴿فَلا تُشْمِتْ﴾.
﴿قالَ﴾: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على ﴿مُوسى﴾، والجملة مستأنفة ﴿رَبِّ اغْفِرْ لِي﴾ إلى آخر الآية مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿رَبِّ﴾: منادى مضاف حذف منه حرف النداء، وجملة النداء في محل النصب مقول ﴿قالَ﴾ ﴿اغْفِرْ﴾: فعل دعاء مبني على السكون، وفاعله ضمير يعود على ﴿اللَّهِ﴾، ﴿لِي﴾: جار ومجرور، متعلق بـ ﴿اغْفِرْ﴾، ﴿وَلِأَخِي﴾، معطوف عليه، والجملة الفعلية في محل النصب مقول ﴿قالَ﴾ على كونها جواب النداء، ﴿وَأَدْخِلْنا﴾: فعل ومفعول، معطوف على ﴿اغْفِرْ﴾ وفاعله ضمير يعود على الرب جل جلاله، ﴿فِي رَحْمَتِكَ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ ﴿أَدْخِلْنا﴾، ﴿وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾: مبتدأ وخبر ومضاف إليه، والجملة في محل النصب حال من فاعل ﴿أَدْخِلْنا﴾.
التصريف ومفردات اللغة
﴿وَواعَدْنا﴾: من باب فاعل الرباعي، يتعدى إلى مفعولين؛ أي: واعدناه بأن نكلمه عند انتهاء ثلاثين ليلة يصومها ﴿مِيقاتُ رَبِّهِ﴾ الميقات الوقت الذي يقرر فيه عمل من الأعمال، كمواقيت الحج، ومواقيت الصلاة ﴿اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي﴾؛ أي: كن خليفتي في سياسة القوم، وإصلاح أمورهم، دينا ودنيا، ﴿فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ﴾ يقال: جلا الشيء والأمر، وانجلى وتجلى، إذا ظهر، وجلاه فتجلى: إذا انكشف ووضح بعد خفاء في نفسه، أو على مجتليه وطالبه، وجلوت العروس بمعنى: أبرزته، وجلوت السيف أخلصته من الصداء، والمعنى: لما ظهر ربه للجبل ﴿جَعَلَهُ دَكًّا﴾ والدك الدق، وهو تفتيت الشيء أو سحقه، وقيل: تسويته بالأرض، وهو مصدر بمعنى المفعول؛ أي: جعله مدكوكا مدقوقا، فصار ترابا، هذا على قراءة من قرأ ﴿دَكًّا﴾ بالمصدر، وهم أهل المدينة، وأهل البصرة. وأما على قراءة أهل الكوفة ﴿جعله دكاء﴾ على التأنيث والجمع دكاوات كحمراء وحمراوات، وهي اسم للرابية الناشزة من الأرض، أو للأرض المستوية، فالمعنى: أنّ الجبل صار صغيرا كالرابية، أو أرضا مستوية ﴿وَخَرَّ مُوسى صَعِقًا﴾
﴿إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي﴾ والاصطفاء وكذا الاجتباء: اختيار صفوة الشيء؛ أي: خالصه الذي لا شائبة فيه ﴿بِرِسالاتِي﴾ والمراد به المصدر؛ أي: بإرسالي إياك، أو على أنّه على حذف مضاف؛ أي: بتبليغ رسالتي ﴿وَبِكَلامِي﴾ يحتمل أن يراد به المصدر؛ أي: بتكليمي إياك، فيكون كقوله: ﴿وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيمًا﴾. ويحتمل أن يراد به التوراة، وما أوحاه إليه من قولهم:
القرآن كلام الله، تسمية للشيء باسم المصدر، وقدم الرسالة على الكلام لأنّها أسبق، أو ليترقى إلى الأشرف، وكرر حرف الجر تنبيها على مغايرة الاصطفاء للكلام كما مر.
﴿سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ﴾ التكبر: التكثر، من الكبر وهو: غمط الحق بعدم الخضوع له، ويصحبه احتقار الناس، فصاحبه يرى أنّه أكبر من أن يخضع لحق أو يساوي نفسه بشخص، والرشد والرشد والرشاد مصادر، كالسقم والسقم والسقام، واختلف في معنى الرشد والرشد، هل هما بمعنى واحد أم لا؟ فقال الجمهور: نعم هما لغتان في المصدر، كالبخل والبخل، والسّقم والسّقم، والحزن والحزن. وقال أبو عمرو بن العلاء: الرشد - بضم فسكون - الصلاح في النظر، وبفتحتين في الدين قال: ولذلك أجمعوا على قوله: ﴿فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا﴾ بالضم والسكون، وعلى قوله: ﴿فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا﴾ بفتحتين، وروي عن ابن عامر: ﴿الرشد﴾ - بضمتين - فكأنّه من باب الإتباع اه «سمين». وبالجملة الرشد الصلاح والاستقامة، وضده الغي والفساد،
﴿وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ﴾ الحلي - بضم الحاء وكسر اللام وتشديد الياء - جمع حلي، بفتح الحاء وسكون اللام وتخفيف الياء، كثدي وثدي، وأصله حلوي، اجتمعت الواو والياء، وسبقت الواو بالسكون، فقلبت ياء، وادغمت في الياء وكسرت اللام لأجل الياء ﴿عِجْلًا﴾ والعجل ولد البقر من العراب، أو الجواميس، كالحوار لولد الناقة، والمهر لولد الفرس ﴿جَسَدًا﴾ الجسد: الجثة، وبدن الإنسان، والشيء الأحمر كالذهب والزعفران والدم الجاف ﴿لَهُ خُوارٌ﴾ والخوار: صوت البقر، كالرغاء لصوت الإبل، والخور الضعف، ومنه أرض خوارة وريح خوارة، والخوران مجرى الروث، وصوت البهائم أيضا ﴿وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ﴾ وسقط (١) في يده، وأسقط في يده - بضم أولهما بالبناء للمفعول، أي: ندم ويقولون: فلان مسقوط في يده، وساقط في يده؛ أي: نادم.
قال في «العباب» و «تاج العروس» هذا نظم لم يسمع قبل القرآن، ولا عرفته العرب، وذكرت اليد لأنّ الندم يحدث في القلب، وأثره يظهر فيها بعضّها، أو الضرب بها على أختها، كما قال سبحانه في النادم: ﴿فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها﴾؛ لأنّ اليد هي الجارحة العظمى، وربما يسند إليها ما لم تباشره كقوله تعالى: ﴿ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ﴾.
وقال الزمخشري (٢): ﴿وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ﴾؛ أي: ولما اشتد ندمهم؛ لأنّ من شأن من اشتد ندمه وحزنه أن يعض يده غما، فتصير يده مسقوطا فيها؛ لأن فاه قد وقع فيها؛ وقيل: من عادة النادم أن يطأطىء رأسه، ويضع ذقنه على يده معتمدا عليها ويصير على هيئة لو نزعت يده لسقط على وجهه، فكأن اليد مسقوط فيها، وفي بمعنى على، فمعنى ﴿فِي أَيْدِيهِمْ﴾ على أيديهم كقوله: ﴿وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ﴾ وأعلم أن (سقط في يده) عده بعضهم في الأفعال التي لا تتصرف كنعم وبئس ﴿أَسِفًا﴾ الأسف (٣) الحزن والغضب.
(٢) الفتوحات.
(٣) المراغي.
﴿فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ﴾ أصل الشماتة الفرح ببلية من تعاديه ويعاديك، يقال: شمت فلان بفلان إذا سر بمكروه نزل به، والمعنى: لا تسر الأعداء بما تفعل بي من المكروه. اه «خازن»، وفي «المصباح» شمت به يشمت، من باب سلم إذا فرح بمصيبة نزلت به، والاسم الشماتة، وأشمت الله به العدو اه.
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات أنواعا من البلاغة والفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: التكرار في قوله: ﴿فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ﴾ وقوله: ﴿وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ﴾ وفي قوله: ﴿فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ﴾، وفي قوله: ﴿رَبِّ أَرِنِي﴾.
ومنها: الجناس المماثل في قوله: ﴿أَرِنِي﴾، ﴿لَنْ تَرانِي﴾: ﴿فَسَوْفَ تَرانِي﴾ وفي قوله: ﴿أَنْظُرْ إِلَيْكَ﴾ و ﴿انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ﴾.
ومنها: الطباق في قوله: ﴿وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ﴾؛ لأنّه بمعنى ولا تفسد فيهم، وفي قوله: ﴿وَخَرَّ مُوسى صَعِقًا فَلَمَّا أَفاقَ﴾.
ومنها: إرادة الخصوص بما ظاهره العموم في قوله: ﴿وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ﴾؛ أي: من قومه، وفي قوله: ﴿إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ﴾؛ أي: من أهل عصره.
ومنها: التكرار في قوله: ﴿مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ﴾، وفي قوله ﴿وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ﴾، ﴿وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ﴾، ﴿وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ﴾.
ومنها: التكرار والتأكيد في قوله: ﴿وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى﴾ مع قوله: ﴿اتَّخَذُوهُ وَكانُوا ظالِمِينَ﴾.
ومنها: المجاز المرسل في قوله: ﴿وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ﴾؛ لأنّ الذي صاغه موسى السامري، فأسند ما للبعض إلى الكل لرضاهم به، من إطلاق ما للبعض على الكل.
ومنها: الإضافة لأدنى ملابسة في قوله: ﴿مِنْ حُلِيِّهِمْ﴾؛ لأنّ الحلى للقبطيين، فاستعاروه لغرض العرس.
ومنها: الإبدال في قوله: ﴿جَسَدًا﴾؛ لدفع التوهم؛ لأنّه أبدله من ﴿عِجْلًا﴾ لدفع توهم أنّه صورة عجل منقوشة على حائط مثلا.
ومنها: الالتفات من الغيبة إلى الخطاب في قوله: ﴿سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ﴾، للمبالغة في الحض على سلوك نهج الصالحين، والأصل: سأريهم؛ أي: قومك.
ومنها: الكناية في قوله: ﴿وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ﴾؛ لأنّه كناية عن الندم، فإن العادة أن الإنسان إذا ندم بقلبه على شيء عض بفمه على أصبعه، فسقوط الأفواه على الأيدي لازم للندم، فأطلق اسم اللازم، وأريد الملزوم على سبيل الكناية.
ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في استعارة لفظ ﴿فِي﴾ لمعنى (على) في قوله: ﴿وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ﴾؛ أي: على أيديهم، شبه الاستعلاء الكلي بالظرفية الكلية، بجامع التمكن في كل، واستعير لفظ الطرفية للاستعلاء؛ أي: يقدر ذلك، فسرى التشبيه من الكليات إلى الجزئيات التي هي معاني الحروف، فاستعير لفظ (في) الموضوعة لكل جزئي من جزئيات الظرفية لمعنى ﴿على﴾، وهو الاستعلاء الخاص؛ أي: المقيد بالسقوط في هذا المثال، على سبيل الاستعارة التصريحية التبعية.
ومنها: الاستعارة التصريحية الأصلية في قوله: ﴿سَبِيلَ الرُّشْدِ﴾ و ﴿سَبِيلَ الغَيِّ﴾؛ لأنّ السبيل حقيقة في مكان المرور، فاستعاره للإيمان والضلال اللذين
ومنها: الاستفهام الإنكاري (١) في قوله: ﴿أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ﴾ حيث عبدوا جمادا أو حيوانا عاجزا، عليه آثار الصنعة، لا يمكن أن يتكلم، أو لا يهدي، وقد ركز في العقول أن من كان بهذه المثابة.. استحال أن يكون إلها، وهذا نوع من أنواع البلاغة يسمى الاحتجاج النظري، وبعضهم يسميه المذهب الكلامي.
ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
﴿إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (١٥٢) وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٥٣) وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْواحَ وَفِي نُسْخَتِها هُدىً وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (١٥٤) وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقاتِنا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ أَنْتَ وَلِيُّنا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ (١٥٥) وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ (١٥٦) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٥٧) قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِماتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٥٨) وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (١٥٩) وَقَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطًا أُمَمًا وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (١٦٠)﴾.
المناسبة
قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر (١) عتاب موسى لأخيه هارون عليهما
قوله تعالى: ﴿وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ...﴾ مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر حال القوم، وقسمهم إلى قسمين: مصرّ على الذنب وعبادة العجل، وتائب منيب إلى ربه، وبين مآل كل من القسمين.. ذكر هنا بيان حال موسى بعد أن سكنت ثورة غضبه وهدأ روعه.
قوله تعالى: ﴿وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر كتابته للرحمة لمن يتبع محمدا صلى الله عليه وسلّم من قوم موسى، ووصفهم بأنّهم هم المفلحون.. ذكر هنا حال خواص أتباع موسى عليه السلام الذين كانوا متبعين له حق الإتباع، وعطفهم على المهتدين باتباع خاتم النبيين صلى الله عليه وسلّم.
التفسير وأوجه القراءة
١٥٢ - ﴿إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ﴾ إلها؛ أي: عبدوا العجل واستمروا على عبادته، كالسامري وأشياعه ﴿سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ﴾؛ أي: سيصيبهم غضب وسخط وعقوبة كائنة من ربهم في الحياة الدنيا، وهو ما أمروا به من قتل أنفسهم توبة ﴿وَذِلَّةٌ﴾؛ أي: ذل وهوان ومسكنة ﴿فِي الْحَياةِ الدُّنْيا﴾ منتظرة لهم ولأولادهم جميعا إلى يوم القيامة، والذلة (١) التي اختص بها السامري هو الإنفراد عن الناس، والابتلاء بلا مساس، ويروى أن بقاياهم اليوم يقولون ذلك؛ أي: لا مساس، وإذا مس أحدهم أحدا غيرهم.. حمّا جميعا في الوقت.
والمعنى (٢): أن الذين بقوا على اتخاذ العجل واستمروا عليه كالسامري وأشياعه، سيصيبهم غضب من ربهم في الحياة الدنيا، بأن لا يقبل توبتهم إلا إذا قتلوا أنفسهم، وذلة عظيمة في الحياة الدنيا، وبالخروج من الديار والغربة عن
(٢) المراغي.
قال في «الخازن»: ثم للمفسرين في هذه الآية قولان:
أحدهما: أن المراد بالذين اتخذوا العجل، الذين باشروا عبادته، وعلى هذا القول ففي الآية سؤال وهو: أن أولئك الأقوام الذين اتخذوا العجل تابوا إلى الله تعالى بقتلهم أنفسهم، كما أمرهم الله تعالى، فتاب عليهم، فكيف ينالهم الغضب والذلة مع التوبة؟ والجواب: أن ذلك الغضب إنما حصل لهم في الدنيا، وهو نفس القتل، فكان ذلك القتل غضبا عليهم، والمراد بالذلة هو: إسلامهم أنفسهم للقتل، واعترافهم على أنفسهم بالضلال والخطأ.
فإن قلت: السين في قوله: ﴿سَيَنالُهُمْ﴾ للاستقبال، فكيف تكون للماضي؟
قلت: هذا الكلام إنّما هو خبر عما أخبر الله به موسى عليه السلام حين أخبره بافتتان قومه، واتخاذهم العجل، ثم أخبره الله في ذلك الوقت أنّه ﴿سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ﴾ فكان هذا الكلام سابقا لوقوعه، وهو القتل الذي أمرهم الله به بعد ذلك.
والقول الثاني: أنّ المراد بالذين اتخذوا العجل اليهود الذين كانوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلّم كما مر عن الواحدي آنفا. انتهى مع زيادة.
﴿وَكَذلِكَ﴾؛ أي: وكما جزينا هؤلاء الذين اتخذوا العجل إلها في الحياة الدنيا ﴿نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ﴾؛ أي: نجزي كل من افترى على الله كذبا وعبد غيره في كل زمان، إذ فضحوا بظهور افترائهم كما فضح هؤلاء، قال (٢) الحسن البصري: إنّ ذل البدعة على أكتافهم وإن هملجت (٣) بهم البغال، وطقطقت بهم البراذين،
(٢) المراغي.
(٣) هملجت الدّابة: سارت سيرا حسنا في سرعة.
١٥٣ - ﴿وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ﴾ من الكفر والمعاصي غيره ﴿ثُمَّ تابُوا﴾؛ أي: رجعوا إلى الله تعالى ﴿مِنْ بَعْدِها﴾؛ أي: من بعد عمل السيئات، بأن رجع الكافر عن كفره، والعاصي عن عصيانه ﴿وَآمَنُوا﴾؛ أي: داموا واستمروا على إيمانهم، وزكوه بالعمل الصالح، أو تكون الواو حالية؛ أي: وقد آمنوا ﴿إِنَّ رَبَّكَ﴾ يا محمد ﴿مِنْ بَعْدِها﴾؛ أي: من بعد تلك التوبة المقرونة بالإيمان ﴿لَغَفُورٌ﴾ لهم؛ أي: لستار لذنوبهم وإن عظمت وكثرت ﴿رَحِيمٌ﴾ بهم؛ أي: منعم عليهم، مبالغ في إفاضة فنون الرحمة الدنيوية والأخروية عليهم؛ أي: من أتى بجميع السيئات ثم تاب.. فإن الله سبحانه وتعالى يغفرها له، وهذا من أعظم ما يفيد البشارة للمذنبين.
وينتظم في هذا المسلك متخذوا العجل وغيرهم من المجترحين للسيئات، عظمت ذنوبهم أو حقرت؛ لأنّ الذنوب وإن جلت وعظمت، فعفو الله وكرمه أعظم وأجل، على شريطة التوبة والإنابة، وبدونها الطمع فيه طمع في غير مطمع، ألا ترى أن طمع الفساق في المغفرة بدون الإنابة إلى ربهم قد ذهب بكثير من حرمة الأوامر والنواهي من قلوبهم، وجعلهم يستحلون كثيرا من المحرمات، وكانوا شرا ممن قال الله فيهم: ﴿وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً﴾ ولم يكن طمعهم ثمرة إيمان وعمل صالح، بل هي أماني جر إليها الحمق والغفلة عما يجب من تعظيم تلك الأوامر والنواهي:
إنّ الأماني والأحلام تضليل
١٥٤ - ﴿وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ﴾؛ أي: زال وسكن عنه الغضب، باعتذار
لما ألقى موسى الألواح فتكسرت.. صام أربعين يوما، فردت عليه في لوحين، وفيهما ما في الأولى بعينها، فيكون نسخها نقلها، وقال عطاء: ﴿وَفِي نُسْخَتِها﴾ معناه: وفيما بقي منها، وذلك أنّه لم يبق منها إلا سبعها، وذهب ستة أسباعها، ولكن لم يذهب من الحدود والأحكام شيء اه «قرطبي».
﴿هُدىً﴾؛ أي: بيان للحق ﴿وَرَحْمَةٌ﴾ للخلق بإرشادهم إلى ما فيه الخير والصلاح، فالهدى ما يهتدون به من الأحكام، والرحمة ما يحصل لهم من الله تعالى عند عملهم بما فيها من الرحمة الواسعة، واللام في قوله: ﴿لِلَّذِينَ هُمْ﴾ متعلقة بمحذوف صفة لـ ﴿رَحْمَةٌ﴾، وفي قوله: ﴿لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ﴾ متعلقة بـ ﴿يَرْهَبُونَ﴾ زيدت لتقوية العامل لضعفه بالتأخر، والمعنى: وفي نسختها هدى من الضلالة، ورحمة كائنة للذين هم يرهبون ويخافون عقاب ربهم، ويرجون ثوابه بالعمل بما فيها.
وقرأ معاوية بن قرة (١): ﴿ولما سكن عن موسى الغضب﴾ وقرىء: ﴿ولما أسكت﴾ رباعيا مبنيا للمفعول، وكذا في مصحف حفصة؛ أي: أسكت الله عن موسى الغضب، وفي مصحف عبد الله: ﴿ولما صبر عن موسى الغضب﴾. وفي مصحف أبي: ﴿ولما انشق عن موسى الغضب﴾.
١٥٥ - ﴿وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقاتِنا﴾ هذا شروع في بيان ما كان من موسى ومن القوم الذين اختارهم، و ﴿سَبْعِينَ﴾ مفعول ﴿اخْتارَ﴾، و ﴿قَوْمَهُ﴾: منصوب بنزع الخافض، أي: من قومه فحذف الجار وأوصل الفعل إليه؛ أي: وانتخب موسى واصطفى سبعين رجلا من خيار قومه ممن لم يعبدوا العجل، وجملتهم اثنا عشر ألفا، وكان جملة بني إسرائيل الذين خرجوا معه من مصر ست
روي (١): أن موسى اختار من اثني عشر سبطا ستة ستة، فصاروا اثنين وسبعين فقال: ليستخلف منكم رجلان، فتشاجروا فقال: إن لمن قعد منكم مثل أجر من خرج، فقعد كالب ويوشع وذهب مع الباقين، وأمرهم أن يصوموا ويتطهروا ويطهروا ثيابهم، فخرج بهم إلى طور سيناء. فلما دنوا من الجبل غشيه غمام فدخل موسى بهم الغمام، وخروا سجدا فسمعوه تعالى يكلم موسى، يأمره وينهاه، ثم انكشف الغمام فأقبلوا إلى موسى وقالوا: لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة؛ أي: لن نصدقك في أن الآمر بما سمعنا من الأمر بقتل أنفسهم هو الله تعالى حتى نراه، فأخذتهم رجفة الجبل فماتوا يوما وليلة ﴿فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ﴾؛ أي: الزلزلة الشديدة؛ أي: أهلكتهم وأماتتهم رجفة الجبل وزلزلته وتحركه ﴿قالَ﴾ موسى: ﴿رَبِّ لَوْ شِئْتَ﴾ إهلاكهم ﴿أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ﴾؛ أي: من قبل خروجهم إلى الميقات ﴿وَ﴾ أهلكتني ﴿إِيَّايَ﴾ معهم، قاله تسليما لقضاء الله تعالى؛ أي: إنا كنا مستحقين للإهلاك ولم يكن من موانعه إلا عدم مشيئتك إياه.
والمعنى: أي فلما أخذتهم رجفة الجبل، وصعقوا قال موسى: رب إنني أتمنى أن لو كانت سبقت مشيئتك أن تهلكهم من قبل خروجهم معي إلى هذا المكان، فأهلكتهم وأهلكتني معهم، حتى لا أقع في شديد الحرج مع قومي فيقولوا: قد ذهبت بخيارنا لإهلاكهم، وإن لم تفعل فإني أسألك برحمتك أن لا تفعل الآن، والاستفهام في قوله: ﴿أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا﴾ للاستعطاف، وفيه معنى النفي، ظن موسى أنما أهلكهم الله تعالى بعبادة قومهم العجل، أو بسوء أدبهم بسؤالهم رؤية الله جهرة؛ أي: لا تهلكنا يا إلهي بما فعل واقترف السفهاء والجهال منا من عبادة العجل، أو من سؤال رؤيتك جهرة، وفي هذا إيماء إلى أن عقلاء بني إسرائيل، وأصحاب الرؤية منهم لم يعبدوه، إنما عبده السفهاء وهم
وعبارة «المراغي»: ﴿إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ...﴾ الخ؛ أي: ما تلك الفعلة التي كانت سببا في أخذهم بالرجفة إلا محنة منك وابتلاء، جعلته سببا لظهور استعداد الناس وما طويت عليه سرائرهم من ضلال وهداية، وما يستحقون عليه العقوبة أو المثوبة، بحسب سننك في خلقك بالعدل والحق، تضل بمقتضاها من تشاء من عبادك، ولست بالظالم لهم في تقديرك، وتهدى من تشاء ولست بالمحابي لهم في توفيقك، فأمرهم دائر بين العدل والفضل. انتهت.
﴿أَنْتَ﴾ يا إلهي ﴿وَلِيُّنا﴾؛ أي: متولي أمورنا الدنيوية والأخروية، والقائم علينا بما تكسب نفوسنا ﴿فَاغْفِرْ لَنا﴾ ما اقترفته أنفسنا مما يترتب عليه المؤاخذة والعقاب من مخالفة سنتك، والتقصير فيما يجب من ذكرك وشكرك وعبادتك ﴿وَارْحَمْنا﴾ برحمتك التي وسعت كل شيء، بإفاضة آثار الرحمة الدنيوية والأخروية علينا ﴿وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ﴾ حلما وكرما وجودا؛ لأنّك تغفر ذنوب عبادك لا لغرض ولا لطلب عوض، بل لمحض الفضل والكرم والجود، أما غيرك فإنّما يتجاوز عن الذنب إما طلبا للثواب الجزيل، أو للثناء الجميل، أو دفعا للربقة الخسيسة عن القلب، وأنت خير الراحمين رحمة، وأوسعهم فيها فضلا وإحسانا، فرحمة من سواك نفحة مفاضة على قلوبهم من رحمتك
١٥٦ - ﴿وَاكْتُبْ لَنا﴾؛ أي: وأثبت لنا ﴿فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا﴾؛ أي: في هذه الحياة القريبة الزوال والخسيسة ﴿حَسَنَةً﴾؛ أي: حياة طيبة من نعمة وعافية، وبسطة في الرزق، وتوفيق للطاعة ﴿وَفِي﴾ الدار ﴿الْآخِرَةِ﴾ حسنة؛ أي: واكتب (٢) لنا في الدار الآخرة مثوبة حسنة بدخول جنتك، ونيل رضوانك، فهو بمعنى قوله: فيما علمنا من دعائه {رَبَّنا
(٢) المراغي.
حركنا أنفسنا وجذبناها لطاعتك، فيكون الضمير فاعلا، ويحتمل أن يكون مفعولا لم يسم فاعله؛ أي: حركنا إليك وأملنا، والضم في ﴿هُدْنا﴾ يحتملهما، وتضمنت هذه الجمل كونه تعالى هو ربهم ووليهم، وأنّهم تائبون عبيد له خاضعون، فناسب عز الربوبية أن يستعطف للعبيد التائبين الخاضعين بسؤال المغفرة والرحمة والكتب ﴿قالَ﴾ الله سبحانه وتعالى: ﴿عَذابِي أُصِيبُ بِهِ﴾؛ أي: اخص به ﴿مَنْ أَشاءُ﴾ من الكفار والعصاة، وليس لأحد علي اعتراض؛ لأنّ الكل ملكي ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ﴾ وعمت ﴿كُلَّ شَيْءٍ﴾ من البر والفاجر، والمكلفين وغيرهم، قال (٢) جماعة من المفسرين: لما نزلت ورحمتي وسعت كل شيء.. تطاول إبليس إليها وقال: أنا من ذلك الشيء، فنزعها الله تعالى من إبليس، فقال تعالى: ﴿فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ﴾ فآيس إبليس منها، وقالت اليهود: نحن نتقي ونؤتي الزكاة، ونؤمن بآيات ربنا، فنزعها الله من اليهود وأثبتها لهذه الأمة فقال تعالى: ﴿الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ﴾ الآية.
والظاهر (٣): أنّ هذه الجملة مستأنفة، مسوقة للإخبار عن عذابه ورحمته سبحانه وتعالى، والمعنى؛ أي: قد كان (٤) من سبق رحمتي غضبي أن جعلت عذابي خاصا، أصيب به من أشاء من الكفار والعصاة، أما رحمتي فقد وسعت كل شيء في العالمين، فهي من صفاتي التي قام بها أمر العالم منذ خلقته، والعذاب من أفعالي المترتبة على صفة العدل، ولولا الرحمة العامة المبذولة لكل
(٢) الخازن.
(٣) البحر المحيط بتصرف.
(٤) المراغي.
وقرأ زيد بن علي والحسن وطاووس وعمرو بن فائد (١): ﴿من أساء﴾ - بالسين المهملة - فعل ماض من الإساءة، وقال أبو عمرو الداني: لا تصح هذه القراءة عن الحسن وطاووس، وعمرو بن فائد رجل سوء، وقرأ بها سفيان بن عينية مرة واستحسنها، فقام إليه عبد الرحمن المقري، وصاح به وأسمعه، فقال سفيان: لم أدر ولم أفطن لما يقول أهل البدع.
ثم ذكر من ستكتب لهم الرحمة فقال: ﴿فَسَأَكْتُبُها﴾؛ أي: فسأكتب رحمتي، وأثبتها وأقدرها وأقضيها بمشيئتي في الآخرة خاصة ﴿لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ﴾ الكفر والمعاصي ﴿وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ﴾؛ أي: المفروضة؛ أي: يعطون زكاة أموالهم وصدقاتها التي تتزكى بها أنفسهم، وخص الزكاة بالذكر دون ما عداها من الطاعات لأن النفوس شحيحة، ففتنته تقتضي أن يكون المانعون للزكاة أكثر من التاركين غيرها من الطاعات، كما إنّ في ذلك إيماء إلى أنّ اليهود أشربوا في قلوبهم حب المال، وفتنوا بجمعه ومنع بذله في سبيل الله ﴿وَ﴾ سأكتبها لـ ﴿وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا﴾؛ أي: بدلائل وحدانيتنا وقدرتنا، وصدق رسلنا ﴿يُؤْمِنُونَ﴾؛ أي: يصدقون تصديق إيقان مبني على العلم الصحيح، دون تقليد للآباء والأجداد.
١٥٧ - ثم بين الله سبحانه وتعالى هؤلاء الذين كتب لهم هذه الرحمة، ببيان أوضح مما قبله وأصرح فقال: ﴿الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ﴾ نعت ﴿لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ﴾ أو بدل منه، أو خبر مبتدأ محذوف تقديره: هم الذين يتمسكون دين الرسول الكريم ويتبعون ﴿النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ﴾ محمدا صلى الله عليه وسلّم؛ أي: الذي لم يمارس القراءة والكتابة، ومع ذلك جمع علوم الأولين والآخرين، فخرجت اليهود والنصارى وسائر الملل، والأمي إما نسبة إلى الأمة الأمية التي لا تكتب ولا تحسب - وهم العرب - أو نسبة إلى الأم، والمعنى: إنه باق على حالته التي ولد عليها، لا يكتب ولا يقرأ
منها: أنّه نبي أمي.
ومنها: أنّه هو ﴿الَّذِي يَجِدُونَهُ﴾؛ أي: يجد الذين يتبعونه من بني إسرائيل اسمه ونعته ﴿مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ﴾ اللذين هما مرجعهم في الدين، بحيث لا يشكون أنّه هو، وبالجملة فأهل الكتاب من اليهود والنصارى كانوا يتناقلون خبر بعثة محمد صلى الله عليه وسلّم فيما بينهم، ويذكرون البشارات من كتبهم، حتى إذا ما بعثه الله تعالى بالهدى ودين الحق آمن به كثيرون، وكان علماؤهم يصرحون بذلك، كعبد الله بن سلام وأصحابه من علماء اليهود، وتميم الداري من علماء النصارى، وغيرهم من الذين أسلموا في عصر النبي صلى الله عليه وسلّم.
ومنها: أنه ﴿يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ﴾؛ أي: بكل ما تعرفه القلوب ولا تنكره، من التوحيد ومكارم الأخلاق، وبر الوالدين وصلة الأرحام ﴿وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾؛ أي: عن كل ما تنكره القلوب ولا تعرفه، وهو ما كان من مساوىء الأخلاق، كعبادة الأوثان، والكفر بما أنزل الله على النبيين، وقطع الرحم، وعقوق الوالدين.
ومنها: أنّه ﴿وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ﴾؛ أي: كل ما تستطيبه الأذواق السليمة من الأطعمة، وفيه فائدة في التغذية مما حرم عليهم في التوراة، كلحوم الإبل،
ومنها: أنّه ﴿وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ﴾؛ أي: كل ما تستخبثه الطبائع السليمة، وتستقذره النفوس، كالميتة والدم المسفوح، والخنازير، وما يؤخذ من الأموال بغير حق، كالربا والرشوة والغضب والخيانة.
ومنها: أنّه ﴿وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ﴾؛ أي: يسقط عنهم ثقل العهد الذي أخذ عليهم، والمراد (١) بالإصر هنا: العهد والميثاق الذي أخذ على بني إسرائيل على أن يعملوا بما في التوراة من الأحكام، فكانت تلك الشدائد، قاله ابن عباس.
وقيل (٢): التشديد الذي كان عليهم من تحريم السبت، وأكل الشحوم، وغير ذلك من الأمور الشاقة، قاله قتادة. وقال مسروق: لقد كان الرجل من بني إسرائيل يذنب الذنب فيصبح وقد كتب على باب بيته أن كفارته أن تنزع عينيك فينزعهما. وقرأ ابن عامر ﴿أصارهم﴾ بالجمع. وقرىء: ﴿أصرهم﴾ بفتح الهمزة وبضمها. وقرأ طلحة: ﴿ويذهب عنهم إصرهم﴾ ﴿وَ﴾ يخفف عنهم ﴿الْأَغْلالَ﴾؛ أي: التكاليف الشاقة ﴿الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ﴾ في عبادتهم ومعاملاتهم، كقطع موضع النجاسة من الجلد والثوب، وإحراق الغنائم، وكاشتراط قتل النفس في صحة التوبة، وتعيين القصاص في القتل العمد والخطأ، وقطع الأعضاء الخاطئة، وعدم صحة صلاتهم إلا في الكنائس، وغير ذلك من التكاليف التي كانت على بني اسرائيل، شبهت بالأغلال التي تجمع اليد إلى العنق، كما أن اليد لا تمتد مع وجود الغل، فكذلك لا تمتد إلى الحرام الذي نهيت عنه.
والخلاصة (٣): أنّ بني إسرائيل كانوا قد أخذوا بالشدة في أحكام العبادات والمعاملات الشخصية والمدنية والعقوبات، فكانت مثلهم مثل من يحمل أثقالا يئط منها، وهو موثق بالسلاسل والأغلال في عنقه ويديه ورجليه، وقد خفف المسيح عليه السلام عنهم بعض التخفيف في الأمور المادية، وشدد في الأحكام
(٢) زاد.
(٣) المراغي.
ثم بين سبحانه وتعالى كيفية اتباعه صلى الله عليه وسلّم، وعلو مرتبة متبعيه، واغتنامهم مغانم الرحمة في الدارين، إثر بيان نعوته الجليلة فقال: ﴿فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ﴾؛ أي: بالرسول النبي الأمي حين بعث من قوم موسى، ومن كل أمة ﴿وَعَزَّرُوهُ﴾؛ أي: منعوه وحموه من كل من يعاديه، مع التعظيم والإجلال؛ لا كما يحمون بعض ملوكهم مع الكره والاشمئزاز ﴿وَنَصَرُوهُ﴾ على أعدائه باللسان والسنان ﴿وَاتَّبَعُوا النُّورَ﴾ الأعظم ﴿الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ﴾؛ أي: مع رسالته، وهو القرآن. سماه نورا لأنّه يظهر نور الإيمان لصاحبه، ويزيل عنه ظلمة الجهل والضلال ﴿أُولئِكَ﴾ الموصوفون بالصفات السابقة، من الإيمان به والتعزير والنصر له، واتباع النور الذي أنزل معه ﴿هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾؛ أي: الفائزون بالرحمة والرضوان؛ أي: الفائزون بالمطلوب في الدنيا والآخرة، والناجون من السخط والعذاب، دون غيرهم من حزب الشيطان الذين خذلهم الله تعالى في الدنيا والآخرة.
وقرأ الجحدري وقتادة وسليمان التيمي وعيسى (١): ﴿وَعَزَّرُوهُ﴾ بالتخفيف. وقرأ جعفر بن محمد: ﴿وعززوه﴾ بزايين،
١٥٨ - ولما ذكر الله سبحانه وتعالى أوصاف رسول الله صلى الله عليه وسلّم المكتوبة في التوراة والإنجيل.. أمره سبحانه أن يقول هذا القول الآتي، المقتضي لعموم رسالته صلى الله عليه وسلّم إلى الناس جميعا فقال: ﴿قُلْ﴾ يا محمد لجميع البشر من عرب أو عجم ﴿إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا﴾؛ أي: مرسل إليكم كافة لا إلى قومي خاصة، فهو بمعنى قوله تعالى: ﴿وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا﴾ وقوله: ﴿وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ﴾؛ أي: وأنذر به كل من بلغه من الثقلين، وقوله: ﴿وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ (١٠٧)﴾..
وجاءت أحاديث صحيحة ناطقة باختصاصه صلى الله عليه وسلّم، بالرسالة العامة:
«أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي: كان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى كل أحمر وأسود، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي، وجعلت لي الأرض طيبة وطهورا ومسجدا، فأيما رجل أدركته الصلاة صلى حيث كان، ونصرت بالرعب على العدو بين يدي مسيرة شهر، وأعطيت الشفاعة». وفي رواية: «أعطيت خمسا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي الغنائم، ولم تحل لأحد من قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي بعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس عامة». وقوله في الرواية الأولى: «وبعثت إلى كل أحمر وأسود». قيل: أراد بالأحمر العجم، وبالأسود العرب، وقيل: أراد بالأحمر الإنس، وبالأسود الجن.
ومنها: ما روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «فضلت على الأنبياء بستة: أعطيت جوامع الكلم، ونصرت بالرعب، وأحلت لي الغنائم، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، وأرسلت إلى الخلق كافة، وختم بي النبيون».
ثم وصف الله تعالى نفسه بتوحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية وبالإحياء وبالإماتة فقال: ﴿الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ﴾؛ أي: إن الإله الذي أنا رسوله هو من له التصرف والملك في السموات والأرض وتدبير العالم كله، إذ وحدة النظام في جملة المخلوقات، وعدم التفاوت فيها دليل على وحدة مصدرها وتدبيرها، فهو المعبود وحده لا إله إلا هو، وتوحيد الربوبية بالإيمان، وتوحيد الألوهية بالإيمان والعمل؛ أي: بعبادة الله وحده، هما أصل الدين، والركن الأول في العقيدة، والركن الثاني: الإيمان برسالة محمد صلى الله عليه وسلّم، والركن الثالث: عقيدة البعث بعد الموت، وهي تتضمن الإحياء والإماتة وتصرف الرب في خلقه.
وقد بنى على تقرر هذه الأمور الثلاثة الدعوة إلى الإيمان فقال: ﴿فَآمِنُوا﴾
بهذا النبي والأنبياء صلوات الله عليهم؛ لأنّه المتمم لما بعثوا به من هداية الناس، قال الزمخشري: فإن قلت: هلا قيل: فآمنوا بالله وبي، بعد قوله: ﴿إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا﴾؟
قلت: عدل عن المضمر إلى الاسم الظاهر لتجري عليه الصفات التي أجريت عليه، ولما في طريقه الالتفات من البلاغة، وليعلم أنّ الذي يجب الإيمان به واتباعه هو هذا الشخص المستقل بأنّه النبي الأمي، الذي يؤمن بالله وكلماته كائنا من كان أنا أو غيري، إظهارا للنصفة ﴿الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِماتِهِ﴾؛ أي: يؤمن يتوحيد الله وبكلماته التشريعية، التي أنزلها لهداية خلقه على ألسنة رسله، وهي مظهر علمه ورحمته، والمراد بها القرآن وسائر الكتب السماوية، وبكلماته التكوينية التي هي مظهر إرادته وقدرته وحكمته، وقرأ الأعمش: ﴿الذي يؤمن بالله وآياته﴾ بدل ﴿كَلِماتِهِ﴾. وبعد أن أمرهم سبحانه بالإيمان أمرهم بالإسلام فقال: ﴿وَاتَّبِعُوهُ﴾؛ أي: واتبعوا ذلك النبي الأمي، واسلكوا طريقه، واقتفوا أثره في كل ما يأتي ويذر من أمر الدين ﴿لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾؛ أي:
رجاء اهتدائكم بالإيمان وباتباعه إلى ما فيه سعادتكم في الدنيا والآخرة، وتلك هي الثمرة التي تجنى منهما، فما آمن قوم بنبي | إلا كانوا بعد الإيمان به خيرا مما كانوا قبله من العزة والكرامة في دنياهم، وسعادتهم في آخرتهم، بنيل رضوان ربهم، والحظوة بالقرب منه. |
١٥٩ - قوله: ﴿وَمِنْ قَوْمِ مُوسى﴾ كلام مستأنف، مسوق لدفع ما عسى أن يتوهم من تخصيص كتابة الرحمة بمن يتبع محمدا صلى الله عليه وسلّم، وذلك المتوهم هو حرمان قوم موسى من كل خير، وبيانه أنّهم ليسوا كلهم يحرمون منها، بل من قوم موسى ﴿أُمَّةٌ﴾؛ أي: جماعة عظيمة ﴿يَهْدُونَ﴾ الناس ويرشدونهم، ويدعونهم إلى الخير والهدى حالة كونهم متلبسين ﴿بِالْحَقِّ﴾ والعدل الذي جاء به موسى عليه السلام من عند الله تعالى ﴿وَبِهِ﴾؛ أي: وبالحق الذي جاء به موسى لا بغيره ﴿يَعْدِلُونَ﴾؛ أي: يحكمون بين الناس حكما عدلا موافقا للصواب إذا حكموا بين الناس، فلا يتبعون هوى، ولا يأكلون سحتا ولا رشا، واختلف (١) في هؤلاء القوم، فقيل: هم الذين أسلموا من بني إسرائيل، كعبد الله بن سلام وأصحابه، وقيل: هم قوم بقوا على الدين الحق الذي جاء به موسى عليه السلام قبل التحريف والتبديل، ودعوا الناس إليه، فإن (٢) قيل: إن هؤلاء القوم كانوا قليلين في العدد ولفظ الأمة ينبىء عن الكثرة؟ فالجواب: أنّهم لما أخلصوا في الدين جاز إطلاق الأمة عليهم كقوله تعالى: ﴿إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً﴾. اه كرخى.
١٦٠ - ﴿وَقَطَّعْناهُمُ﴾؛ أي: وفرقنا قوم موسى الذين كان منهم ﴿أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ﴾ ومنهم الظالمون والفاسقون فجعلناهم ﴿اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطًا﴾؛ أي: جعلناهم اثنتي عشرة فرقة تسمى أسباطا؛ أي: قبائل، وصيرناهم ﴿أُمَمًا﴾؛ أي: جماعات، يمتاز كل منهم بنظام خاص في معيشته، وبعض شؤونه؛ لأنّ كل سبط كان أمة عظيمة، وسبب (٣) تفرقهم اثنتى عشرة أسباطا أنّ أولاد يعقوب كانوا
(٢) الفتوحات.
(٣) الفتوحات.
وقرأ أبان بن تغلب عن عاصم (١): ﴿وقطعناهم﴾: بتخفيف الطاء، وابن وثاب والأعمش وطلحة بن سليمان: ﴿عشرة﴾ بكسر الشين، وعنهم الفتح أيضا، وأبو حيوة وطلحة بن مصرف بالكسر، وهي لغة تميم، والجمهور بالإسكان، وهي لغة الحجاز.
﴿وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ﴾ بنو إسرائيل؛ أي: حين طلبوا منه السقيا - وقد أخذهم العطش في التيه - فاستسقى ربه لهم؛ أي: أوحينا إليه بـ ﴿أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ﴾ وهو الذي فرّ بثوبه، خفيف مربع كرأس الرجل، رخام أو كذان، كما في «الجلالين» في سورة البقرة فضربه ﴿فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْنًا﴾؛ أي: فانفجرت ونبعت وسالت منه عقب ضربه إياه اثنتا عشرة عينا من الماء، بقدر عدد أسباطهم، وخص كل واحدة من الأسباط بعين منها للزحام وحفظا للنظام ﴿قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ﴾؛ أي: كل سبط منهم ﴿مَشْرَبَهُمْ﴾؛ أي: عينهم الخاصة بهم بالعلم الضروري الذي خلقه الله في كلّ ﴿وَظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الْغَمامَ﴾؛ أي: سخرنا لهم السحاب في التيه، تقيهم بظلها من حرّ الشمس، تسير بسيرهم وتسكن بإقامتهم، وكان ينزل لهم في الليل عمود من نور، يسيرون بضوئه، ولولا السحاب في التيه.. لأحرقتهم حرارة الشمس، إذ لم يكن هناك من الشجر ما يستظلون به ﴿وَأَنْزَلْنا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ﴾ وهو شيء حلو كان ينزل عليهم مثل الثلج من الفجر إلى طلوع الشمس، ويأخذ كل إنسان صاعا ﴿وَالسَّلْوى﴾؛ أي: الطير السماني - بتخفيف الميم - وبالقصر بوزن حبارى، وتسوقه ريح الجنوب عليهم، فيذبح كل واحد ما يكفيهم، وهو (٢) يموت إذا سمع صوت الرعد، فيلهمه الله تعالى أن يسكن جزائر البحر، التي لا يكون فيها مطر ولا رعد إلى انقضاء أوانهما، فيخرج من الجزائر وينتشر في الأرض، وخاصيته
(٢) المراح.
والمعنى (١): فسهلنا عليهم الطعام والشراب على أحسن الوجوه، وكان المن يقوم مقام الخبز عندهم، ويكفي الألوف من الناس، وتقوم السماني مقام اللحوم والطيور الأخرى، وقلنا لهم ﴿كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ﴾؛ أي: من مستلذات ما رزقناكم، وهو المن والسلوى، وفي ذلك تنبيه وتذكير لهم بما يجب عليهم من شكر هذه النعم، وقرأ عيسى الهمداني (٢): ﴿من طيبات ما رزقتكم﴾ موحدا للضمير.
والمعنى: أقصروا أنفسكم على ذلك المطعوم، ولا تطلبوا غيره، واشكروا رزق ربكم، وسئموا منه وقالوا: لن نصبر على طعام واحد، وطلبوا غيره، فظلموا أنفسهم بكفران هذه النعم ﴿وَما ظَلَمُونا﴾ بكفرهم بهذه النعم ﴿وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ بمخالفة ما أمروا به؛ أي: بل ظلموا أنفسهم وأضروها بهذا الجحود والكفران، وكان ذلك من دأبهم وعادتهم آنا بعد آن.
ولا شك أن من ظلم نفسه.. كان لغيره أظلم، وإن كان ظلمه لنفسه مما يجهل أنّه ظلم لها، إذ يتجلى له في صورة المنفعة، وتكون عاقبته مضرة، وهكذا الحال في جميع الظالمين والمجرمين، فهم يظنون أنّهم بظلمهم وإجرامهم ينفعون أنفسهم، جهلا منهم للعواقب، وقلة تدبر ما ينبغي أن يتفطن له.
الإعراب
﴿إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (١٥٢)﴾.
﴿إِنَّ﴾: حرف نصب. ﴿الَّذِينَ﴾: اسمها، ﴿اتَّخَذُوا الْعِجْلَ﴾: فعل وفاعل ومفعول أول، والمفعول الثاني محذوف تقديره: إلها، والجملة الفعلية صلة الموصولة، ﴿سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ﴾: فعل ومفعول وفاعل، ﴿مِنْ رَبِّهِمْ﴾: جار
(٢) البحر المحيط.
﴿وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ﴾.
﴿وَالَّذِينَ﴾: مبتدأ، ﴿عَمِلُوا السَّيِّئاتِ﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة صلة الموصول، ﴿ثُمَّ﴾: حرف عطف وترتيب، ﴿تابُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة ﴿عَمِلُوا﴾، ﴿مِنْ بَعْدِها﴾: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ ﴿تابُوا﴾، ﴿وَآمَنُوا﴾: فعل وفاعل، معطوف على ﴿تابُوا﴾. ﴿إِنَّ رَبَّكَ﴾: ناصب واسمه، ﴿مِنْ بَعْدِها﴾: جار ومجرور ومضاف إليه، تنازع فيه ﴿غفور رحيم﴾، ﴿لَغَفُورٌ﴾ ﴿اللام﴾: حرف ابتداء ﴿غفور﴾: خبر أول لـ ﴿إِنَّ﴾، ﴿رَحِيمٌ﴾: خبر ثان لها، وجملة ﴿إِنَّ﴾ في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة.
﴿وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْواحَ وَفِي نُسْخَتِها هُدىً وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (١٥٤)﴾.
﴿وَلَمَّا﴾ الواو: استئنافية، ﴿لَمَّا﴾: حرف شرط غير جازم، ﴿سَكَتَ﴾: فعل ماض، ﴿عَنْ مُوسَى﴾: متعلق به، ﴿الْغَضَبُ﴾: فاعل، والجملة الفعلية فعل شرط لـ ﴿لَمَّا﴾ لا محل لها من الإعراب، ﴿أَخَذَ الْأَلْواحَ﴾ فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على ﴿مُوسَى﴾، والجملة الفعلية جواب ﴿لَمَّا﴾: لا محل له من الإعراب، وجملة ﴿لَمَّا﴾ مستأنفة، ﴿وَفِي نُسْخَتِها﴾: جار ومجرور خبر مقدم، ﴿هُدىً﴾: مبتدأ مؤخر، ﴿وَرَحْمَةٌ﴾ معطوف على ﴿هُدىً﴾، والجملة الاسمية في محل النصب حال من ﴿الْأَلْواحَ﴾، ﴿لِلَّذِينَ﴾: جار ومجرور، تنازع فيه كل من ﴿هُدىً وَرَحْمَةٌ﴾، ﴿هُمْ﴾: مبتدأ، ﴿لِرَبِّهِمْ﴾: متعلق بـ ﴿يَرْهَبُونَ﴾، وجملة ﴿يَرْهَبُونَ﴾ في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية صلة الموصول.
﴿وَاخْتارَ مُوسى﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. ﴿قَوْمَهُ﴾: منصوب بنزع الخافض؛ أي: من قومه وهو في محل المفعول الثاني ﴿سَبْعِينَ﴾: مفعول أول لـ ﴿اخْتارَ﴾، ﴿رَجُلًا﴾: تمييز له منصوب به، ﴿لِمِيقاتِنا﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿اخْتارَ﴾، ﴿فَلَمَّا﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة على محذوف تقديره: فخرج بهم فأخذتهم الرجفة، ﴿لما﴾: حرف شرط غير جازم، ﴿أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ﴾: فعل ومفعول وفاعل، والجملة فعل شرط لـ ﴿لما﴾ لا محل لها من الإعراب، ﴿قالَ﴾:
فعل ماض وفاعله ضمير يعود على موسى، والجملة جواب ﴿لما﴾ وجملة لما معطوفة على ذلك المحذوف الذي قدرناه آنفا، ﴿رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ﴾ إلى قوله: ﴿قالَ عَذابِي﴾ مقول محكي لـ ﴿قالَ﴾، وإن شئت قلت: ﴿رَبِّ﴾: منادى مضاف حذف منه حرف النداء، وجملة النداء في محل النصب مقول ﴿قالَ﴾، ﴿لَوْ﴾: حرف شرط غير جازم، ﴿شِئْتَ﴾: فعل وفاعل، والجملة فعل شرط لـ لا محل لها من الإعراب، ﴿أَهْلَكْتَهُمْ﴾: فعل وفاعل، ومفعول، ﴿مِنْ قَبْلُ﴾: جار ومجرور، متعلق بـ ﴿أَهْلَكْتَهُمْ﴾، ﴿وَإِيَّايَ﴾ معطوف على ضمير ﴿أَهْلَكْتَهُمْ﴾، وجملة ﴿أَهْلَكْتَهُمْ﴾ جواب ﴿لَوْ﴾ الشرطية، وجملة ﴿لَوْ﴾ الشرطية في محل النصب مقول ﴿قالَ﴾، مع كونها جواب النداء.
﴿أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ أَنْتَ وَلِيُّنا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ﴾.
﴿أَتُهْلِكُنا﴾: ﴿الهمزة﴾: للاستفهام الاستعطافي الإنكاري، ﴿تُهْلِكُنا﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة في محل النصب مقول ﴿قالَ﴾، ﴿بِما﴾: جار ومجرور، متعلق بـ ﴿تُهْلِكُنا﴾، ﴿فَعَلَ السُّفَهاءُ﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة لـ ﴿ما﴾ أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: بما فعله السفهاء. ﴿مِنَّا﴾: جار ومجرور حال من ﴿السُّفَهاءُ﴾، ﴿إِنْ﴾: نافية بطل عملها لانتقاض نفيها بإلا، ﴿هِيَ﴾: مبتدأ ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ، ﴿فِتْنَتُكَ﴾: خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل النصب مقول ﴿قالَ﴾، ﴿تُضِلُّ﴾: فعل
﴿وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ﴾.
﴿وَاكْتُبْ﴾: فعل دعاء، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة ﴿فَاغْفِرْ﴾، ﴿لَنا﴾: متعلق به، وكذا قوله: ﴿فِي هذِهِ الدُّنْيا﴾ متعلق بـ ﴿اكْتُبْ﴾، ﴿حَسَنَةً﴾: مفعول ﴿اكْتُبْ﴾، ﴿وَفِي الْآخِرَةِ﴾: جار ومجرور، معطوف على الجار والمجرور قبله ﴿إِنَّا﴾: ناصب واسمه، ﴿هُدْنا﴾: فعل وفاعل، ﴿إِلَيْكَ﴾: متعلق به، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر ﴿إِنَّا﴾، وجملة ﴿إِنَّا﴾ في محل النصب مسوقة لتعليل ما قبلها. ﴿قالَ﴾: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة مستأنفة، ﴿عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ﴾ إلى قوله: ﴿قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ﴾ مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿عَذابِي﴾: مبتدأ ومضاف إليه، ﴿أُصِيبُ﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الله، ﴿بِهِ﴾:
﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ﴾.
﴿وَرَحْمَتِي﴾: مبتدأ، ﴿وَسِعَتْ﴾: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على الرحمة، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل النصب معطوفة على جملة ﴿عَذابِي﴾ على كونها مقول ﴿قالَ﴾، ﴿كُلَّ شَيْءٍ﴾: مفعول ﴿وَسِعَتْ﴾، ﴿فَسَأَكْتُبُها﴾ ﴿الفاء﴾: عاطفة تفريعية ﴿سأكتبها﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة الفعلية في محل الرفع، معطوفة على جملة ﴿وَسِعَتْ﴾ على كونها خبر المبتدأ، ﴿لِلَّذِينَ﴾: جار ومجرور، متعلق بـ ﴿سأكتبها﴾، ﴿يَتَّقُونَ﴾: فعل وفاعل، صلة الموصول، ﴿وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ﴾: فعل وفاعل ومفعول معطوف على ﴿يَتَّقُونَ﴾، ﴿وَالَّذِينَ﴾: معطوف على الموصول الأول، ﴿هُمْ﴾: مبتدأ ﴿بِآياتِنا﴾: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ ﴿يُؤْمِنُونَ﴾، وجملة ﴿يُؤْمِنُونَ﴾ خبر المبتدأ، والجملة الاسمية صلة الموصول.
﴿الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ﴾.
﴿الَّذِينَ﴾ في محل الجر نعت لـ ﴿الَّذِينَ﴾ الأول، أو بدل منه، ويجوز قطعه إلى النصب أو الرفع، ﴿يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة صلة الموصول، ﴿النَّبِيَّ﴾ بدل من ﴿الرَّسُولَ﴾ أو عطف بيان له ﴿الْأُمِّيَّ﴾ صفة أولى لـ ﴿النَّبِيَّ﴾. ﴿الَّذِي﴾: اسم موصول في محل النصب صفة ثانية لـ ﴿النَّبِيَّ﴾، يَجِدُونَهُ فعل وفاعل ومفعول أول، ﴿مَكْتُوبًا﴾: مفعول ثان، ﴿عِنْدَهُمْ﴾: متعلق بـ ﴿مَكْتُوبًا﴾ والجملة الفعلية صلة الموصول ﴿فِي التَّوْراةِ﴾: متعلق بـ ﴿مَكْتُوبًا﴾ أيضا، ﴿وَالْإِنْجِيلِ﴾: معطوف على ﴿التَّوْراةِ﴾.
﴿يَأْمُرُهُمْ﴾: فعل ومفعول وفاعله ضمير يعود على ﴿الرَّسُولَ﴾، ﴿بِالْمَعْرُوفِ﴾: متعلق به، والجملة في محل النصب حال من ﴿الرَّسُولَ﴾، ﴿وَيَنْهاهُمْ﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على ﴿الرَّسُولَ﴾، ﴿عَنِ الْمُنْكَرِ﴾: متعلق به، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة ﴿يَأْمُرُهُمْ﴾. ﴿وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ﴾: عطف على ما تقدم، وكذلك الجمل التي بعدها إلى قوله: ﴿وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ﴾ معطوفات على جملة قوله: ﴿يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ﴾، ﴿الَّتِي﴾: اسم موصول في محل النصب صفة لـ ﴿الْأَغْلالَ﴾، ﴿كانَتْ﴾: فعل ناقص واسمها ضمير يعود على ﴿الْأَغْلالَ﴾، ﴿عَلَيْهِمُ﴾: خبر كان، وجملة كان صلة الموصول.
﴿فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾.
﴿فَالَّذِينَ﴾ ﴿الفاء﴾: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفت صفاته المذكورة، وأردت بيان كيفية اتباعه.. فأقول لك، ﴿الذين آمنوا به﴾: ﴿الذين﴾: مبتدأ أول ﴿آمَنُوا﴾: فعل وفاعل، ﴿بِهِ﴾: متعلق به، والجملة صلة الموصول، وقوله: ﴿وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ﴾ جمل معطوفات على جملة الصلة. ﴿الَّذِي﴾: في محل النصب صفة لـ ﴿النُّورَ﴾، ﴿أُنْزِلَ﴾: فعل ماض مغير الصيغة، ونائب فاعله ضمير يعود على الموصول، ﴿مَعَهُ﴾: ظرف متعلق بـ ﴿أُنْزِلَ﴾، والجملة صلة الموصول، ﴿أُولئِكَ﴾: مبتدأ ثان، ﴿هُمُ﴾: ضمير فصل، ﴿الْمُفْلِحُونَ﴾: خبر للمبتدأ الثاني، والجملة من المبتدأ الثاني وخبره في محل الرفع خبر للمبتدأ الأول، والجملة من المبتدأ الأول وخبره في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة في محل النصب مقول ﴿قالَ﴾ الذي مر في قوله: ﴿قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ﴾.
﴿قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ﴾.
خبر مقدم ﴿مُلْكُ السَّماواتِ﴾: مبتدأ مؤخر ومضاف إليه، ﴿وَالْأَرْضِ﴾: معطوف على ﴿السَّماواتِ﴾، والجملة الاسمية صلة الموصول، ﴿لا﴾: نافية تعمل عمل إن، ﴿إِلهَ﴾ في محل النصب اسمها، وخبر ﴿لا﴾ محذوف جوازا تقديره: موجود، ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ، ﴿هُوَ﴾: ضمير للمفرد المنزه في محل الرفع بدل من الضمير المستكن في خبر لا، وجملة لا من اسمها وخبرها بدل أول من جملة الصلة لا محل لها من الأعراب، ﴿يُحيِي﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة الفعلية بدل ثان من جملة الصلة، أو حال من الجلالة، وجملة ﴿وَيُمِيتُ﴾: معطوفة على جملة ﴿يُحيِي﴾.
﴿فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِماتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾.
﴿فَآمِنُوا﴾ ﴿الفاء﴾: فاء الفصيحة؛ لأنّها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفتم أنّي رسول الله إليكم، وأردتم بيان ما هو الأصلح اللازم لكم.. فأقول لكم: ﴿أمنوا﴾: فعل وفاعل، ﴿بِاللَّهِ﴾: متعلق به، ﴿وَرَسُولِهِ﴾: معطوف على الجلالة، والجملة الفعلية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة على كونها مقولا لـ ﴿قال﴾، ﴿النَّبِيِّ﴾: بدل من ﴿الرسول﴾ أو عطف بيان منه، ﴿الْأُمِّيِّ﴾: صفة أولى لـ ﴿النَّبِيِّ﴾، ﴿الَّذِي﴾:
﴿وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (١٥٩)﴾.
﴿وَمِنْ قَوْمِ مُوسى﴾: جار ومجرور ومضاف إليه خبر مقدم، ﴿أُمَّةٌ﴾: مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية مستأنفة مسوقة لدفع ما عسى أن يتوهم من تخصيص كتابة الرحمة بمن يتبع محمدا، وذلك المتوهم هو حرمان قوم موسى من كل خير، وبيانه: أنّهم ليسوا كلهم يحرمون منها، بل منهم أمة الخ ذكره في «الفتوحات»، وجملة ﴿يَهْدُونَ﴾: في محل الرفع صفة لـ ﴿أُمَّةٌ﴾، ﴿بِالْحَقِّ﴾: جار ومجرور حال من الواو في ﴿يَهْدُونَ﴾ تقديره: حالة كونهم متلبسين بالحق، ﴿وَبِهِ﴾: متعلق بـ ﴿يَعْدِلُونَ﴾ وجملة ﴿يَعْدِلُونَ﴾: في محل الرفع معطوفة على جملة ﴿يَهْدُونَ﴾ على كونها صفة لـ ﴿أُمَّةٌ﴾.
﴿وَقَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطًا أُمَمًا وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ﴾.
﴿وَقَطَّعْناهُمُ﴾: فعل وفاعل ومفعول ﴿اثْنَتَيْ عَشْرَةَ﴾: عدد مركب معرب الصدر مبني العجز، ﴿اثْنَتَيْ﴾: حال من مفعول ﴿قَطَّعْناهُمُ﴾، ﴿عَشْرَةَ﴾ جزء حال لا محل له من الإعراب، مبني على الفتح، والتقدير: وفرقناهم حالة كونهم معدودين بهذا العدد، ويجوز أن يكون ﴿اثْنَتَيْ عَشْرَةَ﴾ مفعولا ثانيا لـ ﴿قَطَّعْناهُمُ﴾، إذا كان بمعنى صيرناهم، وجملة ﴿قَطَّعْناهُمُ﴾ مستأنفة، وتمييز ﴿اثْنَتَيْ عَشْرَةَ﴾ محذوف لفهم المعنى تقديره اثنتي عشرة فرقة ﴿أَسْباطًا﴾: بدل من التمييز المحذوف، ولا يجوز كون أسباطا تمييزا؛ لأنّه جمع ﴿أُمَمًا﴾: بدل من أَسْباطًا، ﴿وَأَوْحَيْنا﴾: فعل وفاعل، معطوف على قوله: ﴿وَقَطَّعْناهُمُ﴾، ﴿إِلى مُوسى﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿أَوْحَيْنا﴾ ﴿إِذِ﴾: ظرف لما مضى من الزمان، ﴿اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ﴾: فعل
﴿أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى﴾.
﴿أَنِ﴾: مفسرة بمعنى أي التفسيرية، أو مصدرية، ﴿اضْرِبْ﴾: فعل أمر مبني على السكون أو في محل النصب بـ ﴿أَنِ﴾ المصدرية مبني على السكون، وفاعله ضمير يعود على ﴿مُوسى﴾، ﴿بِعَصاكَ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ ﴿اضْرِبْ﴾. ﴿الْحَجَرَ﴾: مفعول به، والجملة الفعلية جملة مفسرة لـ ﴿أَوْحَيْنا﴾ لا محل لها من الإعراب، أو في تأويل مصدر مجرور بحرف جر محذوف، متعلق بـ ﴿أَوْحَيْنا﴾ تقديره: وأوحينا إلى موسى بالضرب بعصاه الحجر، ﴿فَانْبَجَسَتْ﴾ ﴿الفاء﴾: عاطفة على محذوف تقديره: فضربه فانبجست، ﴿انبجست﴾: فعل ماض، ﴿مِنْهُ﴾: متعلق به، ﴿اثْنَتا عَشْرَةَ﴾: عدد مركب معرب الصدر مبني العجز، ﴿اثْنَتا﴾: فاعل مرفوع بالفعل، وعلامة رفعه الألف، ﴿عَشْرَةَ﴾: جزء فاعل مبني على الفتح لشبهه بالحرف شبها معنويا لتضمنه معنى حرف العطف، وإنّما حرك ليعلم أنّ له أصلا في الإعراب، وكانت الحركة فتحة للخفة مع ثقل التركيب، ﴿عَيْنًا﴾: منصوب على التمييز، والجملة الفعلية معطوفة على ذلك المحذوف، ﴿قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ﴾: فعل وفاعل ومضاف إليه، ﴿مَشْرَبَهُمْ﴾: مفعول به؛ لأنّ علم بمعنى عرف والجملة مستأنفة ﴿وَظَلَّلْنا﴾: فعل وفاعل ﴿عَلَيْهِمُ﴾: متعلق به ﴿الْغَمامَ﴾: مفعول به، والجملة معطوفة على جملة ﴿أَوْحَيْنا﴾. ﴿وَأَنْزَلْنا﴾: فعل وفاعل معطوف أيضا على ﴿أَوْحَيْنا﴾، ﴿عَلَيْهِمُ﴾ متعلق به ﴿الْمَنَّ﴾: مفعول به ﴿وَالسَّلْوى﴾: معطوف عليه.
﴿كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾.
﴿كُلُوا﴾: فعل وفاعل، ﴿مِنْ طَيِّباتِ ما﴾: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ ﴿كُلُوا﴾. ﴿رَزَقْناكُمْ﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة صلة لـ ﴿ما﴾ أو
التصريف ومفردات اللغة
﴿وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ﴾ السكوت (١) في اللغة: ترك الكلام، نسب إلى الغضب على تصويره بصورة شخص ذي قوة ورياسة، يأمر وينهى، فيطاع.
قال في «الكشاف»: هذا مثل كأن الغضب كان يغريه على ما فعل، ويقول له: قل لقومك كذا، وألق الألواح، وجر برأس أخيك إليك، فترك النطق بذلك وقطع الإغراء. اه.
﴿وَفِي نُسْخَتِها﴾؛ أي: فيما نسخ وكتب منها، من النسخ كالخطبة من الخطاب، فهي فعلة بمعنى مفعول؛ أي: منسوخها؛ أي: مكتوبها، فالنسخ يطلق على الكتابة كما يطلق على النقل والتغيير والإضافة على معنى في؛ أي: المنسوخ والمكتوب فيها. وفي «الخازن» ﴿وَفِي نُسْخَتِها﴾ النسخ عبارة عن النقل والتحويل، فإذا نسخت كتابا من كتاب حرفا بحرف.. فقد نسخت هذا الكتاب، فهو نقلك ما في الأصل إلى الفرع، فعلى هذا قيل: أراد بها الألواح لأنها نسخت من اللوح المحفوظ، وقيل: أراد بها النسخة المكتتبة من الألواح التي أخذها موسى بعدما تكسرت. انتهى.
﴿هُدىً﴾، أي: بيان للحق ﴿وَرَحْمَةٌ﴾ بالإرشاد إلى ما فيه الخير والإصلاح
اخترتك النّاس إذ رثّت خلائقهم | واعتلّ من كان يرجى عنده السّول |
﴿النَّبِيَّ﴾ (٣) من النبأ، وهو الخبر المهم العظيم الشأن، وفي لسان الشرع من أوحى الله إليه وأنبأه بما لم يكن يعلم، بكسبه من خبر أو حكم به، يعلم علما ضروريا أنّه من الله عز وجل ﴿والرَّسُولَ﴾ نبي أمره الله تعالى بتبليغ شرع ودعوة دين، وبإقامته والعمل به، ولا يشترط أن يكون كتابا يقرأ وينشر، ولا شرعا جديدا يعمل به ويحكم بين الناس، بل يكون تابعا لشرع غيره كله، كالرسل من بني إسرائيل الذين كانوا يتبعون التوراة عملا وحكما ﴿والْأُمِّيَّ﴾ الذي لا يقرأ ولا يكتب نسبة إلى الأم، وأهل الكتاب يلقبون العرب: بالأميين، كما حكى الله عنهم: ﴿ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ﴾ ﴿والمعروف﴾ ما تعرف العقول السليمة حسنه لموافقته للفطرة والمصلحة، بحيث لا تستطيع أن ترده أو
(٢) الفتوحات.
(٣) المراغي.
﴿وَعَزَّرُوهُ﴾؛ أي: عظموه، والتعزير: الإعانة والنصرة حتى لا يقوى عليه عدو، وتعزير الشيء تعظيمه وإجلاله ودفع الأعداء عنه ﴿وَنَصَرُوهُ﴾؛ أي: على أعدائه، فهو معطوف على عزروه عطف لازم على ملزوم، ﴿وَقَطَّعْناهُمُ﴾ (١)؛ أي: صيرناهم قطعا وفرقا، كل فرقة منها سبط، والسبط ولد الولد مطلقا، وقد يختص بولد البنت، وأسباط بني إسرائيل سلائل أولاده العشرة؛ أي: ما عدا لاوى، وسلائل ولدي ابنه يوسف وهما: افرايم ومنسى، إذ سلائل لاوى نيطت بها خدمة الدين في جميع الأسباط، ولم تجعل سبطا مستقلا ﴿والأمة﴾ الجماعة التي تؤلف بين أفرادها رابطة خاصة، أو مصلحة واحدة، أو نظام واحد ﴿إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ﴾ والاستسقاء طلب الماء للسقيا ﴿وانبجست﴾ والانبجاس والانفجار واحد، يقال: بجسه فانبجس وبجسه فتبجس، كما يقال: فجره؛ أي: شقه فانفجر، وقال الراغب: الانبجاس أكثر ما يقال فيما يخرج من شيء ضيق، والانفجار يستعمل فيه وفيما يخرج من شيء واسع، وفي «المصباح»: بجست الماء بجسا من باب قتل فانبجس، بمعنى فجرته فانفجر. اه ﴿والْغَمامَ﴾ السحاب مطلقا أو الأبيض منه أو الرقيق ﴿والْمَنَّ﴾ مادة بيضاء تنزل من السماء كالطّلّ،
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات أنواعا من البلاغة، وضروبا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: الاستعارة في قوله: ﴿وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ﴾ في هذا الكلام (١) مبالغة وبلاغة من حيث إنّه جعل الغضب الحامل له على ما فعل كالآمر به، والمغري له عليه، حتى عبر عن سكونه بالسكوت اه «بيضاوي». ففي هذه الجملة استعارتان: استعارة بالكناية: حيث شبه الغضب بإنسان ناطق يغرى موسى ويقول له: قل لقومك كذا وكذا، وألق الألواح، وخذ برأس أخيك، ثم يقطع الإغراء ويترك الكلام كما مر، واستعارة تصريحية تبعية: حيث شبه سكون الغضب وخموده بانقطاع كلام المتكلم وسكوته.
ومنها: الطباق بين لفظي ﴿تُضِلُّ﴾ و ﴿تَهْدِي﴾ وبين لفظي: ﴿يُحيِي﴾ ويُمِيتُ وبين لفظي: ﴿الدُّنْيا﴾ و ﴿الْآخِرَةِ﴾.
ومنها: جناس الاشتقاق بين: ﴿فَاغْفِرْ﴾ و ﴿الْغافِرِينَ﴾.
ومنها: المقابلة بين قوله: ﴿يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ﴾ وقوله: ﴿وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾ وبين قوله: ﴿وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ﴾ وقوله: ﴿وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ﴾ وهي - أعني المقابلة - أن يؤتى بأمرين أو أمور ثم يؤتى بما يقابلها على الترتيب، وهي من المحسنات البديعية.
ومنها: الالتفات في قوله: ﴿فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾؛ فإنّ فيه التفاتا من التكلم إلى الغيبة؛ لأنّ الاسم الظاهر من قبيل الغيبة، لما في الالتفات من البلاغة والنكات المقررة عندهم، كما مر في مبحث التفسير، فحق العبارة أن يقال:
فآمنوا بالله وبي.
ومنها: الاستعارة التصريحية الأصلية في قوله: ﴿وَالْأَغْلالَ﴾؛ لأنّ الغل في الأصل حديدة تجمع اليد إلى العنق وتمنعها من المد والتحرك، فشبه التكاليف الشاقة بالغل الذي هو الحديد، بجامع المنع في كل؛ لأنّ التكاليف والتحريمات تمنع من الفعل، كما أن الغل يمنع من الفعل، وقيل: شبهت بالأغلال التي تجمع اليد إلى العنق، فكما أن اليد لا تمتد مع وجود الغل، فكذلك لا تمتد إلى الحرام الذي نهيت عنه، ذكره في «الفتوحات».
ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: ﴿وَقَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطًا﴾؛ لأنّه استعار التقطيع للتفريق؛ لأنّ التقطيع حقيقة في فصل الأجسام المتصلة بعضها عن بعض كالحبل، فاشتق منه قطعنا بمعنى فرقنا، على طريقة الاستعارة التصريحية التبعية.
ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
﴿وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّدًا نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (١٦١) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَظْلِمُونَ (١٦٢) وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (١٦٣) وَإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذابًا شَدِيدًا قالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (١٦٤) فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذابٍ بَئِيسٍ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (١٦٥) فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ (١٦٦) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٦٧) وَقَطَّعْناهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (١٦٨) فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ وَدَرَسُوا ما فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٦٩) وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (١٧٠) وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٧١) وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ (١٧٢) أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (١٧٣) وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (١٧٤)﴾.
المناسبة
قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ...﴾ الآيات، إلى قوله: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ﴾ لا يزال الكلام في قصة بني إسرائيل فالمناسبة ظاهرة؛ لأنّ السابقة واللاحق كله في قصة واحدة.
أسباب النزول
قوله تعالى: ﴿وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ...﴾ الآية، ذكر (٢) في سبب نزولها أنّ بعض اليهود المعاصرين للرسول صلى الله عليه وسلّم قالوا له: لم يكن من بني إسرائيل عصيان ولا معاندة لما أمروا به، فنزلت هذه الآية موبخة لهم، ومقررة كذبهم، ومعلمة ما جرى على أسلافهم من الإهلاك والمسخ، وكانت اليهود تكتم هذه القصة، فهي من ما لا يعلم إلا بكتاب أو وحي، فإذا أعلمهم بها من لم يقرأ كتابهم.. علم أنّه من جهة الوحي.
التفسير وأوجه القراءة
١٦١ - ﴿وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ﴾؛ أي: واذكر يا محمد لهؤلاء اليهود المعاصرين لك، المنكرين عصيان أسلافهم ومعاندتهم لأمر الله تعالى قصة إذ قيل لهم؛ أي: لأسلافهم ﴿اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ﴾؛ أي: قرية الجبارين، قوم من بقية عاد - رئيسهم عوج بن عنق - أي: قصة إذ قال الله تعالى لهم على لسان موسى: إذا خرجتم من التيه.. أسكنوا بيت المقدس، أو قال لهم على لسان يوشع بعد خروجهم من التيه: اسكنوا أريحاء ﴿وَكُلُوا مِنْها﴾؛ أي: من ثمار القرية
(٢) البحر المحيط.
وقرأ ابن كثير وعاصم وحمزة والكسائي والحسن والأعمش (١): ﴿نَغْفِرْ﴾ بالنون ﴿لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ﴾ جمع سلامة بالتاء مهموزا، إلا أنّ الحسن خفف الهمزة وادغم الياء فيها، وقرأ أبو عمرو: ﴿نَغْفِرْ﴾ بالنون ﴿لكم خطاياكم﴾ على وزن قضاياكم جمع تكسير، وقرأ نافع ومحبوب عن أبي عمرو: ﴿تغفر﴾ بالتاء مبنيا للمفعول ﴿لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ﴾ بجمع سلامة، وقرأ ابن عامر: ﴿تغفر﴾ بتاء مضمومة مبنيا للمفعول ﴿لكم خطيئتكم﴾ بالإفراد مهموزا، وقرأ ابن هرمز ﴿تغفر﴾ بتاء مفتوحة على معنى إن الحطة تغفر، إذ هي سبب الغفران، وقرىء (٢): ﴿يغفر﴾ بالياء، فعلى هذا لا يقرأ ﴿خطايا﴾ بالإفراد.
﴿سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ﴾ بالطاعة والامتثال لأمرنا ثوابا في حسناتهم، وقيل المعنى: من كان محسنا منكم.. كانت تلك الكلمة سببا في زيادة ثوابه، ومن كان مسيئا.. كانت له توبة ومغفرة كما مر في البقرة،
١٦٢ - ﴿فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ أنفسهم ﴿مِنْهُمْ﴾ وهم أصحاب الخطيئة؛ أي: غيروا تلك الكلمة التي أمروا بها للتوبة وقالوا: ﴿قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ﴾؛ أي: قالوا حنطة بدل حطة، وكذلك بدلوا الفعل الذي أمروا به من دخولهم سجدا فدخلوا زحفا، فالحاصل أنّهم دخلوا الباب زاحفين على أدبارهم، قائلين حنطة على شعيرة، استخفافا بأمر الله
(٢) المراح.
تنبيه: تقدم (١) مثل هاتين الآيتين في سورة البقرة، غير أن بين الموضعين فروقا كثيرة:
منها: أنّه قال هنا: ﴿اسكنوا القرية﴾ وفي سورة البقرة ﴿ادْخُلُوا﴾ والفائدة هنا أتم؛ لأنّ السكنى تستلزم الدخول دون العكس.
ومنها: أنّه قال هنا: ﴿وَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ﴾، وفي سورة البقرة ﴿فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا﴾، فجاء العطف هناك بالفاء؛ لأنّ بدء الأكل يكون عقب الدخول، كأكل الثمرات والفواكه التي تكون في كل ناحية من القرية، أما السكنى فأمر ممتد يكون الأكل في أثنائه لا عقبه.
كما وصف هناك الأكل بالرغد - وهو الواسع الهنىء - لأنّ الأكل في أول الدخول يكون ألذ، وبعد السكنى والإقامة لا يكون كذلك.
ومنها: أنّه قال هنا: ﴿وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّدًا﴾ وقدم هنا ما أخر هناك، وأخر ما قدمه، والواو لا تدل على طلب ترتيب بين الأمرين، فالاختلاف في التعبير دال على عدم الفرق بين تقديم هذا وتأخير ذاك، وبين عكسه، إذ لا فارق بين أن يدعوا بقولهم: ﴿حِطَّةٌ﴾؛ أي: حط عنا أوزارنا وخطايانا الذي هو بمعنى قولنا: اللهم غفرانا، في حال التلبس بالتواضع والخضوع، وتنكيس الرؤوس شكرا لله على نعمه عند دخول القرية، وبين أن يبدؤوا بتنكيس الرؤوس
ومنها: أنّه قال هنا ﴿سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ﴾ بدون واو وهناك ﴿وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ﴾ بالعطف، والمعنى واحد، وترك الواو أدل على أن الزيادة تفضل من الله سبحانه وتعالى ليست مشاركة للمغفرة فيما جعل سببا لها من الخضوع والسجود والاستغفار، والدعاء بحط الأوزار.
ومنها: أنّه قال ههنا: ﴿فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ﴾ فزيد منهم على مثله في سورة البقرة.
ومعنى تبديلهم قولا غير الذي قيل لهم: أنهم عصوا بالقول والفعل، وخالفوا الأمر مخالفة تامة لا تحتمل اجتهادا ولا تأويلا، فلم يراعوا ظاهر مدلول اللفظ، ولا الفحوى والمقصود منه، حتى كأن المطلوب منه غير الذي قيل لهم.
وما روي في الإسرائيليات من هذا التبديل من الألفاط العبرانية أو العربية، فلا ثقة به، وإن خرج بعضه في الصحيح والسنن موقوفا ومرفوعا، كحديث أبي هريرة في «الصحيحين» وغيرهما: قيل لبني إسرائيل: ﴿ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ﴾ فدخلوا يزحفون على أستاههم وقالوا: ﴿حِطَّةٌ﴾ حبة في شعيرة، إذ هو مروي من طريق همام بن منبه - أخي وهب - وهمام، صاحب الغرائب في الإسرائيليات، وأبو هريرة لم يصرح بسماعه من النبي صلى الله عليه وسلّم، فيحتمل أنه سمعه من كعب الأحبار، إذ ثبت أنّه روي عنه.
ومنها: أنّه قال: ﴿فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَظْلِمُونَ﴾ وقال هناك ﴿فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ﴾، فالاختلاف بين الإنزال والإرسال، وهو خلاف لفظي، وبين ﴿عَلَيْهِمْ﴾ و ﴿عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ وبين ﴿يَظْلِمُونَ﴾ و ﴿يَفْسُقُونَ﴾، وفائدته بيان أنّهم كانوا يجمعون بين الظلم: الذي هو نقص للحق أو إيذاء للنفس أو للغير، والفسق: الذي هو الخروج عن الطاعة، والرجز كما تقدم العذاب الذي تضطرب له القلوب، أو يضطرب له الناس في شؤونهم ومعايشهم.
١٦٣ - وقوله: ﴿وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ﴾ (٢) معطوف على عامل إذ المقدر؛ أي: واذكر لهم يا محمد إذ قيل لهم ﴿وَسْئَلْهُمْ﴾ وهذا سؤال توبيخ وتقريع؛ أي: اسألهم عن هذا الحادث الذي حدث لهم فيها، المخالف لما أمرهم الله به وقرىء ﴿وسلهم﴾.
وقد ذكرت (٣) هذه القصة في سورة البقرة إجمالا، وههنا ذكرت تفصيلا، إذ كانت سورة الأعراف نزلت بمكة في أوائل الإسلام، ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلّم لقي أحدا من اليهود، وقد كان أميا لا يقرأ كتابا كما قال تعالى: ﴿وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ (٤٨)﴾ فكان ذلك أدل على الإعجاز.
والخطاب فيه للنبي صلى الله عليه وسلّم، والسؤال للتقرير المتضمن للتقريع والتوبيخ، وبيان أن كفر أهل الكتاب بمحمد صلى الله عليه وسلّم وبمعجزاته ليس بدعا جديدا منهم، فإنّ أسلافهم أقدموا على هذا الذنب القبيح، والمعصية الفاحشة، واعتدوا هذا الاعتداء الشائن الذي قص خبره.
والمعنى: واسأل يا محمد اليهود المعاصرين لك سؤال تقريع عن خبر أهل المدينة التي كانت قريبة من بحر القلزم - وهي أيلة قرية بين مدين والطور - وقيل: هي قرية يقال لها مقنا بين مدين وعينونا، وتقدم لك في أسباب النزول: أن اليهود قالوا: لم يصدر من بني إسرائيل عصيان ولا مخالفة للرب، فأمره الله
(٢) الشوكاني.
(٣) المراغي.
والظرف في قوله: ﴿إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا﴾ متعلق بـ ﴿يَعْدُونَ﴾؛ أي: يتجاوزون حدود الله وينتهكون حرماتها باصطياد السمك، إذ تأتيهم الحيتان والأسماك يوم سبتهم؛ أي: يوم تعظيمهم لأمر السبت بالتجرد والتفرغ للعبادة، وقرأ عمر بن عبد العزيز: ﴿يوم أسباتهم﴾، قال أبو الفضل الرازي في كتاب «اللوامع»: وقد ذكرت هذه القراءة عن عمر بن عبد العزيز، وهو مصدر من أسبت الرجل إذا دخل في السبت، وقوله: شرعا، حال من فاعل ﴿تَأْتِيهِمْ﴾؛ أي: إذ تأتيهم الحيتان حالة كونها شرعا؛ أي: ظاهرة على وجه الماء، قريبة من الساحل، ينظرون إليها ابتلاء من الله واختبارا لهم، فإذا انقضى السبت ذهبت وما تعود إلا في السبت المقبل، كما قال: ﴿وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ﴾؛ أي: لا يدخلون في السبت ولا يراعون حرمتها، وهو سائر الأيام ﴿لا تَأْتِيهِمْ﴾ كما كانت تأتيهم يوم سبتهم؛ أي: لا تظهر على ظاهر الماء، ولا تقرب إلى
(٢) الشوكاني.
وقرأ عيسى بن عمر وعاصم بخلاف عنه ﴿لا يَسْبِتُونَ﴾ بضم كسرة الباء في قراءة الجمهور، وقرأ علي والحسن وعاصم بخلاف عنه ﴿يَسْبِتُونَ﴾ بضم ياء المضارعة، من أسبت إذا دخل في السبت، قال الزمخشري: وعن الحسن ﴿لا يَسْبِتُونَ﴾ بضم الياء على البناء للمفعول؛ أي: لا يدار عليهم السبت، ولا يؤمرون بأن يسبتوا.
﴿كَذلِكَ﴾؛ أي: مثل هذا البلاء والاختبار بظهور السمك يوم السبت ﴿نَبْلُوهُمْ﴾؛ أي: نبتليهم ونختبرهم، ونعاملهم معاملة المختبر لحال من يراد إظهار حاله، ليترتب الجزاء على عمله ﴿بِما كانُوا يَفْسُقُونَ﴾؛ أي: بسبب فسقهم المستمر، وخروجهم عن أمر ربهم، واعتدائهم حدود شرعه، وقد جرت سنة الله تعالى بأن من أطاعه.. سهل له أمور الدنيا، وأجزل له الثواب في الآخرة، ومن عصاه.. ابتلاه بأنواع المحن والبلاء.
١٦٤ - والظرف في قوله: ﴿وَإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ﴾ معطوف على قوله: ﴿إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ﴾ معمول لعامله داخل في حكمه؛ أي: واسألهم يا محمد عن حال أهل تلك القرية، حين قالت جماعة منهم؛ أي: من صلحائهم الذين ركبوا الصعب والمشقة في موعظة أولئك الصيادين، حتى أيسوا من قبولهم الموعظة - لأقوام آخرين من الصلحاء الذين لم يقلعوا عن وعظ الصيادين، ولم يتركوه رجاء للنفع، وطمعا في فائدة الإنذار؛ أي: قال الآيسون من الوعظ للمستمرين فيه: ﴿لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا﴾؛ أي: لم تستمرون في وعظ قوم ﴿اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ﴾؛ أي: مخزيهم في الدنيا بعذاب الاستئصال ﴿أَوْ مُعَذِّبُهُمْ﴾ في الآخرة ﴿عَذابًا شَدِيدًا﴾؛ موجعا لعدم إقلاعهم عما كانوا عليه من الفسق والاصطياد.
فرقة العادين في السبت التي أشير إليها في الآية الأولى.
وفرقة الواعظين لهؤلاء العادين، لينتهوا عن عدوانهم ويكفوا عنه.
وفرقة اللائمين للواعظين التي قالت لهم: لم تعظون قوما قضى الله عليهم بالهلاك بالاستئصال، أو بعذاب شديد دون الاستئصال، أو المراد: مهلكهم في الدنيا، ومعذبهم في الآخرة، والاستفهام فيه للتوبيخ والتقريع.
﴿قالُوا﴾؛ أي: قال الواعظون للائمين لهم: نعظهم ﴿مَعْذِرَةً﴾؛ أي: موعظة اعتذار نعتذر بها ﴿إِلى رَبِّكُمْ﴾ عن السكوت على المنكر، فإذا طولبنا بإقامة فريضة النهي عن المنكر.. قلنا قد فعلنا، فنكون بذلك معذورين ﴿وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾؛ أي: ورجاء لأن يتقوا بعض التقاة، ويتركوا الصيد في السبت، فهو معطوف على معنى معذرة؛ أي: وعظناهم للاعتذار إلى ربكم، ولرجاء أن ينتفعوا بالموعظة، فيحملهم ذلك على اتقاء الاعتداء الذي اقترفوه، إذ نحن لم نيأس من رجوعهم إلى الحق كما أنتم منهم يائسون، وقرأ الجمهور (٢): ﴿معذرة﴾ بالرفع على أنّه خبر مبتدأ محذوف؛ أي: موعظتنا معذرة؛ أي: موعظتنا إقامة عذر إلى الله، ولئلا ننسب في النهي عن المنكر إلى بعض التقصير، ولطمعنا في أن يتقوا المعاصي، وقرأ حفص عن عاصم وزيد بن علي وعيسى بن عمر وطلحة بن مصرف ﴿مَعْذِرَةً﴾ - بالنصب - على أنّه مفعول لأجله؛ أي: وعظناهم لأجل المعذرة، وللرجاء في اتقائهم المعاصي.
١٦٥ - ﴿فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ﴾؛ أي: فلما ترك العادون ما وعظوا به، وأعرضوا عنه، حتى صار كالمنسي عنه، بحيث لا يخظر ببالهم شيء من تلك المواعظ أصلا، ﴿أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ﴾؛ أي: عن العمل السيء الذي هو أخذ الحيتان في يوم السبت، وهم الفريقان الآخران ﴿وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾؛ أنفسهم بأخذ
(٢) الفتوحات.
والخلاصة (١): أنه لما ذكّر المذكّرون ولم يتذكر المعتدون.. أنجينا الأولين وأخذنا الآخرين، وقد جرت سنة الله بأن لا يؤخذ الظالم في الدنيا بكل ما يقع منه من ظلم، كما يدل على ذلك قوله: ﴿وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ﴾، وقوله: ﴿وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ﴾، ولكنه يؤاخذ الأمم والشعوب في الدنيا قبل الآخرة بما يقع منها من ظلم يظهر أثره بالاستمرار عليه كما قال: ﴿وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً﴾، كما عاقب الله بني إسرائيل كافة بتنكيل البابليين، ثم النصارى بهم، وسلبهم ملكهم حين عم فسقهم، ولم يدفع ذلك عنهم وجود بعض الصالحين فيهم.
وبالجملة: فالآية صريحة في هلاك الظالمين الفاسقين، ونجاة الصالحين الذين نهوهم عن عمل السوء وارتكاب المنكر، وسكت عن الفرقة التي أنكرت على الواعظين وعظهم وإنكارهم، وهي ناجية أيضا؛ لأنّها كانت منكرة للمنكر مستقبحة له، بدليل أنّها لم تفعله، وإنّما لم تنه عنه ليأسها من فائدة النهي، واعتقادها أنّ القوم قد استحقوا عقاب الله تعالى بإصرارهم على الفسق، فلا يفيدهم الوعظ، وهذا رأي ابن عباس رضي الله عنهما.
قوله: ﴿بِعَذابٍ بَئِيسٍ﴾، قرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة والكسائي ﴿بَئِيسٍ﴾ على وزن فعيل، كرئيس، فالهمزة بين الباء والياء، وقرأ نافع: ﴿بيس﴾ بكسر الباء من غير همز، وقرأ ابن عامر كذلك، إلا أنّه همز، وروى خارجة عن نافع: ﴿بيس﴾ - بفتح الباء - من غير همز - على وزن فعل -، وروى أبو بكر عن
١٦٦ - ﴿فَلَمَّا عَتَوْا﴾ وأبوا أن ينكفوا ويقلعوا ﴿عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ﴾ من الاصطياد؛ أي: فلما تمرّدوا وتكبروا، وأبو أن يتركوا ما نهاهم عنه الواعظون ﴿قُلْنا لَهُمْ﴾؛ أي: لأولئك العادين باصطياد السمك ﴿كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ﴾؛ أي: صاغرين أذلاء بعداء عن الناس؛ أي: تعلقت إرادتنا بأن يكونوا كذلك، فكانوها صورة ومعنى.
وهذا الجزاء تفصيل للعذاب البئيس الذي ذكر في الآية السالفة، وقيل: إنّه عذاب آخر، فقد عاقبهم أوّلا بالبؤس والشقاء في المعيشة، إذ من الناس من لا يربيه ولا يهذبه إلا الشدة والبؤس، ولما لم يزدهم البؤس إلا عتوا وإصرارا على الفسق والظلم.. مسخهم مسخ خلق وجسم، فكانوا قردة على الحقيقة، وهذا ما يراه جمهرة العلماء، أو مسخ خلق ونفس، فكانوا كالقردة في الطيش والشر والإفساد لما تصل إليه أيديهم، وهذا رأي مجاهد قال: مسخت قلوبهم فلم يوفقوا لفهم الحق.
وفي الآية إيماء إلى أنّ هذا المسخ كان لمخالفتهم الأوامر وتماديهم في العصيان، ولم يكن لاصطياد الحيتان فحسب.
١٦٧ - ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ﴾؛ أي: واذكر يا محمد قصة إذ أعلم ربك أسلاف اليهود على ألسنة أنبيائهم، إن لم يؤمنوا بأنبيائهم وعزني وجلالي ﴿لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ﴾؛ أي: ليسلطن عليهم ﴿إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ﴾؛ أي: من يذيقهم ﴿سُوءَ الْعَذابِ﴾؛ أي: أشد العذاب؛ أي: من يقاتلهم إلى أن يسلموا أو يعطوا الجزية، وهو محمد صلى الله عليه وسلّم وأمته، والظرف في قوله: ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ﴾ منصوب على المفعولية بمقدر معطوف على ﴿وَسْئَلْهُمْ﴾ والتقدير: واذكر يا محمد لليهود وقت أن تأذن ربك؛
﴿إِنَّ رَبَّكَ﴾ يا محمد ﴿لَسَرِيعُ الْعِقابِ﴾ لمن عصاه إذا جاء وقته، فيعاقبهم في الدنيا، أما قبل مجيء وقت العذاب فهو شديد الحلم.. والمعنى: أي إن ربك سريع العقاب للأمم التي تفسق عن أمره، وتفسد في الأرض، فلا يتخلف عقابه عنها كما يتخلف عن بعض الأفراد، يؤيد هذا قوله: ﴿وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيرًا (١٦)﴾؛ أي: وإذا أردنا هلاك قرية من القرى.. أمرنا سادتها وكبرائها بالحق والعدل والرحمة، فعصوا أمر ربهم وأفسدوا وظلموا في الأرض، فحق عليهم القول بمقتضى سنته في خلقه، فحل بهم الهلاك، وحاق بهم النكال جزاء بما كانوا يعملون. ﴿وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ لمن تاب من الكفر واليهودية ودخل في دين الإسلام.
والمعنى: ﴿وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ لمن أقلع عن ذنبه وأناب إليه، وأصلح ما كان قد أفسد في الأرض، قبل أن يحل به عذابه، والآية بمعنى قوله: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ
١٦٨ - وقد فصل سبحانه عقابهم، فذكر بدء إذلالهم بإزالة وحدتهم، وتمزيق جامعتهم، فقال: ﴿وَقَطَّعْناهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا﴾؛ أي: وفرقنا بني إسرائيل الذين قبل النبي صلى الله عليه وسلّم في نواحي الأرض وأقطارها حالة كونهم فرقا كثيرة، وأمما؛ أي: جماعات مشتتة، فيها كل فرقة منهم في قطر من أقطارها، فلا يخلو منهم قطر، وليس لهم شوكة ولا دولة.. ﴿مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ﴾ كالذين نهوا من اعتدوا في السبت عن ظلمهم، والذين كانوا يؤمنون بالأنبياء من بعد موسى، والذين آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلّم ﴿وَمِنْهُمْ﴾ أناس ﴿دُونَ ذلِكَ﴾ المذكورين في الصلاح لم يبلغوا مبلغهم، وهم سائر المؤمنين من بني إسرائيل، ومنهم الغلاة في الكفر والفسق، كالذين كانوا يقتلون النبيين بغير حق، ومنهم السماعون للكذب، الأكالون للسحت والرشا، لتبديل الأحكام، والقضاء بغير ما أنزل الله تعالى، كما هو شأن الأمم؛ فإنّها تفسد تدريجا لا دفعة واحدة، كما نشاهد ذلك في المسلمين الذين تتبعوا نظم النصارى، ورضعوا البانهم، وقيل معنى ﴿وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ﴾؛ أي: ومنهم أناس غير أولئك الصالحين، وهم الذين كفروا من بني إسرائيل وبدلوا وغيروا ﴿وَبَلَوْناهُمْ﴾؛ أي: واختبرناهم ﴿بِالْحَسَناتِ﴾؛ أي: بالنعم والخصب والعافية وَالسَّيِّئاتِ؛ أي: بالجدوبة والشدائد ﴿لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾؛ أي: لكي يرجعوا عن معصيتهم إلى طاعة ربهم؛ فإن كلا من الحسنات والسيئات يدعو إلى الطاعة بالترغيب والترهيب، والمعنى: واختبرنا بني إسرائيل وامتحنا استعدادهم بالنعم التي تحسن في عيونهم، وتقر بها أفئدتهم، وبالنقم التي تسؤهم - وإن كانت قد تحسن بالصبر عاقبتها لديهم - رجاء أن يرجعوا عن ذنبهم، وينيبوا إلى ربهم، فيعود إليهم فضله ورحمته.
١٦٩ - ﴿فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ﴾؛ أي: جاء من بعد هؤلاء الذين وصفناهم بدل سوء ﴿وَرِثُوا الْكِتابَ﴾؛ أي: أخذوا التوراة من أسلافهم يقرؤونها ولا يعملون بها وقرأ الحسن: ﴿ورثوا﴾ بضم الواو وتشديد الراء، حالة كونهم ﴿يَأْخُذُونَ﴾ من
وحاصل المعنى: أي نبتت من أولئك - الذين منهم الصالح والطالح - نابتة ورثوا التوراة؛ أي: وقفوا على ما فيها، وكانوا عالمين بأحكامها بعد أسلافهم، والحال أنّهم يؤثرون حطام الدنيا ومتاعها، بما يأكلونه من السحت والرشا، والاتجار بالدين والمحاباة في الحكم، ويقولون: سيغفر لنا ولا يؤاخذنا بما فعلنا، فإنّنا أبناء الله وأحباؤه، وسلائل أبنائه وشعبه الذي اصطفاه من سائر البشر، إلى نحو ذلك من الأماني والأضاليل، وهم بالغون في خطاياهم، مصرون على ذنوبهم، فإن يأتهم عرض آخر مثل الذي أخذوه أولا بالباطل.. يأخذوه ولا يستعففوا عنه، وهم يعلمون أن الله إنما وعد بالمغفرة للتائبين الذين يقلعون عن ذنبهم، ندما وخوفا من ربهم، ويصلحون ما كانوا قد أفسدوا، ثم رد الله عليهم ما زعموه بقولهم: سيغفر لنا، وهم مقيمون على ظلمهم وفسادهم وحبهم للدنيا فقال: ﴿أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ﴾ والاستفهام فيه لتقرير ما بعد النفي، ولا يخفى ما فيه من التقريع والتوبيخ؛ أي: ألم يؤخذ ويجعل عليهم في التوراة العهد المؤكد باليمين على ﴿أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ﴾؛ والصدق الذي بينه فيه، وقد منعوا فيها من تحريف الكتاب وتغيير الشرائع لأجل أخذ الرشوة. وللتمني، ففيه افتراء على الله تعالى، ففيها أن من ارتكب ذنبا عظيما فإنّه لا يغفر له إلا بالتوبة، ﴿وَ﴾ قد ﴿دَرَسُوا ما فِيهِ﴾؛ أي: ما في الكتاب وقرؤوه وعلموا ما فيه، والمعنى: أنّهم تركوا العمل بالميثاق المأخوذ عليهم في الكتاب، والحال أنّهم قد درسوا ما في الكتاب وعلموه، فكان الشرك منهم عن علم لا عن جهل، والمقصود من الاستفهام التقريري: إثبات ما بعد النفي، والمعنى: قد أخذ عليهم الميثاق في الكتاب، ودرسوا ما فيه من الميثاق، وفهموا ما فيه، فهم ذاكرون لما أخذ عليهم من تحريم أكل أموال الناس بالباطل، والكذب على الله تعالى، وقيل: معنى
والمعنى (١): والدار الاخرة وما فيها من النعيم خير للذين يقتون المعاصي ما ظهر منها وما بطن؛ أي: خير لهم من حطام الدنيا الفاني، الذي يؤخذ بالرشا والسحت وغير ذلك، أتجهلون ذلك فلا تعقلون، وهو واضح لا يخفى على كل ذي عقل لم تطمسه الشهوات، ولم يعم بصيرته حطام الدنيا العاجل، وبذا يرجح الخير على الشر، والنعيم المقيم على المتاع الزائل، وفي هذا إيماء إلى أنّ الطمع في متاع الدنيا هو الذي أفسد على بني إسرائيل أمرهم، واستحوذ عليهم حب العاجلة، فأذهب عنهم رشدهم.
وفي هذا عبرة للمسلمين الذين سرى إليهم كثير من هذا الفساد، وغلب عليهم الطمع وحب الدنيا وعرضها الزائل، وهم قد درسوا كتابهم الكريم، لكن التحلي بلقب الإسلام - والتعلل بأماني المغفرة مع الإصرار على الذنوب اتكالا على الشفاعات والمكفرات - هو الذي غرهم وجعلهم يتمادون في غيهم، وكتابهم ينهاهم عن الأماني والأوهام، وكون الشفاعة لا تقع إلا بإذن الله تعالى لمن رضي عنه كما قال: ﴿وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ﴾.
وقرأ (٢) نافع وابن عامر وحفص بالتاء على الخطاب إلتفاتا لهم، ويكون المراد إعلاما بتناهي الغضب، وتشديد التوبيخ، أو يكون خطابا لهذه الأمة؛ أي:
(٢) البحر المحيط، والمراح.
١٧٠ - ﴿وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ﴾ قرأ عمر (١) وأبو العالية وأبو بكر عن عاصم ﴿يُمَسِّكُونَ﴾ من أمسك، والجمهور ﴿يُمَسِّكُونَ﴾ مشددا، من مسك المضعف، وهما لغتان جمع بينهما كعب بن زهير:
فما تمسّك بالعهد الّذي زعمت | إلّا كما يمسك الماء الغرابيل |
أي: والذين يعملون ﴿بـ﴾ ما في ﴿الكتاب﴾ الأول التوراة والإنجيل، ويحلون حلاله ويحرمون حرامه، ويبينون صفة محمد صلى الله عليه وسلّم ونعته، ولم يحرفوه ولم يغيروا، فإنّهم بالتمسك به، كانوا أشد تمسكا بالكتاب الثاني الذي هو القرآن ﴿وَأَقامُوا الصَّلاةَ﴾؛ أي: وداموا على إقامتها في مواقيتها، كعبد الله بن سلام وأصحابه، وإنّما أفرد الصلاة بالذكر - وإن كانت داخلة في التمسك بالكتاب - تنبيها على عظم قدرها، وأنّها من أعظم العبادات بعد الإيمان بالله ورسوله، والموصول مبتدأ والخبر قوله: ﴿إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ﴾ بالعمل بما في الكتاب وبالصلاة؛ أي: لا نضيع ولا نحبط أجر أعمالهم الصالحة، وجاز جعل هذه الجملة خبرا عن الموصول؛ لأن الربط حاصل بلفظ ﴿الْمُصْلِحِينَ﴾؛ لأنّه قائم مقام الضمير، لا سيما وهو فيه الألف واللام؛ فإنها تكفي في الربط عند الكوفيين، ويجوز أن يكون الموصول معطوفا على الموصول الذي قبله، وهو قوله: ﴿لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ﴾، وتكون حينئذ جملة ﴿أَفَلا تَعْقِلُونَ﴾ جملة معترضة.
والمعنى (٢): أن طائفة من أهل الكتاب لا يتمسكون بالكتاب، ولا يعملون بما فيه مع كونهم قد درسوه وعرفوه، وهم من تقدم ذكره، وطائفة يتمسكون بالكتاب؛ أي: بالتوراة ويعملون بما فيه، ويرجعون إليه في أمر دينهم، فهم المحسنون الذين لا يضيع أجرهم عند الله تعالى.
(٢) الشوكاني.
١٧١ - ثم ختم سبحانه هذه القصة مذكرا ببدء حالهم في إنزال الكتاب عليهم، عقب بيان مخالفتهم لأمور دينهم، والخروج عنه فقال: ﴿وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ﴾؛ أي: واذكر يا محمد لهم قصة إذ نتقنا جبل الطور وقلعناه من أصله ورفعناه ﴿فَوْقَهُمْ﴾؛ أي: فوق بني إسرائيل حتى صار ﴿كَأَنَّهُ﴾؛ أي: كأن ذلك الجبل ﴿ظُلَّةٌ﴾ وغمامة أظلت فوقهم ﴿وَظَنُّوا﴾؛ أي: أيقنوا أنّهم إن خالفوا أوامر دينهم ﴿أَنَّهُ﴾؛ أي: أنّ ذلك الجبل ﴿واقِعٌ بِهِمْ﴾؛ أي: ساقط عليهم لا محالة. وذلك أنّه أخذ عليهم الميثاق ليأخذن الشريعة بقوة وعزم، فخالفوا الميثاق، فرفع فوقهم الطور، وأوقع في قلوبهم الرعب خوف وقوعه عليهم، فخر كل واحد منهم ساجدا لربّه، وقيل العمل بالميثاق.
روي (١): أنّ بني إسرائيل أبو أن يقبلوا التوراة، فرفع الجبل فوقهم، وقيل لهم: إنّ قبلتم العمل بها وإلا ليقعن عليكم، فوقع كل منهم ساجدا على حاجبه الأيسر، وهو ينظر بعينه اليمنى إلى الجبل فرقا من سقوطه، فلذلك لا ترى يهوديا يسجد إلا على حاجبه الأيسر ويقولون: هي السجدة التي رفعت عنّا بها العقوبة حين امتثلنا ما أمرنا به.
وفي الآية تعريض بأنّهم إذا كانت حالهم في مبدأ أمرهم مخالفة كتابهم، فلا عجب إذا آل أمرهم إلى ترك العمل به بعد طول الأمد، وقساوة القلوب، والأنس بالمعاصي والذنوب، وقلنا لهم في حال رفع الجبل فوقهم: ﴿خُذُوا ما آتَيْناكُمْ﴾؛ أي: ما أعطيناكم من الكتاب وأحكام الشريعة، واعملوا به حالة
قوة العزيمة في إقامة الدين تزكي النفوس وتهذب الأخلاق، كما أنّ التهاون فيها يدسّيها ويغريها على اتباع الشهوات ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها (٩) وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها (١٠)﴾ أو المعنى: لكي تتقون قبائح الأعمال ورذائل الأخلاق. وقرأ (١) الأعمش ﴿واذكروا﴾ بالتشديد من الأذكار. وقرأ ابن مسعود ﴿وتذكروا﴾، وقرىء ﴿وتذكروا﴾ بالتشديد بمعنى وتذكروا.
١٧٢ - قوله: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ﴾ معطوف على قوله: ﴿وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ﴾ عطف قصة على قصة، والحكمة في تخصيص (٢) بني إسرائيل بهذه القصة الزيادة في إقامة الحجة عليهم، حيث أعلمهم الله بأنّه أعلم نبيه بمبدأ العالم، فضلا عن وقائعم؛ أي: واذكر يا محمد للناس كافة قصة إذ أخذ ربك العهد ﴿مِنْ بَنِي آدَمَ﴾ على التوحيد وقال لهم: اعلموا أنه لا إله غيري، وأنا ربكم لا رب لكم غيري، فلا تشركوا بي شيئا، فإنّي سأنتقم ممن أشرك بي ولم يؤمن بي، وإنّي مرسل إليكم رسلا يذكرونكم عهدي وميثاقي هذا، ومنزل عليكم كتابا، فتكلموا جميعا وقالوا: شهدنا أنك ربنا لا رب لنا غيرك، فأخذ بذلك مواثيقهم حين استخرج ﴿مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ﴾؛ أي: أخرج بعضهم من ظهور بعض، آخر الأبناء من الآباء بطنا بعد بطن، فأخرج أولا ذرية آدم من ظهره، فأخذوا من ظهره كما يؤخذ بالمشط من الرأس، ثم أخرج من هذا الذر الذي أخرجه من آدم ذريته ذرا، ثم أخرج من الذر الآخر ذريته ذرا، وهكذا إلى آخر النوع الإنساني، وانحصر الجميع قدام آدم، ونظر لهم بعينه، وخلق فيهم العقل والفهم والحركة والكلام، وبين مسلمهم من كافرهم، بأن جعل الذر المسلم أبيض والكافر أسود {وَأَشْهَدَهُمْ
(٢) الصاوي.
وقد أخرج مالك في «الموطأ» وأحمد في «المسند» وعبد بن حميد والبخاري في «تاريخه»، وأبو داود والترمذي، وحسنه والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم، وابن حبان في «صحيحه» وغيرهم: أن عمر بن الخطاب سئل عن هذه الآية ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ﴾.. الآية فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يسأل عنها؟ فقال: «إن الله تعالى خلق آدم ثم مسح ظهره بيمينه، فاستخرج منه ذرية، فقال: خلقت هؤلاء للجنة، وبعمل أهل الجنة يعملون، ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية فقال: خلقت هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون، فقال رجل: يا
والأحاديث في هذا الباب كثيرة، وأما المروي عن الصحابة في تفسير هذه الآية بإخراج ذرية آدم من صلبه في عالم الذر، وأخذ العهد عليهم وإشهادهم على أنفسهم.. فهي كثيرة، منها عن ابن عباس عند ابن حميد وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ في قوله: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ﴾... الآية. قال: خلق الله آدم، وأخذ ميثاقه أنّه ربه، وكتب أجله ورزقه، ثم أخرج ولده من ظهره كهيئة الذر، فأخذ مواثيقهم أنّه ربهم، وكتب آجالهم وأرزاقهم ومصيباتهم. وقد أخرج عن جماعة ممن بعد الصحابة تفسير هذه الآية بإخراج ذرية آدم من ظهره، وفيما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلّم في تفسيرها، مما قدمنا ذكره ما يغني عن التطويل.
وقرأ أبو عمرو وابن عامر ونافع (١): ﴿ذرياتهم﴾ بالجمع، وقرأ باقي السبعة ﴿ذُرِّيَّتَهُمْ﴾ بالإفراد، وهي تقع على الواحد والجمع، ثم بين سبحانه وتعالى سبب الإشهاد وعلته فقال: ﴿أَنْ تَقُولُوا﴾ قرأ أبو عمرو هنا وفيما يأتي بالياء التحتية على الغيبة، كما كان فيما قبله على الغيبة، وقرأ الباقون بالتاء الفوقية على الخطاب، وجملة ﴿أَنْ تَقُولُوا﴾ علة لمحذوف تقديره: فعلنا ذلك الأخذ والإشهاد كراهة أن تقولوا أيها الذرية، أو لكي لا تقولوا: ﴿يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا﴾ التوحيد؛ أي: عن كون الله ربنا وحده لا شريك له ﴿غافِلِينَ﴾؛ أي: ساهين جاهلين؛ أي: إنّا (٢) فعلنا هذا الأخذ والإشهاد بكم منعا لاعتذاركم يوم القيامة بأن تقولوا: «إذا عذبت على الإشراك: إنا كنا عن هذا التوحيد غافلين، إذ لم ينبهنا إليه منبه، ومآل هذا أنّه لا يقبل منهم الاعتذار بالجهل؛ لأنّهم نبهوا بنصب الأدلة، وجعلوا
(٢) المراغي.
١٧٣ - ﴿أَوْ تَقُولُوا﴾ بالتاء أو الياء معطوف على ﴿تَقُولُوا﴾ الأول؛ أي: فعلنا ذلك الأخذ والميثاق كراهية أن تعذروا بالغفلة أو بقولكم: ﴿إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ﴾؛ أي: إنّما أسس الإشراك آباؤنا من قبل زماننا ﴿وَكُنَّا ذُرِّيَّةً﴾ موجودين ﴿مِنْ بَعْدِهِمْ﴾ مقتدين بهم في الإشراك، جاهلين لا نهتدي إلى الحق، ولا نعرف الصواب، والفاء في قوله ﴿أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ﴾ داخلة على محذوف تقديره: أتؤاخذنا يا مولانا فتهلكنا بالإشراك الذي أسسه لنا، واخترعه آباؤنا المبطلون؛ أي: الملتبسون بالباطل، الذي هو الإشراك، ولا ذنب لنا لجهلنا وعجزنا عن النظر واقتفائنا آثارهم، والاستفهام فيه للاستعطاف، وفيه معنى الإنكار ولفظة ﴿أَوْ﴾ مانعة خلو لا جمع، فقد
يعتذرون بمجموع الأمرين.
والمعنى: أي أو (١) تقولوا في ذلك اليوم: إن آباءنا اخترعوا الإشراك وسنوه من قبل زماننا، وكنا جاهلين ببطلان شركهم، فلم يسعنا إلا الاقتداء بهم، ولم نهتد إلى التوحيد، أتؤاخذنا فتهلكنا اليوم بالعذاب بما فعله المبطلون من آبائنا المضلين، فتجعل عذابنا كعذابهم؟
والخلاصة (٢): أنّ الله لا يقبل منهم الاعتذار بتقليد الآباء والأجداد، إذ التقليد عند قيام الدلائل، والقدرة على الاستدلال بها، مما لا يركن إليه ولا ينبغي لعاقل أن يلجأ إليه، كما أنّ الاعتذار بالجهل بعدما أقام عليهم من البينات الفطرية والعقلية مما لا يقبل.
والحاصل: أنّ الله سبحانه وتعالى (٣) بين في هذه الآية الحكمة التي لأجلها أخرجهم من ظهر آدم، وأشهدهم على أنفسهم، وأنّه فعل ذلك لئلا يقولوا هذه المقالة يوم القيامة، ويعتلوا بهذه العلة الباطلة، ويعتذروا بهذه المعذرة الساقطة.
١٧٤ - ﴿وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ﴾؛ أي (٤): ومثل هذا التفصيل الذي فصلناه في
(٢) المراغي.
(٣) الشوكاني.
(٤) البحر المحيط.
والمعنى (١): أي ومثل ذلك التفصيل المستتبع للمنافع الجليلة نفصل لبني آدم الآيات والدلائل، ليستعملوا عقولهم في التبصر فيها، والتدبر في أمرها، لعلهم يرجعون بها عن جهلهم، وتقليد آبائهم وأجدادهم.
وفي الآية إيماء إلى أنّ من لم تبلغه بعثة رسول.. لا يعذر يوم القيامة في الشرك بالله تعالى، ولا بفعل الفواحش والموبقات التي تنفر منها الفطر السليمة، وتدرك ضررها العقول الحصيفة، بل يعذرون بمخالفة هداية الرسل فيما شأنه أن لا يعرف إلا منهم، وهو تفصيل العبادات، وعالم الغيب، وما سيكون في اليوم الآخر من أحوال العاصين، وشؤون النبيين والصديقين من عقاب وثواب، وكنه ذلك على الحقيقة.
الإعراب
﴿وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ﴾.
﴿وَإِذْ﴾ الواو: استئنافية، ﴿إِذْ﴾ ظرف لما مضى من الزمان في محل النصب على الظرفية متعلقة بمحذوف تقديره: واذكر يا محمد لهم قصة إذ قيل لهم، والجملة المحذوفة مستأنفة، ﴿قِيلَ﴾: فعل ماض مغير الصيغة، ﴿لَهُمُ﴾: متعلق به، ﴿اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ﴾ إلى آخر الآية نائب فاعل محكي، والجملة الفعلية في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿إِذْ﴾. ﴿اسْكُنُوا﴾: فعل وفاعل، ﴿هذِهِ﴾: في محل النصب على الظرفية عند سيبويه، وعلى المفعول به عند الأخفش ﴿الْقَرْيَةَ﴾ نعت لـ ﴿هذِهِ﴾ أو عطف بيان منه، والجملة الفعلية في محل الرفع نائب فاعل
﴿وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّدًا نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ﴾.
﴿وَقُولُوا﴾: فعل وفاعل، معطوف على ﴿اسْكُنُوا﴾، ﴿حِطَّةٌ﴾: خبر لمبتدأ محذوف تقديره: مسألتنا حطة، والجملة في محل النصب مقول لـ ﴿قُولُوا﴾، ﴿وَادْخُلُوا﴾ فعل وفاعل معطوف على ﴿اسْكُنُوا﴾، ﴿الْبابَ﴾ منصوب على الظرفية المكانية، متعلق بـ ﴿ادْخُلُوا﴾، ﴿سُجَّدًا﴾ حال من واو ﴿ادْخُلُوا﴾. ﴿نَغْفِرْ﴾: فعل مضارع مجزوم بالطلب السابق، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة جواب الطلب لا محل لها من الإعراب، ﴿لَكُمْ﴾ متعلقان بـ ﴿نَغْفِرْ﴾. ﴿خَطِيئاتِكُمْ﴾: مفعول به ومضاف إليه، ﴿سَنَزِيدُ﴾: فعل مضارع، ﴿الْمُحْسِنِينَ﴾: مفعول به، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة معطوفة بعاطف مقدر كما أظهره في سورة البقرة على جملة ﴿نَغْفِرْ﴾ على كونها جواب الطلب، وإنّما لم يجزم لأنّ الطلب عامل ضعيف فلا يعمل في المعطوف.
﴿فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَظْلِمُونَ (١٦٢)﴾.
﴿فَبَدَّلَ﴾: ﴿الفاء﴾: فاء الفصيحة لأنّها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفت أنّهم أمروا بقول حطة وأردت بيان ما قالوا.. فأقول لك، ﴿بدل الذين﴾: فعل وفاعل، والجملة في محل النصب مقول لجواب إذ المقدرة، وجملة إذ المقدرة مستأنفة استئنافا بيانيا، ﴿ظَلَمُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، ﴿مِنْهُمْ﴾: جار ومجرور، حال من واو ﴿ظَلَمُوا﴾، ﴿قَوْلًا﴾: مفعول به، ﴿غَيْرَ﴾: صفة لـ ﴿قَوْلًا﴾، ﴿غَيْرَ﴾: مضاف، ﴿الَّذِي﴾: مضاف إليه، ﴿قِيلَ﴾: فعل ماض مغير الصيغة، ونائب فاعله ضمير يعود على الموصول، ﴿لَهُمْ﴾: متعلق به، والجملة صلة الموصول، ﴿فَأَرْسَلْنا﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة تفريعية، ﴿أرسلنا﴾ فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة ﴿بدل﴾،
﴿وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا﴾.
﴿وَسْئَلْهُمْ﴾: الواو: عاطفة قصة على قصة، ﴿سْئَلْهُمْ﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة معطوفة على الجملة المحذوفة في قوله: ﴿وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ﴾ أعني: أذكر، أو مستأنفة، ﴿عَنِ الْقَرْيَةِ﴾: جار ومجرور في محل المفعول الثاني، متعلق بـ ﴿اسأل﴾، ﴿الَّتِي﴾: صفة لـ ﴿الْقَرْيَةِ﴾، ﴿كانَتْ﴾: فعل ناقص واسمها ضمير يعود على ﴿الْقَرْيَةِ﴾، ﴿حاضِرَةَ الْبَحْرِ﴾: خبرها ومضاف إليه، والجملة صلة الموصول، ﴿إِذْ﴾: ظرف لما مضى من الزمان في محل النصب على الظرفية، متعلق بمضاف محذوف في قوله: ﴿عَنِ الْقَرْيَةِ﴾ تقديره: واسألهم عن حال القرية وقت عدوانهم في يوم السبت، ﴿يَعْدُونَ﴾: فعل وفاعل، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿إِذْ﴾، ﴿فِي السَّبْتِ﴾ متعلق بـ ﴿يَعْدُونَ﴾، ﴿إِذْ﴾ ظرف لما مضى من الزمان، والظرف بدل من الظرف الذي قبله، أعني قوله: ﴿إِذْ يَعْدُونَ﴾، ﴿تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ﴾: فعل ومفعول وفاعل، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿إِذْ﴾، ﴿يَوْمَ سَبْتِهِمْ﴾: ظرف ومضاف إليه، متعلق بـ ﴿تَأْتِيهِمْ﴾، ﴿شُرَّعًا﴾: حال من ﴿حِيتانُهُمْ﴾؛ أي: تأتيهم حيتانهم حالة كونها ظاهرة على وجه الماء.
﴿وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ﴾.
﴿وَيَوْمَ﴾ الواو: استئنافية، ﴿يَوْمَ﴾: منصوب على الظرفية، متعلق بـ ﴿لا تَأْتِيهِمْ﴾، ﴿لا يَسْبِتُونَ﴾: فعل وفاعل، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿يَوْمَ﴾، ﴿لا تَأْتِيهِمْ﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الحيتان،
﴿وَإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذابًا شَدِيدًا قالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (١٦٤)﴾.
﴿وَإِذْ﴾ الواو: عاطفة ﴿إِذْ﴾: ظرف لما مضى من الزمان معطوف على الظرف في قوله: ﴿إِذْ يَعْدُونَ﴾ على كونه متعلقا بالمضاف المحذوف الذي قدرناه سابقا، والتقدير: واسألهم عن حال القرية إذ يعدون في السبت، واسألهم عن حالهم إذ قالت أمة منهم، ﴿قالَتْ أُمَّةٌ﴾: فعل وفاعل، ﴿مِنْهُمْ﴾: صفة لأمة، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿إِذْ﴾، ﴿لِمَ تَعِظُونَ﴾ إلى قوله: ﴿قالُوا﴾ مقول محكي لـ ﴿قالَتْ﴾، وإن شئت قلت: ﴿لِمَ﴾: اللام حرف جر، ﴿م﴾: اسم استفهام في محل الجر باللام، مبني بسكون على الألف المحذوفة فرقا بينها وبين ﴿ما﴾ الموصولة، الجار والمجرور متعلق بـ ﴿تَعِظُونَ﴾ والاستفهام فيه للتوبيخ والتقريع، ﴿تَعِظُونَ قَوْمًا﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل النصب مقول ﴿قالَت﴾، ﴿اللَّهُ﴾: مبتدأ، ﴿مُهْلِكُهُمْ﴾ خبره ومضاف إليه، والجملة الاسمية في محل النصب صفة لـ ﴿قَوْمًا﴾، ﴿أَوْ مُعَذِّبُهُمْ﴾: معطوف على ﴿مُهْلِكُهُمْ﴾، ﴿عَذابًا﴾: مفعول مطلق لـ ﴿مُعَذِّبُهُمْ﴾، ﴿شَدِيدًا﴾: صفة لـ ﴿عَذابًا﴾، ﴿قالُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة، ﴿مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾: مقول محكي لـ ﴿قالُوا﴾ وإن شئت قلت: ﴿مَعْذِرَةً﴾: منصوب على كونه مفعولا لأجله لفعل محذوف تقديره وعظناهم لأجل المعذرة، أو منصوب على المفعولية المطلقة بفعل مقدر من لفظه
﴿فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذابٍ بَئِيسٍ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (١٦٥)﴾.
﴿فَلَمَّا﴾: ﴿الفاء﴾: فاء الفصيحة لأنّها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفت انقسام أهل القرية إلى واعظة وعادية، وأردت بيان عاقبة كل من الفريقين.. فأقول لك، ﴿لما﴾: حرف شرط غير جازم، ﴿نَسُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة فعل شرط لـ ﴿لما﴾ لا محل لها من الإعراب، ﴿ما﴾: موصولة أو موصوفة في محل النصب مفعول ﴿نَسُوا﴾، ﴿ذُكِّرُوا﴾: فعل ونائب فاعل، بِهِ متعلق به، والجملة صلة ﴿لما﴾ أو صفة ﴿لما﴾ والعائد أو الرابط ضمير به، ﴿أَنْجَيْنَا الَّذِينَ﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة جواب ﴿لما﴾ لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿لما﴾ من فعل شرطها، وجوابها في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة، ﴿يَنْهَوْنَ﴾: فعل وفاعل، ﴿عَنِ السُّوءِ﴾: متعلق به، والجملة صلة الموصول، ﴿وَأَخَذْنَا الَّذِينَ﴾: فعل وفاعل ومفعول معطوف على ﴿أَنْجَيْنَا﴾، ﴿ظَلَمُوا﴾: فعل وفاعل، ﴿بِعَذابٍ﴾: متعلق به، ﴿بَئِيسٍ﴾: صفة لـ ﴿عذاب﴾: والجملة الفعلية صلة الموصول، ﴿بِما﴾ ﴿الباء﴾: حرف جر، وسبب، و ﴿ما﴾: مصدرية، ﴿كانُوا﴾: فعل ناقص واسمه، وجملة ﴿يَفْسُقُونَ﴾ خبره، وجملة كان صلة ﴿ما﴾: مصدرية، ﴿ما﴾ مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بالباء، والباء متعلقة بـ ﴿أَخَذْنَا﴾؛ أي: أخذناهم بالعذاب بسبب فسقهم، والباء الأولى للتعدية، وهذه للسببية، فلا اعتراض بتعلق حرفي جر متحدي اللفظ بعامل واحد، لاختلاف معناها.
﴿فَلَمَّا﴾ ﴿الفاء﴾: حرف عطف وتفصيل، ﴿لما﴾: حرف شرط، ﴿عَتَوْا﴾: فعل وفاعل، والجملة فعل شرط لـ ﴿لما﴾، ﴿عَنْ ما﴾: جار ومجرور، متعلق بـ ﴿عَتَوْا﴾، ﴿نُهُوا﴾: فعل ونائب فاعل، ﴿عَنْهُ﴾: متعلق به، والجملة الفعلية صلة ﴿لما﴾ أو صفة لها، ﴿قُلْنا﴾: فعل وفاعل، ﴿لَهُمْ﴾ متعلق به، والجملة جواب ﴿لما﴾، وجملة ﴿لما﴾ معطوفة على جملة ﴿لما﴾ الأولى على كونها مفصلة لأخذهم بالعذاب، ﴿كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ﴾: مقول محكي لـ ﴿قُلْنا﴾: وإن شئت قلت: ﴿كُونُوا﴾: فعل ناقص واسمه، ﴿قِرَدَةً﴾: خبر ﴿كُونُوا﴾، ﴿خاسِئِينَ﴾: صفة لـ ﴿قِرَدَةً﴾: وجملة ﴿كُونُوا﴾: في محل النصب مقول ﴿قُلْنا﴾.
﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ﴾.
﴿وَإِذْ﴾ الواو: عاطفة، ﴿إِذْ﴾: ظرف لما مضى، متعلق بمحذوف معطوف على قوله ﴿وَسْئَلْهُمْ﴾ تقديره: واسألهم عن القرية واذكر إذ تأذن ربك، ﴿تَأَذَّنَ﴾: فعل ماض بمعنى: أقسم ﴿رَبُّكَ﴾: فاعل، والجملة الفعلية في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿إِذْ﴾: ﴿لَيَبْعَثَنَّ﴾ ﴿اللام﴾: موطئة للقسم، ﴿يبعثن﴾: فعل مضارع في محل الرفع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة جواب القسم لا محل لها من الإعراب، ﴿عَلَيْهِمْ﴾: متعلق بـ ﴿يبعثن﴾، وكذلك قوله: ﴿إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ﴾: متعلق به أيضا، ﴿مَنْ﴾: موصولة في محل النصب مفعول ﴿يبعثن﴾، ﴿يَسُومُهُمْ﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على مَنْ الموصولة، ﴿سُوءَ الْعَذابِ﴾: مفعول به ومضاف إليه، والجملة صلة ﴿مَنْ﴾ الموصولة.
﴿إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ﴾.
﴿إِنَّ﴾: حرف نصب، ﴿رَبُّكَ﴾: اسمها، ﴿لَسَرِيعُ الْعِقابِ﴾: خبرها، وجملة ﴿إِنَّ﴾ مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها، وكذلك جملة قوله: ﴿وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ﴾: معطوفة عليها على كونها مسوقة لتعليل ما قبلها.
﴿وَقَطَّعْناهُمْ﴾: فعل وفاعل ومفعول به، أو مفعول أول، ﴿فِي الْأَرْضِ﴾: متعلق به، والجملة مستأنفة، ﴿أُمَمًا﴾ إما حال من مفعول ﴿قَطَّعْناهُمْ﴾، وإما مفعول ثان على تضمين قطع معنى صير، ﴿مِنْهُمُ﴾: جار ومجرور خبر مقدم، ﴿الصَّالِحُونَ﴾: مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية في محل النصب صفة لـ ﴿أُمَمًا﴾، ﴿وَمِنْهُمْ﴾: خبر مقدم، ﴿دُونَ ذلِكَ﴾: ظرف ومضاف إليه، متعلق بمحذوف صفة لمبتدأ محذوف تقديره: ومنهم فريق كان دون ذلك الفريق الصالح، والجملة الاسمية في محل النصب معطوفة على جملة قوله: ﴿مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ﴾ على كونها صفة لـ ﴿أُمَمًا﴾، ﴿وَبَلَوْناهُمْ﴾: فعل وفاعل ومفعول معطوف على ﴿قَطَّعْناهُمْ﴾، ﴿بِالْحَسَناتِ﴾: متعلق بـ ﴿بلونا﴾، ﴿وَالسَّيِّئاتِ﴾: معطوف على ﴿الحسنات﴾، ﴿لَعَلَّهُمْ﴾: ﴿لعل﴾: حرف ترج بمعنى كي التعليلية، والهاء اسمها، وجملة ﴿يَرْجِعُونَ﴾ خبرها، وجملة ﴿لعل﴾ في محل الجر مسوقة لتعليل ما قبلها والتقدير: وبلوناهم بالحسنات والسيئات لرجاء رجوعهم إلى طاعة الله تعالى.
﴿فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ﴾.
﴿فَخَلَفَ﴾: ﴿الفاء﴾: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفت انقسام هؤلاء المذكورين إلى فريقين فريق صالح وفريق طالح، وأردت بيان من خلف عنهم.. فأقول لك، ﴿خلف﴾: فعل ماض، ﴿مِنْ بَعْدِهِمْ﴾: متعلق به، ﴿خَلْفٌ﴾: فاعل، والجملة من الفعل والفاعل في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة، ﴿وَرِثُوا الْكِتابَ﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل الرفع صفة لـ ﴿خَلْفٌ﴾، ﴿يَأْخُذُونَ عَرَضَ﴾: فعل وفاعل ومفعول، ﴿هذَا الْأَدْنى﴾: مضاف إليه، والجملة في محل النصب حال من واو ﴿وَرِثُوا﴾، ﴿وَيَقُولُونَ﴾: فعل وفاعل، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة ﴿يَأْخُذُونَ﴾، ﴿سَيُغْفَرُ لَنا﴾: مقول محكي وإن شئت قلت: ﴿سَيُغْفَرُ﴾:
﴿أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا ما فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ﴾.
﴿أَلَمْ﴾: ﴿الهمزة﴾: للاستفهام التقريري، وهو الاستفهام الذي يقصد به إثبات ما بعد حرف النفي ﴿لَمْ﴾: حرف جزم، ﴿يُؤْخَذْ﴾: فعل مضارع مغير الصيغة مجزوم بـ ﴿لَمْ﴾، ﴿عَلَيْهِمْ﴾: متعلق به، ﴿مِيثاقُ الْكِتابِ﴾: نائب فاعل ومضاف إليه، والجملة الفعلية جملة إنشائية لا محل لها من الإعراب، ﴿إِنْ﴾: حرف نصب، ﴿لا﴾: نافية، ﴿يَقُولُوا﴾: فعل وفاعل منصوب بـ ﴿إِنْ﴾ المصدرية، ﴿عَلَى اللَّهِ﴾: جار ومجرور، متعلق بـ ﴿يَقُولُوا﴾، ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ، ﴿الْحَقَّ﴾: مفعول به، والجملة الفعلية في تأويل مصدر مرفوع على كونه بدلا من ﴿مِيثاقُ﴾ تقديره: ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب عدم قولهم على الله إلا الحق، ﴿وَدَرَسُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة معطوفة على ﴿يُؤْخَذْ﴾ الداخل عليه همزة الاستفهام التقريري؛ أي: ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب، وألم يدرسوا ما فيه، ما: موصولة أو موصوفة في محل النصب مفعول ﴿دَرَسُوا﴾، ﴿فِيهِ﴾: جار ومجرور، صلة لـ ﴿ما﴾: أو صفة لها، ﴿وَالدَّارُ﴾: مبتدأ، ﴿الْآخِرَةُ﴾: صفة له ﴿خَيْرٌ﴾ خبر، والجملة مستأنفة، ﴿لِلَّذِينَ﴾: جار ومجرور، متعلق بخبر، وجملة ﴿يَتَّقُونَ﴾: صلة الموصول، ﴿أَفَلا﴾: ﴿الهمزة﴾: للاستفهام التوبيخي، داخلة على محذوف تقديره: أتجهلون خيرية ذلك، ﴿فَلا﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة على ذلك المحذوف، ﴿لا﴾: نافية ﴿تَعْقِلُونَ﴾: فعل وفاعل، والمفعول محذوف تقديره: أفلا تعقلون خيرية ذلك، والجملة معطوفة على ذلك المحذوف، والجملة
﴿وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (١٧٠)﴾.
﴿وَالَّذِينَ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿الَّذِينَ﴾: مبتدأ، ﴿يُمَسِّكُونَ﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، ﴿بِالْكِتابِ﴾: متعلق به، ﴿وَأَقامُوا الصَّلاةَ﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة معطوفة على جملة يمسكون، ﴿إِنَّا﴾: حرف نصب واسمه، ﴿لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ﴾: فعل ومفعول ومضاف إليه، وفاعله ضمير يعود على الله، وجملة ﴿إن﴾ في محل الرفع خبر المبتدأ، والرابط محذوف، تقديره: لا نضيع أجر المصلحين منهم، والجملة من المبتدأ والخبر مستأنفة.
﴿وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٧١)﴾.
﴿وَإِذْ﴾ الواو: استئنافية أو عاطفة، ﴿إِذْ﴾: ظرف لما مضى من الزمان، متعلق بمحذوف معطوف على قوله: ﴿وَسْئَلْهُمْ﴾ تقديره: واسئلهم عن القرية واذكر إذ نتقنا الجبل أو مستأنفة استئنافا نحويا، ﴿نَتَقْنَا الْجَبَلَ﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل الجر مضاف إليه، ﴿فَوْقَهُمْ﴾: ظرف ومضاف إليه، متعلق بـ ﴿نَتَقْنَا﴾، ﴿كَأَنَّهُ﴾: حرف نصب واسمه، ﴿ظُلَّةٌ﴾: خبره، وجملة ﴿كأن﴾ في محل النصب حال من ﴿الْجَبَلَ﴾ تقديره: حالة كونه مشابها بظلة، ﴿وَظَنُّوا﴾: فعل وفاعل، والجملة في محل الجر معطوفة على ﴿نَتَقْنَا﴾ أو في محل النصب حال من ﴿الْجَبَلَ﴾، ولكنه على تقدير: قد، ﴿أَنَّهُ﴾ حرف نصب واسمه ﴿واقِعٌ﴾ خبره. ﴿بِهِمْ﴾: جار ومجرور، متعلق بـ ﴿واقِعٌ﴾ وجملة ﴿أن﴾ في تأويل مصدر ساد مسد مفعولي ظن تقديره: وظنوا وقوعه بهم، ﴿خُذُوا ما﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل النصب مقول لقول محذوف حال من فاعل ﴿نَتَقْنَا﴾ تقديره: وإذ نتقنا الجبل فوقهم حالة كوننا قائلين لهم: خذو ما آتيناكم أو معطوف على ﴿نَتَقْنَا﴾ تقديره: وقلنا لهم، ﴿آتَيْناكُمْ﴾: فعل وفاعل ومفعول أول، والمفعول الثاني محذوف؛ لأن آتى بمعنى أعطى تقديره: ما آتيناكموه، والجملة
﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ﴾.
﴿وَإِذْ﴾ الواو: استئنافية، ﴿إِذْ﴾: ظرف لما مضى من الزمان، متعلق بمحذوف تقديره: واذكر قصة إذ أخذ ربك، والجملة مستأنفة أو معطوفة على القصص التي قبلها، ﴿أَخَذَ رَبُّكَ﴾: فعل وفاعل، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿إِذْ﴾، ﴿مِنْ بَنِي آدَمَ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ ﴿أَخَذَ﴾، ﴿مِنْ ظُهُورِهِمْ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه، بدل من الجار والمجرور قبله، بدل بعض من كل، ﴿ذُرِّيَّتَهُمْ﴾: مفعول به ومضاف إليه ﴿وَأَشْهَدَهُمْ﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على ﴿رَبُّكَ﴾، والجملة في محل الجر معطوفة على جملة ﴿أَخَذَ﴾، ﴿عَلى أَنْفُسِهِمْ﴾: متعلق بـ ﴿أشهد﴾.
﴿أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ﴾.
﴿أَلَسْتُ﴾ ﴿الهمزة﴾: للاستفهام التقريري، ﴿لَسْتُ﴾: فعل ناقص واسمه، ﴿بِرَبِّكُمْ﴾: خبره، ﴿والباء﴾: صلة، والجملة مقول لقول محذوف معطوف على ﴿أَخَذَ﴾ تقديره: وقال ألست بربكم ﴿قالُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. ﴿بَلى﴾: حرف جواب لإثبات النفي المذكور قبلها، قائمة مقام الجواب المحذوف تقديره: بلى أنت ربنا، والجملة المحذوفة في محل النصب مقول ﴿قالُوا﴾.
فائدة: ﴿بَلى﴾ حرف جواب تفيد إثبات النفي المذكور قبلها؛ لأنّها لا يجاب بها إلا النفي، سواء كان مقرونا بالاستفهام التقريري كما هنا، أو مجردا، وأما نعم.. فحرف جواب لتصديق ما قبلها، قال ابن عباس: لو قالوا: نعم..
بلى حرف جواب لكنّه... يصير إثباتا كذا قرّروا
نعم لتقرير الّذي قبلها... إثباتا أو نفيا كذا حرّروا
﴿شَهِدْنا﴾: فعل وفاعل، والجملة في محل النصب مقول ﴿قالُوا﴾ إن قلنا إنّه من كلام الذر، أو مقول لقول محذوف، إن قلنا إنّه من كلام الملائكة تقديره: قالت الملائكة: شهدنا على قبولهم الميثاق ﴿أَنْ تَقُولُوا﴾: ناصب وفعل وفاعل ﴿يَوْمَ الْقِيامَةِ﴾: ظرف متعلق به، والجملة الفعلية في تأويل مصدر مجرور بإضافة المصدر المقدر إليه، المعلل لفعل محذوف تقديره: فعلنا الأخذ بالميثاق كراهية قولكم يوم القيامة، والجملة المحذوفة مستأنفة. ﴿إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ﴾ مقول محكي لـ ﴿تَقُولُوا﴾ وإن شئت قلت: ﴿إِنَّا﴾: حرف نصب واسمه، ﴿كُنَّا﴾: فعل ناقص واسمه، ﴿عَنْ هذا﴾: متعلق بـ ﴿غافِلِينَ﴾، ﴿غافِلِينَ﴾: خبر ﴿كان﴾، وجملة ﴿كان﴾ في محل الرفع خبر ﴿إن﴾، وجملة ﴿إن﴾ في محل النصب مقول ﴿تَقُولُوا﴾.
﴿أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ﴾.
﴿أَوْ تَقُولُوا﴾ معطوف على ﴿تَقُولُوا﴾ الأول ﴿إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا﴾ إلى آخر الآية: مقول ﴿تَقُولُوا﴾: وإن شئت قلت: ﴿إِنَّما﴾: أداة حصر ونفي، ﴿أَشْرَكَ آباؤُنا﴾: فعل وفاعل ﴿مِنْ قَبْلُ﴾: جار ومجرور، متعلق بـ ﴿أَشْرَكَ﴾، والجملة الفعلية في محل النصب مقول ﴿تَقُولُوا﴾، ﴿وَكُنَّا﴾: فعل ناقص واسمه ﴿ذُرِّيَّةً﴾: خبره ﴿مِنْ بَعْدِهِمْ﴾: جار ومجرور، صفة لذرية تقديره: كائنة من بعدهم ﴿أَفَتُهْلِكُنا﴾. ﴿الهمزة﴾: للاستفهام الاستعطافي الإنكاري داخلة على محذوف تقديره: أتؤاخذنا، و ﴿الفاء﴾: عاطفة على ذلك المحذوف، ﴿تهلكنا﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الرب، ﴿بِما﴾: جار ومجرور متعلق به ﴿فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ﴾: فعل وفاعل صلة لما أوصفه لها والعائد أو الرابط محذوف تقديره بما فعله
﴿وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾.
﴿وَكَذلِكَ﴾. الواو: استئنافية ﴿كَذلِكَ﴾: جار ومجرور صفة لمصدر محذوف تقديره: وتفصيلا مثل ذلك التفصيل المذكور هنا ﴿نُفَصِّلُ الْآياتِ﴾: فعل ومفعول، والفاعل ضمير يعود على الله، والتقدير: ونفصل الآيات اللاحقة تفصيلا مثل تفصيلنا الآيات السابقة ليتدبروها ﴿وَلَعَلَّهُمْ﴾. الواو: عاطفة، ﴿لعل﴾: حرف ترج وتعليل، و ﴿الهاء﴾: اسمها، وجملة ﴿يَرْجِعُونَ﴾: في محل الرفع خبرها، وجملة ﴿لعل﴾ معطوفة على جملة محذوفة معللة للفعل السابق، والتقدير: ونفصل الآيات مثل ذلك ليتدبروها، ولعلهم يرجعون إلى طاعة الله سبحانه وتعالى؛ أي: ولرجاء رجوعهم إلى طاعة الله عما هم عليه من الإشراك.
التصريف ومفردات اللغة
﴿وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ﴾، ﴿الْقَرْيَةِ﴾، هي أيلة، وقيل: مدين، وقيل: طبرية، والعرب تسمى المدينة قرية: ﴿حاضِرَةَ الْبَحْرِ﴾؛ أي: قريبة منه على شاطئه. ﴿إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ﴾؛ أي: يتجاوزون حكم الله بالصيد المحرم عليهم فيه.
﴿حِيتانُهُمْ﴾ سمكهم جمع حوت، قلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها، كنون ونينان لفظا ومعنى. ﴿يَوْمَ سَبْتِهِمْ﴾؛ أي: تعظيمهم للسبت، وهو مصدر سبت اليهود تسبت، من باب ضرب، إذا عظمت السبت بترك العمل فيه، والتفرغ فيه للعبادة، وقيل: إنه اسم لليوم، والإضافة لاختصاصهم بأحكام فيه. ذكره أبو السعود.
وفي «المصباح» وسبت اليهود انقطاعهم عن المعيشة والاكتساب، وهو مصدر، يقال: سبتوا سبتا، من باب ضرب إذا قاموا بذلك، وأسبتوا بالألف لغة اه.
﴿شُرَّعًا﴾: جمع شارع كراكع وركع، من شرع عليه إذا دنا وأشرف؛
﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ﴾ قال سيبويه: أذن أعلم، وأذن نادى وصاح للإعلام ومنه ﴿فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ﴾ ومثله تأذن ﴿لَيَبْعَثَنَّ﴾ ليسلطن ﴿يَسُومُهُمْ﴾ يذيقهم ويوليهم ﴿وَقَطَّعْناهُمْ﴾ فرقناهم ﴿أُمَمًا﴾؛ أي: جماعات ﴿دُونَ ذلِكَ﴾؛ أي: منحطون عنهم ﴿وَبَلَوْناهُمْ﴾ امتحانهم ﴿بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ﴾ الحسنات النعم، والسيئات النقم ﴿فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ﴾ والخلف بسكون اللام يستعمل في الأشرار، وبالتحريك في الأخيار يقال: خلف سوء بسكون اللام، وخلف صدق بفتحها اه «الخازن»، وفي «البيضاوي»: ﴿فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ﴾؛ أي: بدل سوء، وهو مصدر نعت به، ولذلك يقع على الواحد والجمع، وقيل: هو جمع وهو شائع في البشر، والخلف بالفتح في الخير. انتهى. وفي «السمين» والخلف بفتح اللام وبإسكانها هل هما بمعنى واحد؛ أي: يطلق كل منهما على القرن الذي يخلف غيره، صالحا كان أو طالحا أو أن الساكن اللام في الطالح، ومفتوحها في الصالح خلاف مشهور بين اللغويين، قال الفراء: يقال للقرن خلف: يعني ساكنا، ولمن استخلفته خلف يعني متحرك اللام. اه ﴿عَرَضَ هذَا الْأَدْنى﴾ والعرض بالتحريك متاع الدنيا وحطامها، ﴿والْأَدْنى﴾: الشيء القريب الزوال، والمراد به هنا الدنيا. ﴿وَدَرَسُوا ما فِيهِ﴾؛ أي: قرؤوا فهم ذاكرون له ﴿وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ﴾؛ أي: يتمسكون به ويعملون.
وفي «المختار» أمسك بالشيء وتمسك واستمسك به، كله بمعنى اعتصم به وكذا مسك به تمسيكا. اه.
﴿والنتق﴾ اختلفت فيه عبارات أهل اللغة، فقال أبو عبيدة: هو قلع الشيء من موضعه والرمي به، ومنه نتق ما في الجراب إذا نفضه فرمى ما فيه، وامرأة ناتق ومنتاق إذا كانت كثيرة الولادة، وفي الحديث: «عليكم بزواج الأبكار فإنهم أنتق أرحاما وأطيب أفواها وأرضى باليسير» وقيل: النتق الجذب بشدة، ومنه نتقت السقاء إذا جذبته بشدة لتقلع الزبدة من فمه، وقال الفراء: هو الرفع، وقال ابن قتيبة: هو الزعزعة وبه فسر مجاهد، وكل هذه معان متقاربة، وقد عرفت أن ﴿فَوْقَهُمْ﴾ يجوز أن يكون منصوبا بنتق؛ لأنّه بمعنى رفع وقلع اه «سمين»، ونتق من باب نصر كما في «المختار».
﴿كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ﴾ والظلة كل ما أظلك من سقف بيت، أو سماء، أو جناح طائر، والجمع ظلل وظلال ﴿مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ﴾ والظهور جمع ظهر، وهو ما فيه العمود الفقري لهيكل الإنسان الذي هو قوام بنيته فيصح أن يعبر به عن جملة الجسد ﴿ذُرِّيَّتَهُمْ﴾ والذرية سلالة الإنسان من الذكور والإناث، شَهِدْنا والشهادة تارة قولية كما قال: ﴿قالُوا شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا...﴾ الآية وتارة تكون حالية، كما قال: ﴿ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ﴾؛ أي: حالهم شاهدة عليهم بذلك، لا أنهم قائلون ذلك.
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات أنواعا من البلاغة، وضروبا من الفصاحة والبيان والبديع.
فمنها: التكرار في قوله: ﴿اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ﴾ ﴿وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ﴾ وفي قوله: ﴿إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ﴾ ﴿يَوْمَ سَبْتِهِمْ﴾.
ومنها: الجناس المغاير في قوله: ﴿يَوْمَ سَبْتِهِمْ﴾، ﴿وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ﴾.
وفي قوله: ﴿أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذابًا شَدِيدًا﴾.
ومنها: المقابلة في قوله: ﴿مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ﴾ ﴿وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ﴾، وفي قوله: ﴿بِالْحَسَناتِ﴾ ﴿وَالسَّيِّئاتِ﴾.
ومنها: جمع المؤكدات في قوله: ﴿إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ إشعارا بسرعة إيقاع العذاب بهم، وترجية لمن آمن منهم في غفرانه ورحمته.
ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: ﴿فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ﴾؛ لأنه استعار النسيان للشرك، فاشتق من النسيان بمعنى الشرك نسوا، بمعنى تركوا، بجامع الإعراض في كل على طريقة الاستعارة التصريحية التبعية.
ومنها: المقابلة في قوله: ﴿أَنْجَيْنَا﴾ ﴿وَأَخَذْنَا﴾.
ومنها: الإضافة في قوله: ﴿حِيتانُهُمْ﴾: لاختصاصهم بأحكام فيها.
ومنها: الاستعارة التصريحية في قوله: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ﴾؛ لأنّه استعار الأخذ للإخراج، فاشتق منه أخذ بمعنى أخرج، وإيثار (١) الأخذ على الإخراج للاعتناء بشأن المأخوذ، لما فيه من الإنباء عن اختيار الاصطفاء، وهو السبب في إسناده إلى الرب بطريق الالتفات مع ما فيه من التمهيد للاستفهام الآتي.
ومنها: إضافة ﴿رَبُّكَ﴾ إلى ضميره صلى الله عليه وسلّم للتشريف.
ومنها: الالتفات في لفظ ﴿رَبُّكَ﴾ من التكلم إلى الغيبة؛ لأن مقتضى السياق أن يقال: وإذا أخذنا، كما قال أولا: وإذ نتقنا الجبل فوقهم، والنكتة
ومنها: الالتفات من الغيبة إلى الخطاب في قوله: ﴿أَفَلا تَعْقِلُونَ﴾ ونكتته: التوبيخ والتأنيب.
ومنها: الإظهار في وضع الإضمار في قوله: ﴿إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ﴾؛ لأنّ مقتضى السياق أن يقال: إنا لا نضيع أجرهم، ونكتة الإظهار: الإشارة إلى شرفهم، والاعتناء بهم.
ومنها: الجناس المغاير في قوله: ﴿فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ﴾.
ومنها: التشبيه في قوله: ﴿كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ﴾.
ومنها: ذكر الخاص بعد العام إظهارا لفضله وشرفه في قوله: ﴿وَأَقامُوا الصَّلاةَ﴾؛ لأنّها داخلة بما في الكتاب، خصها بالذكر لأنّها أعظم أركان الدين بعد التوحيد.
ومنها: الكناية في قوله: ﴿كُونُوا قِرَدَةً﴾؛ لأنّه كناية عن سرعة المسخ، إذ لا يكلف الشخص إلا بما يقدر عليه، وكونهم قردة ليس في طاقتهم.
ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ (١٧٥) وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (١٧٦) ساءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ (١٧٧) مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (١٧٨) وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (١٧٩) وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ سَيُجْزَوْنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٨٠) وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (١٨١) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (١٨٢) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (١٨٣) أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (١٨٤) أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (١٨٥) مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١٨٦) يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (١٨٧) قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلا ضَرًّا إِلاَّ ما شاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (١٨٨)﴾.
المناسبة
قوله تعالى: ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما (١) ذكر أنّه أخذ العهد والميثاق على بني آدم جميعا، وأشهدهم على أنفسهم بأنّ الله ربهم، كي لا يكون لهم العذر يوم القيامة في الإشراك بالله، جهلا أو تقليدا.. أردف ذلك بضرب المثل للمكذبين
وقال أبو حيان: مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنّ الله سبحانه وتعالى لما (١) ذكر أخذ الميثاق على توحيده تعالى وتقرير ربوبيته، وذكر إقرارهم بذلك وإشهادهم على أنفسهم.. ذكر حال من آمن به، ثم بعد ذلك كفر، كحال اليهود كانوا مقرين منتظرين بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلّم، لما اطلعوا عليه من كتب الله المنزلة، وتبشيرها به، وبذكر صفاته، فلما بعث.. كفروا، فذكروا أنّ ما صدر منهم هو طريقة لأسلافهم اتبعوها.
قوله تعالى: ﴿مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أنّ الله سبحانه وتعالى لما أمر (٢) نبيه صلى الله عليه وسلّم بأن يقص قصص المنسلخ عن آيات الله تعالى على أولئك الضالين الذين حالهم كحاله ليتفكروا فيه، ويتركوا ما هم عليه من الإخلاد إلى الضلالة، ويعودوا إلى حظيرة الحق.. أردف ذلك ببيان أنّ أسباب الهدى والضلال ينتهيان للمستعد لأحدهما إلى إحدى الغايتين بتقدير الله تعالى، والسير على سننه في استعمال مواهبه، وهداياته الفطرية من العقل والحواس في أحد السبيلين كما قال: ﴿وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ (١٠) وإِمَّا شاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا﴾.
وقال أبو حيان: مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما قدم ذكر المهتدين والضالين.. أخبر هنا أنّه هو المتصرف فيهم بما شاء من هداية وضلال. انتهى.
قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ...﴾ مناسبة (٣) هذه
(٢) المراغي.
(٣) البحر المحيط.
قوله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أنّ الله سبحانه وتعالى لما بين (١) في الآية السالفة أنّ المخلقين لجهنم لما يستعملوا عقولهم ومشاعرهم في الاعتبار بالآيات، والتفقه في تزكية أنفسهم بالعلم النافع، فأورثهم ذلك الإهمال الغفلة التامة عن صلاح أنفسهم، بذكر الله تعالى وشكره والثناء عليه بما هو أهله من صفات الكمال.. أردف ذلك بذكر الدواء لتلك الغفلة، والوسائل التي تخرج إلى ضدها، وهي ذكر الله تعالى، ودعاؤه في السر والعلن، بكرة وعشيا.
وقال أبو حيان: مناسبة هذه الآية لما قبلها: أنه تعالى لما ذكر (٢) أنّه ذرأ كثيرا من الجن والإنس للنار.. ذكر نوعا منهم - وهم يلحدون في أسمائه - وهم أشد الكفار عتيا، أبو جهل وأحزابه، وأيضا لما نبه على أن دخول جهنم هو للغفلة عن ذكر الله تعالى، والمخلص من العذاب هو ذكر الله تعالى.. أمر بذكر الله بأسمائه الحسنى وصفاته العليا، والقلب إذا غفل عن ذكر الله وأقبل على الدنيا وشهواتها وقع في الحرص، وانتقل من رغبة إلى رغبة، ومن طلب إلى طلب، ومن ظلمة إلى ظلمة، وقد وجدنا ذلك بالذوق، حتى إنّ أحدهم ليصلي الصلوات كلها قضاء في وقت واحد، فإذا انفتح على قلبه باب ذكر الله تعالى تخلص من آفات الغفلة، وامتثل ما أمره الله به، واجتنب ما نهى عنه. انتهى.
قوله تعالى: ﴿وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنّ الله سبحانه وتعالى لما ذكر (٣) أنّه ذرأ لجهنم كثيرا من الثقلين - الجن والإنس - وأبان أهم أسباب ذلك، وهي أن هؤلاء أفسدوا فطرتهم بإهمال مواهبهم من العقل والحواس، ثم أرشدنا إلى ما يصلح الفطرة من دعائه بأسمائه الحسنى.. أردف ذلك ببيان وصف أمة الإجابة، وثنى بذكر المكذبين من
(٢) البحر المحيط.
(٣) المراغي.
وقال أبو حيان: مناسبة هذه الآية لما قبلها: أنّه تعالى لما ذكر (١) من ذرأ للنار.. ذكر مقابلهم، وفي لفظة ﴿وَمِمَّنْ﴾ دلالة على التبعيض، وأن المعظم من المخلوقين ليسوا هداة إلى الحق، ولا عادلين به، انتهى.
وقال أيضا: قوله تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أنّه تعالى لما حضهم على التفكر في حال الرسول، وكان مفرعا على تقرير دليل التوحيد.. أعقب بما يدل على التوحيد ووجود الصانع الحكيم.
قوله تعالى: ﴿يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أنّ الله سبحانه وتعالى لما أرشد من كانوا في عصر التنزيل وعصر نزول السورة إلى النظر والتفكر في اقتراب أجلهم بقوله: ﴿وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ﴾.. أتبع ذلك بالإرشاد إلى النظر والتفكر في أمر الساعة التي ينتهي بها جميع أجل الناس.
والخلاصة: أن هذا كلام في الساعة العامة بعد الكلام في الساعة الخاصة بكل فرد، وهي انتهاء أجله.
وقال أبو حيان: مناسبة هذه الآية لما قبلها: أنّه لما ذكر (٢) التوحيد والنبوة والقضاء والقدر.. أتبع ذلك بذكر المعاد، وأيضا فلما تقدم قوله: ﴿وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ﴾، وكان ذلك باعثا على المبادرة إلى التوبة.. أتى بالسؤال عن الساعة ليعلم أن وقتها مكتوم عن الخلق، فيكون ذلك سببا للمسارعة إلى التوبة. انتهى.
قوله تعالى: ﴿قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلا ضَرًّا...﴾ الآية، مناسبة هذه
(٢) البحر المحيط.
وهذه الآية أساس (٢) من أسس الدين وقواعد عقائده، إذ بينت حقيقة الرسالة، وفصلت بينها وبين الربوبية، وهدمت قواعد الشرك، واجتثت جذور الوثنية.
أسباب النزول
قوله تعالى: ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها﴾ قيل: نزلت هذه الآية في بلعم بن باعوراء، وكان قد (٣) حفظ بعض الكتب المنزلة، وقيل: كان قد أوتي النبوة، وكان مجاب الدعوة، بعثه الله إلى مدين يدعوهم إلى الإيمان، فأعطوه الأعطية الواسعة، فاتبع دينهم وترك ما بعث به، فلما أقبل موسى في بني إسرائيل لقتال الجبارين.. سأل الجبارون بلعم بن باعوراء أن يدعو على موسى، فقام ليدعو عليه فتحول لسانه على أصحابه، فقيل له في ذلك؟ فقال: لا أقدر على أكثر مما تسمعون، واندلع لسانه على صدره فقال: قد ذهبت مني الآن الدنيا والآخرة، فلم يبق إلا المكر والخديعة، وسأمكر لكم، وإنّي أرى أن تخرجوا إليهم فتياتكم، فإن الله يبغض الزنا، فإن وقعوا فيه هلكوا، فوقع بنوا إسرائيل في الزنا، فأرسل الله عليهم الطاعون، فمات منهم سبعون ألفا، وقيل: إنّ هذا الرجل اسمه باعم، وهو من بني إسرائيل، وقيل: المراد به أمية بن أبي الصلت الثقفي، وكان قد قرأ الكتب المتقدمة، وعلم أن الله مرسل رسولا في ذلك الوقت، فرجا أن يكون هو ذلك الرسول، فلما أرسل محمد صلى الله عليه وسلّم، وشرفه الله بالنبوة.. حسده وكذبه، وكان أمية صاحب حكمة وشعر ومواعظ حسنة، فقصد بعض الملوك، فلما رجع مر على قتلى بدر فسأل عنهم؟ فقيل له: قتلهم محمد، فقال: لو كان نبيا ما قتل أقرباءه. فلما مات أمية.. أتت أخته فازعة إلى
(٢) المراغي.
(٣) الشوكاني والمراح والخازن.
كلّ عيش وإن تطاول دهرا | صائر مرّة إلى أن يزولا |
ليتني كنت قبل ما قد بدا لي | في قلال الجبال أرعى الوعولا |
إنّ يوم الحساب يوم عظيم | شاب فيه الصّغير يوما ثقيلا |
قوله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى...﴾ الآية. قال (١) مقاتل: إن رجلا دعا الله في صلاته، ودعا الرحمن، فقال بعض مشركي مكة - قال ابن الجوزي: هو أبو جهل - إن محمدا وأصحابه يزعمون أنهم يعبدون إلها واحدا، فما بال هذا يدعو اثنين؟ فأنزل الله هذه الآية: وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى.
قوله تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ...﴾ أخرج (٢) أبو حاتم وأبو الشيخ، عن قتادة قال: ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلّم قام على الصفا ليلا، فجعل يدعو قريشا فخذا فخذا: يا بني فلان، يا بني فلان، إنّي لكم نذير مبين، وكان يحذرهم بأس الله ووقائعه، فقال قائلهم: إن صاحبكم هذا لمجنون بات يهوت؛ أي: إلى الصباح، فأنزل الله تعالى هذه الآية: ﴿أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ﴾.
قوله تعالى: ﴿يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ...﴾ قال قتادة: قالت قريش لرسول الله صلى الله عليه وسلّم:
(٢) لباب النقول.
وأخرج (١) ابن جرير وغيره عن ابن عباس قال: قال جبل بن أبي قشير وسموأل بن زيد لرسول الله صلى الله عليه وسلّم - وهما من اليهود -: يا محمد أخبرنا متى الساعة إن كنت نبيا كما تقول، فإنا نعلم ما هي؟ فأنزل الله عز وجل: ﴿يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ﴾ يعني عن خبر الساعة.
التفسير وأوجه القراءة
١٧٥ - ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ﴾؛ أي: واقرأ وقص يا محمد على هؤلاء اليهود النبأ العجيب ﴿نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا﴾؛ أي: خبر الشخص الذي أعطيناه حجج توحيدنا، وأفهمناه دلائل قدرتنا، حتى صار عالما بها، وكان يعلم علوم الكتب المتقدمة، والتصرف بالاسم الأعظم، وهو أحد علماء بني إسرائيل على ما قيل، فكان يدعو به حيث شاء، فيجاب بعين ما طلب في الحال ﴿فَانْسَلَخَ﴾ وانسل وخرج ﴿مِنْها﴾؛ أي: من آياتنا، وتركها وراءه ظهريا، ولم يلتفت إليها ليهتدي بها؛ أي: انسلخ منها كما تنسلخ الحية من جلدها، بأن كفر بها، وأعرض عنها، وفي التعبير بالانسلاخ إيماء إلى أنّه كان متمكنا منها، ظاهرا لا باطنا ﴿فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ﴾؛ أي: وبعد أن انسلخ منها باختياره أتبعه الشيطان ولحقه وأدركه واستحوذ عليه، وتمكن من الوسوسة إذ لم يبق لديه من نور البصيرة، ولا أمارات الهداية ما يحول بينه وبين قبول وسوسته، وسلوك فهمه.
وقرأ طلحة بخلاف، والحسن فيما روى عنه هارون: ﴿فاتبعه﴾ مشددا بمعنى تبعه، ﴿فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ﴾ أي فصار من الضالين المضلين المفسدين في الأرض، قال ابن عباس: هو بلعم بن باعوراء، كان عنده اسم الله الأعظم، وقال (٢) ابن مسعود: هو رجل من بني إسرائيل، بعثه موسى إلى ملك مدين داعيا إلى الله، فرشاه الملك، وأعطاه الملك على أنّ يترك دين موسى، ويتابع الملك على دينه، ففعل وأضل الناس بذلك.
(٢) التسهيل.
١٧٦ - وفي الآية عبرة وعظة للمؤمنين، وتحذير لهم من اتباع أهوائهم، حتى لا ينزلقوا في مثل تلك الهوة التي انزلق إليها صاحب المثل بحبه للدنيا، وركونه إلى شهواتها ولذاتها، ﴿وَلَوْ شِئْنا﴾؛ أي: ولو أردنا أن نرفعه بتلك الآيات وبالعمل بها إلى درجات الكمال والعرفان ﴿لَرَفَعْناهُ﴾؛ أي: لرفعنا ذلك المنسلخ ﴿بِها﴾؛ أي: بتلك الآيات إلى درجات الكمال، ومنازل العلماء الأبرار، بأن نخلق له الهداية خلقا، ونلزمه العمل بها طوعا أو كرها، إذ لا يعجزنا ذلك ولكنه مخالف لسنتنا ﴿وَلكِنَّهُ﴾؛ أي: ولكن ذلك المنسلخ ﴿أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ﴾؛ أي: أراد الخلود في الأرض، وركن إلى الدنيا، ومال إليها، وآثر لذاتها وشهواتها على الآخرة، وأصله من الخلود وهو الدوام والمقام، والأرض هنا عبارة عن الدنيا؛ لأنّ الأرض عبارة عن المفاوز والقفار، وفيها المدن والضياع، والمعادن والنبات، ومنها يستخرج ما يعاش به في الدنيا، فالدنيا كلها هي الأرض. ذكره في «الخازن» ﴿وَاتَّبَعَ هَواهُ﴾؛ أي: واتبع ما تهواه نفسه، وجعل كل حظه من حياته التمتع من لذائذها الجسدية، ولم يوجه إلى الحياة الروحية عزما، وركب رأسه فلم يراع الاهتداء بشيء مما آتيناه من آياتنا، فخسر دنياه وآخرته، ووقع هاوية الردى والهلاك وانحط في أسفل سافلين، وقيل: المعنى: اتبع رضا زوجته، وكانت هي التي حملته على الانسلاخ من آيات الله تعالى.
وخلاصة ذلك (١): أنّ من شأن من يؤتى الآيات أن تسمو نفسه وتصعد في سلم الكمال، لما فيها من الهداية إلى سبيل الخير الحاضة على العمل النافع، وما فيه فائدة روحية له، على شريطة أن يتلقاها بعزيمة ونية صادقة، كما جاء في الحديث: «إنّما الأعمال بالنيات وإنّما لكل امرىء ما نوى». أما من تلقاها بغير
وهذه الآية من أشد الآيات على العلماء الذين يريدون بعلمهم الدنيا، وشهوات النفس، ويتبعون الهوى، وذلك لأنّ الله سبحانه وتعالى خص هذا الرجل بآياته وحكمته، وعلمه اسمه الأعظم، وجعل دعاءه مستجابا، ثم إنّه لما اتبع هواه، وركب إلى الدنيا، ورضي بها عوضا عن الآخرة.. نزع منه ما كان أعطيه، وانسلخ من الدين، فخسر الدنيا والآخرة، ومن الذي يسلم من الميل إلى الدنيا واتباع الهوى إلا من عصمه الله بالورع، وثبته بالعلم، وبصره بعيوب نفسه.
وعن كعب بن مالك الأنصاري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه» أخرجه الترمذي. ثم ضرب الله تعالى مثلا لهذا الرجل الذي آتاه آياته فانسلخ منها واتبع هواه فقال: ﴿فَمَثَلُهُ﴾؛ أي: مثل هذا المنسلخ عن آيات الله تعالى وصفته في الدناءة والخسة، ولزوم حاله له ﴿كَمَثَلِ الْكَلْبِ﴾؛ أي: كصفة الكلب الذي صار لهث اللسان طبيعة له ﴿إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ﴾ أيها المخاطب؛ أي: إن تزجره وتطرده ﴿يَلْهَثْ﴾؛ أي: يخرج لسانه مع التنفس الشديد ﴿أَوْ تَتْرُكْهُ﴾؛ أي: تترك ذلك الكلب غير مطرود ﴿يَلْهَثْ﴾؛ أي: يخرج لسانه مع التنفس؛ أي: (١) إن شددت عليه وأجهدته لهث، أو تركته على حاله لهث، لأن اللهث طبيعة أصلية فيه، فكذلك حال الحريص على الدنيا، إن وعظته.. فهو حرص لا يقبل الوعظ ولا ينجع فيه، وإن تركته ولم تعظه.. فهو حريص أيضا؛ لأن الحرص على طلب الدنيا صار طبيعة له لازمة، كما أن اللهث طبيعة لازمة للكلب اه. «خازن».
وعبارة الشوكاني هنا قوله: ﴿فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ﴾؛ أي: (٢) فصار لما انسلخ عن الآيات ولم يعمل بها منحطا إلى أسفل رتبة، مشابها لأخس الحيوانات في الدناءة، مماثلا له في أقبح أوصافه، وهو أنه يلهث في كلا حالتي قصد
(٢) الشوكاني.
والمعنى (١): أن هذا الرجل كالكلب في صفته هذه، وهي أقبح حالاته وأخسها، فهو لإخلاده وميله إلى الدنيا واتباعه هواه يكون كذلك في أسوء حال، فهو في هم دائب، وشغل شاغل في جمع عرض الدنيا وزخرفها - يعني بخسيس أمورها وجليلها - كشأن عباد الأهواء وطلاب الأموال، ترى المرء منهم كاللاهث من الإعياء والتعب، وإن كان ما يعنى به حقيرا لا يتعب ولا يعيي، وتراه كلما أصاب سعة وبسطة في الدنيا.. زاد طمعا فيها كما قال الأول:
فما قضى أحد منها لبانته | ولا انتهى أرب إلّا إلى أرب |
أي (٢): ذلك المثل البالغ في الغرابة، مثل هؤلاء القوم الذين جحدوا بآياتنا واستكبروا عنها، جهلا بها وتقليدا للآباء والأجداد، فهم قد ظنوا أن إيمانهم بها يسلبهم العزة، ويحط من أقدارهم، ويحول بينهم وبين ما يستمتعون به من اللذات، فكان ذلك حجابا حائلا بينهم وبين النظر فيها نظر تبصر واستدلال، وإن كانوا نظروا إليها من تلك الناحية التي تروق لهم - وهي حرمانهم من التمتع بالحظوظ والشهوات - إلى ما فيها من الاعتراف بضلال السلف من الآباء والأجداد، فما أشبه حالهم، بحال من أوتي الآيات فانسلخ منها، وذلك ليس بعيب فيها، بل العيب عليه باتباعه هواه الذي حرمه من الانتفاع بها، قال بعضهم:
قد تنكر العين ضوء الشّمس من رمد | وينكر الفم طعم الماء من سقم |
قال أبو السعود (٣): وجملة الترجي في محل نصب على أنها حال من ضمير
(٢) المراغي.
(٣) أبو السعود.
والخلاصة: فاقصص (١) أيها الرسول الكريم قصص ذلك الرجل الذي تشبه حاله حال أولئك المكذبين بما جئت به من الأيات البينات رجاء أن يتفكروا فيه، فيحملهم سوء حالهم، وقبح مثلهم على إطالة التأمل والتفكر في المخلص مما هم فيه، والنظر في الآيات بعين البصيرة لا بعين الهوى والعداوة، إذ هو من القصص الذي لا يعلمه إلا من درس الكتب، إذ هو من خفي أخبارهم، ففي إخبارك بذلك أعظم معجز.
١٧٧ - ﴿ساءَ﴾ وقبح من جهة كونه ﴿مَثَلًا﴾ وصفة مثل ﴿الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا﴾ بعد قيام الحجة عليها، وعلمهم بها وقوله: ﴿وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ﴾ معطوف على ﴿كَذَّبُوا﴾ فهو داخل مع حكم الصلة، أي: ساء مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا، وكانوا يظلمون أنفسهم بذلك التكذيب؛ أي: الذين جمعوا بين التكذيب بآيات الله، وظلم أنفسهم خاصة؛ أي: ما ظلموا بالتكذيب إلا أنفسهم لا يتعداها ظلمهم إلى غيرها ولا يتجاوزها.
والمعنى (٢): قبحت صفة أولئك القوم في الصفات، وساء مثلهم في الأمثال، بإعراضهم عن التفكر في الآيات، وبالنظر إليها نظر عداوة وبغضاء، وهم بعملهم هذا إنّما يظلمون أنفسهم وحدها بحرمانها من الاهتداء بها، وجعلها السبيل الموصلة إلى السعادة في الدنيا والآخرة، وقرأ (٣) الحسن وعيسى ابن عمر والأعمش ﴿ساء مثل﴾ بالرفع ﴿القوم﴾ بالجر، واختلف على الجحدري، فقيل: كقراءة الأعمش، وقيل بكسر الميم وسكون الثاء وضم اللام مضافا إلى القوم.
ولم يبين الكتاب الكريم اسم من ضرب به المثل ولا جنسه ولا وطنه، ولا جاء في السنة الصحيحة شيء من ذلك، فلا حاجة لنا في العظة إلى بيانه، ولرواة
(٢) المراغي.
(٣) البحر المحيط.
١٧٨ - ﴿مَنْ يَهْدِ اللَّهُ﴾؛ أي: من يوفقه الله تعالى لسلوك سبيل الهداية باستعماله عقله وحواسه فيما خلقا له، بمقتضى الفطرة وإرشاد الدين ﴿فَهُوَ الْمُهْتَدِي﴾ الذي شكر نعم الله عليه، وأدى حقه عليه، ففاز بسعادة الدنيا وسعادة الآخرة، وفي (١) «السمين»: ﴿مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي﴾ راعى لفظ ﴿مَنْ﴾ فأفرد، وراعى معناها في قوله: ﴿فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ﴾ فجمع، وياء ﴿الْمُهْتَدِي﴾ ثابتة عند جميع القراء لثبوتها في الرسم، وسيأتي لك خلاف في التي في الإسراء والكهف، وبحثها، وقال الواحدي: ﴿فَهُوَ الْمُهْتَدِي﴾ يجوز إثبات الياء فيه على الأصل، ويجوز حذفها استخفافا اه.
﴿وَمَنْ يُضْلِلْ﴾؛ أي: ومن يخذله ويحرمه التوفيق، فيتبع شيطانه وهواه، ويترك استعمال عقله وحواسه في فقه آياته، وشكر ما أنعم به عليه ﴿فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ﴾؛ أي: فهو الكفور الضال، الذي خسر سعادة الدنيا وسعادة الآخرة إذ هو قد خسر تلك المواهب التي كان بها إنسانا مستعدا للسعادتين الدنيوية والأخروية؛ أي: ﴿فَأُولئِكَ﴾ الموصوفون بالضلالة ﴿هُمُ الْخاسِرُونَ﴾ أي: الكاملون في الخسران في الدنيا والآخرة، فالهداية والضلالة من جهة الله تعالى، وإنما العظة والتذكير من جهة الوسائط العادية في حصول الاهتداء، من غير تأثير لها فيه سوى كونها دواعي إلى صرف العبد اختياره جهة تحصيله، كسائر أفعال العباد. ولا شك أن الهداية الإلهية نوع واحد وهو الإيمان الذي ثمرته العمل الصالح، أما أنواع الضلال فلا حصر لها، يرشد إلى ذلك قوله تعالى في سورة الأنعام: ﴿وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ﴾
١٧٩ - ثم فصل سبحانه ما أجمله في الآية السالفة مع بيان سببه فقال: ﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ﴾؛ أي: وعزتي وجلالي لقد خلقنا في العالم {كَثِيرًا مِنَ الْجِنِ
﴿وَلَهُمْ﴾؛ أي: ولأولئك الكثير ﴿أَعْيُنٌ﴾ وأبصار ﴿لا يُبْصِرُونَ بِها﴾ إبصار تأمل وتفكر في مصنوعات الله ﴿وَلَهُمْ آذانٌ﴾ وأسماع ﴿لا يَسْمَعُونَ بِها﴾ سماع اعتبار واتعاظ في مصنوعاته؛ أي: فهم لا يفهمون بقلوبهم، ولا يبصرون بأعينهم، ولا يسمعون بآذانهم ما يرجع إلى مصالح الدين؛ أي: وكذلك لهم أبصار وأسماع لا يوجهونها إلى التأمل والتفكر فيما يرون من آيات الله في خلقه، وفيما يسمعون من آياته المنزلة على رسله، ومن أخبار التاريخ الدالة على سنته في خلقه، فيهتدوا بكل منها إلى ما فيه سعادتهم في دنياهم وآخرتهم، فالآذان إنّما خلقت للإنسان ليستفيد من كل ما يسمع، والأبصار إنّما خلقت لينتفع بكل ما يبصر، وإنّما يكون
وا أسفا للمسلمين أصبحوا اليوم أشد الناس إهمالا لاستعمال أسماعهم وأبصارهم وأفئدتهم في النظر في آيات الله في الأنفس والآفاق، وصاروا أجهل الشعوب بالعلوم التي تعرف بها آياته في مشاعر الإنسان، وانفعالاته النفسية، وقواه العقلية، وآياته في الحيوان والنبات، والجماد والهواء، والماء والبخار، وسنن النور والكهرباء، والعلوم الفلكية. ومن أصاب منهم حظا من معرفتها فإنّما يعرفها للانتفاع بها في الحياة الدنيا، من غير مراعاة أنّها آيات دالة على أن لها ربا خالقا مدبرا عليما قديرا رحيما، يجب أن يعبد وحده وأن يخشى ويحب فوق كل أحد، وأن تكون معرفته منتهى كل غاية من هذه الحياة ﴿أُولئِكَ﴾ الموصوفون بما ذكر من الصفات ﴿كَالْأَنْعامِ﴾ من إبل وبقر وغنم، فهم لا حظ لهم من عقولهم إلا استعمالها فيما يتعلق بمعيشهم في هذه الحياة. ﴿بَلْ هُمْ﴾؛ أي: بل هؤلاء الموصوفون بالصفات المذكورة ﴿أَضَلُّ﴾ وأجهل وأخطأ من الأنعام؛ لأنّها تعرف صاحبها وتطيعه، وهؤلاء الكفار لا يعرفون ربهم ولا يطيعونه؛ أي: بل هم أضل سبيلا منها، إذ هذه البهائم لا تجني على أنفسها بتجاوز سنن الفطرة وحدود الحاجة الطبيعية في أكلها وشربها، وجمع حاجاتها، لكن عبيد الشهوات يسرفون في كل ذلك إسرافا عظيما، قد تتوالد منه الأمراض الكثيرة، كما قد يجاهدون هذه الشهوات جهادا يفرطون فيه بحقوق البدن، فلا يعطونه ما يكفيه من الغذاء، ويقصرون في الحقوق الزوجية، فيجنون على أشخاصهم وعلى النوع كله بالتفريط، كما يجني عليهما عبيد الشهوات بالإفراط، وهداية الإسلام تحظر هذا وذاك، وتوجب الأكل من الطيبات بشرط عدم الإسراف، ولو سلكوا مسلك الإهتداء بالقرآن في فهم أسرار الخلق، ومعرفة منافعه.. لاستفادوا السعادة في معاشهم، والاستعداد لمعادهم ﴿أُولئِكَ﴾ المذكورون ﴿هُمُ الْغافِلُونَ﴾ والساهون عما فيه صلاحهم في الحياتين، أو عما أعد الله لأوليائه من الثواب، ولأعدائه
والخلاصة: أنّ أهل النار هم الأغبياء الجاهلون الغافلون الذين لا يستعملون عقولهم في فقه حقائق الأمور، وأبصارهم وأسماعهم في استنباط المعارف، واستفادة العلوم، ولا في معرفة آيات الله الكونية، وآياته التنزيلية، وهما سبب كمال الإيمان والباعث النفسي على كمال الإسلام
١٨٠ - ﴿وَلِلَّهِ﴾ سبحانه وتعالى لا لغيره ﴿الْأَسْماءُ الْحُسْنى﴾؛ أي: الأسماء التي هي أحسن الأسماء وأجلها، لدلالتها على أحسن المعاني وأشرفها. ﴿فَادْعُوهُ﴾؛ أي: فادعو الله سبحانه وتعالى وسموه ونادوه ﴿بِها﴾؛ أي: بتلك الأسماء عند الدعاء لحوائجكم، وعند الذكر والثناء عليه، كأن تقول: يا الله يا رحمن يا رحيم؛ أي: فاذكروه ونادوه بها إما للثناء عليه نحو ﴿اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ * ونحو: هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (٢٢)﴾ وإما لدى السؤال، وطلب الحاجات، وذكر الأسماء الحسنى في أربع سور من القرآن:
أولها: هذه السورة.
ثانيها: في آخر سورة الإسراء في قوله: ﴿قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ﴾.
وثالثها: في أول طه في قوله: ﴿اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى (٨)﴾.
رابعها: في آخر الحشر في قوله: ﴿هُوَ اللَّهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى﴾. اه. الخطيب.
وللذكر فوائد: منها تغذية الإيمان، ومراقبة الله تعالى، والخشوع له، والرغبة فيما عنده، واحتقار آلام الدنيا، وقلة المبالاة بما يفوت المؤمن من نعيمها، ومن ثم جاء في الحديث: «من نزل به غم أو كرب أو أمر مهم فليقل:
وروى الحاكم في «المستدرك» عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم لفاطمة: «ما يمنعك أن تسمعي ما أوصيك به؟ أن تقولي إذا أصبحت وإذا أمسيت: يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث، أصلح لي شأني ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين».
وأسماء الله كثيرة، وكلها حسنى لدلالة كل منها على منتهى كمال معناه، وتفضيلها على ما يطلق منها على المخلوقين، كالرحيم والحكيم والحفيظ والعليم.
وروى الشيخان من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «إن لله تسعة وتسعين اسما من حفظها.. دخل الجنة، والله وتر يحب الوتر».
وفي رواية: «من أحصاها» في رواية أخرى: «لله تسعة وتسعون اسما، مئة إلا واحدا، لا يحفظها أحد إلا دخل الجنة، وهو وتر يحب الوتر». قال البخاري: أحصاها: حفظها. وفي رواية الترمذي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «إن لله تسعة وتسعين اسما من أحصاها دخل الجنة: هو الله الذي لا إله إلا هو الرحمن الرحيم، الملك القدوس، السلام المؤمن، المهيمن العزيز، الجبار المتكبر، الخالق البارىء المصور، الغفار القهار، الوهاب الرزاق، الفتاح العليم، القابض الباسط، الخافض الرافع، المعز المذل، السميع البصير، الحكم العدل، اللطيف الخبير، الحليم العظيم، الغفور الشكور، العلي الكبير، الحفيظ المقيت، الحسيب الجليل، الكريم الرقيب، المجيب الواسع، الحكيم الودود، المجيد الباعث، الشهيد الحق، الوكيل القوي، المتين الولي، الحميد المحصي، المبدىء المعيد، المحي المميت، الحي القيوم، الواجد الماجد، الواحد الصمد، القادر المقتدر، المقدم المؤخر، الأول الآخر، الظاهر الباطن، الوالي المتعال، البر التواب، المنتقم العفو،
وقد اختلف (١) المحدثون في سرد هذه الأسماء، هل هو مرفوع أو مدرج في الحديث من بعض الرواة؟ والثاني هو الراجح، ومن ثم لم يخرجه الشيخان لتفرد الوليد بن مسلم به واحتمال الإدراج كما قاله الحافظ بن حجر في «الفتح».
﴿فَادْعُوهُ بِها﴾؛ أي: فادعوا (٢) بأسمائه التي سمى بها نفسه، أو سماه بها رسوله، ففيه دليل على أن أسماء الله تعالى توقيفية لا اصطلاحية، ومما يدل على صحة هذا القول ويؤكده أنّه يجوز أن يقال: يا جواد، ولا يجوز أن يقال: يا سخي، ويجوز أن يقال: يا عالم، ولا يجوز أن يقال: يا عاقل، ويجوز أن يقال: يا حكيم، ولا يجوز أن يقال: يا طبيب.
وللدعاء بها شروط: منها أن يعرف الداعي معاني الأسماء التي يدعو بها، ويستحضر في قلبه عظمة المدعو سبحانه وتعالى، ويخلص النية في دعائه، مع كثرة التعظيم والتبجيل والتقديس لله، ويعزم المسألة مع رجاء الإجابة، ويعترف لله سبحانه وتعالى بالربوبية، وعلى نفسه بالعبودية، فإذا فعل العبد ذلك.. عظم موقع الدعاء، وكان له تأثير عظيم.
﴿وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ﴾ تعالى؛ أي (٣): واتركوا أيها المؤمنون تسمية الذين يزيفون ويميلون عن الحق في أسمائه تعالى، الذين يسمونه بما لا توقيف فيه، يا سخي يا عاقل، أو بما يوهم معنى فاسدا، كقولهم: يا أبا المكارم، يا أبيض الوجه، أو لا تبالوا بإنكارهم ما سمى به نفسه، كقولهم: ما نعرف إلا رحمن اليمامة، أو: وذروهم وإلحادهم فيها بإطلاقها على الأصنام،
(٢) الخازن.
(٣) البيضاوي.
فصل في الإلحاد في أسمائه تعالى وأقسامه
والإلحاد ضربان (١): إلحاد إلى الشرك بالله وهو ينافي الإيمان ويبطله، وإلحاد إلى الشرك بالأسباب كأن ينظر إليها مع الغفلة عن كونها من خلق الله وتسخيره، أو يعتقد أنّها مؤثرة بذاتها لا بفعله تعالى، وهذا يوهن عرا الإيمان، ولا يبطله.
والخلاصة: أن الإلحاد في أسمائه الحسنى أقسام:
١ - تسميته تعالى بما لم يسم به نفسه في كتابه أو ما صح من حديث رسوله صلى الله عليه وسلّم، فقد اتفق أهل الحق على أن أسماءه وصفاته تعالى توقيفية؛ أي: تحتاج إلى إذن من الشارع لصحة إطلاقها عليه تعالى، وكل ما ورد في الكتاب والأحاديث الصحيحة دعاء ووصفا له، وإخبارا عنه، يصح إثباته له، ويمنع كل ما دلت على منعه، قال في «الكشاف»: كقول أهل البدو: يا أبا المكارم، يا أبيض الوجه، يا سخي.
٣ - تغيير أسمائه بوضعها لغيره مما عبد من دونه، كاللات والعزى.
٤ - تحريف أسمائه وصفاته تعالى عما وضعت له بضرب من التأويل، فقد ذهب جماعة من المسلمين إلى جعل الرب القدوس الذي ليس كمثله شيء كرجل من خلقه؛ لأنّه تعالى وصف نفسه بصفات يدل مجموعها على ذلك، كالسمع والبصر والكلام، والوجه، واليد، والرجل، والضحك، والرضا والغضب، وذهبوا إلى تأويل جميع صفاته تعالى حتى جعلوها كالعدم.
٥ - إشراك غيره فيما هو خاص به من أسمائه باللفظ، كاسم الجلالة الله، والرحمن، ورب العالمين، وما في معناه كرب السماء والأرض، أو رب الكعبة أو رب البيت (الكعبة) كما قال: ﴿فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ (٣)﴾.
٦ - إشراك غيره في كمال أسمائه، كمن يزعم أو يعتقد أن لغيره تعالى رحمة كرحمته، ورأفة كرأفته، وغير ذلك من معاني أسمائه، كالمجيب مثلا، كما قال تعالى: ﴿وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ﴾.
وبعض الذين يدعون غير الله تعالى من الموتى يعتقدون أنّهم أسرع وأقرب في إجابتهم من الله تعالى، فيجمعون بذلك بين شركين، شرك دعاء غير الله مع اعتقاد إجابته، وشرك الكفر بتفضيل غيره عليه سبحانه في سرعة الإجابة مع أن الله يقول: ﴿أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ﴾؛ أي: لا يجيب المضطر إلا هو، فهو المستحق وحده للعبادة
١٨١ - ﴿وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ﴾؛ أي: جماعة وعصابة كثيرة ﴿يَهْدُونَ﴾ الناس ويدلونهم على الاستقامة حالة كونهم ملتبسين ﴿بِالْحَقِّ﴾ والعدل والصواب ﴿وَبِهِ﴾؛ أي: وبالحق ﴿يَعْدِلُونَ﴾؛ أي: يحكمون بين الناس في الحكومات والخصومات الجارية فيما بينهم، ولا يجورون فيها، والمعنى: وبالحق خاصة يجعلون الأمور متعادلة، لا
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ، عن ابن جريج في قوله تعالى: ﴿وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ﴾ قال: ذكر لنا أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «هذه أمتي بالحق يحكمون ويقضون ويأخذون ويعطون»، وأخرج عبد الله بن حميد وابن المنذر عن قتادة فيها قال: بلغنا أنّ النبي صلى الله عليه وسلّم كان يقول إذا قرأها: «وهذه لكم وقد أعطى القوم بين أيديكم مثلها» ﴿وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (١٥٩)﴾.
وأخرج أبو الشيخ عن علي بن أبي طالب قال: لتفترقن هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا فرقة، يقول تعالى: ﴿وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (١٨١)﴾ فهذه هي التي تنجو من هذه الأمة.
وروى الشيخان عن معاوية قال - وهو يخطب -: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول: «لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله، لا يضرهم من خذلهم، ولا من خالفهم، حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك» وفي الآية دليل على أنه لا يخلو زمان من قائم بالحق يعمل به، ويهدي إليه.
١٨٢ - ثم لما بين حال هذه الأمة الصالحة.. بين حال من يخالفهم فقال: ﴿وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا﴾ القرآنية والكونية التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلّم، وهم جميع أنواع الكفرة من المشركين واليهود والنصارى وغيرهم ﴿سَنَسْتَدْرِجُهُمْ﴾؛ أي: سنأخذهم قليلا قليلا ﴿مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ﴾؛ أي: من حيث لا يحتسبون الهلاك والأخذ ولا يظنونه، وقيل معناه (٢): سنقربهم إلى ما يهلكهم، ويضاعف عقابهم من حيث لا يعلمون
(٢) الخازن.
وقد صدق الله وعده، فقد كان كفار قريش وصناديدها يبالغون في عداوة النبي صلى الله عليه وسلّم اغترارا بكثرتهم وثروتهم، لا يعتدون به ولا بغيره ممن آمن به أولا، وأكثرهم من الضعفاء الفقراء، فما زالوا يتدرجون في عداوتهم له، وقتالهم إياه حتى أظهره الله تعالى عليهم في غزوة بدر، فلم يعتبروا، ثم زادهم غرورا تغلبهم عليه آخر معركة أحد، حتى قال أبو سفيان يوم بيوم بدر، إلى أن كان الفتح الأعظم فتح مكة، فأظهر رسوله صلى الله عليه وسلّم ومن اتبعه عليهم من حيث لا يعلمون سننه تعالى.
وأثر عن عمر رضي الله عنه أنه قال: لما حملت إليه كنوز كسرى: اللهم إني أعوذ بك أن أكون مستدرجا، فإني سمعتك تقول: ﴿سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (١٨٢)﴾ وقرأ بعضهم: سيستدرجهم بالياء فيحتمل أن يكون الفاعل الله سبحانه، وهو التفات من التكلم إلى الغيبة، وأن يكون الفاعل ضمير التكذيب المفهوم من قوله: ﴿كَذَّبُوا﴾.
١٨٣ - ﴿وَأُمْلِي لَهُمْ﴾؛ أي: وأمهل لهؤلاء المكذبين المستدرجين في العمر، وأمد لهم في أسباب المعيشة، والتدرب على الحرب بمقتضى سنني في نظام الاجتماع البشري، كيدا لهم ومكرا بهم، لا حبا فيهم، ونصرا لهم، كما قال تعالى: ﴿فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (٥٤) أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ (٥٥) نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ (٥٦)﴾ وروى الشيخان من حديث أبي موسى: «إن الله ليمد للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته».
﴿إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ﴾؛ أي: إنّ استدراجي ومكري وأخذي قوي لا يدافع بقوة، ولا بحيلة، وسمى العذاب كيدا لأنّ ظاهره إحسان ولطف، وباطنه خذلان وقهر، وقرأ عبد الحميد عن ابن عامر: ﴿أن كيدي﴾ بفتح الهمزة على معنى: لأجل أن كيدي. وقرأ الجمهور بكسرها على الاستئناف،
١٨٤ - والهمزة في قوله: ﴿أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا﴾ للاستفهام الإنكاري داخلة على محذوف تقديره: أكذبوا بآياتنا ولم يتفكروا فيها فيعلموا ﴿ما بِصاحِبِهِمْ﴾ محمد صلى الله عليه وسلّم ﴿مِنْ جِنَّةٍ﴾؛ أي: شيء من جنون؛ أي: أكذبوا الرسول ولم يتفكروا في حاله من بدء نشأته، وفي حقيقة دعوته، ودلائل رسالته، وآيات وحدانية الله وقدرته على إعادة خلقه كما بدأهم.
إنّهم إن تفكروا في ذلك مليا.. أوشكوا أن يعرفوا الحق، وما الحق إلا أن صاحبهم ليس به جنة، وقد حكى الكتاب الكريم أنّهم رموه بالجنون كقوله في كفار مكة: ﴿أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (٦٨) أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (٦٩) أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ (٧٠)﴾، وقوله: ﴿يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (٦) لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٧)﴾ وقوله: ﴿أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ﴾.
وعبر عنه صلى الله عليه وسلّم بصاحبهم للإعلام بأن طول مصاحبتهم له صلى الله عليه وسلّم مما يطلعهم على نزاهته صلى الله عليه وسلّم عن شائبة الجنون.
وقد جرت عادة الكفار أن يرموا رسلهم بالجنون؛ لأنّهم ادعوا أن الله خصهم برسالته ووحيه على كونهم بشرا كغيرهم، لا يمتازون من سائر الناس بزعمهم؛ ولأنّهم ادعوا ما لم يعهد له نظير عندهم، فقد حكى الله عن قوم نوح أنّهم اتهموه بالجنون فقالوا: ﴿إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (٢٥)﴾.
ولو تأمل مشركوا مكة في نشأته صلى الله عليه وسلّم - وما جربوا من أمانته وصدقه - إلى أن اكتهل، ثم تفكروا فيما قام يدعوهم إليه من توحيد الله وعبادته وحده، وما دعاهم إليه من إصلاح في حالهم الدينية والمدنية والاجتماعية.. لعلموا أن هذا كله لا يصدر من مجنون، بل الذي يقتضيه العقل، ويسرع إليه الفكر أن هذا ليس من رأي ذلك النبي الأمي الناشىء بين الأميين، وأنّ ما أقامه من الحجج والبراهين العقلية والكونية على ما يدعي لا يصدر ممن لم يناظر، ولم يفاخر، ولم يجادل أحدا فيما مضى، إن هو إلا وحي من الله ألقاه في روعه، ونزل من لدنه على روح القدس، والله يختص بفضله ورحمته من يشاء، وهو ذو الفضل العظيم.
١٨٥ - والهمزة في قوله: ﴿أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ﴾ للاستفهام التوبيخي التعجبي، داخلة على محذوف، والواو عاطفة على ذلك المحذوف تقديره: أكذبوا الرسول الذي علموا صدقة وأمانته وقالوا: إنه مجنون، وهو الذي شهر لديهم بالروية والعقل، ولم ينظروا نظرة تأمل واستدلال في هذا الكون العظيم من السموات والأرض، فيروا ذلك النظام البديع فيهما الدال على القدرة الباهرة والحكمة الظاهرة ﴿وَ﴾ لم ينظروا في ﴿ما خَلَقَ اللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى فيهما ﴿مِنْ شَيْءٍ﴾ من الأجناس التي لا يحصرها عدد، وإن دق وصغر، فإنّهم لو تأملوا
وفي كلّ شيء له آية... تدلّ على أنّه الواحد
إنهم لو نظروا في شيء من ملكوت السموات والأرض.. لاهتدوا بدلائله إلى تصديق الرسول صلى الله عليه وسلّم وقوله: ﴿وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ﴾ معطوف (١) على ﴿مَلَكُوتِ السَّماواتِ﴾ و ﴿أَنْ﴾ مصدرية أو مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن، وكذا اسم ﴿يَكُونَ﴾ ضمير الشأن، والمعنى: أو لم ينظروا في اقتراب آجالهم، وتوقع حلولها، فيسارعون إلى طلب الحق، والتوجه إلى ما ينجيهم قبل مغافصة (٢) الموت، ونزول العذاب، فإنهم لو نظروا في توقع قرب آجالهم وقدومهم على ربهم بسوء عملهم.. لاحتاطوا لأنفسهم، ورأوا أنّ من الحكمة أن يقبلوا إنذاره صلى الله عليه وسلّم لهم، فما جاءهم به لا ينكرون أنّه خير لهم في الدنيا، وخير لهم في الآخرة إذا صدق ما يقرره من أمر البعث والجزاء، وهو صدق وحق لا شك فيه.
﴿فَبِأَيِّ حَدِيثٍ﴾ وكتاب ﴿بَعْدَهُ﴾؛ أي: بعد القرآن ﴿يُؤْمِنُونَ﴾؛ أي: يصدقون إن لم يؤمنوا به، وهو أكمل كتب الله تعالى بيانا، وأقواها برهانا، فمن لم يؤمن به.. فلا مطمع في إيمانه بغيره، وقوله: ﴿فَبِأَيِّ حَدِيثٍ﴾ متعلق بـ ﴿يُؤْمِنُونَ﴾ وهي جملة استفهامية سيقت للعجب؛ أي: إذا لم يؤمنوا بهذا الحديث.. فكيف يؤمنون بغيره.
والمعنى (٣): فبأي كتاب بعد الكتاب الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلّم يصدقون إن لم يصدقوا به، وليس بعد محمد نبي، ولا بعد كتابه كتاب؛ لأنّه خاتم الأنبياء، وكتابه آخر الكتب لانقطاع الوحي بعد محمد صلى الله عليه وسلّم؟
١٨٦ - ثم ذكر علة إعراضهم عن الإيمان فقال: ﴿مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ﴾؛ أي: من يرد الله سبحانه وتعالى إضلاله عن الحق والصواب: ﴿فَلا هادِيَ لَهُ﴾؛ أي: فلا مرشد له إلى الحق، فإنّ إعراضهم
(٢) مغافصة الموت: مفاجئة الموت.
(٣) الخازن.
والخلاصة (١): أنّه ليس معنى إضلال الله لهم أنّه أجبرهم على الضلال وأعجزهم بقدرته عن الهدى، فكان ضلالهم جبرا لا اختيارا، بل المراد أنّهم لما مرنت قلوبهم على الكفر والضلال، وأسرفوا فيهما حتى وصلوا إلى حد العمه في الطغيان.. فقدوا بهذه الأعمال الاختيارية ما يضادها من الهدى والإيمان، فأصبحت نفوسهم لا تستنير بالهدى، وقلوبهم لا ترعوي لدى الذكرى ﴿كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٤)﴾.
وقرأ الحسن (٢) وقتادة وأبو عبد الرحمن وأبو جعفر والأعرج وشيبة ونافع وابن كثير وابن عامر: ﴿وَنَذَرُهُمْ﴾ بالنون ورفع الراء، وأبو عمرو وعاصم: بالياء ورفع الراء، وهو استئناف إخبار قطع أو أضمر قبله نحن، فيكون جملة اسمية، وقرأ ابن مصرف والأعمش والأخوان - حمزة والكسائي - وأبو عمرو فيما ذكر أبو حاتم: بالياء والجزم، وروى خارجة عن نافع: بالنون والجزم، وخرج سكون الراء على وجهين:
أحدهما: أنّه سكن لتوالي الحركات، كقراءة: ﴿وما يشعركم وينصركم﴾ فهو مرفوع.
(٢) البحر المحيط.
١٨٧ - ﴿يَسْئَلُونَكَ﴾؛ أي: يسألك يا محمد كفار قريش سؤال استهزاء وسخرية ﴿عَنِ السَّاعَةِ﴾؛ أي: عن وقت قيام الساعة ومجيء القيامة، والساعة من الأسماء الغالبة، كالنجم للثريا، وسميت القيامة بالساعة لوقوعها بغتة على حين غفلة من الناس، أو لأنّ حساب الخلق يقضي فيها في ساعة واحدة، أو لأنّها مع طولها في نفسها عند الخلق كساعة من الساعات عند الله.
وهذا كلام مستأنف مسوق لبيان بعض أنواع ضلالهم وطغيانهم؛ أي: يسألونك عن الساعة بقولهم ﴿أَيَّانَ مُرْساها﴾؛ أي: متى إرساؤها ووقوعها وحصولها، وكأنه شبهها بالسفينة القائمة في البحر تشبيها للمعاني بالأجسام، والساعة الوقت الذي تموت فيها الخلائق، وقرأ الجمهور: ﴿أَيَّانَ﴾ بفتح الهمزة، والسلمي بكسرها حيث وقعت، وهي لغة قومه بني سليم. ﴿قُلْ﴾ لهم يا محمد في جواب سؤالهم ﴿إِنَّما عِلْمُها﴾؛ أي: علم وقت مجيئها كائن ﴿عِنْدَ رَبِّي﴾ سبحانه قد انفرد بعلمها، بحيث لم يخبر به أحدا من ملك مقرب، أو نبي مرسل؛ أي: ما علمها حاصل إلا عند الله سبحانه وتعالى، والمعنى: يسألونك أيها الرسول عن الساعة يقولون: متى إرساؤها واستقرارها؟ - والسائلون هم قريش - لأنّ السورة مكية ولم يكن في مكة أحد من اليهود، وسؤالهم عن هذا الوقت استبعاد منهم لوقوعه، وتكذيب بوجوده، كما جاء حكاية عنهم: ﴿وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٨)﴾ وقال تعالى: ﴿يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (١٨)﴾. وفي التعبير عن زمن وقوعها - بالإرساء الدال على استقرار ما شأنه الحركة والاضطراب - إيماء إلى أنّ قيام الساعة هو انتهاء أمر هذا العالم، وانقضاء عمر هذه الأرض التي تدور بما فيها من العوالم المتحركة المضطربة ﴿قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي﴾؛ أي: قل إن علم الساعة عند ربي وحده، لا عندي ولا عند غيري من الخلق، وقد جاء بمعنى الآية قوله: ﴿إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها﴾ وقوله: {يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها (٤٢) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها (٤٣)
والخلاصة: أن هناك حكمة بالغة في إبهام أمر الساعة العامة للعالم، والساعة الخاصة بالأفراد والأمم والأجيال يجعلها من الغيب الذي استأثر الله تعالى به.
﴿لا يُجَلِّيها﴾؛ أي: لا يظهر أمرها الذي تسألونني عنه ﴿لِوَقْتِها﴾؛ أي: في وقتها المعين لها ﴿إِلَّا هُوَ﴾ سبحانه وتعالى؛ أي: لا يقدر على إظهار وقتها المعين بالإخبار عنه إلا هو سبحانه وتعالى، والمعنى: لا يكشف حجاب الخفاء عنها، ولا يظهرها في وقتها المحدود عند الله تعالى، إلا هو سبحانه، إذ لا وساطة بينه وبين عباده في إظهارها، ولا في الإعلام بميقاتها، وإنّما وساطة الرسل في الإنذار بها.
﴿ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ﴾؛ أي: ثقل وصعب تحصيل العلم بوقتها على أهل السموات والأرض، فلم يعلم أحد من الملائكة المقربين والأنبياء المرسلين متى وقوعها، وقيل المعنى: ثقل وقتها، وعظم أمرها في السموات والأرض على أهلهما من الملائكة والإنس والجن؛ لأنّ الله تعالى أنبأهم بأهوالها، ولم يشعرهم بميقاتها، فهم دائما يتوقعون أمرا عظيما لا يدرون متى يفجؤهم قيامها.
وقال السدي: خفيت في السموات والأرض، فلا يعلم قيامها ملك مقرب ولا نبي مرسل. وقال ابن عباس: ليس شيء من الخلق إلا يصيبه ضرر يوم القيامة. وروي عن ابن جريج: أن ثقلها يكون يوم مجيئها {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (١)
ويجب (١) على المؤمنين أن يخافوا ذلك، وأن يحملهم ذلك على مراقبة الله تعالى في أعمالهم، بأن يلتزموا فيها الحق ويتحروا الخير، ويتقوا الشر والمعاصي، ولا يجعلوا حظهم من أمر الساعة الجدل فيها، وكثرة القيل والقال في شأنها، وفي تعيين ميقاتها، وقوله: ﴿يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها﴾ فيه تقديم وتأخير؛ أي: يسألونك عنها كأنك حفي بها؛ أي: سألك قومك يا محمد عن حقيقة الساعة وكنهها وثقلها وشدائدها، كأنك حفي أي: عالم بها، ومتيقن لها، فعلى هذا التفسير فلا تكرار مع ما سبق؛ لأن السؤال الأول عن وقت مجيئها، وهذا الثاني عن حقيقتها وكنهها وثقلها، وقيل: السؤال هنا أيضا عن وقت مجيئها، ولكن كرره تأكيدا لما سبق، وتقريرا له. وقد يكون المعنى: يسألونك عنها كأنك حفي وشفيق بهم، وصديق لهم بينك وبينهم مودة، ويؤيد هذا ما روي عن ابن عباس قال: لما سأل الناس النبي صلى الله عليه وسلّم عن الساعة سألوه سؤال قوم كأن محمدا حفي بهم؟
فأوحى الله إليه: «إنما علمها عنده استأثر به، فلا يطلع عليه ملكا مقربا ولا رسولا» وما روي عن قتادة قال: قالت قريش لمحمد صلى الله عليه وسلّم: إن بيننا وبينك قرابة. فأشر إلينا متى الساعة، فقال: الله عز وجل: ﴿يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها﴾.
وقرأ عبد الله (٢): ﴿كأنك حفي بها﴾ بالباء مكان عن؛ أي: عالم بها، بليغ
(٢) البحر المحيط.
﴿وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ﴾؛ أي: لا يعلمون اختصاص علمها به تعالى، ولا حكمة ذلك، ولا أدب السؤال ولا نحو ذلك مما ينبغي أن يعلم في هذا الباب، وإنّما يعلم ذلك القليلون منهم، وهم المؤمنون بما جاء في كتاب الله من أخبارها، وبما سمع من رسوله صلى الله عليه وسلّم، كمن حضروا تمثل جبريل عليه السلام بصورة رجل، وسؤاله النبي محمد صلى الله عليه وسلّم عن الإيمان والإسلام والإحسان، ثم عن الساعة؟ وإجابة النبي صلى الله عليه وسلّم له عن سؤاله الأخير بقوله: «ما المسؤول عنها بأعلم من السائل»؛ أي: إنا سواء في جهل هذا الأمر، فلا يعلم أحد منا متى تقوم الساعة.
وقال الطبري (١): المعنى: لا يعلمون أنّ هذا الأمر لا يعلمه إلا الله، بل يظن أكثرهم أنّه مما يعلمه البشر. اه وقيل: لا يعلمون أن القيامة حق؛ لأنّ أكثر الناس ينكرون المعاد ويقولون: ﴿إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا﴾... الآية. قيل: لا يعلمون أني أخبرتك أن وقتها لا يعلمه إلا الله، وقيل: لا يعلمون السبب الذي لأجله أخفيت معرفة وقتها، والأظهر قول الطبري كما أشرنا إليه في الحل.
قال الألوسي (٢): وإنّما أخفى سبحانه أمر الساعة لاقتضاء الحكمة التشريعية ذلك، فإنه أدعى إلى الطاعة، وأزجر عن المعصية، كما أن إخفاء الأجل الخاص للإنسان كذلك، وظاهر الآيات أنه عليه السلام لم يعلم وقتها، نعم علم عليه
(٢) الألوسي.
فصل في عمر الدنيا
ألف الجلال السيوطي رسالة سماها: «الكشف عن مجاوزة هذه الأمة الألف» أخرج فيها عدة أحاديث في أن عمر الدنيا سبعة آلاف سنة، وأن مدة هذه الأمة تزيد على ألف ولا تبلغ الزيادة خمس مئة، وسمى بعضهم الألف الثانية بالألف المخضرمة؛ لأن نصفها دنيا، ونصفها الآخر أخرى، ولا شك أن ما جاء في هذا الباب كله مأخوذ من الإسرائيليات التي كان يبثها زنادقة اليهود والفرس في المسلمين، حتى رووه مرفوعا وقد اغتر بها من لا ينظر في نقد الروايات إلا من جهة أسانيدها، وقد هدمها الزمان وهدم كثيرا مثلها من الأوهام والخرافات، التي أريد بها الكيد للإسلام.
والخلاصة: أنّ القول بتعيين مدة الدنيا من أولها إلى آخرها بسبعة آلاف لم يثبت في نص يعتمد عليه، وإن كانت قد رويت فيه آثار عن السلف، أكثرها مأخوذ عن أهل الكتاب، وفي أسانيدها مقال، قال ابن حزم المتوفى سنة ٤٥٦ هـ: أما نحن فلا نقطع على علم عدد معروف عندنا، ومن ادعى في ذلك سبعة آلاف سنة أو أكثر أو أقل.. فقد قال ما لم يأت قط عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم فيه لفظة تصح، بل صح عنه خلافه، بل نقطع على أنّ للدنيا أمدا لا يعلمه إلا الله تعالى، قال الله سبحانه وتعالى: ﴿ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ﴾. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «ما أنتم في الأمم قبلكم إلا كالشعر البيضاء في الثور الأسود، أو كالشعرة السوداء في الثور الأبيض» وهذه نسبة من تدبرها، وعرف مقدار عدد أهل الإسلام، ونسبة ما بأيديهم من معمور الأرض، وأنّه الأكبر.. علم أنّ للدنيا أمدا لا يعلمه إلا الله اه.
فصل في بعض أشراط الساعة وعلاماتها
الأشراط واحدها شرط، أسباب وسبب، وهي العلامات والأمارات الدالة على قربها، وقد ثبت في الكتاب والسنة أنّ للساعة أشراطا كما قال تعالى: ﴿فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ (١٨)﴾ ومن أعظم أشراطها بعثة خاتم النبيين بآخر هداية الوحي الإلهي للناس أجمعين، فبعثته قد كمل بها الدين، وبكماله تكمل الحياة البشرية الروحية، ويتلوها كمال الحياة المادية، وما بعد الكمال إلا الزوال.
وقد وردت أحاديث في أشراط الساعة يدل بعضها على أنّ الشهوات المادية تتنازع مع الهداية الروحية فيكون لها الغلبة زمنا. ثم تنتصر الهداية الروحية، ثم يغلب الضلال والشر والفجور والكفر، حتى تقوم الساعة على شرار الخلق، وقد قسموا أشراطها ثلاثة أقسام:
١ - ما وقع بالفعل منذ قرون خلت، كقتال اليهود، وفتح بيت المقدس، والقسطنطينية.
٢ - ما وقع بعضه - وهو لا يزال في ازدياد - كالفتن والفسوق، وكثرة الزنا وكثرة الدجالين، وكثرة النساء وتشبههن بالرجال، والكفر والشرك، حتى في بلاد العرب.
٣ - ما سيقع بين يدي الساعة من العلامات الصغرى والكبرى.
المهدي المنتظر
أشهر الروايات أنّ اسمه محمد بن عبد الله، والشيعة يقولون: إنّه محمد بن الحسن العسكري، ويلقبونه بالحجة والقائم والمنتظر، ويقولون: إنّه دخل السرداب في دار أبيه في مدينة «سرّ من رأى» التي تسمى الآن «سامراء» سنة (٣٦٥)، وله من العمر تسع سنين، وأنّه لا يزال في السرداب حيا، وزعمت الكيسانية أنه محمد بن الحنفية، وأنه حي مقيم بجبل رضوى - جبل بالمدينة - بين أسدين يحفظانه، وعنده عينان نضاختان تفيضان عسلا ولبنا، ومعه أربعون من أصحابه.
ومن حديث ابن عساكر عنه مرفوعا «اللهم انصر العباس وولد العباس - ثلاثا - يا عم، أما علمت أن المهدي من ولدك موفقا مرضيا». وفي معناهما أحاديث أخرى لأبي هريرة وأم سلمة وعلي، وأكثر العلماء ينكرون هذه الأحاديث، ويقولون: إنها موضوعة لا نصيب لها من الصحة، ومن ثم لم يعتد بها الشيخان، ومن هؤلاء ابن خلدون، فقد ذكر الأحاديث التي وردت في المهدي وضعفها، وضعف أسانيدها، وانتهت به خاتمة المطاف إلى أنّه لم يصح فيه شيء يوثق به، إلى أن قال: إن لله سننا - في الأمم والدول والعمران - مطردة في كل زمان ومكان، كما ثبت في مصحف القرآن وصحف الأكوان، ومنها أن الدول لا تقوم إلا بعصبية، وأن الأعاجم سلبوا العصبية من قريش والعترة النبوية، فإن صحت أخبار هذا المهدي فلا يظهر إلا بعد تجديد عصبية هاشمية علوية، ولو سمعوا وعقلوا لسعوا وعملوا، ولكان استعدادهم لظهور المهدي بالاهتداء بسنن الله رحمة لهم تجاه ما كانوا في أخباره من الفتن والنقم فيهم، وربما أغناهم عن بعض ما يروجون من زعامته، إن لم يغنهم عنه كله.
هذا والمسلمون لا يزالون على ظهور المهدي، ويزعم دهماؤهم أنّه سينقض لهم سنن الله، أو يبدلها تبديلا وهم يتلون قوله تعالى: ﴿فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا﴾.
فإذا كان من أشراط الساعة آيات، وكان في زمانها خوارق عادات، فهل يضرهم أن تأتيهم وهم على هدى من ربهم، وإقامة لشرعهم في عزة وسلطان في أرضهم، وكان لكعب الأحبار جولة واسعة في تلفيق تلك الأخبار.
وقد كانت هذه المسألة أكبر مثارات الفساد والفتن في الشعوب الإسلامية،
وقد كان من حصافة الرأي أن يكون خروج المهدي باعثا لهم على الاستعداد لظهوره، بتأليف عصبية قوية بزعامته، تجدد الإسلام وتنشر العدل في الإسلام، لكنهم لم يفعلوا، بل تركوا ما يجب من حفظ سلطان الملة بجمع كلمة الأمة، وبإعداد ما استطاعوا من حول وقوة، واتكلوا على قرب ظهور المهدي، وأنه هو الذي سيرد إليهم ملكهم بالكرامات وخوارق العادات، لا بالمدافع والدبابات والطيارات، والقاذفات، والأساطيل، والغواصات، وقد فاتهم أنّ الحرب كانت بين النبي صلى الله عليه وسلّم وبين المشركين سجالا، وكان المؤمنون ينفرون منه خفافا وثقالا، فهل يكون المهدي أهدى وأحسن منه حالا ومآلا؟.
١٨٨ - ﴿قُلْ﴾ لهم يا محمد فيما تبلغه لهم من أمر دينهم ﴿لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي﴾ ولا لغيري ﴿نَفْعًا وَلا ضَرًّا﴾؛ أي: جلب نفع ولا دفع ضر، مستقلا بقدرتي على ذلك ﴿إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ﴾ أن يقدرني عليه، فإذا أقدرني على جلب النفع.. جلبته بفعل أسبابه، وإذا أقدرني على منع الضر.. منعته بتسخير الأسباب كذلك.
وقد كان المسلمون - ولا سيما حديثوا العهد بالإسلام - يظنون أنّ منصب الرسالة يقتضي علم الساعة وغيرها من علم الغيب، وأنّ الرسول يقدر على ما لا يصل إليه كسب البشر من جلب النفع ومنع الضر عن نفسه وعمن يحب، أو عمن يشاء، أو منع النفع وإحداث الضر بمن يكره، أو بمن يشاء، فأمره الله تعالى أن يبين للناس أنّ منصب الرسالة لا يقتضي ذلك، وأن وظيفة الرسول إنّما هي التعليم والإرشاد لا الخلق والإيجاد، وأنّه لا يعلم من الغيب إلا ما يتعلق بذلك مما علمه الله بوحيه، وأنه فيما عدا ذلك بشر كسائر الناس ﴿قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ﴾ ﴿وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ﴾؛ أي: جلب منافع الدنيا، ودفع مضراتها ﴿لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ﴾؛ أي: لحصلت كثيرا من الخير بترتيب الأسباب، كالادخار في زمن الخصب لزمن الجدب ﴿وَ﴾ لـ ﴿ما مَسَّنِيَ السُّوءُ﴾؛ أي: ولما أصابني
قال ابن كثير: أمره الله تعالى أن يفوض الأمر إليه، وأن يخبر عن نفسه أنه لا يعلم الغيب في المستقبل، ولا اطلاع له على شيء من ذلك، إلا ما أطلعه الله عليه كما قال: ﴿عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَدًا (٢٦)﴾ روى الضحاك عن ابن عباس: ﴿وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ﴾؛ أي: من المال. وقال ابن جرير: أي: لو كنت أعلم الغيب.. لأعددت للسنة المجدبة من المخصبة، ولوقت الغلاء من الرخص. وقال عبد الله بن زيد بن أسلم: ﴿وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ﴾ قال: لاجتنبت ما يكون من الشر قبل أن يكون واتقيته. اه.
ثم علل نفي امتيازه عن البشر بملك النفع والضر من غير طرق الأسباب، وسنن الله في الخلق، ونفي امتيازه عنهم بعلم الغيب فقال: ﴿إِنْ أَنَا﴾؛ أي: ما أنا ﴿إِلَّا نَذِيرٌ﴾؛ أي: مخوف من النار ﴿وَبَشِيرٌ﴾ بالجنة ﴿لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ بالجنة والنار؛ أي: كتب في الأزل أنهم يؤمنون فإنّهم المنتفعون به، فلا ينافي كونه بشيرا ونذيرا للناس كافة، واللام في قوله: ﴿لِقَوْمٍ﴾ تتعلق بكل من (النذير) و (البشير)؛ لأن (١) النذارة والبشارة إنما ينفعان فيهم، أو متعلق بالبشير وحده، والمتعلق بالنذير محذوف؛ أي: إلا نذير للكافرين، وبشير للمؤمنين.
والمعنى (٢): إنّه لا امتياز لي عن جميع البشر إلا بالتبليغ عن الله عز وجل بالإنذار والتبشير، وكل منهما يوجه إلى جميع أمة الدعوة، والآيات في ذلك كثيرة نحو قوله: ﴿لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا﴾ وقوله: ﴿إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ﴾. والخلاصة: أنّ الرسل عليهم الصلاة والسلام عباد مكرمون، لا يشاركون الله في صفاته ولا في أفعاله، ولا سلطان لهم على التأثير في علمه، ولا في
(٢) المراغي.
قال الشوكاني: وفي (١) هذه الآية من إظهار العبودية، والإقرار بالعجز عن الأمور التي ليست من شأن العبيد، والاعتراف بالضعف عن انتحال ما ليس له صلى الله عليه وسلّم ما فيه أعظم زاجر، وأبلغ واعظ لمن يدعي لنفسه ما ليس من شأنها، وينتحل علم الغيب بالنجامة أو الرمل، أو الطرق بالحصى أو الزجر اه.
قال أبو حيان: وظاهر (٢) قوله: ﴿وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ﴾ انتفاء العلم عن الغيب على جهة عموم الغيب، كما روي عنه: «لا أعلم ما وراء هذا الجدار إلا أن يعلمنيه ربي» بخلاف ما يذهب إليه هؤلاء الذين يدعون العلم بالمستقبل الغيبي، وأنّهم برياضة نفوسهم يحصل لهم إطلاع على المغيبات، وإخبار بالكوائن التي تحدث، وما أكثر ادعاء الناس لهذا الأمر، وخصوصا في ديار مصر، حتى إنّهم
لينسبون ذلك إلى رجل متضمخ بالنجاسة، يظل دهره لا يصلي ولا يستنجي من نجاسة، ويكشف عورته للناس حين يبول، وهو عار عن العلم والعمل الصالح. انتهى.
الإعراب
﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ (١٧٥)﴾.
﴿وَاتْلُ﴾ الواو: عاطفة، ﴿اتْلُ﴾: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة معطوفة على العامل المقدر في قوله: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ﴾ كما ذكره أبو السعود، ﴿عَلَيْهِمْ﴾: متعلق بـ ﴿اتْلُ﴾، ﴿نَبَأَ الَّذِي﴾: مفعول به ومضاف إليه، ﴿آتَيْناهُ آياتِنا﴾: فعل وفاعل ومفعولان، والجملة صلة الموصول، ﴿فَانْسَلَخَ﴾: ﴿الفاء﴾: حرف عطف وتعقيب، ﴿انسلخ﴾: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على الموصول، ﴿مِنْها﴾: متعلق به، والجملة معطوفة على جملة ﴿آتَيْناهُ﴾، {فَأَتْبَعَهُ
(٢) البحر المحيط.
﴿وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ﴾.
﴿وَلَوْ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية، ﴿لَوْ﴾: حرف شرط، ﴿شِئْنا﴾: فعل وفاعل، والجملة فعل شرط لـ ﴿لَوْ﴾ ﴿لَرَفَعْناهُ﴾ ﴿اللام﴾: رابطة لجواب ﴿لَوْ﴾، ﴿رفعناه﴾: فعل وفاعل ومفعول، ﴿بِها﴾: متعلق به، والجملة جواب ﴿لَوْ﴾ لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿لَوْ﴾ الشرطية مستأنفة، ﴿وَلكِنَّهُ﴾: ﴿لكن﴾: حرف استدراك. ﴿والهاء﴾: اسمها. ﴿أَخْلَدَ﴾: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على المنسلخ، ﴿إِلَى الْأَرْضِ﴾: متعلق به، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر ﴿لكن﴾، وجملة ﴿لكن﴾ معطوفة على جملة ﴿لَوْ﴾، ﴿وَاتَّبَعَ هَواهُ﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على المنسلخ، والجملة في محل الرفع معطوفة على جملة ﴿أَخْلَدَ﴾، ﴿فَمَثَلُهُ﴾: ﴿الفاء﴾: فاء الفصيحة؛ لأنّها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفت صفات المنسلخ المذكورة، وأردت بيان مثله لك..
فأقول: مثله كمثل الكلب، ﴿مثله﴾: مبتدأ ومضاف إليه، ﴿كَمَثَلِ الْكَلْبِ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل النصب مقول لجواب ﴿إذا﴾ المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة، ﴿إِنْ﴾: حرف شرط، ﴿تَحْمِلْ﴾: فعل مضارع مجزوم بـ ﴿إِنْ﴾ وفاعله ضمير يعود على المخاطب ﴿عَلَيْهِ﴾: متعلقان بالفعل ﴿تَحْمِلْ﴾، ﴿يَلْهَثْ﴾: فعل مضارع مجزوم بـ ﴿إِنْ﴾ على كونه جوابا لها، وفاعله ضمير يعود على ﴿الْكَلْبِ﴾، وجملة ﴿إِنْ﴾ الشرطية في محل النصب حال من ﴿الْكَلْبِ﴾؛ أي: حالة كون الكلب لاهثا في كل حال، ﴿أَوْ تَتْرُكْهُ﴾: فعل ومفعول معطوف على ﴿إِنْ تَحْمِلْ﴾ على كونه فعل شرط لـ ﴿إِنْ﴾ وفاعله ضمير يعود على المخاطب، ﴿يَلْهَثْ﴾: فعل مضارع معطوف على
﴿ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾.
﴿ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ﴾: مبتدأ وخبر ومضاف إليه، والجملة مستأنفة، ﴿الَّذِينَ﴾: صفة لـ ﴿الْقَوْمِ﴾، ﴿كَذَّبُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، بـ ﴿بِآياتِنا﴾: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ ﴿كَذَّبُوا﴾، ﴿فَاقْصُصِ﴾: ﴿الفاء﴾: فاء الفصيحة؛ لأنّها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا تحققت أن المثل المذكور مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا، وأردت بيان ما هو اللازم.. فأقول لك: ﴿اقصص القصص﴾: ﴿اقصص﴾: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد، ﴿الْقَصَصَ﴾: مفعول به، والجملة الفعلية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة، ﴿لَعَلَّهُمْ﴾: ﴿لعل﴾: حرف ترج، ﴿والهاء﴾: اسمها، وجملة ﴿يَتَفَكَّرُونَ﴾ خبرها، وجملة (١) الترجي في محل النصب على أنّها حال من ضمير المخاطب، أو على أنّها مفعول له؛ أي: فأقصص القصص راجيا لتفكرهم، أو رجاء لتفكرهم.
﴿ساءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ (١٧٧)﴾.
﴿ساءَ﴾: فعل ماض من أفعال الذم، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا لشبهه بالمثل تقديره: هو، يعود على مبهم يفسره التمييز، ﴿مَثَلًا﴾ تمييز لفاعل ﴿ساءَ﴾ المستتر فيه، ﴿الْقَوْمُ﴾ مخصوص بالذم مرفوع على الابتداء، ولكنه على تقدير مضاف تقديره: مثل القوم، وخبره جملة ﴿ساءَ﴾ والتقدير: مثل القوم الذي كذبوا بآياتنا ساء مثلا، والجملة الاسمية جملة إنشائية لا محل لها من الإعراب، ﴿الَّذِينَ﴾: اسم موصول في محل رفع صفة لـ ﴿الْقَوْمُ﴾. ﴿كَذَّبُوا﴾: فعل وفاعل، ﴿بِآياتِنا﴾: متعلق به، والجملة صلة الموصول ﴿وَأَنْفُسَهُمْ﴾: مفعول مقدم لـ ﴿يَظْلِمُونَ﴾، ﴿كانُوا﴾: فعل ناقص واسمه، وجملة ﴿يَظْلِمُونَ﴾: خبره، وجملة
﴿مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (١٧٨)﴾.
﴿مَنْ﴾: اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الجواب، أو جملة الشرط، أو هما، ﴿يَهْدِ اللَّهُ﴾: فعل وفاعل مجزوم بـ ﴿مَنْ﴾ على كونه فعل شرط لها، ﴿فَهُوَ الْمُهْتَدِي﴾: مبتدأ وخبر، و ﴿الفاء﴾ رابطة الجواب وجوبا، والجملة الاسمية في محل الجزم بـ ﴿مَنْ﴾ على كونها جواب شرط لها، وجملة من الشرطية مستأنفة. ﴿وَمَنْ﴾: الواو: عاطفة ﴿مَنْ﴾: اسم شرط في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الجواب على الخلاف المذكور آنفا، ﴿يُضْلِلْ﴾: فعل مضارع مجزوم بـ ﴿مَنْ﴾ على كونه فعل شرط لها، وفاعله ضمير يعود على الله، ﴿فَأُولئِكَ﴾ ﴿الفاء﴾: رابطة الجواب، ﴿أولئك﴾: مبتدأ، ﴿هُمُ﴾: ضمير فعل، ﴿الْخاسِرُونَ﴾: خبره والجملة الاسمية في محل الجزم بـ ﴿مَنْ﴾ الشرطية، على كونها جوابا لها، وجملة ﴿مَنْ﴾ الشرطية معطوفة على جملة ﴿مَنْ﴾ الأولى.
﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (١٧٩)﴾.
﴿وَلَقَدْ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية، ﴿اللام﴾ موطئة للقسم، ﴿قد﴾: حرف تحقيق، ﴿ذَرَأْنا﴾: فعل وفاعل، ﴿لِجَهَنَّمَ﴾ متعلق به، ﴿كَثِيرًا﴾: مفعول به، ﴿مِنَ الْجِنِّ﴾: صفة لـ ﴿كَثِيرًا﴾، ﴿وَالْإِنْسِ﴾: معطوف على ﴿الْجِنِّ﴾، والجملة الفعلية جواب لقسم محذوف، وجملة القسم مع جوابه مستأنفة، ﴿لَهُمْ﴾ خبر مقدم، ﴿قُلُوبٌ﴾: مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية في محل النصب صفة ثانية لـ ﴿كَثِيرًا﴾، لا ﴿يَفْقَهُونَ﴾: فعل وفاعل، بِها متعلق به، والجملة الفعلية في محل الرفع صفة لـ ﴿قُلُوبٌ﴾، ﴿وَلَهُمْ﴾: خبر مقدم، ﴿أَعْيُنٌ﴾: مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية في محل النصب معطوفة على جملة قوله: ﴿لَهُمْ قُلُوبٌ﴾ على كونها صفة لـ ﴿كَثِيرًا﴾، وجملة ﴿لا يُبْصِرُونَ بِها﴾ في محل الرفع صفة لـ ﴿أَعْيُنٌ﴾، وجملة ﴿وَلَهُمْ آذانٌ﴾ في محل النصب معطوفة على جملة قوله: ﴿لَهُمْ قُلُوبٌ﴾ وجملة {لا
﴿وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ سَيُجْزَوْنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٨٠)﴾.
﴿وَلِلَّهِ﴾: خبر مقدم، ﴿الْأَسْماءُ﴾: مبتدأ مؤخر، ﴿الْحُسْنى﴾: صفة له، والجملة مستأنفة، ﴿فَادْعُوهُ﴾: ﴿الفاء﴾: فاء الفصيحة لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفتم أن لله الأسماء وأردتم بيان ما هو اللازم لكم.. فأقول لكم، ﴿ادعوه﴾: فعل وفاعل ومفعول، ﴿بِها﴾: متعلق به، والجملة الفعلية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. ﴿وَذَرُوا الَّذِينَ﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة معطوفة على جملة ﴿فادعوا﴾، ﴿يُلْحِدُونَ﴾: فعل وفاعل، ﴿فِي أَسْمائِهِ﴾: متعلق به، والجملة صلة الموصول، ﴿سَيُجْزَوْنَ﴾: فعل مضارع مغير الصيغة، ونائب فاعل، ﴿ما﴾ موصولة أو موصوفة في محل النصب مفعول ثان، والجملة الفعلية مستأنفة، ﴿كانُوا﴾: فعل ناقص واسمه، وجملة ﴿يَعْمَلُونَ﴾ خبرها، وجملة: ﴿كانُوا﴾ صلة لـ ﴿ما﴾ أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: كانوا يعملونه.
﴿وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (١٨١) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (١٨٢)﴾.
﴿وَمِمَّنْ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية، ﴿مِمَّنْ﴾: جار ومجرور خبر مقدم، ﴿خَلَقْنا﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد محذوف تقديره: وممن خلقناه، ﴿أُمَّةٌ﴾: مبتدأ مؤخر والجملة الاسمية مستأنفة، ﴿يَهْدُونَ﴾: فعل وفاعل، ﴿بِالْحَقِّ﴾: متعلق به، والجملة صفة لـ ﴿أُمَّةٌ﴾، ﴿وَبِهِ﴾ متعلق بـ ﴿يَعْدِلُونَ﴾، وجملة ﴿يَعْدِلُونَ﴾ في محل الرفع معطوفة على جملة ﴿يَهْدُونَ﴾. ﴿وَالَّذِينَ﴾: مبتدأ، ﴿كَذَّبُوا﴾: فعل وفاعل، ﴿بِآياتِنا﴾: متعلق به، والجملة صلة الموصول،
﴿وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (١٨٣) أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (١٨٤)﴾.
﴿وَأُمْلِي﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة، ﴿أُمْلِي﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الله، لَهُمْ: متعلق به، والجملة الفعلية في محل الرفع معطوفة على جملة ﴿سَنَسْتَدْرِجُهُمْ﴾، وفيه نوع من الالتفات؛ لأنّ مقتضى السياق أن يقال: ونملي، أو مستأنفة أو خبر لمبتدأ محذوف تقديره: وأنا أملي، ﴿إِنَّ﴾: حرف نصب، ﴿كَيْدِي﴾: اسمها ومضاف إليه، ﴿مَتِينٌ﴾: خبرها، وجملة ﴿إِنَّ﴾: مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. ﴿أَوَلَمْ﴾ ﴿الهمزة﴾: للاستفهام الإنكاري داخلة على محذوف تقديره: أكذبوا بآياتنا ولم يتفكروا، الواو: عاطفة على ذلك المحذوف، ﴿لَمْ يَتَفَكَّرُوا﴾: فعل وفاعل مجزوم بـ ﴿لَمْ﴾، والجملة معطوفة على المحذوف الذي قدرناه آنفا، والجملة المحذوفة مستأنفة، ما: نافية، ﴿بِصاحِبِهِمْ﴾: خبر مقدم، ﴿مِنْ جِنَّةٍ﴾: مبتدأ مؤخر، ﴿ومِنْ﴾: زائدة، والجملة الاسمية في محل النصب مفعول لـ ﴿يَتَفَكَّرُوا﴾؛ لأنّها علقت بما النافية، ﴿إِنْ﴾: نافية، ﴿هُوَ﴾: مبتدأ، ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ، ﴿نَذِيرٌ﴾: خبر، ﴿مُبِينٌ﴾: صفة له، والجملة الاسمية مستأنفة مسوقة لتقرير ما قبلها وتأكيده.
﴿أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (١٨٥)﴾.
﴿أَوَلَمْ﴾ ﴿الهمزة﴾: للاستفهام التوبيخي داخلة على محذوف تقديره: أكذبوا الرسول الذي علموا صدقه، والواو: عاطفة على ذلك المحذوف، ﴿لَمْ يَنْظُرُوا﴾: فعل وفاعل مجزوم بـ ﴿لَمْ﴾، ﴿فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق به، ﴿وَالْأَرْضِ﴾: معطوف على ﴿السَّماواتِ﴾، والجملة الفعلية معطوفة على ذلك المحذوف، والجملة المحذوفة مستأنفة، ﴿وَما خَلَقَ اللَّهُ﴾.
﴿مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١٨٦) يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها﴾.
﴿مَنْ﴾: اسم شرط في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط، أو الجواب، أو هما، ﴿يُضْلِلِ اللَّهُ﴾: فعل وفاعل مجزوم بـ ﴿لم﴾ على كونه فعل شرط لها، ﴿فَلا﴾: الفاء رابطة الجواب بالشرط وجوبا، ﴿لا﴾ نافية تعمل عمل ليس، ﴿هادِيَ﴾ في محل النصب اسمها، ﴿لَهُ﴾ جار ومجرور، خبر ﴿لا﴾، والجملة الاسمية في محل الجزم بـ ﴿مَنْ﴾ الشرطية على كونها جوابا لها، وجملة من الشرطية مستأنفة، وهذه الجملة تذييل لما قبلها، ﴿وَيَذَرُهُمْ﴾: فعل ومفعول،
﴿قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً﴾.
﴿قُلْ﴾: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة مستأنفة، ﴿إِنَّما عِلْمُها﴾ إلى قوله: ﴿بَغْتَةً﴾ مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿إِنَّما﴾: أداة حصر، ﴿عِلْمُها﴾: مبتدأ ومضاف إليه، ﴿عِنْدَ رَبِّي﴾: ظرف ومضاف إليه، متعلق بمحذوف خبر المبتدأ، والجملة في محل النصب مقول القول، ﴿لا﴾: نافية، ﴿يُجَلِّيها﴾: فعل ومفعول، ﴿لِوَقْتِها﴾: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق به، ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ، ﴿هُوَ﴾: ضمير للمفرد المنزه في محل الرفع فاعل، والجملة مستأنفة في محل النصب مقول القول، ﴿ثَقُلَتْ﴾: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على ﴿السَّاعَةِ﴾، والجملة في محل النصب مقول القول، ﴿فِي السَّماواتِ﴾: متعلق به ﴿وَالْأَرْضِ﴾: معطوف على ﴿السَّماواتِ﴾، ﴿لا تَأْتِيكُمْ﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على ﴿السَّاعَةِ﴾، والجملة مستأنفة في محل النصب مقول القول، ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ، ﴿بَغْتَةً﴾: منصوب على المفعولية المطلقة؛ أي: لا تأتيكم إلا إتيان بغتة.
﴿يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ﴾.
﴿يَسْئَلُونَكَ﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة مستأنفة مسوقة لبيان خطئهم في
﴿قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلا ضَرًّا إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ﴾.
﴿قُلْ﴾: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة مستأنفة. ﴿لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي﴾ إلى آخر الآية مقول محكي، وإن شئت قلت. ﴿لا﴾: نافية، ﴿أَمْلِكُ﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة في محل النصب مقول القول، ﴿لِنَفْسِي﴾: جار ومجرور، متعلق به ﴿نَفْعًا﴾: مفعول به ﴿وَلا ضَرًّا﴾ معطوف على ﴿نَفْعًا﴾، ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء، ﴿ما﴾: موصولة أو موصوفة في محل النصب على الاستثناء، ﴿شاءَ اللَّهُ﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة لـ ﴿ما﴾ أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: إلا ما شاءه الله.
﴿وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ﴾.
﴿وَلَوْ﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة، ﴿لَوْ﴾: حرف شرط، ﴿كُنْتُ﴾: فعل ناقص واسمه، ﴿أَعْلَمُ الْغَيْبَ﴾: فعل ومفعول به، وفاعله ضمير يعود على محمد، وجملة ﴿أَعْلَمُ﴾ في محل النصب خبر ﴿كان﴾، وجملة ﴿كان﴾: فعل شرط لـ ﴿لَوْ﴾ لا
﴿إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾.
﴿إِنْ﴾: نافية مهملة لانتقاض نفيها بإلا، ﴿أَنَا﴾ مبتدأ، ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ، ﴿نَذِيرٌ﴾: خبر، ﴿وَبَشِيرٌ﴾: معطوف عليه، والجملة في محل النصب مقول القول، ﴿لِقَوْمٍ﴾: جار ومجرور تنازع فيه ما قبله، فعند البصريين يتعلق بـ ﴿بَشِيرٌ﴾ لقربة، وعند الكوفيين بـ ﴿نَذِيرٌ﴾ لسبقه، ويجوز أن يكون متعلق النذارة محذوفا؛ أي: نذير للكافرين، وحذف لدلالة ما قبله عليه، كما في «الكرخي» وجملة ﴿يُؤْمِنُونَ﴾ في محل الجر صفة لـ ﴿قوم﴾.
التصريف ومفردات اللغة
﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها﴾ التلاوة: القراءة، والنبأ الخبر الذي له شأن، وانسلاخه منها: كفره بها ونبذه لها من وراء ظهره، ويقال لكل من فارق شيئا بحيث لا تحدثه نفسه بالرجوع إليه: انسلخ منه، وقال أبو حيان: الانسلاخ التعري من الشيء حتى لا يعلق به منه شيء، ومنه: انسلخت الحياة من جلدها إذا خرجت منه اه.
﴿فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ﴾؛ أي: أدركه ولحقه، قال الجوهري: يقال: اتبعت القوم إذا سبقوك فلحقتهم، والمعنى: فصار هو قدوة ومتبوعا للشيطان على سبيل المبالغة. ﴿فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ﴾؛ أي: من الراسخين في الغواية بعد أن كان مهتديا، ﴿وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ﴾؛ أي: ركن إلى الدنيا ومال إليها، وقال أبو السعود: الإخلاد إلى الشيء الميل إليه مع الاطمئنان به، وفي «المصباح» خلد بالمكان خلودا - من باب قعد - أقام، وأخلد بالألف مثله، وخلد إلى كذا وأخلد إليه ركن اه ﴿فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ﴾؛ أي: الذي هو أخس الحيوانات،
﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها﴾. الذرء (٢) لغة: الخلق، يقال: ذرأ الله الخلق إذا أوجد أشخاصهم، والخلق التقدير؛ أي: إيجاد الأشياء بتقدير ونظام لا جزافا، والجن: الأحياء العاقلة المكلفة الخفية غير المدركة بالحواس. والقلب يطلق أحيانا على المضغة الصنوبرية الشكل في الجانب الأيسر من جسد الإنسان، وأحيانا على العقل والوجدان الروحي الذي يسمونه أحيانا بالضمير وهو محل الحكم في أنواع المدركات والشعور الوجداني لما يلائم أو يؤلم، وهو كثير بهذا المعنى في الكتاب الكريم كقوله: ﴿سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ﴾، ﴿قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ (٨)﴾، ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (٤٦)﴾ وسر استعمال القلب في هذا المعنى: ما يراه الإنسان من انقباض أو انشراح حين الخوف والاشمئزاز، أو حين السرور والابتهاج. والفقه: العلم بالشيء والفهم له، وفسره الراغب بالتوصل بعلم شاهد إلى علم غائب، وقد استعمله القرآن في مواضع كثيرة بمعنى دقة الفهم، والتعمق في العلم ليترتب عليه أثره - وهو الانتفاع به - ومن ثم نفاه عن الكفار والمنافقين؛ لأنهم لم يدركوا كنه المراد مما نفى فقهه عنهم، ففاتتهم المنفعة مع العلم المتمكن من النفس.
(٢) المراغي.
ليس الأمير بالشّحيح الملحد
والإلحاد الميل عن الوسط حسا أو معنى، والأول هو الأصل فيه، ومنه لحد القبر وهو ما يحفر في أسفل جانب القبر، مائلا عن وسطه، وألحد السهم الهدف: إذا مال في أحد جانبيه ولم يصب وسطه، ومن الثاني: ألحد فلان إذا مال عن الحق، وقيل: ألحد بمعنى مال وانحرف، ولحد بمعنى ركن وانضوى، قال الكسائي: ﴿سَيُجْزَوْنَ﴾؛ أي: سيلقون جزاء عملهم.
﴿سَنَسْتَدْرِجُهُمْ﴾، الاستدراج (١) إما مأخوذ من درج الكتاب والثوب وأدرجه إذا طواه، وإما من الدرجة وهي المرقاة، فعلى الأول: ﴿سَنَسْتَدْرِجُهُمْ﴾؛ أي: سنطويهم طي الكتاب، ونغفل أمرهم كما قال: ﴿وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا﴾ وعلى الثاني: سنأخذهم درجة بعد درجة بإدنائهم من العذاب شيئا فشيئا، كالمراقي والمنازل في ارتقائها ونزولها، وقال في «التحرير» (٢): الاستدراج استفعال من الدرج، بمعنى النقل درجة بعد درجة من سفل إلى علو، فيكون استصعادا، أو بالعكس، فيكون استنزالا، والمعنى؛ أي: نقربهم إلى الهلاك بإمهالهم وإدرار النعم عليهم، حتى يأتيهم وهم غافلون لاشتغالهم بالترفه، ولذا قيل: إذا رأيت
(٢) الفتوحات.
و ﴿الْمَتِينُ﴾ القوي الشديد، ومنه المتن وهو الوسط؛ لأنّه أقوى ما في الحيوان، وقد متن بالضم يمتن متانة؛ أي: قوي واشتد. ﴿الجنة﴾: بالكسر نوع من الجنون، والإنذار: التعليم والإرشاد المقترن بالتخويف من مخالفته، والملكوت: الملك العظيم، ﴿ومَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ﴾ مجموع العالم، والحديث: كلام الله تعالى وهو القرآن، والطغيان: تجاوز الحد في الباطل والشر، من الكفر والفجور والظلم، والعمه: التردد في الحيرة.
﴿يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها﴾. ﴿السَّاعَةِ﴾: لغة: جزء قليل غير معين من الزمن، وعند الفلكيين: جزء من أربع وعشرين متساوية، يضبط بآلة تسمى الساعة، وقد كان ذلك معروفا عند العرب، فقد جاء في الحديث: «يوم الجمعة اثنتا عشرة ساعة». وقد تطلق بمعنى الوقت الحاضر، وبمعنى الوقت الذي تقوم فيه القيامة، كما هنا، وأكثر استعمال (ساعة) بدون أل في الكتاب الكريم بمعنى الساعة الزمنية، وبأل بمعنى الساعة الشرعية، وهي ساعة خراب العالم، وموت أهل الأرض جميعا، وجاء المعنيان في قوله تعالى: ﴿وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ﴾، والغالب التعبير بيوم القيامة عن يوم البعث والحشر الذي يكون فيه الحساب والجزاء، والتعبير بالساعة عن الوقت الذي يموت فيه الأحياء في هذا العالم، ويضطرب نظامه، فالساعة مبدأ، والقيامة غاية ﴿أَيَّانَ مُرْساها﴾. ﴿أَيَّانَ﴾ بمعنى متى، فهي للسؤال عن الزمان، و ﴿مُرْساها﴾؛ أي: إرساؤها وحصولها واستقرارها، ويقال: رسا الشيء يرسو إذا ثبت، وأرساه
﴿لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ﴾ يقال جلى فلان الأمر تجلية إذا أظهره أتم الإظهار، ﴿لِوَقْتِها﴾؛ أي: في وقتها كما يقال: كتبت هذا لغرة رمضان؛ أي: في غرته ﴿بَغْتَةً﴾؛ أي: فجأة من غير توقع ولا انتظار ﴿كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها﴾ من قولهم: أحفى في السؤال، إذا ألحف، وهو حفي عن الأمر بليغ في السؤال عنه، واستحفيته عن كذا استخبرته على وجه المبالغة، وتحفى بك فلان إذا تلطف بك وبالغ في إكرامك ﴿وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ﴾: ﴿الْغَيْبَ﴾ قسمان: حقيقي لا يعلمه إلا الله تعالى، وإضافي يعلمه بعض الخلق دون بعض ﴿لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ﴾ والخير ما يرغب الناس فيه من المنافع المادية والمعنوية كالمال والعلم ﴿وَالسُّوءَ﴾ ما يرغبون عنه مما يسؤهم ويضرهم ﴿إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ﴾ والإنذار تبليغ مقترن بتخويف من العقاب على الكفر والمعاصي، والتبشير تبليغ مقترن بترغيب في الثواب مع الإيمان والطاعة.
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات أنواعا من الفصاحة والبلاغة والبيان والبديع:
فمنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: ﴿فَانْسَلَخَ مِنْها﴾؛ لأنه شبه الإعراض عن الآيات بانسلاخ نحو الحية من جلدها بجامع التجرد والتبري في كلّ.
ومنها: المبالغة في قوله: ﴿فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ﴾ حيث جعله قدوة وإماما ومتبوعا للشيطان على سبيل المبالغة، مع أنّه تابع للشيطان.
ومنها: التشبيه التمثيلي في قوله: ﴿فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ﴾ حيث شبه حاله
ومنها: المجاز المرسل في قوله: ﴿وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ﴾؛ لأنّ المراد بالأرض ما فيها من المستلذات والشهوات، فهو من إطلاق المحل وإرادة الحال.
ومنها: الطباق في قوله: ﴿إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ﴾ ﴿أَوْ تَتْرُكْهُ﴾.
ومنها: الجناس المماثل في قوله: ﴿فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ﴾ وقوله: ﴿وَاتَّبَعَ هَواهُ﴾، والجناس المغاير في قوله: ﴿فَاقْصُصِ الْقَصَصَ﴾.
ومنها: الطباق في قوله: ﴿مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (١٧٨)﴾.
ومنها: المقابلة في قوله: ﴿لَهُمْ قُلُوبٌ﴾ ﴿وَلَهُمْ أَعْيُنٌ﴾ و ﴿وَلَهُمْ آذانٌ﴾.
ومنها: التشبيه المرسل المجمل في قوله: ﴿أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ﴾؛ لأنه ذكرت فيه الأداة، ولم يذكر فيه وجه الشبه.
ومنها: الاستعارة التصريحية في قوله: ﴿سَنَسْتَدْرِجُهُمْ﴾؛ لأنّ الاستدراج في الأصل التحول والتنقل على الدرجات استصعادا أو نزولا، فاستعاره للأخذ والعقوبة شيئا فشيئا.
ومنها: الاستفهام التوبيخي في قوله: ﴿أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا﴾، وقوله: ﴿أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ﴾.
ومنها: الاستفهام التعجبي في قوله: ﴿فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ﴾.
ومنها: التذييل في قوله: ﴿مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هادِيَ لَهُ﴾؛ لأنّه تذييل (١) لما قبله خارج مخرج المثل.
ومنها: الاستعارة (١) بالكناية في قوله: ﴿أَيَّانَ مُرْساها﴾ حيث شبه الساعة بسفينة في البحر، وطوى ذكر المشبه به، ورمز له بشيء من لوازمه وهو الإرساء، فذكره تخييل.
ومنها: التكرار في قوله: ﴿يَسْئَلُونَكَ﴾ وفي قوله: ﴿قُلْ إِنَّما عِلْمُها﴾.
ومنها: التشبيه المرسل المجمل في قوله: ﴿كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها﴾ لذكر أداة التشبيه وحذف وجه الشبه.
ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها فَلَمَّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُما لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (١٨٩) فَلَمَّا آتاهُما صالِحًا جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (١٩٠) أَيُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (١٩١) وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (١٩٢) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَتَّبِعُوكُمْ سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ (١٩٣) إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٩٤) أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ (١٩٥) إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (١٩٦) وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (١٩٧) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَسْمَعُوا وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (١٩٨) خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ (١٩٩) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٠٠) إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ (٢٠١) وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ (٢٠٢) وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قالُوا لَوْلا اجْتَبَيْتَها قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هذا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٢٠٣) وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٢٠٤) وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ (٢٠٥) إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (٢٠٦)﴾.
المناسبة
قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها (١): أنه لما تقدم سؤال الكفار عن الساعة ووقتها، وكان فيهم من لا يؤمن بالبعث.. ذكر ابتداء خلق الإنسان وإنشائه تنبيها على أن الإعادة ممكنة،
وقيل المناسبة: لما افتتح (١) الله سبحانه وتعالى هذه السورة بالدعوة إلى التوحيد، واتباع ما أنزل على لسان رسوله، وتلاه بالتذكير بنشأة الإنسان الأولى في الخلق والتكوين والعداوة بينه وبين الشيطان.. اختتم السورة بهذه المعاني، فذكر بالنشأة الأولى، ونهى عن الشرك، واتباع وسوسة الشيطان، وأمر بالتوحيد، واتباع ما جاء به القرآن.
قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها (٢): أنّها من تتمة ما قبلها مؤكدة له، ومقررة لما تتضمنه، وهو إثبات التوحيد ونفي الشرك، وهو رأس الإسلام وركنه المتين، فلا غرو أن يتكرر الكلام فيه في القرآن نفيا وإثباتا ليتأكد في النفوس، ويثبت في القلوب، وبه تخلع جذور الوثنية، ويحل محلها نور الوحدانية.
قوله تعالى: ﴿قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها (٣): لما أنكر تعالى عليهم عبادة الأصنام، وحقر شأنها، وأظهر كونها جمادا عارية عن شيء من القدرة.. أمر تعالى نبيه أن يقول لهم ذلك؛ أي: لا مبالاة بكم ولا بشركائكم، فاصنعوا ما تشاؤون، وهو أمر تعجيز؛ أي: لا يمكن أن يقع منكم دعاء لأصنامكم، ولا كيد لي، وكانوا قد خوفوه آلهتهم.
قوله تعالى: ﴿إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ...﴾ الآية، مناسبة (٤) هذه
(٢) المراغي.
(٣) البحر المحيط.
(٤) البحر المحيط.
قوله تعالى: ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها (١): أنّ الله سبحانه وتعالى لما ذكر أنّه هو الذي يتولى أمر رسوله وينصره: وأن الأصنام وعابديها لا يقدرون على إيذائه، وإيصال الضر إليه.. بين في هذه الآية النهج القويم، والصراط المستقيم في معاملة الناس، وهذه الآية تشمل أصول الفضائل، فهي من أسس التشريع التي تلي - في المرتبة - أصول العقيدة المبنية على التوحيد الذي تقرر فيما سلف، بأبلغ وجه وأتم برهان.
قوله تعالى: ﴿وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أنّ الله سبحانه وتعالى لما ذكر في الآيات أمثل الطرق في معاملة الناس بعضهم بعضا، مما لو عملوا بهديه لم يجد الفساد إلى نفوسهم سبيلا.. أردف ذلك بالوصية التي تتضمنها هذه الآيات الثلاث، وهي اتقاء إفساد الشياطين؛ أي: شياطين الجن المستترة، فالآية السالفة أمرت بالإعراض عن الجاهلين - وهم السفهاء - اتقاء لشرهم، وهذه الآيات أمرت بالاستعاذة بالله من الشياطين اتقاء لشرهم.
قوله تعالى: ﴿وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قالُوا لَوْلا اجْتَبَيْتَها...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أنّه سبحانه وتعالى لما ذكر في الآية السالفة أن شياطين الجن والإنس لا يقصرون في الإغواء والإضلال.. أردف ذلك بذكر نوع خاص من هذا الإغواء، وهو طلبهم آيات معينة ومعجزات مخصوصة، تعنتا كما قال تعالى حكاية عنهم: ﴿وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (٩٠)﴾؛ أي: إذا
قوله تعالى: ﴿وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما (١) ذكر مزايا القرآن الكريم، وأنّه آيات بينات للمؤمنين، وهدى ورحمة لهم.. أردف ذلك بذكر الدلائل على الطريق الموصلة لنيل الرحمة به، والفوز بالمنافع الجليلة التي ينطوي عليها، وهي الإنصات له إذا قرىء.
وقال أبو حيان (٢): مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر أن القرآن بصائر وهدى ورحمة.. أمر باستماعه إذا شرع في قراءته، وبالانصات وهو السكوت مع الإصغاء إليه؛ لأنّ ما اشتمل على هذه الأوصاف من البصائر والهدى والرحمة، حري بأن يصغى إليه حتى يحصل منه للمنصت هذه النتائج العظيمة، وينتفع بها، فيستبصر من العمى، ويهتدي من الضلال، ويرحم بها.
أسباب النزول
قوله تعالى: ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ...﴾ أخرج (٣) البخاري عن عبد الله بن الزبير قال: ما نزلت: ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ﴾ إلا في أخلاق الناس.
وأخرج (٤) ابن أبي الدنيا وابن جرير وابن المنذر وغيرهم عن الشعبي قال: لما أنزل الله ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ (١٩٩)﴾ قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «ما هذا يا جبريل؟ قال لا أدري حتى أسال العالم، فذهب ثم رجع، فقال: إن الله أمرك أن تعفو عمن ظلمك، وتعطي من حرمك، وتصل من قطعك» وأخرج ابن جرير عن ابن زيد قال: لما نزل ﴿خُذِ الْعَفْوَ....﴾ الآية، قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «كيف بالغضب يا رب»؟ فنزل: ﴿وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ﴾.
قوله تعالى: ﴿وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ...﴾ الآية، سبب نزولها: ما
(٢) البحر المحيط.
(٣) الخازن.
(٤) الشوكاني.
قلت: ظاهر ذلك أنّ الآية مدنيّة.
التفسير وأوجه القراءة
١٨٩ - ﴿هُوَ﴾ سبحانه وتعالى الإله ﴿الَّذِي خَلَقَكُمْ﴾ وأوجدكم وأنشأكم يا أهل مكة ﴿مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ﴾؛ أي: من آدم عليه السلام على طريق التوالد والتناسل، وهذا كلام (٢) مستأنف يتضمن ذكر نعم الله تعالى على عباده، وعدم مكافأتهم لها بما يجب من الشكر عليها، والاعتراف بالعبودية، وأنّه المنفرد بالألوهية قال جمهور المفسرين: المراد بالنفس الواحدة آدم وقوله: ﴿وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها﴾ معطوف على ﴿خَلَقَكُمْ﴾؛ أي: وهو سبحانه وتعالى الذي خلقكم من نفس آدم على سبيل التوالد والتناسل، وجعل من هذه النفس الواحدة زوجها وقرينتها، على سبيل النزع والفصل، وهي حواء، خلقها من ضلع من أضلاع آدم من غير ألم، وقيل المعنى: ﴿جَعَلَ مِنْها﴾؛ أي: من جنسها ﴿زَوْجَها﴾، كما في قوله: ﴿جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجًا﴾ والأول أولى، وقوله: ﴿لِيَسْكُنَ إِلَيْها﴾ علة للجعل المذكور؛ أي: جعله منها ليسكن آدم ويميل إليها، ويستأنس بها، ويطمئن إليها اطمئنان الشيء إلى جزئه، أو جنسه؛ لأنّ الجنس إلى الجنس أميل، خصوصا إذا كان بعضا منه كما سكن الإنسان إلى ولده، ويحبه محبة نفسه لكونه بضعة منه، وإنّما ذكر ضمير النفس في قوله: ﴿لِيَسْكُنَ﴾ بعد ما أنث في قوله: ﴿واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها﴾ نظرا إلى
(٢) الشوكاني.
١٩٠ - ﴿فَلَمَّا آتاهُما﴾؛ أي: فلما أعطى الله سبحانه وتعالى آدم وحواء ﴿صالِحًا﴾؛ أي: ولدا صالحا، وبشرا سويا ﴿جَعَلا﴾؛ أي: جعل آدم وحواء ﴿لَهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿شُرَكاءَ﴾ يعني إبليس، فأوقع الواحد موقع الجمع ﴿فِيما آتاهُما﴾؛ أي: في تسمية ما أعطاهما الله سبحانه وتعالى من الولد الصالح، حيث سمياه عبد الحارث، ولا ينبغي أن يكون عبدا إلا لله تعالى، ولم تعرف حواء أنّه إبليس، ولم يكن هذا شركا بالله، لأنّهما لم يذهبا إلى أن الحارث
وإنّي لعبد الضّيف ما دام ثاويا | وما فيّ إلّا تلك من شيمة العبد |
وقرىء: ﴿فَلَمَّا أَثْقَلَتْ﴾ على البناء للمفعول، وقرأ ابن عباس وأبو جعفر وشيبة وعكرمة ومجاهد، وأبان بن تغلب ونافع وأبو بكر عن عاصم: ﴿شركا﴾
(٢) البحر المحيط.
وقال بعض المفسرين: وقد نسب (٢) هذا الجعل إلى آدم وحواء، والمراد أولادهما، قال الحسن البصري: هم اليهود والنصارى، رزقهم الله أولادا، فهودوا ونصروا، وقال الحافظ ابن كثير: أما نحن فعلى مذهب الحسن البصري في هذا التأويل، وأنه ليس المراد من السياق آدم وحواء، وإنّما المراد من ذلك ذريته، ولهذا قال: ﴿فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ ثم قال: فذكره آدم وحواء أولا كالتوطئة لما بعدهما من الوالدين، وهو كالاستطراد من ذكر الشخص إلى الجنس. اه وقال صاحب «الانتصاف»: إن المراد جنس الذكر والأنثى، لا يقصد فيه إلى معين، وكأن المعنى - والله أعلم -: خلقكم جنسا واحدا، وجعل أزواجكم منكم أيضا لتسكنوا إليهن، فلما تغشى الجنس الذي هو الذكر الجنس
(٢) المراغي.
وبهذا (١): تعلم أن ما روي عن بعض الصحابة والتابعين من أن الآية في آدم وحواء، وما روي في حديث سمرة بن جندب مرفوعا: قال: لما ولدت حواء طاف بها إبليس، وكان لا يعيش لها ولد - وذلك لأنّها ولدت قبل ذلك عبد الله، وعبيد الله، وعبد الرحمن فأصابهم الموت - فقال لها: سميه عبد الحارث، فإنّه يعيش، فسمته عبد الحارث فعاش، فكان ذلك من وحي الشيطان؛ أي:
وسوسته، ونحوه آثار كثيرة في هذه المعنى مفصلة ومطولة، فهو خرافة من دس الإسرائيليين، نقلت عن مثل كعب الأحبار، ووهب بن منبه، فلا يوثق بها؛ لأنّ فيها طعنا صريحا في آدم وحواء عليهما السلام، ورميا لهما بالشرك، ومن ثم رفضها كثير من المفسرين، وقال الحافظ ابن كثير: وهذه الآثار يظهر عليها - والله أعلم - أنّها من آثار أهل الكتاب، وقد صح الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنه قال:
«إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم».
وأخبار أهل الكتاب ثلاثة أقسام (٢):
فمنها: ما علمنا صحته بما دل عليه الدليل من كتاب الله وسنة رسوله.
ومنها: ما علمنا كذبه بما دل الدليل على خلافه من الكتاب والسنة أيضا.
ومنها: ما هو مسكوت عنه، فهو المأذون في روايته بقوله عليه السلام: «حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج».
وهو لا يصدق ولا يكذب لقوله: «فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم».
١٩١ - ثم بين
(٢) المراغي.
والمعنى (١): أتشركون الأصنام - وهي لا تقدر على خلق شيء - كما يخلق الله، وهم يخلقون؛ أي: يخلقهم الله تعالى ويوجدهم كما يوجدكم، أو المعنى: وهم ينحتون ويصنعون، فعبدتهم يخلقونهم، وهم لا يقدرون على خلق شيء، فهم أعجز من عبدتهم، وجملة ﴿وَهُمْ يُخْلَقُونَ﴾ معطوفة على جملة الصلة، وجمع الضمير اعتبارا بمعنى ﴿ما﴾ كما أفرده في ﴿يَخْلُقُ﴾ اعتبارا بلفظه، وعبر عن الأصنام بضمير العقلاء نظرا لاعتقاد الكفار فيهم، أو لأن من جملة من عبد الشياطين والملائكة وبعض بني آدم، فغلبوا على غيرهم.
والآية وما بعدها حكاية لشرك عباد الأصنام عامة، وينتظم فيهم مشركو مكة وأمثالهم ممن نزل القرآن في عهدهم، وتوبيخ لهم بتفصيل أحوال أولئك الشركاء التي تنافي ما اعتقدوه، وقرأ السلمي ﴿أتشركون﴾ بالتاء من فوق.
١٩٢ - ﴿وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا﴾؛ أي: ولا يستطيع المعبودون نصرا ومعونة لعابديهم إذا حزبهم أمر مهم وخطب ملم ﴿وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ﴾؛ أي: كما لا يستطيعون نصرا لأنفسهم على من يعتدي عليهم بإهانة لهم، أو أخذ شيء مما عندهم من طيب أو حلي، كما قال تعالى: ﴿وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئًا لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ﴾.
والخلاصة: أنّهم يحتاجون إليكم في تكريمهم وفي الدفاع عنهم، وأنتم لا
١٩٣ - ﴿وَإِنْ تَدْعُوهُمْ﴾؛ أي: وإن تدعوا أيها المشركون الأصنام ﴿إِلَى الْهُدى﴾؛ أي: إلى أن يهدوكم إلى الحق والرشاد ﴿لا يَتَّبِعُوكُمْ﴾؛ أي: لا يجيبوكم كما يجيبكم الله تعالى.
والمعنى: وإن تدعوا تلك الأصنام إلى أن يهدوكم إلى ما تحصلون به رغباتكم، أو إلى ما تنجون به من المكاره التي تحيق بكم.. لا يتبعوكم؛ أي: لا يوافقوكم ولا يجيبوا لكم، ولا ينفعوكم بجلب المصالح، أو دفع المضار، ويجوز أن يكون ضمير الفاعل في ﴿تَدْعُوهُمْ﴾ إلى ﴿المؤمنين﴾ والمنصوب إلى ﴿الكفار﴾؛ أي: وإن تدعوا أيها المؤمنون هؤلاء الكفار إلى الهدى والإيمان.. لا يتبعوكم؛ أي: لا يوافقوكم إلى الإيمان والتوحيد، فهم مصرون على شركهم، راسخون فيه.
وقرأ الجمهور (١): ﴿لا يَتَّبِعُوكُمْ﴾ مشددا هنا وفي ﴿وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ (٢٢٤)﴾. من اتبع الخماسي، ومعناه: لا يقتدوا بكم، وقرأ نافع فيهما: لا يتبعوكم مخففا من تبع الثلاثي، ومعناه: لا يتبعوا آثاركم، ثم أكد عدم نفعهم فقال: ﴿سَواءٌ عَلَيْكُمْ﴾ أيها المشركون ﴿أَدَعَوْتُمُوهُمْ﴾؛ أي: أدعوتم تلك الأصنام واستغثتم بها ﴿أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ﴾ عن دعوتها، وساكتون عن الاستغاثة بها؛ أي:
دعاؤكم لهم عند الشدائد وعدمه سواء في عدم الإفادة، لا فرق بينهما؛ لأنهم لا ينفعون ولا يضرون، ولا يسمعون ولا يجيبون؛ فإنه لا يتغير حالكم في كلتا الحالتين إذ هم لا يفهمون دعاءكم، ولا يسمعون أصواتكم، ولا يعقلون ما يقال لهم، وفي «السمين»: وإنّما أتى بالجملة الثانية اسمية - ولم يقل أم صمتّم - لأنّ الفعل يشعر بالحدوث؛ ولأنّها رأس فاصلة اه.
والخلاصة: أنه لا ينبغي أن يعبد من كانت هذه صفته، وإنّما الرب المعبود هو النافع من يعبده، الضار من يعصيه، الناصر وليه، الخاذل عدوه، والهادي إلى الرشاد من أطاعه، السامع دعاء من دعاه.
وإذا كانوا أمثالكم.. كان من المستحيل عقلا أن تطلبوا منهم ما لا تستطيعون نيله بأنفسكم، ولا بمساعدة أمثالكم، وإنّما يدعى الرب الخالق لما وراء الأسباب المشتركة، والذي تخضع لإرادته الأسباب، وهو لا يخضع لها، ولا لإرادته أحد يحمله على ما لا يشاؤه منها، وفي هذا تقريع لهم بالغ، وتوبيخ لهم عظيم.
والدعاء: هو النداء لدفع الضر أو جلب النفع، الذي يوجه إلى من يعتقد الداعي أن له سلطانا يمكنه أن يجيبه إلى ما طلبه، إما بذاته وإما بحمله الرب الخالق على ذلك، وجملة قوله: ﴿فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ﴾ مقررة لمضمون ما قبلها من أنّهم إن دعوهم إلى الهدى.. لا يتبعوهم، وأنّهم لا يستطيعون شيئا؛ أي: فادعوا هؤلاء الشركاء والأصنام، فإن كانوا كما تزعمون.. فليستجيبوا لكم ﴿إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ﴾ فيما تدعونه لهم من قدرتهم على النفع والضر؛ أي: إن كنتم صادقين في زعمكم أنهم قادرون على ما تعجزون عنه بقواكم البشرية، من نفع أو ضر، فادعوهم، فليستجيبوا لكم إما بأنفسهم، وإما بحملهم الرب تبارك وتعالى على إعطائكم ما تطلبون. وقرأ سعيد بن جبير: ﴿إن الذين تدعون﴾ بتخفيف ﴿إن﴾، وقرأ ﴿عبادا أمثالكم﴾ بنصب الدال واللام، على إعمال ﴿إن﴾ النافية عمل ما الحجازية، وقد ضعفت هذه القراءة بأنها خلاف ما رجحه سيبويه وغيره، من اختيار الرفع في خبرها لإهمالها، وقد أطال أبو حيان الكلام فيها في «البحر»، فراجعه إن شئت.
ثم ارتقى سبحانه في الرد عليهم، وأثبت أنّهم ليسوا أمثالهم بل أحط منهم منزلة، ودونهم رتبة، ووبخهم وأنبهم على عبادة هذه الأحجار والأصنام فقال:
والمعنى (١): أنّ هؤلاء فقدوا وسائل الكسب التي يناط بها النفع والضر في هذه الحياة، فليس لهم أرجل يسعون بها إلى دفع ضر أو جلب نفع، وليس لهم أيد يبطشون بها فيما ترجون منهم من خير، أو تخافون من شر، وليس لهم أعين يبصرون بها حالكم، ولا آذان يسمعون بها أقوالكم، ويعرفون بها مطالبكم، فهم ليسوا مثلكم، بل دونكم في الصفات والقوى التي أودعها الله سبحانه وتعالى في الخلق، فكيف ترفعونهم عن مماثلتكم وهم دونكم بالاختبار والمشاهدة، وإنّكم تستكبرون عن قبول الهدى والرشاد من الرسول، ويقول بعضكم لبعض ﴿ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخاسِرُونَ (٣٤)﴾ فما بالكم تأبون قبول الحق والخير من مثلكم، وقد فضله الله عليكم بالعلم والهدى، ثم ترفعون ما دونه ودونكم إلى مقام الألوهية، مع انحطاطه عن درجة المثلية؟
وقرأ الحسن والأعرج ونافع (٢): ﴿يَبْطِشُونَ﴾: بكسر الطاء، وقرأ أبو جعفر
(٢) البحر المحيط.
والحكمة في مطالبتهم بهذا (١): أن العقائد الموروثة يتضاءل دونها كل برهان، ولا يجدي معها دليل، ومن ثم طالبهم بأمر عملي ينزع هذا الوهم من أعماق القلوب، وهو أن ينادوا هؤلاء الشركاء ويستنجدوا بهم لصد دعوة الداعين إلى الكفر بها، وإثبات العجز له، وإنكار ما لهم من سلطان غيبي وتدبير كامن، فإن كان لها سلطان في أنفسها أو من عند الله تعالى.. فهذا أوان ظهوره، وإلا فمتى يظهر ليساعد إبطال عبادتها، وينصر عابديها ومعظمي شأنها، ومن الجلي أنّ القوم كانوا ينكرون البعث، فكل ما يرجونه منها من خير أو يخافونه منها من شر فهو في هذه الحياة.
وقرأ أبو عمرو وهشام بخلاف عنه: ﴿كيدوني﴾ بإثبات الياء وصلا ووقفا، وقرأ باقي السبعة بحذف الياء، اجتزاء بالكسرة عنها.
١٩٦ - ثم زاد الأمر بيانا، وبالغ في حقارة هذه المعبودات وعابديها على ما كان به من ضعف وقلة ناصر، وهو بمكة حين نزول هذه السورة، فقال: ﴿إِنَّ وَلِيِّيَ﴾؛ أي: إن ناصري ومتولي أموري هو ﴿اللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿الَّذِي نَزَّلَ﴾ علي ﴿الْكِتابَ﴾ الكريم والقرآن العظيم المؤيد لوحدانيته، ووجوب عبادته، ودعائه عند الشدائد والملمات، والناعي على المشركين عبادة غيره من وثن أو صنم، ﴿وَهُوَ﴾
وقرأ الجمهور (١): ﴿إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ﴾ بياء مشددة مضافا لياء المتكلم المفتوحة، وهي ياء فعيل، أدغمت في لام الكلمة، وهي قراءة واضحة، أضاف الولي إلى نفسه، وقرأ أبو عمرو في رواية عنه: بياء واحدة مشددة مفتوحة، ورفع الجلالة، قال أبو علي: لا يخلو إما أن تدغم الياء التي هي لام الفعل في ياء الإضافة وهو لا يجوز؛ لأنّه ينفك الإدغام الأول، أو تدغم ياء فعيل في ياء الإضافة
ويحذف لام الفعل، فليس إلا هذا. انتهى.
وروي (٢): أن عمر بن عبد العزيز ما كان يدخر لأولاده شيئا، فقيل له في ذلك؟ فقال: ولدي إما أن يكون من الصالحين أو من المجرمين، فإن كان من الصالحين فوليه الله، ومن كان الله له وليا.. فلا حاجة له إلى مالي، وإن كان من المجرمين.. فقد قال تعالى: ﴿فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ﴾ ومن رده الله لم أشتغل بإصلاح مهماته.
١٩٧ - ثم أكد ما سلف بقوله: ﴿وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ﴾؛ أي: والذين تعبدونهم من دون الله تعالى من الأصنام ﴿لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ﴾ أيها المشركون في أمر من الأمور ﴿وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ﴾؛ أي: ولا يحفظون أنفسهم ويمنعونها مما يراد بهم من الضرر، فكيف أبالي بهم؟!! وهذه الجملة (٣) من تمام التعليل لعدم مبالاته بهم فهي معطوفة على قوله: ﴿إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ﴾؛ أي: لا أبالي بهم؛ لأن
(٢) المراغي.
(٣) الفتوحات.
والمعنى (١): أي وإنّ الذين تدعونهم لنصركم، وجلب النفع لكم، ودفع الضر عنكم عاجزون، فلا هم بالمستطيعون نصركم، ولا نصر أنفسهم على من يحقر شأنهم، أو يسلبهم شيئا مما وضع عليهم من طيب، أو حلي، فقد كسر إبراهيم الخليل صلوات الله عليه وسلامه الأصنام، فجعلهم جذاذا، فما استطاعوا أن يدفعوه عن أنفسهم، ولا أن ينتقموا منه لها.
وقد روي (٢) عن معاذ بن عمرو بن الجموح، ومعاذ بن جبل رضي الله عنهما - وكانا شابين من الأنصار قد أسلما، لما قدم النبي صلى الله عليه وسلّم المدينة - أنّهما كانا يعدوان في الليل على أصنام المشركين يكسرانه ويتلفانها، ويتخذانها حطبا للأرامل، ليعتبر قومهما بذلك ويرتؤوا لأنفسهم رأيا آخر.
وكان لعمرو بن الجموح - وكان سيد قومه - صنم يعبده، فكانا يجيئان في الليل فينكسانه على رأسه ويلطخانه بالعذرة، فيجيء عمرو فيرى ما صنع به، فيغسله ويطيبه، ويضع عنده سيفا ويقول له: انتصر، ثم يعودان لمثل ذلك، ويعود إلى صنيعه أيضا حتى أخذاه مرة فقرناه مع كلب ميت، ودلياه في حبل في بئر هناك، فلما جاء ورأى ذلك.. علم أن ما كان عليه من الدين باطل وأنشد:
تالله لو كنت إلها مستدن | لم تك والكلب جميعا مقترن |
١٩٨ - فقال: ﴿وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى﴾؛ أي: وإن تدعوا أيها المشركون أصنامكم إلى أن يهدوكم إلى ما تحصلون به مقاصدكم وتنتصرون به من أسباب خفية أو ظاهرة ﴿لا يَسْمَعُوا﴾ دعاءكم، ولا يجيبونه، فضلا عن مدّ يد المعونة والمساعدة؛
(٢) المراغي.
﴿وَتَراهُمْ﴾؛ أي: وترى أيها المخاطب تلك الأصنام ﴿يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ﴾ بما وضع لهم من أعين صناعية، وحدق زجاجية، أو جوهرية، موجهة إلى من يدخل عليها، كأنها تنظر إليه ﴿وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ﴾ بها؛ لأن حاسة الإبصار لا تحصل بالصناعة، وإنّما هي من خواص الحياة التي استأثر الله بها؛ أي: والحال أنّهم غير قادرين على الإبصار؛ لأنّهم أموات غير أحياء، وهم إذ فقدوا السمع لا يسمعون نداء ولا دعاء ممن يعبدونهم، ولا من غيرهم، وإذ فقدوا البصر لا يبصرون حاله وحال خصمه، فكيف يرجى منهم نصر وشد أزر؟ أو أي معونة أخرى؟ أو كيف يخشى منهم إيصال ضر وأذى لمن يحتقرهم؟!!
وقيل المعنى: وترى يا محمد المشركين ينظرون إليك بأعينهم، وهم لا يبصرونك بقلوبهم.
١٩٩ - ﴿خُذِ الْعَفْوَ﴾ يا محمد؛ أي: اقبل الميسور من أخلاق الناس من غير تجسس لئلا تتوالد العداوة والبغضاء، أو المعنى: خذ ما تيسر من المال فما آتوك به فخذه، ولا تسأل عما وراء ذلك، وكان هذا قبل نزول فريضة الزكاة، وقال مجاهد: يعني خذ العفو من أخلاق الناس وأعمالهم من غير تجسس، وذلك مثل قبول الاعتذار منهم، وترك البحث عن الأشياء، والعفو: المساهلة في كل شيء، وقال أبو السعود: ولما ذكر الله سبحانه وتعالى من أباطيل المشركين وقبائحهم ما لا يطاق.. حمله أمره عليه السلام بمكارم الأخلاق، التي من جملتها الإغضاء عنهم، انتهى.
﴿وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ﴾؛ أي: وأمر الناس بكل ما أمرك الله به، وهو كل ما عرفته بالوحي من الله عز وجل، وقرأ (٢) عيسى بن عمر ﴿بِالْعُرْفِ﴾ - بضمتين - وهما لغتان، والعرف والمعروف والعارفة: كل خصلة حسنة ترتضيها العقول، وتطمئن
(٢) الشوكاني.
من يفعل الخير لا يعدم جوازيه | لا يذهب العرف بين الله والنّاس |
وقال بعضهم (٢): أول هذه الآية وآخرها منسوخ، ووسطها محكم، يريد بنسخ أولها أخذ الفضل من الأموال، فنسخ بفرض الزكاة، والأمر بالمعروف محكم، والإعراض عن الجاهلين منسوخ بآية القتال، وفي هذه الآية تعليم مكارم الأخلاق للعباد، فليس هذا الأمر من خصوصياته صلى الله عليه وسلّم.
وحاصل معنى الآية: أن الله سبحانه وتعالى (٣) أمر نبيه في هذه الآية بثلاثة أشياء، هي أسس عامة للشريعة في الآداب النفسية والأحكام العملية:
١ - العفو: وهو السهل الذي لا كلفة فيه؛ أي: خذ ما عفا لك وسهل من أفعال الناس وأخلاقهم، وما أتى منهم وتسهل من غير كلفة، ولا تطلب منهم ما يشق عليهم حتى ينفروا، وهذا كما جاء في الحديث: «يسروا ولا تعسروا». وقال الشاعر:
خذ العفو منّي تستديمي مودّتي | ولا تنطقي في سورتي حين أغضب |
(٢) الخازن.
(٣) المراغي.
والخلاصة: أن من قواعد الدين وفوائده اليسر وتجنب الحرج، وما يشق على الناس، وقد صح أن النبي صلى الله عليه وسلّم: «ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما».
٢ - الأمر بالمعروف: وهو ما تعرفه النفس من الخير وتأنس به وتطمئن إليه، ولا شك أنّ هذا مبني على اعتبار عادات الأمة الحسنة، وما تتواطأ عليه من الأمور النافعة في مصالحها، وإجمال القول فيه: أنه اسم جامع لكل ما عرف من طاعة الله، والتقرب إليه، والإحسان إلى الناس.
وقد ذكر المعروف في السور المدنية في الأحكام الشرعية العملية، كوصف الأمة الإسلامية وحكومتها كقوله: ﴿الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ﴾، وقوله: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٠٤)﴾، وعند ذكر الحقوق الزوجية كقوله: ﴿وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ﴾، وفي أحكام الطلاق كقوله: ﴿فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ﴾، وقوله: ﴿فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ﴾.
ومن ذلك ترى أن هذا اللفظ (المعروف) لم يذكر إلا في الأحكام الهامة، وأنّ المراد به ما هو معهود بين الناس في المعاملات والعادات، ولا شك أنّه يختلف باختلاف الشعوب والبلاد والأوقات، ومن ثم قال بعض الأئمة: المعروف ما يستحسن في العقل فعله، ولا تنكره العقول الصحيحة، ويكفي المسلمين المحافظة على النصوص الثابتة، إذ لا يمكن المؤمن أن يستنكر ما جاء عن الله ورسوله، وليكن للجماعة الإسلامية بعده رأي فيما يعرفون وينكرون، ويستحسنون ويستهجنون، ويكون عمدتهم في ذلك جمهور العقلاء، وأهل الفضل والأدب في كل عصر.
٣ - الإعراض عن الجاهلين: وهم السفهاء، بترك معاشرتهم، وعدم مماراتهم، ولا علاج للوقاية من أذاهم إلا الإعراض عنهم، وقد روي عن جعفر الصادق رحمه الله أنه قال: ليس في القرآن آية أجمع لمكارم الأخلاق منها.
خذ العفو وأمر بعرف كما | أمرت وأعرض عن الجاهلين |
ولن في الكلام لكلّ الأنام | فمستحسن من ذوي الجاه لين |
٢٠٠ - ﴿وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ﴾ ويصيبنك (١) يا محمد ويعرض لك ﴿مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ﴾؛ أي: نخسة ووسوسة تحملك على خلاف ما أمرت به من العفو والإعراض عن الجاهلين ﴿فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ﴾؛ أي: فاستجر بالله، والتجىء إليه في دفعه عنك ﴿إِنَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿سَمِيعٌ﴾ يسمع دعاءك واستعاذتك ﴿عَلِيمٌ﴾ بحالك، أو سميع باستعاذتك بلسانك، عليم بما في ضميرك من استحضاره معاني الاستعاذة، فالقول اللساني بدون المعارف القلبية عديم الفائدة والأثر، أو سميع بأقوال من آذاك، عليم بأفعاله، فيجازيه عليها مغنيا لك عن الانتقام، ومتابعة الشيطان.
والمعنى (٢): وإن يثر فيك الشيطان داعية الشر والفساد، بسبب غضب أو شهوة، فيجعلك تتأثر وتتحرك للعمل بها، كما تتأثر الدابة إذا نخست بالمهماز فتسرع، فالجأ إلى الله وتوجه إليه بقلبك ليعيذك من شر هذا النزغ، حتى لا يحملك على ما يزعجك من الشر، وعبر عن ذلك بلسانك فقل: أعوذ بالله من
(٢) المراغي.
وقد دلت التجربة على أن الالتجاء إلى الله تعالى، وذكره بالقلب واللسان يصرف عن النفس وسوسة الشيطان، قال تعالى: ﴿فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (٩٨) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٩٩)﴾. والخطاب في الآية وما ماثلها من الآيات موجه إلى كل مكلف يبلغه، وأولهم الرسول صلى الله عليه وسلّم، فإنّ الشيطان يجد مجالا في حمل الإنسان على ما لا ينبغي في حالة الغضب والغيظ، فأمر الله بالالتجاء إليه، والتعويذ في تلك الحالة، فهي تجري مجرى العلاج لذلك المرض.
فصل (١): واحتج الطاعن في عصمة الأنبياء بهذه الآية
فقالوا: لو كان النبي معصوما.. لم يكن للشيطان عليه سبيل حتى ينزغ في قلبه ويحتاج إلى الاستعاذة منه، والجواب عنه بأوجه:
الأول: أن معنى الكلام: إن حصل في قلبك نزغ من الشيطان.. فاستعذ بالله، وإنّه لم يحصل له ذلك ألبتة، فهو كقوله: ﴿لَئِنْ أَشْرَكْتَ﴾ وهو بريء من الشرك ألبتة.
والوجه الثاني: على تقدير أنّه لو حصل وسوسة من الشيطان، لكن الله عصم نبيه صلى الله عليه وسلّم عن قبولها وثبوتها في قلبه، روى مسلم عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن وقرينه من الملائكة، قالوا: وإياك يا رسول الله؟ قال وإياي، إلا أنّ الله أعانني عليه فأسلم، فلا يأمرني إلا بخير».
قال النواوي: ويروى: (فأسلم) بفتح الميم وضمها، فمن رفع قال: معناه فاسلم من شره وفتنته، ومن فتح قال: معناه أن القرين أسلم من الإسلام، يعني:
والوجه الثالث: يحتمل أن يكون الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلّم، والمراد به غيره، ومعناه: وإمّا ينزغنّك أيها الإنسان من الشيطان نزع.. فاستعذ بالله، فهو كقوله: ﴿فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ﴾.
قال القاضي عياض: واعلم أنّ الأمة مجمعة على عصمة النبي صلى الله عليه وسلّم من الشيطان في جسمه وخاطره ولسانه، وفي هذا الحديث المذكور آنفا إشارة إلى التحذير من فتنة القرين ووسوسته وإغوائه، أعلمنا أنّه معنا لنحترز عنه بحسب الإمكان. والله أعلم.
٢٠١ - ثم بين سبحانه طريق سلام من يستعيذ من الشيطان من الوقوع في المعصية فقال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا﴾؛ أي: إن الذين اتصفوا بوقاية أنفسهم عما يضرها ﴿إِذا مَسَّهُمْ﴾ وأصابهم ﴿طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ﴾؛ أي: شيء قليل من وسوسة الشيطان، وخاطر منه ﴿تَذَكَّرُوا﴾ ما أمرهم الله به، من ترك إمضاء الغضب، ومن أنّ الإنسان إذا أمضى الغضب.. كان شريكا للسباع المؤذية والحيات القاتلة، وإن تركه واختار العفو.. كان شريكا لأكابر الأنبياء والأولياء والصالحين، ومن أنّه ربما انقلب ذلك الضعيف الذي يريد أن يعدو عليه قويا قادرا على الغضب، فحينئذ ينتقم منه على أسوأ الوجوه، أما إذا عفا كان ذلك إحسانا منه إلى ذلك الضعيف ﴿فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ﴾ بسبب التذكر مواقع الخطأ، ومكايد الشيطان، ومنتبهون لها، فيتحرزون عنها، ولا يتبعونه فيها؛ أي: إذا حضرن هذه التذكرات في قلوبهم، ففي الحال يحصل الخلاص من وسوسة الشيطان، ويحصل لهم الإبصار لها، والانكشاف عنها، وينتهون عن المعصية.
والمعنى: أن خيار المؤمنين وهم ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣)﴾ إذا ألم ونزل بهم طائف وخيال من الشيطان ليحملهم بوسوسته على المعصية، أو إيقاع البغضاء بينهم.. تذكروا أن هذا من إغواء الشيطان عدوهم الذي أمر الله بالاستعاذة منه، والالتجاء إليه في الحفظ من
فقويّ الروح بالإيمان والتقوى غير قابل لتأثير الشيطان في نفسه، لكن الشيطان دائما يتحين الفرص وعروض بعض الأهواء النفسية، من شهوة أو غضب أو داعية حسد أو انتقام، حتى إذا وجد الفرصة سانحة افترصها، ولا بس النفس وقوىّ فيها داعي الشر، كالحشرات القذرة التي تعرض للنظيف إذا أهملها بالغفلة عنها فعلت فعلها، وإذا تداركها نجا من شرها وضرّها.
وإن الإنسان ليشعر بتنازع دواعي الخير والشر في نفسه، وإن لداعية الخير والحق مسلكا يقويها، ولداعية الشر والباطل شيطانا يقويها، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلّم ذلك بقوله: «إن للشيطان لمة بابن آدم، وللملك لمة، فأما لمة الشيطان فإيعاد بالشر، وتكذيب بالحق، وأما لمة الملك فإيعاد بالخير وتصديق بالحق، فمن وجد ذلك.. فليعلم أنه من الله فليحمد الله على ذلك، ومن وجد الأخرى فليتعوذ من الشيطان ثم قرأ: ﴿الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ﴾.
وقرأ النحويان (١): أبو عمرو والكسائي وابن كثير: ﴿طيف﴾ فيحتمل أن يكون مصدرا من طاف يطيف طيفا، كباع يبيع بيعا، ويحتمل أن يكون مخففا من طيف، كميت وميت، وليّن ولين، وقرأ باقي السبعة ﴿طائِفٌ﴾ اسم فاعل من طاف، وقرأ ابن جبير: ﴿طيف﴾ بالتشديد، وهو فيعل، وقرأ ابن الزبير: ﴿إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تأملوا فإذا هم مبصرون﴾ وفي مصحف أبي ﴿إن الذين اتقوا إذا طاف من الشيطان طائف تأملوا فإذا هم مبصرون﴾.
وينبغي أن يحمل هذا، وقراءة ابن الزبير على أن ذلك من باب التفسير، لا على أنّه قرآن، لمخالفته سواد ما أجمع عليه المسلمون من ألفاظ القرآن.
وقيل الضمير المرفوع يعود على الإخوان، والمنصوب على ﴿الشياطين﴾.
والمعنى (٢): وإخوان الشياطين من الكفار يمدونهم، أي: يقوون الشياطين في الغي والضلال، وذلك لأن شياطين الإنس إخوان لشياطين الجن، فشياطين الإنس يضلون الناس، فيكون ذلك تقوية منهم لشياطين الجن على الإضلال ﴿ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ﴾؛ أي: لا ينكف الغاوون عن الضلال، والمغوون عن الإضلال، وعلى هذا فالخبر جار على من هو له، وقيل غير ذلك.
والمعنى: أي إن (٣) إخوان الشياطين - وهم الجاهلون والمشركون - الذين لا يتقون الله يتمكن الشياطين من إغوائهم، فيمدونهم ويزيدونهم في غيهم وإفسادهم؛ لأنّهم لا يذكرون الله إذا شعروا بالنزوع إلى الشر، ولا يستعيذون به من نزغ الشيطان ومسه، إما لأنّهم لا يؤمنون بالله، وإما لأنّهم لا يؤمنون بأن للإنسان شيطانا من الجن يوسوس إليه ويغريه بالشر، ثم لا يقصرون ولا يكفون عن إغوائهم وإفسادهم، فلذلك يصرون على الشر والفساد لفقد الوازع النفسي، والواعظ القلبي.
(٢) المراح.
(٣) المراغي.
وقرأ نافع (١): ﴿يَمُدُّونَهُمْ﴾ بضم الياء وكسر الميم، من أمد الرباعي، وباقي السبعة ﴿يَمُدُّونَهُمْ﴾ بفتح الياء وضم الميم، من مد الثلاثي، وقرأ الجحدري ﴿يمادونهم﴾ بألف بعد الميم من ماد على وزن فاعل، وقرأ الجمهور ﴿لا يُقْصِرُونَ﴾ بضم الياء من أقصر الرباعي، بمعنى كف، وقرأ ابن أبي عبلة وعيسى ابن عمر ﴿ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ﴾ بفتح الياء وضم الصاد من قصر الثلاثي؛ أي: ثمّ لا ينقصون من إمدادهم وغوايتهم.
٢٠٣ - ﴿وَإِذا﴾ تباطأ ظهور الخوارق على يديك يا محمد و ﴿لَمْ تَأْتِهِمْ﴾؛ أي: لم تأت أهل مكة ﴿بِآيَةٍ﴾؛ أي: بمعجزة باهرة مما اقترحوا وطلبوا منك ﴿قالُوا﴾؛ أي: قال أهل مكة استهزاء وسخرية ﴿لَوْلا اجْتَبَيْتَها﴾؛ أي: هلا اصطفيت تلك الآية واخترعتها وأنشأتها من عند نفسك، كما اخترعت واختلقت ما قبلها، وقال (٢) الكلبي: كان أهل مكة يسألون النبي صلى الله عليه وسلّم الآيات تعنتا، فإذا تأخرت اتهموه وقالوا: لولا اجتبيتها، يعني: هلا أحدثتها وأنشأتها من عند نفسك كما اختلقت ما قبلها.
قال الفراء: تقول العرب: اجتبيت الكلام واختلقته وارتجلته إذا افتعلته من قبل نفسك، وعبارة المراغي هنا: وإذا لم تأتهم أيها الرسول بآية قرآنية، بأن تراخى نزول الوحي زمنا ما.. قالوا: لولا افتعلت نظمها وتأليفها، واخترعتها من تلقاء نفسك، وقد يكون المعنى: وإذا لم تأتهم بآية مما اقترحوا عليك قالوا: هلا حباك الله بها بأن مكنك منها، فاجتبيتها وأبرزتها لنا إن كنت صادقا في أن الله يقبل دعاءك، ويجيب التماسك.
(٢) الخازن.
وقد يكون المعنى: ما أنا بقادر على إيجاد الآيات الكونية، ولا بمفتات على الله في طلبها، وإنّما أنا متبع لما يوحى إلي، فضلا من ربي علي إذ جعلني مبلغا عنه، وقد وصف الله تعالى القرآن بثلاثة أوصاف فقال:
١ - ﴿هذا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ﴾؛ أي: وقل لهم يا محمد هذا القرآن الذي أنزل عليّ، وأوحاه الله إلي بصائر من ربكم؛ أي: بمنزلة البصائر للقلوب، فبه تبصر الحق وتدرك الصواب؛ أي: حجج بينة وبراهين نيرة للعقول في الدلالة على التوحيد والنبوة والمعاد - صادرة من ربكم، من تأملها حق التأمل يكن بصير العقل بما تدل عليه من الحق، فهي أدل عليه مما تطلبونه من الآيات الكونية.
٢ - ﴿وَهُدىً﴾؛ أي: وهو هاد إلى الحق وإلى طريق مستقيم.
٣ - ﴿وَرَحْمَةٌ﴾؛ أي: وهو رحمة في الدنيا والآخرة.
﴿لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾؛ أي: للذين يؤمنون به، ويمتثلون أوامره، ويجتنبون نواهيه؛ أي: فالقرآن في حق أصحاب عين اليقين، وهم من بلغوا - في معارف التوحيد والنبوة والمعاد - مرتبة أصبحوا بها كالمشاهدين لها، وهم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار، فهو لهؤلاء بصائر، وفي حق أصحاب علم القين، وهم الذين بلغوا إلى درجات المستدلين به هدى، وفي حق عامة المؤمنين رحمة لا جرم، وهم أصحاب حق اليقين.
٢٠٤ - ﴿وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ﴾ عليكم أيها المؤمنون ﴿فَاسْتَمِعُوا لَهُ﴾؛ أي: فاصغوا إليه بأسماعكم لتفهموا آياته، وتعتبروا بمواعظه ﴿وَأَنْصِتُوا﴾؛ أي: اسكتوا عن
والآية تدل على وجوب الاستماع والانصات للقرآن إذا قرىء، سواء أكان ذلك في الصلاة أو في خارجها، وهو المروي عن الحسن البصري، لكن الجمهور خصوه بقراءة الرسول صلى الله عليه وسلّم في عهده، وبقراءة الصلاة والخطبة من بعده، ذلك أن إيجاب الاستماع والإنصات في غير الصلاة والخطبة فيه حرج عظيم، إذ يقتضي أن يترك له المشتغل بالعلم علمه، والمشتغل بالحكم حكمه، وكل ذي عمل عمله.
أما قراءة النبي صلى الله عليه وسلّم، فكان بعضها تبليغا للتنزيل وبعضها وعظا وإرشادا، فلا يسع أحدا من المسلمين يسمعه يقرأ أن يعرض عن الاستماع، أو يتكلّم بما يشغله، أو يشغل غيره عنه، وهكذا شأن المصلي مع إمامة وخطيبه، إذ هذا هو المقصود من الصلاة، والواجب فيها.
وما يفعله جماهير الناس، والمحافل التي يقرأ فيها القرآن - كالمآتم وغيرها - من ترك الاستماع والاشتغال بالأحاديث المختلفة، فمكروه كراهة شديدة، ولا سيما لمن كانوا على مقربة من التالي.
ولا يجوز (١) لقارىء أن يقرأ على قوم لا يستمعون له، وإن كان أكثرهم يستمع وينصت فشذ بعضهم بمناجاة صاحبه بالجنب بلا تهويش على القارىء، ولا على المستمعين كانت المخالفة سهلة لا تقتضي ترك القراءة، ولا تنافي الاستماع.
والواجب على كل مؤمن بالقرآن أن يحرص على استماعه عند قراءته، كما يحرص على تلاوته، وأن يتأدب في مجلس التلاوة، والضابط في ذلك: أن لا
تصنع، فقد روى أبو هريرة مرفوعا: «ما أذن - استمع - الله لشيء ما أذن لنبي حسن الصوت يتغنى بالقرآن» رواه الشيخان.
فصل
واختلف (١) العلماء في القراءة خلف الإمام، فذهب جماعة إلى إيجابها، سواء جهر الإمام بالقراءة أو أسر، يروى ذلك عن عمر وعثمان وعلي وابن مسعود ومعاذ، وهو قول الأوزاعي، وإليه ذهب الشافعي، وذهب قوم إلى أنه يقرأ فيما أسر الإمام فيه القراءة ولا يقرأ فيما جهر الإمام فيه، يروى ذلك عن ابن عمر، وهو قول عروة بن الزبير والقاسم بن محمد، وبه قال الزهري ومالك وابن المبارك وأحمد وإسحاق، وذهب قوم إلى أنّه لا يقرأ سواء أسر الإمام أو جهر، يروى ذلك عن جابر، وإليه ذهب أصحاب الرأي (٢). حجة من لا يرى القراءة خلف الإمام ظاهر هذه الآية، وحجة من قال: يقرأ في السرية دون الجهرية، قال: إن الآية تدل على الأمر بالاستماع لقراءة القرآن، ودلت السنة على وجوب القراءة خلف الإمام فحملنا مدلول الآية على صلاة الجهرية، وحملنا مدلول السنة على صلاة السرية، جمعا بين دلائل الكتاب والسنة، وحجة من أوجب القراءة خلف الإمام في صلاة السرية والجهرية قال: الآية واردة في غير الفاتحة؛ لأن دلائل السنة قد دلت على وجوب القراءة خلف الإمام، ولم يفرق بين السرية والجهرية، قالوا: وإذا قرأ الفاتحة خلف الإمام تتبع سكتاته، ولا ينازعه في
(٢) هذا يدل على أن المؤلف ربما يكون متعصبا لمذهب من المذاهب. اه.
٢٠٥ - والخطاب في قوله: ﴿وَاذْكُرْ رَبَّكَ﴾ للنبي صلى الله عليه وسلّم، ويدخل فيه غيره من أمته؛ لأنّه عام لسائر المكلفين؛ أي: واذكر أيها المكلف ربك الذي خلقك ورباك بنعمه، عارفا بمعاني الأذكار التي تقولها بلسانك، مستحضرا لصفات الكمال والجلال، والعز والعلو والعظمة ﴿فِي نَفْسِكَ﴾ وقلبك؛ أي: أسمع نفسك سرا، وذلك لأن الذكر باللسان إذا كان عاريا عن الذكر بالقلب.. كان عديم الفائدة؛ لأن فائدة الذكر حضور القلب واستشعاره عظمة المذكور عز وجل، وقيل: المعنى: أذكر ربك سرا في نفسك؛ لأن ذكر النفس أقرب إلى الإخلاص، وأبعد عن الرياء والسمعة.
وقوله: ﴿تَضَرُّعًا وَخِيفَةً﴾ منصوبان على الحال، ولكن بعد تأويله بالمشتق؛ أي: واذكر - أيها المكلّف - ربك في نفسك حالة كونك متضرعا ومتذللا وخاضعا له، وخائفا منه، راجيا نعمه، وقرىء ﴿وخفية﴾ بضم الخاء ﴿وَ﴾ اذكره بلسانك مع ذكره في نفسك ذكرا ﴿دُونَ الْجَهْرِ﴾ برفع الصوت ﴿مِنَ الْقَوْلِ﴾ وفوق التخافت والسر، بل ذكرا قصدا وسطا بين الجهر والمخافتة، بأن يذكر الشخص ربه بحيث يسمع نفسه، كما قال تعالى: ﴿وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا﴾.
وذكر اللسان وحده دون ذكر القلب، وملاحظة معاني الذّكر لا يجدي نفعا، فكم رأينا من ذوي الأوراد والأدعية، الذين يذكرون الله كثيرا بالمئين والألوف،
والمعنى: واذكر ربك أيها الملكف بأي (١) نوع من أنواع الذكر، من قرآن وتهليل وتحميد وتكبير وتسبيح ودعاء، وغير ذلك، سرا في نفسك إن لم يلزم عليه الكسل، وإلا جهرا وذكرا وسطا دون الجهر، وفوق السر ﴿بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ﴾؛ أي: في البكر والعشايا وما بينهما من جميع الأوقات، وقرأ أبو مجلز ﴿والإيصال﴾ جعله مصدرا لقولهم: أصلت؛ أي: دخلت في وقت الأصيل، والغدو جمع غدوة، وهي من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، والآصال جمع أصيل، وهو من العصر إلى الغروب، وإنّما خص هذين الوقتين بالذكر؛ لأن الإنسان يقوم من النوم عند الغداة، فطلب أن يكون أول صحيفته ذكر الله تعالى، وأما وقت الآصال فلأن الإنسان يستقبل النوم - وهو أخو الموت - فينبغي له أن يشغله بالذكر، خيفة أن يموت في نومه، فيبعث على ما مات عليه، وقيل: إن الأعمال تصعد في هذين الوقتين، وقيل: لكراهة النفل في هذين الوقتين، فطلب بالذكر فيهما، لئلا يضيع على الإنسان وقته، ولأن من افتتح نهاره بذكر الله، واختتمه به، كان جديرا بأن يراقب الله ولا ينساه فيما بينهما، ﴿وَلا تَكُنْ﴾ أيها المكلف ﴿مِنَ الْغافِلِينَ﴾ عن ذكر الله تعالى، بل أشعر قلبك الخضوع له والخوف من قدرته عليك، إذا أنت غفلت عن ذلك، ومن غفل عن ذكره تعالى مرض قلبه، وضعف إيمانه، واستحوذ عليه الشيطان فأنساه ذكره.
٢٠٦ - ثم ختم (٢) سبحانه هذه الآيات بما يؤكد الأمر والنهي السابقين فقال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ﴾ يا محمد؛ أي: إن ملائكة الرحمن المقربين عنده ﴿لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ﴾ سبحانه وتعالى كما يستكبر عنها هؤلاء المشركون، بل يؤدونها حسب ما أمروا به ﴿وَيُسَبِّحُونَهُ﴾؛ أي: ينزهون الله سبحانه وتعالى عن كل ما لا يليق
(٢) المراغي.
فإن قلت (١): التسبيح والسجود داخلان في قوله تعالى: ﴿لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ﴾؛ لأنّهما من جملة العبادة، فكيف أفردهما بالذكر؟
قلت: أخبر الله عز وجل عن حال الملائكة أنّهم خاضعون لعظمته لا يستكبرون عن عبادته، ثم أخبر عن صفة عبادتهم أنّهم يسبحونه وله يسجدون.
ولما كانت الأعمال تنقسم إلى قسمين، أعمال القلوب وأعمال الجوراح، وأعمال القلوب هي: تنزيه الله عن كل سوء وهو الاعتقاد القلبي عبر عنه بقوله ﴿وَيُسَبِّحُونَهُ﴾ وعبر عن أعمال الجوارح بقوله: ﴿وَلَهُ يَسْجُدُونَ﴾.
وقد شرع الله سبحانه وتعالى لنا (٢) السجود عند تلاوة هذه الآية أو سماعها، إرغاما لمن أبى ذلك من المشركين، واقتداء بالملائكة المقربين، ومثلها آيات أخرى ستأتي في مواضعها، وقد كان صلى الله عليه وسلّم يقول في سجوده لذلك: «اللهم لك سجد سوادي، وبك آمن فؤادي، اللهم ارزقني علما ينفعي وعملا يرفعني» وفي سنن ابن ماجه عن ابن عباس أنّه صلى الله عليه وسلّم كان يقول في سجدة التلاوة: «اللهم احطط عني بها وزرا، واكتب لي بها أجرا، واجعلها لي عندك ذخرا».
وهذه السجدة (٣) من عزائم سجود القرآن، فيستحب للقارىء والمستمع أن يسجد عند قوله: ﴿وَلَهُ يَسْجُدُونَ﴾ ليوافق الملائكة المقربين في عباداتهم،
(٢) المراغي.
(٣) الخازن.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد اعتزل الشيطان يبكي يقول: يا ويلنا أمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة، وأمرت بالسجود فأبيت فلي النار» رواه مسلم.
وعن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول: «عليك بكثرة السجود لله، فإنّك لا تسجد لله سجدة إلا رفعك الله بها درجة، وحط عنك بها خطيئة» رواه مسلم أيضا.
وفي الآية إرشاد إلى أن الأفضل إخفاء الذّكر، وقد روى أحمد قوله صلى الله عليه وسلّم: «خير الذّكر الخفي».
الإعراب
﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها﴾.
﴿هُوَ الَّذِي﴾: مبتدأ وخبر، والجملة مستأنفة ﴿خَلَقَكُمْ﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الموصول، والجملة صلة الموصول، ﴿مِنْ نَفْسٍ﴾: جار ومجرور، متعلق بـ ﴿خلق﴾، ﴿واحِدَةٍ﴾: صفة لـ ﴿نَفْسٍ﴾، ﴿وَجَعَلَ﴾: فعل ماض، ﴿مِنْها﴾: متعلق به، وفاعله ضمير يعود على الموصول، ﴿زَوْجَها﴾: مفعول به
﴿فَلَمَّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُما لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ﴾.
﴿فَلَمَّا﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة على محذوف تقديره: ولما سكن إليها غشاها وجامعها، ﴿لما﴾: حرف شرط غير جازم، ﴿تَغَشَّاها﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على آدم، والجملة الفعلية فعل شرط لـ ﴿لما﴾ لا محل لها من الإعراب، ﴿حَمَلَتْ﴾: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على حواء، ﴿حَمْلًا﴾ مفعول به أو مفعول مطلق، ﴿خَفِيفًا﴾ صفة لـ ﴿حَمْلًا﴾: والجملة جواب ﴿لما﴾ لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿لما﴾ معطوفة على جملة ﴿لما﴾ المحذوفة، ﴿فَمَرَّتْ﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة، ﴿مرت﴾: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على حواء، ﴿بِهِ﴾: جار ومجرور، متعلق به، وجملة ﴿مرت﴾ معطوفة على جملة ﴿حَمَلَتْ﴾، ﴿فَلَمَّا﴾ ﴿الفاء﴾: عاطفة على محذوف تقديره: ولما مرت به أثقلت، ﴿لما﴾: حرف شرط ﴿أَثْقَلَتْ﴾: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على حواء، والجملة فعل شرط لـ ﴿لما﴾، ﴿دَعَوَا اللَّهَ﴾: فعل وفاعل ومفعول، ﴿رَبَّهُما﴾: بدل من الجلالة، والجملة جواب ﴿لما﴾ وجملة ﴿لما﴾ معطوفة على جملة ﴿لما﴾ المحذوفة، ﴿لَئِنْ﴾ ﴿اللام﴾: موطئة لقسم محذوف تقدير: أقسمنا والله، ﴿إن﴾ حرف شرط، ﴿آتَيْتَنا صالِحًا﴾: فعل وفاعل ومفعولان في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ الشرطية على كونه فعل شرط لها، ﴿لَنَكُونَنَّ﴾: ﴿اللام﴾ لام قسم مؤكدة للأولى جيء بها لتدل على أن ما بعدها جواب القسم لا جواب الشرط، ﴿نكونن﴾: فعل مضارع ناقص في محل الرفع، مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، واسمها ضمير يعود على آدم وحواء، ﴿مِنَ الشَّاكِرِينَ﴾: خبرها،
أظهرهما: أنّه مفسر لجملة الدعاء، كأنّه قيل: فما كان دعاؤهما؟ فقيل:
كان دعاؤهما كيت وكيت.
والثاني: أنّه مفعول لقول محذوف تقديره: فقالا: لئن آتيتنا صالحا لنكونن من الشاكرين.
﴿فَلَمَّا آتاهُما صالِحًا جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾.
﴿فَلَمَّا﴾ ﴿الفاء﴾: عاطفة على محذوف تقديره: فآتاهما صالحا، ﴿لما﴾: حرف شرط، ﴿آتاهُما صالِحًا﴾: فعل ومفعولان، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة فعل شرط لـ ﴿لما﴾ لا محل لها من الإعراب، ﴿جَعَلا﴾: فعل وفاعل، ﴿لَهُ﴾ متعلق به، وهو في محل المفعول الثاني. ﴿شُرَكاءَ﴾ مفعول أول لـ ﴿جَعَلا﴾، والجملة الفعلية جواب ﴿لما﴾ لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿لما﴾ معطوفة على الجملة المحذوفة ﴿فِيما﴾: جار ومجرور، متعلق بـ ﴿شُرَكاءَ﴾، ﴿آتاهُما﴾: فعل ومفعول أول، والمفعول الثاني محذوف تقديره: فيما آتاه إياهما، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة صلة ﴿لما﴾ أو صفة لها، والعائد أو الرابط الضمير المحذوف. ﴿فَتَعالَى اللَّهُ﴾ ﴿الفاء﴾: عاطفة سببية، ﴿تعالى الله﴾: فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة قوله: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ﴾ وما بينهما اعتراض كما مر في مبحث التفسير، ﴿عَمَّا﴾: جار ومجرور، متعلق
﴿أَيُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (١٩١) وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (١٩٢)﴾.
﴿أَيُشْرِكُونَ﴾ ﴿الهمزة﴾: للاستفهام التوبيخي ﴿يُشْرِكُونَ﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة، ما موصولة أو موصوفة في محل النصب مفعول ﴿يُشْرِكُونَ﴾، ﴿لا﴾: نافية، ﴿يَخْلُقُ﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على ما، وأفرده نظرا للفظ ما، ﴿شَيْئًا﴾: مفعول به، والجملة صلة ﴿لما﴾ أو صفة لها، ﴿وَهُمْ﴾ مبتدأ، وجملة ﴿يُخْلَقُونَ﴾: خبره، وجمع الضمير هنا نظرا لمعنى ما كما مر في بحث التفسير، والجملة الاسمية معطوفة على جملة ﴿يَخْلُقُ﴾، على كونها صلة ﴿لما﴾ الموصولة ﴿وَلا يَسْتَطِيعُونَ﴾ فعل وفاعل، والجملة معطوفة أيضا على جملة الصلة ﴿لَهُمْ﴾ متعلق به أو متعلق بنصرا ﴿نَصْرًا﴾: مفعول به ﴿وَلا﴾. الواو: عاطفة ﴿لا﴾ نافية، ﴿أَنْفُسَهُمْ﴾: مفعول به مقدم على عامله لرعاية الفاصلة، والجملة معطوفة على جملة الصلة أيضا.
﴿وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَتَّبِعُوكُمْ سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ (١٩٣)﴾.
﴿وَإِنْ﴾ الواو: استئنافية، ﴿إِنْ﴾: حرف شرط جازم، ﴿تَدْعُوهُمْ﴾: فعل وفاعل ومفعول مجزوم بـ ﴿إِنْ﴾ الشرطية على كونه فعل شرط لها، ﴿إِلَى الْهُدى﴾ متعلق به، ﴿لا﴾ نافية، ﴿يَتَّبِعُوكُمْ﴾: فعل وفاعل ومفعول مجزوم بإن الشرطية على كونه جوابا لها، وجملة ﴿إِنْ﴾ الشرطية مستأنفة، ﴿سَواءٌ﴾: خبر مقدم لمبتدأ متعد من الجملة التي بعدها، من غير سابك لإصلاح المعنى، ﴿عَلَيْكُمْ﴾ متعلقان بـ ﴿سَواءٌ﴾. ﴿أَدَعَوْتُمُوهُمْ﴾ ﴿الهمزة﴾: للتسوية، وهي في الأصل للاستفهام، ولكنه غير مراد هنا لوقوعها بعد ﴿سَواءٌ﴾، ﴿دَعَوْتُمُوهُمْ﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة الفعلية في تأويل مصدر مرفوع على كونه مبتدأ مؤخرا لـ ﴿سَواءٌ﴾ من غير
﴿إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ﴾.
﴿إِنَّ الَّذِينَ﴾: ناصب واسمه، وجملة ﴿تَدْعُونَ﴾ صلة الموصول، ﴿مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ متعلق بـ ﴿تَدْعُونَ﴾. ﴿عِبادٌ﴾ خبر ﴿إِنَّ﴾. ﴿أَمْثالُكُمْ﴾ صفة لـ ﴿عِبادٌ﴾، وجملة ﴿إِنَّ﴾ مستأنفة. ﴿فَادْعُوهُمْ﴾ ﴿الفاء﴾: رابطة لجواب شرط محذوف تقديره: إن زعمتم أنّها آلهة.. فادعوهم، ﴿ادعوهم﴾: فعل وفاعل ومفعول في محل الجزم على أنّها جواب الشرط، وجملة الشرط المحذوف مع جوابها مستأنفة مقررة لمضمون ما قبلها، ﴿فَلْيَسْتَجِيبُوا﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة، ﴿واللام﴾: لام الأمر، ﴿يستجيبوا﴾: فعل مضارع مجزوم بـ ﴿لام﴾ الأمر، والواو فاعل، والجملة في محل الجزم معطوفة على جملة ﴿فَادْعُوهُمْ﴾ على كونها جوابا لشرط محذوف، ﴿لَكُمْ﴾ متعلقان بالفعل ﴿يستجيبوا﴾. ﴿إِنَّ﴾: حرف شرط، ﴿كُنْتُمْ صادِقِينَ﴾: فعل ناقص واسمه وخبره في محل الجزم بـ ﴿إِنَّ﴾ الشرطية على كونها فعل شرط لها، وجواب الشرط معلوم مما قبله تقديره: إن كنتم صادقين في أنّها آلهة.. فادعوهم، وجملة إن الشرطية مستأنفة مقررة لما قبلها.
﴿أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها﴾.
﴿أَلَهُمْ﴾ ﴿الهمزة﴾: للاستفهام الإنكاري، ﴿لَهُمْ﴾: جار ومجرور، خبر مقدم، ﴿أَرْجُلٌ﴾: مبتدأ مؤخر، وجملة ﴿يَمْشُونَ بِها﴾ صفة ﴿أَرْجُلٌ﴾، والجملة الاسمية جملة إنشائية لا محل لها من الإعراب، ﴿أَمْ﴾: عاطفة منقطعة بمعنى همزة الاستفهام الإنكاري، وبمعنى بل التي للإضراب الانتقالي من توبيخ إلى
﴿قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ﴾.
﴿قُلِ﴾: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة مستأنفة.
﴿ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ﴾ إلى قوله: ﴿خُذِ الْعَفْوَ﴾ مقول محكي لـ ﴿قُلِ﴾، وإن شئت قلت: ﴿ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ﴾: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة في محل النصب مقول محكي لـ ﴿قُلِ﴾، ﴿ثُمَّ﴾: حرف عطف وترتيب ﴿كِيدُونِ﴾: فعل أمر مبني على حذف النون، والواو: فاعل، والنون للوقاية، وياء المتكلم المحذوفة اجتزاء عنها بكسرة النون في محل النصب مفعول به، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة ﴿ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ﴾، ﴿فَلا﴾: ﴿الفاء﴾: حرف عطف وتعقيب، ﴿لا﴾ ناهية جازمة ﴿تُنْظِرُونِ﴾: فعل مضارع مجزوم بـ ﴿لا﴾ الناهية وعلامة جزمه حذف النون، والواو: فاعل و ﴿النون﴾ للوقاية، وياء المتكلم المحذوفة اجتزاء عنها بكسرة النون في محل النصب مفعول به، وجملة ﴿فَلا تُنْظِرُونِ﴾ في محل النصب معطوفة على جملة ﴿ثُمَّ كِيدُونِ﴾.
﴿إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ﴾.
﴿إِنَّ﴾: حرف نصب، ﴿وَلِيِّيَ﴾: اسمها منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم، وهو مضاف وياء المتكلم في محل الجر مضاف إليه، ﴿اللَّهُ﴾: خبر ﴿إِنَّ﴾ مرفوع، وجملة إن في محل النصب مقول ﴿قُلِ﴾ على كونها تعليلا لما قبلها. ﴿الَّذِي﴾: اسم موصول في محل الرفع صفة للجلالة، ﴿نَزَّلَ الْكِتابَ﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الموصول، والجملة صلة الموصول، ﴿وَهُوَ﴾: مبتدأ، ﴿يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود
﴿وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (١٩٧)﴾.
﴿وَالَّذِينَ﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة، ﴿الَّذِينَ﴾: مبتدأ، ﴿تَدْعُونَ﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد محذوف تقديره: والذين تدعونهم، ﴿مِنْ دُونِهِ﴾ متعلق بـ ﴿تَدْعُونَ﴾، ﴿لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل النصب، ومعطوفة على جملة ﴿إِنَّ﴾ على كونها مقولا لـ ﴿قُلِ﴾، ﴿وَلا أَنْفُسَهُمْ﴾ مفعول مقدم لما بعده، ﴿يَنْصُرُونَ﴾: فعل وفاعل، والجملة في محل الرفع معطوفة على جملة ﴿لا يَسْتَطِيعُونَ﴾ على كونها خبر الموصول.
﴿وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَسْمَعُوا وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ﴾.
﴿وَإِنْ﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة، ﴿إِنْ﴾ حرف شرط ﴿تَدْعُوهُمْ﴾: فعل وفاعل ومفعول مجزوم بـ ﴿إِنْ﴾ على كونها فعل الشرط، ﴿إِلَى الْهُدى﴾ متعلق به، ﴿لا يَسْمَعُوا﴾: فعل وفاعل مجزوم بـ ﴿إِنْ﴾ الشرطية على كونها جوابا لها، وجملة ﴿إِنْ﴾ الشرطية في محل الرفع معطوفة على جملة قوله: ﴿لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ﴾ على كونها خبر الموصول ﴿وَتَراهُمْ﴾: فعل ومفعول به؛ لأنّ رأى بصرية، وفاعله ضمير يعود على محمد، أو على أي مخاطب، ﴿يَنْظُرُونَ﴾: فعل وفاعل، ﴿إِلَيْكَ﴾: متعلق به، والجملة في محل النصب حال من مفعول ﴿تَراهُمْ﴾، وجملة ﴿تَراهُمْ﴾ في محل الرفع معطوفة على جملة ﴿لا يَسْتَطِيعُونَ﴾، على كونها خبر المبتدأ، ﴿وَهُمْ﴾، مبتدأ وجملة ﴿لا يُبْصِرُونَ﴾ خبره، والجملة الاسمية في محل النصب حال من واو ﴿يَنْظُرُونَ﴾.
﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ (١٩٩)﴾.
﴿خُذِ الْعَفْوَ﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة مستأنفة، ﴿وَأْمُرْ﴾: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة معطوفة
﴿وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٠٠)﴾.
﴿وَإِمَّا﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية، ﴿إِمَّا﴾ ﴿إن﴾: حرف شرط جازم مبني بسكون على النون المدغمة في ميم ﴿ما﴾ الزائدة، ﴿يَنْزَغَنَّكَ﴾: فعل ومفعول في محل الجزم بإن الشرطية على كونه فعل شرط لها، مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، ﴿مِنَ الشَّيْطانِ﴾: متعلق به ﴿نَزْغٌ﴾ فاعل، ﴿فَاسْتَعِذْ﴾: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة في محل الجزم جواب ﴿إن﴾ الشرطية و ﴿الفاء﴾: فيه رابطة الجواب وجوبا، لكون الجواب جملة طلبية، ﴿بِاللَّهِ﴾ جار ومجرور، متعلق بـ ﴿استعذ﴾، وجملة ﴿إن﴾ الشرطية مستأنفة. ﴿إِنَّهُ﴾: ناصب واسمه، ﴿سَمِيعٌ﴾: خبر أول له، ﴿عَلِيمٌ﴾ خبر ثان له، وجملة ﴿إن﴾ مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها أعني جملة الأمر بالاستعاذة.
﴿إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ (٢٠١) وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ (٢٠٢)﴾.
﴿إِنَّ﴾: حرف نصب، ﴿الَّذِينَ﴾: اسمها، ﴿اتَّقَوْا﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، إِذا ظرف لما يستقبل من الزمان، ﴿مَسَّهُمْ طائِفٌ﴾: فعل ومفعول وفاعل ﴿مِنَ الشَّيْطانِ﴾: صفة لـ ﴿طائِفٌ﴾، والجملة الفعلية في محل الخفض بإضافة إذا إليها على كونها فعل شرط لها، والظرف متعلق بالجواب الآتي، ﴿تَذَكَّرُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة جواب إذا الشرطية، وجملة ﴿إِذا﴾ في محل الرفع خبر ﴿إِنَّ﴾، وجملة إنّ مستأنفة، ﴿فَإِذا﴾ ﴿الفاء﴾: عاطفة سببية، ﴿إذا﴾ حرف فجأة لا محل لها من الإعراب، ﴿هُمْ مُبْصِرُونَ﴾: مبتدأ وخبر، والجملة الاسمية معطوفة على جملة ﴿تَذَكَّرُوا﴾ لا محل لها من الإعراب. ﴿وَإِخْوانُهُمْ﴾: مبتدأ، ﴿يَمُدُّونَهُمْ﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة الفعلية خبر المبتدأ، ولكنه خبر سببي، والجملة الاسمية معطوفة على جملة
﴿وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قالُوا لَوْلا اجْتَبَيْتَها قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هذا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٢٠٣)﴾.
﴿وَإِذا﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية، إِذا: ظرف لما يستقبل من الزمان، ﴿لَمْ تَأْتِهِمْ﴾: جازم وفعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على محمد، ﴿بِآيَةٍ﴾ متعلق به، والجملة الفعلية في محل الخفض بإضافة إِذا إليها على كونها فعل شرط لها، والظرف متعلق بالجواب الآتي، ﴿قالُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة جواب إِذا، وجملة إِذا مستأنفة، ﴿لَوْلا اجْتَبَيْتَها﴾ مقول محكي لـ ﴿قالُوا﴾ وإن شئت قلت: ﴿لَوْلا﴾: حرف تحضيض بمعنى هلّا، ﴿اجْتَبَيْتَها﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل النصب مقول ﴿قالُوا﴾، ﴿قُلْ﴾: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة مستأنفة، ﴿إِنَّما أَتَّبِعُ﴾: إلى آخر الآية مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿إِنَّما﴾: أداة حصر، ﴿أَتَّبِعُ﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة في محل النصب مقول ﴿قُلْ﴾، ﴿ما يُوحى﴾: ﴿ما﴾ موصولة أو موصوفة في محل النصب مفعول ﴿أَتَّبِعُ﴾، ﴿يُوحى﴾: فعل مضارع مغير الصيغة، ونائب فاعله ضمير يعود على ﴿ما﴾. ﴿إِلَيَّ﴾: جار ومجرور، متعلق به، وكذا ﴿مِنْ رَبِّي﴾ متعلق به، والجملة الفعلية صلة لـ ﴿ما﴾ أو صفة لها، ﴿هذا بَصائِرُ﴾: مبتدأ وخبر، والجملة في محل النصب مقول ﴿قُلْ﴾، ﴿مِنْ رَبِّكُمْ﴾: جار ومجرور، صفة لـ ﴿بَصائِرُ﴾، ﴿وَهُدىً وَرَحْمَةٌ﴾: معطوفان على ﴿بَصائِرُ﴾، ﴿لِقَوْمٍ﴾: جار ومجرور تنازع فيه كل من ﴿هُدىً وَرَحْمَةٌ﴾ على كونه صفة لهما، وجملة ﴿يُؤْمِنُونَ﴾ صفة ﴿لِقَوْمٍ﴾.
﴿وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾.
﴿وَإِذا﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية، ﴿إِذا﴾ ظرف لما يستقبل من الزمان. {قُرِئَ
﴿وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ (٢٠٥)﴾.
﴿وَاذْكُرْ﴾ الواو: استئنافية، ﴿اذْكُرْ رَبَّكَ﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على محمد، أو على أي مكلف، والجملة مستأنفة، ﴿فِي نَفْسِكَ﴾: جار ومجرور، متعلق بـ ﴿اذْكُرْ﴾، ﴿تَضَرُّعًا وَخِيفَةً﴾: حالان من فاعل ﴿اذْكُرْ﴾، ولكن بعد تأويله بمشتق تقديره: حالة كونك متضرعا وخائفا من ربك، ﴿وَدُونَ الْجَهْرِ﴾: ظرف ومضاف إليه معطوف (١) على قوله: ﴿فِي نَفْسِكَ﴾ على كونه متعلقا بـ ﴿اذْكُرْ﴾، أو على كونه صفة لمصدر محذوف تقديره: واذكر ربك ذكرا دون الجهر، ﴿مِنَ الْقَوْلِ﴾: جار ومجرور حال (٢) من الدون؛ أي: حالة كون الدون من القول، أو متعلق بـ ﴿الْجَهْرِ﴾ على أن ﴿مِنَ﴾ بمعنى الباء؛ أي: الجهر بالقول تأمل، ﴿بِالْغُدُوِّ﴾: جار ومجرور، متعلق بـ ﴿اذْكُرْ﴾، ﴿وَالْآصالِ﴾ معطوف على ﴿الغدو﴾، ﴿وَلا﴾ الواو: عاطفة ﴿لا﴾: ناهية جازمة، ﴿تَكُنْ﴾: فعل مضارع ناقص مجزوم بـ ﴿لا﴾ الناهية، واسمها ضمير يعود على أي مكلف، ﴿مِنَ الْغافِلِينَ﴾ خبرها، والجملة معطوفة على جملة قوله: ﴿وَاذْكُرْ رَبَّكَ﴾.
﴿إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (٢٠٦)﴾.
﴿إِنَّ﴾: حرف نصب، ﴿الَّذِينَ﴾ في محل النصب اسمها، ﴿عِنْدَ رَبِّكَ﴾:
(٢) الفتوحات.
التصريف ومفردات اللغة
﴿حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا﴾ المشهور (١) أن الحمل - بفتح الحاء - ما كان في بطن أو على شجرة، والحمل بكسرها خلافه، وقد حكى في كل منهما الكسر والفتح، وهو هنا إما مصدر فينتصب انتصاب المفعول المطلق، أو الجنين المحمول، فيكون مفعولا به، وخفته إما عدم التأذي به كالحوامل، أو على الحقيقة في ابتدائه، وكونه نطفة لا تثقل البطن اه «شهاب».
﴿فَلَمَّا أَثْقَلَتْ﴾؛ أي: صارت ذات ثقل، كقولهم: البن الرجل وأتمر؛ أي: صار ذا لبن وتمر، وقيل: دخلت في الثقل كقولهم: أصبح وأمسى؛ أي: دخل في الصباح والمساء، والمعنى: صار حملها ثقيلا.
﴿أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ﴾: اسم فاعل من صمت بمعنى سكت، والصمت السكوت، يقال منه: صمت يصمت صمتا بالفتح في الماضي والضم في المضارع من باب قتل، ويقال: صمت بالكسر يصمت بالفتح، والمصدر الصمت، والصمات بضم الصاد اه «سمين». وإصمت (٢) بوزن إضرب اسم فلاة معروفة، وهي مسماة بفعل الأمر قطعت همزته، إذ ذاك قاعدة في التسمية بفعل فيه همزة وصل، وكسرت الميم؛ لأن التغيير يأنس بالتغيير، ولئلا يدخل في وزن ليس في الأسماء.
(٢) البحر المحيط.
﴿وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ﴾ النزغ (١): كالخنس والنغز والوكز، إصابة الجسد برأس محدد كالإبرة والمهماز والرمح، والمراد هنا: نزغ الشيطان بإثارته داعية الشر والفساد في النفس، بغضب أو شهوة، بحيث تلجىء صاحبها إلى العمل بتأثيرها، كما تنخس الدابة بالمهماز لتسرع، وفي «البحر المحيط»: النزغ أدنى حركة، ومن الشيطان أدنى وسوسة، قاله الزجاج، وقال ابن عطية: حركة فيها فساد، وقلما تستعمل إلا في فعل الشيطان؛ لأنّ حركته مسرعة مفسدة، وقيل: هو لغة الإصابة تعرض عند الغضب، وقال الفراء: النزغ: الإغراء والإغضاب. اه.
﴿فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ﴾ والاستعاذة بالله الالتجاء إليه ليقيك من شر هذا النزغ.
﴿إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ﴾ الطائف الخاطر منه كما مر، وقرىء ﴿طيف﴾ بوزن (٢) بيع، يقال: طاف يطيف طيفا، كباع يبيع بيعا، فوزنه فعل، ويحتمل أنّه مخفف طيف، كميت مخفف ميّت، فوزنه فيل؛ لأن عينه - وهي الياء الثانية - محذوفة، وفي «المراغي»: والطوف والطواف بالشيء الاستدارة به، أو حوله، وطيف الخيال: ما يرى في النوم من مثال الشخص، والمس يراد به هنا ما ينال الإنسان من شر وأذى، فقد ذكر في التنزيل مس الضر والضراء والبأساء، والسوء والعذاب.
﴿يَمُدُّونَهُمْ﴾ والمد والإمداد الزيادة في الشيء ومن جنسه، واستعمل في القرآن في الخلق والتكوين، كقوله: ﴿وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ﴾ وقوله: {أَلَمْ تَرَ إِلى
(٢) الفتوحات.
﴿فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا﴾ الاستماع (١) أخص من السمع؛ لأنّه إنّما يكون بقصد ونية، أو توجيه الحاسة إلى الكلام لإدراكه، أما السمع فيحصل ولو بغير قصد، والانصات السكوت للاستماع حتى لا يكون شاغل عن الإحاطة بكل ما يقرأ، وقال (٢) الفراء: الانصات السكوت للاستماع، يقال: نصت وأنصت وانتصت، بمعنى واحد، وقد ورد الإنصات متعديا في شعر الكميت حيث قال:
أبوك الّذي أجدى عليه بنصره | فأنصت عنّى بعده كلّ قائل |
﴿بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ﴾ والغدو جمع غدوة، وهي ما بين صلاة الغداة وطلوع الشمس، والآصال (٣) جمع أصل، كعنق وأعناق، أو جمع أصيل كيمين وأيمان، ولا حاجة لدعوى أنّه جمع جمع كما ذهب إليه بعضهم، إذ ثبت أنّ أصلا مفرد، وإن كان يجوز جمع أصيل على أصل.. فيكون جمعا ككثيب وكثب، وممن ذهب إلى أنّ آصالا جمع أصل، ومفرد أصل أصيل الفراء، ويقال: جئناهم موصلين؛ أي: عند الآصال ﴿وَيُسَبِّحُونَهُ﴾؛ أي: ينزهونه عما لا يليق به.
﴿يَسْجُدُونَ﴾؛ أي: يصلون.
(٢) البحر المحيط.
(٣) البحر المحيط.
وقد تضمنت هذه الآيات أنواعا من البلاغة والفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: الكناية في قوله: ﴿فَلَمَّا تَغَشَّاها﴾؛ لأنّ التغشي هنا كناية عن الجماع، وهو من الكنايات اللطيفة.
ومنها: التكرار في قوله: ﴿آتاهُما﴾، وفي قوله: ﴿وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ﴾ وفي قوله: ﴿وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى﴾.
ومنها: الالتفات من الخطاب إلى الغيبة في قوله: ﴿فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾، إن قلنا إنّه معطوف على قوله: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ﴾ كما مر في بحث التفسير وبحث الإعراب.
ومنها: الالتفات من الغيبة إلى الخطاب في قوله: ﴿وَإِنْ تَدْعُوهُمْ﴾ بعد قوله أولا: ﴿أَيُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ شَيْئًا﴾ وفائدته: الاشعار بمزيد الاعتناء بأمر التوبيخ، والتبكيت ببيان عجز الأصنام عما هو أدنى من النصر المنفي عنها وأيسر، وهو مجرد الدلالة على المطلوب من غير تحصيله للطالب.
ومنها: المبالغة في قوله: ﴿أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ﴾ في عدم إفادة الدعاء ببيان مساواته للسكوت الدائم المستمر، كما ذكره أبو السعود، وفي «السمين»: وإنّما أتى في الآية بالجملة الثانية اسمية ولم يقل: أم صمتم؛ لأنّ الفعل يشعر بالحدوث؛ ولأنّها رأس فاصلة. اه.
ومنها: التهكم في قوله: ﴿فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ﴾.
ومنها: الاستفهام الإنكاري في قوله: ﴿أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها﴾ وكذا في المواضع الثلاثة المذكورة بعده.
ومنها: الإطناب في قوله: ﴿أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ﴾ إلى قوله: ﴿أَمْ لَهُمْ آذانٌ﴾، وفائدته زيادة التقريع والتوبيخ لهم.
ومنها: التشبيه البليغ في قوله: ﴿هذا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ وهو ما حذف فيه أداة التشبيه ووجه الشبه، وأصله: هذا كبصائر من ربكم، وقيل: إنّه من قبيل المجاز المرسل، حيث أطلق المسبب على السبب؛ لأنّ القرآن لما كان سببا لتنوير العقول.. أطلق عليه لفظ البصيرة؛ لأنّ البصائر جمع بصيرة، وأصل البصيرة ظهور الشيء واستحكامه حتى يبصره الإنسان فيهتدى به، فأطلق لفظ البصيرة على القرآن تسمية للسبب باسم المسبب. اه. «كرخي».
ومنها: المجاز المرسل في قوله: ﴿بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ﴾؛ لأنّ المراد به جميع الأوقات، من إطلاق اسم الجزء على الكل على ما قيل.
ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
جملة ما اشتملت عليه هذه السورة من المقاصد سبعة:
الأول: التوحيد: وهو يتضمن دعاء الله وحده، وإخلاص الدين له، وتخصيصه بالعبادة؛ فإنه شارع الدين، فيجب اتباع ما أنزله، ولا يجوز اتباع الأولياء من دونه في العقائد والعبادات، ولا التحليل والتحريم الديني، كما قال: ﴿اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ﴾ وإنّ القول عليه بغير علم بتشريع أو غيره لا يجوز لأحد، كما قال: ﴿أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ﴾ وأن جميع ما يشرعه لعباده حسن، وما سواه قبيح ﴿قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ﴾ ونحن مأمورون بذكره تضرعا وخفية سرا وجهرا.
الثاني: الوحي والكتب: ويتضمن ذلك إنزال القرآن على النبي صلى الله عليه وسلّم للإنذار به، والأمر باستماعه والانصات له، رجاء الرحمة بسماعه والاهتداء به، وأمر المؤمنين باتباع المنزل عليهم من ربهم.
الثالث: الرسالة والرسل: ويشمل ذلك بعثة الرسل إلى جميع بني آدم كما قال: ﴿يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي﴾ وسؤالهم يوم القيامة عن التبليغ وسؤال الأمم عن الإجابة، ومجيء الرسل بالبينات من الله تعالى تأييدا منه لهم، وعقاب الأمم على تكذيب الرسل، كما ذكر في قصص نوح وهود وصالح وشعيب.
الرابع: عالم الآخرة: ويتضمن ذلك البعث والإعادة في الآخرة كما قال: ﴿كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ﴾ ووزن الأعمال يوم القيامة، وترتيب الجزاء على ثقل الموازين وخفتها، وأنّ الجزاء بالعمل، وإقامة أهل الجنة الحجة على أهل النار، والحجاب بين أهل الجنة وأهل النار، ونداء أصحاب النار أصحاب الجنة، واعتراف أهل النار في الآخرة بصدق الرسل، وصفة أهل النار، وقيام الساعة، وكونها تأتي بغتة.
الخامس: أصول التشريع: ويتضمن هذا وجوب اتباع الدين على أنّه قربة
السادس: آيات الله وسننه في الكون: ويتضمن ذلك خلق السموات والأرض في ستة أيام، واستواءه على العرش، ونظام الليل والنهار، وتسخير الشمس والقمر والنجوم بأمره، وخلق الرياح والمطر، وإحياء الأرض به، وإخراجه الثمرات من الأرض، خلق الناس من نفس واحدة، وخلق زوجها منها ليسكن إليها، وإعداد الزوجين للتناسل، وتفضيل الإنسان على من في الأرض جميعا، خلق بني آدم مستعدين لمعرفة الله تعالى، وإشهاد الرب إياهم على أنفسهم أنّه ربهم، وشهادتهم بذلك بمقتضى فطرتهم، بما منحوه من العقل، وحجته تعالى عليهم بذلك: خلقهم مستعدين للشرك وما يتبعه من الخرافات، وضرب الأمثال لاختلاف الاستعداد لكل من الخير والشر، وعلامة كل منهما فيهم يكون بما يرى من ثماره. وفي ذلك تعليم لنا بطلب معرفة الشيء بأثره، ومعرفة الأثر بمصدره، عداوة إبليس والشياطين من نسله لبني آدم، وإغوائهم بالفساد مع ذكر حكمة ذلك، بيان أن الشياطين أولياء للمجرمين الذين لا يؤمنون، منة الله تعالى على البشر، بتسهيل أسباب المعاش لهم في آيات الله تعالى ونعمه على بني إسرائيل، إلى نحو ذلك مما فيه سعادة البشر في دينهم ودنياهم.
السابع: سننه تعالى في الاجتماع والعمران البشري: ويتضمن ذلك إهلاك الله الأمم بظلمها لنفسها ولغيرها، وأن للأمم آجالا لا تتقدم ولا تتأخر عنها بما اقتضته السنن الإلهية العامة، ابتلاء الله الأمم بالبأساء والضراء تارة، وبالرخاء والنعماء أخرى، وأن الإيمان بما دعا إليه، والتقوى في العمل بشرعه، فعلا وتركا سبب لكثرة بركات السماء والأرض وخيراتها على الأمة، كما قال تعالى:
وجعلها إرثا لقوم آخرين، وقد جعل العاقبة للمتقين الذين يتقون أسباب الضعف والتخاذل والفساد في الأرض، ويتصفون بضدها وبسائر ما تقوى به الأمم من الأخلاق والأعمال، كالصبر على المكاره، والاستعانة بالله الذي بيده ملكوت كل شيء وإنا نرى أن بعض الشعوب الإسلامية المستضعفة في هذا العصر باستعمار الشيوعية لها كالشعوب الأرمية في شرقي افريقيا يائسة من استقلالها وعزتها لما ترى من رجحان ذوي السيادة عليها في القوى المادية والسلاحية، جهلا منهم بسنة الله التي بينها للناس؛ فإنّ رجحان فرعون وقومه على بني إسرائيل، كان فوق رجحان قوى السائدين عليهم وقهرهم إياهم، وقد كان ينبغي للمسلمين أن يتقوه تعالى باتقاء كل ما قصه الله عليهم من ذنوب الأمم، التي هلك بها من كان قبلهم، حتى دالت دولتهم، وزال ملكهم، ﴿لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ﴾ (١).
سورة الأنفال مدنية إلا سبع آيات، من قوله: ﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ إلى قوله: ﴿بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ﴾ فمكية، والأصح (١): أنّ سورة الأنفال كلها مدنية كما في «الخازن» وإن كانت الآيات السبع المذكورة في شأن الواقعة التي وقعت بمكة، إذ لا يلزم من كون الواقعة في مكة أن تكون الآيات التي في شأنها مكية، فالآيات المذكورة نزلت بالمدينة تذكيرا له صلى الله عليه وسلّم بما وقع له في مكة، فقولهم: مدنية إلا سبع آيات ضعيف، وقيل: كلها مدنية إلا (٢) قوله: ﴿يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٦٤)﴾؛ فإنّها نزلت بالبيداء في غزوة بدر قبل القتال.
وجملة آيات هذه السورة خمس أو ست (٣) وسبعون آية، وكلماتها ألف وست مئة وإحدى وثلاثون كلمة، وحروفها خمسة آلاف ومئتان وأربعة وتسعون حرفا، والله أعلم.
ومما ورد في فضلها: ما أخرجه الطبراني بسند صحيح عن أبي أيوب:
(أنّ (٤) النبي صلى الله عليه وسلّم كان يقرأ بها في صلاة المغرب).
وأخرج الطبراني أيضا عن زيد بن ثابت: (أن النبي صلى الله عليه وسلّم كان يقرأ في الركعتين من المغرب بسورة الأنفال).
المناسبة: ومناسبة هذه السورة لسورة الأعراف (٥): أنّها في بيان أحوال النبي صلى الله عليه وسلّم مع قومه، وسورة الأعراف مبينة لأحوال الرسل مع أقوامهم.
الناسخ والمنسوخ: وجملة ما في هذه السورة من المنسوخ ست آيات (٦):
(٢) المراغي.
(٣) ابن كثير.
(٤) الشوكاني.
(٥) المراغي.
(٦) الناسخ والمنسوخ لابن حزم.
الآية الثانية: قوله تعالى: ﴿وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ﴾ الآية (٣٣)، منسوخة، وناسخها قوله تعالى: ﴿وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ﴾ الآية (٣٤).
الآية الثالثة: قوله تعالى: ﴿قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ﴾ الآية (٣٨): منسوخة، وناسخها قوله تعالى: ﴿وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ...﴾.
الآية الرابعة: قوله تعالى: ﴿وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها...﴾ الآية (٦١) منسوخة، وناسخها قوله تعالى: ﴿قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ (٢٩)، من سورة التوبة.
الآية الخامسة: قوله تعالى: ﴿إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ﴾ (٦٥) منسوخة، وناسخها قوله تعالى: ﴿الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا﴾ الآية (٦٦).
الآية السادسة: قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا﴾ (٧٢) وذلك أنهم كانوا يتوارثون بالهجرة لا بالنسب، ثم نسخ ذلك بقوله تعالى: ﴿وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ الآية (٧٥).
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
﴿يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيمانًا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٢) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣) أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٤) كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ (٥) يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (٦) وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ (٧) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (٨) إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ (٩) وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (١٠) إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ (١١) إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ (١٢) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (١٣) ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ (١٤)﴾.المناسبة
المناسبة بين أول هذه السورة وآخر سورة الأعراف: أن سورة الأنفال بدئت بالأمر بتقوى الله تعالى وبإصلاح ذات البين وبالحث على طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلّم، وبيان أنّ الخوف من الله تعالى وعدم الاستكبار عن طاعته من صفات المؤمنين، وأن إقامة الصلاة التي من أركانها السجود من صفاتهم، وأن سورة الأعراف ختمت بأخذ العفو، والأمر بالمعروف، والإعراض عن الجاهلين، المستلزم لإصلاح ذات البين، وبالأمر باستماع القرآن والإنصات له عند قراءته،
أسباب النزول
قوله تعالى: ﴿يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ...﴾ الآية، سبب نزولها (١): ما أخرجه أبو داود والنسائي وابن حبان والحاكم، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «من قتل قتيلا.. فله كذا وكذا، ومن أسر أسيرا.. فله كذا وكذا»، فأما المشيخة فثبتوا تحت الرايات، وأما الشبان فسارعوا إلى القتل والغنائم، فقالت المشيخة للشبان: أشركونا معكم فإنّا كنا لكم ردءا، ولو كان منكم شيء للجأتم إلينا، فاختصموا إلى النبي صلى الله عليه وسلّم فنزلت: ﴿يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ﴾.
وروى أحمد عن سعد بن أبي وقاص قال: لما كان يوم بدر قتل أخي فقتلت به سعيد بن العاص، وأخذت سيفه، فأتيت به النبي صلى الله عليه وسلّم فقال: «اذهب فاطرحه في القبض» فرجعت وبي ما لا يعلمه إلا الله من قتل أخي، وأخذ سلبي، فما جاوزت إلا يسيرا حتى نزلت سورة الأنفال، فقال النبي صلى الله عليه وسلّم: «اذهب فخذ سيفك».
وروى (٢) أبو داود والترمذي والنسائي عن سعد قال: لما كان يوم بدر.. جئت بسيف فقلت: يا رسول الله، إنّ الله قد شفى صدري من المشركين، هب لي هذا السيف، فقال: «هذا ليس لي ولا لك»، فقلت: عسى أن يعطى هذا من لا يبلي بلائي، فجاءني الرسول صلى الله عليه وسلّم فقال: «إنّك سألتني وليس لي، وإنّه قد صار لي وهو لك»، قال: فنزلت ﴿يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ...﴾ الآية.
وأخرج ابن جرير عن مجاهد أنّهم سألوا النبي صلى الله عليه وسلّم عن الخمس بعد الأربعة
(٢) لباب النقول.
وأخرج الإمام أحمد وابن جرير والحاكم، وقال صحيح على شرط مسلم، عن عبادة بن الصامت قال: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلّم فشهدت معه بدرا، فالتقى الناس فهزم الله تبارك وتعالى العدو، فانطلقت طائفة في آثارهم يهزمون ويقتلون، فأكبت طائفة على المعسكر يحوونه ويجمعونه، وأحدقت طائفة برسول الله صلى الله عليه وسلّم لا يصيب العدو منه غرة، حتى إذا كان الليل، وفاء الناس بعضهم إلى بعض قال الذين جمعوا الغنائم: نحن حويناها وجمعناها، فليس لأحد فيها نصيب، وقال الذين خرجوا في طلب العدو: لستم بأحق بها منا، نفينا عنها العدو وهزمناهم، وقال الذين أحدقوا برسول الله صلى الله عليه وسلّم: لستم بأحق بها منا، نحن أحدقنا برسول الله صلى الله عليه وسلّم، وخفنا أن يصيب العدو منه غرة واشتغلنا، فنزلت: ﴿يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ﴾ فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلّم على وفاق بين المسلمين. الحديث هذا لفظ أحمد. ولا تنافي بين السببين، إذ لا مانع أن تكون الآية نزلت في الجميع، والله أعلم.
قوله تعالى: ﴿كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ...﴾ الآية، سبب نزولها: ما أخرجه ابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي أيوب الأنصاري قال: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم - ونحن بالمدينة، وبلغه أن عير أبي سفيان قد أقبلت -: «ما ترون فيها لعل الله يغنمناها ويسلمنا؟» فخرجنا فسرنا يوما أو يومين، قال: «ما ترون فيهم» فقلنا: يا رسول الله، ما لنا طاقة بقتال القوم إنما أخرجنا للعير، فقال المقداد: لا تقولوا كما قال موسى ﴿فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ﴾ فأنزل الله عز وجل: ﴿كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ (٥)﴾. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس نحوه.
قوله تعالى: ﴿إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ (٩)﴾ سبب نزوله: ما أخرجه الإمام أحمد (ج ١/ ص ٣٠) قال: حدثنا أبو نوح قراد، أنبأنا عكرمة عن عمار، حدثنا سماك الحنفي - أبو زميل - حدثني ابن عباس، حدثني عمر بن الخطاب قال: لما كان يوم بدر نظر النبي صلى الله عليه وسلّم إلى
سورة الأعراف
افتُتِحت هذه السُّورة بالتنويه بعظمةِ هذا الكتاب، موضِّحةً مهمةَ القرآن ووجوبَ اتِّباعه، محذِّرةً من الشَّيطان وفتنتِه، كما وصَفتْ هذه السُّورةُ العظيمة أهوالَ يومِ القيامةِ، وخطابَ أهل النَّار لأهل الجنَّة، وحالَ الأعراف، واصفةً ما يَتبَع تلك الأحداثَ، وكذلك اشتملت على كثيرٍ من قصص الأنبياء؛ للدَّلالة على عظمةِ الله وقوَّته، وقهرِه وقُدْرته، وبيَّنتْ حُكْمَ من أطاع واتَّبَع، وحُكْمَ من عصى وابتدع؛ داعيةً للرجوع إلى الله؛ للفوز بالجنَّة، والنَّجاة من النار، وقد أُثِر عن النبيِّ ﷺ قراءتُه لها في صلاة المغرب.
ترتيبها المصحفي
7نوعها
مكيةألفاظها
3343ترتيب نزولها
39العد المدني الأول
206العد المدني الأخير
206العد البصري
205العد الكوفي
206العد الشامي
205* قوله تعالى: ﴿خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٖ وَكُلُواْ وَاْشْرَبُواْ﴾ [الأعراف: 31]:
عن عبدِ اللهِ بن عباسٍ رضي الله عنهما، قال: «كانت المرأةُ تطُوفُ بالبيتِ وهي عُرْيانةٌ، فتقولُ: مَن يُعِيرُني تِطْوافًا؟ تَجعَلُهُ على فَرْجِها، وتقولُ:
اليَوْمَ يَبْدُو بَعْضُهُ أَوْ كُلُّهُ***فَمَا بَدَا مِنْهُ فَلَا أُحِلُّهُ
فنزَلتْ هذه الآيةُ: ﴿خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٖ﴾ [الأعراف: 31]». أخرجه مسلم (٣٠٢٨).
* (الأعراف):
سُمِّيتْ بذلك؛ لأنَّ فيها ذِكْرَ (الأعراف).
* (طُولَى الطُّولَيَينِ):
لِما جاء عن مَرْوانَ بن الحكَمِ، قال: قال لي زيدُ بن ثابتٍ: «ما لك تَقرَأُ في المغربِ بقِصَارٍ وقد سَمِعْتُ النبيَّ ﷺ يَقرَأُ بطُولَى الطُّولَيَيْنِ؟!». أخرجه البخاري (764).
ولعلَّ الإطلاقَ الوارد في السورة من بابِ الوصف، لا من باب التسمية؛ وهذا أقرب.
انظر: "أسماء سور القرآن الكريم وفضائلها" لمنيرة الدوسري (ص196).
* مَن أخَذها عُدَّ حَبْرًا:
فعن عائشةَ رضي الله عنها، عن رسولِ الله ﷺ، قال: «مَن أخَذَ السَّبْعَ الأُوَلَ مِن القرآنِ، فهو حَبْرٌ». أخرجه أحمد (24575).
* ومِن عظيم فضلها أنها تقابِلُ التَّوْراةَ مع بقيةِ السُّوَر الطِّوال:
فعن واثلةَ بن الأسقَعِ رضي الله عنه، قال: قال رسولُ الله ﷺ: «أُعطِيتُ مكانَ التَّوْراةِ السَّبْعَ الطِّوالَ». أخرجه أحمد (17023).
أُثِر عن النبيِّ ﷺ قراءتُه لسورة (الأعراف) في صلاةِ المغرب:
فعن مَرْوانَ بن الحكَمِ: أنَّ زيدَ بنَ ثابتٍ قال: «ما لي أراكَ تَقرأُ في المغربِ بقِصارِ السُّوَرِ وقد رأيتُ رسولَ اللهِ يَقرأُ فيها بأطوَلِ الطُّوليَينِ؟! قلتُ: يا أبا عبدِ اللهِ، ما أطوَلُ الطُّوليَينِ؟ قالَ: الأعرافُ». أخرجه النسائي (٩٨٩).
اشتمَلتْ سورةُ (الأعراف) على عِدَّة موضوعاتٍ؛ وهي على الترتيب:
مهمَّة القرآن ووجوبُ اتباعه (١-٩).
خَلْقُ آدم وعداوةُ الشيطان له (١٠-٢٥).
تحذير الناس من فتنة الشيطان (٢٦-٣٠).
إباحةُ الطيِّبات، وتحريم الفواحش (٣١-٣٤).
إرسال الرسول، وعاقبة التكذيب (٣٥-٤١).
بين أصحاب الجنَّة وأصحاب النار (٤٢-٤٥).
أصحاب الأعراف (٤٦-٥٣).
مظاهر قدرة الله تعالى (٥٤-٥٨).
قصة نوح عليه السلام (٥٩-٦٤).
قصة هود عليه السلام (٦٥-٧٢).
قصة صالح عليه السلام (٧٣-٧٩).
قصة لوط عليه السلام (٨٠-٨٤).
قصة شُعَيب عليه السلام (٨٥-٩٣).
أقوام الأنبياء وموقفُهم من الدعوة (٥٩-٩٣).
سُنَّة الله في المكذِّبين (٩٤-١٠٢).
قصة موسى عليه السلام (١٠٣-١٧١).
موقف فِرْعونَ من دعوة موسى (١٠٣-١٢٦).
البِطانة الفاسدة (١٢٧-١٢٩).
عاقبة الكفار، وحُسْنُ عاقبة المؤمنين (١٣٠-١٣٧).
بنو إسرائيل وعبادة الأصنام (١٣٨-١٤١).
مجيء موسى للميقات (١٤٢-١٤٧).
بنو إسرائيل وعبادة العِجل (١٤٨-١٥٩).
مخالفات بني إسرائيل وانحرافاتهم (١٦٠-١٧١).
أخذُ الميثاق على بني آدم (١٧٢-١٧٨).
أهل النار أضَلُّ من الأنعام (١٧٩-١٨٦).
السؤال عن الساعة (١٨٧-١٨٨).
الناس مخلوقون من نفسٍ واحدة (١٨٩-١٩٥).
أولياء الرحمن (١٩٦-٢٠٦).
ينظر: "التفسير الموضوعي" لمجموعة من العلماء (3 /9).
اشتملت السُّورةُ على جملةٍ من المقاصدِ العظيمة، ذكَرها ابنُ عاشور رحمه الله؛ وهي:
«التنويهُ بالقرآن، والوعد بتيسيره على النبي ﷺ ليُبلِّغَه.
النهيُ عن اتخاذ الشركاء من دون الله، وإنذارُ المشركين عن سُوءِ عاقبة الشرك في الدنيا والآخرة، ووصفُ حال المشركين وما حَلَّ بهم.
تذكيرُ الناس بنعمة خَلْق الأرض، وتحذيرُهم من التلبُّس ببقايا مكرِ الشيطان.
وصفُ أهوالِ يوم الجزاء للمجرمين، وكراماتِه للمتَّقين.
التذكير بالبعث، وتقريبُ دليله.
النهيُ عن الفساد في الأرض التي أصلَحها اللهُ لفائدة الإنسان.
التذكير ببديعِ ما أوجَده الله لإصلاحِها وإحيائها.
التذكير بما أودَع اللهُ في فطرة الإنسان من وقتِ تكوين أصله أن يَقبَلوا دعوةَ رُسُلِ الله إلى التقوى والإصلاح».
"التحرير والتنوير" لابن عاشور (8/8).