ﰡ
التفسير وأوجه القراءة
١ - افتتح الله سبحانه وتعالى سورةَ النساء بخطاب الناس جميعًا، ودعوتهم إلى تقواه وعبادته وحده منبهًا على قدرته، ووحدانيته، فقال: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ﴾؛ أي: يا بني آدم ﴿اتَّقُوا﴾ وخافوا ﴿رَبَّكُمُ﴾؛ أي: عقاب من رباكم بإحسانه، وتفضل عليكم بجوده بامتثال أوامره، واجتناب نواهيه في حقه، وحق بعضكم على بعض، والخطاب فيه عام للمكلفين الموجودين، وقت نزول الآية ذكورًا وإناثًا، والحادثين بعد ذلك إلى يوم القيامة بدليل خارجي، وهو الإجماع على أنهم مكلفون بما كلف به الموجودون، أو تغليب الموجودين على من لم يوجد كما غلب المذكور على الإناث في قوله: ﴿اتَّقُوا رَبَّكُمُ﴾ لاختصاص ذلك بجمع المذكر ﴿الَّذِي خَلَقَكُمْ﴾ وأنشأكم، وأوجدكم بطريق التناسل والتوالد ﴿مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ﴾ هي آدم، قرأ الجمهور واحدة بالتاء على تأنيث لفظ النفس، وقرأ ابن أبي عبلة ﴿واحد﴾ بغير هاء على مراعاة المعنى، إذ المراد به آدم، فالتأنيث باعتبار اللفظ، والتذكير باعتبار المعنى، وقوله: ﴿وَخَلَقَ مِنْهَا﴾؛ أي: من تلك النفس الواحدة التي هي آدم ﴿زَوْجَهَا﴾؛ أي: أمكم حواء قيل (١): هو معطوف على مقدر يدل عليه المقام؛ أي: خلقكم من نفس واحدة خلقها أولًا، وخلق منها زوجها ثانيًا، وقيل: على خلقكم فيكون الفعل الثاني مع الأول داخلًا في حيز الصلة.
وخلقها منه لم يكن بتوليد كخلق الأولاد من الآباء، فلا يلزم منه ثبوت حكم البنتية له، والأختية لنا فيها، فلا يقال: إذا كانت مخلوقةً من آدم، ونحن مخلوقون منه أيضًا تكون نسبتها إليه نسبة الولد، فتكون أختًا لنا لا أمًّا، روي (٢) أن الله سبحانه وتعالى لما خلق آدم عليه السلام، ألقى عليه النوم، ثم خلق حواء من ضلع من أضلاعه اليسرى، وهو قصير، فلما استيقظ رآها جالسة عند رأسه
(٢) الخازن.
واختلفوا في أي وقت خلقت حواء، فقال كعب الأحبار، ووهب، وابن إسحاق: خلقت قبل دخولها الجنة، وقال ابن مسعود، وابن عباس - رضي الله عنهم -: إنما خلقت في الجنة بعد دخوله إياها، والله أعلم.
﴿وَبَثَّ مِنْهُمَا﴾؛ أي: نشر من تلك النفس الواحدة، وزوجها بطريق التوالد؛ أي: أظهر وفرق من آدم وحواء ﴿رِجَالًا كَثِيرًا﴾، وذكورًا عديدًا، ﴿وَنِسَاءً﴾ كثيرةً، ونشرهم في أقطار الأرض على اختلاف أصنافهم، وصفاتهم، وألوانهم، ولغاتهم، ثم إليه بعد ذلك المعاد والمحشر. إنما وصف الرجال بالكثرة دون النساء؛ لأن حال الرجال أتم، وأكمل، وهذا كالتنبيه على أن اللائق بحال الرجال الظهور، والاشتهار، وبحال النساء الاختفاء، والخمول، وإنما أمرهم بتقوى خالقهم الذي خلقهم على هذا النظام؛ لأن خلقه تعالى لهم على هذا النمط البديع من أقوى الداعي إلى الاتقاء من موجبات نقمته، ومن أتم الزواجر عن كفران نعمته، وذلك لأنه ينبىء عن قدرة شاملة لجميع المقدورات التي من جملتها عقابهم، وعن نعمة كاملة لا يقدر قدرها.
فالتقوى نوعان: تقوى في حقه تعالى، وتقوى فيما بينهم من الحقوق، وقوله: ﴿الَّذِي خَلَقَكُمْ﴾ استدعاء للتقوى الأولى، وقوله ﴿مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ﴾ استدعاء للتقوى الثانية، فالناس جميعًا من أصل واحد، وهم أخوة في الإنسانية، والنسب، ولو أدرك الناس هذا.. لعاشوا في سعادة، وأمان، ولما كان بينهم حروب طاحنة مدمرة تلتهب الأخضر واليابس وتقضي على الكهل والوليد. وقرىء (١) ﴿وخالق منها زوجها وباث منهما﴾ على صيغة اسم الفاعل، وهو خبر مبتدأ محذوف تقديره: وهو خالق ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ﴾؛ أي: خافوا عقاب الله الذي تتحالفون، وتتناشدون به؛ أي: يناشد، ويسأل بعضكم بعضًا به حيث
وإنما كرر (٢) الأمر بالتقوى؛ لأجل بيان بعض آخر من موجبات الامتثال؛ لأن سؤال بعضهم لبعض بالله يقتضي الاتقاء من مخالفة أوامره ونواهيه. وقرأ الجمهور من السبعة ﴿تَسَاءَلُونَ﴾ قرأ أهل الكوفة منهم: بحذف التاء الثانية، تخفيفًا لاجتماع المثلين، وأصله: تتساءلون، وقرأ أهل المدينة، وابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر بالتشديد بإدغام التاء الثانية في السين.
وقرأ عبد الله ﴿تسألون به﴾ مضارع سأل الثلاثي، وقرىء ﴿تسلون﴾ بحذف الهمزة، ونقل حركتها إلى السين. قال ابن عباس: معنى تساءلون به؛ أي: تتعاطفون، وقال الضحاك، والربيع، تتعاقدون، وتتعاهدون، وقال الزجاج: تتطلبون به حقوقكم.
﴿و﴾ اتقوا ﴿الأرحام﴾؛ أي: خافوا عقاب قطيعة مودة الأرحام، فإني قد أوجبت عليكم صلَتَها، فإن قطع الأرحام من أكبر الكبائر وصلتَها باب لكل خير، فتزيد في العمر، وتبارك في الرزق وقطعها سبب لكل ضر، ولذلك وصل تقوى الرحم بتقوى الله، وصلة الرحم تختلف باختلاف الناس، فتارة تكون عادته مع رحمه الصلةَ بالإحسان، وتارةً بالخدمة، وقضاء الحاجة، وتارةً بالمكانية، وتارة بحسن العبارة وغير ذلك، ولا فرق في الرحم؛ أي: القريب بين الوارث وغيره، كالخالة والخال والنعمة وبنتها، والأم والجد والجدة، وفي الآية دليل على تعظيم حق الرحم والنهي عن قطعها، ويدل على ذلك أيضًا، الأحاديث الواردة في ذلك، وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: قال رسول الله - ﷺ -: "الرحم معلقة بالعرش، تقول: من وصلني وصله الله، ومن قطعني قطعه الله". متفق عليه.
وعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله - ﷺ - قال: "مَنْ سره أن يبسط عليه من رزقه، وينسأ في أثره، فليصل رحمه"، متفق عليه. قوله: يُنسأ في أثره؛ أي:
(٢) الجمل.
وعن جبير بن مطعم رضي الله عنه أن رسول الله - ﷺ - قال: "لا يدخل الجنة قاطع". قال سفيان في روايته: يعني قاطع رحم. متفق عليه.
وعن الحسن قال: من سألك بالله.. فأعطه، ومن سألك بالرحم. فأعطه..
وعن ابن عباس قال: الرحم معلقة بالعرش، فإذا أتاها الواصل.. بشت به، وكلمته، وإذا أتاها القاطع.. احتجبت عنه.
وقرأ جمهور (١) السبعة ﴿وَالْأَرْحَامَ﴾ بالنصب على أن يكون معطوفًا على لفظ الجلالة؛ أي: اتقوا الله، واتقوا الأرحام فصلوها، ولا تقطعوها، أو معطوفًا على محل الجار والمجرور كقولك: مررت بزيدِ وعمرًا. وقرأ حمزة بالجر، وهي قراءة النخعي، وقتادة، والأعمش عطفًا على الضمير المجرور، والمعنى عليه: واتقوا الله الذي تساءلون به وبالأرحام؛ لأن العادة جرت في العرب بأن أحدهم قد يستعطف غيره بالرحم، فيقول: أسألك باللهِ، والرحم، وربما أفرد ذلك فقال: أسألك بالرحم، وهو ضعيف عند البصريين؛ لأنه كالعطف على بعض الكلمة؛ لأن العطف على الضمير المخفوض من غير إعادة خافض، وإن كان لغةً فصيحةً فهو خلاف الكثير، كما أشار إلى ذلك ابن مالك بقوله:
وَعَوْدُ خَافِضٍ لَدَى عَطْفٍ علَى | ضَمِيْرِ خَفْضٍ لاَزِمًا قَدْ جُعِلاَ |
وَلَيْسَ عِنْدِيْ لاَزِمًا إِذْ قَدْ أَتَى | فِيْ النَّظْمِ وَالنَثْرِ الصَّحِيْحِ مُثْبَتَا |
فَالْيَوْمَ قَدْ بِتَّ تَهْجُوْنَا وَتَشْتِمُنَا | فَاذْهَبْ فَمَا بِكَ وَالأَيَّامِ مِنْ عَجَبِ |
والرقيب في صفته هو الحافظ الذي لا يغيب عنه شيء من أمر خلقه، فبين بقوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ أنه يعلم السر وأخفَى، ومن كان كذلك.. فهو جدير بأن يخاف ويتقى.
٢ - ثم ذكر تعالى اليتامى فأوصى بهم خيرًا، وأمر بالمحافظة على أموالهم فقال: ﴿وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ﴾؛ أي: وأعطوا اليتامى والصغارَ الذين لا أب لهم، أموالهم التي في أيديكم، إذا بلغوا رشداء، والخطاب فيه للأولياءِ، والأوصياء واليتامى الصغار الذين مات آباؤهم، وإن كان لهم أجداد وأمهات.
وإطلاق (١) اسم اليتامى عليهم عند إعطائهم أموالَهم، مع أنهم لا يعطونها إلا بعد ارتفاع اسم اليتيم عنهم بالبلوغ مجاز باعتبار ما كانوا عليه، ويجوز أن يراد باليتامى: المعنى الحقيقي، وبالإيتاء ما يدفعه الأولياء والأوصياء إليهم من النفقة، والكوسة لا دفعها جميعها، وهذه الآية مقيدة بقوله تعالى: ﴿فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ﴾ ولا يكون مجرد ارتفاع اليتم بالبلوغ مجوزًا لدفع أموالهم إليهم، حتى يؤنَسَ منهم الرشد.
وقال أبو السعود (٢)؛ أي: لا تتعرضوا لأموال اليتامى بسوءٍ حتى تأتيَهم، وتصلَ سالمةً، سواء أريد باليتامى الصغار، أو ما يعم الصغارَ والكبارَ، ﴿وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ﴾؛ أي: لا تتبدلوا الحرامَ الذي هو مال اليتامى ﴿بِالطَّيِّبِ﴾؛ أي: بالحلال الذي هو مالكم الذي أبيح لكم من المكاسب، بأن تتركوا أموالكم الطيبَ لكم، وتأكلوا أموالَ اليتامى من الخبيث عليكم لجودتها على أموالكم، واختلفوا (٣) في هذا التبدل، فقال سعيد بن المسيب، والنخعي، والزهري، والسدي: كان أولياء اليتامى يأخذون الجيدَ من مال اليتيم، ويجعلون مكانَه الرديء، فربما كان أحدهم يأخذ الشاة السمينة، ويجعل مكانَها الهزيلةَ، ويأخذ
(٢) أبو السعود.
(٣) الخازن.
وخلاصة ذلك (١): واحفظوا أيها الأولياء والأوصياء أموالَ اليتامى، ولا تتعرضوا لها بسوءٍ، وسلموها لهم متى آنستم منهم رشدًا ولا تتمتعوا بأموالهم في المواضع، والحالات التي من شأنكم أن تتمتعوا فيها بأموالكم، فإذا فعلتم ذلك.. فقد جعلتم مالَ اليتيم بدلًا من مالكم.
﴿وَلَا تَأكُلُوا أَمْوَالَهُمْ﴾؛ أي: أموال اليتامى مخلوطةً ومضمومةً ﴿إِلَى أَمْوَالِكُمْ﴾ حتى لا تفرقوا بين أموالهم وأموالكم في الانتفاع بها؛ لأن في ذلك قلة مبالاة بما لا يحل، وتسوية بين الحرام والحلال، فإنه لا يحل لكم من أموالهم ما زاد على قدر الأقل من أجرتكم ونفقتكم.
والمراد بالأكل هنا: سائر التصرفات المهلكة للأموال، وإنما ذكر الأكلَ؛ لأن معظم ما يقع من التصرفات؛ فهو لأجله ﴿إِنَّهُ﴾؛ أي: إن أكل أموال اليتامى بغير حق ﴿كَانَ﴾ عند الله تعالى ﴿حُوبًا﴾؛ أي: ذنبًا ﴿كَبِيرًا﴾؛ أي: عظيمًا، وإثمًا شديدًا.
والمعنى (٢): أن أكلكم أموالهم مع أموالكم إثم عظيم، وخطأُ كبير فاجتنبوه.
فإن اليتيم ضعيفٌ لا يقدر على حفظ ماله، والدفاع عنه، فهو في حاجة إلى رعاية، وحماية، وظلم الضعيف عند الله عظيم. وقرأ الجمهور (٣) ﴿حُوبًا﴾ بضم الحاء، وقرأ الحسن ﴿حُوبًا﴾ بفتح الحاء، وهي لغة تميم، وغيرهم وقرأ أبي بن كعب ﴿حُوبًا كَبِيرًا﴾ بالألف، وكلها مصادر كقال قولًا وقالًا.
٣ - ثم أرشد تعالى إلى ترك التزوج من اليتيمة إذا لم يعطها مهر أمثالها فقال: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ﴾ يا أولياء
(٢) ابن كثير.
(٣) البحر المحيط.
وعن ابن عمر: أن غيلان بن سلمة الثقفي أسلم، وله عشر نسوة في الجاهلية، فأسلمن معه، فأمره رسول الله - ﷺ - أن يختار منهن أربعًا. أخرجه الترمذي.
قال العلماء (١): فيجوز للحر أن يجمع بين أربع نسوة حرائر، ولا يجوز للعبد أن ينكح أكثر من امرأتين، وهو قول أكثر العلماء؛ لأنه خطاب لمن ولي وملك، وذلك للأحرار دون العبيد، وقال مالك في إحدى الروايتين عنه، وربيعة: يجوز للعبد أن يتزوج بأربع نسوة، واستدل بهذه الآية. وأجاب الشافعي بأن هذه الآية مختصة بالأحرار، ويدل عليه آخر الآية، وهو قوله: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا
والخوف (١) من عدم العدل يصدق بالظن والشك في ذلك، فالذي يباح له أن يتزوج ثانية أو أكثر هو من يشق من نفسه بالعدل ثقة لا شك فيها.
والخلاصة: أن البعد من الجور سبب في تشريع الحكم، وفي هذا إيماء إلى اشتراط العدل، ووجوب تحريه، وإلى أنه عزيز المنال كما قال تعالى: ﴿وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ﴾.
والعدل إنما يكون فيما يدخل تحت طاقة الإنسان، كالتسوية في المسكن، والملبس، ونحو ذلك، أما ما لا يدخل في وسعه من ميل القلب إلى واحدة دون أخرى، فلا يكلف الإنسان بالعدل فيه، وقد كان النبي - ﷺ - في آخر عهده يميل إلى عائشة أكثر من سائر نسائه، لكنه لا يخصها بشيءٍ دونهن إلا برضاهن، وإذنهن وكان يقول: "اللهم إنّ هذا قسمي فيما أملك، فلا تؤاخذني فيما لا أملك" يريد ميل القلب، وقد استبان لك مما سبق أن إباحة تعدد الزوجات مضيق فيها أشد التضييق، فهي ضرورة تباح لمن يحتاج إليها بشرط الثقة بإقامة العدل،
وصفوة القول (١): أن تعدد الزوجات يخالف المودة، والرحمة، وسكون النفس إلى المرأة، وهي أركان سعادة الحياة الزوجية؛ فلا ينبغي لمسلم أن يقدم عليه إلا لضرورة مع الثقة بما أوجبه الله تعالى من العدل، وليس وراء ذلك إلا ظلم المرء لنفسه، وامرأته وولده وأمته.
وأن من يرى الفساد الذي يدب في الأسر التي تتعدد فيها الزوجات.. ليحكم حكمًا قاطعًا؛ بأن البيت الذي فيه زوجتان أو أكثر لرجل واحد لا تستقيم له حال، ولا ينتظم له نظام.
فإنك ترى إحدى الضرتين تغري ولدها بعداوة إخوته، وتغري زوجها بهضم حقوق ولده من غيرها، وكثيرًا ما يطيع أحب نسائه إليه فيدب الفساد في الأسرة كلها.
وربما جر ذلك إلى السرقة، والزنا، والكذب، والقتل فيقتل الولد والدَه، والوالد ولده، والزوجة زوجَها، والعكس بالعكس كما دونت سجلات المحاكم.
فيجب على رجال القضاء والفتيا الذين يعلمون أن درء المقاصد مقدم على جلب المصالح، وأن من أصول الدين منع الضرر والضرار، أنْ ينظروا إلى علاج ذلك، ويضعوا من الزواجر ما يكفل منع هذه المقاصد على قدر المستطاع.
مزايا تعدد الزوجات وفوائده عند الحاجة إليه
الأصل في السعادة الزوجية: أن يكون للرجل زوج واحدة، وذلك منتهى الكمال الذي ينبغي أن يربى عليه الناس، ويقنعوا به، لكن قد يعرض ما يدعو إلى مخالفة ذلك لمصالح هامة تتعلق بحياة الزوجين، أو حاجة الأمة؛ فيكون التعدد ضربة لازب لا غنى عنه، ومن ذلك:
٢ - وأن تكبر المرأة، وتبلغ سن اليأس، ويرى الرجل حاجتَه إلى العقب، وهو قادر على القيام بنفقة غير واحدة، وكفاية الأولاد الكثيرين، وتعليمهم.
٣ - وأن يرى الرجل أن امرأةً واحدةً لا تكفيه لإحصانه؛ لأن مزاجه الخاص يدفعه إلى الحاجة إلى النساء، ومزاجها بعكس هذا، أو يكون زمن حيضها طويلًا، يأخذ جزءًا كبيرًا من الشهر، فهو حينئذ أمامَ أحد أمرين: إما التزوج بثانية، وإما الزنا الذي يضيع الدين، والمال، والصحة، ويكون هذا شرًّا على الزوجة من ضم واحدة إليها مع العدل بينهما، كما هو شرط الإباحة في الإِسلام.
٤ - وأن تكثر النساء في الأمة كثرةً فاحشة، كما يحدث عقب الحروب التي تجتاح البلاد، فتذهب بالألوف المؤلفة من الرجال فلا وسيلة للمرأة في التكسب في هذه الحال إلا بيع عفافها، ولا يخفى ما بعد هذا من شقاء على المرأة التي تقوم بالإنفاق على نفسها، وعلى ولد ليس له والد يكفله، ولا سيما عقبَ الولادة ومدة الرضاعة، والمشاهد أن اختلاط النساء بالرجال في المعامل، ومحال التجارة وغيره من الأماكن العامة قد جر إلى كثير من هتك الأعراض، والوقوع في الشقاء والبلاء، فهذه مصيبة أي مصيبة، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
حكمة تعدد زوجات النبي - ﷺ - (١)
راعى النبي - ﷺ - النصيحة في اختيار كل زوجة من زوجاته، فجذب إليه كبار القبائل بمصاهرتهم، وعلم أتباعه احترامَ النساء وإكرام كرائمهن، والعدلَ بينهن. وترك من بعده تسعَ أمهات للمؤمنين، يعلمن نساءَهم الأحكامَ الخاصة بالنساء،
وقصارى القول: إنه عليه السلام، ما أراد بتعدد الزوجات ما يريده الملوك والأمراء، والمترفون من التمتع بالنساء، إذ لو كان قد أراد ذلك لأختارهن من حسان الأبكار، لا من الكهلات الثيبات، كما قال لمن اختار ثيبًا: "هلا بكرًا تلاعبها، وتلاعبك وتضاحكها وتضاحكك". رواه الشيخان.
وقرأ الجمهور (١): ﴿أَلَّا تُقْسِطُوا﴾ بضم التاء من أقسط الرباعي بمعنى عدل، وقرأ النخعي، وابن وثاب تقسطوا بفتح التاء من قسط الثلاثي، بمعنى جار ويقال: قسط بمعنى أقسط؛ أي: عدل، وقرأ ابن أبي عبلة ﴿من طاب﴾ وقرأ الجمهور ﴿مَا طَابَ﴾ فقيل ﴿ما﴾ بمعنى من، وقيل عبر بـ ﴿ما﴾ عن النساء؛ لأن إناثَ العقلاء لنقصان عقولهن يجرين مجرى غير العقلاء.
وقرأ ابن أبي إسحاق، والجحدري، والأعمش ﴿طاب﴾. بالإمالة، وفي مصحف أبي. ﴿طيب﴾ بالياء، وهو دليل الإمالة وقرأ النخعي، ويحيى بن وثاب ﴿ثلث وربع﴾ بغير ألف، وقرأ الحسن، والجحدري، وأبو جعفر، وابن هرمز ﴿فواحدة﴾ بالرفع، ووجه ذلك ابن عطية على أنه مرفوع بالابتداء، والخبر محذوف تقديره: فواحدة كافية وقرأ ابن أبي عبلة ﴿أو من ملكت أيمانكم﴾ وقرأ الجمهور ﴿أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا﴾؛ أي: تجوروا من عال الرجل يعول إذا مال، وجار، وقرأ طلحة بن مصرف ﴿أن لا تعيلوا﴾ بفتح التاء؛ أي: لا تفتقروا من العيلة، وقرأ طاووس ﴿أن لا تعيلوا﴾ من أعال الرجل إذا كثر عياله.
٤ - ولما أذن الله سبحانه وتعالى في نكاح الأربع، وما دونها أمر الأزواج باجتناب ما كانوا عليه في الجاهلية، قيل: كان الرجل منهم يتزوج بلا مهر، ويقول: أرثك وترثيني، فتقول: نعم، فأمروا بأن يسرعوا إعطاء المهور، فقال: ﴿وَآتُوا النِّسَاءَ﴾؛ أي: وأعطوا أيها الأزواج النساء اللواتي تعقدون عليهن
وسمي (١) الصداق نحلة من حيث أنه لا يجب في مقابلته غير التمتع دون عوض مالي، وقيل (٢): معناه: فريضة كما قاله ابن عباس، وقتادة، وابن جريج، وابن زيد، وإنما فسروا النّحلة بالفريضة؛ لأن النحلة في اللغة معناها: الديانة، والملة، والشرعة، والمذهب فقوله تعالى: ﴿وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً﴾؛ أي: أعطوهن مهورهن؛ لأنها شريعة، ودين، ومذهب، وما هو كذلك، فهو فريضة ﴿فَإِنْ طِبْنَ﴾ النساء المتزوجات ﴿لَكُمْ﴾ أيها الأزواج ﴿عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ﴾؛ أي: من الصداق المعين فوهبن لكم شيئًا منه بطيب نفس من غير أن يكون السبب فيه شكاسة أخلاقكم معهن، أو سوء معاشرتكم معهن؛ أي: فإن طابت نفوسهن بإعطائكم شيئًا من الصداق من غير ضرار، ولا خديعة ﴿فَكُلُوهُ﴾؛ أي: فخذوا ذلك الشيء وتصرفوا فيه، وانتفعوا به، وهو أمر إباحة، وعبر بالأكل؛ لأنه معظم الانتفاع؛ أي: ﴿فَكُلُوهُ﴾ أكلًا ﴿هَنِيئًا﴾؛ أي: حلالًا لا إثم عليه في الدنيا ﴿مَرِيئًا﴾؛ أي: طيبًا لا مؤاخذة عليه في الآخرة.
ومن ثم (٣): لا يجوز للرجل أن يأكل شيئًا من مال امرأته، إلا إذا علم أن نفسها طيبة به، فإذا طلب منها شيئًا وحملها الخوف أو الخجل على إعطاء ما طلب، فلا يحل له، ألا ترى أن الله سبحانه وتعالى نهى عن أخذ شيء، من المرأة، في طور المفارقة فقال: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ
(٢) مراح.
(٣) المراغي.
قال الشوكاني (٢): فإذا ظهر منها ما يدل على عدم طيبة نفسها لم يحل للزوج، ولا للولي، وإن كانت قد تلفظت بالهبة، أو النذر، أو نحوهما، وما أقوى دلالة هذه الآية على عدم اعتبار ما يصدر من النساء من الألفاظ المفيدة للتمليك بمجردها لنقصان عقولهن، وضعف إدراكهن وسرعة انخداعهن، وانجذابهن إلى ما يراد منهن بأيسر ترغيب أو ترهيب انتهى.
وقرأ الجمهور (٣): ﴿صَدُقَاتِهِنَّ﴾ بفتح الصاد، وضم الدال جمع صدقة على وزن سمرة، وقرأ قتادة وغيره، بإسكان الدال وضم الصاد جمع صدقة على وزن غرفة، وقرأ مجاهد، وموسى بن الزبير، وابن أبي عبلة، وفياض بن غزوان، وغيرهم: ﴿صدقاتهن﴾ بضمهما، وقرأ النخعي، وابن وثاب: ﴿صدقتهن﴾ بضمهما، وبالإفراد، وهو تثقيل صدقة، كظلمة في ظلمة.
وقرأ الحسن، والزهري ويزيد، وكذا حمزة في الوقف ﴿هنيا مريا﴾ بلا همزة، أبدلوا الهمزة التي هي لام الكلمة ياءً، وأدغموا فيها ياء المدح، وهمزهما الباقون.
(٢) فتح القدير.
(٣) البحر المحيط.
وقيل (١): المراد بالسفهاء: امرأتك، وابنك السفيه. قال ابن عباس: لا تعمد إلى مالك الذي خوله الله لك، وجعله لك معيشةً فتعطيه امرأتَك، وابنك فيكونوا هم الذين يقومون عليك، ثم تنظر إلى ما بين أيديهم، أمسك مالك، وأصلحه، وكن أنت الذي تنفق عليهم في رزقهم، ومؤونتهم.
ومعنى جعل الأموال قيامًا للناس (١): أن بها تقوم وتثبت منافعهم، ومرافقهم، فمنافعُهم الخاصة ومصالحهم العامة، لا تزال قائمة ثابتة ما دامت أموالهم في أيدي الراشدين المقتصدين منهم، الذين يحسنون تثميرها، وتوفيرَها، ولا يتجاوزون حدودَ المصلحة في الإنفاق.
وفي هذا حث عظيم على الاقتصاد بذكر فوائده، وتنفير من الإسراف والتبذير ببيان مغبته (٢)، فإن الأموال إذا وقعت في أيدي السفهاء المسرفين، فات ما كان من تلك المنافع قائمًا، ومن ثم وصف الله تعالى المؤمنين بقوله: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا﴾ وقد ورد في السنة النبوية حث كثير على الاقتصاد من ذلك: ما رواه أحمد عن ابن مسعود "ما عال من اقتصد" وما رواه الطبراني والبيهقي عن ابن عمر "الاقتصاد في النفقة نصف المعيشة، والتودد إلى الناس نصف العقل، وحسن العقل نصف العلم".
وإن من أشد العجب أن يكون حال المسلمين اليومَ ما نرى من الإسراف والتبذير، بإنفاق أموالهم في غير مصارفها، من المغنيات، والملاهي، وسائر وجوه المحرمات، وكتابهم يهديهم إلى ما للاقتصاد من فوائد، وما للتبذير من مضار، انظر إلى ما للمال في هذا الزمن من المنزلة التي لا يقدر قدرها حتى صارت جميع المرافق موقوفة على المال، وأصبحت الأمم الجاهلة بطرق الاقتصاد، وليس في أيديها المال مستذلة مستعبدة للأمم الغنية ذات البراعة في الكسب والإحسان في الاقتصاد، وجمع المال، ولا سبب لهذا إلا أنا نبذنا هدي
(٢) مغبته - بتشديد الباء المفتوحة -: أي عاقبته اهـ م.
وقرأ الحسن (١)، والنخعي ﴿اللاتي جعل الله لكم قيامًا﴾ وهو في المعنى جمع التي، وقرأ الجمهور ﴿الَّتِي﴾ بالإفراد، قال ابن عطية: والأموال جمع لا يعقل، فالأصوب فيه قراءة الجماعة انتهى كما قال بعضهم:
وَجَمْعُ كَثْرَةٍ لِمَا لاَ يَعْقِلُ | الأفْصَحُ الإِفرَادُ فِيهِ يَا فُلُ |
وقرأ نافع، وابن عامر ﴿قيمًا﴾ وجمهور السبعة ﴿قِيَامًا﴾ ولما انكسرت القاف في قوام، أبدلوا الواو ياءً. وعبد الله بن عمر ﴿قوامًا﴾ بكسر القاف، والحسن، وعيسى بن عمر ﴿قوامًا﴾ بفتحها، ورويت عن أبي عمرو، وقرىء شاذًا ﴿قومًا﴾ فأما ﴿قيمًا﴾ فمصدر كالقيام، والقوام، قاله الكسائي، والفراء، والأخفش، وليس مقصورًا من قيام، وقيل: هو مقصور منه. قالوا: حذفت الألف كما حذفت في خيم وأصله خيام.
﴿وَارْزُقُوهُمْ﴾؛ أي: وأطعموا السفهاء، واليتامى ﴿فِيهَا﴾؛ أي: من أموالهم التي في أيديكم، وأنفقوا عليهم منها ﴿وَاكْسُوهُمْ﴾؛ أي: ألبسوهم منها، وإنما قال الله ﴿فِيهَا﴾ ولم يقل: منها. كما هو ظاهر السياق، لئلا يكون ذلك أمرًا بجعل
والمعنى: أيها الأولياء الذين عهد إليكم حفظ أموال اليتامى والسفهاء، وتثميرها حتى كأنها أموالكم، عليكم أن تنفقوا عليهم فتقدموا لهم كفايتَهم من الطعام، والثياب وغير ذلك.
والرزق (١) من الله تعالى: هو العطية من غير حد، ولا قطع، ومعنى الرزق من العباد: هو الأجر الموظف المعلوم لوقت معلوم محدود.
والرزق يعم وجوه الإنفاق كلها، كالأكل، والكسوة، والسكن، والزواج، وإنما خص الكسوةَ بالذكر؛ لأن الناس يتساهلون فيها أحيانًا ﴿وَقُولُوا﴾: أيها الأولياء ﴿لَهُمْ﴾؛ أي: لليتامى، والسفهاء ﴿قَوْلًا مَعْرُوفًا﴾؛ أي: جميلًا، حسنًا، شرعًا، وعقلًا وهو كل ما سكنت إليه النفس، واطمأنت به؛ لأن القول الجميل يؤثر في القلب، ويزيل السفَهَ، كأن يقول الولي له: إذا كان صغيرًا المال مالك، وأنا أمين عليه، وخازن له لك، وإذا كبرت ورشدتَ سلمت إليك أموالك، وإذا كان سفيهًا وعظه، ونصحه، ورغبه في ترك التبذير والإسراف، وعرفه أن عاقبةَ ذلك الفقر والاحتياج إلى الخلق إلى نحو ذلك، كما يعلمه كل ما يوصله إلى الرشد، وبذا قد تحسن حاله، فربما كان السفه عارضًا لا فطريًّا، فبالنصح والإرشاد، والتأديب يزول ذلك العارض، ويصبح رشيدًا.
وأين هذا مما يفعله الأولياء والأوصياء من أكل أموال السفهاء ومدهم في غيهم، وسفههم حتى يحولوا بينهم وبين أسباب الرشد. وما مقصدهم من ذلك إلا بقاء الأموال تحت أيديهم يتمتعون بها، ويتصرفون فيها بحسب أهوائهم وشهواتهم!.
٦ - وبعد أن أمر الله سبحانه وتعالى بإيتاء اليتامى أموالَهم، وكان هذا مجملًا
قال أبو حنيفة رحمه الله (٢): تصرفات الصبي العاقل المميز بإذن الولي صحيحة؛ لأن قوله تعالى: ﴿وَابْتَلُوا الْيَتَامَى﴾ أمر للأولياء بأن يأذنوا لهم في البيع والشراء قبل البلوغ، وذلك يقتضي صحة تصرفاتهم، وقال الشافعي: ولا يصح عقد الصبي المميز بل يُمتحن في المماكسة، فإذا أراد العقد.. عقد الولي؛ لأنه لا يجوز دفع المال إليه حال الصغر، فثبت عدمُ جواز تصرفه حالَ الصغر ﴿حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ﴾؛ أي: اختبروهم في عقولهم، وجربوهم في تصرفاتهم إلى وقت بلوغهم زمن صلاحية النكاح، والزواج، والوطء بأن يبلغ بالاحتلام، أو باستكمال خمس عشرة سنة، عند الشافعي، أو ثماني عشرة سنة عند أبي حنيفة، وبلوغ النكاح كناية عن البلوغ؛ لأنه يصلح للنكاح عنده، فإذا بلغوا، ووصلوا زمنَ صلاحية النكاح ﴿فَإِنْ آنَسْتُمْ﴾ وعلمتم ﴿مِنْهُمْ﴾؛ أي: من اليتامى الذين وصلوا زمن النكاح والزواج ﴿رُشْدًا﴾؛ أي: هداية في التصرفات، وصلاحًا في المعاملات من غير تبذير، وعجز عن خديعة الغير، وقيل: معنى رشدًا؛ أي: عقلًا، وصلاحًا في الدين، وحفظًا للمال، وعلمًا بما يصلحه ﴿فَادْفَعُوا﴾، وسلموا ﴿إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ﴾ التي عندكم من غير تأخير عن وقت البلوغ، وإنما تدفع إليهم أموالهم بعد بلوغهم، وإيناس الرشد منهم.
(٢) مراح.
وظاهر عموم اليتامى اندراج البنات في هذا الحكم، فيكون حكمهن حكم البنين في ذلك، فقيل: يعتبر رشدها، وإن لم تتزوج بالبلوغ.
وقال المراغي (٢) والمعنى: أيها الأولياء، ابتلوا اليتامى إلى ابتداء البلوغ، وهو الحد الذي يبلغون فيه سن النكاح، فإن آنستم منهم بعد البلوغ رشدًا، فادفعوا إليهم أموالهم، وإلا فاستمروا على الابتلاء حتى تأنسوه منهم، ويرى أبو حنيفة دَفعَ مال اليتيم إليه، إذا بلغ خمسًا وعشرين سنةً، وإن لم يرشد. انتهى.
وقرأ (٣) ابن مسعود ﴿فإن أحستم منهم رشدًا﴾ يريد أحسستم فحذف عين الكلمة، وهذا الحذف شذوذ، لم يرد إلا في ألفاظ يسيرة، وحكى غير سيبويه أنها لغة سليم، وقرأ ابن مسعود، وأبو عبد الرحمن، وأبو السمال، وعيسى الثقفي ﴿رشدًا﴾ بفتحتين، وقرىء شاذًا ﴿رشدًا﴾ بضمتين، قيل: هما لغتان، وقيل: هو بالضم مصدر رشد، من باب: قعد، وبالفتح مصدر رَشِدَ من باب: طرب، وقراءة الجمهور ﴿رُشْدًا﴾ بضم الراء، وسكون الشين.
فصل في بيان البلوغ
البلوغ يحصل بأربعة أشياء: اثنان يشترك فيهما الرجال والنساء، واثنان
(٢) المراغي.
(٣) البحر المحيط.
فأحدهما: السن، فإذا استكمل المولود خمس عشرة سنةً حكم ببلوغه غلامًا كان أو جاريةً، ويدل عليه ما روي عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: عرضت على رسول الله - ﷺ - عام أحد، وأنا ابن أربع عشرة سنة، فردني ثم عرضت عليه عام الخندق، وأنا ابن خمس عشرة سنة فأجازني. أخرجه الشيخان في "الصحيحين".
وهذا قول أكثر أهل العلم، وقال أبو حنيفة: بلوغ الجارية باستكمال سبع عشرة سنة، وبلوغ الغلام باستكمال ثماني عشرة سنة.
والثاني: الاحتلام، وهو إنزال المني الدافق سواء أنزل باحتلام أو جماع؛ فإذا وجد ذلك من الصبي أو الجارية حكم ببلوغه، لقوله تعالى: ﴿وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ﴾ ولقوله - ﷺ - لمعاذ: "خذ من كل حالم دينارًا" أما إنبات الشعر الخشن حول الفرج، فهو يدل على البلوغ في أولاد المشركين، لما روي عن عطية القرظي قال: كنت من سبط قريظة، فكانوا ينظرون، فمن أثبت الشعر قتل، ومن لم ينبت لم يقتل، فكنت ممن لم ينبت، وهل يكون ذلك علامة على البلوغ في أولاد المسلمين؟ فيه قولان:
أحدهما: أنه يكون بلوغًا كما في أولاد المشركين.
والثاني: لا يكون ذلك بلوغًا في حق أولاد المسلمين؛ لأنه يمكن الوقوف على مواليد أولاد المسلمين، والرجوع إلى قول آبائهم بخلاف الكفار، فإنه لا يوقف على مواليدهم، ولا يقبل في ذلك قول آبائهم لكفرهم فجعل الإنبات الذي هو أمارة البلوغ بلوغًا في حقهم.
وأما الذي يختص بالنساء: فهو الحيض والحبل، فإذا حاضت الجارية بعد استكمال تسع سنين، حكم ببلوغِهَا، وكذلك إذا ولدت حكم ببلوغها، قبل الوضع بستة أشهر؛ لأنها أقل مدة الحمل. قيل (١): ومن علامات البلوغ الحيض
﴿وَلَا تَأكُلُوها﴾؛ أي: ولا تأكلوا أيها الأولياء، والأوصياء أموالَ اليتامى حالةَ كونكم ﴿إِسْرَافًا﴾؛ أي: مسرفين، ومجاوزين الحد الشرعي، في الإنفاق، ولو على اليتيم نفسه ﴿و﴾ حالة كونكم ﴿بدارًا﴾؛ أي: مبادرينَ ومسرعين إلى إنفاقها ﴿أَنْ يَكْبَرُوا﴾؛ أي: مخافة كبرهم، رشداءَ فيمنعوكم عن ذلك، ويلزمكم تسليمها إليهم، وتقولون: ننفق كما نشتهي قبل أن يكبر اليتامى، فينزعوها من أيدينا.
ولما كانت هاتان الحالتان الإسراف ومسابقة كبر اليتيم ببعض التصرف من مواطن الضعف التي تعرض للإنسان نهى الله عنهما، ونبه الأولياء إلى خطرهما حتى يراقبوا ربهم إذا عرضتا لهم، أما الأكل من مال اليتيم بلا إسراف ولا مبادرة خوفَ أخذها عند البلوغ، فقد ذكر الله تعالى حكمه بقوله: ﴿وَمَنْ كَانَ﴾ منكم أيها الأولياء ﴿غَنِيًّا﴾؛ أي: غير محتاج إلى شيء من مال اليتيم الذي تحت ولايته ﴿فَلْيَسْتَعْفِفْ﴾؛ أي: فليعف نفسه عن الأكل من ماله، وليتنزه عن أكله، وليقنع بما آتاه الله من الرزق، إشفاقًا على اليتيم، وإبقاءً على ماله، ولا ينقص منه شيئًا قليلًا ولا كثيرًا ﴿وَمَنْ كَانَ﴾ منكم ﴿فَقِيرًا﴾؛ أي: محتاجًا لا يستغنى عن الانتفاع بشيء من مال اليتيم الذي يشغل بعض وقته في تثميره، وحفظه ﴿فَلْيَأكُلْ﴾ منه ﴿بِالْمَعْرُوفِ﴾ شرعًا، وعند الناس وهو ما يبيحه الشرع، ولا يستنكره أرباب المروءة، ولا يعدونه خيانةً، وطمعًا، وقيل (١): ﴿بِالْمَعْرُوفِ﴾؛ أي: بقدر أجرة خدمته لليتيم، وعمله في ماله، وقيل ﴿بِالْمَعْرُوفِ﴾؛ أي: بالقرض، ثم إذا أيسر قضاه، وإن مات، ولم يقدر على القضاءِ، فلا شيء عليه، وهذا قول سعيد بن
وقد روى أحمد عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رجلًا سأل النبي - ﷺ - قال: ليس لي مال وإني ولي يتيم، فقال: "كل (١) من مال يتيمك، غير مسرف، ولا متأثل مالًا، ومن غير أن تقي مالك بماله".
والحكمة في هذا: أن اليتيم يكون في بيت الولي كولده، والخير له في تربيته أن يخالط الولي وأهله في المؤاكلة والمعاشرة، فإذا كان الولي غنيًّا لا طمع له في ماله، كانت المخالطة مصلحة لليتيم، وإن كان ينفق فيها شيء من ماله فبقدر حاجته، وإن كان فقيرًا.. فهو لا يستغني عن إصابة بعض ما يحتاج إليه من مال اليتيم الغني الذي في حجره، فإن أكل من طعامه ما جرى به العرف بين الخلطاء غير مصيب من صلب المال شيئًا، ولا متأثل لنفسه منه عقارًا، ولا مالًا
﴿فَإِذَا دَفَعْتُمْ﴾ وسلمتم أيها الأولياء، والأوصياء ﴿إِلَيْهِمْ﴾؛ أي: إلى اليتامى ﴿أَمْوَالَهُمْ﴾ بعد البلوغ، والرشد، ﴿فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ﴾؛ أي: على استلامهم إياها، منكم بإقباضكم إياهم، وبراءة ذممكم منها كي لا يكون نزاع بينكم، فإنه أنفى للتهمة، وأبعد من الخصومة.
وهذا (١) الإشهاد واجب عند الشافعية، والمالكية؛ إذ أن تركه يؤدي إلى التخاصم، والتقاضي كما هو مشاهد، وجعله الحنفية مندوبًا، لا واجبًا ﴿وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا﴾؛ أي: وكفى الله سبحانه وتعالى محاسبًا، ومجازيًا للمحسنين، والمسيئين، وشاهدًا عليهم، فعليكم بالتصادق، وإياكم والتكاذب فإنه يحاسبكم على ما تسرون، وما تعلنون، فلا تخالفوا ما أمرتم به، ولا تتجاوزوا ما حَدَّ لكم.
وقد جاء بهذا بعد الأمر بالإشهاد، ليرشدنا إلى أن الإشهاد، وإن أسقط الدعوى بالمال عند القاضي فهو لا يسقط الحق عند الله، إذا كان الولي خائنًا. فإن الله لا يخفى عليه ما يخفى على الشهود، والحُكّام، وعلى الجملة فإنك ترى أن الله تعالى حاط أموالَ اليتامى بضروب من الصيانة، والحفظ، فأمر باختبار اليتيم، قبل دفع ماله إليه، ونهى عن أكل شيء منه بطرق الإسراف، ومبادرة كبره، وأمرَ بالإشهاد عليه عند الدفع، ونبه إلى مراقبة الله تعالى في جميع التصرفات الخاصة به.
٧ - ﴿لِلرِّجَالِ﴾؛ أي: للذكور من أولاد الميت، وأقربائه صغارًا أو كبارًا ﴿نَصِيبٌ﴾؛ أي: حظ ﴿مِمَّا تَرَكَ﴾؛ أي: من الميراث الذي تركه ﴿الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ﴾ المتوفون ﴿وَلِلنِّسَاءِ﴾؛ أي: وللإناث من بنات الميت، وقراباته، ﴿نَصِيبٌ﴾؛ أي: حظ ﴿مِمَّا تَرَكَ﴾ ﴿الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ﴾ المتوفون قيل: سبب نزول هذه الآية: خبر أم كحلة زوجة أوس بن ثابت الأنصاري، وقد تقدم في أسباب النزول.
وقد أجمل الله سبحانه وتعالى في هذه الآية قدر النصيب المفروض ثُمَّ أنزل قوله ﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ﴾ فبين ميراث كل فرد، ومعنى الآية (٤) أنه إذا كان لليتامى مالُ مما تركه لهم الوالدان والأقربون، فهم فيه سواء لا فرق بين الرجال والنساء، ولا فرق بين كونه كثيرًا أو قليلًا، وأتى بقوله: ﴿نَصِيبًا مَفْرُوضًا﴾ لبيان أنه حق معين مقطوع به، ليس لأحد أن ينقص منه شيئًا، ولا أن يحابى فيه.
٨ - ﴿وَإِذَا حَضَرَ﴾ وجاء ﴿الْقِسْمَةَ﴾؛ أي: محل قسمة التركة بين الورثة {أُولُو
(٢) فتح القدير.
(٣) البيضاوي.
(٤) المراغي.
وقيل: الخطاب في الآية على التوزيع، فالخطاب في الرزق للورثة الكاملين، وفي القول لأولياء الورثة غير الكاملين، والمعنى حينئذ. فارزقوهم أيها الورثة الكاملون من المال المقسوم شيئًا من الرضخ، وقولوا: يا أولياء الورثة غير الكاملين لهؤلاء الأصناف الحاضرين قولًا معروفًا جميلًا كأن يقول الولي لهم: هذا المالُ لهؤلاء الضعفاء، الذين لا يعقلون، وليس لي فيه حق فأعطيكم، ولكن إذا كبروا فيعرفون حقوقكم، فيعطوكم، أو يقول: سأوصيهم ليعطوكم شيئًا إذا كبروا.
والسر في إعطائهم شيئًا من التركة: أنه ربما يسري الحسدُ إلى نفوسهم، فينبغي التودد إليهم، واستمالتهم باعطائهم قدرًا من هذا المال هبةً، أو هدية، أو إعداد طعام لهم يوم القسمة، ليكون في هذا صلة للرحم، وشكر للنعمة.
قال سعيد بن جبير: هذا الأمر أعني أمر الإعطاء للوجوب، وقد هجره الناس كما هَجروا العملَ بالاستئذان عند دخول البيوت، والمعتمد أنه ندبُ.
٩ - قوله: ﴿وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ﴾ هو خطاب (١) مع الذين يجلسون عند المريض فيقولون له: إن ذريَتك وورثتَك لن يغنوا عنك من عذاب الله شيئًا، فأوص مالَك لفلان، ولفلان، ولا يزالون يأمرونه بالوصية إلى الأجانب إلى أن لا يَبْقَى من ماله للورثة شيءٌ أصلًا.
وحاصل الكلام: أنك لا ترضى مثل هذا الفعل لنفسك، فلا ترضه لأخيك المسلم، وعن أنس رضي الله عنه قال: قال النبي - ﷺ - "لا يؤمن العبد حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه".
والمعنى: وليخف الله تعالى الذين يجلسون عند المريض، ويأمرونه بإيصاء كل ماله، وليْتَّقُوا الضياعَ والفقرَ على أولاد ذلك المريض، الذي أمروه بإيصاء كل ماله؛ كما أنهم يخافون الضياع، والفقر على أولاد أنفسهم، لو أوصوا بجميع مالهم، وتركوا من بعد موتهم ذريةً ضِعافًا، وقوله: ﴿ضِعَافًا﴾ بمعنى صغارًا لا يقومون بأمرهم، يقرأ بالتفخيم على الأصل، وبالإمالة لأجل الكسرة، وجاز ذلك مع حرف الاستعلاء؛ لأنه مكسور مقدم، ففيه انحدار، وقوله: ﴿خَافُوا﴾ يقرأ بالتفخيم على الأصل، وبالإمالة؛ لأن الخاء تنكسر في بعض الأحوال، وهو خفت، وهو جواب لو، ومعناها إن. ذكره أبو البقاء. ﴿فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ﴾؛ أي: فليخافوا عقابَ الله في أمر ذلك المريض بإيصاء كل ماله، وترك أولاده عالة يتكففون الناسَ ﴿وَلْيَقُولُوا﴾ لذلك المريض ﴿قَوْلًا سَدِيدًا﴾؛ أي: قولًا عدلًا صوابًا بأن يقولوا له: إنك إن تذَر ورثتَك أغنياء خيرٌ لك من أن تذرهم عالةً يتكففون الناس، فالقول السديد: هنا أن يأمروه أن يخلفَ ماله لولده، ويتصدق بما دون الثلث، أو الثلث، ويأمروه أن يتخلص من حقوق الله، وحقوق العباد، وأن
قال (١) ابن كثير: قوله تعالى: ﴿وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ﴾ الآية. قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: هذا في الرجل يحضره الموتُ فيسمعه رجل يوصي بوصية تضر بورثته، فأمر الله تعالى الذي يسمعه أن يتقي الله ويوفقه ويسددَه للصواب، فينظرَ لورثته كما كان يحب أن يصنع بورثته، إذا خشي عليهم الضيعةَ، وهكذا قال مجاهد، وغير واحد، وثبت في "الصحيحين" أن رسول الله - ﷺ - لما دخل على سعد بن أبي وقاص يعوده، قال: يا رسول الله، إني ذو مال، ولا يرثني إلا ابنة، أفأتصدق بثلثي مالي، قال: لا قال: فالشطر، قال: لا. قال: فالثلث. قال: "الثلثُ والثلثُ كثير"، ثم قال رسول الله - ﷺ -: "إنك تذرَ ورثتك أغنياء، خير من أن تذرهم عالةً يتكففون الناس" انتهى.
والمعنى (٢): كما أنكم تكرهون بقاءَ أولادكم في الضعف والجوع من غير مال، فاخشوا الله، ولا تحملوا المريضَ على أن يحرم أولادَه الصغارَ من ماله.
وحاصل الكلام: كما أنك لا ترضى مثلَ هذا الفعل لنفسك، فلا ترضه لأخيك المسلم. قيل: الآية تحتمل أن تكون خطابًا لمن حضر أجله، ويكون المقصود نهيه عن تكثير الوصية، لئلا تبقى ورثته فقراءَ ضعافًا ضائعينَ بعد موته، والمعنى على هذا القول؛ أي: وليخش الله سبحانه وتعالى في تكثير الوصية: المُوصُونَ الذين يخافون على أولادهم الضياعَ والفقرَ لو تركوهم من خلفهم ذريةً، ضعافًا صغارًا بلا مال، فليتقوا عقابَ الله في حرمانهم، وليقولوا في إيصائهم قولًا سديدًا، بأن اقتصروا في إيصائهم على الثلث، أو نَقَصُوا عنه.
وقيل: الآية (٣) خطاب لأولياء اليتامى، والمعنى: وليخش من خاف على ولده من بعد موته أن يضيع مال اليتيم الضعيف الذي هو ذرية غيره، إذا كان في حجره، والمقصود من الآية: من كان في حجره يتيم فليحسن إليه، سواءً كان
(٢) الخازن.
(٣) الخازن.
وعبارة البيضاوي هنا: قوله تعالى (١): ﴿وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً﴾ الآية. أمر للأوصياء بأن يخشوا الله تعالى ويتقوه في أمر اليتامى، فيفعلوا بهم ما يحبون أن يفعل بذراريهم، الضعاف بعد وفاتهم، أو أمر للحاضرين المريضَ عند الإيصاء بأن يخشوا ربهم، أو يخشوا على أولاد المريض، ويشفقوا عليهم شفقتهم على أولادهم، فلا يتركوه أن يضر بهم بصرف المال عنهم، أو أمر للورثة بالشفقة على من حضر القسمة من ضعفاء الأقارب واليتامى، والمساكين متصورينَ أنهم لو كانوا أولادَهم بقوا خلفهم ضِعَافًا مثلهم هل يجوزون حرمانهم؟ أو أمر للموصين بأن ينظروا للورثة، فلا يسرفوا في الوصية انتهت. فالقول (٢) السديد من الجالسين عند المريض هو أن يأمروه أن يتصدق بدون الثلث، ويترك الباقيَ لولده وورثته، وأن لا يحيف في وصيته، والقول السديد من الأوصياء، وأولياء اليتامى أن يكلموهم كما يكلمون أولادهم، ولا يؤذوهم بقول ولا فعل. وقرأ الزهري والحسن، وأبو حيوة، وعيسى بن عمر بكسر لام الأمر في ﴿ولِيخش﴾، وفي ﴿فلِيتقوا﴾، وفي ﴿ولِيقولوا﴾ وقرأ الجمهور بالإسكان.
١٠ - ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى﴾، وينتفعون بها ﴿ظُلْمًا﴾؛ أي: حالةَ كونهم ظالمينَ، أو على سبيل الظلم وهضم الحقوق لا أكلًا بالمعروف عند الحاجة إلى ذلك، أو تقديرًا لأجرة العمل ﴿إِنَّمَا يَأكُلُونَ فِي﴾ ملء ﴿بُطُونِهِمْ نَارًا﴾؛ أي: حرامًا يكون سببًا لعذاب النار. ونبه بقوله: ﴿فِي بُطُونِهِمْ﴾ على نقصهم، ووصفهم بالشره في الأكل، والتهافت في نيل الحرام بسبب البطن ﴿وَسَيَصْلَوْنَ﴾؛ أي: وسيدخلون يوم القيامة ﴿سَعِيرًا﴾؛ أي: نارًا متقدة ذات لهب
(٢) الخازن.
وإنما خص الأكل بالذكر، وإن كان المراد سائر أنواع الإتلافات، وجميع التصرفات الرديئة المتلفة للمال؛ لأن الضررَ يحصل بكل ذلك لليتيم، فعبر عن جميع ذلك بالأكل؛ لأنه معظم المقصود، وإنما ذكر البطون للتأكيد؛ فهو كقولك رأيت بعيني، وسمعت بأذني.
وروى السدي (١): يبعث آكل مال اليتيم يوم القيامة، ولهبُ النار يخرج منْ فيه، ومن مسامعه، وأنفه، وعينيه يعرفه كل من رآه بآكل مال اليتيم.
وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: لما نزلت ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا﴾ الآية: انطلق من كان عنده يتيم فعزلَ طعامَه من طعامه، وشرابَه من شرابه، فجعل يفضل الشيء فيحبس له حتى يأكلَه، أو يفسدَ فاشتدَ ذلك عليهم، فذكروا ذلك لرسول الله - ﷺ - فأنزل الله ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ﴾ فخلطوا طعامهم بطعامهم، وشرابهم بشرابهم.
وقرأ الجمهور ﴿وَسَيَصْلَوْنَ﴾ مبنيًّا للفاعل من الثلاثي، من صلي النار يصلاها من باب رضي، والصلي هو التسخن بقرب النار، أو مباشرتها، وقرأ (٢) ابن عامر، وأبو بكر، وعاصم بضم الياء وفتح اللام مبنيًّا للمفعول من الثلاثي. وقرأ ابن أبي عبلة، وأبو حيوة بضم الياء وفتح الصاد، واللام مشددةً، مبنيًّا للمفعول من التصلية بكثرة الفعل مرة بعد أخرى.
وعبر بالصلي بالنار عن العذاب الدائم بها؛ إذ النار لا تذهب ذواتَهم بالكلية، بل كما قال: ﴿كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ﴾، وهذا وعيد عظيم على هذه المعصية، والسعير: الجمر المشتعل.
(٢) البحر المحيط والشوكاني.
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ﴾.
﴿يَا﴾ حرف نداء ﴿أي﴾ منادى نكرة مقصودة. ﴿ها﴾ حرف تنبيه زائد، تعويضًا عما فات ﴿أي﴾ من الإضافة. ﴿النَّاسُ﴾ صفة لـ ﴿أي﴾ تابع للفظه، وجملة النداء مستأنفة. ﴿اتَّقُوا﴾ فعل وفاعل والجملة جواب النداء لا محل لها من الإعراب. ﴿رَبَّكُمُ﴾ مفعول به، ومضاف إليه. ﴿الَّذِي﴾ اسم موصول في محل النصب صفة لـ ﴿ربكم﴾. ﴿خَلَقَكُمْ﴾ فعل ومفعول به، وفاعله ضمير يعود على الموصول، والجملة صلة له، والعائد ضمير الفاعل. ﴿مِنْ نَفْسٍ﴾ جار ومجرور متعلق بـ ﴿خلق﴾. ﴿وَاحِدَةٍ﴾ صفة لـ ﴿نفس﴾.
﴿وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً﴾.
﴿وَخَلَقَ﴾ ﴿الواو﴾ عاطفة. ﴿خلق﴾ فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على الموصول، والجملة معطوفة على جملة ﴿خَلَقَكُمْ﴾. ﴿منها﴾ جار ومجرور متعلق بـ ﴿خلق﴾. ﴿زَوْجَهَا﴾ مفعول به ومضاف إليه. ﴿وَبَثَّ﴾ الواو عاطفة. ﴿بث﴾ فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على الموصول، والجملة معطوفة على جملة ﴿خَلَقَكُمْ﴾. ﴿مِنْهُمَا﴾ جار ومجرور متعلق بـ ﴿بث﴾. ﴿رِجَالًا﴾ مفعول به. ﴿كَثِيرًا﴾ صفة له ﴿وَنِسَاءً﴾ معطوف على ﴿رِجَالًا﴾.
﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾.
﴿وَاتَّقُوا﴾ ﴿الواو﴾ عاطفة. ﴿اتقوا الله﴾ فعل وفاعل ومفعول، والجملة معطوفة على جملة قوله ﴿اتقوا ربكم﴾. ﴿الَّذِي﴾ صفة للجلالة. ﴿تساءلون﴾ فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول. ﴿بِهِ﴾ جار ومجرور متعلق بـ ﴿تساءلون﴾، وهو العائد على الموصول. ﴿وَالْأَرْحَامَ﴾ بالنصب معطوف على الجلالة، والمعنى: اتقوا الله بطاعته، واتقوا الأرحامَ التي تساءلون بها بصلتها، فإنها مما أمر الله تعالى أن يوصلَ، وقيل: معطوف على محل الجار والمجرور، في قوله ﴿بِهِ﴾ كقولك مررت بزيد وعمرًا، والمعنى: اتقوا الله الذي تساءلون به، وتتساءلون بالأرحام،
﴿وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا﴾.
﴿وَآتُوا الْيَتَامَى﴾ فعل وفاعل، ومفعول أول ﴿أَمْوَالَهُمْ﴾ مفعول ثان، ومضاف إليه، والجملة مستأنفة ﴿وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ﴾ الواو عاطفة. ﴿لا﴾ ناهية. ﴿تَتَبَدَّلُوا﴾ فعل، وفاعل مجزوم. بـ ﴿لا﴾ الناهية. ﴿الْخَبِيثَ﴾ مفعول به. ﴿بِالطَّيِّبِ﴾ متعلق به، والجملة معطوفة على جملة قوله: ﴿وَآتُوا﴾. ﴿وَلَا تَأكُلُوا أَمْوَالَهُمْ﴾ الواو عاطفة. ﴿لا﴾ ناهية. ﴿تَأكُلُوا﴾ فعل، وفاعل مجزوم بـ ﴿لا﴾ الناهية. ﴿أَمْوَالَهُمْ﴾ مفعول به، ومضاف إليه، والجملة معطوفة على جملة ﴿آتُوا﴾ ﴿إِلَى أَمْوَالِكُمْ﴾ جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بمحذوف حال من ﴿أَمْوَالَهُمْ﴾ تقديره: حالة كونها مضافة ﴿إِلَى أَمْوَالِكُمْ﴾ ﴿إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا﴾ ﴿إن﴾ حرف نصب وتوكيد. ﴿الهاء﴾ ضمير عائد على المصدر المفهوم من ﴿لا تأكلوا﴾ تقديره: إن أكلها في محل النصب اسمها ﴿كَانَ﴾ فعل ماض ناقص، واسمها ضمير يعود على الضمير في ﴿إِنَّهُ﴾. ﴿حُوبًا﴾ خبرها. ﴿كَبِيرًا﴾ صفته، وجملة ﴿كَانَ﴾ في محل الرفع خبر ﴿إن﴾ وجملة ﴿إن﴾ مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها.
﴿وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ﴾.
﴿وَإِنْ خِفْتُمْ﴾ الواو استئنافية. ﴿إن﴾ حرف شرط جازم. ﴿خِفْتُمْ﴾ فعل وفاعل في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ على كونه فعل شرط لـ ﴿إنَّ﴾ ﴿أَلَّا تُقْسِطُوا﴾ ﴿أن﴾ حرف نصب ومصدر. ﴿لا﴾ نافية. ﴿تقسطوا﴾ فعل وفاعل منصوب بـ ﴿أن﴾. ﴿في اليتامى﴾ جار ومجرور متعلق به، والجملة الفعلية صلة أن المصدرية، أن مع صلتها في تأويل مصدر منصوب على المفعولية تقديره: وإن خفتم عدم
﴿فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً﴾.
﴿فَإِنْ﴾ ﴿الفاء﴾ فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفتم جواز نكاح مثنى وثلاث ورباع، وأردتم بيانَ حكم ما إذا خفتم أن لا تعدلوا بينهن.. فأقول لكم ﴿إن خفتم﴾ ﴿إن﴾ حرف شرط جازم. ﴿خِفْتُمْ﴾ فعل وفاعل في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ على كونه فعل شرط لها. ﴿أَلَّا تَعْدِلُوا﴾ أن حرف نصب ومصدر. ﴿لا﴾ نافية. ﴿تعدلوا﴾ فعل وفاعل منصوب بإن، وجملة ﴿أَلَّا تَعْدِلُوا﴾ صلة ﴿أن﴾ المصدرية، ﴿أن﴾ مع صلتها في تأويل مصدر منصوب على المفعولية تقديره: ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ﴾ عدم عدلكم فيما فوق الواحدة ﴿فَوَاحِدَةً﴾ الفاء رابطة لجواب إن الشرطية المحذوف تقديره: ﴿فانكحوا﴾ واحدة. ﴿واحدة﴾ مفعول لذلك المحذوف، وجملة ﴿إن﴾ الشرطية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة.
﴿أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا﴾.
﴿وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا﴾.
﴿وَآتُوا﴾ ﴿الواو﴾ استئنافية. ﴿آتوا﴾ فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. ﴿النِّسَاءَ﴾ مفعول أول. ﴿صَدُقَاتِهِنَّ﴾ مفعول ثان، ومضاف إليه. ﴿نِحْلَةً﴾ حال من صدقاتهن أو منصوب على المفعولية المطلقة؛ لأنه مصدر معنوي لـ ﴿آتُوا﴾. ﴿فَإِنْ طِبْنَ﴾ الفاء فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفتم وجوب إيتاء الصداق للنساء، وأردتم بيان حكم ما إذا وهبن لكم فأقول لكم: ﴿فَإِنْ طِبْنَ﴾ إن حرف شرط ﴿طِبْنَ﴾ فعل وفاعل في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ على كونه فعل شرط لها. ﴿لَكُمْ﴾ جار ومجرور متعلق بـ ﴿طبن﴾ ﴿عَنْ شَيْءٍ﴾ جار ومجرور متعلق به. ﴿مِنْهُ﴾ جار ومجرور صفة لـ ﴿شَيْءٍ﴾. ﴿نَفْسًا﴾ تمييز محول عن فاعل ﴿طِبْنَ﴾ منصوب به. ﴿فَكُلُوهُ﴾ الفاء رابطة الجواب. ﴿كلوه﴾ فعل وفاعل، ومفعول في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ على كونه جوابًا لها ﴿هَنِيئًا مَرِيئًا﴾ حالان من ضمير المفعول، أو منصوبان على المفعولية المطلقة تقديره أكلا هنيئًا مريئًا، وجملة ﴿إن﴾ الشرطية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة.
﴿وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا﴾.
﴿وَلَا﴾ ﴿الواو﴾ استئنافية ﴿لا﴾ ناهية جازمة. ﴿تُؤْتُوا﴾ فعل وفاعل. ﴿السُّفَهَاءَ﴾ مفعول أول. ﴿أَمْوَالَكُمُ﴾ مفعول ثان، ومضاف إليه، والجملة مستأنفة.
﴿وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا﴾.
﴿وَارْزُقُوهُمْ﴾ ﴿الواو﴾ عاطفة. ﴿ارزقوهم﴾ فعل وفاعل ومفعول. ﴿فِيهَا﴾ جار ومجرور متعلق بـ ﴿ارزقوا﴾ و ﴿في﴾ بمعنى من الابتدائية. ﴿وَاكْسُوهُمْ﴾ فعل وفاعل، ومفعول معطوف على ﴿وَلَا تُؤْتُوا﴾. ﴿وَقُولُوا﴾ الواو عاطفة. ﴿قولوا﴾ فعل وفاعل معطوف على ﴿وَلَا تُؤْتُوا﴾. ﴿لَهُمْ﴾ جار ومجرور متعلق بـ ﴿قولوا﴾. ﴿قَوْلًا﴾ منصوب على المفعولية المطلقة. ﴿مَعْرُوفًا﴾ صفة لـ ﴿قولا﴾.
﴿وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ﴾.
﴿وَابْتَلُوا﴾ ﴿الواو﴾ استئنافية. ﴿ابتلوا اليتامى﴾ فعل وفاعل ومفعول، والجملة مستأنفة. ﴿حَتَّى﴾ حرف ابتداء لدخولها على الجملة، فلا عمل لها، وإنما دخلت على الكلام لمعنى الغاية، كما تدخل على المبتدأ، أو حرف جر وغاية لكون ما بعدها غايةً لما قبلها، و ﴿إذا﴾ حينئذ مجردة عن معنى الشرط. ﴿إِذَا﴾ ظرف لما يستقبل من الزمان مضمن معنى الشرط. ﴿بَلَغُوا النِّكَاحَ﴾ فعل وفاعل، ومفعول، والجملة في محل الخفض بإضافة ﴿إِذَا﴾ إليها على كونها فعل شرط لها، والظرف متعلق بالجواب الآتي. ﴿فَإِنْ آنَسْتُمْ﴾ ﴿الفاء﴾ رابطة لجواب إذا لكون الجواب جملة شرطية ﴿إن﴾ حرف شرط ﴿آنَسْتُمْ﴾ فعل وفاعل في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ على كونه فعل شرط لها. ﴿مِنْهُمْ﴾ متعلق به. ﴿رُشْدًا﴾ مفعول به. ﴿فَادْفَعُوا﴾ ﴿الفاء﴾ رابطة لجواب ﴿إن﴾ الشرطية وجوبًا لكون الجواب جملة طلبية. ﴿ادفعوا﴾ فعل وفاعل في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ على كونه جوابًا لها. ﴿إِلَيْهِمْ﴾ متعلق به. ﴿أَمْوَالَهُمْ﴾ مفعول به ومضاف إليه، وجملة إن الشرطية من فعل شرطها وجوابها جواب ﴿إِذَا﴾ لا محل لها من الإعراب على القول بأن ﴿حَتَّى﴾ حرف ابتداء، أو في محل الجرب ﴿حتى﴾ على القول بأن ﴿حتى﴾ حرف جر
﴿وَلَا تَأكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ﴾.
﴿وَلَا﴾ ﴿الواو﴾ استئنافية. ﴿لا﴾ ناهية جازمة. ﴿تَأكُلُوهَا﴾ فعل وفاعل ومفعول، والجملة مستأنفة. ﴿إِسْرَافًا وَبِدَارًا﴾ حالان من الفاعل، ولكن بتأويلهما بمشتق؛ أي: حالة كونكم مسرفينَ، ومبادرينَ إلى أكلها، أو مفعولان لأجله؛ أي: لأجل الإسراف، والمبادرة لهم إلى أكلها. ﴿أَنْ يَكْبَرُوا﴾ فعل، وفاعل منصوب ﴿بأن﴾ المصدرية، والجملة في تأويل مصدر مجرور بإضافة المصدر المقدر، تقديره: مَخَافة كبرهم، والمصدر المقدر منصوب على المفعولية لأجله، أو الجملة في تأويل مصدر منصوب على كونه مفعول ﴿وَبِدَارًا﴾ تقديره: ومبادرين كبرهم. ﴿وَمَنْ﴾ الواو استئنافية. ﴿من﴾ اسم شرط في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الجواب. ﴿كَانَ﴾ فعل ماض ناقص في محل الجزم بمن على كونه فعل شرط لها، واسمه ضمير يعود على ﴿من﴾. ﴿غَنِيًّا﴾ خبرها. ﴿فَلْيَسْتَعْفِفْ﴾ الفاء رابطة لجواب من الشرطية، وفاعله ضمير يعود على ﴿من﴾ وجملة ﴿من﴾ الشرطية مستأنفة.
﴿وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا﴾.
﴿وَمَنْ﴾ ﴿الواو﴾ عاطفة. ﴿من﴾ اسم شرط مبتدأ. ﴿كَانَ فَقِيرًا﴾ فعل شرط لها ﴿فَلْيَأكُلْ﴾ في محل الجزم جوابها، والجملة معطوفة على جملة ﴿من﴾ الأولى ﴿بِالْمَعْرُوفِ﴾ متعلق بـ ﴿يأكل﴾ أو صفة لمصدر محذوف تقديره؛ أي: أكلًا ملتبسًا بالمعروف. ﴿فَإِذَا﴾ ﴿الفاء﴾ استئنافية، أو فصيحة؛ لأنها أفصحت عن شرط مقدر، تقديره: إذا عرفتم وجوبَ الدفع إليهم عند إيناس الرشد منهم، وأردتم بيانَ ما ينبغي لكم عند الدفع فأقول: ﴿إذا دفعتم﴾ إذا ظرف لما يستقبل من الزمان. ﴿دَفَعْتُمْ﴾ فعل وفاعل. ﴿إِلَيْهِمْ﴾ متعلق به. ﴿أَمْوَالَهُمْ﴾ مفعول به، ومضاف إليه،
﴿لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (٧)﴾.
﴿لِلرِّجَالِ﴾ جار ومجرور خبر مقدم. ﴿نَصِيبٌ﴾ مبتدأ مؤخر، والجملة مستأنفة. ﴿مِمَّا﴾ جار ومجرور صفة لـ ﴿نصيب﴾. ﴿تَرَكَ الْوَالِدَانِ﴾ فعل وفاعل. ﴿وَالْأَقْرَبُونَ﴾ معطوف عليه، والجملة صلة الموصول، والعائد محذوف تقديره: مما تركه الوالدان. ﴿وَلِلنِّسَاءِ﴾ الواو عاطفة. ﴿للنساء﴾ جار ومجرور خبر مقدم. ﴿نَصِيبٌ﴾ مبتدأ مؤخر، والجملة معطوفة على جملة ﴿لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ﴾. ﴿وَالْأَقْرَبُونَ﴾ صفة لـ ﴿نصيب﴾. ﴿مِمَّا قَلَّ﴾ جار ومجرور بدل من الجار والمجرور في قوله: ﴿وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ﴾ بإعادة الجار، وجملة ﴿قَلَّ﴾ صلة لـ ﴿ما﴾ أو صفة لها، والعائد، أو الرابط ضمير الفاعل. ﴿والهاء﴾ في ﴿مِنْهُ﴾ عائد إلى ﴿ما﴾ في قوله: ﴿مِمَّا تَرَكَ﴾، وهذا البدل مقدر أيضًا في الجملة الأولى، أعني قوله: ﴿لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ﴾ محذوف لعلمه من المذكور، ويجوز (٢) أن يكون الجار والمجرور في قوله: ﴿مِمَّا قَلَّ﴾ حالًا من الضمير
(٢) عكبري.
﴿وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا﴾.
﴿وَإِذَا﴾ ﴿الواو﴾ استئنافية. ﴿إذا﴾ ظرف لما يستقبل من الزمان. ﴿حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى﴾ فعل ومفعول وفاعل، ومضاف إليه، والجملة في محل الخفض بإضافة ﴿إذا﴾ إليها على كونها فعل شرط لها، ﴿وَالْيَتَامَى﴾ معطوف على ﴿أُولُو الْقُرْبَى﴾ ﴿وَالْمَسَاكِينُ﴾ معطوف عليه أيضًا ﴿فَارْزُقُوهُمْ﴾ ﴿الفاء﴾ رابطة لجواب ﴿إذا﴾. ﴿ارزقوهم﴾ فعل وفاعل ومفعول، والجملة جواب ﴿إذا﴾ لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿إذا﴾ الشرطية مستأنفة. ﴿مِنْهُ﴾ جار ومجرور متعلق بـ ﴿ارزقوهم﴾. ﴿وَقُولُوا﴾ فعل وفاعل معطوف على ﴿ارزقوهم﴾ ﴿لَهُمْ﴾ جار ومجرور، متعلق به. ﴿قَوْلًا﴾ منصوب على المصدرية. ﴿مَعْرُوفًا﴾ صفة له.
﴿وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (٩)﴾.
﴿وَلْيَخْشَ﴾ ﴿الواو﴾ استئنافية. ﴿اللام﴾ حرف أمر وجزم مبني على السكون، تخفيفًا لاتصالها بالواو. ﴿يخشى الذين﴾: فعل وفاعل مجزوم بلام الأمر، والجملة مستأنفة، ومفعول (١) الخشية محذوف تقديره: وليخش الله الذين
﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا (١٠)﴾.
﴿إِنَّ﴾ حرف نصب. ﴿الَّذِينَ﴾ اسم موصول في محل النصب اسم ﴿إِنَّ﴾. ﴿يَأكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى﴾ فعل وفاعل ومفعول، ومضاف إليه، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل. ﴿ظُلْمًا﴾ مفعول لأجله، وشروط النصب موجودة فيه، أو منصوبُ على الحالية من فاعل ﴿يَأكُلُونَ﴾، ولكن بتأويله بمشتق تقديره: يأكلونه حالَ كونهم ظَالِمينَ. ﴿إِنَّمَا﴾ أداة حصر. ﴿يَأكُلُونَ﴾ فعل وفاعل. ﴿فِي بُطُونِهِمْ﴾ جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بـ ﴿يأكلون﴾ أو بمحذوف حال من ﴿نَارًا﴾ لأنه صفة نكرة قدمت عليه، فانتصب حالًا. ﴿نَارًا﴾ مفعول به، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر ﴿إن﴾ وفي ذلك (١) دلالة على وقوع خبر
التصريف ومفردات اللغة
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ﴾ ﴿النَّاسُ﴾ (٢) اسم للجنس البشري، وهو الحيوان الناطق، المنتصب القامة، الذي يُطلَق عليه اسم إنسان ﴿مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ﴾.
بحث في حقيقة النفس والروح على اختلاف آراء الناس فيها
اختلف المسلمون في حقيقة النفس، أو الروح الذي يحيا به الإنسانُ، وتتحقق به وحدة جنسه على اختلاف أصنافه، وأشهر آرائهم في ذلك الرأي القائل: إنها جسم نوراني علوي خفيف حي متحرك ينفذ في جوهر الأعضاء، ويسري فيها سريان الماء في الورد، والنار في الفحم، فما دامت هذه الأعضاء صالحةً لقبول الآثارِ التي تفيض عليها من هذا الجسم اللطيف، وجد الحس والحركةَ الإراديةَ والفكر وغيرها، وإذا فسدت هذه الأعضاء، وعجزت عن قبول تلك الآثار، فارق الروح البدنَ وانفصل إلى عالم الأرواح.
ومما يثبت ذلك أن العقلَ، والحفظَ، والتذكر وهي أمور ثابتة قطعًا. ليست
(٢) المراغي.
وما مثلها إلا مثل الكهرباء، فالماديون الذين يقولون: لا روحَ إلا هذه الحياة يكون مثل الجسد عندهم مثل المستودع الكهربائي، فهو بوضعه الخاص، وبما يودع فيه من المواد تتولد فيه الكهرباء، فإذا زال شيءُ مما أودع فيه أو أزيل تركيبه الخاص فقد الكهرباء، وهكذا حال الجسم تتولد فيه الحياة بتركيب مزاجه بكيفية خاصة، وبزوالها تزول الحياة.
والذين يقولون: إن للأرواح استقلالًا عن الجسد يكون مثلُ الجسد مثل الآلة التي تدار بكهرباء تأتي إليها من المولد الكهربائي، فإذا كانت الآلة على وضع خاص في أجزائها، وأداوتها كانت مستعدة لقبول الكهرباء التي توجه إليها، حتى تؤدي وظيفتَها، وإن فقدت منها بعض الأجزاء الرئيسية، أو اختل وضعها الخاص تصبح غير قابلة للكهرباء، ومن ثم لا تؤدي وظيفتَها الخاصة بها. ذكره المراغي.
﴿وَبَثَّ﴾ بمعنى نشَرَ وفرق، ومنه ﴿وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ﴾ فهو من المضاعف المتعدي فقياسه ضم عين مضارعه، ﴿وَالْأَرْحَامَ﴾ جمع رحم، والرحم: القرابة، وإنما استعير اسم الرحم للقرابة؛ لأن الأقارب يتراحمون، ويعطف بعضهم على بعض، والرحم في الأصل: مكان يكون فيه الجنين في بطن أمه، ثم أطلق على القرابة. ﴿رَقِيبًا﴾ الرقيب: فعيل بمعنى فاعل؛ أي: بمعنى المراقب، وهو المشرف من مكان عال، والمرقب مفعل بمعنى المكان الذي يشرف منه الإنسان على ما دونه، والمراد بالرقيب هنا الحافظ المطلع على الأعمال؛ لأن ذلك من لوازمه.
﴿وَآتُوا الْيَتَامَى﴾ جمع يتيم، لغة من مات أبوه مطلقًا، لكن العرف خصصه بمن لم يبلغ مبلغ الرجال، وفي "المصباح" (١) يتم ييتم من باب تعب، وضرب يتمًا بضم الياء وفتحها، لكن اليتم في الناس من قبل الأب: فيقال: صغير يتيم،
﴿الْخَبِيثَ﴾: هو مال اليتيم، وإن كان جيدًا، فهو خبيث لكونه حرامًا ﴿بِالطَّيِّبِ﴾ وهو مال الولي، فهو طيب لكونه حلالًا، وإن كان رديئًا ﴿حُوبًا﴾ الحوب الذنب، والإثم فهو مصدر: حاب يحوب حوبًا من باب قال: وفي "المصباح" حاب حوبًا من باب قال: إذا اكتسب الإثم، وبضم الحاء أيضًا.
﴿أَلَّا تُقْسِطُوا﴾ من أقسط الرباعي بمعنى عدل، ومنه قوله تعالى: ﴿وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾، وفي "المصباح" قسط يقسط من باب: ضرب قسطًا، وقسوطًا إذا جار، ومنه قوله تعالى: ﴿وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا﴾، ويأتي بمعنى عدل أيضًا، فهو حينئذ من الأضداد، قاله ابن القطاع. ويقال: أقسط بالألف إذا عدلَ، والاسم منه: القِسط بالكسر، وقرىء هنا بفتح التاء من قسط الثلاثي، إذا جار، فتكون هذه القراءة محمولة على تقدير زيادة لا، كأنه قال: وإن خفتم أن تقسطوا.
﴿مَا طَابَ لَكُمْ﴾؛ أي: ما مال إليه القلب منهن ﴿مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ﴾ واعلم (١) أن هذه الألفاظَ المعدولةَ فيها خلاف، وهل يجوز فيها القياس، أو يقتصر فيها على السماع؛ قولان. قول البصريين: عدم القياس، وقول الكوفيين، وأبي إسحاق: جوازه، والمسموع من ذلك أحدَ عشرَ لفظًا أحاد، وموحد، وثناء، ومثنى، وثلاث، ومثلث، ورباع، ومربع، ومخمس، وعشار، ومعشر، ولم يسمع خماس، ولا غيره من بقية العقد، واختلفوا أيضًا في صرفها، وعدمه فجمهور النحاة على منعه، وأجاز الفراء صرفَها، وإن كان المنع عنده أولى ﴿ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا﴾ ﴿أَدْنَى﴾ اسم تفضيل من دنا يدنو دنوًا إلى الشيء إذا قرب إليه، ودنا يتعدى بإلى، وباللام وبمن تقول: دنوت إليه، وله، ومنه ﴿تَعُولُوا﴾ من عال يعول من باب: قال إذا مال عن الحق، وجار فيه، والمصدر العول، والعيالة، وعال الحاكم إذا جار.
وقال أبو حيان (٣): ﴿هَنِيئًا مَرِيئًا﴾ صفتان من هنؤ الطعام ومرؤ إذا كان سائغًا لا تنغيص فيه، ويقال: هَنَا يهنا بغير همز قيل: واشتقاق الهنيء من هناء البعير، وهو الدواء الذي يطلى به من الجرب، ويُوضع في عقره، والمريء ما يساغ في الحلق كما مر آنفًا انتهى.
﴿وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ﴾ وأصل: ﴿تُؤْتُوا﴾ تؤتيوا بوزن تكرموا أستثقلت الضمة على الياء، فحذفت الضمة، فالتقى ساكنان الياء وواو الضمير، فحذفت الياء؛ لئلا يلتقي ساكنان. والسفهاء (٤) جمع سفيه، وهو المبذر للمال المنفق له فيما لا ينبغي، وأصل السفه الخفة والاضطراب، ومنه قيل: زمان سفيه؛ إذا كان كثير
(٢) عكبري.
(٣) البحر المحيط.
(٤) المراغي.
و ﴿قِيَامًا﴾ بالياء، والألف مصدر قام، والياء بدل من الواو، وأبدلَت منها لما أعلت في الفعل، وكانت قبلها كسرة ﴿قَوْلًا مَعْرُوفًا﴾، والقول المعروف هو ما تطيبُ به النفوسُ، وتألفه كإفهام السفيه أنَّ المال مَالُه لا فضلَ لأحد عليه، ﴿فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا﴾؛ أي: علمتم منهم حسن التصرف في الأموال، وفي "المصباح"، وآنستُ الشيء بالمد، علمته، وآنسته أبصرته. انتهى، وفيه أيضًا الرشد: خلاف العيّ والضلال، وهو إصابةُ الصواب، ورشد رشدًا من باب تعب، ورشد يَرُشُد من باب قتل، فهو راشد، والاسم: الرشاد اهـ. ﴿إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا﴾ الإسراف: مجاوزة الحد في التصرف في المال، والبدار المبادرة والمسارعة إلى الشيء، يقال: بادرت إلى الشيء، وبدرت إليه، وهو من باب المفاعلة التي تكون بين اثنين؛ لأن اليتيم مار إلى الكبرَ، والولي مار إلى أخذ ماله فكأنهما يستبقان، ويجوز أن يكون من واحد، وفي "المصباح": كبر الصبي، وغيره يكبر من باب: تعب مكبرًا مثلَ مسجد، وكبرًا وزانَ عِنب، فهو كبير، وجمعه كبار، والأنثى كبيرة ﴿فَلْيَسْتَعْفِفْ﴾؛ أي: فليعف نفسَه عن مال اليتيم، فـ ﴿السين﴾ و ﴿التاء﴾ فيه زائدتان، والعفة تركُ ما لا ينبغي من الشهوات، وفي "المختار": عفَّ عن الحرام يَعِفُّ بالكسر عِفةً وعَفًّا، وعفا إذا كف عنه، فهو عف، وعفيف، والمرأة عفة، وعفيفة ﴿نَصِيبًا مَفْرُوضًا﴾؛ أي: سهمًا مقدرًا مَحْتُومًا لا بد لهم أن يأخذوه ﴿وَلْيَخْشَ﴾ الخشية: الخوف في محل الأمن ﴿قَوْلًا سَدِيدًا﴾ والسديد: العدل، والصواب، والسداد بالكسر: ما يسد به الشيء كالثغر موضع الخوف من العدو، والقارورة ﴿وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا﴾ يقال: صلى اللحم صليًا، إذا شواه، فإذا أراد إحراقه يقال: أصلاه إصلاءً، وصلاه تصليةً وصلى يده بالنار - من باب رضي - أدفأها، واصطلى استدفأ، وفي "المختار" صليت اللحم وغيره؛ من باب: رمَى شويته، ويقال: صليت الرجلَ نارًا؛ أي: أدخلته النار، وجعلته يصلاها. اهـ. والسعير: النار المستعرة المشتعلة، يقال: سَعرت النار، وسعرتُهَا، أوقدتُها.
قال أبو حيان (١): وقد تضمنت هذه الآيات من ضروب البيان والفصاحة:
منها: الطباق في قوله: ﴿وَاحِدَةٍ﴾ و ﴿زَوْجَهَا﴾ و ﴿غنيًّا﴾ و ﴿فقيرًا﴾ و ﴿قل﴾ ﴿أو كثر﴾ و ﴿رِجَالًا﴾ ﴿وَنِسَاءً﴾ و ﴿الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ﴾.
ومنها: التكرار المسمى بالإطناب عندهم في قوله: ﴿اتقوا﴾، و ﴿خلق﴾، و ﴿خِفْتُمْ﴾، و ﴿أَلَّا تُقْسِطُوا﴾، و ﴿أَلَّا تَعْدِلُوا﴾ منه جهة المعنى و ﴿اليتامى﴾، و ﴿النساء﴾، و ﴿فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ﴾ ﴿فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ﴾ و ﴿لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ﴾ ﴿وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ﴾، وفي قوله: ﴿وَلْيَخْشَ﴾ و ﴿خافوا﴾ من جهة المعنى على قول من جعلهما مترادفين.
ومنها: إطلاق اسم المسبب على السبب في قوله: ﴿ولا تأكلوا﴾ لأن الأخذَ سبب للأكل.
ومنها: تسمية الشيء باسم ما كان عليه في قوله: ﴿وَآتُوا الْيَتَامَى﴾ سماهم يتامى بعد البلوغ.
ومنها: التأكيد بالإتباع في قوله: ﴿هَنِيئًا مَرِيئًا﴾.
ومنها: تسمية الشيء باسم ما يؤول إليه في قوله: ﴿نصيب مما ترك﴾، و ﴿نارا﴾ على قول من زعم أنها حقيقة كقوله تعالى: ﴿إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا﴾؛ أي: عنبًا يؤول إلى خمر.
ومنها: التجنيس المماثل في قوله: ﴿فَادْفَعُوا﴾ ﴿فَإِذَا دَفَعْتُمْ﴾ والمغاير في قوله: ﴿وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا﴾.
ومنها: الزيادة للزيادة في المعنى في قوله: ﴿فَلْيَسْتَعْفِفْ﴾.
ومنها: إطلاق اسم الكل على البعض في قوله: ﴿الأقربون﴾ إذ المراد أرباب الفرائض.
ومنها: الاختصاص في قوله: ﴿بُطُونِهِمْ﴾ خصها دون غيرها؛ لأنها محل للمأكولات.
ومنها: التعريضُ في قوله: ﴿فِي بُطُونِهِمْ﴾ عرض بذكر البطون لخستهم، وسقوط هممهم، والعرب تذم بذلك قال شاعرهم:
دَعِ الْمَكَارِمَ لاَ تَرْحَلْ لِبُغْيَتِهَا | وَاقْعُدْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الطَّاعِمُ الْكَاسِيْ |
ومنها: المقابلة اللطيفة بَيْنَ ﴿وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ﴾ ﴿وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأكُلْ بِالْمَعْرُوفِ﴾.
فائدة: وفي قوله تعالى: ﴿نَفْسٍ وَاحِدَةٍ﴾ إشارة إلى ترك المفاخرة، والكبر لتعريفه إياهم، بأنهم من أصل واحد، ودلالة على المعاد؛ لأن القادر على إخراج أشخاص مختلفينَ من شخص واحد، فقدرته على إحيائهم بطريق الأولى، و ﴿زَوْجَهَا﴾ هي حواء، وظاهر منها ابتدأ خلق حواء من نفسه، وأنه هو أصلها الذي اخترعت، وأنشئت منه، ويدل عليه الحديث الصحيح في قوله - ﷺ -: "إن المرأة خلقت من ضلع أعوج، فإن ذهبت تُقِيمُها كسرتها، وكسرها طلاقها" انتهى.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (١١) وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (١٢) تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٣) وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ (١٤)﴾.
المناسبة
لما (١) بين الله سبحانه وتعالى حُكْمَ الميراث مجملًا في قوله: ﴿لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ﴾ ذكر هنا تفصيلَ ذلك المجمل فبيَّن أحكامَ المواريث، وفرائضها، لإبطال ما كان عليه العربُ من نظام التوارث في الجاهلية من منع الأنثى، وصغار الأولاد، وتوريث بعض مَنْ حَرَمه الإِسلامُ من الميراث. وقد كانت أسبابُ الإرث في الجاهلية ثلاثةً:
الأول: النّسبُ، وهو لا يكون إلا للرجال الذين يركبون الخيلَ، ويقاتلون
والثاني: التبني فقد كان الرجلُ يتبنَّى ولدَ غيره، فيكون له أحكام الولد في الميراث وغيره.
والثالث: الحِلْفُ والعهدُ، فقد كان الرجل يقول لآخرَ: دمي دمك، وهدمي هدمك؛ أي: إذا أهدر دمي أهْدِر دمك، وترثني وأرثك، وتطلَبُ بي وأطلَبُ بك، فإذا فعلًا ذَلك، ومات أحدهما قبل الآخر كان للحيّ ما اشترط من مال الميت.
فلما جاء الإِسلام أقرهم على الأول، والثالث دون الثاني، فقال: ﴿وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ﴾ والمراد به: التوارث بالنسب، وقال: ﴿وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ﴾ والمراد به التوارثُ بالعهد، وقال: ﴿وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ﴾ والمراد به: التوارث بالتبني، وزاد شيئين آخرين:
الأول: الهجرةُ، فكان المهاجر يرثُ من المهاجر، وإن كان أجنبيًّا عنه، إذا كان بينهما مخالطة، وود، ولا يرثه غير المهاجر، وإن كان من أقاربه.
والثاني: المؤاخاةُ كان رسول الله - ﷺ - يؤاخي بين كل اثنين من الرجال، وكان ذلك سببًا للتوارث، ثم نسخ التوارثُ بهذين السببين بقوله: ﴿وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ﴾. ثم استقر الأمر بعد نزول أحكام الفرائض على أن أسباب الإرث ثلاثة: النسب، والنكاح، والولاء.
قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ مناسبتها لما قبلها (١): لما بين الله سبحانه وتعالى حدوده التي حدها لعباده، قَسَمَ الناس إلى عامل بها، مطيع، وإلى غير عامل بها، عاص، وبدأ بالمطيع؛ لأن الغالبَ على مَنْ كان مؤمنًا بالله تعالى الطاعة، إذ السورة مفتتحة بخطاب الناس عامةً، ثم أردف بخطاب من يتصف بالإيمان إلى آخر المواريث، وبدأ بالمطيع؛ لأن قسم الخير ينبغي أن يبتدأ
قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ (١٤)﴾، مناسبتها لما قبلها: لمَّا ذكر ثَوابَ مراعي الحدود.. ذَكَرَ عقابَ من يتعداها، وغلظ في قسم المعاصي، ولم يكتف بالعصيان بل أكَّدَ ذلك بقوله: ﴿وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ﴾ وناسب الختم بالعذاب المهين؛ لأن العاصيَ المتعدي للحدود؛ برز في صورة من اغترَّ، وتجاسرَ على معصية الله تعالى، وقد تقل المبالاة بالشدائد، ما لم ينضمَّ إليها الهوانُ، ولهذا قالوا: المنية ولا الدنيَّةُ.
قيل: وأفرد خالدًا هنا، وجمع في خالدين فيها؛ لأن أهلَ الطاعةِ، أهل الشفاعة، وإذا اشفع في غيره دخلها، والعاصي لا يدخل النار به غيره، فبقي وحيدًا.
أسباب النزول
قوله تعالى: ﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ...﴾ الآية، سبب (١) نزولها: ما أخرجه الأئمة الستة وغيرُهم عن جابر بن عبد الله، قال: عادني رسول الله - ﷺ - وأبو بكر في بني سلمة، مَاشِيينْ فوجدني النبي - ﷺ - لا أعقل شيئًا، فدعا بماءٍ فتوضأ، ثم رش علي فأفقت، فقلتُ ما تأمرني أن أصنع في مالي؟ فنزلت ﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ﴾.
وللآيةِ سببٌ آخر: وهو ما أخرجه أحمد، وأبو داود، والترمذي، والحاكم عن جابر - رضي الله عنه - قال: جاءت امرأة سعد بن الربيع إلى رسول الله - ﷺ - فقالت: يا رسول الله، هاتان ابنتا سعد بن الربيع، قتل أبوهما معك في أحد شهيدًا، وأن عمهما أخَذَ مالهما، فلم يَدَعْ لهما مالًا، ولا تنكحَان إلا ولهما
وقصة جابر أصح؛ لأنها متفق عليها، وأما قصة بنات سعد بن الربيع ففيها عبدُ الله بن محمَّد بن عقيل، وهو صدوق ضعيفُ الحفظ على أنه لا تنافيَ بين القصتين، فيحتمل أنها نزلت فيهما معًا.
قال الحافظ بن حجر في "الفتح": تمسَّك بهذا الحديث الأخير مَنْ قال: إن الآية نَزلت في قصة ابنتي سعد، ولم تنزل في قصة جابر خصوصًا أنَّ جابرًا لم يكن له يومئذ ولد، قال الحافظ: والجواب أنها نزلت في الأمرين معًا، ويحتمل أن يكون: نزولُ أولها في قصة البنتين، وآخرها، وهو قوله: ﴿وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً﴾ في قصة جابر، ويكون مراد جابر بقوله: فنزلت: ﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ﴾؛ أي: ذكر الكلالة المتصلُ بهذه الآية، والله أعلم. انتهى.
وأقولُ في كلام الحافظ رحمه الله: نظر، فإنَّ قوله: ﴿وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً﴾ في ميراث الإخوة لأم، فالأَوْلى أن يقال: لا مانع من نزول الآية في الأمرين معًا كما قرره هو قبل، والله أعلم.
وقد ورد (١) في الآية سببُ ثالثٌ: وهو ما أخرجه ابن جرير، عن السدي قال: كان أهل الجاهلية لا يورثون الجواريَ ولا الضعفاء من الغلمان، لا يرث الرجلَ منْ ولده إلا من أطاق القتالَ، فمات عبد الرحمن أخو حسَّان الشاعر، وترك امرأة يقال لها: أم كحلة، وخمسَ بنات، فجاء الورثة يأخذون مالَه، فشكَتْ أمَّ كحلة ذلك إلى النبيِّ - ﷺ - فأنزل الله هذه الآية: ﴿فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ﴾ ثم قال في أمّ كحلةَ ﴿وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ﴾.
وقبل الشروع في تفسير هذه الآيات الكريمة، نقدم فصولًا تتضمن أحكامَ الفرائض، وأصولَ قواعدها.
الفصل الأول: في فضله والحث على تعلمه وتعليمه
اعلم أن علم الفرائض من أعظم العلوم قدرًا، وأشرفها ذخرًا، وأفضلها ذكرًا، وهي ركن من أركان الشريعة، وفرع من فروعها في الحقيقة، اشتغل الصدر الأول من الصحابة بتحصيلها، وتكلموا في فروعها، وأصولها، ويكفي في فضلها أن الله عَزَّ وَجَلَّ تَولَّى قسمتَها بنفسه، وأنزلها في كتابه مبينةً من فوق سمواته، وقد حث رسول الله - ﷺ - على تعليمها فيما رواه أبو هريرة، قال: قال رسول الله - ﷺ -: "تعلموا الفرائضَ والقرآنَ، وعلموا الناسَ، فإني مقبوض" أخرجه الترمذي، وقال: فيه اضطراب، وأخرجه أحمد بن حنبل، وزاد فيه "فإني امرؤ مقبوض" والعلمُ مرفوع، ويوشك أن يختلف اثنان في الفريضة فلا يَجدَانِ أحدًا يخبرهما". وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - ﷺ -: "تعلموا الفرائض وعلّموها، فإنه نصف العلم، وهو أول علم يُنْسَى، وهو أول شيء يُنْزَعُ من أمتي". أخرجه ابن ماجه والداقطني.
الفصل الثاني: في بيان الورثة وأقسامها
إذا مات الميت، وله مال يبدأ بتجهيزه من ماله، ثم تُقضى ديونه، إن كان عليه دين، ثم تنفَّذ وصايَاه، وما فَضَل بعد ذلك من ماله يقسم بين ورثته. والوارثون من الرجال عشرة بالاختصار، الابن وابن الابن، وإن سفل، والأب، والجد وإن علا، والأخ سواء كان لأب وأم، أو لأب فقط، أو لأم فقط، وابن الأخ للأب والأم، أو للأب وإن سفل، والعم للأب والأم، أو للأب فقط، وابناهما، وإن سفلوا، والزوج، والمعتق.
والوارثات من النساء سبع بالاختصار: البنت، وبنت الابن وإن سفلت، والأم والجدة وإن علت، والأخت من كل الجهات، والزوجة، والمعتقة.
ثم الورثة ثلاثة أصناف: صنف يرث بالفرض فقط، وهم الزوجان، والبنات، والأخوات، والأمهات، والجدات، وأولاد الأم، وصنف يرث بالتعصيب فقط، وهم البنون والإخوة الأشقاء أو لأب وبنوهم والأعمام وبنوهم وصنف يرث بالتعصيب تارة وبالفرض أخرى وهما الأب والجد، فيرث بالتعصيب إذا لم يكن للميت ولد، فإن كان له ابن، ورث الأب بالفرض السدس، وإن كانت بنت ورث السدس بالفرض، وأخذ الباقيَ بالتعصيب والعصبة: هو من يأخذ جميع المال إذا انفرد، ويأحذ ما فَضَل عن أصحاب الفروض إذا كان معهم.
الفصل الثالث: في أسباب الإرث وموانعه
وأسباب الإرث ثلاثة: نسب، ونكاح، وولاء، فالنسب القرابةُ يرث بعضهم بعضًا، والنكاح هو أن يرث أحد الزوجين من صاحبه بسبب النكاح، والولاء هو أن المعتقَ وعصباته يرثون المعتقَ.
والأسباب التي تمنع الإرث أربعة:
الأول: اختلاف الدين، فالكافر لا يرث المسلم، والمسلم لا يرث الكافر؛ لما روي عن أسامة بن زيد - رضي الله عنه - أن رسول الله - ﷺ - قال: "لا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم". أخرجاه في "الصحيحين". فأما الكفار فيرث بعضهم بعضًا مع اختلاف مللهم، وأديانهم؛ لأن الكفر كله ملة واحدة، وذهب بعضهم إلى أن اختلاف الملل والكفر يمنع التوارث أيضًا، حتى لا يرث اليهودي من النصراني، ولا النصراني من المجوسي، وإلى هذا ذهب الزهري، والأوزاعي، وأحمد، وإسحاق، لما روي عن جابر - رضي الله عنه - أن رسول الله - ﷺ - قال: "لا توارث بين أهل ملتين". أخرجه الترمذي، وقال حديث غريب.
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - أن رسول الله - ﷺ -
والثاني: الرق، فإنه يمنع الإرث، لأن الرقيق ملك، ولا ملك له، فلا يرث، ولا يورث.
والثالث: القتل، فإنه يمنع الإرث مطلقًا محمدًا كان القتل، أو خطأً؛ لما روي عن أبي هريرة عن النبي - ﷺ - قال: "القاتل لا يرث". أخرجه الترمذي، وقال: هذا حديث لا يصح، والذي العمل عليه عند أهل العلم أن القاتل لا يرث، سواءً كان القتل عمدًا أو خطأً. وقال بعضهم: إذا كان القتل خطأً. فإنه يرث، وهو قول مالك.
والرابع: إبهام الموت، وهو أن يخفى موت المتوارثين، وذلك بأن غرقا أو انهدم عليهما بناء، فلم يدر أيهما سبق موته، فلا يرث أحدهما الآخر، بل يكون إرث كل واحد منهما لمن كانت حياته يقينًا بعد موته من ورثته.
الفصل الرابع: في بيان الفروض وأهلها
والسهام المقدرة في المواريث المذكورة في كتاب الله عَزَّ وَجَلَّ ستة: النصف، والربع، والثمن، والثلثان، والثلث، والسدس:
فالنصف: فرض الزوج عند عدم الولد الوارث، وفرض البنت الواحدة للصلب، أو بنت الابن عند عدم بنت الصلب، وفرض الأخت الواحدة للأب والأم، وفرض الأخت الواحدة للأب إذا لم يكن ولد لأب وأم.
والربع: فرض الزوج مع الولد، وفرض الزوجة مع عدم الولد.
والثمن: فرض الزوجة مع الولد.
والثلثان: فرض البنتين فصاعدًا، أو بنات الابن عند عدم بنات الصلب، وفرض الأختين فصاعدًا للأب والأم، أو للأب.
والسدس: فرض سبعة: فرض الأب إذا كان للميت ولد، وفرض الأم إذا كان للميت ولد، أو ولد ابن أو اثنان من الإخوة، والأخوات، وفرض الجد إذا كان للميت ولد، ومع الإخوة إذا كان في المسألة صاحب فرض، وكان السدس خيرًا له من المقاسمة مع الإخوة، وفرض الجدة والجدات، وفرض الواحد من أولاد الأم ذكرًا كان أو أنثى، وفرض بنات الابن مع بنت الصلب تكملةَ الثلثين، وفرض الأخوات للأب مع الأخت للأب والأم تكملةَ الثلثين.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال قال رسول الله - ﷺ -: "ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقي فهو لأولى رجل ذكر". متفق عليه.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان المال للولد، والوصية للوالدين، فنسخ الله من ذلك ما أحب، فَجَعَلَ للذكر مثل حظ الأثنيين، وجعل للأبوين لكل واحد منهما: السدس، أو الثلث، وجعل للمرأة الثمن، أو الربع، وللزوج الشطر أو الربع، رواه البخاري.
الفصل الخامس: في الحجب
روي عن زيد بن ثابت - رضي الله عنه - قال: ولَدُ الأبناء بمنزلة الأبناء، إذا لم يكن دونه ابن، ذكرهم كذكرهم، وأنثاهم كأنثاهم، يرثون ويَحجبون كما يَحجبون، ولا يرث ولد ابن مع ابن ذكر، فإن ترك بنتًا، وابن ابن.. كان للبنت النصف، ولابن الابن ما بقي لقوله - ﷺ -: "ألحقوا الفرائضَ بأهلها، فما بقي فهو لأولى رجل ذكر". ففي هذا الحديث دلالة على أن بعض الورثة يحجب البعض،
أمَّا الأول: وهو حجب النقصان: فهو أن الولد وولد الابن يحجب الزوجَ من النصف إلى الربع، والزوجةَ من الربع إلى الثمن، والأم من الثلث إلى السدس، وكذلك الاثنان من الإخوة والأخوات يحجبون الأم من الثلث إلى السدس.
وأما الثاني: وهو حجب الحرمان. فهو أن الأم تسقط الجدات، وأولاد الأم، وهم الإخوة للأم يسقطون بأربعة: بالأب، والجد، وإن علا، وبالولد، وولد الابن، وأولاد الأب والأم، وهم الإخوة للأب والأم يسقطون بثلاثة: بالأب، والابن، وابن الابن وإن سفلوا، ولا يسقطون بالجد على مذهب زيد بن ثابت، وهو قول عمر، وعثمان، وعلي وابن مسعود، وبه قال مالك، والأوزاعي، والشافعي، وأحمد وأولاد الأب يسقطون بهؤلاء الثلاثة، وبالأخ للأب والأم. وذهب قوم إلى أن الإخوة يسقطون جميعًا بالجد كما يسقطون بالأب، وهو قول أبي بكر الصديق، وابن عباس، ومعاذ، وأبي الدرداء، وعائشة، وبه قال الحسن، وعطاء، وطاووس، وأبو حنيفة.
الفصل السادس: في العصبات
والأقرب من العصبات يسقط الأبعدَ منهم، فأقربُهم الابن، ثم ابن الابن، وإن سفل، ثم الأب، ثم الجد، وإن علا، فإن كان مع الجد أحد من الإخوة، والأخوات للأب والأم أو للأب يشتركان في الميراث، فإن لم يكن جد فللأخ للأب والأم، ثم الأخ للأب، ثم بنوا الأخوة يقدم أقربهم، سواء كان لأب وأم، أو لأب، فإن استويا في الدرجة، فالذي هو لأب وأم أولى، ثم العم لأب، وأم، ثم لأب ثم بنوهم على ترتيب بني الإخوة، ثم عم الأب، ثم عم الجد على الترتيب السابق في الإخوة، فإن لم يكن أحد من عصبات النسب، وعلى الميت ولاء، فالميراث للمعتق، فإن لم يكن حيًّا فلعصبات المعتق، وأربعة من الذكور يعصبون الإناث: الابن، وابن الابن، والأخ للأب والأم، والأخ للأب، فلو مات عن ابن، وبنت، أو عن أخ، وأخت لأب وأم، أو لأب، يكون المال
ويدل على ذلك ما روي عن هذيل بن شرحبيل قال: سئل أبو موسى عن بنت، وبنت ابن، وأخت، فقال: للبنت النصف، وللأخت النصف، وأتت بنت الابن ابن مسعود، فسئل ابن مسعود، وأخبر بقول أبي موسى فقال ابن مسعود: لقد ضللت وما أنا من المهتدين، ثم قال: أقضى فيها بقضاء رسول الله - ﷺ - للبنت النصف، ولبنت الابن السدس. تكملة الثلثين، وما بقي فللأخت فأخبر أبو موسى بقول ابن مسعود فقال: لا تسألوني ما دام هذا الحبر فيكم. أخرجه البخاري.
التفسير وأوجه القراءة
١١ - ﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ﴾ وهذا شروع في تفصيل أحكام المواريث المجملة في قوله: ﴿لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ﴾ الخ، وإنما بَدَأَ الله سبحانه وتعالى بإرث الأولاد، لأنهم أقرب الورثة إلى الميت، وأكثر بقاء بعد المورث؛ ولأن تعلق قلب الإنسان بولده أشد من تعلقه بغيره. والخطاب فيه للمؤمنين، وقرأ ابن أبي عبلة، والحسن ﴿يوصيكم﴾ بالتشديد، والوصية ما تعهد به إلى غيرك من العمل، كما تقول: أوصيت المعلم أن يراقب آدابَ الصبي، ويؤدبه على ما يسيء فيه، وهي في الحقيقة: أمر له بعمل ما عهد إليه به.
والمعنى: يأمركم الله سبحانه وتعالى ﴿فِي﴾ إرث ﴿أَوْلَادِكُمْ﴾ الوارثين الذكور والإناث كبارًا كانوا أو صغارًا مما تتركونه من أموالكم، بأن يُعْطَى ﴿لِلذَّكَرِ﴾ الواحد منهم ﴿مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ﴾؛ أي: قَدْرُ نصيب اثنتين من إناثهم، إذا كانوا ذكورًا وإناثًا، واختير هذا التعبيرُ، ولم يقل: للأنثى نصف حظ الذكر،
والحكمة في جعل حظ الذكر كحظ الأنثيين: أن الذكر يحتاج إلى الإنفاق على نفسه، وعلى زوجه فجُعل له سهمان، وأما الأنثى فهي تنفق على نفسها، فحسب، وإن تزوجت كانت نفقتها على زوجها، ويدخل في عموم الأولاد:
١ - الكافرُ لكن السنة بينت أن اختلاف الدين مانعٌ من الإرثِ، قال - ﷺ -: "لا يتوارث أهل ملتين" كما مر.
٢ - والقاتل عمدًا لأحد أبويه مثلًا، ويخرج بالسنة والإجماع.
٣ - والرقيق، وقد ثبت منعه بالإجماع؛ لأن المملوك لا يملك بل كل ما يصل إلى يده من المال، فهو ملك لسيده، ومالكه فلو أعطيناه من التركة شيئًا، كنا معطين ذلك للسيد فيكون هو الوارث بالفعل.
٤ - والميراث من النبي - ﷺ - فقد استثني بحديث "نحن معاشر الأنبياء لا نورث".
ولا خلاف في أن ولد الولد يقوم مقامه عند فقده، أو عدم إرثه لمانع كقتل مورّثه، قال شاعرهم:
بَنُونَا بَنُوْ أَبْنَائِنَا وَبَنَاتُنَا | بَنُوْهُنَّ أَبْنَاءُ الرِّجَالِ الأَبَاعِدِ |
وإذا كان مع الأولاد أبوان وأحد الزوجين، فالباقي بعد سهام الأبوين، وأحد الزوجين بين الأولاد للذكر مثل حظ الأنثيين.
﴿فَإِنْ كُنَّ﴾؛ أي: فإن كانت البنات المتروكات من الأولاد ﴿نِسَاءً﴾؛ أي: إناثًا خلصا ﴿فَوْقَ اثْنَتَيْنِ﴾؛ أي: بنتَيْنِ فأكثر مهما بَلَغ عددُهن ﴿فَلَهُنَّ﴾؛ أي:
وأجمعت (١) الأمة على أن للبنتين الثلثين إلا ما روي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه ذهبَ إلى ظاهر الآية، وقال الثلثان فرض الثلاث من البنات؛ لأن الله تعالى قال ﴿فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ﴾ فجعل الثلثين للنساء إذا زدن على الثنتين، وعنده أن فرض الثنتين النصف كفرض الواحدة، وأجيب عنه بأجوبة فيها حجة لمذهب الجمهور كما ذكروها:
منها: أن في الآية تقديمًا وتأخيرًا، والتقدير فإن كن نساءً اثنتين فما فوقهما فلهن الثلثان.
ومنها: أن الجمع يطلق على ما فوق الواحد؛ لأنَّ العرب تطلق الجمع على الاثنين كما في قوله تعالى: ﴿فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا﴾.
ومنها: أن لفظةَ فوق صلَةُ هنا، والتقدير: ﴿فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً﴾ اثنتين.
﴿وَإِنْ كَانَتْ﴾ المولودة الوارثةُ بنتًا ﴿وَاحِدَةً﴾؛ أي: منفردةً ليس معها أخ، ولا أختَ ﴿فَلَهَا النِّصْفُ﴾ مما ترك الوالد الميتُ أو الوالدة، والباقي لسائر الورثة بحسب الاستحقاق كما يعلم من أحكام المواريث.
وخلاصة ذلك: أنه إذا كان الأولاد ذكورًا وإناثًا كان للذكر مثل حظ الأنثيين، وإن كان المولود أنثى واحدةً. كان لها النصفُ، وإن كن ثنتين أو ثلاثًا فصاعدًا. كان لهن الثلثان. وقد عُلم من ذلك أنَّ البنات لا يستغرق فرضهن التركةَ، والولد الذكر إذا انفرد. يأخذ التركة كلَّها، وإذا كان معه أخ له فأكثرُ.. كانت قسمة التركة بينهما، أو بينهم بالمساواة.
قرأ الجمهور (٢) ﴿وَاحِدَةً﴾ بالنصب على أنه خبر ﴿كان﴾؛ أي: وإن كانت هي؛ أي: البنت فذةً ليس معها أخرى، وقرأ نافع ﴿واحدة﴾ بالرفع على أن كان تامة، ﴿وواحدة﴾ فاعلها، وقرأ السلمي النصف بضم النون، وهي قراءةٌ علي وزيد في جميع القرآن.
(٢) البحر المحيط.
﴿فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ﴾؛ أي: للميت ﴿وَلَدٌ﴾ ولا ولد ولد ﴿وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ﴾ فرضًا لها، والباقي للأب كما هو معلوم من انحصار الإرث، فيأخذ السدسَ بالفريضة، والنصفَ بالتعصيب، وإذا انفرد أخذ كل المال كما هو شأنُ العصبة، وإذا ورثه أبواه مع أحد الزوجين، فللأم ثُلُثُ ما يبقى بعد فرضه، والباقي للأب وتسمى هذه المسألة الغراوين، وقد أشار إليها صاحبُ "الرحبية":
وَإِنْ يَكُنْ زَوْجٌ وَأُمٌّ وَأَبُ | فَثُلُثُ الْبَاقِيْ لَهَا مُرَتَّبُ |
وهَكَذَا مَعْ زَوْجَةٍ فَصَاعِدَا | فَلاَ تَكُنْ عَنِ الْعُلُوْمِ قَاعِدَا |
والمعنى: أنه إن كان أب وأم وإخوة.. كان نصيبُ الأم السدسَ وحظها الإخوة من الثلث إلى السدس، وصار الأب يأخذ خمسةَ الأسداس كرجل مات عن أبوين وأخوين، فإن للأم السدس والباقي، وهو خمسةُ أسداس للأب، سدس بالفريضة، والباقي بالتعصيب، فكل جمع منهم يحَجب الأم من الثلث إلى السدس، ولا شيء لهم لكونهم محجوبين بالأب. قال صاحبُ "التلمسانية":
وَفِيْهِمُ فِيْ الْحَجْبِ أَمْرٌ عَجَبُ | لِكَوْنِهِمْ قَدْ حَجَبُوْا وَحُجِبُوْا |
وعلم مما ذكر في مسألة الغراوين: أن (١) حقوقَ الزوجية في الإرث مقدمة على حقوق الوالدين؛ إذ أنهما يتقاسمان ما بقي بعد أخذ الزوج حصتَه، وسر هذا أن صلة الزوجية أشد وأقوى من صلة البنوة؛ ذاك أنهما يعيشان مجتمعينِ وجودُ كل منهما متمم لوجود الآخر، حتى كأنه نصف شخصه، وهما حينئذ منفصلان عن الوالدين أشد الانفصال؛ فبهذا كانت حقوق المعيشة بينهما آكد، ومن ثم جعل الشارع حق المرأة على الرجل في النفقة هو الحق الأولَ؛ فإذا لم يجد
قرأ الجمهور (١): ﴿فَلِأُمِّهِ﴾ هنا في الموضعين، وفي قوله: ﴿فِي أُمِّ الْكِتَابِ﴾ في الزخرف، وفي قوله: ﴿حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا﴾ في القصص، وفي قوله: ﴿مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ﴾ في النحل، والزمر، وفي قوله: ﴿فيِ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ﴾ في النور ﴿مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ﴾ في النجم بضم الهمزة من أم، وهو الأصل. وقرأ الأخوان - أعني الكسائيَ وحمزة - جميعَ ذلك بكسر الهمزة، وانفرد حمزة بزيادة كسر الميم من أمهات في الأماكن المذكورة، هذا كله في الدرج أما في الابتداء بهمزة الأم والأمهات، فإنه لا خلاف في ضمها، أما وجه قراءة الجمهور، فظاهر؛ لأنه الأصل كما تقدم.
وأما قراءة حمزة والكسائي بكسر الهمزة فقالوا: لمناسبة الكسرة، أو الياء، التي قبل الهمزة، فكسرت الهمزة إتباعًا لما قبلها، ولاستثقالهم الخروجَ من كسر أو شبهه إلى ضم، ولذلك إذا ابتدىء بالهمزة ضمَّاها لزوال الكسر، أو الياء، وأما كسرُ حمزةَ الميمَ من أمهات في المواضع المذكورة، فللإتباع، أتبع حركة الميم لحركة الهمزة، فكسرةُ الميم تبع التبع، ولذلك إذا ابتدىءَ بها ضمت الهمزة، وفَتح الميم لما تقدم من زوال موجب ذلك، وكسر همزةِ أم بعد الكسرة، أو الياء، حكاه سيبويه لغةً عن العرب، ونَسَبها الكسائي والفراءُ إلى هوازن، وهذيل اهـ "سمين".
وقرأ الحسن (٢) ونعيم بن ميسرة ﴿السدْس﴾ بسكون الدال، وكذلك قرأ ﴿الثلْث﴾ و ﴿الرْبع﴾ إلى العشر بالسكون، وهيَ لغةُ بني تميم، وربيعة، وقرأ الجمهور بالتحريك ضمًّا، وهي لغة أهل الحجاز، وبني أسد في جميعها.
وقد اختلف العلماء في الجد هل هو بمنزلة الأب فتسقط به الإخوة أم لا؟ فذهب أبو بكر الصديق إلى أنه بمنزلة الأب، ولم يخالفه أحدٌ من الصحابة في أيام خلافته، واختلفوا في ذلك بعد وفاته فقال بقول أبي بكر ابن عباس،
(٢) الشوكاني.
وأجمع العلماء على أن للجدة السَّدُسَ إذا لم يكن للميت أم، وأجمعوا على أنها ساقطة مع وجود الأم، وأجمعوا على أن الأبَ لا يُسقِطُ الجدةَ أم الأم، واختلفوا في توريث الجدة وابنها حي.
هذه الأنصباء المذكورة إنما تقسم للورثة ﴿مِنْ بَعْدِ﴾ تنفيذ ﴿وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا﴾ الميت، وإخراجها من ثلث ما بقي بعد الدين ﴿أَوْ دَيْنٍ﴾؛ أي: ومن بعد قضاء دين عليه إن كان، وأو هنا لمطلق الجمع بمعنى الواو، لا تفيد ترتيبًا؛ لأن الدين مقدم على الوصية، ولا بد هنا من تقدير محذوف كما يُعلم مما سيأتي، تقديره: حالةَ كونه غير مَضار للورثة بالوصية والدين؛ بأن كان في كل منهما مصلحة، وإنما قدمت الوصية على الدين في الذكر في الآية مع أن الدينَ مقدم عليها في الوفاء، كما قضى به رسول الله - ﷺ - فيما رواه علي كرم الله وجهه، وأخرجه عنه جماعة قال - أعني عليًّا -: إنكم تقرؤون الوصيةَ قبل الدين، وبدأ رسول الله - ﷺ - بالدين قبل الوصية للاهتمام بها؛ لأنها تؤخذ كالميراث بلا عوض، فيشق على الورثة إخراجها.
وأجمعت الأمة على تقديم الدين، والوصية على الإرث لهذه الآية، وإنما قدما على الإرث؛ لأنَّ الدينَ حق على الميت، والوصية حق له، وهما يتقدمان على حق الورثة.
وإنما عطف (١) الدينَ على الوصية، بـ ﴿أو﴾ دون الواو إشارة إلى أنهما متساويان في الوجوب متقدمان على قسمة التركة مجموعين، أو منفردين.
والحاصل: (٢) أن أول ما يخرج من التركة مؤونة تجهيزه، ثم الدين، حتى لو استغرق الدين جميعَ التركة.. لم يكن للورثة فيها حق، فأما إذا لم يكن دين
(٢) المراح.
وقرأ ابن كثير، وابن عامر، وأبو بكر، عن عاصم ﴿يُوصِي﴾ بفتح الصاد، وقرأ نافع، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي بكسر الصاد. ثم أتى بجملة معترضة بين ذكر الوارثين، وأنصبائهم، وبين قوله: ﴿فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ﴾ ولا تعلق لمعناها بمعنى الآية للتنبيه على جهل المرء بعواقب الأمور فقال: ﴿أَبْنَاؤُكُمْ﴾ أيها المؤمنون ﴿وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ﴾، ولا تعرفون ﴿أَيُّهُمْ﴾؛ أي: أي الفريقين ﴿أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا﴾ وأكثر لكم فائدةً في الدنيا بالإحسان إليكم، وفي الآخرة في الدعاء لكم، والصدقة عنكم كما في الحديث الصحيح، "أو ولد صالح يدعو له"؛ أي: إنكم لا تدرون أي الفريقين أقرب لكم نفعًا هل هم أباؤكم أو أبناؤكم، فمنكم فريق ظان أن ابنَه أنفع له، فيعطيه، فيكون الأب أنفع له في نفس الأمر، ومنكم فريق ظان، ومعتقد أن أباه أنفع له، فيعطيه الميراثَ وحدَه مع كون ابنه في نفس الأمر أنفع له، فلا تتبعوا في قسمة التركة ما كان يتعارفه أهل الجاهلية من إعطائها للأقوياء، الذين يحاربون الأعداء، وحرمان الأطفال، والنساء؛ لأنهم من الضعفاء، بل اتبعوا ما أمركم الله به، فهو أعلم منكم بما هو أقرب لكم نفعًا مما تقوم به في الدنيا مصالحكم، وتعظم به في الآخرة أجوركم، روى الطبراني؛ أن أحد المتوالدين إذا كان أرفعَ درجةً من الآخر في الجنة... سأل أن يرفع الآخر إليه، فيرفع بشفاعته.
﴿فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ﴾؛ أي: فرَضَ الله سبحانه وتعالى ما ذكر من الأحكام ﴿فَرِيضَةً﴾ لا هوادة أي لا مسامحة في وجوب العمل بها، وفي هذا إشارة إلى وجوب الانقياد، لهذه القسمة التي قدرها الشرع، وقضى بها.
﴿إِنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿كَانَ عَلِيمًا﴾ بالمصالح، والرتب ﴿حَكِيمًا﴾ في كل ما قضى وقدر؛ أي: لم يزل متصفًا بذلك. قال ابن عباس (١) إن الله ليشفع
وقيل (١): معناه كانَ عليمًا بخلقه قبل أن يخلقهم، حكيمًا حيث فرض للصغار مع الكبار، ولم يخص الكبارَ بالميراث، كما كانت العرب تفعل.
١٢ - وبعد أن بين الله سبحانه وتعالى فرائض الأولاد، والوالدين، وقدم الأهمَ منهما من حيث حاجته إلى الأموال المتروكة، وهم الأولاد ذكر هنا فرائض الزوجين، فقال: ﴿وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ﴾؛ أي: ولكم أيها المؤمنون نصف ما تركته زوجاتكم من المال ﴿إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ﴾؛ أي: لتلك الزوجات ﴿وَلَدٌ﴾ سواءُ أكان منكم أم من غيركم، ولو من زنا، فإن ولد الزنا ينسب لأمه، وسواء أكان ذكرًا أم أنثى، وسواءٌ أكان واحدًا أم أكثر، وسواء أكان من بطنها، أو صلب بنيها، أو بني بنيها، وباقي التركة لأولادها، ووالديها على ما بينه الله في الآية السالفة، ولا يشترط في الزوجة أن تكون مدخولًا بها، بل يكفي مجرد العقد ﴿فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ﴾ وارث واحد، أو متعدد ﴿فَلَكُمُ﴾ أيها الأزواج ﴿الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ﴾؛ أي: مما تركته الزوجات من المال، والباقي من التركة للأقرب إليها من ذوي الفروض والعصبات، أو ذوي الأرحام، أو لبيت المال، إن لم يكن وارث آخر.
واعلم: أنه لما جعل الله سبحانه وتعالى في الموجب النسبي حظ الرجل مثلَ حظ الأنثيين، جعل الله في الموجب السببي للرجل مثلَ حظ الأنثيين ﴿مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ﴾؛ أي: هذه الأنصباء إنما تدفع لكم أيها الأزواج في الحالين من بعد تنفيذ وصية يوصين الزوجات بها غير مضارات بها،
﴿مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ﴾؛ أي: هذه الأنصباء: إنما تدفع لأزواجكم من بعد تنفيذ وصية توصون بها، أيها الأزواج، حَالَ كونكم غير مضارينَ بها، وبعد قضاء دين عليكم إذا وجدا، أو وجد أحدهما.
وبهذا (١) تعلم أن فرَضَ الرجل بحق الزواج ضعف فرض المرأة كما في النسب، ولم يعط الله تعالى للزوجات في الميراث إلا مثل ما أعطى للزوجة الواحدة؛ لإرشادنا إلى أن الأصل الذي ينبغي أن نسيرَ عليه في الزوجية، أن تكون للرجل امرأة واحدةٌ، وإنما يباح الأكثر بشروط مضيقة، وأن التعدد من الأمور النادرة التي تدعو إليها الضرورة، فلم يراعها الشارع في الأحكام، إذ الأحكام إنما توضع للأصل الذي عليه العمل، والنادرُ لا حكمَ له. وبعد أن بين الله سبحانه وتعالى حكمَ ميراثِ الأولاد، والوالدين، والأزواج ممن يتصل بالميت مباشرةً شرع يبين من يتصل به بالواسطة، وهو الكلالة فقال: ﴿وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ﴾ من أورث صفة رجل؛ أي: إن كان الميت المورث
و ﴿الكلالة﴾ لغةً: الإحاطة، ومنه الإكليل لإحاطته بالرأس، وسمي من عدا الوالد، والولد بالكلالة؛ لأنهم كالدائرة المحيطة بالإنسان، وكالإكليل المحيط برأسه، أما قرابة الولادة. ففيها يتفرع بعض من بعض كالشيء الذي يتزايد على نسق واحد، ﴿أَوِ﴾ كانت ﴿امْرَأَةٌ﴾ تورث ﴿كَلَالَةً﴾ ﴿وَلَهُ﴾؛ أي: لذلك الرجل الموروث ﴿كَلَالَةً﴾ أو للمرأة الموروثة ﴿كَلَالَةً﴾ ﴿أَخٌ أَوْ أُخْتٌ﴾ من أم؛ لأن الأخوين من العصبة سيأتي حكمهما في آخر السورة ﴿يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ﴾ الخ، ويشهد لهذا المعنى قراءة أبي وسعد بن أبي وقاص ﴿وله أخ أو أخت من أم﴾ وإنما استشهدنا بهذه القراءة مع كونها شاذةً؛ لأنها بمنزلة رواية الآحاد، ورواية الآحاد يستدل بها؛ لأنها منقولة عن النبي - ﷺ - ﴿فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا﴾؛ أي: فلكل من الأخ، والأخت المذكورين ﴿السُّدُسُ﴾ من غير تفضيل للذكر على الأنثى، لأنه لا تعصيب فيمن أدلوا به، وهي الأم ﴿فَإِنْ كَانُوا﴾؛ أي: فإن كان من يرث من الإخوة للأم ﴿أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ﴾؛ أي: من الواحد ﴿فَهُمْ﴾؛ أي: الزائدون على الواحد، كيفما كانوا ﴿شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ﴾ فالذكر والأنثى فيه سواء، والباقي لبقية الورثة من أصحاب الفروض والعصبات.
وقرأ (١) الجمهور ﴿يُورَثُ﴾ بفتح الراء مبنيا للمفعول من أورثَ مبنيًّا للمفعول، وقرأ الحسن بكسرها مبنيًّا للفاعل من أورث أيضًا، وقرأ أبو رجاء، والحسن أيضًا، والأعمش بكسر الراء وتشديدها من ورث.
﴿مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا﴾؛ أي: هذه الأنصباء المذكورة للإخوة من الأم، إنما تدفع لهم من بعد تنفيذ وصية يوصي بها الميت حالةَ كونه غير مدخل بها الضرر على ورثته؛ بأن يوصيَ بأكثر من الثلث، أو يوصي بالثلث لغرض
والحاصل (١): أن الضرار في الوصية، والدين يقع على وجوه:
الأول: أن يوصي بأكثر من الثلث، وهو لا يصح، ولا ينفذ، وعن ابن عباس: إنّ الضِرَارَ فيها من الكبائر.
الثاني: أن يوصي بالثلث فما دونه، لا لغرض من القربة، والتصدق لوجه الله بل لغرض تنقيص حقوق الورثة.
الثالث: أن يقر بدين لأجنبي يستغرق المالَ كله، أو بعضَه، ولا يريد بذلك إلا مضارة الورثة، وكثيرًا ما يفعله المبغضون للورثة، ولا سيما إذا كانوا كلالةً، ومن ثم جاء ذكر هذا القيد ﴿غَيْرَ مُضَارٍّ﴾ في وصية ميراث الكلالة؛ لأن القصد إلى مضارة الوالدَين، أو الأولاد، وكذا الأزواج نادرٌ.
الرابع. أن يقر بأن الدينَ الذي كان له على فلان، قد استوفاه، ووَصَلَ إليه.
الخامس: أن يبيع شيئًا بثمن بخس، أو يشتري شيئًا بثمن غال.
والمعنى: تدفع الأنصباء لأصحابها بعد إخراج وصية، وقضاء دين لم يحصل بهما ضرر للورثة، وإن حصل الضرر بهما، فلا اعتبار بهما. قال الشوكاني (٢): فما صَدَرَ من الإقرارات بالديون، أو الوصايا المنهي عنها له، أو التي لا مقصد لصاحِبِهَا إلا المضارةَ لورثته، فهو باطل مردود، لا ينفذ منه شيء لا الثلث ولا دونه، وإنما كرر الوصية أربعَ مرات لاختلاف الموصين، فالأول: الأولاد؛ والثاني: الزوجة، والثالث: الزوج، والرابع: الكلالة.
قال النخعي: قبض رسول الله - ﷺ - ولم يوص، وقبض أبو بكر، وقد وصى
(٢) فتح القدير.
وقرأ ابن كثير (١) وابن عامر وعاصم ﴿يُوصَى﴾ بفتح الصاد، وقرأ الباقون بكسرها، واختار الكسر أبو عبيد، وأبو حاتم؛ لأنه جرى ذكرُ الميت قبل هذا، قال الأخفش: وتصديق ذلك قوله ﴿يُوصِينَ﴾ و ﴿تُوصُونَ﴾ وقرأ الحسن ﴿غير مضار وصية﴾ بالإضافة، وفيه وجهان: أحدهما: تقديره: غير مضار أهل وصية، أو ذي وصية، فحذف المضاف، والثاني تقديره: غير مضار وقتَ وصية، فحذف، وهو من إضافة الصفة إلى الزمان، ويقرب من ذلك قولهم: هو فارس حرب؛ أي: فارس في الحرب، ذكره أبو البقاء ﴿وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ﴾؛ أي: يوصيكم الله سبحانه وتعالى بذلك، ويأمركم به وصيةً منه عز وجل، فهي جديرة أن يعتنى بها، ويذعن للعمل بموجبها، ﴿وَاللَّهُ عَلِيمٌ﴾ بما ينفعكم، وبنياتِ الموصين منكم، ﴿حَلِيمٌ﴾ لا يعجل بعقوبتكم بمخالفة أحكامه، ولا بالجزاء على مخالفتها عسى أن تتوبوا؛ كما لا يبيح لكم أن تعجلوا بعقوبة من تبغضونه، فتضاروه في الوصية، كما لا يرضى لكم بحرمان النساءِ، والأطفال من الإرث. وفي هذا إشارة إلى أنه تعالى قد فرضها، وهو يعلم ما فيها من الخير، والمصلحة لنا، فمن الواجب أن نذعن لوصاياه، وفرائضه، ونعمل بما ينزلُ علينا من هدايته؛ كما لا ينبغي أن يغر الطامع في الاعتداء، وأكل الحقوق تمتع بعض المعتدين بما أكلوا بالباطل، فيظن أنهم بمنجاة من العذاب، فيتجرأ على مثل ما تجرؤوا عليه من الاعتداء، فإنه إمهال يقتضيه الحلم، لا إهمالُ من العجز، وعدم العلم.
واعلم: أن طاعةَ الله هي اتباع ما شرعه من الدين على لسان رسوله - ﷺ -، وطاعةُ الرسول هي اتباع ما جاءَ به من الدين عن ربه، فطاعته هي بعينها طاعة الله، كما قال في هذه السورة ﴿مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ﴾ فهو إنما يأمرنا بما يوحيه إليه اللهُ بما فيه منافع لنا في الدنيا والآخرة، وإنما ذَكَرَها مع طاعة الله للإشارة إلى أنَّ الإنسان لا يستغني بعقله، وعلمه عن الوحي، وأنه لا بُدّ له من هداية الدين؛ إذ لم يكن العقل وحده في عَصْر في العصور كافيًا لهداية أمة، ولا مرقيًّا لها بدون معرفة الدين، فاتباعُ الرسل، والعملُ بهديهم هو أساس كلّ مدنية، والارتقاء المعنويُّ هو الذي يَبْعَثُ على الارتقاء الماديّ، فالآداب، والفضائل التي هي أسس المدنيات تستند كلها إلى الدين، ولا يكفي فيها بناؤها على العلم والعقل
١٤ - ﴿وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾ ويخالفهما، ولو في بعض الأوامر؛ بأن لم يرض بما قَسَم الله ورسوله ﴿وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ﴾؛ أي: يتجاوز أحكامه التي حدها
وقرأ نافع وابن عامر (١): ﴿ندخله﴾ بنون العظمة، في الموضعين، والباقون بالياء.
واعلم (٢): أن تعديَ الحدود الموجب للخلود في النار، هو الإصرارُ على الذنب، وعدمُ التوبة عنه، فللمذنب حالتان:
الأولى: غلبة الباعث النفسي من الشهوة، أو الغضب على الإنسان حتى يغيبَ عن ذهنه الأمر الإلهي، فهو يقع في الذنب، وقلبه غائب عن الوعيد، لا يتذكره أو يتذكره ضعيفًا كأنه نور ضئيل، يلوح في ظلمة ذلك الباعث المتغلب، ثم لا يلبث أن يزولَ، أو يختفيَ حتى إذا سكنت الشهوة، أو سكن الغضب، وتذكر النهيَ والوعيدَ ندم، وتاب، ولام نفسَه أشد اللوم، ومثل هذا، جدير بالنجاة إذ هو من المسارعين إلى الجنة كما قال تعالى في: أوصافهم {وَلَمْ يُصِرُّوا
(٢) المراغي.
الثانية: أن يقدم المرء على الذنب جريئًا عليه، متعمدًا فعلَه، عالمًا بتحريمه مؤثرًا له على الطاعة لا يصرفه عنه تذكر النهي، والوعيد عليه، ومثل هذا أحاطَت به خطيئته، فآثر شهوتَه على طاعة الله ورسوله، فدخل في عموم قوله تعالى: ﴿بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ إذ من يصر على المعصية، عامدًا عالمًا بالنهي، والوعيد، لا يكون مؤمنًا بصدق الرسول، ولا مذعنًا لشرعه الذي تنال الرحمة والرضا بالتزامه، والعذاب والنكال بتعدي حدوده، فالإصرار على العصيان، وعدم استشعار الخوف، والندم لا يجتمعان في قلب المؤمن الإيمانَ الصحيحَ المصدِّق بوعد الله، ووعيده.
الإعراب
﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ﴾.
﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ﴾ فعل ومفعول وفاعل، والجملة مستأنفة ﴿فِي أَوْلَادِكُمْ﴾ جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بـ ﴿يوصيكم﴾. ﴿لِلذَّكَرِ﴾ جار ومجرور خبر مقدم. ﴿مِثْلُ﴾. مبتدأ مؤخر وهو مضاف. ﴿حَظِّ﴾ مضاف إليه وهو مضاف. ﴿الْأُنْثَيَيْنِ﴾ مضاف إليه، والجملة الإسمية في محل النصب مفعول ﴿يُوصِيكُمُ﴾. والمعنى: يأمركم الله بإعطاء مثل حظ الأنثيين للذكر الواحد، وقيل: الجملة مستأنفة.
﴿فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ﴾.
﴿فَإِنْ كُنَّ﴾ ﴿الفاء﴾ عاطفة تفصيلية. ﴿إن﴾ حرف شرط. ﴿كُنَّ﴾ فعل ماض ناقص في محل الجزم، بـ ﴿إن﴾ الشرطية مبني بسكون على النون المدغمة في نون الإناث لاتصاله بنون الإناث، ونون الإناث: في محل الرفع اسم ﴿كان﴾. ﴿نِسَاءً﴾ خبرها. ﴿فَوْقَ اثْنَتَيْنِ﴾ ظرف، ومضاف إليه متعلق بمحذوف صفة لـ ﴿نساء﴾ تقديره: كائنات فوق اثنتين، وهذه الصفة (١) هي التي تحصل فائدة
﴿وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ﴾.
﴿وَإِنْ﴾ ﴿الواو﴾ عاطفة. ﴿إن﴾ حرف شرط. ﴿كَانَتْ﴾ فعل ماض ناقص في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ على كونه فعل شرط، واسمها ضمير يعود على الوارثة. ﴿وَاحِدَةً﴾ خبرها. ﴿فَلَهَا﴾ الفاء رابطة لجواب ﴿إن﴾ الشرطية. ﴿لها﴾ جار ومجرور خبر مقدم. ﴿النِّصْفُ﴾ مبتدأ مؤخر، والجملة الإسمية في محل الجزم جواب ﴿إن﴾ الشرطية، وجملة ﴿إن﴾ الشرطية معطوفة على جملة قوله: ﴿فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ﴾.
﴿وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ﴾.
﴿وَلِأَبَوَيْهِ﴾ الواو مستأنفة، أو عاطفة. ﴿لأبويه﴾ جار ومجرور خبر مقدم. ﴿لِكُلِّ﴾ ﴿وَاحِدٍ﴾ جار ومجرور ومضاف إليه بدل من الجار والمجرور قبله، وفائدة هذا البدل أنه لو قيل: ولأبويه السدس. لكان ظاهره اشتراكهما فيه؛ ولأن في الإبدال، والتفصيل بعد الإجمال تأكيدًا، وتقويةً كالذي تراه في الجمع بين المفسر والتفسير. ﴿مِنْهُمَا﴾ جار ومجرور صفة لـ ﴿واحد﴾. ﴿السُّدُسُ﴾ مبتدأ مؤخر، والجملة الإسمية مستأنفة، أو معطوفة على جملة قوله: ﴿فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً﴾ ﴿مِمَّا تَرَكَ﴾ ﴿مِمَّا﴾ جار ومجرور، حال من ﴿السدس﴾ ﴿تَرَكَ﴾ فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على الميت، والجملة صلة لـ ﴿ما﴾ أو صفة لها، والعائد، أو الرابط محذوف تقديره: مما تركه الميت ﴿إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ﴾ ﴿إن﴾ حرف شرط. ﴿كَانَ﴾ فعل ماض ناقص في محل الجزم بـ ﴿إن﴾. ﴿لَهُ﴾ جار ومجرور خبر مقدم
﴿فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ﴾.
﴿فَإِنْ لَمْ يَكُنْ﴾ ﴿الفاء﴾ فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت أن لأبويه السدس إذا كان له ولد، وأردت بيان حكم ما إذا لم يكن له ولد.. فأقول لك ﴿إن﴾ حرف شرط. ﴿لَمْ﴾ حرف جزم. ﴿يَكُنْ﴾ فعل مضارع ناقص مجزوم بـ ﴿لم﴾. ﴿لَهُ﴾ خبر مقدم لـ ﴿يكن﴾. ﴿وَلَدٌ﴾ اسمها مؤخر، وجملة ﴿يَكُنْ﴾ في محل الجزم بإن الشرطية على كونها فِعْلَ شرط لها. ﴿وَوَرِثَهُ﴾ الواو عاطفة. ﴿ورثه﴾ فعل ومفعول. ﴿أَبَوَاهُ﴾ فاعل ومضاف إليه، والجملة في محل الجزم معطوفة على جملة الشرط. ﴿فلأمه﴾ الفاء رابطة الجواب. ﴿لأمه﴾ جار ومجرور خبر مقدم. ﴿الثُّلُثُ﴾ مبتدأ مؤخر، والجملة في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة ﴿إن﴾ الشرطية مقول لجواب إذا المقدرة وجملة ﴿إذا﴾ المقدرة مستأنفة.
﴿فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ﴾.
﴿فَإِنْ كَانَ﴾ ﴿الفاء﴾ فاء الفصيحة، لأنهَا أفصحت عن شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت فرض الأم مع وجود الولد، وعدمه، وأردت بيان فرضها مع الإخوة.. فأقول لك: ﴿إن﴾ حرف شرط. ﴿كَانَ﴾ فعل ماض ناقص في محل الجزم. ﴿لَهُ﴾ خبرها مقدم. ﴿إِخْوَةٌ﴾ اسمها مؤخر. ﴿فَلِأُمِّهِ﴾ ﴿الفاء﴾ رابطة الجواب. ﴿لأمه﴾ جار ومجرور، ومضاف إليه خبر مقدم. ﴿السُّدُسُ﴾ مبتدأ مؤخر، والجملة الإسمية في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة إن الشرطية في محل النصب، مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفةٌ. ﴿مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ﴾ جار ومجرور، ومضاف إليه حال من السدس تقديره: حال كونه مستحقًا من بعد تنفيذ وصية، ويجوز أن يكون الجار والمجرور خبرًا لمبتدأ محذوف، تقديره: وإرث مَن ذكر بما ذُكِرَ مستحقٌ من بعد تنفيذ وصية. ﴿يُوصِي بِهَا﴾ ﴿يُوصِي﴾ فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الميت. ﴿بِهَا﴾ جار
﴿آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾.
﴿آبَاؤُكُمْ﴾ مبتدأ، ومضاف إليه. ﴿وَأَبْنَاؤُكُمْ﴾ معطوف عليه. ﴿لَا تَدْرُونَ﴾ ﴿لا﴾ نافية. ﴿تَدْرُونَ﴾ فعل وفاعل، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الإسمية مستأنفة. ﴿أَيُّهُمْ﴾ أي اسم استفهام مبتدأ مرفوع. ﴿والهاء﴾ مضاف إليه. ﴿أَقْرَبُ﴾ خبر لـ ﴿أي﴾. ﴿لَكُمْ﴾ جار مجرور متعلق بـ ﴿أقرب﴾. ﴿نَفْعًا﴾ تمييز محول عن المبتدأ تقديرهُ: نفع أيهم أقرب، والجملة من المبتدأ والخبر في محل النصب سادة مسد مفعولي ﴿تَدْرُونَ﴾. وفي "الفتوحات" (١) قوله: ﴿آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ﴾ مبتدأ، وقوله: ﴿لَا تَدْرُونَ﴾ وما في حيزه في محل رفع خبر له، و ﴿أيهم﴾ فيه وجهان: أشهرهما عند المعربين: أن يكون ﴿أَيُّهُمْ﴾ مبتدأَ وهو اسم استفهام، و ﴿أَقْرَبُ﴾ خبره، والجملة من هذا المبتدأ والخبر في محل نصب بـ ﴿تدرون﴾؛ لأنها من أفعال القلوب فعلقها اسم الاستفهام عن أن تعمل في لفظه؛ لأن الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله، والثاني: أنه يجوز أن تكون ﴿أي﴾ اسم موصول بمعنى الذي، و ﴿أَقْرَبُ﴾ خبر مبتدأ محذوف هو عائد على الموصول، وجاز حذفه؛ لأنه يجوز ذلك مع ﴿أي﴾ مطلقًا؛ أي: سواء طالت الصلة أم لم تطل، والتقدير: أيهم هو أقرب، وهذا الموصول وصلته في محل نصب على أنه مفعول به نصبه ﴿تَدْرُونَ﴾، وإنما بني لوجود شرطي البناء، وهما: أن يضاف ﴿أي﴾ لفظًا، وأن يحذف صدر صلتها، وصارت هذه الآية نظير قوله تعالى: ﴿ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ﴾ فصار التقدير: لا تدرون الذي هو أقرب. قال الشيخ: ولم أر من ذكر هذا الوجه منهم، ولا مانع منه، لا من جهة المعنى، ولا من جهة الصناعة، فعلى القول الأول: تكون الجملة سادةً مسدَّ
﴿وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ﴾.
﴿وَلَكُمْ﴾ الواو استئنافية. ﴿لكم﴾ جار ومجرور خبر مقدم. ﴿نِصْفُ﴾ مبتدأ مؤخر وهو مضاف. ﴿مَا﴾ موصولة أو موصوفة في محل الجر مضاف إليه. ﴿تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ﴾ فعل وفاعل، ومضاف إليه، والجملة صلة لـ ﴿ما﴾ أو صفة لها، والعائد، أو الرابط محذوف تقديره: ما تركه أزواجكم، والجملة من المبتدأ والخبر مستأنفة. ﴿إِنْ لَمْ يَكُنْ﴾ ﴿إن﴾ حرف شرط. ﴿لَمْ﴾ حرف جزم. ﴿يَكُنْ﴾ فعل مضارع ناقص مجزوم بـ ﴿لم﴾. ﴿لَهُنَّ﴾ جار ومجرور خبر مقدم لـ ﴿يكن﴾. ﴿ولد﴾ اسمها مؤخر، وجملة ﴿يَكُنْ﴾ في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ على كونها فعل شرط لها، وجواب ﴿إن﴾ معلوم مما قبله تقديره: إن لم يكن لأزواجكم ولد فلكم نصف ما تركن، وجملة إن الشرطية مستأنفة.
﴿فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ﴾.
﴿فَإِنْ﴾ ﴿الفاء﴾ فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن شرط مقدر تقديره: إذا عرفتم حكم ما إذا لم يكن لهن ولد، وأردتم بيانَ حكم ما إذا كان لهن الولد. فأقول لكم. ﴿إن﴾ حرف شرط. ﴿كَانَ﴾ فعل ماض ناقص في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ على كونه فعل شرط لها. ﴿لَهُنَّ﴾ جار ومجرور خبر مقدم لـ ﴿كان﴾. ﴿وَلَدٌ﴾ اسمها مؤخر. ﴿فَلَكُمُ﴾ ﴿الفاء﴾ رابطة لجواب ﴿إن﴾ الشرطية.
﴿مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ﴾.
﴿مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ﴾ جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بمحذوف حال من ﴿النصف﴾ و ﴿الربع﴾ تقديره: حالةَ كونهما معتبرين مأخوذين مما بقي بعد تنفيذ وصية، وقضاء دين. ﴿يُوصِينَ﴾ فعل وفاعل؛ لأن ﴿النون﴾ فيه ضمير جماعة الإناث. ﴿بِهَا﴾ متعلق به والجملة صفة لـ ﴿وصية﴾ ولكنها سببية. ﴿أَوْ دَيْنٍ﴾ معطوف على ﴿وَصِيَّةٍ﴾.
﴿وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ﴾.
﴿وَلَهُنَّ﴾ ﴿الواو﴾ عاطفة أو استئنافية. ﴿لهن﴾ جار ومجرور خبر مقدم. ﴿الرُّبُعُ﴾ مبتدأ مؤخر، والجملة مستأنفة أو معطوفة على جملة قوله: ﴿وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ﴾ ﴿مِمَّا﴾ جار ومجرور حال من ﴿الرُّبُعُ﴾. ﴿تَرَكْتُمْ﴾ فعل وفاعل والجملة صلة لـ ﴿ما﴾ أو صفة لها، والعائد، أو الرابط محذوف تقديره: تركتموه. ﴿إِنْ لَمْ يَكُنْ﴾ ﴿إِن﴾ حرف شرط ﴿لَمْ﴾. حرف جزم ﴿يَكُنْ﴾ مجزوم بـ ﴿لم﴾. ﴿لَكُمْ﴾ خبر مقدم لـ ﴿يكن﴾. ﴿وَلَدٌ﴾ اسمها مؤخر، وجملة ﴿يَكُنْ﴾ في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ على كونها فعل شرط لها، وجواب ﴿إن﴾ معلوم مما قبله تقديره: إن لم يكن لكم ولد: فلهن الربع مما تركتموه، وجملة ﴿إن﴾ مستأنفة.
﴿فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ﴾.
﴿وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ﴾.
﴿وَإِنْ﴾ ﴿الواو﴾ استئنافية. ﴿إن﴾ حرف شرط. ﴿كَانَ﴾ فعل ماض ناقص في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ الشرطية. ﴿رَجُلٌ﴾ اسمها. ﴿يُورَثُ﴾ فعل مضارع مغير الصيغة، ونائب فاعله ضمير يعود على ﴿رَجُلٌ﴾ والجملة الفعلية صفة لـ ﴿رجل﴾. ﴿كَلَالَةً﴾ خبر ﴿كَانَ﴾. ﴿وَلَهُ أَخٌ﴾ الواو حالية. ﴿له﴾ خبر مقدم. ﴿أَخٌ﴾ مبتدأ مؤخر مرفوع بضمة ظاهرة على لغة النقص. ﴿أَوْ أُخْتٌ﴾ معطوف عليه، والجملة من المبتدأ والخبر في محل النصب حال من رجل، وصح مجيء الحال منه، لوصفه بالجملة المذكورة بعده، والمعنى؛ وإن كان رجل
﴿فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ﴾.
﴿فَإِنْ﴾ ﴿الفاء﴾ فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن شرط مقدر، تقديره إذا عرفتم حكمَ ما إذا كان له أخ أو أخت، وأردتم بيانَ حكم ما إذا كانوا أكثرَ.. فأقول لكم: ﴿إن﴾ حرف شرط. ﴿كَانُوا﴾ فعل ناقص، واسمه في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ الشرطية على كونه فِعْلَ شرط لها. ﴿أَكْثَرَ﴾ خبر ﴿كان﴾. ﴿مِنْ ذَلِكَ﴾ متعلق بـ ﴿أكثر﴾. ﴿فَهُمْ﴾ ﴿الفاء﴾ رابطة الجواب. ﴿هم شركاء﴾ مبتدأ وخبر. ﴿فِي الثُّلُثِ﴾ متعلق بـ ﴿شركاء﴾ والجملة الإسمية في محل الجزم بإن الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة إن الشرطية مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة.
﴿مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ﴾.
﴿مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ﴾ جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بمحذوف خبر لمحذوف تقديره: استحقاقهم ما ذكر من السدس، والثلث كائن من بعد تنفيذ وصية. ﴿يُوصَى﴾ بالبناء للفاعل وفاعله ضمير يعود على المحتضر. ﴿بِهَا﴾ متعلق بـ ﴿يوصى﴾ والجملة صفة لـ ﴿وصية﴾ ولكنها سببية، أو بالبناء للمفعول والجار والمجرور على هذا نائب فاعل قال ابن مالك:
وَقَابِلْ مِنْ ظَرْفٍ أوْ مِنْ مَصْدَرِ | أَوْ حَرْفِ جَرٍّ بِنِيَابَةٍ حَرِيْ |
﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾.
﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ﴾ مبتدأ وخبر، ومضاف إليه، والجملة مستأنفة ﴿وَمَنْ﴾ الواو استئنافية. ﴿من﴾ اسم شرط في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط، أو جملة الجواب، أو هما على الخلاف المذكور في محله. ﴿يُطِعِ اللَّهَ﴾ فعل ومفعول مجزوم بمن وفاعله ضمير يعود على ﴿من﴾. ﴿وَرَسُولَهُ﴾ معطوف على الجلالة. ﴿يُدْخِلْهُ﴾ فعل مضارع مجزوم بـ ﴿من﴾ على كونه جوابَ الشرط، وفاعله ضمير يعود على ﴿اللَّهَ﴾، وجملة ﴿من﴾ الشرطية مستأنفة. ﴿والهاء﴾ في محل النصب مفعول أول. ﴿جَنَّاتٍ﴾ مفعول ثان. ﴿تَجْرِي﴾ فعل مضارع. ﴿مِنْ تَحْتِهَا﴾ جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بـ ﴿تجري﴾. ﴿الْأَنْهَارُ﴾ فاعل والجملة الفعلية في محل النصب صفة لـ ﴿جنات﴾. ﴿خالدين﴾ حال من ﴿هاء﴾ ﴿يدخله﴾ وجمعه نظرًا لمعنى ﴿من﴾. ﴿فيها﴾ متعلق بـ ﴿خالدين﴾. ﴿وَذَلِكَ الْفَوْزُ﴾ مبتدأ وخبر. ﴿الْعَظِيمُ﴾ صفة للفوز، والجملة مستأنفة.
﴿وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ﴾.
﴿وَمَنْ﴾ ﴿الواو﴾ عاطفة. ﴿من﴾ اسم شرط في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط. ﴿يَعْصِ اللَّهَ﴾ فعل ومفعول مجزوم بـ ﴿من﴾، وفاعله ضمير يعود على ﴿من﴾. ﴿وَرَسُولَهُ﴾ معطوف على الجلالة. ﴿وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ﴾ الواو
﴿يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾.
﴿يُدْخِلْهُ﴾ فعل مضارع مجزوم بمن على كونه جوابًا لها، وفاعله ضمير يعود على الله. ﴿والهاء﴾ مفعول أول. ﴿نَارًا﴾ مفعول ثان، وجملة ﴿من﴾ الشرطية معطوفة على جملة ﴿من﴾ الأولى. ﴿خَالِدًا﴾ حال من ضمير ﴿يُدْخِلْهُ﴾ وأفرده نظرًا للفظ ﴿من﴾ ﴿فِيهَا﴾ متعلق بـ ﴿خالدًا﴾. ﴿وَلَهُ﴾ الواو عاطفة. ﴿له﴾ جار ومجرور خبر مقدم. ﴿عَذَابٌ﴾ مبتدأ مؤخر. ﴿مُهِينٌ﴾ صفة له، والجملة الإسمية في محل الجزم معطوفة على جملة ﴿يُدْخِلْهُ نَارًا﴾، والله أعلم.
التصريف ومفردات اللغة
﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ﴾ مضارع أوصى الرباعي، من باب: أفعلَ يقال: أوصى الشيء بالشيء، ووصاه به إذا أوصى له به؛ لأن الموصي أوصل خير عُقْبَاهُ بخير دنياه، وأوصى الله بكذا، إذا أَمرَ به، وأوجبه، والمعنى: هنا يأمركم الله سبحانه وتعالى في إرث أولادِكم بأن يُعطَى الذكرُ الواحد مثلَ حظ الأنثيين.
﴿حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ﴾ الحظ: النصيب من الخير، والفضل، وقد يطلق على النصيب من الشر، واليسر، والسعادة يجمع على حظوظ، وحظاظ، وأحظ يقال حظ يحظ من باب: فتحَ إذا كان ذا حظ.. فهو حظيُّ، وحَظِيظ ومَحْظوظ.
﴿الْأُنْثَيَيْنِ﴾ مثنى الأنثى، والأنثى خلافُ الذكر، يُجمع على إناث، وأناثي، والمؤنث خلاف المذكر مأخوذة من أَنَثَ الحديدُ يَأنُثُ أَنْثًا من باب: نصر إذا لاَنَ، وكان غير شَديدٍ وصلبٍ، وسميت المرأة بأنثى للين بشرتها، وجسمها، ولضعفها خلقةً.
﴿فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ﴾ يقال: فرض الله كذا على عباده، إذا أوجبه عليهم من باب: ضرب، والفريضةُ: الشيءُ الذي أوجبه عليهم، يُجمع على فرائض ﴿لَا تَدْرُونَ﴾ مضارع درى يدري دريًا، ودراية من باب: رمى، وهو من أفعال
دَرَيْتَ ألوَفِيَّ العَهْدِ يَا عُرْوَ فَاغْتَبِطْ | فَإِنَّ اغْتِبَاطًا بَالوَفَاءِ حَمِيْدُ |
﴿وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً﴾، واختلف (١) في اشتقاق ﴿الكلالة﴾، قيل: من الكَلاَل وهو الإعياء، فكأنه يصير الميراث إلى الوارث عن بُعْدٍ واعْيَاءٍ قال الأعشى:
فَآلَيْتُ لاَ أَرْثِي لَهَا مِنْ كَلاَلَةٍ | وَلاَ وَجِيٍ حَتَّى تُلاَقِيْ مُحَمَّدَا |
وقيل: هي مشتقة من تكلله النسب إذا أحاط به، فإذا لم يترك والدًا، ولا ولدًا.. فقد انقطع طرفاه، وهما عمودا نسبه وبقيَ موروثُه لمن يتكلل نسبه أي يحيط به من نواحيه كالإكليل، ومنه روض مكلل بالزهر، وقال الفرزدق:
وَرِثْتُمْ قَنَاةَ الْمَجْدِ لاَ عَنْ كَلاَلَةٍ | عَنِ ابْنَي مَنَافٍ عَبْدِ شَمْسٍ وَهَاشِمِ |
وَالْمَرْءُ يَجْمَعُ لِلْغِنَى | وَللْكَلاَلَةِ مَا يَسِيْمْ |
(٢) الشوكاني.
﴿شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ﴾ جمع شريك ككرماء جمع كريم ﴿غَيْرَ مُضَارٍّ﴾ اسم فاعل من ضَار يضار ضرارًا، ومضاررةً من باب فاعل إذا أدخل عليه الضررَ إن بنيَ يوصى للفاعل، واسمُ مفعول إن بني للمفعول كما مرت الإشارة إليه ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ﴾ حدود الشيء أطرافه التي يمتاز بها من غيره، ومنه حدودُ الدار، سميت بها الشرائع التي أمر الله باتباعها، ونَهَى عن تركها، فمدارُ الطاعة على البقاء في دائرة هذه الحدود، ومَدارُ العصيان على اعتدائها.
﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾ من أطاع الرباعي، يقال: أطاع الله يُطيع إطاعةً، وطاعة من باب: أعان: إذا امتثل ما أمرَ به، ونُهيَ عنه، وأطاع الرسولَ. إذا تمسَّك ما أتَى به وبيَّن.
البلاغة
قال أبو حيان (١): وقد تضمنت هذه الآيات من أصناف البديع:
منها: التفصيلُ في الوارث والأنصباء بعد الإبهام في قوله: ﴿لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ﴾ الآية.
ومنها: العُدول من صيغة يأمركم الله إلى ﴿يُوصِيكُمُ﴾ لما في الوصية من التأكيد، والحرص على اتباعها.
ومنها: الطباقُ في لفظ الذكر والأنثى في قوله: ﴿لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ﴾، وفي ﴿من يطع﴾ و ﴿من يعص﴾ وفي ﴿آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ﴾.
ومنها: إعادة الضمير على غير مذكور لقوة الدلالة على ذلك في قوله: ﴿مِمَّا تَرَكَ﴾؛ أي: ترك الموروث.
ومنها: التكرارُ في لفظ ﴿كَانَ﴾، وفي قوله: ﴿فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ﴾
ومنها: جناسُ الاشتقاق في قوله: ﴿وَصِيَّةٍ يُوصَى﴾.
ومنها: المبالغةُ في قوله: ﴿عَلِيمٌ حَلِيمٌ﴾.
ومنها: تلوينُ الخطاب في من قرأ ﴿ندخله﴾ بالنون.
ومنها: الحذف في مواضع انتهى.
فائدة: ﴿أَوْ دَيْنٍ﴾ ﴿أو﴾ هنا (١) لإباحة الشيئين قال أبو البقاء: ولا تدل على ترتيب؛ إذ لا فرق بين قولك: جاءني زيد، أو عمرو، وبين قولك: جاءني عمرو، أو زيد؛ لأن أو لأحد الشيئين، والواحد لا ترتيب فيه، وبهذا يفسد قول من قال: التقدير: من بعد دين أو وصية، وإنما يقع الترتيب فيما إذا اجتمعا، فيقدم الدين على الوصية، وقال الزمخشري فإن قلتَ: فما معنى أو؟
قُلْتُ: معناها للإباحة، وإنه إن كان أحدهما، أو كلاهما قُدِّم على قسمة المواريث، كقوله: جالس الحسنَ، أو ابنَ سيرين، فإن قلتَ لم قدمت الوصية على الدين في الذكر، والدين مقدم عليها في الشريعة؟
قلت: لمَّا كانت الوصية مشبهةً للميراث في كونها مأخوذةً من غير عِوَضٍ كان إخراجها مما يشق على الورثة بخلاف الدين، فإن نفوسَهم مطمئنةُ إلى أدائه فلذلك قدمَتْ على الدين حثًّا على وجوبها، والمسارعةِ إلى إخراجها مع الدين، ولذلك جِيء بكلمة ﴿أو﴾ للتسوية بينهما في الوجوب اهـ "سمين".
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
﴿وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا (١٥) وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا (١٦) إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (١٧) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (١٨) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا (١٩) وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (٢٠) وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (٢١)﴾.
المناسبة
قوله تعالى: ﴿وَاللَّاتِي يَأتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ...﴾ الآية، مناسبةُ (١) هذه الآيات لما قبلها: أنه تعالى لما أمر بالإحسان إلى النساء، فذكر إيتاءَ صدقاتهن، وتوريثهن، وقد كنُ لا يورثنَ في الجاهلية.. ذَكَرَ التغليظ عليهن فيما يأتينه من الفاحشة، وفي الحقيقة: هو إحسان إليهن؛ إذ هو نظر في أمر آخرتهن؛ ولئلا يتوهمَ أنَّ من الإحسان إليهن أن لا تُقام عليهن الحدودُ، فيصيرُ ذلك سببًا لوقوعهن في أنواع المفاسد، ولأنه تعالى لمَّا ذكر حدودَه، وأشار بتلك إلى جميع ما وقع من أول السورة إلى موضع الإشارة؛ فكان في مبدأ السورة التحضُّنُ بالتزويج، وإباحةُ ما أباح من نكاح أربع لمن أباح ذلك، استطردَ بعد ذلك إلى
وقال المراغي (١): المناسبة في هذه الآية: لمَّا أوصى الله سبحانه وتعالى بالإحسان إلى النساء ومعاشرَتهن، بالمعروف، والمحافظة على أموالهنَ وعدَم أخذ شيء منها إلا إذا طابت أنفسهن بذلك؛ ذكَرَ هنا التشديدَ عليهن فيما يأتينه من الفاحشة، وهو في الحقيقة إحسان إليهن، إذ الإحسانُ في الدنيا تارةً يكون بالثواب، وأخرى بالزجر والعقاب لكف العاصي عن العصيان، الذي يوقعه في الدمار والبَوار، ومبنَى الشرائع على العدل، والإنصاف، والابتعاد من طرفي الإفراط والتفريط، ومن أقبح العصيان الزنَا، ولا سيما في النساءِ؛ لأن الفتنةَ، بهن أكثر، والضرر منهن أخطر؛ لما يفضي إليه من توريث أولاد الزنا، وانتسابهم إلى غير آبائهم.
قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ...﴾ الآية، مناسبتها (٢) لما قبلها: أنه سبحانه وتعالى لمَّا ذَكَر أن من تاب وأصلح، تركت عقوبته، وأُزيل الأذى عنه، وأنه هو التواب الذي هو يقبل التوبةَ عن عباده.. ذكَرَ هنا وقت التوبة، وشرط قبولها، ورغبتَه في تعجيلها حتى لا يأتيَ الموت، وهو مصر على الذنب، فلا تنفعه التوبة، وأرشَدَ أولياءَ الأمر إلى الطريق الذي يسلكونه مع العصاة في معاقبتهم، وتأديبهم، فأمر هنا بالإعراض عن أذى مَن تاب وأصلح العمل، بعد أَنْ فرض عقوبةَ مرتكبي الفواحش في الآية السالفة، فهذه شرح لذلك الإصلاح في العمل.
قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا...﴾ الآيات، هذه الآيات مناسبتها لما قبلها: أنه لما نهى الله سبحانه وتعالى فيما
(٢) المراغي.
أسباب النزول
قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا...﴾ سبب نزولها (١): ما روى البخاري وأبو داود، والنسائي، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كانوا إذا مات الرجل كان أولياؤه أحق بامرأته، إن شاء بعضهم. تزوَّجها، وإن شاؤوا زوجوها، فهم أحق بها من أهلها؛ فنزلت هذه الآية.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم بسند حسن، عن أبي أُمامة أسعد بن سهل بن حُنيف قال: لمَّا تُوفي أبو قيس بن الأصلت أراد ابنُه أن يتزوَّج امرأتَه، وكان لهم ذلك في الجاهلية؛ فنزلت هذه الآية.
وفي "الخازن" (٢): نزلت هذه الآية في أهل المدينة، وذلك أنهم كانوا في الجاهلية، وفي أول الإِسلام، إذا مات الرجل، وخلَّف امرأةً جاء ابنه من غيرها، أو قَرِيبُه من ذوي عصبته، فألقى ثوبَه على تلك المرأة، أو على خبائها، فصار أحقَ بها من نفسها، ومن غيره، فإن شاء تزوجها بغير صداق إلا الصداقَ الأول، الذي أصدقَها الميتُ، وإن شاء زوَّجها غيَره وأخذ هو صداقها، وإن شاء.. عضلها، ومنعها من الأزواج يُضارُّها بذلك لتفتديَ منه بما ورثت من الميت، أو تموتَ هي فيرثُها، فإن ذهبت المرأة إلى أهلها قبل أن يلقيَ عليها وَلِيُّ زوجها ثوبَه.. كانت أحقَّ بنفسها، وكانوا على ذلك حتى توفّي أبو قيس بن الأصلت الأنصاري، وتَركَ امرأتَه كُبيشة بنتَ مَعْنٍ الأنصارية، فقام ابن له من غيرها، يقال له حصنُ: وقيل: اسمه قيس بن أبي قيس، فطرح ثوبَه عليها؛ فورث نكاحها، ثم تركها، فلم ينفق عليها يُضَارّها بذلك لتفتدي منه، فأتَتْ كبيشة رسول الله - ﷺ -
(٢) الخازن.
التفسير وأوجه القراءة
١٥ - ﴿و﴾ النسوة ﴿اللاتي﴾ جمع التي في المعنى دون اللفظ؛ أي: والنسوة اللاتي ﴿يَأتِينَ﴾، ويفعلن ﴿الْفَاحِشَةَ﴾ والزنا حالةَ كونهن كائنات ﴿مِنْ نِسَائِكُمْ﴾، وأزواجكم المؤمنات المحصنات، وفي التعبير عن الإقدام على الفواحش بهذه العبارات معنى دقيقٌ، وهو أنَّ الفاعلَ لها ذهب إليها بنفسه، واختارَها بطبعه، والفاحشةُ: الفعلة القبيحة والمراد بها هنا: الزنا لزيادتها في القبح على كثير من القبائح.
﴿فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ﴾؛ أي: فأشهدوا أيها المسلمون على فعلهن الفاحشة؛ أي: على العَورتَينِ ﴿أَرْبَعَةً مِنْكُمْ﴾؛ أي: أربعة رجال أحرار كائنين منكم أيها المؤمنون، أو المعنى: أطلبوا أربعة رجال منكم يشهدون على زَناهنَ، ويشترط في هذه الشهادة: المذكورة، والعدالة. قال الزهري: مضت السنة من رسول الله - ﷺ - والخليفتين بعده أنْ لا تُقبل شهادة النساء في الحدود.
والحكمة في هذا (١): إبعاد النساء عن مواقع الفواحش، والجرائم، والعقاب، والتعذيب رغبةً في أن يكنَّ دائمًا غافلات عن القبائح، لا يفكرنَ فيها، ولا يخضنَ مع أربابها، والظاهر: أنه يجوز الاستشهاد لمعاينة الزنا، وأن تعمدَ النظر إلى الفرج، لا يقدَحُ في العدالة؛ إذا كان ذلك؛ لأجل الزنا.
وقرأ عبد الله ﴿واللاتي يأتين بالفاحشة﴾ ﴿فَإِنْ شَهِدُوا﴾؛ أي: فإن شهد
وفي الآية (١) إشارة إلى أن منعَ النساء عن الخروج عند الحاجة إليه في غير هذه الحالة لمجرد الغيرة، أو لمجرد الهَوى والتحكم من الرجال لا يجَوزُ، وكذلك في الآية إيماء إلى أن هذه العقوبة مقرونة بما يدل على التوقيت، وعن عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - قال: كان نبي الله - ﷺ - إذا نزل عليه حكم كرب لذلك، وتربد وجهه فأنزل الله عليه ذاتَ يوم، فبقي كذلك فلما سُري عنه قال: "خُذوا عني، خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلًا، الثيبُ بالثيب جلدُ مائة، ورَجْمُ بالحجارة، والبكر بالبكر جلدُ مائة، وتغريب عام". أخرجه مسلم. ومن هذا تعلَمُ أنَّ السبيل كان مجملًا أولًا، فبينه الحديث المذكورُ، وخصص الحديثُ أيضًا، عُمومَ آية الجلد الآتية في سورة النور، ﴿الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ﴾ فثبت الجلد على البكر بنص الكتاب، وثبت الرجم على الثيب المحصن بسنة رسول الله - ﷺ - فقد صح أن رسول الله رَجَم ماعزًا، وكان قد أُحْصِنُ وسواء في هذا الحكم المسلم، واليهودي؛ لأنه ثَبتَ في الصحيح أن النبي - ﷺ - رَجَم يهوديين زَنَيا، وكانا قد أحصنا.
١٦ - ثم بين عِقابَ كل من الزانيين البكريَنِ فقال: ﴿وَاللَّذَانِ يَأتِيَانِهَا مِنْكُمْ﴾؛ أي: والبكران اللذان يفعلان الفاحشةَ
وهذا (١) العقاب والإيذاء كان أول الإِسلام من قبيل التعزير، وأمره مفوض إلى الأمة في كيفيته، ومقداره، فلما نزلت آية النور التي تقدم ذكرها، وجاء الحديث الشريف السابق، بينا مقدارَ هذا الإيذاءِ، وحدداه، وبهما استبان أن عقاب المرأة الثيب، والرجل المتزوج، الرجم بالحجارة حتى يموتا، وعقابَ المرأة البكر، والرجل الذي لم يتزوج جلد مائة، ونفيُهُ سنةً.
وقرأ الجمهور ﴿واللذان﴾ بتخفيف النون، وقرأ ابن كثير بالتشديد، وقراءة عبد الله ﴿والذين يفعلونه منكم﴾ وهي قراءة مخالفة لسواد مصحف الإِمام، ومتدافعة مع ما بعدها؛ إذ هذا جمع وضميرُ جمع، وما بعدهما ضميرُ تثنية، وقرىء ﴿واللذأن﴾ بالهمزة وتشديد النون، وتوجيهُ هذه القراءة: أنه لما شدَّدَ النون التقى ساكنان، ففرَّ القارئ من التقائهما إلى إبدال الألف همزةً تشبيهًا لها بألف فاعل المدغم عينه في لامه، كما قرئ: ﴿ولا الضألين﴾ ﴿ولا جأن﴾.
ثم بين أنَّ هذا الإيذاءَ، والعقاب: إنما يكون إذا لم يتوبَا، فإن تابا وأصلحا. رفع عنهما ذلك فقال ﴿فَإِنْ تَابَا﴾؛ أي: فإن تاب الزانيان، ورجعا عن فعل الفاحشةِ بعد زواجر الأذيَّةِ ونَدِمَا على ما فعلا ﴿وَأَصْلَحَا﴾ عملهما فيما بينهما، وبين الله، وغيّرا أحوالَهما كما هو شأن المؤمن، يطهر نفسه بالإقبال على الطاعة، ويزكيها من أدران المعاصي التي فَرطت منه، ويُقوي داعيةَ الخير حتى تغلب داعية الشر ﴿فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا﴾؛ أي: فاتركوا إيذاءَهما، وكفوا الأذى عنهما بالقول والفعل، ثم علل الأمرَ بالإعراض عنهما بقوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿كَانَ تَوَّابًا﴾؛ أي: كثير القبول لتوبة من تاب ﴿رَحِيمًا﴾؛ أي: كثيرَ الرحمة
وهذه الجملةُ جاءت تعليلًا للأمر بالإعراض، والخطابُ هنا لأولي الأمر والحكام، وقد عُلم مما مر أن الإمساك في البيوت والإيذاءَ باللسان قد نسِخَا برجم المحصن وجلد البكر.
وقال أبو مسلم الأصفهاني بن بحر، والمرادُ بقوله: ﴿وَاللَّاتِي يَأتِينَ الْفَاحِشَةَ﴾ السحاقات وحدُّهن الحبس إلى الموت، أو إلى أن يُسهلَ الله لها قضاء الشهوة بطريق النكاح، والمراد بقوله: ﴿وَاللَّذَانِ يَأتِيَانِهَا مِنْكُمْ﴾ أهل اللواط، وحَدُّهُمَا الأذى بالقول والفعل، والآية التي في سورة النور في الزانية والزاني، وخالف جمهور المفسرين، وبناه أبو مسلم على أصل له، وهو يرى أنه ليس في القرآن ناسخ ولا منسوخ.
١٧ - ﴿إِنَّمَا التَّوْبَةُ﴾ الواجهب قبولُها ﴿عَلَى اللَّهِ﴾ بمقتضى وعده لعباده، وجوبُ تفضل وإحسان، لا وجوبُ استحقاق وإلزام، كائنة ثابتة ﴿لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ﴾ ويفعلون ﴿السُّوءَ﴾ والذنب حالةَ كونهم ملتبسين ﴿بِجَهَالَةٍ﴾، وسفه، فإنَّ ارتكابَ الذنب، ولومع العلم به سفه وتجاهل، أو المعنى: الذين يعملون المعصيةَ مع عدم علمهم بأنها معصية، لكنه يمكنه تحصيل العلم بأنها معصية ﴿ثُمَّ يَتُوبُونَ﴾، ويرجعون إلى طاعة الله تعالى ﴿مِنْ قَرِيبٍ﴾؛ أي: في زمن قريب، والزمنُ القريب: هو الوقت الذي تسكن به ثَورةُ الشهوة، أو تنكسر به حدة الغضب، ويثوب فاعلُ السيئة إلى حلمه، ويرجعُ إليه دينه وعقله، وقيل: هو ما قبل معاينة سبب الموت وأهواله، وهذا القولُ ضعيف كما سيأتي الإشارة إليه قريبًا ﴿فَأُولَئِكَ﴾ الذين فعلوا الذنوبَ بجهالة، وتابوا بعد قريب من الزمن ﴿يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ﴾؛ أي: يقبل توبتَهم؛ لأن الذنوبَ لم ترسخ في نفوسهم، ولم يصروا على ما فعلوا، وهم يعلمون.
وما رواه أحمد عن ابن عمر من قوله - ﷺ -: "إن الله يقبل توبةَ العبد ما لم يغرغر"، فالمراد منه: أنه لا ينبغي لأحد أن يَقنط من رحمة الله، وييأس من قبول التوبة ما دام حيًّا، وليس معناه: أنه لا خوف على العبد من التمادي في الذنوب إذا هو تاب قبل الموت بساعة، فإن هذا مخالف لهدي الدين في مثل قوله تعالى: ﴿وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى﴾ ولمثل قوله: ﴿رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ﴾.
قوله: ﴿يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ﴾ السوء: هو العمل القبيح الذي يسوء فاعله إذا كان عاقلًا سليم الفطرة، وهذا شاملٌ للصغائر والكبائر ﴿والجهالة﴾ الجهل: وتغلُّب السفه على النفس عند ثورة الشهوة، أو سورة الغضب، حتى يذهبَ عنها الحلم، وتنسى الحقَّ، وكل من عصى اللهَ يسمَّى جاهلًا، ويسمَّى فعله جهالةَ كما قال تعالى: إخبارًا عن يوسف عليه السلام ﴿أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ﴾.
وسر هذا أن العاصي لربه لو استعمل ما معه من العلم بالثواب، والعقاب.. لما أقدم على المعصية؛ إذ هو لا يرتكبها إلا جاهلًا بحقيقة الوعيد، ومنتظرًا لاحتمال العفو، والمغفرة، أو شفاعة الشفعاء التي تصد عنه العقابَ، وقيل: معنى الجهالة: أن يأتي الإنسانُ بالذنب مع العلم، بأنه ذنب، لكنه يجهل عقوبتَه، وقيل: معنى الجهالة: هو اختيار اللذة الفانية على اللذة الباقية.
﴿ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ﴾؛ أي: يتوبون (١) بالإقلاع عن الذنب بزمان قريب، لئلا يعدَّ في زمرة المصرينَ، وقيل: القريب: أن يتوب في صحته قبل مرض موته، وقيل: قبل موته، وقيل: قبل معايَنةِ ملك الموت، ومعايَنةِ أهوال الموت،
وقيل في معنى الآية: إن القريب هو: أن يتوب الإنسانُ قبل أن يحيطَ السوء بحسناته فيحبطَها.
والأصح كما قدمنا أن القريبَ أن يتوب بعدما سكنت ثورة الشهوة، وانكسرت حدَّةُ الغضب؛ إذ مَنْ كان قويَّ الإيمان لا تقع منه المعصية إلا عن بادرة غضبٍ، أو شهوةٍ هفوةً بعد هفوة، ثم لا يلبث أن يبادَر إلى التوبة.
وقد قسموا التوابين إلى أقسام وطبقات (١)
الأول: من هو سليم الفطرة عظيمُ الاستعداد للخير، فهو إذا وقع في خطيئة مرةً كان له منها أكبَرُ عبرة، فيندَمُ بعدها، ويحملُ نفسَه على الفضيلة، ويصرِفُها عن كل رذيلة.
الثاني: مَنْ تكون داعية الشهوة أقوى في نفسه، وأرسخَ في قلبه.. فإذا أطاع نفسَه، وارتكب معصيةً. قامتْ الخواطرُ الإلهية تحاربه، وتوبِّخُه حتى تنتصرَ عليه، وتقهرَهُ قهرًا تامًّا، فلا يعودُ بعدَها إلى اجتراح إثم، ولا وقوع ذنب.
الثالث: من تقوى نفسُه بالمجاهدة على اجتناب كبار الإثم، والفواحش، لا على صِغَارِ الذنوب والآثام، وهنَاكَ تكون الحربُ في نفوسهم سجالًا بينَ ما يلمون به من الصغائر، وبَيْنَ الخواطر الإلهية التي هي جندُ الإيمان.
الرابع: من يقع في الذنب، فيتوبُ ويستغفر، ثم يَعْرُض له مرةً أخرى،
﴿وَكَانَ اللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿عَلِيمًا﴾ بمن يطيع، ويعصي، ويتوب، ويعرض ﴿حَكِيمًا﴾ فيما دبره لخلقه بوضع الأشياء في مواضعها، فيقبلُ توبةَ من أناب إليه، لكنه لا يقبل إلا التوبةَ النصوح، دون حركات اللسان بالاستغفار، والإتيان ببعض المكفرات من الصدقات، والأذكار مع الإصرار على الذنوب، والأوزار، ومن ثمَّ جَمَعَ الله في الآية السابقة بين التوبة وإصلاح العمل.
وقد فعلت الأمم السالفة مثلَ هذا، فاستثقلت التكاليفَ وفسقَت عن أمر ربها، واتبعَتْ هواهَا، وجعلَتْ حظَهَا من الدين مجموعَ حركات لسانيةٍ، وبدنِيَةِ لا تهذَب خُلقًا، ولا تصلح عملًا، ولا تمنع النفسَ من التمتع بشهواتها، وقد اتبع كثير من المسلمين سُنَنَ من قبلهم، وحَذَوا حَذْوَهم شبرًا بشبرٍ، وذراعًا بذراع، فكانت الأغاني لهم دثارًا، والملاهي شعارًا فإنا لله وإنا إليه راجعون.
١٨ - وبعد أن بينَ حالَ من تقبل توبتهمُ ذَكَرَ حالَ أضَدادِهم الذين لا تقبل توبتهم، فقال: ﴿وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ﴾؛ أي: وليس قبولُ التوبة واجبًا على الله للذين يفعلون، ويرتكبون الذنوبَ، والمعاصيَ، ويستمرون عليها إلى حضور علامات الموت وقُرْبه ﴿حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ﴾؛ أي: فإذا حضر أحدهم أوائلُ الموت، وَرَأى أشراطَها، وأيس من الحياة التي يتمتع بها، ﴿قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ﴾ إلى طاعة الله، ولذلك لم يُقْبَل إيمانُ فرعون حين أدركَه الغرقُ؛ أي: إن سنةَ الله قد مضَتْ بأن التوبة لا تكون للذين يعملون السيئات منهمكينَ فيها إلى حضور الموت، وصدور ذلك القول منهم؛ لأن هؤلاء قد أحاطَتْ بهم خطيئَاتُهم، ولم تَدَعْ للأعمال الصالحة مكانًا في نفوسهم، فهم
والخلاصة: أن التوبةَ لمثل هؤلاء ليست مقبولةً حتمًا، فأمرهم مفوَّضٌ إلى الله تعالى، وهو العليمُ بحالهم، وحديثُ قبول التوبة "ما لم يغرغر" أو تَبلُغ روحه الحلقوم: المرادُ منه حصول التوبة النصوح، بأن يُدركَ المذنبُ قبحَ ما كان قد عمله من السيئات، ويندَمَ على مزاولتها، ويزولَ حبه لها، بحيث لو عاشَ لم يعدْ إليها، وقلَّما يحصل مثل هذا الإدراك للمصر على السيئات المستأنس بها في عامة أيام الحياة، وإنما يَحصل له إدراك العجز عنها، واليأس منها، وكراهةُ ما يتوقعه من قُرْبِ العقاب عليها عندَ الموت.
﴿وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ﴾؛ أي: وليس قبول التوبة للذين يموتون على الكفر إذا تابوا في الآخرة عند معاينة العذاب؛ أي: لا تقبل توبة لهؤلاء ولا لهؤلاء، فقد سوى الله بين الذين سوفوا توبتَهم إلى أن حضر الموتُ، وبين الذين ماتوا على الكفر، في أنَّ توبتهم لا تقبل، فكما أن المائتَ على الكفر قد فاتته التوبة على اليقين، كذلك المسوف إلى حضور الموت فكلٌ منهما جَاوَزَ الحد المضروب للتوبة، إذ هي لا تكون إلا عند التكليف والاختيار.
﴿أُولَئِكَ﴾ المذكورون من الفريقين ﴿أَعْتَدْنَا﴾ وهيأنا ﴿لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾؛ أي: مؤلمًا موجعًا في الآخرة؛ أي: هذان الفريقان اللذان استعبدَهما سلطان الشهوة، وخرَجَا عن نهج الفطرة، وهُدى الشريعةِ: أعدَدْنا وهيأنا لهم العذابَ الموجعَ في الآخرةِ، جزاءًا وفاقًا لما اكتسَبت أيديهم من السيئات مع إصرارهم عليها حتى المماتِ، إذ أنهم أفسدوا قلوبَهم، ودسوا نفوسَهم، فصارت تهبط بهم خَطَايَاهم إلى الدرك الأسفل من النيران، والهَوَان، وتعجز عن الصعود إلى معاهد الكرامةِ والرضوانِ، وهذه الجملة تأكيدٌ لعدم قبول توبتهم.
١٩ - ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ باللهِ ورسوله ﴿لَا يَحِلُّ﴾، ولا يجوز ﴿لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ﴾ عَيْنَ النساء وذاتها بنكاحِهن ﴿كَرْهًا﴾ أي مكرهات غيرَ راضيات له إذا
﴿و﴾ كذلك ﴿لا﴾ يحل لكم أيها المؤمنون أن: ﴿تَعْضُلُوهُنَّ﴾ وتحبسوهن في نكاحكم، وتضيّقوا عليهن بسوء العشرة، حتى أُلْجِئَت إلى الافتداء بمالها ﴿لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ﴾؛ أي: لتأخذوا منهن، وتردوا عنهن بعضَ ما أعطيتموهن من المهور بسبب اختلاعهن، ومن باب أولى أَخَذُ الجميع. وقرأ ابن مسعود، ﴿ولا أن تعضلوهن﴾ وهذه القراءة تقوي احتمالَ النصب على احتمال الجزم، وقال ابن عطية: واحتمال النصب أقوى. انتهى؛ أي: لا يحل لكم أيها المؤمنون إرثُ ذاتِ نساءِ أقاربكم، إذا ماتوا عنهن بتزوجها كُرهًا من غير رِضَاهَا، ولا يحل لكم أيضًا العضل، والتضييق على أزواجكم اللاتي في نكاحكم، ومضارتُهن بسوء العشرة لِيُكْرِهْنَكُم، ويَضْطَرِرْنَ إلى الافتداء منكم بالمال، والصداق الذي أَخَذْنَ منكم أو بالمال الذي وَرِثَتْ من زوجها الأول، فقد كانوا يتزوجون من يعجبهم حَسْنُها، ويزوِّجون من لا تعجبهم، أو يمسكونها حتى تفتدِيَ بما كانت وَرِثَتْ من قريب الوارث، أو بما كانت أخذت من صداق ونحوه، أو بكلّ هذا، وربما كلفوها الزيادةَ إن علموا أنها تَسْطِيعها.
أخرج ابن جرير عن ابن زيد قال: كانت قريش بمكة ينكح الرجل منهم المرأةَ الشريفةَ فلعلها، ما توافِقُهُ فيفارقها على أن لا تتزوج إلا بإذنه، فيأتي بالشهود، فيكتب ذلك عليها؛ فإذا خَطَبَها خاطبٌ، فإن أعطَتْه وأَرْضَتْهُ أذِنَ لها، وإلا عَضَلها، وكثيرًا ما كانوا يضيّقون عليهن ليفتدِينَ منهم بالمال.
وقرأ حمزة والكسائي ﴿كَرْهًا﴾ بضم الكاف هنا، وكذا في التوبة، وفي الأحقاف، وقرأ عاصم، وابن ذكوان عن ابن عامر في الأحقاف بالضم، والباقون بالفتح، وقرأ نافع، وابن كثير، وأبو عمرو بالفتح في جميع ذلك، قال الفراء:
﴿إِلَّا أَنْ يَأتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ﴾ قرأ ابن كثير، وأبو بكر عن عاصم بفتح الياء؛ أي: بينها من يدَّعِيها، ويوضحها والباقون بالكسرة؛ أي: بينةٍ في نفسها، ظاهرة من النشوز وشَكاسة الخلق، وإيذاء الزوج وأهلِه بالبذاء والسلاطة، ويدل عليه قراءة أبي بن كعب إلا أن يفحشن عليكم، وقرأ ابن عباس ﴿مبينة﴾ بكسر الباء وسكون الياء: من أبانَ الشيء فهو مبين؛ أي: لا تعضلوهن في حال من الأحوال، إلا في الحال التي يفعلنَ فيها بالفاحشة، المبينة، الواضحة الظاهرة، الفاضحة دون الظنة والشبهةِ، فإذا نشزن عن طاعتكم وسَاءَتْ عشرتهن، ولم ينفع معهن التأديبُ، أو تبيَّنَ ارتكابهن للزنا، أو السرقة، أو نحو ذلك من الأمور الفاحشة الممقوُتة عند الناس، فلكم حينئذ أن تعضلوهن، وتضيقوا عليهن، لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن من صداق وغيره من المال؛ لأن الفُحْشَ قد أتى من جانبها، فقد عُذِرْتُم حينئذ في طلب الخلع، وإنما اشترِطَ في الفاحشة أن تكونَ مبينةً؛ أي: ظاهرةً فاضحةً لصاحبها؛ لأنه رُبَّما ظلَمَ الرجل المرأةَ بإصابتها الهفوةَ الصغيرةَ، أو بمجرد سوء الظن، والتهمة، فمن الرجال الغَيور السيء الظنّ الذي يؤاخذ بأتفه الأمور، ويعده عظيمًا.
وإنما أبيح للرجل أن يضيِّق على امرأته إذا أتت بهذه الفاحشة المبينة؛ لأنها ربما كَرِهته، ومالَت إلى غيره فتؤذيه بفاحش القول، أو الفعل؛ ليملها، ويسأم معاشرتها؛ فيطلقها؛ فتأخذ ما كان أعطاها، وتتزوج غيره، وتتمتع بمال الأول، وربما فعلت مع الثاني ما فعلت مع الأول، فإذا عَلِمَ النساء أن العضلَ والتضييقَ بيد الرجال، ومما أبيح لهم إذا هن آذينَهُم وأهنَّهم؛ فإن ذلك يكفهن عن ارتكابها، والاحتيالِ بها على أرذلِ أنواعِ الكسب.
﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾؛ أي: وعاشروا أيها: الأزواج، وساكنوا مع زوجَاتِكم بالوجه المعروف في هذه الشريعة، وبَيْنَ أهلها من حسن المعاشرة؛ أي: وعليكم أيها الأزواجُ أن تحسنوا معاشرةَ نسائِكم فتُخَالطُوهُنَّ بما تألُفُه
وفي كلمة المعاشرة: معنى المشاركة، والمساواة؛ أي: عاشروهنَ بالمعروف. وليعاشِرْنكم كذلك، فيجب أن يكونَ كل من الزوجين مدْعَاةً لسرور الآخر، وسبب هناءته وسعادته في معيشته، ومنزله، قال تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً﴾ ﴿فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ﴾ أي فإن كرهتم أيها الأزواج صحبةَ زوجَاتكِم لعيب في أخلاقِهن أو دَمامةِ في خلقهن مما ليس لهن فيه كسب، أو لتقصير في العمل الواجب عليهنَّ كخِدمةِ البيت، والقيام بشُؤونه مما لا يخلو عن مِثلِه النساء في أعمالهنَ أو لميل منكم إلى غيرهن، فَاصْبِرُوا، ولا تَعْجلُوا بمضارتهن، ولا بمفارقتهن ﴿فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا﴾ ويؤولَ الأمرُ إلى ما تحبونه من ذهابِ الكراهة وتبدلِها بالمحبة ﴿وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ﴾؛ أي: في ذلك المكروه لكم ﴿خَيْرًا كَثِيرًا﴾، ونفعًا كبيرًا لكم، فجواب الشرط محذوف، والفاء في عسى معلِّلُة لذلك المحذوف، وعسَى هنَا للتحقق، لا للرجاء، والمعنَى: فإن كرهتموهن.. فاصبرُوا، ولا تفارقُوهن؛ لأنه قد ثبَتَ وحقَّ كراهتكم شيئًا وجعل الله فيه خيرًا كثيرًا. وفي "القاموس" (١) عسى للترجي في المحبوب، والإشفاق في المكروه، واجتمَعا في قوله تعالى: ﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ﴾ الآية. وللشك واليقين، وقد تشبه بكاد ومن الله للإيجاب انتهى.
ومن الخير الكثير: الأولادُ الأَنْجابُ فرُبَّ امرأة يملها زوجها، ويَود فراقَها ثم يجيئه منها مَنْ تقرُّ به عَينه من الأولاد النجباء، فيَعْلَو قَدْرُها عنده بذلك.
ومن ذلك أن يصلُحَ حالها بصبره وحسن معاشرته فتكون من أعظم أسباب
وَمَنْ لاَ يُغَمِّضْ عَيْنَهُ عَنْ صَدِيْقِهِ | وَعَنْ بَعْضِ مَا فِيْهِ يَمُتْ وَهْوَ عَاتِبُ |
وَمَنْ يَتَتَبَّعْ جَاهِدًا كُلَّ عَثْرَةٍ | يَجِدْهَا وَلاَ يَسْلَمُ لَهُ الْدَّهْرَ صَاحِبُ |
والخلاصة: أن الإِسلام وصى أهلَه بحسن معاشرة النساء، والصبر عليهن، إذا كَرِهَهُنَّ الأزواجُ رجاءَ أن يكون فيهن خير كثير، ولا يبيحُ عضلَهن افتِدَاؤهن أنفسهن بالمال، إلا إذا أتين بفاحشة مبينة بحيث يكون إمساكهن سببًا في مهانة
(٢) المراغي.
٢٠ - وهذا ما أشار إليه بقوله سبحانه: ﴿وَإِنْ أَرَدْتُمُ﴾ وقصدتم أيُّها الأزواجُ ﴿اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ﴾؛ أي: تزوجَ زوجة جديدة ترغبون فيها، وأخذَها ﴿مَكَانَ زَوْجٍ﴾؛ أي: بدلَ زوجة قديمة كرهتموها، وأردتم تطليقَها لعدم طاقتكم الصبرَ على معاشرتها، وهي لم تأت بفاحشة مبينة، ﴿و﴾ قد ﴿وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ﴾؛ أي: إحدى الزوجات؛ أي: والحال أنكم قد أعطيتم تلك القديمةَ التي تريدون تطليقَا ﴿قِنْطَارًا﴾؛ أي: مالًا كثيرًا من الصداق ﴿فَلَا تَأخُذُوا مِنْهُ﴾؛ أي: من ذلك القنطار ﴿شَيْئًا﴾؛ أي: يسيرًا، ولا كثيرًا، وقرأ أبو السمال (١) وأبو جعفر ﴿شَيْئًا﴾ بفتح الياء وتنوينها حذف الهمزة وألقى حركتها على الياء والمعنى (٢): وإذا رغبتم أيها الأزواج في استبدال زوجٍ جديدةٍ مكانَ زوج سابقةٍ كرهتموهَا لِعَدَمِ طاقَتِكم الصبرَ على معاشِّرتِها، وهي لم تأت بفاحشة مبينة، وقد آتيتموها المالَ الكثيرَ مقبوضًا، أو ملتزمًا دفعه إليها، فصار دينًا في ذمتكم؛ فلا تأخذوا منه شيئًا، بل عليكم أن تدفعوه لها؛ لأنكم إنما استبدلتم غيرهَا بها لأغراضكم ومصالحكم بدون ذَنْب، ولا جَرِيرة تُبيح أَخْذَ شيء منها، فبأي حق تستحلون ذلك، وهي لم تَطْلُب فِراقَكَم، ولم تُسيء العشرةَ إليكم، فتحملَكم على طلاَقِها.
وإرادةُ الاستبدال ليسَتْ شرطًا في عدم حل أخذ شيءٍ من مالها، إذا هو كره عشرتها، وأراد الطلاقَ لكنه ذكر لأنه هو الغالب في مثل هذا الحال، ألا ترى: أنه لو طلقها، وهو لا يريد تزوَّجَ غيرها، بأن أراد الوَحْدةَ وعدمَ التقيد بالنساء، ومؤنتهن، فإنه لا يحل له شيء من مالها.
ثم أنكر عليهم هذا الفعلَ، ووبخهم عليه أشد التوبيخ فقال: ﴿أَتَأخُذُونَهُ﴾ استفهام إنكاري فيه معنى التوبيخ؛ أي: هل تأخذون ذلك القنطار منها
(٢) المراغي.
٢١ - ثم زاده إنكارًا آخر مبالغةً في التنفير من ذلك فقال: ﴿وَكَيْفَ تَأخُذُونَهُ﴾؛ أي: وبأي وجه وسبب تأخذُون ذلك القنطار ﴿وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ﴾؛ أي: والحال: أنه قد وَصَلَ، وألصقَ بعضكم أيُّها الأزواجُ والزوجات إلى بعض بالجماع الموجب للمهر، واجتمعتم في لحاف واحدٍ، ولاَبَس بعضكم بعضًا ملابسةً يتكوَّنُ منها الولد، فإنها قد بذلَتْ نفسَها لك، وجعلَتْ ذاتَها مَلاذك ومتمتعك، وحصلَت الألفة التامَّةُ بينكما، فكيف يليق بالعاقل أن يسترد منها شيئًا، فهذا لا يليق بمَنْ له طَبْعٌ سليم، وذوقٌ مستقيم؛ أي: إنَّ حالَ هؤلاء الذين يستحلون أخذَ مهور النساء إذا أرادوا مُفارقتَهن بالطلاق، لا لذنب جَنيْنَهُ، ولا لإثم اجترحنَه من الإتيان بفاحشة مبينة، أو عدم إقامة حدود الله، وإنما هو الرأي والهَوى، وكراهةُ معاشرَتِهن عجيب أيما عجيب، فكيف يستطيبون ويجُوزون أخذَ ذلك منهن بعد أن تأكَّدَت الرابطة بين الزوجين بأقوى رباط حيوي بين البشر، ولابس كل منهما الآخر حتى صار كل منهما من الآخر بمنزلة الجزء المتمم لوجوده، فَبعد أن أفضى كل منهما إلى الآخر إفضاء، ولابسه ملابسةً يتكون منها الولد يقطع تلك الصلة العظيمة، ويطمع في مالها وهي المظلومة الضعيفة، وهو القادر على اكتساب المال بسائر الوسائل، التي هدَى الله إليها البشرَ.
وجملة قوله: ﴿وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا﴾ معطوفة على جملة قوله:
وهذا الإسناد (١) مجاز عقلي من الإسناد للسبب؛ لأن الآخذ للعهد حقيقة هو الله سبحانه وتعالى، لكن بولغ فيه حتى جَعَل كأنهن الآخذاتُ له، والمعنى فكيف تأخذونه، والحاصل أنَّ الله سبحانه وتعالى قد أخذ وجعل عليكم أيُّها الأزواج بسببهن ميثاقًا غليظًا، وعهدًا شديدًا على التقوى في حقوقهن حيث قال: على لسان نبيه محمد - ﷺ -: "اتقوا الله في النساء" الحديث.
وقيل: الميثاق الغليظُ: المودةُ والرحمةُ المذكورة في قوله تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً﴾ فالإسناد على هذا حقيقي، والمعنى حينئذ: فكيف تأخذونه وقد أخذنَ وحَمَلْنَ أزواجكم بسببكم مودةً شديدةً وشفقة عجيبة.
فهذه آية من (٢) آيات الفطرة الإلهية هي أقوى ما تعتمدُ عليها المرأَةُ في ترك أبوَيْها، وإخوتها وسائر أهلها، والاتصال برجل غريب عنها تسَاهِمُهُ السرَّاءَ والضراءَ، وتسكن إليه ويَسْكُن إليها، ويكون بينهما من المودة أقوَى مما يكون بين ذوي القربى ثقةً منها بأنَّ صِلَتَها به أقوى من كل صلة، وعيشتَها معه أَهْنَأُ مِن كلِّ عيشة.
(٢) المراغي.
هذا وإن الشريعة لم تحدِّدْ مقدار الصداق، بل تركَتْ ذلك للناس لتفاوتهم في الغنى والفقر، فكل يعطي بحسب حاله، لكن جاء في السنة: الإرشاد إلى اليسْر في ذلك، وعدم التغالي فيه.
فمن ذلك ما رواه أحمد، والحاكم، والبيهقي عن عائشة إنَّ مِنْ يُمْنِ المرأة تيسيرَ خِطْبَتِهَا، وتَيسِيرَ صداقها. وإن التغالِيَ في المُهور الآن، قد صار من أسباب قلة الزواج، وقلَّةِ الزواج: تُفْضِي إلى كثرة الزنا والفساد، والغَبْنُ أخيرًا على النساء أكثَرُ، وإنّك لَتَرى هذه العادةَ متمكنة لدى بعض الناس، حتى إن وليَّ المرأة؛ ليمتنع عن تزويج بنته للكفء الذي لا يرجى من هو خيرٌ منه، إذا كان لا يعطيه ما يراه لائقًا بكرامته، ويزوجها لمن هو دونه دينًا وخُلُقًا ومن لا يَرجُو لها سعادة عنده إذا هو أعطاه الكثيرَ الذي يراه محققًا لأغراضه، وهكذا تَتَحكم التقاليد والعادات حتى تفسدَ على الناس سعادتَهم، وتقوضَ نَظْمَ بيوتهن، وهم لها منقادون بلاَ تفكير في العواقب، فيا لَها مصيبةً في دِيننا، ودُنيانا، وإنَّا للهِ وإنا إليه راجعون.
﴿وَاللَّاتِي يَأتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ﴾.
﴿وَاللَّاتِي﴾ ﴿الواو﴾ استئنافية. ﴿اللاتي﴾ اسم موصول للجمع المؤنث في محل الرفع، مبتدأ مبني على السكون ﴿يَأتِينَ﴾ فعل وفاعل. ﴿الْفَاحِشَةَ﴾ مفعول به، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل. ﴿مِنْ نِسَائِكُمْ﴾ جار ومجرور، ومضاف إليه، متعلق بمحذوف حال من فاعل ﴿يَأتِينَ﴾ ﴿فَاسْتَشْهِدُوا﴾ ﴿الفاء﴾ رابطة الخبر بالمبتدأ، جوازًا على رأي الجمهور لشبه المبتدأ بالشرط في كونه موصولًا عامًّا، صلته فعل مستقبل. استشهدوا فعل وفاعل ﴿عَلَيْهِنَّ﴾ متعلق به لـ ﴿أَرْبَعَةً﴾ مفعول به ﴿مِنْكُمْ﴾ جار ومجرور صفة لـ ﴿أربعة﴾، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة من المبتدأ والخبر مستأنفة، ويجوز (١) أن يكون الخبر محذوفًا، والتقدير: فيما يتلى عليكم حكم اللاتي فحذف الخبر، والمضاف إلى المبتدأ، للدلالة عليهما، وأقيم المضاف إليه مقامه، وهذا نظير ما فعله سيبويه في نحو ﴿الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا﴾ ﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا﴾؛ أي: فيما يتلى عليكم حكم الزانية، ويكون قوله: ﴿فَاسْتَشْهِدُوا﴾ وقوله ﴿فَاجْلِدُوا﴾ وقوله: ﴿فَاقْطَعُوا﴾ دالًّا على ذلك المحذوف؛ لأنه بيان له اهـ "سمين".
﴿فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا﴾.
﴿فَإِنْ شَهِدُوا﴾ ﴿الفاء﴾ فاء الفصيحة، لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا امتثلتم ما أمرتكم به من الاستشهاد، وأردتم بيانَ حكم ما إذا أشهدوا.. فأقول لكم. ﴿إن﴾ ﴿شَهِدُوا﴾ ﴿إن﴾ حرف شرط. ﴿شَهِدُوا﴾ فعل وفاعل في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ على كونه فعلَ شرط لها. ﴿فَأَمْسِكُوهُنَّ﴾ الفاء رابطة لجواب إن الشرطية وجوبًا. ﴿أمسكوهن﴾ فعل وفاعل ومفعول. {فِي
﴿وَاللَّذَانِ يَأتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا﴾.
﴿وَاللَّذَانِ﴾ ﴿الواو﴾ استئنافية أو عاطفة. ﴿اللذان﴾ اسم موصول للمثنى المذكر في محل الرفع مبتدأ، مبني على ﴿الألف﴾ و ﴿النون﴾ حرف زائد لشبه التثنية، أو مرفوع بـ ﴿الألف﴾ على الخلاف المذكور في محله، هذا على قراءة تخفيف النون على أصل التثنية، ويقرأ (١) بتشديدها على أن إحدى النونين، عوض من اللام المحذوفة؛ لأن الأصلَ اللذيان مثل العَمَيَان والشجَيَان، فحذفت الياء؛ لأن الاسمَ مبهمُ، والمبهمات لا تثنى التثنيةَ الصناعيةَ، والحذف مؤذن بأن التثنيةَ هنا مخالفة للقياس، وقيل: حذفت لطول الكلام بالصلة، ذكره أبو البقاء. ﴿يَأتِيَانِهَا﴾ فعل وفاعل ومفعول. ﴿مِنْكُمْ﴾ جار ومجرور حال من ضمير الفاعل، والجملة صلة الموصول. ﴿فَآذُوهُمَا﴾ ﴿الفاء﴾ رابطة الخبر بالمبتدأ
﴿فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا (١٦)﴾.
﴿فَإن﴾ ﴿الفاء﴾ فاء الفصيحة، لأنها أفصحت عن شرط مقدر، تقديره: إذَا امتثلتم ما أمرتكم به من الإيذاء لهما، وأردتم بيانَ حكم ما بعد الإيذاء.. فأقول لكم. ﴿إن تابا﴾ ﴿إن﴾ حرف شرط. ﴿تَابَا﴾ فعل وفاعل في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ على كونه فعلَ شرط لها. ﴿وَأَصْلَحَا﴾ فعل وفاعل في محل الجزم معطوف على ﴿تَابَا﴾. ﴿فَأَعْرِضُوا﴾ ﴿الفاء﴾ رابطة لجواب إن الشرطية وجوبًا لكون الجواب جملة طلبية. ﴿أعرضوا﴾ فعل وفاعل في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ على كونه جوابَ الشرط. ﴿عَنْهُمَا﴾ جار ومجرور متعلق به، وجملة ﴿إن﴾ الشرطية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة. ﴿إِنَّ﴾ حرف نصب. ﴿إِنَّ﴾ اسمها. ﴿كَانَ﴾ فعل ماض ناقص، واسمها ضمير يعود على الجلالة. ﴿تَوَّابًا﴾ خبر أول لها. ﴿رَحِيمًا﴾ خبر ثان، وجملة ﴿كَانَ﴾ في محل الرفع خبر ﴿إنَّ﴾ وجملة ﴿إِنَّ﴾ جملة معللة للإعراض في محل الجر بلام التعليل المقدرة.
﴿إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ﴾.
﴿إِنَّمَا﴾ أداة حصر. ﴿التَّوْبَةُ﴾ مبتدأ. ﴿عَلَى اللَّهِ﴾ جار ومجرور خبر المبتدأ، تقديره: إنما التوبة ثابتة، وواجبة على الله وجوبَ تفضل منه، وإنجاز وعد منه لا وجوبَ إلزام، وكلفة عليه، ولكن الكلامُ على حذف مضاف، تقديره: إنما قبول التوبة؛ لأن التوبةَ هنا مصدر لتاب عليه إذا قبل توبته، لا مصدر تاب العبد إلى الله، إذا رجعَ إلى طاعته، والجملة الإسمية مستأنفة، ﴿لِلَّذِينَ﴾ جار ومجرور حال من الضمير المستكن في الخبر، تقديره: إنما التوبة ثابتة، هي على الله حالةَ كونها كائنة للذين يعملون السوء. ﴿يَعْمَلُونَ السُّوءَ﴾ فعل وفاعل ومفعول،
﴿فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾.
﴿فَأُولَئِكَ﴾ ﴿الفاء﴾ عاطفة تفريعية. ﴿أولئك﴾ مبتدأ. ﴿يَتُوبُ اللَّهُ﴾ فعل وفاعل. ﴿عَلَيْهِمْ﴾ متعلق به، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، ولكنه خبر سببي، والجملة الإسمية معطوفة مفرعة على جملة قوله: ﴿إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ﴾. ﴿وَكَانَ﴾ الواو استئنافية. ﴿كان الله عليمًا﴾ فعل ناقص، واسمه وخبره. ﴿حَكِيمًا﴾ خبر ثان له، والجملة مستأنفة.
﴿وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ﴾.
﴿وَلَيْسَتِ﴾ الواو استئنافية. ﴿ليست التوبة﴾ فعل ناقص واسمه. ﴿لِلَّذِينَ﴾ جار ومجرور خبر ﴿ليس﴾ وجملة ﴿ليس﴾ مستأنفة. ﴿يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ﴾ فعل وفاعل ومفعول، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل. ﴿حَتَّى إِذَا حَضَرَ﴾ ﴿حتى﴾ حرف ابتداء. ﴿إِذَا﴾ ظرف لما يستقبل من الزمان. ﴿حَضَرَ﴾ فعل ماض. ﴿أَحَدَهُمُ﴾ مفعول به، ومضاف إليه. ﴿الْمَوْتُ﴾ فاعل،
﴿وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾.
﴿وَلَا الَّذِينَ﴾ الواو عاطفة. ﴿لا﴾ زائدة زيدت لتأكيد نفي ما قبلها. ﴿الَّذِينَ﴾ في محل الجر معطوف على قوله: ﴿لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ﴾. ﴿يَمُوتُونَ﴾ فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول. ﴿وَهُمْ كُفَّارٌ﴾ الواو حالية. ﴿هُمْ﴾ مبتدأ. ﴿كُفَّارٌ﴾ خبر، والجملة في محل النصب حال من فاعل ﴿يَمُوتُونَ﴾. ﴿أُولَئِكَ﴾ مبتدأ. ﴿أَعْتَدْنَا﴾ فعل وفاعل، والجملة خبر المبتدأ، والجملة الإسمية مستأنفة. ﴿لَهُمْ﴾ جار ومجرور متعلق بـ ﴿اعتدنا﴾. ﴿عَذَابًا﴾ مفعول به. ﴿أَلِيمًا﴾ صفة له.
﴿يَا أَيُّهَا﴾ ﴿يا﴾ حرف نداء. ﴿أي﴾ منادى نكرة مقصودة ﴿والهاء﴾ حرف تنبيه زائد. ﴿الَّذِينَ﴾ اسم موصول في محل الرفع، أو في محل النصب صفة لـ ﴿أي﴾. ﴿آمَنُوا﴾ فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، وجملة النداء مستأنفة. ﴿لَا يَحِلُّ﴾ ﴿لَا﴾ نافية. ﴿يَحِلُّ﴾ فعل مضارع مرفوع. ﴿لَكُمْ﴾ متعلق به. ﴿أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ﴾ ناصب وفعل وفاعل ومفعول، والجملة في تأويل مصدر مرفوع على الفاعلية، لـ ﴿يحل﴾ تقديره: لا يحل لكم إرث النساء كرهًا، وجملة ﴿لَا يَحِلُّ﴾ جواب النداء لا محل لها من الإعراب. ﴿كَرْهًا﴾ حال من النساء منصوب، ولكنه بعد تأويله بالمشتق تقديره مكرهات.
﴿وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ﴾.
﴿وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ﴾ الواو عاطفة. ﴿لا﴾ زائدة زيدت لتأكيد نفي ما قبلها. ﴿تَعْضُلُوهُنَّ﴾ فعل وفاعل ومفعول معطوف على ﴿تَرِثُوا﴾ منصوب بـ ﴿أن﴾ المصدرية، والجملة في تأويل مصدر مرفوع معطوف على مصدر منسبك من الجملة التي قبلها. على كونه فاعلًا لـ ﴿يحل﴾ تقديره: لا يحل لكم إرث النساء كرهًا ولا عضلهن. ﴿لِتَذْهَبُوا﴾ ﴿اللام﴾ لام كي. ﴿تذهبوا﴾ فعل وفاعل منصوب بأن مضمرة بعد لام كي. ﴿بِبَعْضِ﴾ ﴿الباء﴾ حرف جر وتعدية. ﴿بعض﴾ مجرور بـ ﴿الباء﴾ الجار والمجرور متعلق بـ ﴿تذهبوا﴾، وجملة ﴿تذهبوا﴾ صلة أن المضمرة، وأن مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بلام كي، الجار والمجرور متعلق بـ ﴿تعضلوا﴾ والتقدير: ولا تعضلوهن لذهابكم، وأخذكم بعض ما آتيتموهن من المهور، ﴿بعض﴾ مضاف. ﴿ما﴾ موصولة أو موصوفة في محل الجر مضاف إليه. ﴿آتَيْتُمُوهُنَّ﴾ فعل وفاعل ومفعول أول، والمفعول الثاني محذوف تقديره: ببعض ما آتيتموهن إياه؛ لأن ﴿آتى﴾ هنا بمعنى أعطى، والجملة الفعلية صلة لـ ﴿ما﴾ أو صفة لها، والعائد، أو الرابط الضمير المحذوف الذي هو المفعول الثاني. ﴿إِلَّا أَنْ يَأتِينَ﴾ ﴿إلا﴾ أداة استثناء من أعم الأحوال. ﴿أن﴾ حرف نصب ومصدر. ﴿يَأتِينَ﴾ فعل مضارع في حل النصب بأن المصدرية مبني على السكون لاتصاله ﴿بنون﴾ الإناث، و ﴿نون﴾ الإناث في محل الرفع فاعل
﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا﴾.
﴿وَعَاشِرُوهُنَّ﴾ ﴿الواو﴾ استئنافية. ﴿عاشروهن﴾ فعل وفاعل، ومفعول، والجملة مستأنفة. ﴿بِالْمَعْرُوفِ﴾ جار ومجرور متعلق به، أو متعلق بمحذوف حال من فاعل ﴿عاشروا﴾ تقديره: حالةَ كونكم ملتبسينَ بالمعروف. ﴿فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ﴾ ﴿الفاء﴾ فاء الفصيحة؛ لأنها أفصَحت عن شرط مقدر، تقديره: إذا عرفتم ما أمرتكم به من المعاشرة بالمعروف، وأردتم بيانَ حكمِ ما إذا كرهتموهن، فأقول لكم. ﴿إن﴾ حرف شرط. ﴿كَرِهْتُمُوهُنَّ﴾ فعل وفاعل، ومفعول في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ الشرطية على كونها فعلَ شرط لها. ﴿فَعَسَى﴾ ﴿الفاء﴾ رابطة لجواب إن الشرطية وجوبًا، لكون الجواب جملة جامدة. ﴿عسى﴾ فعل ماض تام. ﴿أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا﴾ ناصب وفعل وفاعل ومفعول، والجملة الفعلية صلة ﴿أن﴾ المصدرية ﴿أن﴾ مع صلتها في تأويل مصدر مرفوع على الفاعلية لـ ﴿عسى﴾ تقديره: فعسى وحق كراهتكم شيئًا. ﴿وَيَجْعَلَ اللَّهُ﴾ فعل وفاعل منصوب بـ ﴿أن﴾ المصدرية؛ لأنه معطوف على ﴿تَكْرَهُوا﴾. ﴿فيه﴾ جار ومجرور متعلق به، وهو في محل المفعول الثاني لـ ﴿جعل﴾. ﴿خَيْرًا﴾ مفعول أول له. ﴿كَثِيرًا﴾ صفة لـ ﴿خَيْرًا﴾ والتقدير: فعسى كراهتكم شيئًا، وجعل الله فيه خيرًا كثيرًا، وجملة عسى في محل الجزم بإن الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة إن الشرطية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة.
﴿وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (٢٠)﴾.
﴿وَإِنْ أَرَدْتُمُ﴾ ﴿الواو﴾ استئنافية. ﴿إن﴾ حرف شرط. ﴿أَرَدْتُمُ﴾ فعل
﴿وَكَيْفَ تَأخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (٢١)﴾.
﴿وَكَيْفَ﴾ الواو استئنافية. ﴿كيف﴾ اسم استفهام عن الحال في محل النصب على الحال من فاعل ﴿تأخذون﴾ مبني على الفتح لشبهه بالحرف شبهًا معنويًّا، والاستفهام أيضًا للإنكار والتوبيخ. ﴿تَأخُذُونَهُ﴾ فعل وفاعل ومفعول، والمعنى أتأخذونه حالة كونكم ظالمينَ. قال أبو البقاء (١): ﴿كيف﴾ في موضع نصب على الحال، والتقدير: أتأخذونه جائرينَ وهذا يتبين لك بجواب ﴿كيف﴾، فإذا قلت: كيف أخذت مال زيد، كان الجواب حالًا تقديره: أخذته ظالمًا، أو عادلًا، ونحو ذلك، ويكون موضع كيف في الإعراب مثلَ موضع جوابها أبدًا.
التصريف ومفردات اللغة
﴿وَاللَّاتِي يَأتِينَ الْفَاحِشَةَ﴾ ﴿اللاتي﴾ جمع (١) التي بحسب المعنى دون اللفظ؛ كما مر في بحث التفسير، وفيه لغات: اللاتي: بإثبات التاء، والياء، واللات: بحذف الياء، وإبقاء الكسرة لتدل عليها، واللائي: بالهمزة، والياء. واللاء: بكسر الهمزة، وحذف الياء، ويقال في جمع الجمع: اللواتي واللوات واللواء والفاحشة الفعلية القبيحة وهي مصدر كالعافية، والعاقبة، وإتيانها فعلها، ومباشرتُها يقال: أتى الفاحشةَ يأتي إتيانًا إذا فعلها وبَاشَرها.
﴿وَاللَّذَانِ يَأتِيَانِهَا مِنْكُمْ﴾ ﴿الذان﴾ (٢) تثنية الذي وكان القياس: أن يُقال: اللذَيان كرحَيَان. قال سيبويه: حذفت الياء ليُفرقَ بين الأسماء المتمكنة، وبين الأسماء المبهمة، وقال أبو علي: حُذفت الياء، تخفيفًا، وقرأ ابن كثير ﴿اللذان﴾ بتشديد النون، وهي لغة قريش، وفيه لغة أخرى وهي: اللذا بحذف النون ﴿فَآذُوهُمَا﴾ أمر للجماعة من آذى الرباعي، يقال: آذى الرجلَ يؤذيه إيذاءَ أوصلَ إليه الأَذى، ثلاثيه أُذِيَ من باب شَجِيَ، يقال: أذِيَ زيد يأذى أذىً، وأذاةً إذا أصيبَ بأذى، والأذى والأذية والأذاة الضرر اليسير.
﴿إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ﴾ التوبة: مصدر تاب الله عليه توبةً إذا قبلَ توبتَه لا مصدر تاب العبد إلى الله بمعنى رجع إلى طاعته ﴿السُّوءَ﴾ يعم الكفر والمعاصيَ وغيرهما سمي بذلك، لأنه تسوء عاقبته ﴿أَعْتَدْنَا﴾ أصل أعتدنا أعددنا، فأبدلت
(٢) الشوكاني.
﴿وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ﴾ يقال: عضل من باب نصر، والعضل التضييق، والشدة، ومنه: الداء العضال؛ أي: الشديد الذي لا نجاةَ منه، والفاحشةُ الفعلةُ الشنيعةُ الشديدة القبح كما مر آنفًا. والمبينة الظاهرة الفاضحة ﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾ يقال: عاشرَه معاشرةً وعشرةً وتعاشَروا واعتشَروا عشرةً، والعِشرةُ الصحبةُ، والمخالطة، والمعروف هو مَا تألفه الطباعُ ولا يستنكره الشرعٌ ولا العرفُ ولا المروءةُ ﴿قِنْطَارًا﴾ القنطار: المالُ الكثيرُ، وقد تقدم الكلام عليه في أول سورة آل عمران فراجعه.
﴿بُهْتَانًا﴾ يقال: بهت يبهت وبهتًا وبهتانًا من باب فتح إذا افترى عليه الكذبَ، فهو بهاتُ، وبَهُوت، والبُهتان الكذب الذي يبهِّتُ المكذوبَ عليه، ويسكته متحيِّرًا.
﴿وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ﴾؛ أي: وصل إليها الوصول الخاص الذي يكون بين الزوجين، فيلابس كلُّ منهما الآخرَ حتى كأنهما شيء واحد، والإفضاء (١) إلى الشيء الوصول إلى فضاء منه؛ أي: سعة غير محصورة، كقولهم: الناس فوضَى فَضَى؛ أي: مختلطون يباشر بعضهم بعضًا، ويقال: أفضى إليه إفضاءً، وهو رباعي من الثلاثي المزيد فيه بحرف، يقال: فضا يفضو فضاءً من باب دعا إذا اتسع، فألف أفضى منقلبة عن ياءٍ أصلها واو، والميثاق الغليظ: العهدُ المؤكدُ الذي يربطكم بهن أقوى رباط وأحكمه.
وقد تضمنت هذه الآيات أنواعًا من البيان والبديع:
منها: التجوزُ (١) باطلاق اسم الكل على البعض في قوله: ﴿يَأتِينَ الْفَاحِشَةَ﴾ لأن أل في الفاحشة تستغرق كل فاحشةٍ، وليس مرادًا، وإنما أطلق اسمُ الكل على البعض تعظيمًا لقبحة، وفحشه؛ كأنه لا فاحشةَ إلّا هو، فإنَّ كان العرف في الفاحشة الزنا، فليس من هذا الباب إذ تكونُ الألفُ واللام فيه للعهد.
ومنها: التجوزُ بأن يُرادَ من المطلق بعض مدلوله في قوله: ﴿فَآذُوهُمَا﴾ إذا فسر بالتعيير، أو بالضرب بالنعال، أو الجمع بينهما، وبقوله: ﴿سَبِيلًا﴾ والمراد الجلد، أو رجمُ المحصن، وبقوله ﴿فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا﴾: أي: اتركوهما.
ومنها: المجاز العقليُّ بإسناد الفعل إلى غير فاعله في قوله: ﴿حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ﴾: والمرادُ يتوفاهن اللهُ أو ملائكته، وفي قوله: حَتَّى إذا حضر أحدهم الموت؛ أي: علاماتُه ومقدماتُه.
ومنها: التجنيس المغاير في قوله: ﴿فَإِنْ تَابَا﴾ ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا﴾.
ومنها: التجنيسُ المماثل في قوله: ﴿فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا﴾.
ومنها: التكرار - أي: الإطناب - في اسم الله في مواضع، وفي قوله: ﴿إِنَّمَا التَّوْبَةُ﴾ ﴿وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ﴾، وفي قوله: ﴿اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ﴾.
ومنها: إطلاق المستقبل على الماضي في قوله: ﴿وَاللَّاتِي يَأتِينَ الْفَاحِشَةَ﴾ و ﴿وَاللَّذَانِ يَأتِيَانِهَا مِنْكُمْ﴾، و ﴿يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ﴾ و ﴿ثُمَّ يَتُوبُونَ﴾.
ومنها: الإشارة والإيماء في قوله: ﴿كَرْهًا﴾ فإن تحريمَ الإرث كُرْهًا يوميء إلى جوازه طوعًا، وقد صرح بذلك في قوله: ﴿فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ﴾.
ومنها: الإيماء أيضًا في قوله: ﴿وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ﴾
ومنها: المبالغةُ في تفخيم الأمر وتأكيده في قوله: ﴿وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا﴾ عظم الأمر حتى يُنتهى عنه.
ومنها: الاستعارة في قوله: ﴿وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا﴾ استعار الأخذ للوثوق بالميثاق، والتمسك، والميثاق معنى لا يتهيأ فيه الأخذ حقيقةً، وفيه أيضًا استعارة لفظ الميثاق للعقد الشرعي، كما قال مجاهد: الميثاقُ الغليظُ: عُقدةُ النكاح، وفي هذا (١) الإسناد أيضًا مجاز عقلي؛ لأنَّ الآخِذَ للعهد هو الله؛ أي: وقد أخذ الله عليكم العهد لأجلهن، وبسببهن فهو مجازَ عقلي من الإسناد إلى السبب كما مرَّ.
ومنها: تسمية الشيء بما يؤول إليه في قوله: ﴿أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا﴾ سمي تزويجُ النساء أو مَنْعُهن للأزواج إرثًا، لأن ذلكَ سببُ الإرث في الجاهلية.
ومنها: الطباق المعنوي في قوله: ﴿فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا﴾: وقد فسر الخير الكثير بما هو محبوب.
ومنها: الحذف في مواضع لا يتم المعنى إلا بها.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
﴿وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا (٢٢) حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (٢٣)﴾.
المناسبة
قوله تعالى: ﴿وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ...﴾ مناسبة هاتينَ الآيتين لِمَا قبلهما: أنه لما بين (١) الله سبحانه وتعالى، وذَكَرَ في أوائل السورة حكم نكاح اليتامَى، وعددَ مَنْ يحل من النساء، والشرطَ في ذلك، وبيَّن حكم استبدال زوج مكان زوج، وما يجبُ عن لمعروف في معاشرتهن.. أَرْدَف ذلك ببيان ما يحرمُ نكاحه من النساء اللواتي، لا يجوز الزواجُ بهن بسبب القرابة، أو الرضاع، أو المصاهرة، أو بغير ذلك.
أسباب النزول
قوله تعالى: ﴿وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ...﴾ الآية، سبب نزولِها: ما أخرجه (٢) ابن جرير، قال: حَدَّثَني محمَّد بن عبد الله المخرمي قال: حدثنا قراد، قال: حدثنا ابن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: كان أهل الجاهلية يحرمون ما يحرم إلا امرأةَ الأب والجمعَ بين الأختين، قال: فأنزل الله تعالى: ﴿وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ﴾ إلى قوله: ﴿وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ﴾.
(٢) الطبري.
قوله تعالى: ﴿وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ...﴾ سبب نزولها (٢). ما أخرجه ابن جرير، عن ابن جريج قال: قلت لعطاء ﴿وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ﴾ ما سببها قال: كنا نتحدث أنها نزلت في محمَّد - ﷺ - حِينَ نكح امرأةَ زيد بن حارثة، قال: المشركون في ذلك فنزلت: ﴿وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ﴾ ونزلت: ﴿وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ﴾ ونزلت ﴿مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ﴾.
التفسيرُ وأوجه القراءة
٢٢ - ﴿وَلَا تَنْكِحُوا﴾؛ أي: ولا تتزوجوا أيها المؤمنون ﴿مَا نَكَحَ﴾، وتزوج ﴿آبَاؤُكُمْ﴾ من نسب أو رضاع، حقيقةً أو بواسطة، فيشمل الأجدادَ، وإن علوا ﴿مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ﴾ وسَبَقَ منكم في الجاهلية قبل نزول آية التحريم من نكاح زوجات الآباء فإنه معفوٌّ عنه لا مؤاخذةَ عليكم به.
والخلاصة: أنكم تستحقُّون العقابَ بنكاح ما نكح آباءكم إلا ما قد سلف، ومَضَى فإنه مفعو عنه، وهذا شروع (٣) منه في بيان من يحرم نكاحها من النساء، ومن لا يحرم، وإنما خَصَّ هذا النكاحَ بالنهي، ولم ينتظم في سلك نكاح المحرمات الآتية مبالغةً في الزجر عنه حيث كانوا مُصِرّينَ على تعاطيه، وكانَ فاشيًا في الجاهلية، وقد ذَمَّهُ الله أقبحَ ذم، فسماه فاحشةً، وجَعَلَه مبغوضًا أشدَّ البغض، قال ابن عباس رضي الله عنهما: وجمهور المفسرين كان أهلُ الجاهلية
(٢) لباب النقول.
(٣) أبو السعود.
ومن المعلوم أنَّ المحومات بالمصاهرة أربعُ: زوجةُ الأب، وزوجة الابن، وأم الزوجة، وبنتُ الزوجة، وكلُّها يحصل فيها التحريمُ بمجرد العقد، وإن لم يحصل دخول إلا الربيبةَ، فلا تحرم إلا بشرط الدخول بأمها، وهذا يُستفاد من الآية، فإنها لم تقيد بالدخول إلا في الربيبة على ما سيأتي.
واختلفوا في ﴿مَا﴾ في قوله: ﴿مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ﴾ والظاهر أنها موصولة كما فسَّرْنَا أوَّلًا، والمعنى، ولا تنكحوا المرأةَ التي نَكَحَهَا آباؤكم من النساء، فإنه موجب للعقاب، إلا ما قد مضى قبل نزول آية التحريم، فإنه معفو عنه، وقيل: ﴿ما﴾ مصدرية. والمعنى حينئذٍ: ولا تنكحوا نكاح آبائكم؛ أي: نكاحًا كنكاح آبائكم في البطلان، فإن أنكحتَهم كَانَتْ بِغَيْرِ وليّ وشهود وكانت مؤقَّتة، وعلى سبيل القهر، وهذا الوجه منقول، عن محمَّد بن جرير الطبري في تفسير هذه الآية.
وقيل: لا تزوجُوا امرأةً وطِئها أباؤكم بالزنا إلا ما قد سلف من الأب في الجاهلية من الزنا بامرأة، فإنه يجوز للابن تزوجُها كما نُقِل هذا المعنى عن ابن زيد، وكما قال أبو حنيفة: يحرم على الرجل أن يتزوَّجَ بمزنِيَّةِ أبيه، لهذه الآية. وقال الشافعي: لا يحرم؛ لأنه لا اعتبار بوطء الزنا ﴿إِنَّهُ﴾؛ أي: إن نكاح زوجات الآباء وحلائِلهم ﴿كَانَ فَاحِشَةً﴾؛ أي: قبيحًا من أقبح الفواحش لأنَّ زوجةَ الأب بمنزلة الأم، فكانت مباشرتُها كمباشرة الأم، فهي من أقبح المعاصي، وأفحش الفواحش تمجه الأذواقُ السليمةُ، وتقشعرّ منه العقول الصحيحة، ﴿و﴾ كان ﴿مقتًا﴾؛ أي: ممقوتًا مبغوضًا عند الله، وعند ذوي المروءات من الجاهلية وغيرهم، وأنه لم يَزَلْ في حكم الله تعالى، وعلمه موصوفًا بذلك ما رَخَّص فيه لأُمةٍ من الأمم من لدن آدم، وكانت العربُ تقول لولد الرجل من امرأة أبيه. مقتيّ نُسبة إلى المقت، وهو أشدُّ الغضب، وكان منهم (١) الأشعثُ
قيل: مراتب القبح (٢) ثلاث: القبح العقلي، والقبح الشرعي، والقبح العادي، وقد وصف الله تعالى هذا النكاح بكل ذلك، فقوله: ﴿فَاحِشَةً﴾ مرتبة قبحه العقليِّ، وقوله: ﴿وَمَقْتًا﴾ مرتبة قبحه الشرعي، وقوله: ﴿وَسَاءَ سَبِيلًا﴾ مرتبة قبحه العادي، وما اجتمعَتْ فيه هذه المراتبُ. فقد بَلغ أَقْصى مراتب القبح.
٢٣ - ثم بيَّن الله سبحانه وتعالى المحرمات من النساء فقال: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ﴾ أيها المؤمنون ﴿أُمَّهَاتُكُمْ﴾؛ أي: نكاحهن، وتلك المحرمات أربعةُ أقسام:
القسمُ الأول: المحرماتُ بالنسب، وهي سبع مذكورة، كُلُّها في الآية الأمهاتُ، والبناتُ، والأخواتُ، والعمَّاتُ، والخالات، وبناتُ الأخ، وبنات الأخت.
والقسم الثاني: المحرمات بالرضاع، وهي السبع المذكورة في النسب لحديث عائشة رضي الله عنها إن رسول الله - ﷺ - قال: "يحَرمُ من الرضاع ما يحرم من الولادة". أخرجاه في "الصحيحين". ذَكَر منها في هذه الآية اثنتين: الأمهاتُ من الرضاع، والأخوات من الرضاع.
والقسم الثالث: المحرمات بالمصاهرة، وهي أربعة أصناف: ذكر منها في هذه الآية ثلاثةً: أمهاتُ النساء، والربائبُ، وحلائلُ الأبناءِ، والرابعةُ: منها حلائلُ الآباء، وذكرها في الآية قبل هذه بقوله: ﴿وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ﴾.
والقسم الرابع: المحرماتُ بسبب عارض إذا زال السببُ، وهو الجَمْعُ زال التحريمُ، وهي ثلاثة، ذَكَرَ منها في الآية واحدة، وهي الجمعُ بين الأختين،
(٢) الرازي.
فجملة المحرمات المذكورة إحدى وعشرون، والثانية والعشرون، أزواجُ النبي - ﷺ - وذكرها في سورة الأحزاب بقوله جلّ وعلا ﴿وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا﴾.
فجملةُ المحرمات بنصِّ الكتاب خمسةَ عَشَرَ، ذَكَرَ منها أربعةَ عشرَ في هذه الآية، والتي قبلها، وواحدةً في سورة الأحزاب. فقوله: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ﴾ وهي جمع أم، والأم (١) هي كل امرأة رجع نسبك إليها، سواء كانت من جهة الأم، أو من جهة الأب، وسواء كانت بدرجة، وهي الأم حقيقةً أو بدرجات، وهن الجدات، وإن عَلوْنَ فيحرم نكاحُ الأم، وجميع الجدات، وإن لم تكن وارثةً كأم أبي الأم ﴿وَبَنَاتُكُمْ﴾ جمع بنت، وهي كل أنثى رَجَعَ نسَبُها إليكَ بالولادة بدرجة كبنت الصلب، أو بدرجات بإناث خلص، كبنت بنت البنت، وإن سفلت، أو بذكور كبنت ابن الابن، وإن سفل ﴿وَأَخَوَاتُكُمْ﴾ جمع أخت، وهي كل امرأة شاركتك في أصلك، فتدخل فيها الأخوات الأشقاء، والأخوات لأب، والأخوات لأم ﴿وَعَمَّاتُكُمْ﴾ جمع عمة، وهي كل امرأة شاركَتْ أبَاك في أصله، وإن علا، فتدخل فيها جميع أخوات الأب، وأخوات آبائه، وإن علوا، وقد تكون العمة من جهة الأم أيضًا، وهي أخت أبي الأم ﴿وَخَالَاتُكُمْ﴾ جمع خالة، وهي كل امرأة شاركَتْ أمك في أصلها، فيدخل فيها جميع أخوات الأم، وأخوات أمهاتها، وقد تكون الخالةُ من جهة الأب أيضًا، وهي أخت أم الأب ﴿وَبَنَاتُ الْأَخِ﴾، وهي كل امرأة لأخيك عليها ولادة، ويرجع نسبها إلى الأخ، فيدخل فيها جميعُ بنات أولاد الأخ، وإن سفلنَ ﴿وَبَنَاتُ الْأُخْتِ﴾ وهي كلُّ امرأة لأختك عليها ولادة، ويرجع نسبُها إلى الأخت، فيدخل فيها جميع بنات أولاد الأخت، وإن سفلنَ، فهذه الأصناف السبعة محرمة بالنسب بنص الكتاب، وهي القسمُ الأول من الأقسام الأربعة السابقة.
وذَكَرَ الأولى منها بقوله: ﴿و﴾ حرمت عليكم ﴿أمهاتكم التي أرضعنكم﴾ في الحولين خمسَ رضعاتٍ متفرقات عند الشافعي، وأحمد بن حنبل، وقال أبو حنيفة ومالك: يحصل التحريمُ بمصة واحدة، وفاقًا للأوزاعي، والثوري، وعبد الله بن المبارك، كما هو مذهب ابن عباس، وابن عمر، وسعيد بن المسيب.
وأم الرضاع هي (١) كل امرأة أرضعَتْك، أو أرضعت من أرضعتك أو أرضعَتْ من ولدك بواسطة، أو بغيرها، أو ولدت مرضعتَك، أو ذا لبنها، وهو الفحلُ بواسطة أو غيرها.
وذكَرَ الثانيةَ منها بقوله: ﴿وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ﴾، وهي كل امرأة أرضعَتْها أمك، أو ارتضعت بلبن أبيك، أو ولدَتْها مرضعتُك أو الفحلُ.
وإنما نص الله سبحانه وتعالى على ذكر الأم، والأخت من الرضاع، ليَدُلَّ بذلك على بقية المحرمات من الرضاع، وتنبيهًا على أن الرضاع يجري مجرى النسب في التحريم كما بينته السنة.
والثالثة من محرمات الرضاع: العمة، وهي (٢) أخت الفحل، وأختُ ذكر ولده بواسطة أو بغيرها من نسب أو رضاع.
والرابعة منها: الخالة وهي أختُ المرضعة، وأخت أنثى ولدَتْها بواسطة، أو بغيرها من نسب، أو رضاع.
والخامسة منها: بنت الرضاع، وهي كل من ارتضعَتْ بلبنك، أو بلبن من ولدته بواسطة أو بغيرها.
والسادسة منها: بنت أخ الرضاع، وهي بنت ولد المرضعة، أو الفحل من نسب، أو رضاع، وإن سفلَتْ ومَن ارتضعت بلبن أخيك، وبنتُها بنسب أو رضاع،
(٢) المحلى على المنهاج.
والسابعةَ: بنت أخت الرضاع، وهي بنتُ بنت المرضعة، أو الفحل من نسب أو رضاع، وإن سفلت، ومن ارتضعت أختَك، وبنتُها من نسب أو رضاع، وإن سفلت، وكذا بنت أنثى أرضعَتْها أُمُّك أو ارتضعت بلبن أبيك.
وقرأ الجمهور ﴿اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ﴾ وقرأ عبد الله ﴿اللايَ﴾ بالياء، وقرأ ابن هُرْمُز التي، وقرأ أبو حَيْوة من الرِّضاعة بكسر الراء.
فصل في ذكر نبذة من أحكام الرضاع وأحاديثه
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - ﷺ - في بنت حمزة: "إنها لا تحل لي، يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب، وإنها ابنةُ أخي من الرضاعة". متفق عليه. فدل الحديث بمنطوقه على حرمة بنت أخ الرضاع، فكُلُّ مَنْ حرُمت بسبب النسب حُرِّمَ نظيرُها بسبب الرضاعة.
وإنما سمَّى الله تعالى المرضعات أمهات، لأجل الحرمة، فيحرم عليه نكاحُها، ويحلُّ له النظر إليها، والخلوة بها والسفرُ معها، ولا يترتَّبُ عليه جميعُ أحكام الأمومة من كل وَجه، فَلاَ يتوارثان، ولا تَجِبُ على كل واحد منهما نفقةُ الآخر، وغير ذلك من الأحكام وإنما تثبت حرمة الرضاع بشرطين:
أحدهما: أن يكونَ إرضاع الصبي في حال الصغر، وذلك إلى انتهاء سنتين من ولادته لقوله تعالى: ﴿وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ﴾ وقوله تعالى: ﴿وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ﴾.
وعن أم سلمة رضي الله عنها أن رسول الله - ﷺ - قال: "لا يحرم من الرضاع إلا ما فتق الأمعاءَ في الثدي، وكان قبل الفطام". أخرجه الترمذي.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: لا رضاعةَ إلا ما كان في الحولين. أخرجه مالك في الموطأ بأطْوَل من هذا، وأخرجه أبو داود مختصرًا قال: قال عبد الله بن مسعود لا رضاعَ إلا ما شَدَّ اللحم وقال أبو حنيفة: مدة الرضاع
والشرط الثاني: أن يوجد خمسُ رضعات متفرقات، رويَ ذلك عن عائشة رضي الله عنها وبه قال عبد الله بن الزبير، وإليه ذهب الشافعي، وأحمد في إحدى الروايتين عنه، ويدل على ذلك ما روي عن عائشة رضي الله عنها، أن النبي - ﷺ - قال: "لا تحرم المصةُ ولا المصَّتَان". أخرجه مسلم.
وعن أم الفضل رضي الله عنها أن النبي - ﷺ - قال: "لا تحرم الإملاجَةُ ولا الإملاجَتَان". أخرجه مسلم أيضًا. وفي رواية: إن رجلًا من بني عامر بن صعصعة قال: يا نبي الله، هل تحرّم الرضعة الواحدة، قال: "لا".
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان فيما أنزل من القرآن، عشرُ رضعات معلومات، يُحَرِّمْنَ، ثم نُسخت؛ أي: حكمُها بخمس معلومات، فتوفي رسول الله - ﷺ - وهنَّ فيما يُقْرأُ من القرآن، أخرج مسلم.
يحتمل أنه لم يبلغها نسخ تلاوتها، وأجمعوا على أن هذا لا يُتْلَى فهو ممَّا نسخ تلاوتُه، وبقي حُكْمُه وقد غَلَب على الناس التساهلُ في أمر الرضاعة، فيُرضِعُون الولدَ من امرأة، أو من عدة نسوة، ولا يهتمونَ بمعرفة أولاد المرضعة، وأخواتها، ولا أولاد زوجها من غيرها، وإخوته ليعرفوا ما يترتب عليهم في ذلك من الأحكام، كحرمة النكاح، وحقوق القرابة الجديدة التي جعلَها الشارع كالنسب، فكثيرًا ما يتزوَّج الرجل أختَه، أو عمَّتَه، أو خالتَه من الرضاعة، وهو لا يَدْرِي.
والقسمُ الثالث من المحرمات: ما يحرم بالمصاهرة، وهي أربعةُ أصناف، كما سبق:
الأولى منها: ما ذكره بقوله: ﴿و﴾ حرمت عليكم ﴿أمهات نسائكم﴾؛ أي: أمهات حلائلكم من نسب، أو رضاع بواسطة، أم بغير واسطة، سواء دخل بزوجته أم لم يدخل بها، بل يكفي مجرد العقد عليها، وبهذا قال جمهور
والثانية منها: ما ذكره بقوله: ﴿و﴾ حُرِّمَت عليكم ﴿وَرَبَائِبُكُمُ﴾؛ أي: بَنَاتُ نسائكم ﴿اللَّاتِي﴾ ربيتموهن وأدبتموهن ﴿فِي حُجُورِكُمْ﴾، وبيوتكم حالةَ كونهن كائنات ﴿مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ﴾؛ أي: جامعتموهن سواءٌ كانَ بعقد صحيح، أو فاسد يجب لها به الصداقُ، وتجبُ عليها العدةُ وَيلحَقُ به الولدُ. والربائب جمع ربيبة، وهي بنتُ المرأة من رجل آخر، سُمِّيَتْ رَبيبةً لتربيتِها في حجر الرجل، وقوله: دخلتم بهن كنايةٌ عن الجماع، لا نفسُ العقد، فيحرم على الرجل بناتُ امرأته، وبناتُ أولادها، وإن سَفلْنَ من النسب، أو الرضاع بعد الدخول بالزوجة، فلو فارق زوجتَه قبل الدخول بها، أو ماتَتْ قبل دخوله بِهَا جَازَ له أن يتزوَجَ بنتَها، ولا يجوز أن يتزوجَ أمَّهَا؛ لأنَّ الله أطلق تحريمَ الأمهات، وعلَّق تحريمَ البنات بالدخول بالأم، ﴿فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ﴾؛ أي؛ بنسائكم، كأن عَقَدَ عليها النكاحَ، وفارقها قبل الدخول، أو ماتَتْ كما مر آنفًا ﴿فَلَا جُنَاحَ﴾؛ أي: لا حَرَجَ ولا منعَ ﴿عَلَيْكُمْ﴾ في نكاح الربائب بعد طلاق أمها أو موتها.
والثالثة منها: ما ذكره بقوله: ﴿و﴾ حرمت عليكم ﴿حلائل أبنائكم﴾، أي نساءُ أولادِكم ﴿الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ﴾؛ أي: من أولاد فِرَاشِكم دُونَ نساء الأولاد الأدعياء الذين تبنيتم، وأمَّا حلائل أبناء الرضاع فعلم تحريمهن بالسنة، وإن كان مقتضَى مفهوم الآية تحليلهن، والحلائلُ جمع حليلة، وهي الزوجةُ، والرجل حليلُ سميا بذلك؛ لأن كلَّ واحد منهما يَحِلُّ لصاحبه، وقيل: لأنَّ كل واحد منهما يَحُلَّ إزارَ صاحبه من الحَلِ بفتح الحاء بمعنى الفكّ.
ويدخل في الأبناء أبناءُ الصلب مباشرةً أو بواسطة كابن الابن، وابن البنت، فحلائلُهما تحرم على الجد كما يدخل الابن من الرضاعة، فتحرم حليلته لما تقدم من قوله - ﷺ -: "يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب".
والرابعة: من هذا القسم حلائل الآباءِ، وذكرها بقوله: في الآية السابقة ﴿وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ﴾.
والثانية منها: الجمع بين المرأة وعمتها.
والثالثة: الجمع بين المرأة وخالتها. ويدل على ذلك ما روي عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - ﷺ - أنه قال: "لا يجمع بين المرأة وعمتها، ولا بين المرأة وخالتها". أخرجاه في "الصحيحين".
والعلة في تحريم جمع هؤلاء إفضاؤه إلى قطع ما أمر الله تعالى بوصَله من الرّحم، لِمَا يوجد بينهما بسبب الجمع من التباغض، والتحاسُد، كما هو شأن الضرتَينِ كما يدل عليه قوله - ﷺ -: "فإنكم إن فعلتم ذلك قَطَعْتمُ أَرْحَامَكم".
والضابط لذلك: أنه يحرم الجمع بين كل امرأتين بينهما قرابةٌ لو كانت إحداهما ذكرًا. لحرُمَ عليه بها نكاح الأخرى. ﴿إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ﴾؛ أي: لكن ما قد مضى، ووقع منكم من الجمع بينهما قبلَ نزول التحريم، فمغفور لكم، لا تؤاخَذون عليه بعد الإِسلام، وقد كانوا في الجاهلية يجمعون بين الأختين مثلًا كما يدل على ذلك ما أخرجه أحمد، وأبو داود، وابن ماجه عن الضحاك بن فيروز الديلمي عن أبيه قال: قلت: يا رسول الله، إني أسلمتُ وتحتي أختان، قال: "طَلِّقِ أيتَهما شئتَ".
الإعراب
﴿وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا﴾.
﴿وَلَا﴾ الواو استئنافية. ﴿لا﴾ ناهية جازمة ﴿تَنْكِحُوا﴾ فعل وفاعل مجزوم بـ ﴿لا﴾ الناهية، والجملة مستأنفة. ﴿مَا نَكَحَ﴾ ﴿ما﴾ موصولة أو موصوفة في محل النصب مفعول به. ﴿نَكَحَ آبَاؤُكُمْ﴾ فعل وفاعل ومضاف إليه، والجملة صلة لـ ﴿ما﴾ أو صفة لها، والعائد، أو الرابط محذوف تقديره ما نكحه أباؤكم ﴿مِنَ النِّسَاءِ﴾ جار ومجرور، حال من ﴿ما﴾ الموصولة ﴿إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ﴾ ﴿إلا﴾ أداة استثناء منقطع، ووجه الانقطاع أن المستثنى ماض، والمستثنى منه مستقبل؛ لأن (١) النهي للمستقبل، وما سلف ماض، فلا يكون من جنسه، وهو في موضع نصب، ومعنى المنقطع: أنه لا يكون داخلًا في الأول، بل يكون في حكم المستأنف، وتُقدَّرُ إلا فيه بلكن، والتقدير هنا: ولا تتزوجوا مَنْ تزوَّجَه أباؤكم، ولا تطؤوا مَنْ وطئهُ أباؤكم، لكن ما سلف من ذلك فمعفو عنه ذكره أبو البقاء. ﴿مَا قَدْ سَلَفَ﴾ ﴿مَا﴾ موصولة أو موصوفة في محل النصب على الاستثناء. ﴿قَدْ﴾ حرف تحقيق. ﴿سَلَفَ﴾ فعل ماض وفاعله ضمير يعود على
﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (٢٣)﴾.
﴿حُرِّمَتْ﴾ فعل ماض مغير الصيغة. ﴿عَلَيْكُمْ﴾ متعلق به. ﴿أُمَّهَاتُكُمْ﴾ نائب فاعل، ومضاف إليه والجملة مستأنفة ﴿وَبَنَاتُكُمْ﴾ معطوف على ﴿أُمَّهَاتُكُمْ﴾ وكذا قوله: ﴿وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ﴾: معطوفات على ﴿أُمَّهَاتُكُمْ﴾؛ ﴿اللَّاتِي﴾: صفة ﴿لأمهاتكم﴾: ﴿أَرْضَعْنَكُمْ﴾: فعل وفاعل، ومفعول به، والجملة صلة الموصول ﴿وَأَخَوَاتُكُمْ﴾: معطوف أيضًا على ﴿أمهاتكم﴾ الأولى، جريًا على القاعدة المشهورة عندهم: أنه إذا كثرت
التصريف ومفردات اللغة
﴿إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ﴾؛ يقال: سَلَفَ يَسْلُف سلفًا، وسُلوفًا من باب قعد: إذا مضى، وتقدم وسبق يقال سَلَف له عمل صالح إذا تقدم وسَبقَ ﴿فَاحِشَةً﴾؛ أي: شديدَ القبح ﴿مَقْتًا﴾ مصدر بمعنى اسم المفعول؛ أي: ممقوتًا مبغوضًا عِندَ ذوي الطباع السليمة، ومن ثَمَّ كانوا يسمونه نكاح المقتِ، ويسمى الولد منه مقيتًا؛ أي: مبغوضًا محتقرًا، فالمقلت: البغض المقرونُ باستحقار حَصَل بسبب أمر قبيح ارتكبه صاحبه. قاله أبو حيان. ﴿وَسَاءَ سَبِيلًا﴾: ساء من أفعال الذم بمعنى بئس، والمعنى: بئس طريقًا ذلك الطريقُ الذي اعتادوا سلُوكَهُ في الجاهلية، وبئس مَنْ يسلُكَهُ، لم يَزِدْهُ السيرُ فيه إلا قبحًا.
﴿أُمَّهَاتُكُمْ﴾ الأمهات (١) جمع أم، فالهاء زائدة في الجمع، فرقا بين العقلاء، وغيرهم. يقالَ في العقلاء: أمهات، وفي غيرهم أمات، وقد يقال: أمات في العقلاء، وأمهات في غيرهم، وقد سمع أمهه في أم بزيادة ﴿الهاء﴾ قبل ﴿هاء﴾ التأنيث، وعلى هذا يجوز أن تكون ﴿أمهات﴾ جمع أمهه المزيد فيها الهاء، والهاء قد أتت زائدة في مواضع ﴿وَبَنَاتُكُمْ﴾ لام (٢) الكلمة محذوف،
(٢) العكبري.
أجيب: بأنه حمل كل واحد من الجمعَين على مذكره، فمذكرُ بنات لم يَزدَّ فيه المحذوفُ بل جَاءَ نَاقصًا، قالوا: بَنون، وقالوا: في جمع أخ، إخوَةٌ، وإخوانُ فَردَّ المحذوف ﴿وَعَمَّاتُكُمْ﴾: جمع عمة، والعمة تأنيث العم، وهي أخت الأب ﴿وَخَالَاتُكُمْ﴾: جمع خالة، والخالة تأنيث الخال، وألفه منقلبة عن واو لقولهم في جمع خال: أخوال، ورجل مخول؛ أي: كريمُ الأخوال ﴿وَرَبَائِبُكُمُ﴾: جمع ربيبة، والربيبة بنت زوج الرجل من غيره ﴿فِي حُجُورِكُمْ﴾: جمع (٢) حِجْرٍ، بفتح الحاء وكسرها، والحجر مقدم ثوب الإنسان، وما بين يديه في حال اللبس، ثم استعملت اللفظة في الحفظ؛ لأن اللابس إنما يحفظ طفلًا، وما أشبهه في ذلك الموضع من الثوب، ﴿وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ﴾: جمع (٣) حليلة، والحليلة: الزوجة، والحليل: الزوج. قال الشاعر:
أَغْشَى فَتَاةَ الْحَيِّ عِنْدَ حَلِيْلِهَا | وَإِذَا غَزَا فِيْ الْجَيْشِ لاَ أغْشَاهَا |
﴿مِنْ أَصْلَابِكُمْ﴾: جمع صلب، والصلب: الظهر، ويقال: صَلُب صلابةً من باب فَعُل المضموم إذا قوي، واشتدَّ، وذكر الفراء في كتاب لغات القرآن، له أنَّ
(٢) البحر المحيط.
(٣) البحر المحيط.
البلاغة
وقد تضمنت هاتان الآيتان، أنواعًا من البديع والبيان:
منها: الجناس المماثل في قوله: ﴿وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ﴾.
ومنها: المغاير في قوله: ﴿أَرْضَعْنَكُمْ﴾ ﴿مِنَ الرَّضَاعَةِ﴾.
ومنها: المجاز المرسل في قوله: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ﴾ لأن إسناد التحريم إلى الذوات لا يَصح، وإنما يتعلَّق بالفعل، فهو على حذف مضاف، والمعنى: حرمت عليكم نكاح أمهاتكم إلخ، وهذا هو الذي يفهم من تحريمهن كما يفهم من تحريم الخمر، تحريم شربها، ومن تحريم لحم الخنزير، تحريم أكله.
ومنها: الاحتراس (١) في قوله: ﴿اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ﴾ احترز من اللاتي لم يدخل بهن، وفي قوله: ﴿وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ﴾ احترز به من اللاتي ليست في الحجور، ولكنَّ هذا القيدَ خَرَجَ مَخْرَج الغالبِ، فلا مفهومَ له.
ومنها: الكناية في قوله: ﴿اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ﴾ فهو كناية عن الجماع كقولهم بني عليها، وضرب عليها الحجابَ.
ومنها: الطباق اللفظي في قوله: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ﴾، وقوله: ﴿وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ﴾؛ لأنه نَسَق المحرمات أولًا ثم قال: ﴿وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ﴾.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
وكان الانتهاء إلى هذا الموضع في التاريخ المذكور في أعلى الصحيفة بيد مؤلفه محمَّد أمين بن عبد الله الأثيوبي الهرري الراجى من ربه سبحانه أن يُعينه على تمامه، وييسَّره عليه، ويوفقه لما هو المعنى عنده، ويجعلَ في عمره البركة إلى إكماله، ويحفظَ عليه سمَعه وبصرَه وفهمَه وعقله وجِسْمه، وجميعَ قواه إلى انتهائه، وينفع به مَنْ شاء من عباده، ويجعله مَرْجِعًا لهم في علوم كتابه وذخيرةً له عند وفوده إلى دار الآخرة، ويجعله خالصًا مخلصًا لوجهه، إنه على ما يشاء قدير، وبالإجابة جدير، وصلى الله على سيدنا ومولانا محمَّد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه أجمعين. والحمد لله رب العالمين آمين.
تم تصحيح هذه النسخة بيد مؤلفه منتصف الساعة الأولى من يوم السبت بتاريخ ١٧/ ١٢/ ١٤٠٨ هـ والحمد لله أولًا وآخرًا.
تم المجلد الخامس من شرح حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن ويليه المجلد السادس وأوله قوله سبحانه وتعالى ﴿والمحصنات من النساء﴾ الجزء الخامس من القرآن الكريم.
تأليف
الشيخ العلامة محمد الأمين بن عبد الله الأرمي العلوي الهرري الشافعي
المدرس بدار الحديث الخيرية في مكة المكرمة
إشراف ومراجعة
الدكتور هاشم محمد علي بن حسين مهدي
خبير الدراسات برابطة العالم الإسلامي - مكة المكرمة
«المجلد السادس»
الطبعة الأولى
١٤٢١ هـ - ٢٠٠١ م
دار طوق النجاة
بيروت - لبنان
[٦]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
جَزَى اللَّهُ خَيْرًا مَن تأَمَّلَ صَنْعَتِيْ | وَقَابَلَ مَا فِيْهَا مِنَ السّهوِ بِالْعَفْوِ |
وَأصْلَحَ مَا أخْطَأتُ فِيْهِ بِفَضْلِهِ | وَفِطْنَتِهِ أَسْتَغفِرُ اللَّهَ مِنْ سَهْوِيْ |
يَا رَبَّنَا يَا رَبَّنَا يَا رَبَّنَا | كُنْ وَافَيًا لَنَا مُرَادَنَا |
مِن شَرْحِ أَفْضَلِ الْكِتَابِ | قَبْلَ حُلُوْلِنَا تَحْتَ التُّرَاب |
وَأصْلِحْ لَنَا الأَقْوَالَ والأَعْمَالَ | وَكَمِّلْ لَنَا الْمَقْصُودَ والآمَالَ |
يَا رَبَّنَا يَا رَبَّنَا يَا رَبَّنَا يَا رَبَّنَا | يَا رَبَّنَا يَا رَبَّنَا اسْتَجِبْ لَنَا |
النَّاسُ مِنْ جِهَةِ التَّمْثِيْلِ أَكْفَاءُ | أَبُوْهُمُ آدَمُ وَالأُمُّ حَوَّاءُ |
وقال بعضُ الفقهاء: المرادُ من الأهل من لهم علين ولاية التزويج، ولو غير المالكين كالأب والجد والقاضي والوصي، إذ لكل منهم تزويج أمة اليتيم. ﴿وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ﴾؛ أي: وأعطوهن مهورهن، وأدوها إليهن بإذن أهلهن، أو أدوها إلى مواليهن، وأجمعوا إلا مالكًا على أن المهر للسيد؛ لأنه ملكه، وإنما أضيف إيتاء المهر إلى الإماء لأنه ثمن بضعهن.
وقال مالك (١): المهر حق للزوجة على الزوج، وإن كانت أمة فهو لها لا لمولاها، وإن كان الرقيق لا يملك شيئًا لنفسه، لأن المهر حق الزوجة تصلح به شأنها، ويكون تطييبًا لنفسها في مقابلة رياسة الزوج عليها، وسيد الأمة مخير بين أن يأخذه منها بحق الملك، أو يتركه لها لتصلح به شأنها، وهو الأفضل الأكمل.
﴿بِالْمَعْرُوفِ﴾؛ أي: أعطوهن مهورهن بالمعروف؛ أي: من غير ضرار، ولا مطل ولا نقصان، وقيل: معناه وآتوهن مهور أمثالهن، اللاتي يساوينهن في الحال والحسب. وقوله: ﴿مُحْصَنَاتٍ﴾ حال من مفعول فانكحوهن؛ أي: فانكحوهن حال كونهن محصنات؛ أي: عفائف من الزنا ندبًا بناء (٢) على المشهور من جواز نكاح الزواني، ولو كن إماء وقيل المعنى: أعطوهن أجورهن حالة كونهن متزوجات لكم، ﴿غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ﴾؛ أي: غير مجاهرات بالزنا؛ أي: غير مؤجرة نفسها مع أي رجل أرادها كالمومسات، ﴿وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ﴾؛ أي: غير متخذات أخلاء معينين يزنون بهنَّ سرًّا، وهو حال مؤكدة كالذي قبله؛ لأن الإحصان لا يجامع السفاح كما مر.
والمسافحون (٣) هم الزانون المبتذلون، وكذلك المسافحات من الزواني
(٢) خطيب.
(٣) البحر المحيط.
وروي عن ابن عباس (١): أن أهل الجاهلية كانوا يحرمون ما ظهر من الزنا، ويقولون: إنه لؤم، ويستحلون ما خفي، ويقولون إنه لا بأس، وقد نزل في تحريم النوعين قوله تعالى: ﴿وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ﴾. وهذان النوعان فاشيان في بلاد الإفرنج، والبلاد التي تقلدهم في شرورهم، كمصر والصومال وجيبوتي وبعض بلاد الهند، بل عم الآن كل من النوعين مشارق الأرض ومغاربها، تقليدًا للإفرنج، فيا لها من مصيبة، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وقصارى القول: أن الله فرض في نكاح الإماء مثل ما فرض في نكاح الحرائر، من الإحصان والعفة لكل من الزوجين، لكن جعل الإحصان وعدم السفاح في نكاح الحرائر من قبل الرجال، فقال: ﴿مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ﴾ لأن الحرائر ولا سيما الأبكار أبعد من الرجال من الفاحشة، وأقل انقيادًا لطاعة الشهوة، على أن الرجال هم الطالبون للنساء والقوامون عليهن.
وجعل قيد الإحصان في جانب الإماء، فاشترط على من يريد أن يتزوج أمة أن يتحرى فيها أن تكون محصنة، مصونة في السر والجهر، فقال: ﴿مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ﴾ وذلك أن الزنا كان غالبًا في الجاهلية على الإماء،
﴿فَإِذَا أُحْصِنَّ﴾ قرأ حمزة والكسائي وأبو بكر بالبناء للفاعل، ومعناه: حفظن فروجهن، وقيل معناه أسلمن، كما قال عمرو بن مسعود، والشعبي والنخعي والسدي، قالوا: الإحصان هنا (١) الإِسلام، والمعنى: أن الأمة المسلمة عليها نصف حد الحرة المسلمة، وقد ضعف هذا القول، بأن الصفة لهن بالإيمان قد تقدمت في قوله من فتياتكم المؤمنات، فكيف يقال في المؤمنات فإذا أسلمن، قاله إسماعيل القاضي. وقرأ الباقون بالبناء للمفعول إلا عاصمًا فاختلف فيه ومعناه زُوِّجن. ﴿فَإِنْ أَتَيْنَ﴾؛ أي: فإن فعلن ﴿بِفَاحِشَةٍ﴾؛ أي: بالزنا ﴿فَعَلَيْهِنَّ﴾؛ أي: فعلى الإماء اللاتي زنين ﴿نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ﴾؛ أي: نصف ما على الحرائر الأبكار، إذا زنين من العقاب؛ أي: من الجلد، فيجلدن خمسين جلدة، ويجلد العبد للزنا إذا زنى خمسين جلدة، ولا فرق في المملوك بين المتزوج وغير المتزوج، فإنه يجلد خمسين مطلقًا، ولا رجم عليه، هذا قول أكثر العلماء.
والمعنى: أنّ الإماء إذا زنين بعد إحصانهن بالزواج.. فعليهن من العقاب نصف ما على المحصنات الكاملات، وهنَّ الحرائر إذا زنين، وهذا العقاب ما بينه سبحانه وتعالى بقوله: ﴿الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ﴾ فتجلد الأمة المتزوجة خمسين جلدة، وتجلد الحرة مائة، ولا ترجم لأن الرجم لا يتنصف.
والحكمة في ذلك: ما قدمناه فيما سلف، وهو كون الحرة أبعد عن داعية الفاحشة، والأمة ضعيفة عن مقاومتها، فرحم الله ضعفها وخفف العقاب عنها.
وروي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: إذا نكح العبد الحرة.. فقد أعتق نصفه، وإذا نكح الحر الأمة.. فقد أرق نصفه. ورحم الله القائل:
إِذَا لَمْ تَكُنْ فِيْ مَنْزِلِ الْمَرْءِ حُرَّةٌ | تُدَبِّرُهُ ضَاعَتْ مَصَالِحُ دَارِهِ |
﴿وَاللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿غَفُورٌ﴾؛ أي: غفار لمن صدرت منه الهفوات، كاحتقار الإماء المؤمنات، والطعن فيهن عند الحديث في نكاحهن، وعدم الصبر على معاشرتهن بالمعروف، وسوء الظن بهن، ﴿رَحِيمٌ﴾ بعباده حيث رخص لهم فيما رخص فيه بإباحته لهم نكاح الإماء، وإن كان يؤدي إلى إرقاق الولد، مع أن
وهذه الجملة (١) كالتوكيد لما تقدم، يعني أنه تعالى كفر لكم، ورحمكم حيث أباح لكم ما أنتم محتاجون إليه.
الإعراب
﴿وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ﴾.
﴿وَالْمُحْصَنَاتُ﴾: الواو: عاطفة. ﴿المحصنات﴾: معطوف على ﴿أُمَّهَاتُكُمْ﴾، من قوله: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ﴾ على كونه نائب فاعل لـ ﴿حُرِّمَ﴾. ﴿مِنَ النِّسَاءِ﴾: جار ومجرور حال من ﴿المحصنات﴾. ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء. ﴿مَا﴾: موصولة، أو موصوفة في محل النصب على الاستثناء. ﴿مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾: فعل وفاعل ومضاف إليه، والجملة صلة لما، أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف، تقديره: ملكته أيمانكم. ﴿كِتَابَ﴾: منصوب على المفعولية المطلقة، بفعل محذوف تقديره: كتب الله ذلك عليكم كتابًا، وهو مضاف. ولفظ الجلالة ﴿اللَّهِ﴾: مضاف إليه. ﴿عَلَيْكُمْ﴾: جار ومجرور، متعلق بالفعل المحذوف، لا (٢) بالمصدر المذكور؛ لأن المصدر هنا فضلة، وقيل: هو متعلق بنفس المصدر؛ لأنه نائب عن الفعل، حيث لم يذكر معه، فهو كقولك: مرورًا يزيد؛ أي: أمرر به، والجملة المحذوفة مستأنفة، مسوقة لتأكيد مضمون جملة قوله: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ﴾؛ لأنه لمّا قال: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ...﴾ علم أن ذلك مكتوب، فأكده بهذه الجملة.
﴿وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ﴾.
﴿وَأُحِلَّ﴾: الواو عاطفة. ﴿أحل﴾: فعل ماض مغير الصيغة. ﴿لَكُمْ﴾: متعلق به. ﴿مَا﴾: موصولة أو موصوفة في محل الرفع نائب فاعل، والجملة معطوفة على جملة قوله ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ﴾. ﴿وَرَاءَ ذَلِكُمْ﴾: ظرف ومضاف
(٢) العكبري.
﴿فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً﴾.
﴿فَمَا﴾: الفاء: استئنافية. ما: موصولة في محل الرفع مبتدأ. ﴿اسْتَمْتَعْتُمْ﴾: فعل، وفاعل. ﴿بِهِ﴾: جار ومجرور متعلق به، والجملة الفعلية صلة الموصول، والعائد ضمير به. ﴿مِنْهُنَّ﴾ جار ومجرور حال من ضمير به. ﴿فَآتُوهُنَّ﴾: الفاء رابطة الخبر بالمبتدأ لما في المبتدأ من العموم. ﴿أتوهن﴾: فعل، وفاعل، ومفعول أول. ﴿أُجُورَهُنَّ﴾: مفعول ثان، ومضاف إليه، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الإسمية مستأنفة. ﴿فَرِيضَةً﴾: حال من أجورهن، أو مصدر مؤكد؛ أي: فرض الله ذلك فريضة، أو صفة لمصدر محذوف؛ تقديره: فآتوهن أجورهن إيتاءً مفروضًا.
﴿وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾.
﴿وَلَا جُنَاحَ﴾: الواو استئنافية. ﴿لَا﴾: نافية. ﴿جُنَاحَ﴾: في محل النصب اسمها. ﴿عَلَيْكُمْ﴾: جار والمجرور متعلق بمحذوف خبر لا، وجملة لا من اسمها وخبرها: مستأنفة. ﴿فِيمَا﴾: جار ومجرور متعلق بما تعلق به الجار والمجرور قبله. ﴿تَرَاضَيْتُمْ﴾: فعل وفاعل. ﴿بِهِ﴾: جار ومجرور متعلق به، والجملة صلة لما، أو صفة لها، والعائد أو الرابط ضمير به. ﴿مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ﴾: جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بـ ﴿تَرَاضَيْتُمْ﴾. ﴿إِنَّ﴾: حرف نصب. ولفظ الجلالة ﴿اللَّهَ﴾: اسمها. ﴿كَانَ﴾: فعل ماض ناقص، واسمها ضمير يعود على الله.
﴿وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ﴾.
﴿وَمَنْ﴾: الواو: استئنافية. ﴿مَنْ﴾ اسم شرط جازم، أو اسم موصول في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط، أو جملة الجواب، أو هما على الخلاف المذكور في محله. ﴿لَمْ﴾: حرف نفي وجزم. ﴿يَسْتَطِعْ﴾: فعل مضارع مجزوم بـ ﴿لَمْ﴾، وفاعله ضمير يعود على ﴿من﴾، والجملة الفعلية في محل الجزم بـ ﴿من﴾ على كونها فعل شرط لها، أو صلة الموصول. ﴿مِنْكُمْ﴾: جار ومجرور حال من فاعل ﴿يَسْتَطِعْ﴾. ﴿طَوْلًا﴾: مفعول به. ﴿أَنْ﴾: حرف نصب ومصدر. ﴿يَنْكِحَ﴾: منصوب بأن، وفاعله ضمير يعود على من. ﴿الْمُحْصَنَاتِ﴾: مفعول به. ﴿الْمُؤْمِنَاتِ﴾: صفة للمحصنات، والجملة الفعلية صلة أن المصدرية، أن مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بلام مقدرة، متعلقة بمحذوف صفة ﴿طَوْلًا﴾، تقديره: ومن لم يستطع منكم طولًا ومهرًا كائنًا لنكاح المحصنات المؤمنات.
﴿فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ﴾.
﴿فَمِنْ مَا﴾: الفاء: رابطة الجواب، أو رابطة الخبر بالمبتدأ. ﴿من ما﴾: جار ومجرور متعلق بالجواب المحذوف، أو بالخبر المحذوف، تقديره: فلينكح، وجملة ﴿مَنْ﴾ الشرطية مِنْ فعل شرطها وجوابها مستأنفة. ﴿مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾: فعل وفاعل ومضاف إليه، والجملة صلة لـ ﴿ما﴾، أو صفة لها، والعائد أو الرابط الضمير المحذوف، تقديره: مما ملكته. ﴿مِنْ فَتَيَاتِكُمُ﴾: جار ومجرور، ومضاف إليه حال من الضمير المحذوف في ملكته. ﴿الْمُؤْمِنَاتِ﴾: صفة لفتياتكم. ﴿وَاللَّهُ﴾: الواو: استنئافية، أو اعتراضية. ﴿اللَّهُ﴾: مبتدأ. ﴿أَعْلَمُ﴾: خبره، والجملة مستأنفة. ﴿بِإِيمَانِكُمْ﴾: جار ومجرور متعلق بأعلم. ﴿بَعْضُكُمْ﴾: مبتدأ،
﴿فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ﴾.
﴿فَانْكِحُوهُنَّ﴾: الفاء: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن شرط مقدر، تقديره: إذا عرفتم أن من لم يستطع طول الحرة ينكح الإماء، وأردتم بيان كيفية نكاحها.. فأقول لكم: انكحوهن وآتوهن. ﴿انكحوهن﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة من محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة. ﴿بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بانكحوهن. ﴿وَآتُوهُنَّ﴾: فعل وفاعل ومفعول أول. ﴿أُجُورَهُنَّ﴾: مفعول ثان ومضاف إليه، والجملة معطوفة على جملة انكحوهن. ﴿بِالْمَعْرُوفِ﴾: متعلق بآتوهن، أو حال من أجورهن. ﴿مُحْصَنَاتٍ﴾: حال من المفعول في فانكحوهن. ﴿غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ﴾: حال ثانية مؤكدة للأولى. ﴿وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ﴾: الواو عاطفة. لا: زائدة، زيدت لتأكيد نفي ﴿غَيْرَ﴾. ﴿مُتَّخِذَاتِ﴾: معطوف على ﴿مُحْصَنَاتٍ﴾، وهو مضاف. ﴿أَخْدَانٍ﴾: مضاف إليه.
﴿فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ﴾
﴿فَإِذَا أُحْصِنَّ﴾: الفاء: فاء الفصحية؛ لأنا أفصحت عن شرط مقدر، تقديره: إذا عرفتم جواز نكاح الإماء بالشرط المذكور، وأردتم بيان حكم ما إذا أتين بفاحشة.. فأقول لكم: ﴿إذا﴾: ظرف لما يستقبل من الزمان خافض لشرطه منصوب بجوابه. ﴿أُحْصِنَّ﴾: فعل ونائب فاعل مبني بسكون على النون المدغمة في نون الإناث، ونون الإناث: في محل الرفع نائب فاعل، والجملة الفعلية في محل الخفض بإضافة إذا إليها، على كونها فعل شرط لها. ﴿فَإِنْ أَتَيْنَ﴾: الفاء: رابطة لجواب إذا الشرطية. ﴿إن﴾: حرف شرط. ﴿أَتَيْنَ﴾: فعل وفاعل، في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ على كونها فعل شرط لها. ﴿بِفَاحِشَةٍ﴾: متعلق ﴿أَتَيْنَ﴾.
﴿ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾.
﴿ذَلِكَ﴾: مبتدأ. ﴿لِمَنْ﴾: جار ومجرور خبر له، والجملة مستأنفة. ﴿خَشِيَ﴾: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على من. ﴿الْعَنَتَ﴾: مفعول به. ﴿مِنْكُمْ﴾: جار ومجرور حال من الضمير المستتر في خشي، والجملة الفعلية صلة من الموصولة، والعائد الضمير المستتر في ﴿خَشِيَ﴾. ﴿وَأَنْ تَصْبِرُوا﴾: فعل وفاعل وناصب، والجملة في تأويل مصدر مرفوع على الابتداءِ؛ تقديره: وصبركم. ﴿خَيْرٌ﴾: خبر له. ﴿لَكُمْ﴾: متعلق بـ ﴿خَيْرٌ﴾، والجملة الإسمية مستأنفة. ﴿وَاللَّهُ﴾: مبتدأ. ﴿غَفُورٌ﴾: خبر أول. ﴿رَحِيمٌ﴾: خبر ثان، والجملة مستأنفة.
التصريف ومفردات اللغة
﴿وَالْمُحْصَنَاتُ﴾ جمع محصنة بفتح الصاد، يقال: حصنت المرأة - بضم الصاد - حصنًا وحصانة، إذا كانت عفيفة، فهي حاصن، وحاصنة وحَصَان بفتح الصاد، ويقال: أحصنت المرأة إذا تزوجت؛ لأنها تكون في حصن الرجل وحمايته، وأحصنها أهلها زوجوها.
_________
(١) العكبري.
أشهرهما: أنه أُسند الإحصان إلى غيرهن وهو: إما الأزواج أو الأولياء، فإن الزوج يحصن امرأته؛ أي: يعفَّها، والولي يحصنها بالتزويج، والله يحصنها بذلك.
والثاني: أن هذا المفتوح الصاد بمنزلة المكسور، يعني أنه اسم فاعل، وإنما شذ فتح عين اسم الفاعل في ثلاثة ألفاظ: أحصن فهو محصن، وأفلج فهو ملفج، وأسهب فهو مسهب، وأما الكسر فإنه أسند الإحصان إليهن؛ لأنهن يحصن أنفسهن بعفافهن أو يحصن فروجهن بالحفظ، أو يحصن أزواجهن. ﴿غَيْرَ مُسَافِحِينَ﴾ جمع مسافح، اسم فاعل من سافح من باب فاعل، وأصله من السفح وهو الصب، وإنما سمي الزنا سفاحًا لأن الزاني لا غرض له إلا صب النطفة، وقضاء الشهوة فقط. ﴿أُجُورَهُنَّ﴾ جمع أجر، وهو في الأصل الجزاء الذي يعطى في مقابلة شيء ما من عمل، أو منفعة، والمراد به هنا المهر.
﴿وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا﴾ الاستطاعة: كون الشيء في طوعك، لا يتعاصى عليك، والطول: الغنى والفضل، من مال أو قدرة على تحصيل الرغائب، يقال: طال يطول طولًا، في الأفضال والقدرة، وفلان ذو طول؛ أي: ذو قدرة في ماله. والطول بالضم ضد القصر.
﴿وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ﴾ الأخدان: جمع خدن بكسر أوله وسكون ثانيه، وهو الصاحب، ويطلق على الذكر والأنثى، وهو الصديق للمرأة يزني بها سرًّا، قال أبو زيد: الأخدان الأصدقاء على الفاحشة. وفي "المصباح" و "القاموس" الأخدان: جمع خدن بالكسر، كحمل وأحمال، وعدل وأعدال. ﴿ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ﴾ والعنت في الأصل انكسار العظم بعد الجبر، فاستعير لكل مشقة وضرر يعتري الإنسان، وأريد به هنا ما يجر إليه الزنا من العقاب الدنيوي والأخروي، يقال: عنت عنتًا من باب طرب إذا ارتكب الزنا، وفي "القاموس": والعنت محركًا الفساد، والإثم والهلاك ودخول المشقة على الإنسان، ولقاء الشدة والزنا والوهن والانكسار واكتساب المآثم، وأعنته غيره، وعنته تعنيتًا إذا شدد عليه وألزمه ما يصعب عليه.
وقد تضمنت هاتان الآيتان أنواعًا من البلاغة:
منها: التكرار بلفظ المؤمنات في قوله: ﴿الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ﴾، وفي قوله: ﴿فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ﴾، وفي قوله: ﴿فَرِيضَةً﴾ و ﴿مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ﴾، وبلفظ: ﴿الْمُحْصَنَاتُ﴾، في قوله: ﴿أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ﴾، وفي قوله: ﴿نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ﴾.
ومنها: الإشارة في قوله: ﴿وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ﴾ إشارة إلى ما تقدم من المحرمات، وفي قوله: ﴿ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ﴾ إشارةً إلى تزويج الإماء.
ومنها: الاستعارة في قوله: ﴿كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ﴾؛ أي: فرض الله، استعار للفرض لفظ الكتاب لثبوته وتقريره، فدل بالأمر المحسوس على المعنى المعقول، وفي قوله: ﴿مُحْصِنِينَ﴾ استعار لفظ الإحصان، وهو الامتناع في المكان الحصين للامتناع بالعقاب، واستعار لكثرة الزنا السفح، وهو صب الماء في الأنهار والعيون، بتدفق وسرعة. وكذلك: ﴿فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ﴾ استعار لفظ الأجور للمهور، والأجر: هو ما يدل على عمل، فجعل تمكين المرأة من الانتفاع بها كأنه عمل تعمله، وفي قوله: ﴿طَوْلًا﴾ استعارهُ للمهر يتوصل به إلى معالي الأمور.
ومنها: الطباق في قوله: ﴿مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ﴾؛ لأن المحصن الذي يمنع فرجه، والمسافح الذي يبذله.
ومنها: الاحتراز في قوله: ﴿وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ﴾ إذ المحصنات قد يراد بها الأنفس المحصنات، فيدخل تحتها الرجال فاحترز عنه بقوله من النساء.
ومنها: الاعتراض بقوله: ﴿وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ﴾.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
﴿يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٢٦) وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا (٢٧) يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا (٢٨) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (٢٩) وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (٣٠) إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا (٣١)﴾.
المناسبة
قوله تعالى: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أنه سبحانه وتعالى لما ذكر (١) أحكام النكاح فيما سلف على طريق البيان والإسهاب.. ذكر هنا عللها وأحكامها، كما هو دأب القرآن الكريم أن يعقب ذكر الأحكام التي يشرعها للعباد ببيان العلل والأسباب؛ ليكون في ذلك طمأنينة للقلوب، وسكون للنفوس لتعلم مغبة (٢) ما هي مقدمة عليه من الأعمال، وعاقبة ما كلفت به من الأفعال، حتى تقبل عليها وهي مثلجة الصدور، عالمة بأن لها فيها سعادةً في دنياها وأخراها، ولا تكون في عماية من أمرها، فتتيه في أودية الضلالة وتسير قدمًا لا إلى غاية.
قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها (٣): أنه تعالى لمَّا بيّن كيفية التصرف في النفوس بالنكاح.. بيَّن كيفية التصرّف في الأوال الموصلة إلى النكاح، وإلى ملك اليمين، وأن المهور والأثمان المبذولة في ذلك لا تكون مما
(٢) المغبة: العاقبة.
(٣) البحر المحيط.
وقال المراغي (١): قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ...﴾ الآية، مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لمّا ذكر فيما سلف كيفية معاملة اليتامى وإيتاء أموالهم إليهم عند الرشد وعدم دفع الأموال إلى السفهاء، ثم بيّن وجوب دفع المهور للنساء، وأنكر عليهم أخذها بوجه من الوجوه، ثم ذكر وجوب إعطاء شيءٍ من أموال اليتامى إلى أقاربهم إذا حضروا القسمة.. ذكر هنا قاعدة عامة للتعامل في الأموال تطهيرًا للأنفس في جمع المال المحبوب لها.
قوله تعالى: ﴿إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها (٢): أنه تعالى لمّا ذكر الوعيد على فعل بعض الكبائر.. ذكر الوعد على اجتناب الكبائر، والظاهر أن الذنوب تنقسم على قسمين؛ إلى كبائر وسيئات، وهي التي عبر عنها أكثر العلماء بالصغائر.
وقيل (٣): المناسبة أنه لمّا نهى الله سبحانه وتعالى عن أكل أموال الناس بالباطل، وعن قتل النفس، وهما أكبر الذنوب المتعلقة بحقوق العباد، وتوعد فاعل ذلك بأشد العقوبات.. نهى عن جميع الكبائر التي يعظم ضررها، وتؤذن بضعف إيمان مرتكبها، ووعد من تركها بالمُدخَل الكريم.
التفسير وأوجه القراءة
٢٦ - ﴿يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ﴾ هذه الآيات إلى قوله: ﴿وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا﴾ كأنها واقعة في جواب أسئلة مقدرة (٤)، تقديرها: ما الحكمة في هذه الأحكام، وما فائدتها للعباد وهل من كان قبلنا من الأمم السالفة كلف بمثلها، فلم يبح
(٢) البحر المحيط.
(٣) المراغي.
(٤) المراغي.
واللام (١) في قوله: ﴿لِيُبَيِّنَ﴾ زائدة مؤكدة لإرادة التبيين، كما زيدت في لا أبا لك لتأكيد إضافة الأب، والمعنى: يريد الله سبحانه وتعالى بما شرعه لكم من الأحكام أن يبين لكم، ويوضح ما فيه مصالحكم ومنافعكم، وقيل يبين لكم ما يقربكم منه وقيل يبين لكم أن الصبر عن نكاح الإماء خير لكم.
﴿وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾؛ أي: ويريد الله سبحانه وتعالى أن يرشدكم طرائق من تقدمكم، ومناهجهم من الأنبياء والصالحين لتقتدوا بهم وتقتفوا آثارهم، وتسيروا سيرتهم، فكل ما بيَّن الله تحريمه وتحليله لنا من النساء.. كان الحكم كذلك في جميع الشرائع والملل، فالشرائع والتكاليف وإن اختلفت باختلاف أحوال الاجتماع والأزمان كما قال: ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا﴾.. فهي متفقة في مراعاة المصالح العامة للبشر.
فروح الديانات جميعًا وأساسها توحيد الله تعالى، وعبادته والخضوع له، على صور مختلفة، ومآل ذلك تزكية النفس بالأعمال التي تقوم بها، وتهذيب الأخلاق لتَبْتَعِدَ عن سيء الأفعال والأقوال، ﴿و﴾ يريد الله سبحانه وتعالى أن ﴿وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ﴾؛ أي: أن يرجعكم عن المعصية التي كنتم عليها إلى طاعته، ويوفقكم للتوبة عنها، قيل: إن الأحكام قبل البعثة لم تثبت فأين المعصية؟
أجيب: بأن المراد المعصية ولو صورةً، والمعنى: ويريد الله تعالى أن يجعلكم بالعمل بتلك الأحكام تائبين، راجعين عما كان قبلها من تلك الأنكحة الضارة التي كان فيها انحراف عن سنن الفطرة؛ إذ كنتم تنكحون ما نكح آباؤكم، وتقطعون أرحامكم، ولا تلتفتون إلى المعاني السامية التي في الزوجية، من تقوية روابط النسب، وتجديد قرابة الصهر، والسعادة التي تثلج قلوب الزوجين، والمودة والرحمة اللتين تعمر بهما نفوسهما. ﴿وَاللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿عَلِيمٌ﴾
٢٧ - ﴿وَاللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿يُرِيدُ﴾ بما كلّفكم به من تلك الشرائع ﴿نْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ﴾؛ أي: أن يطهركم من الذنوب ويزكي نفوسكم من الأدناس، قال ابن عباس: معناه: يريد أن يطهركم من كل ما يكرهُ إلى ما يحب ويرضى، وقيل: معناه يدلكم على ما يكون سببًا لتوبتكم التي يغفر لكم بها ما سلف من ذنوبكم. ﴿وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ﴾ المحرمة ويستبيحونها ويفعلونها. قيل: هم (١) اليهود والنصارى، وقيل: هم اليهود خاصة؛ لأنهم يقولون: إن نكاح بنت الأخ من الأب حلال، وقيل: هم المجوس؛ لأنهم يستحلون نكاح الأخوات، وبنات الإخوة، فلما حرمهن الله تعالى.. قالوا: إنكم تحلون بنت الخالة، وبنت العمة، والخالة والعمة عليكم حرام، فانكحوا بنات الأخ والأخت، فنزلت هذه الآية، وقيل: هم الزناة يريدون أن تكونوا مثلهم. ﴿أَنْ تَمِيلُوا﴾ وتعدلوا عن الحق، وقصد السبيل ﴿مَيْلًا﴾ بموافقتهم على اتباع الشهوات، واستحلال المحرمات ﴿عَظِيمًا﴾؛ أي: بينًا بالنسبة إلى ميل من اقترف خطيئة، على ندور غير مستحل لها؛ أي: أن تخطئوا خطأً عظيمًا بنكاح الأخوات من الأب ونحوها، لقولهم: إنه حلال في كتابنا، وبمشاركتهم في اتباع الشهوات، فإن الزاني يحب أن يشركه في الزنا غيره، ليفرق اللوم عليه وعلى غيره، ومتبعوا الشهوات هم الذين يدورون مع شهوات أنفسهم، وينهمكون فيها، فكأنها أمرتهم باتباعها فامتثلوا أمرها، فلا يبالون بما قطعوا من حقوق الأرحام، ولا بما أزالوا من مودة القرابة، فليس مقصدهم إلا التمتع باللذة.
وأما الذين يفعلون ما يأمر به الدين: فليس غرضهم إلا امتثال أوامره، لا اتباع شهواتهم، ولا الجري وراء لذاتهم، وقرأ الجمهور أن تميلوا بتاء الخطاب، وقرىء بالياء على الغيبة، فالضمير في ﴿يميلوا﴾ يعود على الذين يتبعون
٢٨ - ﴿يُرِيدُ اللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى: ﴿أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ﴾ أيها الأمة المحمدية، ويسَهل عليكم في جميع أحكام الشرع، كإباحة نكاح الأمة عند الضرورة، ونحوه من سائر الرخص، ولم يثقل التكاليف عليكم، كما ثقلها على بني إسرائيل، كما أخبره في كتابه: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾، ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾، وكما روي عن النبي - ﷺ - أنه قال: "بعثت بالحنيفية السهلة السمحة".
﴿وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا﴾؛ أي: خلق الله جنس الإنسان حالة كونه ضعيفًا؛ أي: عاجزًا عن مخالفة هواه، غير قادر على مخالفة دواعيه، حيث لم يصبر عن النساء، وعن اتباع الشهوات، ولا يستخدم قواه في مشاق الطاعات، ولذلك خفف الله تكليفه، وقد ورد عن النبي - ﷺ -:"لا خير في النساء ولا صبر عنهن يغلبن كريمًا ويغلبهن لئيم، فأحب أن أكون كريمًا مغلوبًا ولا أحب أن أكون لئيمًا غالبًا". وقيل: هو ضعيف في أصل الخلقة؛ لأنه خلق من ماء مهين..
وقد رحم الله عباده (١)، فلم يحرم عليهم من النساء إلا ما في إباحته مفسدة عظيمة، وضرر كبير، ولا يزال الزنا ينتشر حيث يضعف وازع الدين، ولا يزال الرجال هم المعتدين، فهم يفسدون النساء ويغرونهن بالأموال، ويحجر الرجل على امرأته ويحجبها، بينما يحتال على امرأة غيره ويخرجها من خِدرها، وإنه لغِرٌّ جاهلٌ، أفيظن أن غيره لا يحتال على امرأته كما احتال هو على امرأة سواه، فقلما يفسق رجل إلا يكون قدوةً لأهل بيته في الفسق والفجور، وفي الحديث: "عفوا تعف نسائكم وبروا آباءكم تبرّكم أبناؤكم" رواه الطبراني من حديث جابر.
وقد بلغ الفسق في هذا الزمن حدًّا صار الناس يظنونه من الكياسة، وزالت غيرتهم، وأسلسوا القياد لنسائهم كما يسلسن لقيادتهن، فوهت الروابط الزوجية، ونخر السوس في سعادة البيوت، ووجدت الرذيلة لها مرتعًا خصيبًا في أجواء الأسر، حتى أصبح الرجل لا يثق بنسله، وكثرت الأمراض والعلل بشتى مظاهرها.
وقال الراغب (٢): ووصف الإنسان بأنه خلق ضعيفًا إنما هو باعتباره بالملأ الأعلى، نحو: ﴿أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ﴾، أو باعتباره بنفسه دون ما يعتريه من فيض الله ومعونته، أو اعتبارًا بكثرة حاجاته، وافتقار بعضهم إلى بعض، أو اعتبارًا بمبدئه ومنتهاه، كما قال تعالى: ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ﴾ وأما إذا اعتُبر بعقله، وما أعطاه من القوة التي يتمكن بها من خلافة الله في أرضه، ويبلغ يها في الآخرة إلى جواره تعالى.. فهو أقوى ما في هذا العالم، ولهذا قال تعالى: ﴿وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا﴾.
وقرأ ابن عباس ومجاهد: ﴿وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا﴾ مبنيًّا للفاعل مسندًا إلى ضمير اسم الله، وانتصاب ضعيفًا على الحال.
٢٩ - وقوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ﴾ شروع في بيان بعض المحرمات المتعلقة بالأموال والأنفس، إثر بيان المحرمات المتعلقة بالأبضاع، وإنما خَصَّ الأكل بالذكر؛ لأن معظم المقصود من الأموال الأكل، فالمراد: النهي عن مطلق الأخذ، قيل: ويدخل فيه أكل مال نفسه، وأكل مال غيره، فأكل مال نفسه بالباطل إنفاقه في المعاصي.
(٢) البحر المحيط.
وخص التجارة (١) بالذكر دون غيرها كالهبة والصدقة والوصية؛ لأن غالب التصرف في الأموال بها ولأن أسباب الرزق متعلق بها غالبًا، ولأنها أرفق بذوي المروءات، بخلاف الإيهاب وطلب الصدقات، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي: ﴿تِجَارَةً﴾ بالنصب على أن ﴿تَكُونَ﴾ ناقصة، واسما ضمير مستتر يعود على (٢) الأموال، تقديره: إلا أن تكون الأموال أموال تجارة صادرة عن تراض منكم، فيجوز أكلها، أو يعود على ﴿تجارة﴾ والتقدير: إلا أن تكون التجارة تجارة عن تراض منكم.
وقرأ الباقون بالرفع على أن تكون تامة، والمعنى: إلا أن توجد تجارة صادرة عن تراض منكم، فيجوز أكل الأموال المكتسبة بها.
واختلف العلماء في التراضي (٣)، فقالت طائفة: تمامه، أي: تمام البيع وجوبه بافتراق الأبدان بعد عقد البيع، أو بأن يقول أحدهما لصاحبه اختر، كما في الحديث الصحيح: "البيعان بالخيار ما لم يتفرقا أو يقول أحدهما لصاحبه: اختر" أخرجه الشيخان عن ابن عمر، وإليه ذهب جماعة من الصحابة والتابعين، وبه قال الشافعي والثوري والأوزاعي والليث وابن عيينة وإسحاق وغيرهم. وقال
(٢) البحر المحيط.
(٣) الشوكاني.
فائدة: وفي قوله: ﴿بَيْنَكُمْ﴾ رمز (١) إلى أن المال المحرم يكون عادة موضع التنازع في التعامل بين الآكل والمأكول منه، كل منهما يريد جذبه إليه، والمراد بالأكل الأخذ على أي وجه، وعبر عنه بالأكل لأنه أكثر أوجه استعمال المال وأقواها.
وأضاف الأموال إلى الجميع، ولم يقل: لا يأكل بعضكم مال بعض، تنبيهًا إلى تكافل الأمة في الحقوق والمصالح، كان مال كل واحد منها هو مال الأمة جميعها، فإذا استباح أحدهم أن يأكل مال الآخر بالباطل.. كان كأنه أباح لغيره أن يأكل ماله، فالحياة قصاص، وإرشادًا إلى أن صاحب المال يجب عليه بذل شيء منه للمحتاج وعدم البخل عليه به، إذ هو كأنما أعطاه شيئًا من ماله، وبهذا قد وضع الإِسلام قواعد عادلة للأموال لدى من يعتنق مبادئه:
منها: أن مال الفرد مال الأمة، مع احترام الحيازة والملكية وحفظ حقوقها، فهو يوجب على ذي المال الكثير حقوقًا معينة للمصالح العامة، وعلى ذي المال القليل حقوقًا أخرى للبائسين وذوي الحاجات من سائر أصناف البشر، ويحث على البر والإحسان والصدقات في جميع الأوقات.
وبهذا لا يوجد في بلاد الإِسلام مضطر إلى القوت أو عريان، سواء أكان مسلمًا أم غير مسلم؛ لأن الإِسلام فرض على المسلمين إزالة ضرورة المضطر، كما فرض في أموالهم حقوقًا للفقراء والمساكين.
وكل فرد يقيم في بلادهم يرى أن مال الأمة هو مالُه، فإذا اضطر إليه.. يجده مذخورًا له، كما جُعل المال المفروض في أموال الأغنياء تحت سيطرة الجماعة الحاكمة من الأمة، حتى لا يمنعه من في قلبه مرض، وحثهم على البذل
ومنها: أنه لم يبح للمحتاج أن يأخذ ما يحتاج إليه من أيدي أربابه إلا بإذنهم، حتى لا تنتشر البطالة والكسل بين أفراد الأمة، وتوجد الفوضى في الأموال والضعف والتواني في الأحوال، ويدب الفساد في الأخلاق والآداب.
ولو أقام المسلمون معالم دينهم، وعملوا بشرائعه.. لضربوا للناس الأمثال، واستبان لهم أنه خير شريعة أخرجت للناس، ولأقاموا مدنية صحيحة في هذا العصر، يتأسى بها كل من يريد سعادة الجماعات، ولا يجعلها تَئِنُ تحت أثقال العوز والحاجة، كما هو حادث الآن من التنافر العام، والنظر الشزر من العمال إلى أصحاب رؤوس الأموال. ومعنى قوله: ﴿إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ﴾؛ أي: لا تكونوا من ذوي الأطماع الذين يأكلون أموال الناس بغير مقابل لها من عين أو منفعة، ولكن كلوها بالتجارة التي قوام الحل فيها التراضي، وذلك هو اللائق بأهل المروءة والدين، إذا أرادوا أن يكونوا من أرباب الثراء.
وفي الآية إيماء إلى أنواع شتى من الفوائد:
منها: أن مدار حل التجارة على تراضي المتبايعين، فالغش والكذب والتدليس فيها من المحرمات.
ومنها: أن جميع ما في الدنيا من التجارة، وما في معناها، من قبيل الباطل الذي لا بقاء له ولا ثبات، فلا ينبغي أن يشغل العاقل بها عن الاستعداد للآخرة، التي هي خير وأبقى.
ومنها: الإشارة إلى أن معظم أنواع التجارة يدخل فيها الأكل بالباطل، فإنَّ تحديد قيمة الشيء، وجعل ثمنه على قدره بالقسطاس المستقيم يكاد يكون مستحيلًا، ومن ثم يجري التسامح فيها إذا كان أحد العوضين أكبر من الآخر، أو إذا كان سبب الزيادة براعة التاجر في تزيين سلعته، وترويجها بزخرف القول من غير غش ولا خداع، فكثيرًا ما يشتري الإنسانُ الشيء وهو يعلم أنه يمكنه شراؤه
فإذا ما وجد في التجارة الربح الكثير بلا غشٍ ولا تغرير، بل بتراض من الطرفين.. لم يكن في هذا حرج، ولولا ذلك ما رغب أحد في التجارة، ولا اشتغل بها أحد من أهل الدين، على شدة حاجة العمران إليها، وعدم الاستغناء عنها.
ولما كان المال عديل الروح، وقد نهينا عن إتلافه بالباطل، كنهينا عن إتلاف النفس؛ لكون أكثر إتلافهم لها بالمغامرات؛ لنهب الأموال، وما كان متصلًا بها، وربما أدى ذلك إلى الفتن التي ربما كان آخرها القتل. قال تعالى: ﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ﴾؛ أي: لا تفعلوا ما تستحقون به القتل، من قتل المؤمن بغير حق والردة والزنا بعد الإحصان، أو المعنى: لا يقتل بعضكم بعضًا، وإنما قال: ﴿أَنْفُسَكُمْ﴾ لأنهم أهل دين واحد، فهم كنفس واحدة، وللإشعار بتعاون الأمة وتكافلها ووحدتها، وقد جاء في الحديث: "المؤمنون كالنفس الواحدة"؛ ولأن قتل الإنسان لغيره يفضي إلى قتله قصاصًا أو ثأرًا، فكأنه قتل نفسه.
وبهذا علمنا القرآن: أن جناية الإنسان على غيره جناية على نفسه، وجناية على البشر جميعًا، لا على المتصلين به برابطة الدين أو الجنس أو السياسة، كما قال تعالى: ﴿مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا﴾ كما أنه أرشدنا باحترام نفوس الناس بعدها كنفوسنا، إلى أن نحترم نفوسنا بالأولى، فلا يباح بحال أن يقتل أحد نفسه؛ ليستريح من الغم وشقاء الحياة، فمهما اشتدت المصائب بالمؤمن.. فعليه أن يصبر ويحتسب، ولا ييأس من الفرج الإلهي، ومن ثَمَّ لا يكثرُ بَخْعُ النفس والانتحار إلا حيث يقل الإيمان، ويفشو الكفر والإلحاد.
٣٠ - ﴿وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ﴾ المنهي المذكور من أكل الأموال بالباطل، وقتل الأنفس، أو سائر المحرمات المذكورة من أول السورة إلى هنا، ﴿عُدْوَانًا﴾؛ أي: تعديًا (١) وعمدًا لا خطأً، ﴿وَظُلْمًا﴾؛ أي: بغير حق لا قصاصًا، أو المعنى ﴿عُدْوَانًا﴾؛ أي: (٢) تعديًا على الغير، ﴿وَظُلْمًا﴾؛ أي: لنفسه بتعريضها للعقاب، لا جهلًا ونسيانًا وسفهًا، وقال المراغي (٣): العدوان هو التعدي على الحق، وهو يتعلق بالقصد، بأن يتعمد الفاعل الفعل، وهو عالم أنه قد تعدى الحق وجاوزه إلى الباطل، والظلم يتعلق بالفعل نفسه، بأن لا يتحرى الفاعل عمل ما يحل فيفعل ما لا يحل، والوعيد مقرون بالأمرين معًا، فلا بد من قصد الفاعل العدوان، وأن يكون فعله ظلمًا لاحقًا، فإذا وجد أحدهما دون الآخر.. لم يستحق الفاعل هذا التهديد الشديد، فإذا قتل الإنسان رجلًا كان قد قتل أباه أو ابنه.. فهنا قد وجد العدوان ولم يوجد الظلم، وإذا سلب امرؤ مال آخر ظانًّا أنه ماله الذي كان قد سرقه أو اغتصبه، ثم تبين أن المال ليس ماله، وأن هذا الرجل لم يكن هو الذي أخذ ماله.. فها هنا قد وجد الظلم دون العدوان، وقرىء ﴿عِدوانًا﴾ بالكسر، ﴿فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا﴾؛ أي: فسوف ندخله في الآخرة نارًا هائلة شديدة العذاب، يصلى فيها، عقوبة له على جريمته ومدلول (٤) ﴿نَارًا﴾ مطلق، والمراد - والله أعلم - تقييدها بوصف الشدة، أو ما يناسب هذا الجرم العظيم من أكل المال بالباطل وقتل الأنفس.
(٢) بيضاوي جمل.
(٣) المراغي.
(٤) البحر المحيط.
﴿وَكَانَ ذَلِكَ﴾ الإصلاء والإدخال في النار ﴿عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا﴾؛ أي: يسيرًا سهلًا هينًا على الله سبحانه وتعالى لا يمنعه منه مانع، ولا يدفعه عنه دافع، ولا يشفع فيه إلا بإذنه شافع، فلا يغترَّن الظالمون المعتدون بحلمه تعالى عليهم في الدنيا، وعدم معاجلتهم بالعقوبة، فيظنوا أنهم بمنجاة من عقابه في الآخرة، ولا يكونن كأولئك المشركين الذين قالوا: ﴿نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ﴾.
٣١ - ﴿إِنْ تَجْتَنِبُوا﴾ وتتركوا ﴿كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ﴾؛ أي: عظائم ما نهاكم الله عنه من الذنوب، كالشرك والزنا وقتل النفس المحرمة مثلًا، وتفعلوا عزائم ما أمركم الله به، كالصلوات الخمس وصيام رمضان والزكاة والحج، ﴿نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ﴾؛ أي: نمحُ عنكم صغائر الذنوب، ونغفرها لكم فلا نؤاخذكم بها، فتصير بمنزلة ما لم يعمل؛ لأن الصغائر تكفر باجتناب الكبائر وفعل المأمورات، ولا تكفر كبارها إلا بالتوبة والإقلاع عنها، فمعنى تكفير السيئات: إزالة ما يستحق عليها من العقوبات، وجعلها كأن لم تكن، فالمراد بالسيئات هنا الصغائر؛ لأنهم قسموا الذنوب إلى قسمين: صغائر كالنظرة واللمسة والقبلة مثلًا، وكبائر كالزنا والسرقة، وقالوا: أكبر الكبائر الشرك بالله، وأصغر الصغائر حديث النفس. وإنما زدنا في تفسير الآية قيد وتفعلوا عزائم المأمورات؛ لأنه لا بد من تقييد ما في هذه الآية من تكفير السيئات بمجرد اجتناب الكبائر، بما أخرجه النسائي وابن ماجه وابن جرير وابن خزيمة وابن حبان والحاكم وصححه، والبيهقي في "سننه"، عن أبي هريرة وأبي سعيد: أن النبي - ﷺ - جلس على المنبر ثم قال: "والذي نفسي بيده، ما من عبد يصلي الصلوات الخمس،
وقرأ ابن عباس وابن جبير (١): ﴿إن تجتنبوا كبير﴾ على الإفراد، وقرأ المفضلُ عن عاصم: ﴿يُكفِّر﴾ ﴿ويدخلكم﴾ بالياء على الغيبة، وقرأ ابن عباس: ﴿من سيئاتكم﴾، بزيادة (من)، وقرأ نافع: ﴿مُدْخَلًا﴾ هنا، وفي الحج بفتح الميم، ورُويت عن أبي بكر، وقرأ باقي السبعة بضمها.
واعلم: أنه قد اختلف العلماءُ في عدد الكبائر، وتحقيق معناها، فقال ابن مسعود: هي ثلاث: القنوط من رحمة الله، واليأس من روح الله، والأمن من مكر الله، وروي عنه أيضًا أنها أربع، فزاد الإشراك بالله، وقال عليٌّ: هي سبع، الإشراك بالله، وقتل النفس، وقذفُ المحصنة، وأكل مال اليتيم، وأكل الربا، والفرارُ يوم الزحف، والتعرب بعد الهجرة، وقال عبيد بن عمير: الكبائر سبع كقول علي في كل واحدة منها أية من كتاب الله، وجعل الآية في التعرب: ﴿إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى...﴾ الآية.
والأحاديث الصحيحة (٢) كما سيأتي مختلفة في عددها، ومجموعها يزيد على سبع، ومن ثم قال ابن عباس: لما قال له رجل: الكبائر سبع؟ قال: هي إلى سبعين أقرب، وفي رواية عنه: هي إلى سبع مئة أقرب؛ إذ لا صغيرة مع
(٢) المراغي.
وأما في تحقيقها فقيل: إن الذنوب كلها كبائر، وإنما يقال لبعضها: صغيرة بالنسبة إلى ما هو أكبر منها، كما يقال: الزنا صغيرة بالنسبة إلى الكفر، والقبلة المحرمة صغيرة بالنسبة إلى الزنا. وقال ابن عباس: الكبيرة كل ذنب ختمه الله بنار أو غضب أو لعنة أو عذاب، وقال ابن مسعود: الكبائر ما نهى الله عنه في هذه السورة إلى ثلاث وثلاثين آيةً، وقال سعيد بن جبير: كل ذنب نسبه الله إلى النار فهو كبيرة، وقال جماعة من أهل الأصول: الكبائر كل ذنب رتب عليه الحد أو صرح بالوعيد فيه، وقيل: كل ذنب عظم قبحه وعظمت عقوبته، إما في الدنيا بالحدود، وإما في الآخرة بالعذاب عليه، وقيل غير ذلك مما لا طائل في ذكره.
فصل في ذكر الأحاديث الواردة في الكبائر
فمنها: ما روي عن أبي بكرة - رضي الله عنه - قال: كنا عند رسول الله - ﷺ - فقال: "ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ثلاثًا"، قلنا: بلى يا رسول الله، قال: "الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، ألا وشهادة الزور، وقول الزور"، وكان متكئًا فجلس، فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت. أخرجاه في "الصحيحين".
وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: ذكر لنا رسول الله - ﷺ - الكبائر
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - ﷺ - قال: "اجتنبوا السبع الموبقات"، قيل: يا رسول الله، وما هن؟ قال: "الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل مال اليتيم، والزنا، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات" متفق عليه.
وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: سألت رسول الله - ﷺ -: أي الذنب أعظم؟ قال: "أن تجعل لله ندًّا وهو خلقك"، قال: قلت: إن ذلك لعظيم، ثم أي؟ قال: "أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك"، قلت: ثم أي؟ قال: "أن تزاني حليلة جارك" رواه البخاري.
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - أن النبي - ﷺ - قال: "الكبائر: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وقتل النفس، واليمين الغموس"، وفي رواية، أن أعرابيًّا جاء إلى النبي - ﷺ - فقال: يا رسول الله، ما الكبائر؟ قال: "الإشراك بالله"، قال: ثم ماذا؟ قال: "اليمين الغموس"، قلت: وما اليمين الغموس؟ قال: "الذي يقتطع مال امرئ مسلم بيمين هو فيها كاذب" رواه البخاري.
وعنه - رضي الله عنهما - أن رسول الله قال: "إن من الكبائر شتم الرجل والديه"، قالوا: وهل يشتم الرجل والديه؟ قال: "نعم! يسب الرجل أبا الرجل أو أمه، فيسب أباه أو أمه"، وفي رواية: "من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه" وذكر الحديث، متفق عليه.
الإعراب
﴿يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾.
﴿يُرِيدُ اللَّهُ﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة، مسوقة لتقرير ما سبق من
﴿وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا﴾.
﴿اللَّهُ﴾: الواو عاطفة. ﴿اللَّهُ﴾: مبتدأ. ﴿يُرِيدُ﴾: فعل مضارع وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة خبر المبتدأ، والجملة الإسمية معطوفة على الجملة الفعلية؛ أعني: جملة يريد الله. ﴿أن﴾: حرف نصب ومصدر ﴿يَتُوبَ﴾: منصوب بـ ﴿أن﴾ وفاعله ضمير يعود على ﴿الله﴾. ﴿عَلَيْكُمْ﴾: متعلق به، والجملة الفعلية صلة ﴿أَن﴾ المصدرية في تأويل مصدر منصوب على المفعولية تقديره: والله يريد توبته عليكم. ﴿وَيُرِيدُ الَّذِينَ﴾: فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة قوله: ﴿وَاللَّهُ يُرِيدُ﴾. ﴿يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل. ﴿أَنْ تَمِيلُوا﴾: ناصب وفعل وفاعل. ﴿مَيْلًا﴾: مفعول مطلق. ﴿عَظِيمًا﴾: صفة له، والجملة الفعلية في تأويل مصدر منصوب على المفعولية لـ ﴿يُرِيدُ﴾؛ تقديره: ويريد الذين يتبعون الشهوات ميلكم ميلًا عظيمًا.
﴿يُرِيدُ اللَّهُ﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. ﴿أَنْ﴾: حرف مصدر. ﴿يُخَفِّفَ﴾: منصوب بـ ﴿أَنْ﴾، وفاعله ضمير يعود على ﴿اللَّهُ﴾، ﴿عَنْكُمْ﴾: متعلق به، والجملة الفعلية في تأويل مصدر منصوب على المفعولية تقديره: يريد الله تخفيفه عنكم، ﴿وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ﴾ فعل ونائب فاعل. ﴿ضَعِيفًا﴾: حال من الإنسان، وهي حال مؤكدة، والجملة مستأنفة، بمنزلة التعليل لقوله: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ﴾.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ﴾.
﴿يَا أَيُّهَا﴾ ﴿يا﴾: حرف نداء. ﴿أيُّ﴾: منادى نكرة مقصودة. ها: حرف تنبيه زائد زيد تعويضًا عما فات أي من الإضافة، ﴿الَّذِينَ﴾: اسم موصول في محل الرفع، أو في النصب صفة له، وجملة النداء مستأنفة. ﴿آمَنُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول. ﴿لَا تَأكُلُوا﴾: جازم وفعل وفاعل، والجملة جواب النداء. ﴿أَمْوَالَكُمْ﴾: مفعول به ومضاف إليه. ﴿بَيْنَكُمْ﴾: ظرف ومضاف إليه متعلق بـ ﴿تَأكُلُوا﴾، أو حال من ﴿أَمْوَالَكُمْ﴾. ﴿بِالْبَاطِلِ﴾: متعلق بـ ﴿تَأكُلُوا﴾.
﴿إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا﴾.
﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء منقطع بمعنى لكن. ﴿أَنْ﴾: حرف نصب. ﴿تَكُونَ﴾: فعل مضارع ناقص. ﴿تِجَارَةً﴾: خبرها منصوب على قراءة النصب، واسمها ضمير يعود على المعاملة مثلًا، وعلى قراءة الرفع فتكون تامة، ﴿تِجَارَةً﴾: فاعلها، وجملة ﴿تَكُونَ﴾ على كلا الإعرابين: صلة أن المصدرية، أن مع صلتها: في تأويل مصدر مرفوع على الابتداء، والخبر محذوف؛ تقديره: لكن كون المعاملة تجارة عن تراض منكم جائز، أو كون تجارة عن تراض منكم جائز، والجملة جملة استدراكية لا محل لها من الإعراب. ﴿عَنْ تَرَاضٍ﴾: جار ومجرور صفة لـ ﴿تِجَارَةً﴾. ﴿مِنْكُمْ﴾: جار ومجرور صفة لـ ﴿تَرَاضٍ﴾، ﴿وَلَا تَقْتُلُوا﴾: جازم وفعل وفاعل معطوف على جملة ﴿لَا تَأكُلُوا﴾. ﴿أَنْفُسَكُمْ﴾:
﴿وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا﴾.
﴿وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ﴾: الواو استئنافية. ﴿مَنْ﴾: اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط، أو جملة الجواب، أو هما. ﴿يَفْعَلْ﴾: فعل مضارع مجزوم بـ ﴿مَنْ﴾ على كونه فعل الشرط لها، وفاعله ضمير يعود على ﴿مَنْ﴾. ﴿ذَلِكَ﴾: مفعول به. ﴿عُدْوَانًا﴾: حال من فاعل يفعل. ﴿وَظُلْمًا﴾: معطوف عليه، ولكن بعد تأويلهما بمشتق؛ تقديره: ومن يفعل ذلك حالة كونه متعديًا على غيره، وظالمًا لنفسه، أو منصوبان على المفعول لأجله. ﴿فَسَوْفَ نُصْلِيهِ﴾: الفاء: رابطة لجواب ﴿مَنْ﴾ الشرطية وجوبًا؛ لكون الجواب مقترنًا بـ ﴿سوف﴾، ﴿سَوْفَ﴾: حرف تنفيس. ﴿نُصْلِيهِ﴾: فعل ومفعول أول. ﴿نَارًا﴾: مفعول ثان، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة الفعلية في محل الجزم بـ ﴿مَنْ﴾ الشرطية، على كونها جوابًا لها، ولم يجزم لفظه لاقترانه بحرف التنفيس، وجملة ﴿مَنْ﴾ الشرطية مستأنفة. ﴿وَكَانَ ذَلِكَ﴾: فعل ناقص واسمه. ﴿عَلَى اللَّهِ﴾: متعلق بـ ﴿يَسِيرًا﴾ وهو خبر كان، وجملة ﴿كَانَ﴾: مستأنفة.
﴿إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا﴾.
﴿إِنْ تَجْتَنِبُوا﴾: جازم وفعل وفاعل، مجزوم بحذف النون. ﴿كَبَائِرَ مَا﴾: مفعول به ومضاف إليه. ﴿تُنْهَوْنَ﴾: فعل مغير ونائب فاعل. ﴿عَنْهُ﴾: متعلق به، والجملة الفعلية صلة لـ ﴿ما﴾، أو صفة لها، والعائد ضمير عنه. ﴿نُكَفِّرْ﴾: فعل مضارع مجزوم بـ ﴿أَن﴾ على كونه جواب الشرط لها، وفاعله ضمير يعود على الله،
التصريف ومفردات اللغة
﴿وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ﴾، السنن جمع سنة، كغرف وغرفة، والسنة: الطريقة، ويقال: تاب إلى الله توبة وتوبًا ومتابًا، من باب قال، إذا رجع من معصيته إلى طاعته، وتاب الله عليه إذا غفر له، ورجع عليه بفضله، والمعنى هنا: ويغفر لكم، ومعناه في الموضع الثاني أعني قوله: ﴿وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ﴾ التوفيق للهداية، والرجوع إلى الطاعة، ﴿الشَّهَوَاتِ﴾: جمع شهوة، كهفوات جمع هفوة، وهي المستلذات المحرمة، يقال: شها الشيء يشهو من باب دعا، ويقال: شهي يشهى - من باب رضي يرضى - شهوةً إذا أحبه ورغب فيه رغبة شديدة، ﴿أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا﴾ يقال: مال يميل من - باب باع - ميلًا وتميالًا وميلانًا وميلولةً إلى المكان عدل إليه، أو إلى الشيء، أو إلى الشخص، إذا رغب فيه أو أحبه، ومال عن الطريق إذا حاد عنه، ومال الحاكم في حكمه إذا جار وظلم، ومال الحائط إذا زال عن استوائه، والمراد هنا الميل عن الطريق المستقيم. ﴿وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا﴾ والضعيف: صفة مشبهة من ضعف يضعف ضعافة وضعافية ضد قوي، وهو من باب فعل المضموم كشرف، يجمع على ضعاف وضعفاء وضعفة وضعفى مؤنثه ضعيفة. ﴿أموالَكم﴾: جمع مال، والمال هو ما ملكته من جميع الأشياء، وهو عند أهل البادية يطلق على النعم والمواشي كالإبل والغنم، يذكر ويؤنث فيقال: هو المال، وهي المال، سمي به لميل القلب إليه، ويقال: مال يمول مولًا ومؤولًا من باب قال، يقال: مال زيد إذا صار ذا مال أو
فأما المضموم الميم فإنه يحتمل وجهين:
أحدهما: أنه مصدر، وقد علم أن المصدر الميمي من الرباعي فما فوقه، كاسم المفعول منه، والمدخول فيه على هذا محذوف؛ أي: وندخلكم الجنة إدخالًا كريمًا.
والثاني: أنه اسم مكان الدخول.
وفي نصبه حينئذ احتمالان:
أحدهما: أنه منصوب على الظرف، وهو مذهب سيبويه.
والثاني: أنه مفعول به، وهو مذهب الأخفش، وهكذا كل مكان مختص بعد دخل، فإن فيه هذين المذهبين، وهذه القراءة واضحة، لأن اسم المصدر والمكان جاريان على فعلهما، وأما قراءة نافع: فتحتاج إلى تأويل، وذلك لأن
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات أنواعًا من البلاغة والبديع (١):
منها: التكرار في اسم الله وفي قوله: ﴿يُرِيدُ﴾ في أربعة مواضع، وفي قوله: ﴿يَتُوبَ﴾، ﴿أَنْ يَتُوبَ﴾.
ومنها: إطلاق المستقبل على الماضي في قوله: ﴿يُرِيدُ﴾، وفي قوله: ﴿لِيُبَيِّنَ﴾؛ لأن إرادة الله وبيانه قديمان؛ إذ تبيانه في كتبه المنزلة، والإرادة والكلام من صفات ذاته وهي قديمة.
ومنها: الاستعارة في قوله: ﴿يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ﴾، وفي قوله: ﴿أَنْ تَمِيلُوا﴾؛ لأنه استعار الاتباع والميل اللذين هما حقيقة في الإجرام؛ لموافقة هوى النفس المؤدي إلى الخروج عن الحق. وفي قوله: ﴿أَنْ يُخَفِّفَ﴾ لأن التخفيف أصله من خفة الوزن وثقل الجرم، وتخفيف التكاليف: رفع مشاقها من النفس، وذلك من المعاني. وفي قوله: ﴿وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا﴾ جعله ضعيفًا باسم ما يؤول إليه، أو باسم أصله.
ومنها: الزيادة في قوله: ﴿لِيُبَيِّنَ لَكُمْ﴾، قال الزمخشري: تقديره: يريد الله أن يبين لكم، فزيدت اللام مؤكدة لإرادة التبيين، كما زيدت في لا أبا لك؛ لتأكيد إضافة الأب كما مر ذلك.
ومنها: المجاز المرسل في قوله: ﴿لَا تَأكُلُوا أَمْوَالَكُمْ﴾؛ لأنه مجاز عن
ومنها: الحذف في قوله: ﴿إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ﴾ لأنه على تقدير إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه وتفعلوا الطاعات؛ لأن التكفير ليس مرتبًا على الاجتناب فقط، بل لا بد معه من فعل الطاعات.
ومنها: قصد الدلالة على الثبوت في جملة، وعلى التجدد في أخرى، في قوله: ﴿وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا (٢٧)﴾ لأنه جاءت الجملة الأولى اسمية والثانية فعلية، لإظهار تأكيد الجملة الأولى؛ لأنها أدل على الثبوت، ولتكرير اسم الله تعالى فيها على طريق الإظهار والإضمار، وأما الجملة الثانية: فجاءت فعلية مشعرة بالتجدد؛ لأن إرادتهم تتجدد في كل وقت.
ومنها: إطلاق الكل وإرادة البعض في قوله: ﴿لَا تَأكُلُوا أَمْوَالَكُمْ﴾ لأن إضافة الأموال إلى المخاطبين معناه أموال بعضكم، كما قال تعالى: ﴿فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾، وقوله: ﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ﴾.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
﴿وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (٣٢) وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا (٣٣) الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا (٣٤) وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا (٣٥)﴾.
المناسبة
قوله تعالى: ﴿وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها (١): أنه تعالى لما نهى عن أكل المال بالباطل، وعن قتل الأنفس، وكان ما نهى عنه مدعاة إلى التبسط في الدنيا والعلو فيها، وتحصيل حطامها.. نهاهم عن تمني ما فضل الله به بعضهم على بعض؛ إذ التمني لذلك سبب مؤثر في تحصيل الدنيا، وشوق النفس إليها بكل طريق، فلم يكتف بالنهي عن تحصيل المال بالباطل، وقتل الأنفس، حتى نهى عن السبب المحرض على ذلك، وكانت المبادرة إلى النهي عن السبب آكد لفظاعته ومشقته، فبدىء به، ثم أتبع بالنهي عن السبب حسمًا لمادة المسبب، وليوافق العمل القلبي العمل الخارجي، فيستوي الباطن والظاهر في الامتناع عن الأفعال القبيحة.
وقال في "المراغي" (٢): المناسبة: أن الله سبحانه وتعالى لما نهى عن أكل
(٢) المراغي.
وقوله تعالى: ﴿وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ...﴾ قال أبو حيان (١): مناسبتها لما قبلها: أنه سبحانه وتعالى لما نهى عن التمني المذكور، وأمر بسؤال الله من فضله.. أخبر تعالى بشيء من أحوال الميراث، وأن في شرعه ذلك مصلحة عظيمة، من تحصيل مال للوارث لم يسع فيه، ولم يتعن فيه بطلب فرب ساع لقاعد.
وقال المراغي: مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما (٢) نهى عن أكل أموال الناس بالباطل، وعن تمني أحد ما فضل الله به غيره عليه من المال، حتى لا يسوقه التمني إلى التعدي، وهو وإن كان نهيًا عامًّا، فالسياق يعين المراد منه، وهو المال؛ لأن أكثر التمني يتعلق به، ثم ذكر القاعدة العامة في حيازة الثروة وهي الكسب.. انتقل إلى نوع آخر تأتي به الحيازة وهو الإرث.
قوله تعالى: ﴿الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ...﴾ الآية، مناسبتها لما قبلها (٣): أن الله سبحانه وتعالى لما نهى كلًّا من الرجال والنساء عن تمني ما فضل الله به بعضهم على بعض وأرشدهم إلى الاعتماد في أمر الرزق على كسبهم، وأمرهم أن يؤتوا الوارثين أنصبتهم، وفي هذه الأنصبة يستبين تفضيل الرجال على النساء.. ذكر هنا أسباب التفضيل.
(٢) المراغي.
(٣) المراغي.
قوله تعالى: ﴿وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ...﴾ سبب نزوله (١): ما رواه الترمذي والحاكم عن أم سلمة أنها قالت: يغزو الرجال ولا تغزو النساء، وإنما لنا نصف الميراث، فأنزل الله قوله: ﴿وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ...﴾، وأنزل فيها ﴿إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ...﴾.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: أتت امرأة إلى النبي - ﷺ -، فقالت: يا نبي الله للذكر مثل حظ الأنثيين، وشهادة امرأتين برجل أفنحن في العمل هكذا، إن عملت المرأة حسنة كتبت لها نصف حسنة، فأنزل الله ﴿وَلَا تَتَمَنَّوْا...﴾ الآية.
قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ...﴾ الآية أخرج (٢) أبو داود في سننه من طريق ابن إسحاق عن داود بن الحصين قال: كنت أقرأ على أم سعد ابنة الربيع، وكانت مقيمة في حجر أبي بكر فقرأت: ﴿والذين عاقدت أيمانكم﴾ فقالت: لا ولكن ﴿وَالَّذِينَ عَقَدَتْ﴾ وإنما نزلت في أبي بكر وابنه، حين أبى الإِسلام، فحلف أبو بكر أن لا يورثه، فلما أسلم أمره أن يؤتيه نصيبه.
قوله تعالى: ﴿الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ...﴾ سبب نزوله: ما أخرجه ابن أبي حاتم عن الحسن قال: جاءت امرأة إلى النبي - ﷺ - تستعدي على زوجها أنه لطمها، فقال رسول الله - ﷺ -: "القصاص"، فأنزل الله عز وجل: ﴿الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ...﴾ الآية فرجعت بغير قصاص.
وروي أن سعد بن الربيع - كان نقيبًا من نقباء الأنصار - نشزت عليه امرأته حبيبة بنت زيد، فلطمها فأنطلق معها أبوها إلى رسول الله - ﷺ -، فقال: أفرشته كريمتي فلطمها، فقال النبي - ﷺ -: "لتقتص منه"، فنزلت ﴿الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ﴾، فقال: "أردنا أمرًا وأراد الله أمرًا والذي أراد الله خير" وأخرج (٣)
(٢) لباب النقول.
(٣) لباب النقول.
وأخرج نحوه عن ابن جريج والسدي وأخرج ابن مردويه عن علي قال: أتى النبي - ﷺ - رجل من الأنصار بامرأة له، فقالت: يا رسول الله إنه ضربني، فأثر في وجهي، فقال رسول الله - ﷺ -: "ليس له ذلك" فأنزل الله: ﴿الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ...﴾ الآية، فهذه شواهد يقوي بعضها بعضًا.
التفسير وأوجه القراءة
٣٢ - ﴿وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ﴾؛ أي: لا تغتبطوا أيها المؤمنون كون ما فضل الله وخص به بعضكم، ورفعه به على بعض آخر من الأمور الدنيوية أو الدينية، كالجاه والمال والعلم والطاعة لأنفسكم، ولا تنافسوا فيه؛ لأن ذلك (١) التفضيل قسمة من الله، صادرة عن حكمة وتدبير وعلم بأحوال العباد، وبما ينبغي لكل من بسط في الرزق أو قبض، فعلى كل واحد أن يرضى بما قُسم له، ولا يحسد أخاه على حظه، فالحسد أن يتمنى أن يكون ذلك الشيء له ويزول عن صاحبه، والغبطة أن يتمنى مثلما لغيره، وهو مرخص فيه، والأول منهي عنه.
والتمني (٢): هو التعلق بحصول أمر في المستقبل عكس التلهف؛ لأنه التعلق بحصول أمر في الماضي، فإن تعلق بانتقال ما لغيره له، أو لغيره مع زواله عنه، فهو حسد مذموم، وهو المعني بقوله تعالى: ﴿أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾ وفي ذلك قال الإِمام أحمد بن حنبل:
ألاَ قُلْ لِمَنْ بَاتَ لِيْ حَاسِدَا | أَتَدْرِيْ عَلَى مَنْ أَسَأتَ الأدَبْ |
(٢) صاوي.
أَسَأتَ عَلَى اللهِ في فِعْلِهِ | كَأَنَّكَ لَمْ تَرْضَ لِيْ مَا وَهَبْ |
فَكَانَ جَزَاؤُكَ أَنْ خَصَّنِي | وَسَدَّ عَلَيْكَ طَرِيْقَ الطَّلَبْ |
قال ابن عباس (١): لا يتمنى الرجل مال غيره، ودابته وامرأته ولا شيئًا من الذي ثبت له، كالجاه وغير ذلك مما يجري فيه التنافس، وذلك هو الحسد المذموم؛ لأن ذلك التفضيل قسمة من الله تعالى صادرة عن حكمة وتدبير لائق بأحوال العباد، متفرع على العلم بجلائل شؤونهم ودقائقها، ﴿وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ﴾، وقولوا: اللهم ارزقنا مثله أو خيرًا منه مع التفويض.
قيل: نزلت هذ الآية في حق أم سلمة زوج النبي - ﷺ -، حين قالت للنبي - ﷺ -: ليت الله كتب علينا ما كتب على الرجال لكي نؤجر كما يؤجر الرجال، فنهى الله عن ذلك، وقال: ﴿وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ﴾؛ أي: الرجال ﴿عَلَى بَعْضٍ﴾؛ أي: النساء، من الجماعة والجمعة والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ثم بين الله ثواب كل من الرجال والنساء باكتسابهم فقال: ﴿لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ﴾؛ أي: حظ من الثواب والأجر ﴿مِمَّا اكْتَسَبُوا﴾؛ أي: على ما اكتسبوا، وعملوا من الخيرات، كالجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والنفقة على النساء. ﴿وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ﴾؛ أي: ثواب ﴿مِمَّا اكْتَسَبْنَ﴾؛ أي: على ما عملن من الخيرات في بيوتهن، كحفظ فروجهن وطاعة الله وأزواجهن، وقيامهن بمصالح البيت من الطبخ والخبز، وحفظ الثياب ومصالح المعاش وكالطلق والارضاع.
أي: إن الله (٢) سبحانه وتعالى كلف كلًّا من الرجال والنساء أعمالًا، فما
(٢) المراغي.
وعلى كل منهما أن يسأل ربه الإعانة، والقوة على ما نيط به من عمل، ولا يجوز أن يتمنى ما نيط بالآخر، ويدخل في هذا النهي تمني كل ما هو من الأمور الخلقية، كالعقل والجمال؛ إذ لا فائدة في تمنيها لمن لم يعطها، ولا يدخل فيه ما يقع تحت قدرة الإنسان من الأمور الكسبية؛ إذ يحمد من الناس أن ينظر بعضهم إلى ما نال الآخرون، ويتمنوا لأنفسهم مثله أو خيرًا منه بالسعي والجد.
والخلاصة: أنه تعالى طلب إلينا أن نوجه الأنظار والأفكار إلى ما يقع تحت كسبنا، ولا نوجهها إلى ما ليس في استطاعتنا، فإنما الفضل بالأعمال الكسبية، فلا تتمنوا شيئًا بغير كسبكم وعملكم، فعلى المسلم أن يعتمد على مواهبه وقواه في كل مطالبه، بالجد والاجتهاد، مع رجاء فضل الله فيما لا يصل إليه كسبه، إما للجهل به وإما للعجز عنه، فالزارع مثلًا يجتهد في زراعته، ويتبع السنن والأسباب التي سنها الله تعالى لعمله، ويسأل الله أن يمنع الآفات والجوائح عنه.
روى عكرمة أن النساء سألن الجهاد فقلن: وددنا أن الله جعل لنا الغزو فنصيب من الأجر ما يصيب الرجال، فنزلت: ﴿وَاسْأَلُوا اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى أيها المؤمنون والمؤمنات ما احتجتم إليه من حوائج الدين والدنيا، يعطكم ﴿مِن﴾ خزائن ﴿فَضْلِهِ﴾ وإحسانه وإنعامه، فإن خزائنه مملوءة لا تنفذ، ولا تتمنوا نصيب غيركم ولا تحسدوا من فضل عليكم.
قال الفخر الرازي (١): قوله تعالى: ﴿وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ﴾ تنبيه على أن
وقد ورد في الحديث (١): "لا يتمنين أحدكم مال أخيه، ولكن ليقل: اللهم ارزقني اللهم أعطني مثله"، وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله - ﷺ - قال: "سلوا الله من فضله فالله يحب أن يسأل وإن من أفضل العبادة انتظار الفرج".
وقرأ ابن كثير والكسائي (٢): ﴿وسلوا﴾ بحذف الهمزة، وإلقاء حركتها على السين، وذلك إذا كان أمرًا للمخاطب وقبل السين واو أو فاء، نحو ﴿فسل الذين يقرؤون الكتاب﴾ و ﴿فسلوا أهل الذكر﴾، وقرأ باقي السبعة بالهمز. ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى: ﴿كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ﴾ - ومنه محل فضله وسؤالكم - ﴿عَلِيمًا﴾؛ أي: عالمًا به، ولذلك جعل الناس على طبقات، فرفع بعضهم على بعض درجات بحسب مراتب استعدادهم، وتفاوت اجتهادهم في معترك الحياة، ولا يزال العاملون يستزيدونه، ولا يزال ينزل عليهم من جوده وكرمه ما يفضلون به القاعدين الكسالى، حتى بلغ التفاوت بين الناس في الفضل حدًّا بعيدًا، وكاد التفاوت بين الشعوب يكون أبعد من التفاوت بين بعض الحيوان وبعض الإنسان؛ أي: فإنه (٣) تعالى هو العالم بما يكون صلاحًا للسائلين، فليقتصر السائل على المجمل، وليحترز في دعائه عن التعيين، فربما كان ذلك محض المفسدة والضرر.
٣٣ - ﴿وَلِكُلٍّ﴾ إنسان ﴿جَعَلْنَا مَوَالِيَ﴾؛ أي: أولياء وأقارب ورثة يرثون ﴿مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ﴾؛ أي: يرثون من المال الذي تركه الوالدان والأقربون إن ماتوا، فيكون الوالدان والأقربون موروثين لا وارثين، وقوله: ﴿وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾؛ مبتدأ خبره ﴿فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ﴾؛ أي: والحلفاء الذين عقدتم لهم عقد
(٢) البحر المحيط.
(٣) المراح.
﴿فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ﴾؛ أي: فأعطوهم هؤلاء الموالي نصيبهم المقدر لهم، ولا تنقصوهم منه شيئًا، وقيل: إن (٢) لفظة كل واقعة على تركة، ومما ترك بيان لـ (كل)، والمعنى: ولكل تركة كائنة مما ترك الوالدان والأقربون، ومما ترك الزوج والزوجة الذين عقدت أيمانكم جعلنا موالي وورثة متفاوتة في الدرجة، يلونها ويحرزون منها أنصبائهم بحسب استحقاقهم، فالمراد بالذين عقدت أيمانكم الأزواج والزوجات، فالنكاح يسمى عقدًا، وهو قول أبي مسلم الأصفهاني.
ويصح (٣) أن تكون جملة جعلنا موالي صفة لكل، والضمير الراجع إليه محذوف، والكلام مبتدأ وخبر، والمعنى حينئذ: ولكل قوم جعلناهم وارثًا نصيب معين مغاير لنصيب قوم آخرين، مما ترك المورثون، فآتوهم نصيبهم من الميراث.
(٢) المراح.
(٣) مراح.
﴿إِنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى: ﴿كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ﴾ من أعمالكم وغيرها ﴿شَهِيدًا﴾؛ أي: مطلعًا عالمًا بها، فهو عالم الغيب والشهادة؛ أي: إن الله رقيب شاهد على تصرفاتكم في التركة وغيرها، فلا يطمعنَّ من بيده المال أن يأكل من نصيب أحد الورثة شيئًا، سواء أكان ذكرًا أم أنثى، كبيرًا أم صغيرًا، وجاءت هذه الآية لمنع طمع بعض الوارثين في نصيب بعض.
وقرأ الجمهور (١): ﴿وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾ بالألف والمفعول محذوف؛ أي: عاقدتهم أيمانكم، وقرىء ﴿عَقَدَت﴾ بغير ألف، والمفعول محذوف أيضًا هو والعائد تقديره: عقدت حلفهم أيمانكم، وروي عن حمزة أنه قرأ: ﴿عقّدت﴾ بتشديد القاف على التكثير؛ أي: والذين عقدت لهم أيمانكم الحلف.
٣٤ - ﴿الرِّجَالُ قَوَّامُونَ﴾، أي: مسلطون ﴿عَلَى﴾ تأديب ﴿النِّسَاءِ﴾ تسليط الولاة على الرعايا ﴿بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ﴾؛ أي: بسبب تفضيل الله تعالى إياهم عليهن بكمال العقل، وحسن التدبير ورزانة الرأي، ومزيد القوة في الأعمال والطاعات، ولذِلك خُصوا بالنبوة والإمامة والولاية وإقامة الشعائر، والشهادة في جميع القضايا، ووجوب الجهاد والجمعة وغير ذلك، لكون الرجل يتزوج بأربع نسوة ولا يجوز للمرأة غير زوج واحد، ومنه زيادة النصيب في الميراث، وبيده الطلاق والنكاح والرجعة وإليه الانتساب، فكل هذا يدل على فضل الرجال على
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - ﷺ - قال: "لو كنت آمرًا أحدًا أن يسجد لأحد.. لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها" أخرجه الترمذي.
أي: إن من (١) شأن الرجال أن يقوموا على النساء بالحماية والرعاية، وتبع هذا فرض الجهاد عليهم دونهن؛ لأن ذلك من أخص شؤون الحماية، وجعل حظهم من الميراث أكثر من حظهن؛ لأن عليهم من النفقة ما ليس عليهن، وسبب هذا: أن الله فضل الرجال على النساء في الخلقة، وأعطاهم ما لم يعطهن من الحول والقوة، كما فضلهم بالقدرة على الإنفاق على النساء من أموالهم، فإن في المهور تعويضًا للنساء، ومكافأة لهن على الدخول تحت رياسة الرجال، وقبول القيامة عليهن نظير عوض مالي يأخذنه؛ كما قال تعالى: ﴿وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ﴾.
والمراد بالقيام: الرياسة التي يتصرف فيها المرؤوس بإرادة الرئيس واختياره؛ إذ لا معنى للقيام إلا الإرشاد والمراقبة في تنفيذ ما يرشد إليه وملاحظة أعماله، ومن ذلك حفظ المنزل، وعدم مفارقته إلا بإذنه، ولو لزيارة القربى وتقدير النفقة فيه، فهو الذي يقدرها بحسب ميسرته، والمرأة هي التي تنفذ على الوجه الذي يرضيه ويناسب حاله سعة وضيقًا.
ولقيام الرجل بحماية المرأة وكفايتها ومختلف شؤونها يمكنها أن تقوم بوظيفتها الفطرية، وهي الحمل والولادة وتربية الأطفال، وهي آمنة في سربها، مكفية ما يهمها من أمور أرزاقها. ثم فصل حال النساء في الحياة المنزلية، التي تكون المرأة فيها تحت رياسة الرجل، فذكر أنها قسمان: قسم صالحات مطيعات، وقسم عاصيات متمردات، فذكر القسم الأول بقوله: ﴿فَالصَّالِحَاتُ﴾؛ أي: فالنساء اللاتي يراعين حقوق الله وحقوق العباد، ﴿قَانِتَاتٌ﴾؛ أي:
وكذلك: عليهن أن يحفظن أموال الرجال، وما يتصل بها من الضياع، روى ابن جرير والبيهقي: عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - ﷺ -: "خير النساء التي إذا نظرت إليها سرتك، وإذا أمرتها أطاعتك، وإذا غبت عنها حفظتك في مالك ونفسها". وقرأ الآية. وهذا القسم من النساء ليس للرجال عليهن سلطان التأديب، إذ لا يوجد ما يدعو إليه، وإنما سلطانهم على القسم الثاني، الذي ذكره الله تعالى، وذكر حكمه بقوله: ﴿و﴾ النساء ﴿اللاتي تخافون نشوزهن﴾؛ أي: تظنون عصيانهن لكم وخروجهن عن طاعتكم، برؤية أمارات النشوز عليها، قولًا كأن كانت تلبيه أولًا إذا دعاها، وتخضع له إذا خاطبها، فرفعت عليه صوتها، أو لم تجبه إذا دعاها أو فعلًا كأن كانت تقوم له إذا دخل عليها وتسرع إلى أمره إذا أمرها، فرأى منها خلاف ذلك، أو تعلمون نشوزهن كأن دعاها إلى فراشه فأبت منه بغير عذر، ﴿فَعِظُوهُنَّ﴾؛ أي: فانصحوا لهن بالترهيب والترغيب، وذكروهن بكتاب الله وسنة رسوله - ﷺ -، وخوفوهن عقوبة الله على النشوز، كأن يقول لها: اتقي الله وخافيه، فإن لي عليك حقًّا وارجعي عما
عن حكيم بن معاوية عن أبيه قال: "قلتُ يا رسول الله ما حق زوجة أحدنا عليه؟ قال: أن تطعمها إذا طعمت، وتكسوها إذا اكتسيت، ولا تضرب الوجه، ولا تقبح، ولا تهجر إلا في البيت". أخرجه أبو داود، قوله: "ولا تقبح"؛ أي: لا تقل قبحك الله.
وعن عبد الله بن زمعة قال: قال رسول الله - ﷺ -: "لا يجلد أحدكم امرأته
جلد العبد ثم لعله يجامعها - أو قال يضاجعها - من آخر اليوم" متفق عليه.
وعن عمرو بن الأحوص - رضي الله عنه - أنه سمع رسول الله - ﷺ - في حجة الوداع يقول بعد أن حمد الله وأثنى عليه، وذكر ووعظ، وذكر في الحديث قصة فقال: "ألا فاستوصوا بالنساء خيرًا، فإنما من عوان عندكم، ليس تملكون منهن شيئًا، إلا أن يأتين بفاحشة مبينة، فإن فعلن فاهجروهن في المضاجع، واضربوهن ضربًا غير مبرح، فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلًا". أخرجه الترمذي، بزيادة قوله: "عوان" جمع عانية؛ أي: أسيرة، شبه المرأة ودخولها تحت أمر زوجها بالأسير، والضرب المبرح: الشديد الشاق.
وعن عمر - رضي الله عنه - عن النبي - ﷺ - قال: "لا يسأل الرجل فيم ضرب امرأته". أخرجه أبو داود.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - ﷺ -: "إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فأبت أن تجيء فبات غضبان عليها.. لعنتها الملائكة حتى تصبح". متفق عليه.
وعن طَلْقِ بن علي: أن رسول الله - ﷺ - قال: "إذا دعا الرجل امرأته إلى حاجة، فلتأته وإن كانت على التنور" أخرجه الترمذي.
وله عن معاذ بن جبل - رضي الله عنه - أن رسول الله - ﷺ - قال: "لا تؤذي امرأة زوجها في الدنيا إلا قالت زوجته من الحور العين: لا تؤذيه قاتلك الله، فإنما هو دخيل عندك يوشك أن يفارقك إلينا".
وله عن أم سلمة - رضي الله عنها - قالت: قال رسول الله - ﷺ -: "أيما امرأة ماتت وزوجها راض عنها دخلت الجنة". ﴿فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ﴾؛ أي؛ فإن رجعْن عن النشوز إلى طاعتكم عند هذا التأديب ﴿فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا﴾؛ أي: فلا تطلبوا عليهن طريقًا إلى الضرب والهجران، على سبيل التعنت والإذاية، ولا تتعرضوهن بما وقع من النشوز، واجعلوا ما كان منهن كأن لم يكن، فإن التائب من الذنب كمن لا ذنب له. أو المعنى: فإن أطعنكم بواحدة من هذه الخصال التأديبية.. فلا تبغوا ولا تتجاوزوا ذلك إلى غيرها، فابدؤوا بما بدأ الله به، من الوعظ ثم الهجر ثم الضرب ثم التحكيم، ومتى استقام لكم ظاهر حالها.. فلا تبحثوا عما في سرائرها من الحب والبغض.
ثم هدد وخوف من يظلم النساء ويبغي عليهن فقال: ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى: ﴿كَانَ عَلِيًّا﴾؛ أي: متصفًا بجميع صفات الكمال ﴿كَبِيرًا﴾؛ أي: متنزهًا عن جميع النقائص، والمعنى: إن الله تعالى مع علوه وكبريائه لا يكلفكم ما لا تطيقون، فكذلك لا تكلفوهن ما لا طاقة لهن من المحبة، وأنه تعالى مع ذلك يتجاوز عن سيئاتكم، فأنتم أحق بالعفو عن أزواجكم عند طاعتهن لكم.
فكأنه يقول لهم: إن سلطانه عليكم فوق سلطانكم على نسائكم، فإذا بغيتم
وليس بخاف أن الرجال الذين يستذلون نسائهم إنما يلدون عبيدًا لغيرهم؛ إذ هم يتربون على الظلم ويستسيغونه، ولا يكون في نفوسهم شيء من الكرامة ولا من الشمم والإباء، وأمّة تُخرج أبناءً كهؤلاءِ إنما تُربي عبيدًا أذلاء، لا يقومون بنصرتها، ولا يغارون لكرامتها، فما أحراهم بأن يكونوا قطعانًا من الغنم تزدجِرُ من كل راع، وتستجيب لكل ناعق.
استدراك في معنى قوله: ﴿وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ...﴾ الآية:
والحاصل: أن اللاتي (١) تأنسون منهن الترفع، وتخافون أن لا يقمن بحقوق الزوجية على الوجه الذي ترضونه.. فعليكم أن تعاملوهن على النهج الآتي:
١ - أن تبدؤوا بالوعظ الذي ترون أنه يؤثر في نفوسهن، فمن النساء من يكفيها التذكير بعقاب الله وغضبه، ومنهن من يؤثر في أنفسهن التهديد والتحذير من سوء العاقبة في الدنيا، كشماتة الأعداء، ومنعها بعض رغباتها كالثياب والحلي ونحو ذلك. وعلى الجملة: فاللبيب لا تخفى عليه العظات التي لها المحل الأرفع في قلب امرأته، فإن لم يجد ذلك.. فله أن يجرب:
٢ - الهجر والإعراض في المضجع، ويتحقق ذلك بهجرها في الفراش مع الإعراض والصد، وقد جرت العادة بأن الاجتماع في المضجع يهيج شعور الزوجية، فتسكن نفس كل من الزوجين إلى الآخر، ويزول ما كان في نفوسهما من اضطراب أثارته الحوادث قبل ذلك، فإذا هو فعل ذلك.. دعاها هذا إلى السؤال عن أسباب الهجر والهبوط بها من نشز المخالفة إلى مستوى الموافقة، فإن لم يفد ذلك.. فله أن يجرب:
وقد يستعظم بعض من قلد الإفرنج من المسلمين مشروعية ضرب المرأة الناشز، ولا يستعظمون أن تنشز وتترفع هي عليه، فتجعله وهو الرئيس مرؤوسًا محتقرًا، وتُصر على نشوزها، فلا تلين لوعظه ونصحه، ولا تبالي بإعراضه وهجره، فإن كان قد ثقل ذلك عليهم.. فليعلموا أن الإفرنج أنفسهم يضربون نسائهم العالمات المهذبات، بل فعل هذا حكماؤهم وعلماؤهم وملوكهم وأمراؤهم، فهو ضرورة لا يستغنى عنها، ولا سيما في دين عام للبدو والحضر من جميع أصناف البشر، وكيف يُستنكر هذا والعقل والفطرة يدعوان إليه، إذا فسدت البيئة - الحالة - وغلبت الأخلاق الفاسدة، ولم ير الرجل مناصًا منه، ولا ترجع المرأة عن نشوزها إلا به.
لكن إذا صلحت البيئة وصارت النساء يستجبن للنصيحة، أو يزدجرن بالهجر.. وجب الاستغناء عنه؛ إذ نحن مأمورون بالرفق بالنساء، واجتناب ظلمهن، وإمساكهن بمعروف، أو تسريحهن بمعروف.
والخلاصة: أن الضرب علاج مُرٌّ قد يستغني عنه الخير الكريم، ولكنه لا يزول من البيوت إلا إذا عم التهذيب الرجال والنساء، وعرف كلٌّ ما له من الحقوق، وكان للدين سلطان على النفوس، يجعلها تراقب الله في السر والعلن، وتخشى أمره ونهيه.
٣٥ - ثم بين الطريق السوي الذي يتبع عند حدوث النزاع وخوف الشقاق، فقال: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا﴾ والخطاب فيه لولاة الأمور، وصلحاء الأمة؛ أي: وإن علمتم أيها الولاة، أو أيها المؤمنون شقاقًا، ومخالفة واقعة بين الزوجين، ولم تعلموا من أيهما الشقاق.. ﴿فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا﴾؛ أي: فأرسلوا أيها الولاة أو المؤمنون برضى الزوجين - وجوبًا - إلى الزوج رجلًا عَدْلًا عارفًا بالحكم ودقائق الأمور، كائنًا من أقارب الزوج ندبًا؛ لأن الأقارب أعرف
وعبارة المراغي في هذه الآية قوله (١): ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا...﴾ الآية، هذا الخطاب عام يدخل فيه الزوجان وأقاربهما، فإن قاموا بذلك فذاك، وإلا وجب على من بلغه أمرهما من المسلمين أن يسعى في إصلاح ذات بينهما، والخلاف بينهما قد يكون بنشوز المرأة، وقد يكون بظلم الرجل، إن كان بالأول فعلى الرجل أن يعالجه بأقرب أنواع التأديب التي ذكرت في الآية التي سلفت، وإن كان بالثاني، وخيف من تمادي الرجل في ظلمه، أو عجز عن إنزالها عن نشوزها، وخيف أن يحول
ولكن واأسفا لم يعمل المسلمون بهذه الوصية الجليلة إلا قليلًا حتى دب الفساد في البيوت، ونخر فيها سوس العداوة والبغضاء، ففتك بالأخلاق والآداب وسرى من الوالدين إلى الأولاد، ثم ذكر أن ما شرع من الأحكام جاء وفق الحكمة والمصلحة؛ لأنه من حكيم خبير بأحوال عباده، فقال: ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا﴾؛ أي: إنَّ هذه الأحكام التي شرعت لكم كانت من لدن عليم بأحوال العباد وأخلاقهم، خبير بما يقع بينهم وبأسبابه، ما ظهر منها وما بطن، ولا يخفى عليه شيء من وسائل الأصلاح بينهما.
وفي الآية: إرشاد إلى أن ما يقع بين الزوجين من خلاف، وإن ظن أنه مستعص يتعذر علاجه.. فقد يكون في الواقع على غير ذلك من أسباب عارضة، يسهل على الحكمين الخبيرين بدخائل الزوجين؛ لقربهما منهما أن يمحصا ما علق من أسبابه بقلوبهما، فيزيلاها متى حسنت النية وصحت العزيمة.
ولتعلم - أيها المؤمن - أن رابطة الزوجية أقوى الروابط التي تربط بين اثنين من البشر، فبها يشعر كل من الزوجين بشركة مادية ومعنوية، وبها يؤاخذ كل منهما شريكه على أدق الأمور وأصغرها، فيحاسبه على فلتات اللسان، وبالظنة والوهم وخفايا خلجات القلب، فيغريهما ذلك بالتنازع في كل ما يقصر فيه أحدهما من الأمور المشتركة بينهما، وما أكثرها وأعسر التوقي منها، وكثيرًا ما يفضي التنازع إلى التقاطع، والعتاب إلى الكره والبغضاء، فعليك أن تكون حكيمًا في معاملة الزوجة، خبيرًا بطباعها، وبهذا تحسن العشرة بينكما، انتهى.
﴿وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (٣٢)﴾.
﴿وَلَا تَتَمَنَّوْا﴾: الواو عاطفة أو استئنافية. ﴿لا تتمنوا﴾: جازم وفعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة قوله: ﴿لَا تَأكُلُوا أَمْوَالَكُمْ﴾ أو مستأنفة. ﴿مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ﴾: ما موصولة أو موصوفة في محل النصب مفعول به، ﴿فَضَّلَ اللَّهُ﴾ فعل وفاعل ﴿بِهِ﴾ متعلق به، والجملة صلة لما، أو صفة لها، والعائد أو الرابط ضمير به، ﴿بَعْضَكُمْ﴾: مفعول ﴿فَضَّلَ﴾ ومضاف إليه. ﴿عَلَى بَعْضٍ﴾: جار ومجرور متعلق بفضل، ﴿لِلرِّجَالِ﴾ جار ومجرور خبر مقدم، ﴿نَصِيبٌ﴾: مبتدأ مؤخر والجملة مستأنفة، ﴿مِمَّا﴾: جار ومجرور صفة لـ ﴿نَصِيبٌ﴾، ﴿اكْتَسَبُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة لما، أو صفة لها والعائد أو الرابط محذوف تقديره: مما اكتسبوه. ﴿وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ﴾: مبتدأ وخبر، والجملة معطوفة على جملة قوله؛ ﴿لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ﴾، ﴿مِمَّا اكْتَسَبُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة لما أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: مما اكتسبنه، ﴿وَاسْأَلُوا اللَّهَ﴾: فعل وفاعل ومفعول أول، والمفعول الثاني محذوف تقدير: حوائجكم. ﴿مِنْ فَضْلِهِ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق باسألوا، والجملة معطوفة على جملة قوله: ﴿وَلَا تَتَمَنَّوْا﴾، ﴿إِنَّ﴾ حرف نصب، ﴿اللَّهَ﴾ اسمها، ﴿كاَنَ﴾ فعل ماض ناقص، واسمها ضمير يعود على الله، ﴿بِكُلِّ شَيْءٍ﴾ جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿عَلِيمًا﴾، وهو خبر كان، وجملة كان في محل الرفع خبر ﴿إِنَّ﴾، وجملة ﴿إِنَّ﴾ مستأنفة: مسوقة لتعليل ما قبلها.
﴿وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ﴾.
﴿وَلِكُلٍّ﴾: الواو استئنافية ﴿لكل﴾ جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم، والتنوين في ﴿كل﴾ عوض عن كلمة محذوفة، أي: لكل قوم ﴿جعلنا﴾ صفة لقوم، ومفعول ﴿جعلنا﴾ الأول محذوف، أي جعلناهم. ﴿مَوَالِيَ﴾: مفعول
﴿وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا﴾.
﴿وَالَّذِينَ﴾: مبتدأ، ﴿عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾ فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد محذوف تقديره عاقدت حلفهم أيمانكم، ﴿فَآتُوهُمْ﴾: الفاء رابطة الخبر بالمبتدأ لما في المبتدأ من العموم. ﴿أتوهم﴾: فعل وفاعل ومفعول أول، ﴿نَصِيبَهُمْ﴾: مفعول ثان ومضاف إليه، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ والجملة الإسمية مستأنفة. ﴿إِنَّ﴾: حرف نصب ﴿اللَّهَ﴾: اسمها. ﴿كَانَ﴾: فعل ماض ناقص، واسمها ضمير يعود على الله ﴿عَلَى كُلِّ شَيْءٍ﴾: جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بـ ﴿شَهِيدًا﴾، وهو خبر ﴿كَانَ﴾، وجملة ﴿كَانَ﴾: في محل الرفع خبر ﴿إِنَّ﴾، وجملة ﴿إِنَّ﴾: مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها.
﴿الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ﴾.
﴿الرِّجَالُ قَوَّامُونَ﴾: مبتدأ وخبر والجملة مستأنفة. ﴿عَلَى النِّسَاءِ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿قَوَّامُونَ﴾، ﴿بِمَا﴾: ﴿الباء﴾ حرف جر. ﴿ما﴾: مصدرية. ﴿فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ﴾: فعل وفاعل ومفعول ومضاف إليه، ﴿عَلَى بَعْضٍ﴾: متعلق بـ ﴿فَضَّلَ﴾، والجملة الفعلية صلة ما المصدرية، ما مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بالباء تقديره بتفضيل الله بعضهم على بعض، والجار والمجرور متعلق بـ ﴿قَوَّامُونَ﴾، ﴿وَبِمَا أَنْفَقُوا﴾: الواو عاطقة، ﴿بِمَا﴾: جار ومجرور معطوف على الجار والمجرور في قوله: ﴿بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ﴾، ﴿أَنْفَقُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة لما أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره وبما أنفقوه.
﴿فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ﴾.
﴿فَالصَّالِحَاتُ﴾: ﴿الفاء﴾: استئنافية بمعنى الواو، ﴿الصالحاتُ﴾: مبتدأ، ﴿قَانِتَاتٌ﴾: خبر والجملة مستأنفة، ﴿حَافِظَاتٌ﴾: خبر ثان، ﴿لِلْغَيْبِ﴾: متعلق به، ﴿بِمَا﴾: الباء حرف جر، ﴿ما﴾: مصدرية، ﴿حَفِظَ اللَّهُ﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة ما المصدرية، ما مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بالباء، وتقديره: بحفظ الله؛ أي: بتحفيظ الله إياهن، والجار والمجرور متعلق بـ ﴿حافظات﴾. ﴿وَاللَّاتِي﴾: الواو عاطفة، ﴿اللاتي﴾: مبتدأ، ﴿تَخَافُونَ﴾: فعل وفاعل، ﴿نُشُوزَهُنَّ﴾: مفعول به ومضاف إليه، والجملة صلة الموصول، ﴿فَعِظُوهُنَّ﴾: ﴿الفاء﴾ رابطة الخبر، ﴿عظوهن﴾: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الإسمية معطوفة على جملة قوله: ﴿فَالصَّالِحَاتُ﴾، ﴿وَاهْجُرُوهُنَّ﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة معطوفة على جملة ﴿فَعِظُوهُنَّ﴾، وكذلك جملة ﴿وَاهْجُرُوهُنَّ﴾ معطوفة عليها.
﴿فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا﴾.
﴿فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ﴾؛ ﴿الفاء﴾ فاء الفصيحة لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفتم حكم ما إذا نشزن، وأردتم بيان حكم ما إذا أطعنكم.. فأقول لكم: ﴿إن﴾ أطعنكم: ﴿إنْ﴾: حرف شرط، ﴿أَطَعْنَكُمْ﴾: فعل وفاعل ومفعول، في محل الجزم بـ ﴿إن﴾. ﴿فَلَا تَبْغُوا﴾ الفاء رابطة لجواب إن الشرطية. ﴿لَا﴾: ناهية جازمة، ﴿تَبْغُوا﴾: فعل وفاعل مجزوم بلا الناهية، والجملة في محل الجزم على كونها جوابًا لها. ﴿عَلَيْهِنَّ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿تَبْغُوا﴾. ﴿سَبِيلًا﴾: مفعول به، وجملة إن الشرطية: في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة، ﴿إِنَّ﴾: حرف نصب، ﴿اللَّهَ﴾: اسمها. ﴿كَانَ﴾: فعل ماض ناقص، واسمها ضمير يعود على الله، ﴿عَلِيًّا﴾: خبر أول
﴿وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا (٣٥)﴾.
﴿وَإِنْ﴾: الواو استئنافية، ﴿إن﴾ حرف شرط، ﴿خِفْتُمْ﴾: فعل وفاعل، في محل الجزم بإن، ﴿شِقَاقَ بَيْنِهِمَا﴾: مفعول به ومضاف إليه، ﴿فَابْعَثُوا﴾: الفاء رابطة لجواب إن الشرطية وجوبًا، ﴿ابعثوا﴾؛ فعل وفاعل، في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ على كونه جوابًا لها، وجملة إن الشرطية: مستأنفة. ﴿حَكَمًا﴾: مفعول به، ﴿مِنْ أَهْلِهِ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه صفة لـ ﴿حَكَمًا﴾. ﴿وَحَكَمًا﴾ معطوف على ﴿حَكَمًا﴾ الأول، ﴿مِنْ أَهْلِهَا﴾: صفة لـ ﴿حَكَمًا﴾. ﴿إِنْ﴾: حرف شرط، ﴿يُرِيدَا﴾: فعل وفاعل مجزوم بـ ﴿إن﴾ على كونه فعل شرط لها، ﴿إِصْلَاحًا﴾: مفعول به، ﴿يُوَفِّقِ اللَّهُ﴾: فعل وفاعل، مجزوم بإن على كونه جوابًا لها، ﴿بَيْنَهُمَا﴾: ظرف ومضاف إليه متعلق بـ ﴿يُوَفِّقِ﴾، وجملة ﴿إن﴾: الشرطية مستأنفة. ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾: ﴿إِنَّ﴾ حرف نصب، ﴿اللَّهَ﴾: اسمها، ﴿كاَنَ﴾: فعل ماض ناقص واسمها ضمير يعود على الله، ﴿عَلِيمًا﴾: خبر أول لكان، ﴿خَبِيرًا﴾ خبر ثان لها، وجملة ﴿كَانَ﴾: في محل الرفع خبر ﴿إنَّ﴾، وجملة ﴿إِنَّ﴾: مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها.
التصريف ومفردات اللغة
﴿وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ﴾، ﴿تَتَمَنَّوْا﴾: مضارع تمنى يتمنى تمنيًّا، من باب تفعل الخماسي، والتمني (١): تشهي حصول الأمر المرغوب فيه، وحديث النفس بما يكون، وبما لا يكون، وقيل التمني: تقدير الشيء في النفس وتصويره فيها، وذلك قد يكون عن تخمين وظن، وقد يكون بلا روية، وأكثر التمني ما لا حقيقة له، وقيل: التمني عبارة عن إرادة ما يعلم أو يظن أنه لا يكون.
﴿الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ﴾ القوامون: جمع تصحيح لقوام، يقال هذا قيم المرأة وقوامها إذا كان يقوم بأمرها، ويهتم بحفظها، والقوام: هو القائم بالمصالح والتدبير والتأديب، ﴿بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ﴾ يقال: فضله على غيره إذا حكم له بالفضل عليه، وصيره أفضل منه، والفضل: الزيادة والدرجة، يجمع على فضول، وما به الفضل قسمان:
فطري: وهو قوة مزاج الرجل وكماله في الخلقة، ويتبع ذلك قوة العقل، وصحة النظر في مبادئ الأمور وغاياتها.
وكسبي: وهو قدرته على الكسب والتصرف في الأمور، ومن ثم كلف الرجال بالإنفاق على النساء والقيام برياسة المنزل، ﴿قَانِتَاتٌ﴾ جمع قانتة، اسم فاعل من القنوت، وهو السكون والطاعة لله وللأزواج، ﴿حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ﴾؛ أي اللاتي يحفظن ما يغيب عن الناس، ولا يقال إلا في حال الخلوة بالمرأة، كشؤون الجماع والاستمتاع فلا تخبرنه للناس، والغيب: السر يجمع على غياب وغيوب.
﴿وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ﴾؛ أي (١): تظنون، فالخوف هنا بمعنى الظن، وربما يأتي بمعنى العلم، أصل النشوز الارتفاع إلى الشرور، ونشوز المرأة: بغضها لزوجها، وعصيانها لأمره، ورفع نفسها عليه تكبرًا، وعبارة أبي السعود: النشوز من النشز وهو المرتفع من الأرض، يقال: نشزت الأرض إذا ارتفعت عما حواليها، ﴿وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ﴾: يقال: هجره يهجره هجرًا وهجرانًا - من باب نصر - إذا صرمه وقطعه، ضد وصله، وهجر الشيء: تركه وأعرض عنه، وهجر زوجه: اعتزل عنها ولم يطلقها، و ﴿المضاجع﴾: على زنة مفاعل، جمع مضجع - بفتح الجيم - موضع الضجوع، ﴿شِقَاقَ بَيْنِهِمَا﴾: فيه وجهان (٢):
(٢) الجمل.
والثاني: أنه خرج عن الظرفية وبقي كسائر الأسماء، كأنه أريد المعاشرة والمصاحبة بين الزوجين، وقال أبو البقاء: البين هنا الوصل الكائن بين الزوجين، وسمي الخلاف شقاقًا؛ لأن المخالف يفعل ما يشق على صاحبه، أو لأن كلا منهما صار على شق؛ أي: جانب.
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات أنواعًا من المعاني والبيان والبديع:
منها: الإطناب في قوله: ﴿نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا﴾ و ﴿نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ﴾، وفي قوله: ﴿حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا﴾.
ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: ﴿مِمَّا اكْتَسَبُوا﴾؛ لأنه شبه استحقاقهم للإرث وتملكهم له بالاكتساب، واشتق من لفظ الاكتساب بمعنى الاستحقاق، اكتسبوا بمعنى استحقوا على طريقة الاستعارة التصريحية التبعية.
ومنها: الكناية في قوله: ﴿وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ﴾ فقد كنى بذلك عن الجماع.
ومنها: التأكيد بصيغة المبالغة في قوله: ﴿الرِّجَالُ قَوَّامُونَ﴾؛ لأن فعال من صيغ المبالغة، ومجيء الجملة اسمية لإفادة الدوام والاستمرار.
ومنها: جناس الاشتقاق في قوله: ﴿حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ﴾.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
﴿وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا (٣٦) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (٣٧) وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا (٣٨) وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا (٣٩) إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا (٤٠) فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا (٤١) يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا (٤٢) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا (٤٣)﴾.
المناسبة
قوله تعالى: ﴿وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا...﴾ الآيات، مناسبتها لما قبلها: لما كان الكلام (١) من أول السورة إلى هنا في وصايا عديدة، ونصائح حكيمة، كابتلاء اليتامى قبل تسليمهم أموالهم، والنهي عن إيتاء الأموال للسفهاء، وعن قتل النفس، والإرشاد إلى كيفية معاملة النساء، وطرق تأديبهن، تارة بالموعظة الحسنة، وأخرى بالقسوة والشدة، مع مراقبة الله عَزَّ وَجَلَّ في كل ذلك.. ناسب بعدها التذكير بحسن معاملة الخالق، بالإخلاص له في الطاعة، وحسن معاملة الطوائف المختلفة من الناس، وعدم الضن عليهم بالمال في أوقات الشدة، مع قصد التقرب إلى الله تعالى، لا لقصد الفخر والخيلاء؛ لأن ذاك عمل
قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً...﴾ الآيات، مناسبتها لما قبلها: لما بين الله سبحانه وتعالى صفات المتكبرين وسوء أحوالهم، وتوعدهم على ذلك بأشد أنواع الوعيد.. زاد الأمر توكيدًا وتشديدًا.. فذكر أنه لا يظلم أحدًا من العاملين بوصاياه لا قليلًا وكثيرًا، بل يوفيه حقه بالقسطاس المستقيم، وفي هذا أعظم الترغيب لفاعلي البر والإحسان، وحفز لهممهم على العمل، وفي معنى الآية قوله تعالى: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (٧)﴾.
وفي "الفتوحات" قوله (١): ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها واضحة؛ لأنه تعالى لما أمر بعبادة الله وبالإحسان للوالدين ومن ذكر معهم، ثم أعقب ذلك بذم البخل والأوصاف المذكورة معه، ثم وبخ من لم يؤمن ولم ينفق في طاعة الله، وكان هذا كله توطئة لذكر الجزاء على الحسنات والسيئات.. أخبر تعالى بصفة عدله، وأنه تعالى لا يظلم أدنى شيء، ثم أخبر بصفة الإحسان فقال: ﴿وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا﴾.
قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى...﴾ الآية، مناسبتها لما قبلها: لما وصف الله سبحانه وتعالى الوقوف بين يديه يوم العرض، والأهوال التي تؤدي إلى تمني الكافر العدم، فيقول: ﴿يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا﴾، والتي تجعله لا يستطيع أن يكتم الله حديثًا، وذكر أنه لا ينجو في ذلك اليوم إلا من كان طاهر القلب والجوارح بالإيمان بالله والطاعة لرسوله.. وصف في هذه الآية الوقوف بين يديه في مقام الأنس وحضرة القدس المنجي من هول الوقوف في ذلك اليوم، وطلب فيه استكمال القوى العقلية وتوجيهها إلى جانب العلي الأعلى بأن لا تكون مشغولة بذكرى غيره، طاهرة من الأنجاس والأخباث؛ لتكون على أتم العدة للوقوف في ذلك الموقف الرهيب، مستشعرة تلك العظمة والجلال والكبرياء.
قوله تعالى (١): ﴿الَّذِينَ يَبْخَلُونَ...﴾ الآية، سبب نزولها: ما أخرجه ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال: كان علماء بني إسرائيل يبخلون بما عندهم من العلم، فأنزل الله تعالى: ﴿الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ...﴾ الآية.
وأخرج ابن جرير من طرق ابن إسحاق، عن محمَّد بن أبي محمَّد عن عكرمة أو سعيد عن ابن عباس قال: كان كردم بن زيد حليف كعب بن الأشرف، وأسامة بن حبيب، ونافع بن أبي نافع، وبحري بن عمرو وحيي بن أخطب، ورفاعة بن زيد بن التابوت، يأتون رجالًا من الأنصار، يخالطونهم وينصحون لهم، فيقولون: لا تنفقوا أموالكم فإنا نخشى عليكم الفقر في ذهابها، ولا تسارعوا في النفقة فإنكم لا تدرون ما يكون، فأنزل الله فيهم: ﴿الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ﴾ إلى قوله ﴿وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا﴾.
قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ...﴾ الآية، سبب نزولها (٢): ما رواه أبو داود والترمذي والنسائي والحاكم عن علي قال: صنع لنا عبد الرحمن بن عوف طعامًا، فدعانا وسقانا من الخمر فأخذت الخمر منا، وحضرت الصلاة، فقدموني فقرأت: قل يا أيها الكافرون أعبد ما تعبدون ونحن نعبد ما تعبدون، فأنزل الله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ﴾.
وأخرج الفريابي وابن أبي حاتم وابن المنذر عن علي قال: نزلت هذه الآية ﴿وَلَا جُنُبًا﴾ في المسافر تصيبه الجنابة فيتيمم ويصلي.
وأخرج بن مردويه عن الأسلع بن شريك قال: كنت أرحِّل ناقة رسول الله - ﷺ -، فأصابتني جنابة في ليلة باردة، فخشيت أن أغتسل بالماء البارد فأموت أو أمرض، فذكرت ذلك لرسول الله - ﷺ -، فأنزل الله: {لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ
(٢) لباب النقول.
وأخرج الطبراني عن الأسلع قال: "كنت أخدم النبي - ﷺ -، وأرحل له، فقال لي ذات يوم: يا أسلع قم فأرحل، فقلت: يا رسول الله أصابتني جنابة، فسكت رسول الله - ﷺ -، وأتاه جبريل بآية الصعيد، فقال رسول الله - ﷺ -: قم يا أسلع فتيمم، فأراني التيمم ضربة للوجه وضربة لليدين إلى المرفقين، فقمت فتيممت ثم رحلت له".
وأخرج ابن جرير عن يزيد بن أبي حبيب: أن رجالًا من الأنصار كانت أبوابهم في المسجد، فكانت تصيبهم جنابة ولا ماء عندهم، فيريدون الماء ولا يجدون ممرًا إلا في المسجد، فأنزل الله قوله: ﴿وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ...﴾.
وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد قال: نزلت هذه الآية في رجل من الأنصار كان مريضًا، فلم يستطع أن يقوم فيتوضأ ولم يكن له خادم يناوله، فذكر ذلك لرسول الله - ﷺ -، فأنزل الله: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى...﴾ الآية.
وأخرج ابن جرير عن إبراهيم النخعي قال (١): نال أصحاب النبي - ﷺ - جراحة، ففشت فيهم، ثم ابتلوا بالجنابة، فشكوا ذلك إلى النبي - ﷺ -، فنزلت: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى...﴾ الآية كلها.
التفسير وأوجه القراءة
٣٦ - ﴿وَاعْبُدُوا اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى أيها الناس، بقلوبكم وجوارحكم: أي؛ أطيعوه فيما أمر به ونهى عنه، ﴿وَلَا تُشْرِكُوا﴾ شركًا جليًّا ولا خفيًّا ﴿بِهِ﴾ سبحانه وتعالى، ﴿شَيْئًا﴾ من الأشياء، سواء أكان جمادًا كالصنم، أو حيوانًا حيًّا أو ميتًا، فقوله: ﴿وَاعْبُدُوا اللَّهَ﴾ أمر بالطاعة، وقوله: ﴿وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ﴾ أمر بالإخلاص في العبادة فالثاني تأسيس لا تأكيد كما قيل.
فعبادة الله (٢): هي الخضوع له، وتمكين هيبته وعظمته من النفس، والخشوع لسلطانه في السر والجهر، وأمارة ذلك: العمل بما به أمر، وترك ما
(٢) المراغي.
وقيل (١): العبودية أربعة أنواع: الوفاء بالعهود، والرضا بالموجود، والحفظ للحدود، والصبر على المفقود.
والإشراك بالله ضروب مختلفة (٢):
منها: ما ذكره الله سبحانه وتعالى عن مشركي العرب من عبادة الأصنام، باتخاذهم أولياء وشفعاء عند الله، يقربون المتوسل بهم إليه، ويقضون الحاجات عنده، وقد جاء ذكر هذا في آيات كثيرة، كقوله تعالى: ﴿وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾.
ومنها: ما ذكره عن النصارى من أنهم عبدوا المسيح عليه السلام، قال تعالى: ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٣١)﴾.
والخلاصة: وأخلصوا لله في العبادة، ولا تجعلوا له في الربوبية والعبادة شريكًا؛ لأن من عبد مع الله غيره، أو أراد بعمله غير الله.. فقد أشرك به، ولا يكون مخلصًا.
وعن معاذ بن جبل - رضي الله عنه - قال: كنت رديف رسول الله - ﷺ - على حمار يقال له: عفير، أو اسمه يعفور، فقال: "يا معاذ، هل تدري ما حق الله
(٢) المراغي.
وعن أبي سعيد الخدري: أن رجلًا جاء إلى رسول الله - ﷺ - من اليمن استأذنه في الجهاد، فقال - ﷺ -: "هل لك أحد باليمن؟ " فقال أبواي فقال: "أبواك أذنا لك؟ " فقال: لا، فقال: "فارجع فاستأذنهما، فإن أذنا لك فجاهد وإلا فبرهما".
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "جاء رجل إلى رسول الله - ﷺ -، فقال: يا رسول الله من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: "أمك"، قال: ثم من؟ قال: "ثم أمك"، قال: ثم من؟ قال: "ثم أمك"، قال: ثم من؟ قال: "ثم أبوك". متفق عليه. وفي رواية قال: "أمك ثم أمك ثم أباك، ثم أدناك فأدناك"، قوله: "ثم أباك" فيه حذف تقديره: ثم بر أباك.
وعنه رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - ﷺ - يقول: "رغم أنفه، رغم أنفه، رغم أنفه" قيل: من يا رسول الله؟ قال: "من أدرك والديه عند الكبر أو أحدهما، ثم لم يدخل الجنة".
وإنما قرن الله سبحانه وتعالى بر الوالدين بعبادته وتوحيده.. لتأكد حقهما على الولد.
والخلاصة: أنَّ العبرة بما في نفس الولد، من قصد البر والإحسان والإخلاص فيه، بشرط أن لا يحد الوالدان من حرية الولد واستقلاله في شؤونه الشخصية أو المنزلية، ولا في الأعمال الخاصة بدينه ووطنه، فإذا أراد أحدهما الاستبداد في شيء من ذلك.. فليس من البر العمل برأيهما اتباعًا لهواهما.
﴿و﴾ أحسنوا وصلوا ﴿بِذِي الْقُرْبَى﴾؛ أي: أحسنوا إلى صاحب القرابة لكم، وهو ذو رحمه من قبل أَبيه وأمه، كأخ وعم وخال وغيرهم، وكرر الباء إشارة إلى تأكد حق الرحم.
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - ﷺ - يقول: "من سره أن يبسط له في رزقه، وينسأ له في أثره.. فليصل رحمه". متفق عليه. قوله: ينسأ له في أثره يعني: يؤخر له في أجله وعمره، والمعنى: وأحسنوا معاملة أقرب الناس إليكم بعد الوالدين، وإذا أدى المرء حقوق الله، فصحت عقيدته، وصلحت أعماله، وقام بحقوق الوالدين.. صلح البيت، وحسن حال الأسرة، وإذا صلح البيت.. كان قوة كبيرة، فإذا عاون أهله ذوي القربى الذين ينسبون إليهم.. كان لكل منهم قوة أخرى تتعاون مع هذه الأسرة وبذا تتعاون الأمة جمعاء، وتمد يد المعونة لمن هو في حاجة إليها، ممن ذكروا بعد في قوله: ﴿و﴾ أحسنوا إلى ﴿اليتامى﴾ بالرفق بهم، وبمسح رأسهم، وبتربيتهم وحفظ أموالهم.
وعن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: قال رسول الله - ﷺ -: "أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا، وأشار بالسبابة والوسطى، وفرج بينهما شيئًا". أخرجه البخاري.
﴿و﴾ أحسنوا إلى ﴿المساكين﴾ بالصدقة، أو بالرد الجميل، وهو جمع مسكين، وهو من التصقت يده بالتراب، فيشمل الفقير، وإنما أمر بالإحسان إليهم؛ لأنه لا ينتظم حال المجتمع إلا بالعناية بهم، وصلاح حالهم، وإلا كانوا وبالًا عليه.
والمساكين ضربان: مسكين معذور تجب مواساته، وهو من كان سبب عدمه الضعف والعجز، أو نزول آفة سماوية ذهبت بماله، ومثل هذا يجب عونه بمساعدته بالمال الذي يسد عوزه، ويستعين به على الكسب. ومسكين غير معذور في تقصيره، وهو من عدم المال بإسرافه وتبذيره، ومثل هذا يبذل له النصح ويدل على طرق الكسب، فإن اتعظ وقبل النصح فبها، وإلا ترك أمره إلى أولي الأمر، فهم أولى بتقويم إعوجاجه، وإصلاح ما فسد من أخلاقه.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - ﷺ - قال: "الساعي على الأرملة والمساكين كالمجاهد في سبيل الله"، وأحسبه قال: "وكالقائم الذي لا يفتر، وكالصائم الذي لا يفطر". متفق عليه.
﴿و﴾ أحسنوا إلى ﴿الجار ذي القربى﴾؛ أي: إلى الجار الذي قرب منكم جواره وداره، أو إلى الجار الذي له مع الجوار اتصال بكم في النسب، أوله (١) اتصال بكم في الدين، فقد روي عنه - ﷺ -: "الجيران ثلاثة: فجار له ثلاثة حقوق: حق الجوار وحق القرابة وحق الإِسلام، وجار له حقان: حق الجوار وحق
وقرىء بالنصب (١) على الاختصاص تعظيمًا لحقه؛ لأن له ثلاثة حقوق: حق القرابة وحق الجوار وحق الإِسلام، كما قرئ ﴿وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى﴾ نصبًا على الاختصاص.
﴿و﴾ أحسنوا إلى ﴿الجار الجَنْب﴾؛ أي: المجانب عنكم، أي البعيد داره عن داركم، أو الذي لا قرابة له منكم، فله حقان: حق الجوار وحق الإِسلام، وقرأ الأعمش والمفضل ﴿والجار الجنب﴾ بفتح الجيم وسكون النون؛ أي: ذي الجنب، وهو الناحية، وأنشد الأخفش: الناس جنب والأمر جنب. ذكره الشوكاني.
والجوار (٢): ضرب من ضروب القرابة، فهو قرب بالمكان والسكن، وقد يأنس الإنسان بجاره القريب أكثر مما يأنس بالنسيب، فيحسن أن يتعاون الجاران، ويكون بينهما الرحمة والإحسان، فإذا لم يحسن أحدهما إلى الآخر.. فلا خير فيهما لسائر الناس.
وحدد الحسن البصري الجوار بأربعين دارًا، من كل جانب من الجوانب الأربعة، والأولى عدم التحديد بالدور، وجعل الجار من تجاوره ويتراءى وجهك ووجهه في غدوك أو رواحك.
وإكرام الجار من شيم العرب قبل الإِسلام، وزاده الإِسلام تأكيدًا بما جاء في الكتاب والسنة، ومن إكرامه إرسال الهدايا إليه ودعوته إلى الطعام، وتعاهده بالزيارة والعيادة، إلى نحو ذلك.
وقد حث الدين على الإحسان في معاملة الجار ولو غير مسلم، وعن ابن
(٢) المراغي.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت يا رسول الله، إن لي جارين فإلى أيهما أهدي؟ قال:"إلى أقربهما بابًا منك". رواه البخاري.
وعن أبي ذر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - ﷺ -: "يا أبا ذر إذا طبخت مرقة فأكثر ماءها وتعاهد جيرانك". أخرجه مسلم. وفي رواية قال: أوصاني خليلي - ﷺ - قال: "إذا طبخت مرقة فأكثر ماءها، ثم انظر إلى أهل بيت جيرانك فأصبهم منها بمعروف".
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي - ﷺ - قال: "والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن" قيل: من يا رسول الله؟ قال: "الذي لا يأمن جاره بوائقه". متفق عليه.
ولمسلم: "لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه"، البوائق: الغوائل والشرور.
وعنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله - ﷺ -: "يا نساء المؤمنات، لا تُحقِّرَنَّ جارة لجارتها، ولو فرسن شاة". متفق عليه. معناه: ولو أن تهدي إليها فرسن شاة: وهو الظلف وأراد به الشيء الحقير.
وعنه: أن رسول الله - ﷺ - قال: "من كان يؤمن باللهِ واليوم الآخر.. فلا يؤذ جاره، ومن كان يؤمن باللهِ واليوم الآخر.. فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر.. فليقل خيرًا أو ليصمت". متفق عليه.
﴿و﴾ أحسنوا إلى ﴿الصاحب بالجنب﴾، روي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه الرفيق في السفر، والمنقطع إليك يرجو نفعك ورفدك، فهو إما رفيق في سفر، أو جار ملاصق، أو شريك في تعلم أو حرفة، أو قاعد بجنبك في مسجد أو مجلس، وقيل: هي المرأة، فإنها تكون معك وتضطجع إلى جنبك، وقيل: هو كل من صاحبته وعرفته، ولو وقتًا قصيرًا، فيشمل صاحب الحاجة
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - ﷺ -: "خير الأصحاب عند الله تعالى خيرهم لصاحبه، وخير الجيران عند الله تعالى خيرهم لجاره". أخرجه الترمذي وقال: حديث حسن.
﴿و﴾ أحسنوا إلى ﴿ابن السبيل﴾؛ أي: إلى المسافر المنقطع عن بلده بالسفر، السائح الرحالة في غرض صحيح غير محرم.
والأمر بالإحسان إليه يتضمن الترغيب في السياحة والإعانة عليها، ويشمل اللقيط أيضًا، وهو أجدر بالعناية من اليتيم، وأحق بالإحسان إليه، وقد عني الأوروبيون بجمع اللقطاء وتربيتهم وتعليمهم، ولولا ذلك لاستطار شرهم، وعم ضرهم، وقد كنا أحق بهذا الإحسان منهم؛ لأن الله قد جعل في أموالنا حقًّا معلومًا للسائل والمحروم.
وقال الأكثرون: المراد بابن السبيل الضيف يمر بك فتكرمه، وتحسن إليه؛ أي: وأحسنوا إلى الضيف بإكرامه، وله ثلاثة أيام حق، وما فوق ذلك صدقة.
وعن أبي شريح خويلد بن عمرو الخزاعي - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - ﷺ - يقول: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر.. فليكرم ضيفه جائزته"، قالوا: وما جائزته يا رسول الله؟ قال: "يومه وليلته، والضيافة ثلاثة أيام، فما كان وراء ذلك فهو صدقة عليه". وقال: "من كان يؤمن باللهِ واليوم الآخر.. فليقل خيرًا أو ليصمت". متفق عليه، زاد في رواية: "ولا يحل لرجل مسلم أن يقيم عند أخيه حتى يؤثمه"، قالوا: يا رسول الله وكيف يؤثمه؟ قال: "يقيم عنده ولا شيء له يقريه به"، قوله: "جائزته يومه وليلته" الجائزة: العطية؛ أي: يقري الضيف ثلاثة أيام، ثم يعطيه ما يجوز به من منهل إلى منهل، وقيل: هو أن يكرم الضيف، فإذا سافر.. أعطاه ما يكفيه يومًا وليلة، حتى يصل إلى موضع آخر، وقوله: أن يقيم عند أخيه حتى يؤثمه؛ أي: يوقعه في الإثم؛ لأنه إذا أقام عنده ولم يُقْرِهِ أثم بذلك.
وقيل: الآية (١) عامة فتشمل جميع الحيوانات من عبيد وإماء وغيرهم، فالحيوانات غير الأرقاء أكثر في يد الإنسان من الأرقاء، فغلب جانب الكثرة، فعبر عنه بـ ﴿ما﴾، وأمر الله بالإحسان إلى كل مملوك آدمي وغيره. وقد روى الشيخان قوله - ﷺ -: "هم إخوانكم وخولكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده.. فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم من العمل ما يغلبهم، وإن كلفتموهم.. فأعينوهم عليه".
وقد أكد (٢) النبي - ﷺ - الوصية بهم في مرض موته، وكان ذلك من آخر وصاياه، فقد روى أحمد والبيهقي من حديث أنس قال: كانت عامة وصية رسول الله - ﷺ - حين حضره الموت: الصلاة: وما ملكت أيمانكم"، وقد أوصانا الله سبحانه وتعالى بهؤلاء، حتى لا يظن أن استرقاقهم يجيز امتهانهم، ويجعلهم كالحيوانات المسخرة، ثم ذكر ما هو علة للأمر السابق فقال: ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾؛ أي: لا تفتخروا على هؤلاء المذكورين لأن الله سبحانه وتعالى: ﴿لَا يُحِبُّ﴾؛ أي: يعاقب ﴿مَنْ كَانَ مُخْتَالًا﴾ في مشيته متكبرًا عن أقاربه الفقراء وجيرانه الضعفاء وأصحابه لا يحسن عشرتهم، ﴿فَخُورًا﴾ بلسانه على الناس بما أعطاه الله تعالى من العلم والمال وغيرهما، فالمختال (٣): المتكبر الذي تظهر أثار الكبر في حركاته وأعماله، والفخور المتكبر: الذي تظهر آثار الكبر في أقواله، فتجده يذكر ما يرى أنه ممتاز به عن الناس زهوًا بنفسه، واحتقارًا لغيره، والمختال الفخور مبغوض عند الله تعالى؛ لأنه احتقر جميع الحقوق التي
(٢) المراغي.
(٣) المراغي.
فالمختال لا يقوم بعبادة ربه حق القيام؛ لأن العبادة لا تكون إلا عن خشوع للقلب، ومن خشع قلبه.. خشعت جوارحه، ولا يقوم بحقوق الوالدين ولا ذوي القربى لأنه لا يشعر بحق لغيره عليه، وبالأولى لا يشعر بحق لليتيم أو المسكين أو لجار قريب أو بعيد، فهو لا يرجى منه بر ولا إحسان، وإنما يتوقع منه إساءة وكفران.
ومن الكبر والخيلاء إطالة الثوب، وجر الذيل بطرًا ومرحًا، قال تعالى: ﴿وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا﴾، وليس من الكبر والخيلاء أن يكون المرء وقورًا في غير غلظة، عزيز النفس مع الأدب والرقة.
روى أبو داود والترمذي عن ابن مسعود قال: قال رسول الله - ﷺ -: "لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر"، فقال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنًا، ونعله حسنة، فقال - ﷺ -: "إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق وغمص الناس" بطر الحق: رده استخفافًا وترفعًا، وغمص الناس: احتقارهم والازدراء بهم.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - ﷺ - قال "لا ينظر الله يوم القيامة إلى من جر إزاره خيلاء". متفق عليه.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - ﷺ - قال: "لا ينظر الله يوم القيامة إلى من جر إزاره بطرًا". متفق عليه.
وعنه رضي الله تعالى عنه أن رسول الله - ﷺ - قال: "بينما رجل يمشي في حلة، تعجبه نفسه، مرجِّل جمته، يختال في مشيته؛ إذ خسف الله به، فهو يتجلجل إلى يوم القيامة". متفق عليه.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - ﷺ - قال: "بينما رجل ممن
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله - ﷺ - يقول: "الفخر والخيلاء في الفدادين من أهل الوبر، والسكينة في أهل الغنم". متفق عليه. الفدادون: هم الفلاحون والحراثون، وأصحاب الإبل والبقر، المتكثرون منها، المتكبرون على الناس بهما.
٣٧ - ثم بين الله سبحانه وتعالى المختال الفخور فقال: ﴿الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ﴾ والأظهر أن الموصول منصوب على الذم، أو مرفوع على الذم، ويجوز أن يكون بدلًا من قوله كان مختالًا، وأن يكون مبتدأ خبره محذوف، تقديره: أحقاء بكل ملامة، أو كافرون، والأوضح من هذه الأوجه كلها أن يكون خبرًا لمبتدأ محذوف، تقديره: هؤلاء المختالون الفخورون هم الذين يبخلون ويمنعون الناس ما منحوا به من المال والعلم، ويأمرون الناس غيرهم بالبخل، والامتناع من أداء ما يجب عليهم أداؤه من المال والعلم، ويحثونهم عليه.
روى ابن إسحاق وابن جرير عن ابن عباس: كان جماعة من اليهود يأتون إلى الأنصار يتنصحون لهم، فيقولون: لا تنفقوا أموالكم فإنا نخشى عليكم الفقر في ذهابها، ولا تسارعوا في النفقة، فإنكم لا تدرون ما يكون، فأنزل الله تعالى: ﴿الَّذِينَ يَبْخَلُونَ...﴾ إلى قوله: ﴿وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا﴾ كما مر في أسباب النزول.
والمراد بالبخل في الآية (١): البخل بالإحسان، الذي أمر به فيما تقدم، فيشمل البخل بلين الكلام، وإلقاء السلام، والنصح في التعليم، وإنقاذ المشرف على التهلكة.
وفي البخل أربع لغات: فتح الباء والخاء، وبها قرأ حمزة والكسائي،
﴿وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ﴾؛ أي: يخفون ما أعطاهم الله سبحانه وتعالى، ﴿مِنْ فَضْلِهِ﴾ وإحسانه من العلم والمال وسعة الحال، فيشمل اليهود الذين كتموا صفة محمد - ﷺ -، وما عندهم من العلم، والأغنياء الذين كتموا الغنى، وأظهروا الفقر وبخلوا بالمال، ﴿وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا﴾ وضع (١) الظاهر موضع المضمر، إشعارًا بأن من هذا شأنه فهو كافر لنعمة الله سبحانه وتعالى، ومن كان كافرًا لنعمة الله فله عذاب يهينه، كما أهان النعمة بالبخل والإخفاء.
أي وهيَّأنا (٢) لهؤلاء بكبرهم وبخلهم وعدم شكرهم عذابًا يهينهم ويذلهم، فهو عذاب جامع بين الألم والذلة جزاءًا لهم على ما اقترفوا، وسماهم الله كفارًا للإيذان بأن هذه أخلاق وأعمال لا تصدر إلا من الكفور، لا من المؤمن الشكور. وفي الحديث الذي رواه أحمد أنه - ﷺ - قال: "إذا أنعم الله على عبده نعمة.. أحب أن يظهر أثرها عليه".
٣٨ - قوله: ﴿وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ معطوف على قوله: ﴿الَّذِينَ يَبْخَلُونَ﴾، ووجه ذلك (٣): أن الأولين قد فرّطوا بالبخل، وبأمر الناس به، وبكتم ما آتاهم الله من فضله، وهؤلاء أفرطوا ببذل أموالهم في غير مواضعها؛ لمجرد الرياء والسمعة، كما يفعله من يريد أن يتسامع الناس بأنه كريم، ويتطاول على غيره بذلك، ويشمخ بأنفه عليه، مع ما ضم إلى هذا الإنفاق الذي يعود عليه بالضرر من عدم الإيمان باللهِ ولا باليوم الآخر.
أي: وهم الذين يصرفون أموالهم في غير مصارفها، ليراهم الناس ويمدحوهم، ويقولوا فيهم: ما أسخاهم وما أجودهم، ولا يريدون بما أنفقوا وجه الله تعالى، ولا يصدقون بوحدانية الله تعالى، ولا بمجيء المعاد الذي فيه جزاء الأعمال.
(٢) المراغي.
(٣) الشوكاني.
الرئاء والرياء والمراءاة سواء، والحاصل: أن مانعي الإحسان من أهل الفخر والخيلاء فريقان: فريق يبخلون ويكتمون فضل الله عليهم، وفريق يبذل المال لا شكرًا لله على نعمه، ولا اعترافًا لعباده بحق، بل ينفقونها مرائين الناس؛ أي: يقصدون أن يروهم فيعظموا قدرهم، ويحمدوا فعلهم.
والكبرياء كما تكون من شىء في نفس الشخص، تكون أيضًا بما يكون له من المال والنسب، والمرائي أقل شرًّا من البخيل؛ إذ هو يحمل الناس على قبول فخره واختياله في مقابلة ما يبذله لهم من مال، فكأنه رأى لهم عليه حقًّا عوضًا من التعظيم والثناء الذي يطلبه بريائه، وأما البخيل: فقد بلغ من احتقاره للناس أنه لا يرى لهم عليه شيئًا من الحقوق فهو يكلفهم تعظيمه وأمواله مدخرة في الصناديق.
والمرائي بخيل في الحقيقة؛ إذ هو إنما يبذل المال لمن لا حق لهم عنده، ويبخل على أرباب الحقوق كالزوجة والولد والخادم والأقربين كالوالدين، ولا يتحرى في إنفاقه النفع العام ولا الخاص، وإنما يتحرى مواطن التعظيم والمدح، وإن كان الإنفاق ضارًّا، كالمساعدة على فسق أو فتنة.. فهو تاجر يشتري تعظيم الناس له، وتسخيرهم للقيام بخدمته.
ومعنى قوله: ﴿وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾؛ أي: إن المؤمنين المرائين في إنفاقهم يثقون بما عند الناس، من المدح والثناء والتعظيم والإطراء، ولا يثقون بما أعد الله لعباده من الثواب والجزاء، ويفضلون التقرب إليهم على التقرب إليه، فالله في نظرهم أهون من الناس، فمثل هؤلاء لا يعدون مؤمنين إيمانًا حقيقيًّا بالله، ولا باليوم الآخر، بل إيمانهم ضرب من التخيل، ليس له ما يؤيده من أثر في القلب، ولا إذعان للنفس فهم لا يعرفون الله، وإنما يسمعون
ومن أمارات التفرقة بين المخلص والمرائي:
أن الأول قلما يتذكر عمله أو يذكره إلا لمصلحة كترغيب بعض الناس في البذل، كأن يقول: إني على ما بي من فقر قد أعطيت كذا درهمًا في مصلحة كذا، فاللائق بمثلك أن يبذل كذا وكذا درهمًا.
أما الثاني: فهو يلتمس الفرص والمناسبات للفخر والتبجح بما أعطى وما فعل، كما لا يبذل المال ولا يعمل العمل الصالح إلا بقصد الرياء والسمعة، إذ ليس له وراء حظوظ الدنيا أمل ولا مطلب.
فهؤلاء حزب الشيطان، ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون كما قال تعالى: ﴿وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا﴾؛ أي: ومن يكن الشيطان معينًا له في هذه الأفعال في الدنيا.. فساء قرينًا؛ أي: فبئس الصاحب له في النار هو، فإن الله تعالى يقرن مع كل كافر شيطانًا في سلسلة في النار؛ أي: إن هؤلاء المتكبرين ما حملهم على ما فعلوا إلا وسوسة الشيطان، وهو بئس الصاحب والخليل، والمقصد من هذا أن حالهم في الشر كحال الشيطان. وفي الآية إيماء إلى تأثير قرناء المرء في سيرته، وأن الواجب اختيار القرين الصالح على قرين السوء، وتعريض بتنفير الأنصار من معاشرة اليهود الذين كانوا ينهونهم عن الإنفاق في سبيل الله، وبيان أنهم شياطين يعِدون الفقر، وينهون عن العرف.
أما القرين الصالح: فهو عون على الخير، مرغب فيه، منفر بسيرته ونصحه عن الشر، مبعد عنه، مذكر بالتقصير، مبصر بالعيوب، وكم أصلح القرين الصالح فاسدًا، وكم أفسد قرين السوء صالحًا، وفي "الفتوحات": لما ذكر الأوصاف المتقدمة من البخل، والأمر به، والكتمان والإنفاق رئاء الناس، وعدم الإيمان بالله واليوم الآخر.. ذكر سببها الذي تنشأ عنه وهو مقارنة الشيطان، ومخالطته وملازمته للمتصفين بالأوصاف المتقدمة، كما يؤخذ من "النهر" لأبي حيان.
فجهله جدير بأن يتعجب منه؛ لأنه جهل بالله، وجهل بأحوال الناس، ولو آمن وأخلص ووثق بوعد الله ووعيده.. لكان في هذا سعادته، فالإيمان سلوى من كل فائت، وفقده عرضة لليأس من كل خير، وأما المؤمن فأقل ما يؤتاه في المصائب الصبر، الذي يخفف وقعها على النفس، وأكثره رحمة الله، التي بها تتحول النقمة إلى نعمة، بما يستفيد من الاختبار والتمحيص وكمال العبرة والتهذيب.
وقد يبتلي الله المؤمن ويمتحن صبره، فيعطيه إيمانه من الرجاء به ما تخالط حلاوته مرارة المصيبة حتى تغلبها، وقد يأنس بها أحيانًا؛ لعظم رجائه وصبره، وهذا وإن كان نادرًا فهو واقع حاصل، ﴿وَكَانَ اللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿بِهِمْ﴾ وبأحوالهم المخفية ﴿عَلِيمًا﴾ يعني: لا يخفى عليه شيء من أعمال هؤلاء الذين ينفقون أموالهم لأجل الرياء والسمعة، فلا يثيبهم بما ينفقونه رئاء الناس، فينبغي للمؤمن أن يكتفي بعلم الله في إنفاقه، ولا يبالي بعلم الناس، فهو الذي لا ينسى عمل العاملين، ولا يظلمهم من أجرهم شيئًا.
وفي هذه الآيات الكريمة الهداية الكافية في معاملة الناس لربهم ولبعضهم بعضًا، ولكن المسلمين قصروا في اتباع هذه الأوامر، وأعرضوا عن مساعدة ذوي
٤٠ - ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿لَا يَظْلِمُ﴾ أحدًا ﴿مِثْقَالَ ذَرَّةٍ﴾؛ أي: وزن نملة حمراء صغيرة، أي: لا يظلم قليلًا ولا كثيرًا، ونظم هذا الكلام مع الذي قبله: وماذا عليهم لو آمنوا وأنفقوا، فإن الله لا يظلم ولا يبخس ولا ينقص أحدًا من ثواب عمله مثقال ذرة، وقال ابن عباس: الذرة رأس نملة حمراء، وقيل: الذرة كل جزء من أجزاء الهباء، الذي يكون في الكوة إذا كان فيها ضوء الشمس لا وزن لها، وهذا مثلٌ ضربه الله تعالى لأقل الأشياء، فخرج الكلام على أصغر شيء يعرفه الناس، وفي ذكره إيماء إلى أنه وإن صغر قدره عظم جزاءه.
والخلاصة: أن الظلم لا يقع من الله تعالى؛ لأنه من النقص الذي يتنزه عنه، وهو ذو الكمال المطلق والفضل العظيم، وقد شرع لهم من أحكام الدين وآدابه ما لا تستقل عقولهم بالوصول إلى مثله في هدايتهم وحفظ مصالحهم، وهي تسوق إلى الخير وتصرف عن الشر، وأيدها بالوعد والوعيد، فمن وقع بعد ذلك فيما يضره ويؤذيه.. كان هو الظالم لنفسه؛ لأن الله تعالى لا يظلم أحدًا.
﴿وَإِنْ تَكُ﴾؛ أي: وإن يكن مثقال الذرة ﴿حَسَنَةً﴾ وأنث (١) الضمير لتأنيث الخبر، أو لإضافة المثقال إلى مؤنث، وحذف النون من غير قياس تخفيفًا وتشبيهًا بحروف العلة، وقرأ نافع وابن كثير ﴿حسنةٌ﴾ بالرفع على أن كان تامة بمعنى وإن حصلت حسنة، والباقون بالنصب. والمعنى: وإن تكن زنة الذرة حسنة، ﴿يُضَاعِفْهَا﴾؛ أي: يضاعف جزاء تلك الحسنة عشرة أمثالها، أو أضعافًا كثيرة إلى سبع مائة، كما جاء في آية أخرى: ﴿مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (١٦٠)﴾، ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً﴾. وقرأ ابن كثير وابن عامر ويعقوب ﴿يضعِّفْها﴾ بالتشديد من غير ألف، فكلاهما بمعنى واحد.
وقيل هذا عند الحساب فمن بقي له من الحسنات مثقال ذرة.. ضاعفها الله
﴿وَيُؤْتِ﴾؛ أي: يعط الله صاحب الحسنة ﴿مِنْ لَدُنْهُ﴾؛ أي: من عنده تعالى: ﴿أَجْرًا عَظِيمًا﴾ وثوابًا جزيلًا فلا يقدر أحد قدره وهو الجنة.
أي: إنه تعالى لواسع فضله، لا يكتفي بجزاء المحسنين على إحسانهم فحسب، بل يزيدهم من فضله، ويعطيهم من لدنه عطاءً كبيرًا، وسمي هذا العطاء أجرًا ولا مقابل له من الأعمال؛ لأنه لما كان تابعًا للأجر على العلم سمي باسمه لمجاورته له، وفي ذلك إيماء إلى أنه لا يكون لغير المحسنين، إذ هو علاوة على أجور أعمالهم، فلا مطمع للمسيئين فيه،
٤١ - والفاء في قوله: ﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ﴾ فاء الفصيحة، والاستفهام فيه للتوبيخ والتقريع، أي: إذا كان الله لا يضيع من عمل العالمين مثقال ذرة.. فكيف يكون حال هؤلاء الكفار والمنافقين يوم القيامة، إذا جمعناهم والخلائق، وجئنا من كل أمة بشهيد يشهد عليهم؛ أي: نبي يشهد على فساد عقائدهم وقبح أعمالهم، فما من أمة إلا لها بشير ونذير، وهذه الشهادة عبارة عن عرض أعمال الأمم على أنبيائهم، لا فرق بين اليهود والنصارى والمسلمين، ومقابلة عقائدهم وأعمالهم بعقائد الأنبياء وأعمالهم وأخلاقهم، فمن شهد لهم نبيهم بانهم على ما جاء به وما أمر الناس بالعمل به.. فهم ناجون، ومن تبرأ منهم أنبياؤهم لمخالفة أعمالهم وعقائدهم لما جاؤوا به.. فأولئك هم الخاسرون، وإن ادعوا اتباعهم والانتماء إليهم.
﴿وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا﴾؛ أي: وجئنا بك يا محمَّد حالة كونك
وروى الشيخان والترمذي والنسائي وغيرهم حديث ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: قال لي رسول الله - ﷺ -: "إقرأ عليَّ القرآن" فقلت: يا رسول الله أقرأ عليك وعليك أنزل! قال: "نعم أحب أن أسمعه من غيري"، قال: فقرأت عليه سورة النساء حتى إذا جئت إلى هذد الآية ﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا (٤١)﴾ قال: "حسبك الآن"، قال: فالتفت إليه فإذا عيناه تذرفان. زاد مسلم: (شهيدًا ما دمت فيهم)، أو قال: (ما كنت فيهم)، شك أحد رواته.
فانظر أيها الأخ الكريم كيف اعتبر بهذه الشهادة الشهيد الأعظم - ﷺ -، فبكى لتذكر هذا اليوم، وهل نعتبر كما اعتبر؟ وهل نستعد لهول ذلك اليوم باتباع سنته، ونجتهد في اجتناب البدع والتقاليد التي لم تكن في عهده، وبذا نكون أمة وسطًا لا تفريط عندها في الدين، ولا إفراط لا في الشؤون الجسمية، ولا في الشؤون الروحية، أو نظل في غوايتنا تقليدًا للآباء، فنكون كما قال الكافرون: ﴿إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ﴾.
٤٢ - ﴿يَوْمَئِذٍ﴾؛ أي: يوم إذ جئنا من كل أمة بشهيد، ﴿يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾؛ أي: يتمنى الذين كفروا بالله ورسوله ﴿وَعَصَوُا الرَّسُولَ﴾؛ أي: خالفوا رسوله محمدًا - ﷺ -، فيما أمر به ونهى عنه، ﴿لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ﴾؛ أي: يتمنون لو دفنوا في الأرض، ويهال عليهم التراب، ويسوى عليهم كما يسوى على الموتى، أو يودون أنهم لم يبعثوا، وأنهم كانوا هم والأرض سواء، أو لم يخلقوا، وقال
أي: إنهم (٢) يريدون الكتمان، أولًا لما علموا أن الله لا يغفر شركًا، فيقولون: ربنا والله ربنا ما كنا مشركين، رجاء غفران الله لهم، لكنهم تشهد عليهم الأعضاء والزمان والمكان، فلم يستطيعوا الكتمان، فهنالك يودون أنهم كانوا ترابًا ولم يكتموا الله حديثًا.
قرأ نافع وابن عامر (٣): ﴿تُسَوَّى﴾ بفتح التاء وتشديد السين، وقرأ حمزة والكسائي: بفتح التاء وتخفيف السين، وقرأ الباقون: بضم التاء وتخفيف السين، والمعنى على القراءة الأولى والثانية: أن الأرض هي التي تسوى بهم؛ أي: أنهم تمنوا لو انفتحت لهم الأض، فساخوا فيها، وقيل: الباء في قوله: ﴿بهم﴾ بمعنى على؛ أي: تسوى عليهم الأرض، وعلى القراءة الثالثة الفعل مبني للمفعول؛ أي: لو سوى الله بهم الأرض، فيجعلهم والأرض سواء، حتى لا يبعثوا.
٤٣ - ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ بما جاء به محمَّد - ﷺ - ﴿لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ﴾؛ أي: لا تقيموا الصلاة ﴿وَأَنْتُمْ سُكَارَى﴾؛ أي: حال كونكم نشاوى من شرب الشراب ﴿حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ﴾؛ أي: إلى أن تعلموا قبل الشروع فيها ما تقولونه، بأن تفيقوا من السكر، ﴿وَلَا﴾ تقيموها حال كونكم ﴿جُنُبًا﴾؛ أي: متصفين بالجنابة ﴿إِلَّا﴾ حال كونكم ﴿عَابِرِي سَبِيلٍ﴾؛ أي: مسافرين، وقيل إلا اسم بمعنى (غير) صفة لـ ﴿جُنُبًا﴾، أي؛ ولا تقيموها حال كونكم جنبًا غير مسافرين، ﴿حَتَّى تَغْتَسِلُوا﴾ من الجنابة ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى﴾ مرضًا يمنع من استعمال الماء، {أَوْ عَلَى
(٢) المراح.
(٣) الشوكاني.
أحدهما: أنه مصدر، إذ قالوا: غاط يغيط غيطًا.
والثاني: أن أصله فيعل ثم حذف كـ: مَيْتٍ، قاله أبو حيان.
﴿أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ﴾؛ أي: أو ماسستم بشرتهن ببشرتكم، وبه استدل الشافعي - رحمه الله تعالى - على أن اللمس ينقض الوضوء، وقيل أو جامعتموهن، وقرأ حمزة والكسائي هنا وفي المائدة ﴿لمستم﴾ واستعماله كناية عن الجماع أقل من الملامسة، ﴿فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً﴾ يجب استعماله تتطهرون به للصلاة بعد الطلب، ﴿فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا﴾؛ أي؛ فاقصدوا ترابًا ﴿طَيِّبًا﴾؛ أي: طاهرًا بعد دخول الوقت، فاضربوا به ضربتين، ﴿فَامسَحوا﴾ منه ﴿بوجوهكم﴾ بالضربة الأولى، ﴿وَأَيْدِيكُمْ﴾ بالضربة الثانية، وحذف الممسوح به هنا وأظهره في آية المائدة، في قوله: ﴿منه﴾ فحمل عليه ما هنا، وقد أشرنا له بقولنا منه، وقوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا﴾ كالتعليل للترخيص المستفاد مما قبله؛ أي: كان كثير العفو والمحو لذنوب عباده عن صحف الملائكة، غفورًا: أي؛ كثير الغفر والستر لها عن أعين الملائكة، فلا يؤاخذهم بها، فلذلك يسَّر عليكم الأمر ورخص لكم في التيمم. وقال الشوكاني قوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا﴾؛ أي؛ عفا عنكم وغفر لكم تقصيركم، ورحمكم بالترخيص لكم والتوسعة عليكم انتهى.
واعلم أن الخطاب في قوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ موجه إلى المسلمين قبل السكر، بأن يجتنبوه إذا ظنوا أنهم سيصلون، ليحتاطوا فيجتنبوه في أكثر الأوقات، وقد كان هذا تمهيدًا لتحريم السكر تحريمًا باتًّا لا هوادة فيه، إذ من يتقي أن يجيء عليه وقت الصلاة وهو سكران، يترك الشرب عامة النهار وأول الليل، لتفرق الصلوات الخمس في هذه المدة، فلم يبق للسكر إلا وقت النوم من
وقد ورد أنهم كانوا بعد نزولها يشربون بعد العشاء، فلا يصبحون إلا وقد زال السكر، وصاروا يعلمون ما يقولون، وعبر سبحانه وتعالى بقوله: ﴿لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى﴾ ولم يقل ولا تقربوا الصلاة سكارى، مع أنه أخصر من الأول؛ لأن بين الأسلوبين فرقًا، الأول يتضمن النهي عن السكر الذي يخشى أن يمتد إلى وقت الصلاة، فيفضي إلى أدائها في أثنائه.
وخلاصة المعنى عليه: احذروا أن يكون السكر وصفًا لكم عند حضور الصلاة، فتصلوا وأنتم سكارى، فامتثال هذا النهي إنما يكون بترك السكر في وقت الصلاة، وفيما يقرب منها، والثاني يتضمن النهي عن الصلاة حال السكر فحسب.
وأما نهيهم عن الصلاة جنُبًا: فلا يتضمن نهيهم عن الجنابة قبل الصلاة؛ لأنها من سنن الفطرة، وإنما ينهاهم عن الصلاة في أثنائها حتى يغتسلوا؛ ولهذا قال جنبًا، ولم يقل وأنتم جنب.
﴿وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ﴾؛ أي: ولا تقربوا الصلاة جنبًا في أي حال، إلا حال كونكم عابري سبيل؛ أي: مجتازين الطريق. وقد روي أن رجالًا من الأنصار كانت أبوابهم في المسجد، وكان يصيبهم الجنابة ولا يجدون ممرًا إلا فيه، فرخص لهم في ذلك، ولم يأمر النبي - ﷺ - بسد تلك الأبواب والكوى إلا في آخر عمره الشريف، ولم يستثن إلا خوخة أبي بكر رضي الله عنه، الخوخة: الكوة والباب الصغير.
﴿حَتَّى تَغْتَسِلُوا﴾؛ أي لا تقربوا الصلاة جنبًا إلى أن تغتسلوا، إلا فيما رخص لكم فيه من حالة السفر.
والخلاصة: أن الدين طلب الصلاة حال العلم والفهم وتدبر القرآن والذكر، وذلك يتوقف على الصحو وترك السكر، كما طلب أن يكون الجسم نظيفًا نشيطًا، وذلك لا يكون إلا لإزالة الجنابة.
ولما كانت الصلاة فريضة موقوتة لا هوادة فيها؛ لأنها تذكر المرء وتعده للتقوى، وكان الاغتسال من الجنابة يتعسر في بعض الحالات، ويتعذر في بعضها الآخر.. رخص سبحانه وتعالى لنا في ترك استعمال الماء، والاستعاضة عنه بالتيمم، فقال: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ﴾ المراد بالمرض: المرض الذي يخاف زيادته باستعمال الماء، كبعض الأمراض الجلدية، والقروح كالحصبة والجدري ونحو ذلك. والسفر يشمل الطويل والقصير، والمراد بالمجيء من الغائط الحدث الأصغر، بخروج شيء من أحد السبيلين القبل والدبر، أو بغيره من سائر أسباب الحدث الأصغر، وملامسة النساء التقاء البشرتين، أو غشيانهن على الخلاف المذكور فيه كما مر.
ففي هذه الحالات كلها - المرض، السفر، فقد الماء، عقب الحدث الأصغر الموجب للوضوء، والحدث الأكبر الموجب للغسل - اقصدوا وتحروا صعيدًا طيبًا؛ أي: ترابًا طاهرًا من الأرض لا قذارة فيه ولا أوساخ، فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه، ثم صلوا.
والخلاصة: أن حكم المريض والمسافر إذا أراد الصلاة كحكم المحدث حديثًا أصغر، أو ملامس النساء ولم يجد الماء، فعلى كل هؤلاء التيمم فقط.
ثم ذكر (١) منشأ السهولة واليسر، فقال: ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا﴾ العفو التيسير والسهولة، ومنه قوله تعالى ﴿خُذِ الْعَفْوَ﴾، وقوله - ﷺ -: "قد عفوت عن صدقة الخيل والرقيق"؛ أي: أسقطتها تيسيرًا عليكم، ومن عفوه وتيسيره وتسهيله أن أسقط في حال المرض والسفر وجوب الوضوء والغسل.
وفي ذلك إيماء إلى أن ما كان من الخطأ في صلاة السكارى، كقولهم: "قل يا أيها الكافرون أعبد ما تعبدون ونحن نعبد ما تعبدون" مغفور لهم، لا يؤاخذون عليه،
واعلم: أن التيمم من خصائص هذه الأمة، خصها الله تعالى به ليسهل عليهم أسباب العبادة، ويدل على ذلك ما روي عن حذيفة قال: قال رسول الله - ﷺ -: "فضلنا على الناس بثلاث: جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة، وجعلت لنا الأرض كلها مسجدًا، وجعلت تربتها لنا طهورًا، إذا لم نجد الماء" أخرجه مسلم.
فصول في أحكام تتعلق بالآية الفصل الأول منها
إذا أفضى الرجل بشيء من بدنه إلى شيء من بدن المرأة، ولا حائل بينهما.. انتقض وضوئهما، وهو قول ابن مسعود، وابن عمر، وبه قال الزهري، والأوزاعي، والشافعي؛ لما روى الشافعي بسنده عن ابن عمر أنه قال: قُبلة
وقال مالك والليث بن سعد وأحمد وإسحاق: إذا كان اللمس بشهوة.. انتقض الوضوء، وإن لم يكن بشهوة.. فلا، ويدل عليه ما روى عن عائشة رضي الله تعالى عنها: أن رسول الله - ﷺ - قبل امرأة من نسائه، ثم خرج إلى الصلاة ولم يتوضأ، قال عروة: ومن هي إلا أنت فضحكت. أخرجه أبو داود.
وأجيب عن هذا الحديث بأنه ليس بثابت، قال الترمذي: إنه لا يصح إسناده بحال، وسمعت محمَّد بن إسماعيل يضعف هذا الحديث، وقال: حبيب بن ثابت لم يسمع من عروة، وضعف يحيى بن سعيد القطان هذا الحديث، وقال: هو شبه لا شيء، وفيه ضعف من وجه آخر، وهو أن عروة هذا ليس بعروة بن الزبير ابن أخت عائشة، إنما هو شيخ مجهول، قال البيهقي: يعرف بعروة المزني.
وإنما المحفوظ عن عائشة أن النبي - ﷺ - كان يقبل وهو صائم، كذا رواه الثقات عن عائشة.
وقال أبو حنيفة: لا ينتقض الوضوء باللمس إلا أن يحدث الانتشار، وقال قوم: لا ينتقض بحال، وهو قول ابن عباس، وبه قال الحسن والثوري.
واحتج من لم يوجب الوضوء باللمس بما روى عن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت: (كنت أنام بين يدي رسول الله، ورجلاي في قِبلته، فإذا سجد غمزني فقبضت رجلي، فإذا قام بسطتهما، والبيوت يومئذ ليس فيها مصابيح). أخرجاه في "الصحيحين".
وأجاب من أوجب الوضوء باللمس عن هذا الحديث بأنه يحتمل أن يكون غمزه لها بحائل.
الفصل الثاني
اختلف قول الشافعي في لمس المحرم، كالأم والبنت والأخت أو أجنبية
فأحد القولين: أنه ينتقض وضوء اللامس والملموس لعموم الآية؛ لأنه لمس وقع بين الرجل والمرأة فينتقض وضوؤهما معًا.
والقول الثاني: أنه ينتقض وضوء اللامس دون الملموس؛ لما روي عن عائشة رضي الله عنها قالت: "فقدت رسول الله - ﷺ - ليلة من الفراش فالتمسته فوضعت يدي على أخمص قدميه وهو ساجد وهما منصوبتان وهو يقول: اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك، لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك". أخرجه مسلم.
فلو انتقض وضوؤه - ﷺ - لقطع الصلاة، ولو لمس شعر امرأة أو سنها أو ظفرها، فلا وضوء عليه.
الفصل الثالث في الحدث
وهو الخارج من السبيلين، عينًا كان كالبول والغائط، أو أثرًا كالريح ونحوها، فإذا حصل شيء من ذلك.. فلا تصح صلاته، ما لم يتوضأ أو يتيمم عند عدم الماء؛ لما روي عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - ﷺ -: "لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ"، فقال رجل من أهل حضرموت: ما الحدثُ يا أبا هريرة؟ قال: فساء أو ضراط. أخرجاه في "الصحيحين".
أما خروج النجاسة من غير السبيلين، كالفصد والحجامة والرعاف والقيء
وذهب قوم إلى إيجاب الوضوء من ذلك، منهم سفيان الثوري، وابن المبارك، وأصحاب الرأي وأحمد وإسحاق، واتفق هؤلاء على أن خروج القليل منه لا ينقض، ويدل على انتقاض الوضوء بخروج هذه الأشياء ما روي عن معدان بن أبي طلحة عن أبي الدرداء: أن النبي - ﷺ - قاء فتوضأ، قال معدان: فلقيت ثوبان في مسجد دمشق، فذكرت له ذلك، فقال: صدق، أنا صببت له وضوءه، أخرجه الترمذي، وقال: هو أصح شيء في هذا الباب.
الفصل الرابع
من نواقض الوضوء: زوال العقل بجنون أو إغماء أو نوم؛ لما روي عن علي قال: قال رسول الله - ﷺ -: "العين وكاء السه، فمن نام.. فليتوضأ". أخرجه أبو داود وابن ماجه.
ويستثنى من ذلك النوم اليسير قاعدًا مفضيًا بمحل الحدث إلى الأرض، ويدل على ذلك ما روي عن أنس قال: كان أصحاب رسول الله - ﷺ - ينتظرون العشاء الأخيرة، حتى تخفق رؤوسهم، ثم يصلون ولا يتوضؤون. أخرجه أبو داود.
وذهب قوم إلى أن النوم لا ينقض الوضوء بكل حال، وهو قول أبي هريرة وعائشة رضي الله عنهما، وبه قال الحسن وإسحاق والمزني، وذهب قوم إلى أنه لو نام قائمًا أو قاعدًا أو ساجدًا وهو في الصلاة.. فلا وضوء عليه حتى يضطجع، وبه قال سفيان الثوري، وابن المبارك، وأصحاب الرأي، لما روي عن ابن عباس أن النبي - ﷺ - قال: "ليس على من نام ساجدًا وضوء، حتى يضطجع، فإنه إذا اضطجع استرخت مفاصله". أخرجه أحمد ابن حنبل وضعف بعضهم هذا الحديث.
من نواقض الوضوء مس الفرج من نفسه أو غيره، فذهب قوم إلى أنه يوجب الوضوء، وهو قول عمر وابن عمر وابن عباس وسعد بن أبي وقاص وأبي هريرة وعائشة - رضي الله عنهم - وبه قال سعيد بن المسيب، وسليمان بن يسار، وإليه ذهب الأوزاعي والشافعي وأحمد وإسحاق، غير أن الشافعي قال: ينتقض الوضوء إذا لمس ببطن الكف، والرجل والمرأة في ذلك سواء، ويدل على ذلك ما روي عن بسرة بنت صفوان، أن رسول الله - ﷺ - قال: "من مس ذكره.. فلا يصلِّ حتى يتوضأ"، أخرجه الترمذي، وقال حديث صحيح ولأبي داود والنسائي نحوه.
وعن أم حبيبة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله - ﷺ - يقول: "من مس فرجه فليتوضأ". أخرجه ابن ماجه وصححه أحمد وأبو زرعة.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي - ﷺ - قال: "من أفضى بيده إلى ذكره، وليس دونه ستر.. فقد وجب عليه الوضوء" أخرجه أحمد ابن حنبل.
وذهب قوم إلى أن مس الذكر لا يوجب الوضوء، وهو قول علي وابن مسعود وأبي الدرداء وحذيفة، وبه قال الحسن: وإليه ذهب الثوري وابن المبارك وأصحاب الرأي، واحتجوا بما روي عن طلق بن علي قال: قدمنا على رسول الله - ﷺ -، فجاءه رجل كأنه بدوي، فقال: يا نبي الله، ما ترى في مس الرجل ذكره بعد ما توضأ؟ قال: "هل هو إلا مضغة منه؟ " أو قال: "بضعة منه". أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي نحوه بمعناه.
وأجاب من أوجب الوضوء على من مس الذكر عن حديث طلق بن علي، بأن قدومه على رسول الله - ﷺ - كان في أول الهجرة، وهو يبني المسجد، وأبو هريرة رضي الله عنه من آخرهم إسلامًا وقد روى بانتقاض الوضوء بمس الذكر، فصار حديث أبي هريرة رضي الله عنه ناسخًا لحديث طلق بن علي، وأيضًا فإن حديث طلق يرويه عنه ابنه قيس بن طلق، وهو ليس بالقوي عند أهل الحديث.
التيمم لغة: القصد، ومنه قول بعضهم:
تَيَمَّمْتُكُم لَمَّا فَقَدْتُ أُولِيْ النُّهَى | وَمَنْ فَقَدَ المَاءَ تَيَمَّمَ بِالتُّرْبِ |
الأول: تراب طاهر خالص له غبار يعلق بالوجه واليدين، ويجوز بالرمل إذا كان عليه غبار.
الثاني: قصد الصعيد، فلو تعرض لمهب الريح.. لم يكفه، ولو يممه غيره بإذنه مع عجزه جاز، وإن كان قادرًا فوجهان.
الثالث: نقل التراب إلى الوجه واليدين.
الرابع: نية استباحة الصلاة، فلو نوى رفع الحدث.. لم يصح، وأكمله أن ينوي استباحة الفرض والنفل.
الخامس: مسح الوجه واليدين إلى المرفقين بضربتين والترتيب.
ولا يصح التيمم لصلاة إلا بعد دخول وقتها، ولا يجوز الجمع بين صلاتي فرض بتيمم واحد، وهو قول علي وابن عباس وابن عمر، وبه قال الشعبي والنخعي وقتادة، وإليه ذهب مالك والشافعي وأحمد وإسحاق، وذهب جماعة إلى أن التيمم كالوضوء فيجوز تقديمه على الوقت، ويجوز أن يصلي به ما شاء من النوافل قبل الفرض وبعده إلى أن يدخل وقت الصلاة الأخرى، وأن يقرأ القرآن إن كان جنبًا ويشترط طلب الماء في السفر؛ بأن يطلبه في رحله وعند رفقته، ان كان في صحراء ولا حائل دون نظره.. نظر حواليه، وإن كان دون نظره حائل قريب من تل أو جدار أو نحوه.. عدل عنه؛ لأن الله تعالى قال: ﴿فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا﴾، ولا يقال لم يجد إلا لمن طلب، ولا يشترط الطلب عند أبي حنيفة، فإن رأى الماء ولا يقدر عليه؛ لمانع من عدو، أو سبع يمنعه من الذهاب إليه، أو كان الماء في بئر وليس معه آلة الاستقاء.. فهو كالعادم، فيتيمم ويصلي ولا إعادة عليه. والله أعلم.
﴿وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا﴾.
﴿وَاعْبُدُوا اللَّهَ﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة مستأنفة مسوقة (١) لبيان الأحكام المتعلقة بحقوق الوالدين والأقارب ونحوهم، إثر بيان الأحكام المتعلقة بحقوق الأزواج، وصدر بما يتعلق بحقوق الله عَزَّ وَجَلَّ التي هي آكد الحقوق، وأعظمها تنبيهًا، على عظم شأن حقوق الوالدين بنظمهما في سلكها، كما في سائر المواقع. ﴿وَلَا تُشْرِكُوا﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿لا﴾: ناهية جازمة. ﴿تُشْرِكُوا﴾: فعل وفاعل مجزوم بلا الناهية، والجملة معطوفة على جملة قوله: ﴿وَاعْبُدُوا﴾. ﴿بِهِ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿تُشْرِكُوا﴾، ﴿شَيْئًا﴾: مفعول به منصوب؛ أي: لا تشركوا به شيئًا من الأشياء صنمًا أو غيره أو منصوب على المفعولية المطلقة؛ أي: لا تشركوا به شيئًا من الإشراك جليًّا أو خفيًّا.
﴿وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ﴾.
﴿وَبِالْوَالِدَيْنِ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿بالوالدين﴾: جار ومجرور متعلق بفعل محذوف معطوف على جملة قوله: ﴿وَاعْبُدُوا اللَّهَ﴾، تقديره: وأحسنوا بالوالدين. ﴿إِحْسَانًا﴾: منصوب على المفعولية المطلقة بذلك المحذوف. ﴿وَبِذِي الْقُرْبَى﴾: جار ومجرور، ومضاف إليه معطوف على قوله ﴿وَبِالْوَالِدَيْنِ﴾. ﴿وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ﴾: معطوفان على ﴿ذِي الْقُرْبَى﴾. ﴿وَالْجَارِ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿الجار﴾: معطوف على ﴿ذِي الْقُرْبَى﴾، صفة لـ ﴿جار﴾، ومضاف إليه. ﴿وَالْجَارِ﴾: معطوف على ﴿ذِي الْقُرْبَى﴾. ﴿الْجُنُبِ﴾: صفة لجار؛ لأنه مشتق؛ لأنه اسم فاعل. ﴿وَالصَّاحِبِ﴾: معطوف على ﴿ذي القربى﴾. ﴿بِالْجَنْبِ﴾: جار ومجرور متعلق بمحذوف حال من ﴿الصاحب﴾، تقديره حالة كونه ملتبسًا بالجنب؛ أي: بالقرب بجنبه. ﴿وَابْنِ السَّبِيلِ﴾: معطوف على ﴿ذِي الْقُرْبَى﴾ ومضاف إليه.
﴿وَمَا﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿ما﴾: موصولة، أو موصوفة في محل الجر معطوفة على ﴿ذِي الْقُرْبَى﴾. ﴿مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة لـ ﴿ما﴾، أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: وما ملكته أيمانكم. ﴿إِنَّ﴾: حرف نصب وتوكيد. ﴿اللَّهَ﴾: اسمها. ﴿لَا﴾: نافية. ﴿يُحِبُّ﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على ﴿اللَّهَ﴾، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر ﴿إِنَّ﴾، وجملة ﴿إِنَّ﴾ في محل الجر بلام التعليل المقدرة، المعللة لمحذوف تقديره: لا تفتخروا على هؤلاء المذكورين لأن الله لا يحب ﴿مَن﴾: اسم موصول في محل النصب مفعول به. ﴿كَانَ﴾: فعل ماض ناقص، واسمها ضمير يعود على من الموصولة. ﴿مُخْتَالًا﴾: خبر أول لـ ﴿كَانَ﴾، ﴿فَخُورًا﴾: خبر ثان لها، وجملة ﴿كَانَ﴾: صلة الموصول لا محل لها من الإعراب، والعائد الضمير المستتر في ﴿كَانَ﴾.
﴿الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا﴾.
﴿الَّذِينَ﴾: اسم موصول في محل الرفع خبر لمبتدأ محذوف تقديره: هم، عائد على ﴿مَنْ كَانَ مُخْتَالًا﴾، وجمعه اعتبارًا لمعناه، والجملة من المبتدأ المحذوف وخبره في محل النصب بدل من ﴿مَن﴾ الموصولة، في قوله: ﴿لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا﴾. ﴿يَبْخَلُونَ﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل. ﴿وَيَأمُرُونَ النَّاسَ﴾: فعل وفاعل ومفعول به، معطوف على ﴿يَبْخَلُونَ﴾. ﴿بِالْبُخْلِ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿وَيَأمُرُونَ﴾. ﴿وَيَكْتُمُونَ﴾: فعل وفاعل، معطوف على ﴿يَبْخَلُونَ﴾. ﴿مَا آتَاهُمُ﴾: ﴿مَا﴾: موصولة، أو موصوفة في محل النصب مفعول ﴿وَيَكْتُمُونَ﴾، ﴿آتَاهُمُ اللَّهُ﴾: فعل ومفعول أول، وفاعل، والمفعول الثاني محذوف تقديره: ما آتاهم الله إياه؛ لأن آتى بمعنى أعطى، والجملة صلة لـ ﴿مَا﴾، أو صفة لها، والعائد أو الرابط الضمير المحذوف. ﴿مِنْ فَضْلِهِ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بمحذوف حال من ﴿مَا﴾ الموصولة، أو من الضمير المحذوف. ﴿وَأَعْتَدْنَا﴾: فعل وفاعل والجملة
﴿وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾.
﴿وَالَّذِينَ﴾: في محل الرفع معطوف على ﴿الَّذِينَ يَبْخَلُونَ﴾؛ أي: وهم الذين ينفقون، ويجوز (١) أن يكون عطفًا على ﴿الكافرين﴾، بناء على إجراء التغاير الوصفي مجرى التغاير الذاتي. ﴿يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ﴾: فعل وفاعل ومفعول ومضاف إليه، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير ﴿أَمْوَالَهُمْ﴾. ﴿رِئَاءَ النَّاسِ﴾: مفعول لأجله ومضاف إليه، أو حال من فاعل ﴿يُنْفِقُونَ﴾، بتأويله بمشتق تقديره: ينفقون حالة كونهم مرائين الناس، فـ ﴿رِئَاءَ﴾: مصدر مضاف إلى المفعول. ﴿وَلَا يُؤْمِنُونَ﴾: فعل وفاعل معطوف على ﴿يُنْفِقُونَ﴾. ﴿بِاللَّهِ﴾: متعلق به. ﴿وَلَا بِالْيَوْمِ﴾: جار ومجرور معطوف على الجار والمجرور قبله. ﴿الْآخِرِ﴾: صفة لـ ﴿اليوم﴾.
﴿وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا﴾.
﴿وَمَنْ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية. ﴿من﴾: اسم شرط في محل الرفع مبتدأ والخبر جملة الشرط أو الجواب، أو هما على الخلاف المذكور في محله. ﴿يَكُنِ الشَّيْطَانُ﴾: فعل ناقص واسمه مجزوم بـ ﴿من﴾ الشرطية، على كونه فعل الشرط له. ﴿لَهُ﴾: متعلق بـ ﴿قَرِينًا﴾ وهو خبر ﴿يَكُنِ﴾. ﴿فَسَاءَ﴾: الفاء: رابطة لجواب الشرط وجوبًا؛ لكون الجواب جملة جامدية. ﴿سَاءَ﴾: فعل ماض من أفعال الذم، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبًا؛ لشبهه بالمثل، تقديره: هو يعود على ﴿الشَّيْطَانُ﴾. ﴿قَرِينًا﴾: تمييز له، والجملة في محل الجزم جواب ﴿منْ﴾ الشرطية، وجملة ﴿مَنْ﴾ الشرطية: مستأنفة، والمخصوص بالذم محذوف وجوبًا تقديره: هو؛ أي: الشيطان أو القرين.
﴿وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا (٣٩)﴾.
﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا (٤٠)﴾.
﴿إِنَّ﴾: حرف نصب وتوكيد. ﴿اللَّهَ﴾: اسمها، وجملة ﴿لَا يَظْلِمُ﴾: في محل الرفع خبر ﴿إنْ﴾، وجملة ﴿إنْ﴾: مستأنفة. ﴿مِثْقَالَ ذَرَّةٍ﴾: مفعول به، ومضاف إليه. ﴿وَإِنْ تَكُ﴾: الواو: استئنافية. ﴿إنْ﴾: حرف شرط جازم. ﴿تَكُ﴾: فعل مضارع ناقص مجزوم بـ ﴿إنْ﴾ الشرطية، وعلامة جزمه سكون النون المحذوفة للتخفيف؛ لأن أصله: وإن تكون، فحذفت الضمة للجازم، والواو لالتقاء الساكنين، والنون للتخفيف، فالحذفان الأولان (١) واجبان، والثالث جائز، و ﴿حَسَنَةٌ﴾: بالرفع فاعلها؛ لأنه من كان التامة؛ أي: وإن تحصل حسنة.. يضاعفها لصاحبها، من عشر إلى سبع مئة ضعف، وفي قراءة النصب ﴿حَسَنَةً﴾ خبر تكون، واسمها ضمير مستتر فيها جوازًا يعود على الذرة؛ أي: وإن تك الذرة حسنة.. يضاعفها، حتى يوافيها صاحبها يوم القيامة وهي كالجبل العظيم.
﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا (٤١)﴾.
﴿فَكَيْفَ﴾: ﴿الفاء﴾: استئنافية. ﴿كيف﴾: اسم للاستفهام التوبيخي والتقريعي، في محل الرفع خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: فكيف حالهم أو صنيعهم، والعامل (١) في إذا هو هذا المقدر، أو في محل النصب بفعل محذوف، تقديره: فكيف يكونون أو يصنعون، ويجري فيها الوجهان في نصبها: إما النصب على التشبيه بالحال، كما هو مذهب سيبويه، أو على التشبيه بالظرف، كما هو مذهب الأخفش، وذلك المحذوف هو العامل في إذا أيضًا، وجملة كيف مع العامل المحذوف مستأنفة. ﴿إِذَا﴾: ظرف لما يستقبل من الزمان مجرد عن معنى الشرط. ﴿جِئْنَا﴾: فعل وفاعل، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿إِذَا﴾، والظرف متعلق بالعامل المحذوف في ﴿كيف﴾ كما مر آنفًا؛ أي: فكيف يكونون وقت مجيئنا. ﴿مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿جِئْنَا﴾، أو حال (٢) من ﴿شهيد﴾ على قول من أجاز تقديم حال المجرور عليه. ﴿بِشَهِيدٍ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿جِئْنَا﴾، ﴿وَجِئْنَا﴾: فعل وفاعل، معطوف على ﴿جِئْنَا﴾ الأول. ﴿بِكَ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿جِئْنَا﴾. ﴿عَلَى هَؤُلَاءِ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿شَهِيدًا﴾، وهو حال من الكاف في ﴿بِكَ﴾.
﴿يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا (٤٢)﴾.
(٢) العكبري.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ﴾
﴿يَا أَيُّهَا﴾: جملة ندائية مستأنفة. ﴿الَّذِينَ﴾: في محل الرفع صفة لـ ﴿أي﴾. ﴿آمَنُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول. ﴿لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ﴾: جازم وفعل وفاعل ومفعول، والجملة جواب النداء. ﴿وَأَنْتُمْ سُكَارَى﴾: مبتدأ وخبر، والجملة حال من فاعل ﴿تَقْرَبُوا﴾. ﴿حَتَّى﴾: حرف جر وغاية. ﴿تَعْلَمُوا﴾: فعل وفاعل منصوب بأن مضمرة وجوبًا بعد حتى بمعنى إلى، والجملة في تأويل مصدر مجرور بـ ﴿حَتَّى﴾، تقديره: إلى علمكم ما تقولون، الجار والمجرور متعلق بـ ﴿تَقْرَبُوا﴾. ﴿مَا﴾: موصولة أو موصوفة في محل النصب مفعول ﴿تَعْلَمُوا﴾، ﴿تَقُولُونَ﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة لـ ﴿مَا﴾، أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: ما تقولونه.
﴿وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ﴾.
﴿وَلَا جُنُبًا﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿لا﴾: نافية. ﴿جُنُبًا﴾: حال من فاعل
﴿تَقْرَبُوا﴾، فهو معطوف على جملة قوله ﴿وَأَنْتُمْ سُكَارَى﴾، فكأنه قيل: لا تقربوا
﴿أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً﴾.
﴿أَوْ جَاءَ أَحَدٌ﴾: فعل وفاعل، في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ معطوف على ﴿كُنْتُمْ﴾. ﴿مِنْكُمْ﴾: جار ومجرور صفة لـ ﴿أَحَدٌ﴾. ﴿مِنَ الْغَائِطِ﴾: متعلق بـ ﴿جَاءَ﴾. ﴿أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ﴾: فعل وفاعل ومفعول، في محل الجزم معطوف على ﴿كُنْتُمْ﴾. ﴿فَلَمْ﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة. ﴿لم﴾: حرف نفي وجزم. ﴿تَجِدُوا﴾: فعل وفاعل مجزوم بـ ﴿لم﴾، ﴿مَاءً﴾: مفعول به، ووجد هنا بمعنى وجدان الضالة، فيتعدى لواحد، والجملة في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ الشرطية، معطوفة على قوله: ﴿أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ﴾، على كونها فعل شرط لها.
﴿فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا﴾.
﴿فَتَيَمَّمُوا﴾: ﴿الفاء﴾: رابطة لجواب إن الشرطية وجوبًا؛ لكون الجواب
التصريف ومفردات اللغة
﴿ذِي الْقُرْبَى﴾، ﴿الْقُرْبَى﴾: مؤنث الأقرب، كالفضلى مؤنث الأفضل، وهو من قرُب من باب فعل المضموم، ومعناه الجار القريب الجوار أو النسب، ﴿وَالْجَارِ الْجُنُبِ﴾: ﴿الْجُنُبِ﴾: بضمتين صفة يستوي فيه المفرد والمثنى، والمجموع مذكرًا كان أو مؤنثًا، ومعناه: والجار البعيد القرابة أو الجوار، ﴿وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ﴾: ﴿الْجُنُبِ﴾: بالفتح والسكون الناحية والجانب، ﴿مُخْتَالًا فَخُورًا﴾ المختال: اسم فاعل من اختال يختال، إذا تكبر وأعجب بنفسه، وألفه منقلبة عن ياء؛ لأنه من خال يخيل، وفي "المصباح": وسميت الخيل خيلًا لاختيالها، وهو إعجابها بنفسها مرحًا، ومنه يقال اختال الرجل وبه خيلاء، وهو الكبر والإعجاب انتهى.
﴿فَخُورًا﴾: صيغة مبالغة من الفخر، وهو عد مناقب الإنسان ومحاسنه، وفي "المصباح": أيضًا فخرت به فخرًا من باب نفع، وافتخر به مثله، والاسم الفخار، وهو المباهاة بالمكارم والمناقب من حسب ونسب، وغير ذلك، إما في المتكلم أو في آبائه انتهى. فالمختال: ذو الخيلاء والكبر، يأنف من أقاربه
﴿فَسَاءَ قَرِينًا﴾: القرين: المصاحب الملازم، وهو فعيل بمعنى مفاعل، كالخليط والجليس، والقرين أيضًا الحبل؛ لأنه يقرن به بين البعيرين، ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ﴾: ظلم من باب ضرب، يتعدى لمفعول واحد، وذلك الواحد محذوف تقديره: لا يظلم أحدًا، وينتصب مثقال على أنه نعت لمصدر محذوف؛ أي: ظلمًا وزن ذرة، كما تقول: لا أظلم قليلًا ولا كثيرًا، وقيل: ضمن معنى ما يتعدى لاثنين، فانتصب مثقال على أنه مفعول ثان، والأول محذوف كما قدرنا، والتقدير: لا ينقص أحدًا مثقال ذرة من الخير أو الشر، كما ذكره أبو حيان، والمثقال، أصله المقدار الذي له ثقل مهما قل ثم أطلق على المعيار المخصوص للذهب وغيره، والذرة أصغر ما يدرك من الأجسام، ومن ثم قالوا: إنها النملة، أو رأسها أو الخردلة أو الهباء ما يظهر من نور الشمس الداخل من الكوة، ولذلك روي عن ابن عباس رضي الله عنهما: أنه أدخل يده في التراب، ثم نفخ فيه، فقال: كل واحدة من هؤلاء ذرة.
﴿وَأَنْتُمْ سُكَارَى﴾: السكارى - بفتح السين وضمها - جمع سكران، مؤنثه سكرى، ويقال في لغة بني أسد: سكرانة، وفعله سكر من باب طرب، والسكر لغة: السد، ومنه قيل لما يعرض للمرء من شرب المسكر؛ لأنه يسد ما بين المرء وعقله، وأكثر ما يقال السكر، لإزالة العقل بالمسكر، وقد يقال ذلك؛ لإزالته بالغضب، ونحوه من عشق وغيره، والسكر - بفتح السين وسكون الكاف - حبس الماء، وبالكسر نفس الموضع المسدود، وأما السكر - بفتحهما - فما يسكر به من المشروب، ومنه قوله تعالى: ﴿تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا﴾.
﴿وَلَا جُنُبًا﴾: الجنب يطلق على المفرد والمثنى والجمع والمذكر والمؤنث، كما مر آنفًا؛ لأنه اسم جرى مجرى المصدر الذي هو الإجناب، ويقال رجل جنب، ورجلان جنب، ورجال جنب، وامرأة جنب، وامرأتان جنب،
﴿أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ﴾: الغائط - بزنة فاعل - المنحفض من الأرض كالوادي، وأهل البادية والقرى الصغيرة يقصدونه عند قضاء الحاجة، للستر والاستخفاء عن الناس، ثم عبر به عن نفس الحدث، كناية للاستحياء عن ذكره، وفرقت العرب بين الفعلين منه، فقالت: غاط في الأرض إذا ذهب وأبعد، إلى مكان لا يراه إلا من وقف عليه، وتغوط إذا أحدث.
وقرأ ابن مسعود: ﴿من الغيط﴾ وفيه قولان:
أحدهما: وإليه ذهب ابن جني، أنه مخفف من فيعل، كهين وميت في هين وميت.
الثاني: أنه مصدر على وزن فعل يقال غاط يغيط غيطًا، وغاط يغوط غوطًا، وقال أبو البقاء: هو مصدر تغوط، فكان القياس غوطًا، فقلبت الواو ياء، وإن سكنت وانفتح ما قبلها لخفتها، كأنه لم يطلع على أن فيه لغة أخرى من ذوات الياء حتى ادعى ذلك.
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات أنواعًا من البلاغة والبيان والبديع (١):
منها: التجوز بطلاق الشيء على ما يقاربه في المعنى، في قوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ﴾ أطلق الظلم على انتقاص الأجر، من حيث إن نقصه عن الموعود به قريب في المعنى من الظلم.
ومنها: التنبيه بما هو أدنى على ما هو أعلى في قوله: ﴿مِثْقَالَ ذَرَّةٍ﴾.
ومنها: السؤال عن المعلوم لتوبيخ السامع أو تقريره لنفسه في قوله: ﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا﴾.
ومنها: العدول من بناء إلى بناء لمعنىً في قوله: ﴿بِشَهِيدٍ﴾، ﴿وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا﴾.
ومنها: الجناس المماثل في قوله: ﴿بِشَهِيدٍ﴾، ﴿وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا﴾.
ومنها: التجوز بإطلاق المحل على الحال فيه في قوله: ﴿مِنَ الْغَائِطِ﴾.
ومنها: الكناية في قوله: ﴿أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ﴾.
ومنها: التقديم والتأخير في قوله: ﴿إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا﴾ إلى قوله: ﴿فَتَيَمَّمُوا﴾.
ومنها: الحذف في عدة مواضع مثل: ﴿وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾؛ أي: أحسنوا إلى الوالدين إحسانًا، ذكره أبو حيان في "البحر المحيط".
ومنها: التعريض في قوله: ﴿مُخْتَالًا فَخُورًا﴾ عرض بذلك إلى ذم الكبر المؤدي إلى احتقار الناس وإهانتهم.
ومنها: الإطناب في قوله: ﴿وَبِالْوَالِدَيْنِ﴾، ﴿وَبِذِي الْقُرْبَى﴾ حيث كرر الباء، بخلاف نظيره في سورة البقرة فإنه لم يكرر فيه الباء، وفائدة إعادتها ثانيًا التأكيد؛ لأن (١) هذه الآية في حق هذه الأمة، فالاعتناء بها أكثر، وإعادة الباء تدل على زيادة التأكيد، فناسب ذلك هنا، بخلاف آية البقرة؛ فإنها في حق بني إسرائيل، والمراد بهذه الجملة الأمر بالإحسان، وإن كانت خبرية، كقوله: ﴿فَصَبْرٌ جَمِيلٌ﴾. اهـ "سمين".
ومنها: التغليب في قوله: ﴿وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾، حيث عبر بما دون
ومنها: وضع الظاهر موضع المضمر في قوله: ﴿وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا﴾؛ لأن مقتضى السياق أن يقال وأعتدنا لهم، فوضع الظاهر موضع المضمر، إشعارًا بأن من هذا شأنه فهو كافر بنعمة الله تعالى، ومن كان كافرًا بنعمته فله عذاب يهينه، كما أهان النعمة بالبخل والإخفاء، فتلخص أن الكافرين هنا بمعنى الجاحدين.
ومنها: التكرار في قوله: ﴿وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ حيث كرر ﴿لا﴾، وكذلك الباء إشعارًا (١) بأن الإيمان بكل منهما منتف على حدته، فلو قلت: لا أضرب زيدًا وعمرًا.. احتمل نفي الضرب عن المجموع، ولا يلزم منه نفي الضرب عن كل واحد على انفراده، واحتمل نفيه عن كل واحد بانفراده، وإن قلت: ولا عمرًا.. تعين هذا الثاني.
ومنها: تغليب الخطاب على الغيبة في قوله: ﴿فَتَيَمَّمُوا﴾ لأن الضمير فيه عائد لكل من تقدم، من مريض ومسافر ومتغوط ولامس أو ملامس، وفيه تغليب للخطاب على الغيبة، وذلك أنه تقدم غيبة في قوله: ﴿أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ﴾. وخطاب في: ﴿كُنْتُمْ﴾ و ﴿لمستم﴾، فغلب الخطاب في قوله ﴿كُنْتُمْ﴾ وما بعده عليه، وما أحسن ما أتى به هنا بالغيبة لأنه كناية عما يستحيا منه، فلم يخاطبهم به، وهذا من محاسن الكلام، ومثله: ﴿وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (٨٠)﴾.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (٤٤) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا (٤٥) مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (٤٦) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (٤٧) إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا (٤٨) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (٤٩) انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا (٥٠) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا (٥١) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا (٥٢) أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا (٥٣) أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا (٥٤) فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا (٥٥) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا (٥٦) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا (٥٧)﴾.
المناسبة
٤٤ - قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها (١): أنه تعالى لما ذكر شيئًا من أحوال الآخرة، وأن الكفار إذ ذاك يودون لو تسوى بهم الأرض، ولا يكتمون الله تعالى حديثًا وجاءت هذه
قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها (١): هو أنه تعالى لما رجاهم بقوله: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا...﴾ الآية. خاطب من يرجى إيمانه منهم بالأمر بالإيمان، وقرن بالوعيد البالغ على تركه؛ ليكون أدعى لهم إلى الإيمان والتصديق به، ثم أزال خوفهم من سوء الكبائر السابقة بقوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ...﴾ الآية، وأعلمهم أن تزكيتهم أنفسهم بما لم يزكهم به الله تعالى لا ينفع.
قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها (٢): أنه سبحانه وتعالى لما هدد اليهود على الكفر، وتوعدهم عليه بأشد الوعيد، كطمس الوجوه، والرد على الأدبار، ثم بين أن ذلك الوعيد واقع لا محالة بقوله: ﴿وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا﴾.. ذكر هنا أن هذا الوعيد وشديد التهديد إنما هو لجريمة الكفر، فأما سائر الذنوب سواه فالله تعالى قد يغفرها، ويتجاوز عن زلاتها.
قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر (٣) في الآية السالفة: أن ممن دعوا إلى التصديق بالأنبياء فريق نأى وأعرض عن اتباع الحق، ثم توعد من أعرض بسعير جهنم.. فَصَّل هنا الوعيد بذكر أحوال الفريقين، وما يلاقيه كل منهم من الجزاء يوم القيامة.
(٢) المراغي.
(٣) المراغي.
قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ...﴾ الآية، سبب نزولها (١): ما أخرجه ابن إسحاق عن ابن عباس قال: كان رفاعة بن زيد بن التابوت من عظماء اليهود، وإذا كلم رسول الله - ﷺ -.. لوى لسانه، وقال: أرعنا سمعك يا محمَّد حتى نفقهك، ثم طعن في الإِسلام دعابة، فأنزل الله فيه: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ﴾.
قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا...﴾ الآية، سبب نزولها: ما أخرجه ابن إسحاق عن ابن عباس قال: كلم رسول الله - ﷺ - رؤساء من أحبار اليهود، منهم عبد الله بن صوريا، وكعب بن أسيد، فقال لهم: "يا معشر اليهود اتقوا الله وأسلموا، فوالله إنكم لتعلمون أن الذي جئتكم به الحق"، فقالوا: ما نعرف ذلك يا محمَّد، فأنزل الله فيهم: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا...﴾ الآية.
قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ...﴾ الآية، سبب نزولها: ما أخرجه ابن أبي حاتم والطبراني، عن أبي أيوب الأنصاري قال: جاء رجل إلى النبي - ﷺ -، فقال: إن لي ابن أخ لا ينتهي عن الحرام، قال: "وما دينه؟ "، قال: يصلي ويوحد الله، قال: "استوهب منه دينه، فإن أبى فابتعه منه"، فطلب الرجل ذلك منه فأبى عليه، فأتى النبي - ﷺ - فأخبره فقال: وجدته شحيحًا على دينه، فنزلت ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ...﴾ الآية.
قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ...﴾ الآية، سبب نزولها (٢): ما أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس: كانت اليهود يقدمون صبيانهم يصلون بهم، ويقربون قربانهم، ويزعمون أنهم لا خطايا لهم ولا ذنوب، فأنزل الله: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ﴾ وأخرج ابن جرير نحوه عن عكرمة ومجاهد وأبي مالك وغيرهم.
(٢) لباب النقول.
وأخرج ابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن عباس قال: قال أهل الكتاب: زعم محمَّد أنه أوتي ما أوتي في تواضع وله تسع نسوة، وليس همه إلا النكاح، فأي ملك أفضل من هذا، فأنزل الله تعالى: ﴿أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ...﴾ الآية. وأخرج ابن سعد عن عمر مولى عمرة نحوه بأبسط منه.
التفسير وأوجه القراءة
بعد (١) أن ذكر الله سبحانه وتعالى في سابق الآيات كثيرًا من الأحكام الشرعية، ووعد فاعلها بجزيل الثواب، وأوعد تاركها بشديد العقاب.. انتقل هنا إلى ذكر حال بعض الأمم، الذين تركوا أحكام دينهم، وحرفوا كتابهم، واشتروا الضلالة بالهدى، لينبه الذين خوطبوا بالأحكام المتقدمة إلى أن الله مهيمن عليهم، كما هيمن على من قبلهم فإذا هم قصروا.. أخذهم بالعقاب الذي رتبه على ترك
وقد اكتفى بعض الأمم من الدين ببعض رسومه الظاهرة فقط، كبعض اليهود الذين يكتفون ببعض القرابين وأحكام الدين الظاهرة، وهذا لا يكفي في اتباع الدين، والقيام به على الوجه المصلح للنفوس كما أراده الله تعالى، فأرشدنا الله سبحانه وتعالى إلى أن عمل الرسوم الظاهرة في الدين كالغسل والتيمم لا يغني عنهم شيئًا إذا لم يطهروا القلوب، حتى ينالوا مرضاته، ويكونوا أهلًا لكرامته، ولا يكون حالهم كحال بعض من سبقهم من الأمم.
﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ﴾ كلام مستأنف (١)، مسوق لتعجيب المؤمنين من سوء حالهم، والتحذير من موالاتهم، والخطاب فيه لكل من تتأتى منه الرؤية من المؤمنين، وتوجيهه إليه - ﷺ - هنا مع توجيهه فيما بعد إلى الكل للإيذان بكمال شهرة شناعة حالهم، وأنها بلغت من الظهور إلى حيث يتعجب منها كل من يراها، والرؤية هنا بصرية؛ أي: ألم تنظر أيها المخاطب إلى حال هؤلاء الذين أعطوا حظًّا يسيرًا من علم التوراة، والمراد بهم أحبار اليهود حال كونهم ﴿يَشْتَرُونَ﴾؛ أي: يختارون لأنفسهم ﴿الضَّلَالَةَ﴾ وهي البقاء على اليهودية - على الهدى بعد وضوح الآيات لهم على صحة نبوة محمَّد - ﷺ -، وأنه هو النبي العربي المبشر به في "التوراة" و"الإنجيل"، أو يؤثرون تكذيب محمد - ﷺ - على تصديقه؛ ليأخذوا الرشا على ذلك، وتحصل لهم الرياسة كما قاله الزجاج، وإنما ذكر بلفظ الشراء لأنه استبدال شيء بشيء ﴿و﴾ حالة كونهم ﴿وَيُرِيدُونَ﴾، ويقصدون بما فعلوا من الكتمان، ﴿أَنْ تَضِلُّوا﴾ أيها المؤمنون، وتخطئوا ﴿السَّبِيلَ﴾؛ أي: طريق الحق ودينه الذي لا طريق سواه، كما هم ظنوا، فتكونوا مثلهم، فهم
والتعبير (٢) بالشراء دون الاختيار للإيماء إلى أنهم كانوا فرحين بما عملوا، ظانين أن الخير كل الخير فيما صنعوا، والتعبير بالنصيب يدل على أنهم لم يحفظوا كتابهم كله، إذ هم لم يستظهروه زمن التنزيل كما حفظ "القرآن"، ولم يكتبوا منه نسخًا متعددة في العصر الأول كما فعلنا، حتى إذا ما فقد بعضها، قام مقامه بعض آخر، بل كان عند اليهود نسخةٌ من التوراة، هي التي كبتها موسى عليه السلام ففقدت، ويؤيد هذا قوله تعالى: ﴿فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ﴾.
والخلاصة: أنهم لم يأخذوا الكتاب كله، بل تركوا كثيرًا من أحكامه لم يعملوا بها، وزادوا عليها، والزيادة فيه كالنقص منه، فالتوراة تنهاهم عن الكذب وإيذاء الناس وأكل الربا، وكانوا يفعلون ذلك، وزاد لهم علماؤهم ورؤساؤهم كثيرًا من الأحكام والرسوم الدينية، فتمسكوا بها، وهي ليست من التوراة، ولا مما يعرفونه عن موسى عليه السلام فالذي لم يعملوا به من التوراة قسمان:
أحدهما: ما أضاعوه ونسوه.
وثانيهما: ما حفظوا حكمه، وتركوا العمل به، وهو كثير أيضًا.
(٢) المراغي.
أي: فهو (١) يسبحانه وتعالى الذي يرشدكم إلى ما فيه خيركم وفلاحكم، وهو الذي ينصركم على أعدائكم، بتوفيقكم لصالح العمل، والهداية لأسباب النصر من الاجتماع والتعاون وسائر الوسائل، التي تؤدي إلى القوة، فلا تطلبوا الولاية من غيره، ولا النصرة من سواه، وعليكم باتباع السنن التي وضعها في هذه الحياة، ومنها: عدم الاستعانة بالأعداء، الذين لا يعملون إلا لمصالحهم الخاصة كاليهود وغيرهم.
٤٦ - وقوله: ﴿مِنَ الَّذِينَ هَادُوا﴾ بيان للمراد من الذين أوتوا الكتاب بأنهم يهود ونصارى، وقوله: ﴿وَاللَّهُ أَعْلَمُ﴾: وقوله: ﴿وَكَفَى بِاللَّهِ﴾ جملتان معترضتان بين البيان والمبين، ثم بين المراد من اشترائهم الضلالة بالهدى، فقال: من الذين هادوا ورجعوا عن عبادة العجل قوم ﴿يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ﴾ المذكورة في التوراة ﴿عَنْ مَوَاضِعِهِ﴾؛ أي: عن مواضع تلك الكلم؛ أي: يغيرون الكلم التي أنزل الله في التوراة عن مواضعها وهيأتها، التي ذكرها الله تعالى فيها، كتحريفهم في نعت
فالتحريف يطلق على معنيين (١):
أحدهما: تأويل القول بحمله على غير معناه الذي وضع له، كما يؤولون البشارات التي وردت في النبي - ﷺ -، ويؤولون ما ورد في المسيح، ويحملونه على شخص آخر، ولا يزالون ينتظرونه إلى اليوم.
وثانيهما: أخذ كلمة أو طائفة من الكلم من موضع من الكتاب ووضعها في موضع آخر، وقد حصل هذا في كتب اليهود، خلطوا ما يؤثر عن موسى بما كتب بعده بزمن طويل، وكذلك ما وقع في كلام غيره من أنبيائهم، واعترف بهذا بعض العلماء من أهل الكتاب، وقد كانوا يقصدون بهذا التحريف الإصلاح في زعمهم، وسبب هذا النوع من التحريف أنه وجدت عندهم قراطيس متفرقة من التوراة، بعد فقد النسخة التي كتبها موسى عليه السلام وأرادوا أن يؤلفوا بينها، فجاء فيها ذلك الخلط بالزيادة والتكرار، كما أثبت ذلك بعض الباحثين من المسلمين.
﴿وَيَقُولُونَ﴾؛ أي: ويقول هؤلاء اليهود للنبي - ﷺ -: ﴿سَمِعْنَا﴾ قولك ﴿وَعَصَيْنَا﴾؛ أي: خالفنا غيرك، وذلك أنهم كانوا إذا أمرهم النبي - ﷺ - بأمر.. قالوا في الظاهر: سمعنا قولك، وعصينا غيرك، وأما في الباطن: سمعنا قولك وخالفنا أمرك، وقيل إنهم كانوا يظهرون هذا القول عنادًا واستخفافًا، وقد روي عن مجاهد أنهم قالوا للنبي - ﷺ -: سمعنا قولك ولكن لا نطيعك، وكذلك كانوا يقولون له: ﴿وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ﴾؛ أي: ويقولون في أثناء مخاطبة النبي - ﷺ - خاصة كلامًا ذا وجهين، محتملًا للخير والمدح وللشر والذم، فأما معناه في المدح فإنهم يقولون: واسمع منا كلامنا حالة كونك غير مسمع منا مكروهًا لا يوافقك،
وكذلك كانوا يقولون للنبي - ﷺ - في أثناء خطابهم له: ﴿وَرَاعِنَا﴾ وهي كلمة ذات وجهين، محتملة للخير إذا حملت على معنى اصرف سمعك إلى كلامنا، وأنصت لحديثنا وتفهم، أخذًا من المراعاة بمعنى المحافظة، وللشر إذا حملت على السب بالرعونة والحمق، بمعنى اشملنا وأفدنا رعونتك وحمقك، أو حملت على أنهم يريدون أنك يا محمَّد ترعى أغنامًا لنا، بمعنى كن راعيًا أغنامنا.
﴿لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ﴾؛ أي: يقولون ذلك في مخاطبتهم له - ﷺ - ليًّا وفتلًا وصرفًا بألسنتهم عن الحق، الذي هو أطعنا واسمع وانظرنا إلى الباطل، الذي هو عصينا، واسمع غير مسمع، وراعنا وطعنًا في الدين؛ أي: يقولون ذلك طعنًا في دين الإِسلام، بقولهم لأصحابهم إنما نشتمه ولا يعرف، ولو كان نبيًّا لعرف ذلك، فأطلعه الله تعالى على خبيث ضمائرهم، وما في قلوبهم من العداوة والبغضاء؛ أي: يقولون ذلك لصرف الكلام عن نهجه، وللقدح في دين الإِسلام بالاستهزاء والسخرية، أو المعنى: هم (١) يلوون ألسنتهم فيجعلونها في الظاهر راعنا، وبلَيِّ اللسان وإمالته - راعينا - قصدًا منهم للسباب والشتم والسخرية، أو جعله راعيًا من رعاة الغنم، أو من الرعونة، أو من تحريف اللسان وليِّه في خطابهم النبي - ﷺ - وتحيته بقولهم: السام - الموت - عليكم، يوهمون بفتل اللسان وليه أنهم يقولون له: السلام عليكم، وقد ثبت هذا في صحيح الأحاديث، كما ثبت أن النبي - ﷺ - بعد أن علم منهم ذلك كان يجيبهم بقوله: وعليكم؛ أي: الموت على كل أحد منكم.
قال ابن عطية (٢): وهذا اللي باللسان إلى خلاف ما في القلب موجود حتى
(٢) البحر المحيط.
﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا﴾ باللسان أو بالحال عند سماع شيء من أوامر الله تعالى ونواهيه: ﴿سَمِعْنَا﴾ قولك ﴿وَأَطَعْنَا﴾ أمرك، بدل قولهم سمعنا وعصينا، لعلمهم بصدقك، ولوجود الأدلة والبينات المتظاهرة على ذلك، وكذلك لو قالوا ﴿وَاسْمَعْ﴾ منا ما نقول ﴿وَانْظُرْنَا﴾؛ أي: انظر إلينا أو أمهلنا وانتظرنا بمعنى أفهمنا، ولا تعجل علينا حتى نفهم عنك ما تقول، بدل قولهم: واسمع غير مسمع وراعنا، ﴿لَكَانَ﴾ قولهم هذا ﴿خَيْرًا لَهُمْ﴾ من ذلك السابق عند الله يسبحانه وتعالى، ﴿وَأَقْوَمَ﴾؛ أي: أصوب وأعدل مما قالوه، لما فيه من الأدب والفائدة وحسن العاقبة، وقال أبو حيان: والحاصل أنهم لو تبدلوا بالعصيان الطاعة، ومن الطاعة الإيمان بك، واقتصروا على لفظ اسمع، وتبدلوا براعنا قولهم وانظرنا، فعدلوا عن الألفاظ الدالة على عدم الانقياد، والموهمة إلى ما أمروا به، لكان؛ أي: ذلك القول خيرًا لهم عند الله تعالى وأقوم؛ أي: أعدل وأصوب، وقرأ أبي: ﴿وَأنْظِرْنَا﴾ من الإنظار وهو الإمهال، ﴿وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى؛ أي: خذلهم وطردهم وأبعدهم عن الرحمة والطاعة والهدى، ﴿بِكُفْرِهِمْ﴾، أي: بسبب كفرهم باللهِ وبمحمد - ﷺ - بذلك القول وبغيره؛ إذ مضت سنة الله في البشر بأن الكفر يمنع صاحبه من التفكر والتروي والأدب في الخطاب، ويجعله بعيدًا من الخير والرحمة، فلا يمتُّ - يصل - إليهما بسبب، ولا يصل إليهما برحم ولا نسب.
﴿فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا﴾؛ أي: فهم (١) لا يؤمنون إلا إيمانًا قليلًا غير نافع لهم لا يعتد به، فهو لا يصلح عملًا، ولا يطهر نفسًا، ولا يرقي عقلًا، ولو كان
٤٧ - ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾؛ أي: يا أيها اليهود والنصارى، الذين أعطوا "التوراة" و"الإنجيل" ﴿آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا﴾؛ أي: صدقوا واتبعو "القرآن"، الذي نزلنا على عبدنا محمَّد - ﷺ -، حالة كون "القرآن" المنزل على محمَّد - ﷺ - ﴿مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ﴾؛ أي: موافقًا "للتوراة" و"الإنجيل" اللذين معكم، في الدعوة إلى التوحيد، والأمر بالابتعاد عن الشرك، وفي القصص والمواعيد، والأمر بالعدل بين الناس، والنهي عن المعاصي والفواحش، ما ظهر منها وما بطن، وتلك هي أصول الدين وأركانه، والمقصد الأسمى من إرسال جميع الرسل، ولا خلاف بينهم في ذلك، وإنما الخلاف في التفاصيل، وطرق حمل الناس عليها، وهدايتهم بها، وترقيتهم في معارج الفلاح، بحسب السنن التي وضعها الله تعالى في ارتقاء البشر، بتعاقب الأجيال واختلاف الأزمان.
﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا﴾؛ أي: من قبل أن نمحو تخطيط صورها، من عين وحاجب وأنف وفم، وقرأ الجمهور: ﴿نَطْمِسَ﴾ بكسر الميم، وقرأ أبو رجاء: بضمها وهما لغتان، ﴿فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا﴾؛ أي: فنجعلها على هيئة أقفائها؛ أي: آمنوا من قبل أن يحل بكم العقاب، من طمس الوجوه، والرد على الأدبار، أو من قبل أن نطمس وجوه مقاصدكم، التي توجهتم إليها من كيد الإِسلام، ونردها خاسرة إلى الوراء، بإظهار الإِسلام ونصره عليكم، وقد كان لهم
وجعل بعضهم الرد على الأدبار حسيًّا؛ فقال: نردهم على أدبارهم بالجلاء إلى فلسطين والشام، وهي بلادهم التي جاءوا منها.
وخلاصة المعنى: آمنوا قبل أن نعمي عليكم السبيل، بما نبصِّر المؤمنين شؤونكم، ونغريهم عليكم، فتردوا على أدباركم بأن يكون سعيكم إلى ما ليس بخير لكم.
وقوله: ﴿أَوْ نَلْعَنَهُمْ﴾ فيه التفات؛ لأن الضمير فيه عائد على أهل الكتاب، والمعنى: يا أهل الكتاب آمنوا من قبل أن نلعنكم ونخذلكم بالمسخ والطرد عن رحمة الله، ﴿كَمَا لَعَنَّا﴾ وخذلنا وطردنا ﴿أَصْحَابَ السَّبْتِ﴾ الذين اعتدوا بصيد السمك في يوم السبت، بمسخهم قردة وخنازير وطردهم عن رحمة الله تعالى، وقال ابن عطية: المراد بأصحاب السبت أصحاب أيلة الذين اعتدوا في السبت بالصيد، وكانت لعنتهم أن مُسخوا خنازير وقردة انتهى.
والخلاصة: آمنوا بما نزلنا على محمَّد - ﷺ -، من قبل أن تقعوا في الخيبة والخذلان، وذهاب العزة باستيلاء المؤمنين عليكم، وإجلائكم من دياركم، كما حدث لطائفة منكم، أو بالهلاك كما وقع بقتل طائفة أخرى وهلاكها، ثم هددهم وتوعدهم بقوله: ﴿وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ﴾ سبحانه وتعالى؛ أي: قضاؤه بإيقاع شيء ما، كالعذاب واللعنة، أو المغفرة والرحمة، ﴿مَفْعُولًا﴾؛ أي: نافذًا لا محالة، وهذا إخبار عن جريان عادة الله في الأنبياء المتقدمين، أنه تعالى مهما أخبرهم بإنزال العذاب على الكفار فعل ذلك لا محالة.
والخلاصة: أنه يقول لهم: أنتم تعلمون أن وعيد الله للأمم السالفة قد وقع ولا محالة، فاحترسوا وكونوا على حذر من وعيده لكم، فإنه نافذ لا محالة، لا رادَّ لحكمه، ولا ناقض لأمره، فلا يتعذر عليه شيء يريد أن يفعله،
٤٨ - وقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ﴾؛ أي: لا يغفر الإشراك والكفر به، سواء كان إشراك الربوبية، أو إشراك الألوهية أي: لا يغفر الإشراك لمن
واعلم (١): أن الشرك باللهِ ضربان:
١ - شرك في الألوهية، وهو الشعور بسلطة وراء الأسباب والسنن الكونية لغير الله تعالى.
٢ - شرك في الربوبية، وهو الأخذ بشيء من أحكام الدين بالتحليل والتحريم عن بعض البشر دون الوحي، وهذا ما أشار إليه الكتاب الكريم بقوله: ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ﴾، وقد فسر النبي - ﷺ - اتخاذهم أربابًا، بطاعتهم واتباعهم في أحكام الحلال والحرام.
وقد سرى الشرك في الألوهية والربوبية إلى بعض المسلمين منذ قرون كثيرة، وفي الآية إيماء إلى تسمية أهل الكتاب بالمشركين، وكأنه يقول لهم: لا يغرنكم انتماؤكم إلى الكتب والأنبياء، وقد هدمتم أساس الدين بالشرك الذي لا يغفره الله تعالى بحال.
والحكمة في عدم مغفرة الشرك أن الدين إنما شرع لتزكية النفوس، وتطهير الأرواح، وترقية العقول، والشرك ينافي كل هذا؛ لأنه منتهى ما تهبط إليه العقول، ومنه تتولد سائر الرذائل، التي تفسد الأفراد والجماعات.
وبالتوحيد يعتق المرء من رق العبودية لأحد من البشر، أو لشيء من الأشياء السماوية أو الأرضية، ويكون حرًّا كريمًا، لا يخضع إلا لمن خضعت لسننه الكائنات، بما أقامه من ربط الأسباب بالمسببات.
والخلاصة: أن أرواح الموحدين تكون راقية، لا تهبط بها الذنوب إلى
﴿وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾؛ أي: ويغفر سبحانه وتعالى ما دون ذلك الإشراك المذكور في القبح من المعاصي صغيرة كانت أو كبيرة، عملية كانت أو قولية، تفضلًا منه وإحسانًا ﴿لِمَنْ يَشَاءُ﴾ المغفرة له من عباده الذين أذنبوا ذنبًا دون الشرك، ومشيئة الله سبحانه وتعالى تكون على وفق حكمته، وعلى مقتضى سنته في خليقته، وقد جرت سنته بأن لا يغفر الذنوب التي لا يتوب صاحبها ولا يتبعها بالحسنات، التي تزيل آثارها من نفس فاعلها.
وقصارى ذلك: أن الشرك لإفساده للنفوس يترتب عليه العقاب حتمًا في الدنيا والآخرة، وما عداه لا يصل إلى درجته في إفساد النفوس، فمغفرته ممكنة تتعلق بها المشيئة الإلهية، فمنه ما يكون تأثيره السيء في النفوس قويًّا، ومنه ما يكون ضعيفًا، يغفر بالتأثير بصالح العمل.
﴿وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ﴾؛ أي: ومن يجعل لغير الله شركة مع الله سبحانه وتعالى، قيوم السموات والأرض، سواء أكانت الشركة بالإيجاد، أو بالتحليل والتحريم، ﴿فَقَدِ افْتَرَى﴾ واختلق وفعل ﴿إِثْمًا عَظِيمًا﴾؛ أي: إثما كبيرًا عظيم الضرر غير مغفور إن مات عليه، تُستصغر في جنب عظمته جميع الذنوب والآثام، فهو جدير بأن لا يغفر، وما دونه قد يمحى بالغفران.
٤٩ - والاستفهام في قوله: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ﴾؛ أي: ألم تنظر إليهم يا محمَّد، أو أيها المخاطب استفهام تعجيب؛ أي: إيقاع المخاطب وحمله على التعجب من حالهم المنافية لما هم عليه من الكفر والطغيان، والمراد بهم اليهود والنصارى، الذي يقولون نحن أبناء الله وأحباؤه؛ أي: انظر واعجب يا محمَّد، أو أيها المخاطب من حال اليهود والنصارى، الذين يمدحون أنفسهم؛ أي:
واعلم (٢): أن تزكية النفس تارة تكون بالعمل الذي يجعلها زاكية طاهرة كثيرة الخير والبركة، بتنمية فضائلها وكمالاتها، ولا يكون ذلك إلا بابتعادها عن الشرور والآثام، التي تعوقها عن الخير، وهذه التزكية محمودة وهي التي عناها الله سبحانه وتعالى بقوله: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (٩)﴾.
وتارة تكون بالقول بادعاء الكمال والزكاة، وقد اتفق العقلاء على استهجان تزكية المرء نفسه بالقول ولو حقًّا، ومصدر هذه التزكية الجهل والغرور، ومن آثار هذه السيئة الاستكبار عن قبول الحق، والانتفاع بالنصح، وقد رد الله سبحانه وتعالى عليهم دعواهم الزكاة والطهارة بقوله: ﴿بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ﴾ إضراب عن محذوف تقديره: لا عبرة بتزكيتهم أنفسهم، بأن يقولوا: نحن أبناء الله وأحباؤه، وبأنهم لا يعذبون في النار؛ لأنهم شعب الله المختار، وبتفاخرهم بنسبهم ودينهم، ﴿بَلِ اللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿يُزَكِّي﴾ ويطهر من الذنوب والرذائل من يشاء تطهيره من عباده، من أيِّ شعب كان، ومن أيِّ قبيلة كانت، فيهديهم إلى صحيح
(٢) المراغي.
وقيل: الضمير (١) في ﴿يظلمون﴾ راجع إلى ﴿من﴾ في: ﴿مَنْ يَشَاءُ﴾ باعتبار معناها، والتقدير: يثاب المزكون ولا ينقص من ثوابهم شيء أصلًا، ولكن لا يساعده مقام الوعيد.
وفي الآية موضعان من العبرة (٢):
الأول: أن الله يجزى عامل الخير بعمله ولو كان مشركًا؛ لأن لعمله أثرًا في نفسه يكون مناط الجزاء، فيخفف عذابه عن عذاب غيره، كما ورد في الأحاديث إن بعض المشركين يخفف عنهم العذاب بعمل لهم، فحاتم الطائي
(٢) المراغي.
الثاني: أن يحذر المسلمون الغررو بدينهم، كما كان أهل الكتاب في عصر التنزيل وما قبله، وأن يبتعدوا عن تزكية أنفسهم بالقول، واحتقار من عداهم من المشركين، وأن يعلموا أن الله لا يحابي في نظم الخليقة أحدًا، لا مسلمًا ولا يهوديًّا ولا نصرانيًّا، ألا ترى أن خاتم النبيين قد شج رأسه، وكسرت سنه، وردي في حفرة، من جراء تقصير عسكره فيما يجب من اتباع أمر القائد، وعدم مخالفته، وأن يهتدوا بكتاب الله وبسنته في الأمم، وأن يتركوا وساوس الدجالين المخرفين، الذين يصرفونهم عن الاهتداء بهدي كتابهم، ويشغلونهم بما لم ينزل الله به عليهم سلطانًا، فإنه ما زال ملكهم وما ذهب عزهم.. إلا بتركهم لهدي دينهم، واتباعهم لأولئك الدجالين المخرفين، الذين جعلوا ما ليس من الدين دينًا لهم من العقائد الزائغة والمذاهب الفاسدة والطرائق المخترعة، كما هو كثير في بعض شعوب المسلمين، الذين أذلهم الاستئمار، وشتتهم الكفار؛ لتهاونهم في دينهم، وتساهلهم في عبادة ربهم.
وقرأ الجمهور (١): ﴿أَلَمْ تَرَ﴾ بفتح الراء، وقرأ السلمي بسكونها إجراء للوصل مجرى الوقف، وقيل: هي لغة قوم لا يكتفون بالجزم بحذف لام الفعل، بل يسكنون بعده عين الفعل، وقرأ الجمهور: ﴿وَلَا يُظْلَمُونَ﴾ بالياء، وقرأت طائفة: ﴿ولا تظلمون﴾ بتاء الخطاب.
٥٠ - ثم أكد التعجيب من حالهم الذي فهم من الآية السابقة، فقال: ﴿انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ﴾؛ أي: انظر يا محمَّد، أو أيها المخاطب، متعجبًا إلى حال هؤلاء اليهود، كيف يختلقون على الله الكذب، وينسبونه إليه في قولهم: نحن بررة أزكياء عند الله، ونحن أبناء الله وأحباؤه، وإن الله سبحانه يعاملهم معاملة خاصة بهم، لا كما يعامل سائر عباده، ﴿وَكَفَى بِهِ﴾؛ أي: وكفى هذا الافتراء والكذب
أي: إن تزكية النفس والغرور بالدين والجنس مما يبطىء النفس عن نافع العمل، الذي يثاب عليه الناس، وكفى به إثمًا ظاهرًا؛ لأنه لا أثر له من حق، ولا سمة عليه من صواب، فالله لا يعامل شعبًا معاملة خاصة تغاير سننه التي وضعها في الخليقة، وما مصدر هذه الدعوى إلا الغرور والجهل، وكفى بذلك شرًّا مستطيرًا، ويدخل في مفهوم هذه الآية ما وقع في بعض بلدان المسلمين، لبعض أولاد العلماء والصالحين، الذين يتساهلون في دينهم، ويستخدمون الناس، فلا يصلّون الصلوات الخمس، ويفعلون المحرّمات، ويقولون للعوام: نحن سادة أبناء سادة، وأولياء أبناء أولياء، تطوى لنا الأرض، ونصلي في مكة، ويختلطون مع الأجانب، ويذكرون أذكارًا شيطانية، ويخبرون عن المغيبات، ويذبحون أموال الناس للجن، ويأخذونها منهم غصبًا، فما هؤلاء إلا طواغيت ومردة، فهم أشد ضررًا على المسلمين من اليهود والنصارى، فيا لها مصيبة ابتلي بها المسلمون، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
٥١ - ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ﴾ هذا تعجيب من حالهم، بعد التعجيب الأول، وأجمع المفسرون على أن هذه الآية نزلت في اليهود، وسبب نزولها كما مر (١): أن كعب بن الأشرف وحيي بن أخطب وجماعة معهما، جاؤوا مكة يحالفون قريشًا على محاربة رسول الله - ﷺ -، فقالوا: أنتم أهل كتاب، وأنتم أقرب إلى محمَّد منكم إلينا، فلا نأمن مكركم فاسجدوا لآلهتنا حتى نطمئن إليكم ففعلوا، وقال أبو سفيان: أنحن أهدى سبيلًا أم محمَّد، فقال كعب: ماذا يقول محمَّد؟ قالوا: يأمرنا بعبادة الله وحده وينهى عن الشرك، قال: وما دينكم؟ قالوا: نحن ولاة البيت، نسقي الحاج، ونقري الضيف، ونفك العاني، وذكروا أفعالهم، فقال: أنتم أهدى سبيلًا، قاله ابن عباس.
والخلاصة: ألم تنظر إلى حال هؤلاء الذين أوتوا نصيبًا من الكتاب، كيف حرموا هدايته، وهداية العقل والفطرة، وآمنوا بالدجل والخرافات، وصدقوا بالأصنام والأوثان، ونصروا أهلها من المشركين على المؤمنين المصدقين بنبوة أنبيائهم، والمعترفين بحقية كتبهم، ﴿وَيَقُولُونَ﴾؛ أي: يقول هؤلاء الذين أوتوا نصيبًا من الكتاب؛ أي: اليهود، ﴿لِلَّذِينَ كَفَرُوا﴾ بالله وبمحمد - ﷺ -؛ أي: في حق الذين كفروا وشأنهم، يعني كفار مكة ﴿هَؤُلَاءِ﴾؛ أي: كفار مكة أبو سفيان وأصحابه؛ أي: أنتم يا هؤلاء ﴿أَهْدَى﴾؛ أي: أصوب دينًا وأقوم طريقًا ﴿مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ بمحمد - ﷺ -؛ أي: أنتم أهدى من محمَّد وأصحابه، وذكرهم بلفظ الإيمان ليس من قبل القائلين بل من جهة الله تعالى، تعريفًا لهم بالوصف الجميل، وتخطئة لمن رجح عليهم المتصفين بأقبح القبائح.
أي: يقولون: إن المشركين أرشد طريقة في الدين من المؤمنين، الذين اتبعوا محمدًا - ﷺ -،
٥٢ - ثم بين عاقبة أمرهم وشديد نكالهم، فقال: ﴿أُولَئِكَ﴾ القائلون: إن عبادة الأوثان أفضل من عبادة الله تعالى، هم ﴿الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ﴾ تعالى؛ أي: طردهم الله تعالى، وأبعدهم عن رحمته، ﴿وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى؛ أي: ومن يطرده الله تعالى، ويبعده عن رحمته، ﴿فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا﴾؛ أي: لن تجد له أيها المخاطب ناصرًا ينصره ويدفع عنه العذاب في الدنيا والآخرة، فهو تأكيد لما قبله.
والخلاصة: أولئك القائلون هم (١) الذين اقتضت سنن الله في خلقه أن
٥٣ - ثم انتقل من توبيخهم على الإيمان بالجبت والطاغوت، وتفضيلهم المشركين على المؤمنين، إلى توبيخهم على البخل والأثرة، وطمعهم في أن يعود إليهم الملك في آخر الزمان، وأنه سيخرج منهم من يجدد ملكهم ودولتهم، ويدعو إلى دينهم، فقال: ﴿أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا (٥٣)﴾ وخصت هذه الأشياء الحقيرة المذكورة بقوله: فتيلًا في قوله: ﴿وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا﴾، وهنا بقوله: ﴿نقيرًا﴾ لوفاق النظير من الفواصل، ذكره أبو حيان. و ﴿أم﴾ في قوله: ﴿أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ﴾ بمعنى بل التي للاضراب الإبطالي، وهمزة الإنكار؛ لأن الكلام إنكار على اليهود، وإبطال لقولهم: نحن أولى بالملك والنبوة، فكيف نتبع العرب، وتكذيب لهم في زعمهم أن الملك يعود إليهم في آخر الزمان، فيخرج منهم من يجدد ملكهم ودولتهم، و ﴿إذًا﴾ في قوله: ﴿فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ﴾ حرف جواب وجزاء لشرط مقدر، ورُفع الفعل بعدها، وإن كان مرجوحًا عند النحاة، لأن القراءة سنة متبعة، والفاء: للسببية الجزائية لذلك الشرط المحذوف. وقرىء - شاذًا على الأرجح -: بحذف النون، فقوله: ﴿أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ﴾؛ أي: بل ألهم نصيب من الملك، يعني ليس لليهود ملك، ولو كان لهم ملك.. إذًا لم يؤتوا أحدًا شيئًا لشدة حرصهم وبخلهم؛ أي: إنهم لا حظ لهم من الملك، إذ هم فقدوه بظلمهم وطغيانهم، وإيمانهم بالجبت والطاغوت.
والمعنى (١): ليس لهم من الملك شيء البتة، ولو كان لليهود نصيب منه، فيتسبب عن ذلك أنهم لا يعطون واحدًا من الناس قدر ما يملأ النقير، وهو النقرة
والخلاصة (١): أن اليهود ذوو أثرة وشح، يشق عليهم أن ينتفع بهم غير اليهودي، فإذا صار لهم ملك.. حرصوا على منع الناس أدنى النفع وأحقره، ومن كانت هذه حاله حرص أشد الحرص على أن لا يظهر نبي من العرب، يكون لأصحابه ملك يخضع لهم فيه بنو إسرائيل، ولا تزال هذه حالهم إلى اليوم، فإن تم لهم ما يسعون إليه من إعادة ملكهم إلى بيت المقدس وما حوله.. فإنهم يطردون المسلمين والنصارى من تلك الأرض المقدسة، ولا يعطونهم منها نقيرًا، ولكن هل يعود الملك كما يريدون، ليس في الآية ما يثبت ذلك، ولا ما ينفيه، وإنما الذي فيها بيان طباعهم فيه لو حصل.
وقرأ عبد الله بن مسعود وابن عباس ﴿فإذًا لا يؤتوا﴾ بحذف النون على
إعمال إذًا.
٥٤ - ثم انتقل من توبيخهم بالبخل إلى توبيخهم بالحسد، فقال: ﴿أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾ وأم هنا بمعنى همزة الإنكار، وبل التي للإضراب الانتقالي (٢)؛ لأنه انتقل من توبيخهم بما سبق إلى توبيخهم بالحسد الذي هو شر الرذائل وأقبحها؛ أي: بل أتريد اليهود أن يحسدوا الناس؛ أي: محمدًا - ﷺ - وأصحابه على ما آتاهم الله تعالى؛ أي: على العطاء الذي أعطاهم إياه من النبوة والكتاب، وازدياد العز والنصر يومًا فيومًا، وكثرة النساء له - ﷺ -، وكانت له يومئذ تسع نسوة، فقالت اليهود: لو كان محمد نبيًّا.. لشغله أمر النبوة
(٢) الجمل.
والخلاصة: أنهم إن يحسدوه على ما أوتي.. فقد أخطؤوا؛ إذ ليس هذا ببدع منا؛ لأنا قد آتينا مثل هذا من قبل لآل إبراهيم، والعرب منهم فإنهم من ذرية إسماعيل ولده، فلم لم تعجبوا مما أوتي آل إبراهيم، وتعجبون مما أوتي محمد - ﷺ -؟ ولم لا يكون مستبعدًا في حق هؤلاء، وكان مستبعدًا في حق محمَّد - ﷺ -؟ وقوله: ﴿مُلْكًا﴾ قال الرازي: الملك إما ظاهرًا وباطنًا وهو: ملك الأنبياء، وإما ظاهرًا فقط وهو: ملك السلاطين، وإما باطنًا فقط وهو: ملك العلماء، والثلاثة كلها موجودة في بني إسرائيل. وفي الآية (١) رمز إلى أنه سيكون للمسلمين ملك عظيم يتبع النبوة والحكمة، وقد ظهرت تباشيره عند نزول الآية بالمدينة، فقد قويت شوكتهم وأخذ أمرهم يعظم رويدًا رويدًا.
والحاصل: أن اليهود إما مغرورون مخدوعون، يظنون أن فضل الله لا
٥٥ - ﴿فَمِنْهُمْ﴾؛ أي: فمن جنس هؤلاء الحاسدين وآبائهم ﴿مَنْ آمَنَ﴾، وصدق ﴿بِهِ﴾؛ أي: بما أوتي آل إبراهيم ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ﴾؛ أي: من أعرض عن الإيمان بما أوتي آل إبراهيم، وكفر به، وأنت يا محمَّد لا تتعجب مما عليه هؤلاء القوم الحاسدون، فإن أحوال جميع الأمم مع جميع الأنبياء هكذا كانت، وهذا تسلية من الله تعالى لرسوله - ﷺ -، ليكون أشد صبرًا على ما يناله من قبلهم من الأذى والجحود والإنكار، ﴿فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا (٦)﴾ وقرأ ابن مسعود وابن عباس وابن جبير وعكرمة وابن يعمر والجحدري: ﴿ومنهم من صُد عنه﴾ بضم الصاد مبنيًّا للمفعول، وقرأ أبي وأبو الحوراء وأبو رجاء والحوفي: بكسر الصاد مبنيًّا للمفعول، والمضاعف المدغم الثلاثي يجوز فيه إذا بني للمفعول ما جاز في باع إذا بني للمفعول، فتقول: حُب زيد بضم الحاء، وحِب بكسرها، ويجوز الإشمام فيه أيضًا، ﴿وَكَفَى بِجَهَنَّمَ﴾؛ أي: وكفى هؤلاء الكفار المتقدمين والمتأخرين عذاب جهنم، من جهة كونها ﴿سَعِيرًا﴾؛ أي: نارًا مسعرة متقدمة عليهم في الآخرة.
والمعنى: إن نصرف عنهم بعض العذاب في الدنيا.. فكفاهم ما أعد لهم من سعير جهنم في العقبى؛ لأنهم آثروا اتباع الباطل والعمل بما يزين لهم الشيطان، ولا يزال ذلك دأبهم حتى يرديهم في دار الشقاء والنكال، وهي جهنم وبئس القرار.
٥٦ - ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا﴾؛ أي: إن الذين جحدوا ما أنزلت على رسولي محمَّد - ﷺ -، من آياتي الدالة على توحيدي، وصدق رسولي محمَّد - ﷺ -، ﴿سَوْفَ نُصْلِيهِمْ﴾ وندخلهم ﴿نَارًا﴾ مسعرة تشويهم، وتحرق أجسامهم، حتى تفقدها الحس والإدراك. وقرأ حميد: ﴿نَصليهم﴾ بفتح النون من صليت، وقرأ سلام ويعقوب: ﴿نصليهُم﴾ بضم الهاء، ﴿كُلَّمَا نَضِجَتْ﴾ واحترقت ﴿جُلُودُهُمْ﴾ وأجسامهم وفقدت التماسك الحيوي وبعدت عن الحس والحياة، ﴿بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا﴾؛ أي:
وعن أبي هريرة رضي الله عنه يرفعه: "ما بين منكبي الكافر في النار مسيرة ثلاثة أيام للراكب المسرع" متفق عليه.
وعنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله - ﷺ -: "ضرس الكافر - أو قال: ناب الكافر - مثل أحد، وغلظ جلده مسيرة ثلاثة أيام"، رواه مسلم. ثم بين السبب في التبدل فقال: ﴿لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ﴾؛ أي: لكي يجدوا ألم العذاب، ويدوم لهم ذوق العذاب؛ لأن الإحساس يصل إلى النفس بواسطة الألم في الجلد.
وفي التعبير بـ ﴿يذوقوا﴾ إيماء إلى أن إحساسهم بذلك العذاب يكون كإحساس الذائق المذوق، لا يدخل فيه نقصان ولا زوال بسبب ذلك الاحتراق.
قال الدكتور عبد العزيز (١) بن إسماعيل باشا رحمه الله تعالى في كتابه "الإِسلام والطب الحديث": والحكمة في تبديل جلود الكفار أن أعصاب الألم هي في الطبقة الجلدية، وأما الأنسجة والعضلات والأعضاء الداخلية: فالإحساس فيها ضعيف، ولذلك يعلم الطبيب أن الحرق البسيط الذي لا يتجاوز الجلد يحدث ألمًا شديدًا، بخلاف الحرق الشديد الذي يتجاوز الجلد إلى الأنسجة؛ لأنه مع شدته وخطره لا يحدث ألمًا كثيرًا، فالله تعالى يقول لنا إن النار كلما أكلت الجلد الذي فيه الأعصاب.. نجدده كي يستمر الألم بلا انقطاع، ويذوقوا العذاب الأليم، وهنا تظهر حكمة الله قبل أن يعرفها الإنسان، وكان الله عزيزًا حكيمًا انتهى.
ثم أكد سابق الكلام وبين علته فقال: ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿كَانَ عَزِيزًا﴾؛ أي: قادرًا غالبًا لا يمتنع عليه شيء مما يريده مما توعد به أو وعد، ﴿حَكِيمًا﴾؛ أي: لا يفعل إلا الصواب، فيعاقب من يعاقبه على وفق حكمته، ومن حكمته أن ربط الأسباب بالمسببات، فلا يستطيع أحد أن يغلبه على أمره،
٥٧ - ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا﴾ بما جاء به محمَّد - ﷺ -، ﴿وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾؛ أي: امتثلوا المأمورات، واجتنبوا المنهيات. ﴿سَنُدْخِلُهُمْ﴾ في الآخرة ﴿جَنَّاتٍ﴾؛ أي: بساتين ﴿تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا﴾؛ أي: تسيل من تحت أشجارها، وبين قصورها ﴿الْأَنْهَارُ﴾ من الماء، واللبن والخمر والعسل، حالة كونهم ﴿خَالِدِينَ فِيهَا﴾؛ أي: مقدرين الخلود في تلك الجنات ﴿أَبَدًا﴾؛ أي: مدة لا نهاية لها ولا انقضاء؛ لأن نعيم الجنة لا ينقطع كعذاب النار، وإنما عبر هنا بالسين في قوله: ﴿سَنُدْخِلُهُمْ﴾، وفي الكفار بسوف في قوله: ﴿سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا﴾.. إشعارًا بقصر مدة التنفيس على سبيل تقريب الخير من المؤمن وتبشيره به، وهذا الكلام راجع إلى قوله: ﴿فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ﴾ لف ونشر مشوش على حد قوله: ﴿يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ﴾ على عادته تعالى من ذكر الوعيد مع الوعد وعكسه.
والمعنى: أن الذين آمنوا بالله وصدقوا برسوله سيدخلون جنات يتمتعون بنعيمها العظيم كفاء ما أخبتوا إلى ربهم، وقدموا من عمل صالح؛ لأن الإيمان وحده لا يكفي لتزكية النفس وإعدادها لهذا الجزاء، بل لا بد معه من عمل صالح يشعر به المرء بالقرب من ربه، والشعور بهيبته وجلاله، ﴿لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ﴾؛ أي: لهم في تلك الجنات أزواج مبرآت من العيوب الجسمانية، كالحيض والنفاس مثلًا، ومن العيوب الخلقية، فليس فيهن ما يوحشهم منهن، ولا ما يكدر صفوهم، وبذا تكمل سعادتهم، ويتم سرورهم في تلك الحياة، التي لا نعرف كنهها، وإنما نفهمها على طريق التمثيل وقياس الغائب على الشاهد، ﴿وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا﴾؛ أي: ظلًّا كثيفًا كنينًا، لا يدخله ما يدخل ظل الدنيا من الحر والسموم، ولا تنسخه شمس، أو المعنى: ونجعلهم في مكان لا حر فيه ولا قر، وفي ذلك إيماء إلى تمام النعمة والتمتع لهم برغد العيش، وكمال الرفاهية، فإن قلت (١): إذا لم يكن في الجنة شمس يؤذي حرها، فما فائدة وصفها بالظل الظليل؟
وقرأ النخعي (١) وابن وثاب: ﴿سيدخلهم﴾ بالياء، وكذا ﴿ويدخلهم ظلًّا﴾ فمن قرأ بالنون وهم الجمهور.. لاحظ قوله في وعيد الكفار: ﴿سوف نصليهم﴾، ومن قرأ بالياء.. لاحظ قوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾، فأجراه على الغيبة.
الإعراب
﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (٤٤)﴾.
﴿أَلَمْ﴾ الهمزة للاستفهام التعجبي، ﴿لم ترَ﴾ فعل وجازم، وفاعله ضمير يعود على المخاطب، أو على النبي - ﷺ -، ورأى هنا بصرية، تتعدى إلى مفعول واحد، وذلك الواحد عدت إليه بـ ﴿إِلَى﴾ لأنها ضمنت معنى النظر، والجملة مستأنفة. ﴿إِلَى الَّذِينَ﴾: جار ومجرور في محل النصب مفعول ﴿تَرَ﴾ متعلق به. ﴿أُوتُوا﴾: فعل ونائب فاعل، ﴿نَصِيبًا﴾: مفعول ثان، والجملة صلة الموصول، ﴿مِنَ الْكِتَابِ﴾: جار ومجرور صفة لـ ﴿نَصِيبًا﴾، ﴿يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ﴾: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة في محل النصب حال من ضمير ﴿أُوتُوا﴾، أو من الموصول. ﴿وَيُرِيدُونَ﴾؛ فعل وفاعل، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة ﴿يَشْتَرُونَ﴾. ﴿أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ﴾: ناصب وفعل وفاعل ومفعول به، والجملة في تأويل مصدر منصوب على المفعولية لـ ﴿يُرِيدُونَ﴾؛ أي: ويريدون ضلالتكم السبيل.
﴿وَاللَّهُ أَعْلَمُ﴾: مبتدأ وخبر، والجملة معترضة لا محل لها من الإعراب؛ لاعتراضها بين البيان الذي هو قوله: ﴿مِنَ الَّذِينَ هَادُوا﴾، وبين المبين الذين هو قوله: ﴿إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ﴾. ﴿بِأَعْدَائِكُمْ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿أَعْلَمُ﴾. ﴿وَكَفَى﴾: الواو عاطفة، ﴿كفى بالله﴾ فعل وفاعل والباء زائدة. ﴿وَلِيًّا﴾: منصوب على التمييز أو حال، والجملة معطوفة على جملة قوله: ﴿وَاللَّهُ أَعْلَمُ﴾ على كونها معترضة. ﴿وَكَفَى﴾: الواو عاطفة. ﴿كفى بالله﴾: فعل وفاعل. ﴿نَصِيرًا﴾: تمييز أو حال، والجملة معطوفة على كونها معترضة. ﴿مِنَ الَّذِينَ﴾: جار ومجرور خبر مقدم لمبتدأ محذوف، تقديره: من الذين هادوا قوم يحرفون الكلم. ﴿هَادُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، ﴿يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ﴾: فعل وفاعل ومفعول، ﴿عَنْ مَوَاضِعِهِ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿يُحَرِّفُونَ﴾، والجملة صفة لمبتدأ محذوف، تقديره: قوم محرفون الكلم عن مواضعه كائن من الذين هادوا، والجملة في محل الجر بدل من قوله: ﴿الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ﴾.
﴿وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ﴾.
﴿وَيَقُولُونَ﴾: فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة قوله: ﴿يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ﴾، وقوله: ﴿سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا﴾: مقول محكي لـ ﴿يقولون﴾ منصوب به، وإن شئت قلت: ﴿سَمِعْنَا﴾: فعل وفاعل والجملة في محل النصب مقول لـ ﴿يقولون﴾، وكذلك جملة: ﴿وَعَصَيْنَا﴾: معطوف عليه، ﴿وَاسْمَعْ﴾: الواو عاطفة. ﴿اسمع﴾: فعل أمر وفاعله ضمير يعود على محمَّد - ﷺ -، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة ﴿سَمِعْنَا﴾، ﴿غَيْرَ مُسْمَعٍ﴾: حال ومضاف إليه، أعني: حالًا من فاعل ﴿اسمع﴾، ومفعول ﴿اسمع﴾، محذوف تقديره: اسمع منا كلامنا، وكذلك المفعول الثاني لـ ﴿اسمع﴾ محذوف تقديره: غير مسمع مكروهًا، ﴿وَرَاعِنَا﴾: الواو عاطفة. ﴿راعنا﴾: فعل أمر ومفعول به
﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا﴾.
﴿وَلَوْ﴾: ﴿الواو﴾: استئنافية، ﴿لو﴾ حرف شرط غير جازم، ﴿أَنَّهُمْ﴾: ﴿أنَّ﴾ حرف نصب ومصدر، والهاء اسمها. ﴿قَالُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة في محل الرفع خبر ﴿أن﴾ تقديره: قائلون، وجملة ﴿أن﴾ من اسمها وخبرها في تأويل مصدر مرفوع على الفاعلية، لفعل محذوف هو فعل الشرط لـ ﴿لو﴾، تقديره: ولو ثبت قولهم؛ لأن ﴿لو﴾ الشرطية لا يليها إلا الفعل. ﴿سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا﴾: مقول محكي لـ ﴿قَالُوا﴾، وإن شئت قلت: ﴿سَمِعْنَا﴾ فعل وفاعل، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾، وكذلك جملة ﴿وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا﴾: معطوفات على ﴿سَمِعْنَا﴾، ﴿لَكَانَ﴾: اللام رابطة لجواب ﴿لَوْ﴾ الشرطية. ﴿كان﴾: فعل ماض ناقص، واسمها ضمير يعود على القول الثاني، ﴿خَيْرًا﴾: خبر كان، وجملة كان جواب ﴿لو﴾ لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿لو﴾ الشرطية مستأنفة، ﴿لَهُمْ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿خَيْرًا﴾، ﴿وَأَقْوَمَ﴾: معطوف على ﴿خَيْرًا﴾. ﴿وَلَكِنْ﴾: ﴿الواو﴾: استئنافية، ﴿لكن﴾ حرف استدراك، ﴿لَعَنَهُمُ اللَّهُ﴾: فعل ومفعول وفاعل، والجملة الفعلية جملة استدراكية لا محل لها من الإعراب، ﴿بِكُفْرِهِمْ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿لعن﴾، ﴿فَلَا﴾: ﴿الفاء﴾ حرف عطف وتفريع؛ لكون ما قبلها علة لما بعدها، ﴿لا﴾ نافية، ﴿يُؤْمِنُونَ﴾: فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة ﴿لَعَنَهُمُ﴾، على كونها جملة استدراكية لا محل لها من الإعراب، ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء، ﴿قَلِيلًا﴾:
ما استثنَتِ (إلّا) مَعْ تَمَامٍ يَنتَصبْ | وَبَعْدَ نَفْيٍ أَوْ كَنَفْيٍ انتُخِبْ |
إِتْباعُ مَا اتَّصَلَ وَانصِبْ ما انْقَطَعْ | وَعَنْ تَمِيْمٍ فِيْهِ إِبْدَالٌ وَقَعْ |
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (٤٧)﴾.
﴿يَا أَيُّهَا﴾: ﴿يا﴾: حرف نداء؛ أي: منادى نكرة مقصودة، ﴿ها﴾: حرف تنبيه زائد، ﴿الَّذِينَ﴾: صفة لـ ﴿أي﴾ وجملة النداء مستأنفة، ﴿أُوتُوا الْكِتَابَ﴾: فعل مغير ونائب فاعل ومفعول ثان، والجملة صلة الموصول، ﴿آمِنُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة جواب النداء لا محل لها من الإعراب، ﴿بِمَا﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿آمِنُوا﴾، ﴿نَزَّلْنَا﴾: فعل وفاعل والمفعول محذوف تقديره نزلناه، وهو العائد على ما الموصولة، والجملة صلة لما أو صفة لها، ﴿مُصَدِّقًا﴾: حال من ما الموصولة أو من الضمير المحذوف، ﴿لِمَا﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿مُصَدِّقًا﴾، ﴿مَعَكُمْ﴾: ظرف ومضاف إليه متعلق بمحذوف صلة لما أو صفة لها، ﴿مِنْ قَبْلِ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿آمِنُوا﴾، ﴿أَنْ نَطْمِسَ﴾: ناصب وفعل مضارع منصوب وفاعله ضمير يعود على ﴿اللَّهِ﴾، ﴿وُجُوهًا﴾: مفعول به والجملة الفعلية في تأويل مصدر مضاف إليه لـ ﴿قَبْلِ﴾، تقديره آمنوا من قبل طمسنا وجوهًا منكم، ﴿فَنَرُدَّهَا﴾: الفاء عاطفة، ﴿نردها﴾ فعل ومفعول وفاعله ضمير يعود على ﴿اللَّهِ﴾، والجملة في محل الجر معطوفة على جملة ﴿نَطْمِسَ﴾، تقديره فردّنا إياها، ﴿عَلَى أَدْبَارِهَا﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿نرد﴾، ﴿أَوْ نَلْعَنَهُمْ﴾: فعل
﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا﴾.
﴿إِنَّ﴾: حرف نصب، ﴿اللَّهَ﴾: اسمها، ﴿لَا﴾: نافية، ﴿يَغْفِرُ﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على ﴿اللَّهَ﴾، والجملة في محل الرفع خبر ﴿إنَّ﴾، وجملة ﴿إنَّ﴾ مستأنفة، ﴿أَنْ يُشْرَكَ﴾: ناصب وفعل مغير، ﴿بِهِ﴾: جار ومجرور في محل الرفع نائب فاعل، والجملة الفعلية في تأويل مصدر منصوب على المفعولية، تقديره: إن الله لا يغفر الإشراك به. ﴿وَيَغْفِرُ﴾: الواو استئنافية، ﴿يَغْفِرُ﴾: فعل مضارع وفاعله ضمير يعود على ﴿اللَّهَ﴾، والجملة مستأنفة، ﴿مَا﴾: موصولة أو موصوفة في محل النصب مفعول ﴿يَغْفِرُ﴾، ﴿دُونَ ذَلِكَ﴾: ظرف ومضاف إليه، والظرف صلة لـ ﴿ما﴾ أو صفة لها، ﴿لِمَنْ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿يغفر﴾، ﴿يَشَاءُ﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على ﴿اللَّهَ﴾، والمفعول محذوف، تقديره لمن يشاء غفرانه، والجملة صلة من الوصولة. ﴿وَمَنْ﴾: الواو استئنافية. ﴿مَنْ﴾: اسم شرط في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط أو الجواب أو هما، ﴿يُشْرِكْ﴾: فعل مضارع مجزوم بـ ﴿مَنْ﴾ على كونه فعل شرط لها، وفاعله ضمير يعود على ﴿مَنْ﴾، ﴿بالله﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿يُشْرِكْ﴾، ﴿فَقَدِ﴾: الفاء رابطة لجواب ﴿مَنْ﴾ وجوبًا؛ لكون الجواب مقرونًا بـ ﴿قد﴾، ﴿قد﴾ حرف تحقيق. ﴿افْتَرَى﴾: فعل ماض في محل الجزم بـ ﴿مَنْ﴾ على كونه جوابًا لها، وفاعله ضمير يعود على ﴿مَنْ﴾، ﴿إِثْمًا﴾: مفعول
﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (٤٩)﴾.
﴿أَلَمْ﴾: الهمزة للاستفهام التعجبي. ﴿لم تر﴾: فعل مضارع وجازم، وفاعله ضمير يعود على المخاطب، والجملة مستأنفة، ﴿إِلَى الَّذِينَ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿تَرَ﴾، ﴿يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة صلة الموصول، ﴿بَلِ﴾ حرف للإضراب الإبطالي، أضرب به على محذوف تقديره ولا عبرة بتزكيتهم أنفسهم بل الله يزكي من يشاء، ﴿اللَّهُ﴾: مبتدأ، ﴿يُزَكِّي﴾: فعل مضارع وفاعله ضمير يعود على ﴿اللَّهُ﴾: والجملة خبر المبتدأ، والجملة الإسمية معطوفة على ذلك المحذوف، ﴿مَنْ﴾ اسم موصول في محل النصب مفعول به، ﴿يَشَاءُ﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على ﴿مَنْ﴾، والمفعول محذوف تقديره من يشاء تزكيته، والجملة صلة ﴿مَنْ﴾ الموصولة، ﴿وَلَا﴾: الواو عاطفة أو استئنافية، ﴿لا﴾ نافية. ﴿يُظْلَمُونَ﴾: فعل ونائب فاعل، ﴿فَتِيلًا﴾: مفعول ثان أو صفة لمصدر محذوف تقديره: ظلمًا قدر فتيل، والجملة الفعلية إما معطوفة على محذوف تقديره: فيعاقبون ولا يظلمون فتيلًا أو مستأنفة.
﴿انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا (٥٠)﴾.
﴿انْظُرْ﴾: فعل أمر وفاعله ضمير يعود على محمَّد، أو على كل مخاطب، والجملة مستأنفة، ﴿كَيْفَ﴾: اسم للاستفهام التعجبي في محل النصب بـ ﴿يَفْتَرُونَ﴾، مبني على الفتح لشبهه بالحرف شبهًا معنويًّا، ونصبه إما على التشبيه بالحال كما هو مذهب سيبويه، أو على التشبيه بالظرف كما هو مذهب الأخفش، ﴿يَفْتَرُونَ﴾: فعل وفاعل، والجملة في محل النصب مفعول ﴿انْظُرْ﴾، ﴿عَلَى اللَّهِ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿يَفْتَرُونَ﴾، ﴿الْكَذِبَ﴾: مفعول ﴿يَفْتَرُونَ﴾، ﴿وَكَفَى بِهِ﴾: فعل وفاعل، والباء زائدة والجملة مستأنفة، ﴿إِثْمًا﴾: منصوب على التمييز أو على الحال، ﴿مُبِينًا﴾: صفة له.
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ
﴿أَلَمْ تَرَ﴾: الهمزة للاستفهام التعجبي، ﴿لم تر﴾: جازم وفعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على محمَّد - ﷺ -، أو على المخاطب، والجملة جملة إنشائية مستأنفة. ﴿إِلَى الَّذِينَ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿تَرَ﴾، ﴿أُوتُوا نَصِيبًا﴾: فعل ونائب فاعل ومفعول ثان، والجملة صلة الموصول، ﴿مِنَ الْكِتَابِ﴾: صفة لـ ﴿نَصِيبًا﴾. ﴿يُؤْمِنُونَ﴾: فعل وفاعل، والجملة في محل النصب حال من واو ﴿أُوتُوا﴾، ﴿بِالْجِبْتِ﴾: متعلق بـ ﴿يُؤْمِنُونَ﴾، ﴿وَالطَّاغُوتِ﴾: معطوف على الجبت. ﴿وَيَقُولُونَ﴾: فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة ﴿يُؤْمِنُونَ﴾، ﴿لِلَّذِينَ﴾: متعلق بـ ﴿يَقُولُونَ﴾، ﴿كَفَرُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، ﴿هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا﴾: مقول محكي لـ ﴿يقولون﴾، وإن شئت قلت: ﴿هَؤُلَاءِ أَهْدَى﴾: مبتدأ وخبر، والجملة في محل النصب مقول يقولون، ﴿مِنَ الَّذِينَ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿أَهْدَى﴾، ﴿آمَنُوا﴾: فعل وفاعل والجملة صلة الموصول، ﴿سَبِيلًا﴾: تمييز محول عن المبتدأ أعني هؤلاء منصوب باسم التفضيل أعني ﴿أَهْدَى﴾.
﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا (٥٢)﴾.
﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ﴾: مبتدأ وخبر والجملة مستأنفة، ﴿لَعَنَهُمُ اللَّهُ﴾: فعل ومفعول وفاعل والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير المفعول. ﴿وَمَن﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية. ﴿مَنْ﴾ اسم شرط في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط أو جملة الجواب أو هما، ﴿يَلْعَنِ اللَّهُ﴾: فعل وفاعل مجزوم بمن على كونه فعل الشرط لها، والمفعول محذوف تقديره يلعنه، ﴿فَلَنْ﴾ الفاء رابطة لجواب ﴿مَنْ﴾ الشرطية وجوبًا لكون الجواب مقرونًا بـ ﴿لن﴾ ﴿لن تجد﴾ فعل وناصب وفاعله ضمير يعود على محمَّد، أو على المخاطب، والجملة في محل الجزم بـ ﴿مَنْ﴾ على كونه جوابًا لها، وجملة ﴿مَنْ﴾ الشرطية مستأنفة. ﴿لَهُ﴾: جار ومجرور في محل النصب على كونه مفعولًا ثانيًا لـ ﴿تَجِدَ﴾، ﴿نَصِيرًا﴾: مفعول أول له.
﴿أَمْ﴾: منقطعة بمعنى همزة الإنكار وبل التي للإضراب الإبطالي أو الانتقالي، لا في الكلام من الانتقال من ذمهم بتزكيتهم أنفسهم، إلى ذمهم بادعائهم نصيبًا من الملك، وبخلهم المفرط وشحهم البالغ، ﴿لَهُمْ﴾: جار ومجرور خبر مقدم، ﴿نَصِيبٌ﴾: مبتدأ مؤخر، والجملة مستأنفة أو معطوفة (١) على محذوف، تقديره: أهم أولى بالنبوة ممن أرسلته، أم لهم نصيب من الملك؟ فإذن لا يؤتون الناس نقيرًا، ﴿مِنَ الْمُلْكِ﴾: جار ومجرور صفة لـ ﴿نَصِيبٌ﴾، ﴿فَإِذًا﴾ ﴿الفاء﴾ عاطفة سببية، ﴿إِذًا﴾: حرف جواب ملغاة هنا غير عاملة لدخول فاء العطف عليها، ﴿لَا﴾: نافية، ﴿يُؤْتُونَ النَّاسَ﴾: فعل وفاعل ومفعول أول، ﴿نَقِيرًا﴾: مفعول ثان. والجملة الفعلية معطوفة على الجملة الإسمية؛ أعني قوله: ﴿أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ﴾، وإن شئت قلت: ﴿الفاء﴾: رابطة الجواب لشرط محذوف تقديره: إن كان لهم نصيب من الملك.. فإذًا لا يؤتون الناس نقيرًا، ﴿إذًا﴾: حرف نصب وجواب، ﴿لا﴾: نافية، ﴿يُؤْتُونَ﴾: فعل مضارع منصوب بـ ﴿إذًا﴾، وعلامة نصبه حذف النون الثابتة تبعًا للقراءة؛ لأن القراءة سنة متبعة، بدليل حذفها في القراءة الشاذة، و ﴿الواو﴾ فاعل، وجملة الشرط المقدر مستأنفة.
﴿أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا﴾.
﴿أَمْ﴾: منقطعة أيضًا، بمعنى همزة الإنكار وبل التي للإضراب الانتقالي، ﴿يَحْسُدُونَ النَّاسَ﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة مستأنفة، ﴿عَلَى مَا﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿يَحْسُدُونَ﴾، ﴿آتَاهُمُ اللَّهُ﴾: فعل ومفعول أول وفاعل، والمفعول الثاني محذوف تقديره إياه، والجملة صلة لـ ﴿ما﴾ أو صفة لها، ﴿مِنْ فَضْلِهِ﴾: جار ومجرور حال من الضمير المحذوف. ﴿فَقَد﴾: ﴿الفاء﴾ تعليلية.
﴿فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا (٥٥)﴾.
﴿فَمِنْهُمْ﴾: ﴿الفاء﴾ حرف عطف وتفريع وفي الفتوحات قوله: ﴿فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ﴾ تفريع (١)، على أصل القصة في قوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا﴾ انتهى. ويصح أن يقال: ﴿الفاء﴾ فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن شرط مقدر تقديره: إذا عرفت أمرنا لهم بالإيمان بما نزلنا، وأردت بيان حالهم بعد ذلك.. فأقول لك: ﴿مِنْهُمْ﴾ جار ومجرور خبر مقدم، ﴿مَنْ﴾: اسم موصول في محل الرفع مبتدأ مؤخر، والجملة في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة استئنافًا بيانيًّا، ﴿ءَامَنَ﴾: فعل ماض وفاعله ضمير يعود على ﴿مَنْ﴾، ﴿بِهِ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿آمَنَ﴾، والجملة الفعلية صلة الموصول، ﴿وَمِنْهُمْ﴾: جار ومجرور خبر مقدم، ﴿مَنْ﴾: اسم موصول في محل الرفع مبتدأ مؤخر، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة ﴿من﴾ الأولى، ﴿صَدَّ﴾: فعل ماض وفاعله ضمير يعود على ﴿مَنْ﴾، والجملة صلة الموصول، ﴿عَنْهُ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿صَدَّ﴾، ﴿وَكَفَى بِجَهَنَّمَ﴾: فعل وفاعل والباء زائدة، ﴿سَعِيرًا﴾: تمييز أو حال والجملة مستأنفة.
﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا﴾.
﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا﴾.
﴿وَالَّذِينَ﴾: مبتدأ، ﴿آمَنُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، ﴿وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة معطوفة على جملة ﴿آمَنُوا﴾، ﴿سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ﴾: فعل ومفعولان وفاعله ضمير يعود على ﴿الله﴾، والجملة في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الإسمية مستأنفة. ﴿تَجْرِي﴾: فعل مضارع. ﴿مِنْ تَحْتِهَا﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿سَنُدْخِلُهُمْ﴾. ﴿الْأَنْهَارُ﴾: فاعل، والجملة الفعلية في محل النصب صفة لـ ﴿جَنَّاتٍ﴾ ولكنها سببية. ﴿خَالِدِينَ﴾: حال من ضمير المفعول في ﴿سَنُدْخِلُهُمْ﴾، ﴿فِيهَا﴾: جار
﴿لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا﴾.
﴿لَهُمْ﴾: جار ومجرور خبر مقدم، ﴿فِيهَا﴾: جار ومجرور حال من ﴿أَزْوَاجٌ﴾، وجوز مجيء الحال من النكرة تقدمها عليها. ﴿أَزْوَاجٌ﴾: مبتدأ مؤخر، ﴿مُطَهَّرَةٌ﴾: صفة لـ ﴿أَزْوَاجٌ﴾، والجملة الإسمية في محل النصب حال ثانية من ضمير ﴿سَنُدْخِلُهُمْ﴾، أو صفة ثانية لـ ﴿جَنَّاتٍ﴾، ﴿وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا﴾: فعل ومفعولان، وفاعله ضمير يعود على ﴿اللَّهَ﴾، ﴿ظَلِيلًا﴾: صفة مؤكدة لـ ﴿ظَلِيلًا﴾، كـ: ليلٍ أليل ويوم أيوم وداهية دهياء، والجملة الفعلية في محل الرفع معطوفة على جملة ﴿سَنُدْخِلُهُمْ﴾.
التصريف ومفردات اللغة
﴿نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ﴾: النصيب الحصة من الشيء والحظ، يقال: هذا نصيبي؛ أي: حظي، كأنه الشيء الذي رفع لك وأهدف لك، ويقال: ضرب فلان بنصيب؛ أي: فاز، ومنه اليانصيب عند المولدين، يجمع على أنصبة وأنصباء ونصب ذكره في "المنجد"، ﴿راعنا﴾: إما بمعنى أرقبنا وانظرنا نكلمك، من راعى يراعي مراعاة، بمعنى راقبه وحفظه، وإما بمعنى كلمة عبرانية كانوا يتسابون بها وهي راعينا، من الرعونة: وهي الحمق وقلة العقل، ﴿لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ﴾؛ أي: فتلًا بها، وصرفًا للكلام عن ظاهره إلى نسبة السب إليه.
وأصل ليًّا: لويًا من لوى يلوي لويًا، كـ: رمى يرمي رميًا، فقلبت الواو ياء فأدغمت الياء في الياء، فصار ليًّا مثل طي؛ لأنه مصدر طوى يطوي، ﴿لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ﴾: وصيغة التفضيل في خيرًا وأقوم إما على بابها، واعتبار (١) أصل
﴿فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا﴾ يقال: افترى فلان الكذب - من باب افتعل - إذا اعتمله واختلقه، وأصله من الفري بمعنى القطع، يقال: فرى عليه الكذب - من باب رمى - فريًا وفرية إذا اختلقه عليه من عند نفسه، قال الراغب: الإثم والآثام اسم للأفعال المبطئة عن الثواب؛ أي: عن الخيرات التي يثاب المرء عليها، وقد يطلق الإثم على ما كان ضارًّا انتهى. ﴿يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ﴾: من زكَّى الرباعي مزيد زكى بمعنى طهر ونما، يقال: زكى نفسه يزكي تزكية إذا مدحها، قال تعالى: ﴿فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى﴾، ﴿وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا﴾ والظلم النقص، والفتيل ما يكون في شق نواة التمر مثل الخيط، وبه يضرب المثل في الشيء الحقير، كما يضرب بمثقال ذرة، فهو فعيل بمعنى مفعول.
﴿يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ﴾ الجبت أصله الجبس (٣)، وهو: الرديء الذي لا خير فيه، ويراد به هنا الأوهام والخرافات والدجل، والطاغوت: ما تكون
(٢) المراغي.
(٣) المراغي.
﴿نَقِيرًا﴾: والنقير: النقرة التي في ظهر النواة، ومنها تنبت النخلة، يضرب بها المثل في الشيء الحقير التافه، كما يضرب المثل بالقطمير، وهو: القشرة الرقيقة التي تكون على النواة بينها وبين التمرة.
﴿يَحْسُدُونَ﴾ يقال: حسد فلان فلانًا - من باب نصر - إذا تمنى زوال نعمته عنه، فالحسد تمني زوال النعمة عن صاحبها المستحق لها، ﴿النَّاسَ﴾: والناس هنا محمَّد - ﷺ - ومن آمن معه.
﴿مِنْ فَضْلِهِ﴾: والفضل: النبوة والكرامة في الدين والدنيا، ﴿الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾: الكتاب: العلم بظاهر الشريعة، والحكمة: العلم بالأسرار المودعة فيها، ﴿مَنْ صَدَّ عَنْهُ﴾ يقال: صد عن الشيء إذا أعرض عنه، وهو من المضاعف اللازم، الذي جاء بالوجهين في مضارعه: الكسر على القياس، والضم على الشذوذ، كما قال ابن مالك في "لامية الأفعال":
قَسَّتْ كذا وَعِ وَجْهَيْ صَدَّ أثَّ وخَرْ | رَ الصَّلْدُ حَدَّتْ وثرَّتْ جَدَّ مَنْ عَمِلا |
﴿كَفَرُوا بِآيَاتِنَا﴾ جمع آية، والمراد بالآيات (١): الأدلة التي ترشد إلى أن هذا الدين حق، ومن أجلها القرآن؛ لأنه أول الدلائل، وأظهر الآيات وأوضحها، والكفر بها يعم إنكارها، والغفلة عن النظر فيها، وإلقاء الشبهات والشكوك، مع العلم بصحتها عنادًا وحسدًا ﴿سَوْفَ نُصْلِيهِمْ﴾ من أصلاه بالنار إصلاء إذا شواه بها، يقال: شاة مصلية؛ أي: مشوية، فهو بضم النون من باب
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات أنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع (١):
منها: الاستفهام الذي يراد به التعجب في قوله: ﴿أَلَمْ تَرَ﴾ في الموضعين.
ومنها: التعجب بلفظ الأمر في قوله: ﴿انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ﴾.
ومنها: المجاز المرسل في قوله: ﴿أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ﴾ إذا فسر بالرسول محمَّد - ﷺ -، من باب ذكر الخاص باسم العام إشارة إلى أنه جمعت فيه كمالات الأولين والآخرين، على حد قول القائل: أنت الناس كل الناس أيها الرجل، وقول الآخر:
وَلَيْسَ عَلَى اللهِ بِمُسْتَنْكَرٍ | أَن يَجْمَعَ الْعَالَمِ فِيْ وَاحَدٍ |
ومنها: الاستعارة في قوله: ﴿يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ﴾ وفي قوله: ﴿لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ﴾ أطلق اسم الذوق الذي هو مختص بحاسة اللسان وسقف الحلق على وصول الألم للقلب، وفي قوله: ﴿لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ﴾؛ لأن أصل اللَّيِّ فتل الحبل، فاستعير الكلام الذي قصد به غير ظاهره، وفي قوله: ﴿نَطْمِسَ وُجُوهًا﴾ وهو عبارة عن مسخ الوجوه تشبيهًا بالصحيفة المطموسة التي عميت سطورها وأشكلت حروفها.
ومنها: الطباق في قوله: ﴿فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا﴾، والوجه ضد القفا، وفي قوله: ﴿لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا﴾، وفي قوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا﴾، وفي قوله: ﴿مَنْ آمَنَ﴾ و ﴿مَنْ صَدَّ﴾ وهذا طباق معنوي.
ومنها: الاستطراد في قوله: ﴿أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ﴾.
ومنها: التكرار في قوله: ﴿يَغْفِرُ﴾، وفي: لفظ الجلالة، وفي: لفظ الناس، وفي: ﴿آتينا﴾ ﴿وآتيناهم﴾، وفي قوله: ﴿فَمِنْهُم﴾ ﴿وَمِنْهُم﴾، وفي قوله: ﴿جُلُودُهُمْ﴾ ﴿وجلودا﴾، وفي: ﴿سَنُدْخِلُهُمْ﴾ ﴿وَنُدْخِلُهُمْ﴾.
ومنها: التجنيس المماثل في قوله: ﴿نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا﴾، وفي قوله: ﴿لَا يَغْفِرُ﴾ ﴿وَيَغْفِرُ﴾، وفي قوله: ﴿لَعَنَهُمُ اللَّهُ﴾ ﴿وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ﴾، وفي قوله: ﴿لَا يُؤْتُونَ﴾ ﴿مَا آتَاهُمُ﴾ ﴿آتَيْنَا﴾ ﴿وَآتَيْنَاهُمْ﴾، وفي قوله: ﴿يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ﴾ ﴿وآمنوا أهدى﴾.
ومنها: تلوين الخطاب في قوله: ﴿يَفْتَرُونَ﴾ أقام المضارع مقام الماض، إعلامًا أنهم مستمرون على ذلك.
ومنها: الاستفهام الذي معناه التوبيخ والتقريع في قوله: ﴿أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ﴾، وفي: ﴿أم يحسدون﴾.
ومنها: الإشارة في قوله: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ﴾.
ومنها: التعريض في قوله: ﴿فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا﴾ عرض بشدة بخلهم.
ومنها: إقامة المنكَّر مقام المعرَّف لملاحظة الشيوع والكثرة في قوله: ﴿سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا﴾.
ومنها: الاختصاص في قوله: ﴿عَزِيزًا حَكِيمًا﴾.
ومنها: الإظهار في موضع الإضمار في قوله: ﴿وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ﴾.
ومنها: الإطناب في مواضع.
ومنها: الحذف في مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا (٥٨) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (٥٩) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (٦٠) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا (٦١) فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا (٦٢) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا (٦٣) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا (٦٤) فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (٦٥) وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا (٦٦) وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا (٦٧) وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (٦٨) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (٦٩) ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا (٧٠)﴾.
المناسبة
قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنه (١) لما ذكر الله سبحانه وتعالى في الآية السابقة الأجر العظيم للذين آمنوا وعملوا الصالحات، وكان من أجلِّ تلك الأعمال أداء
وقال أبو حيان (١): مناسبة هذه الآية لما قبلها هو: أنه تعالى لما ذكر وعد المؤمنين، وذكر عمل الصالحات.. نبه على هذين العملين الشريفين، اللذين من اتصف بهما كان أحرى أن يتصف بغيرهما من الأعمال الصالحة:
فأحدهما: ما يختص به الإنسان فيما بينه وبين غيره وهو أداء الأمانة، التي عرضت على السموات والأرض، فأبين أن يحملنها وأشفقن منها.
والثاني: ما يكون بين اثنين من الفصل بينهما بالحكم العدل الخالي عن الهوى، وهو من الأعمال العظيمة التي أمر الله بها رسله وأنبياءه والمؤمنين، ولما كان الترتيب الصحيح أن يبدأ الإنسان بنفسه في جلب المنافع ودفع المضار ثم يشتغل بحال غيره.. أمر بأداء الأمانة أولًا، ثم بعده بالأمر بالحكم بالحق انتهى.
وفي "الفتوحات" قوله تعالى (٢): ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا﴾ خطاب للمكلفين قاطبة، وهذه الآية مناسبة ومرتبطة بقوله سابقًا: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ...﴾ إلخ، وذلك أن اليهود كانوا يعرفون الحق وأوصاف النبي - ﷺ - المذكورة في "التوراة"، وهي أمانة عندهم، ومع ذلك كتموها وأنكروها، وقالوا لأهل مكة أنتم أهدى سبيلًا من محمَّد وأصحابه، فلما خانوا في هذه الأمانة الخاصة.. أمر الله تعالى عموم المكلفين بأداء جميع الأمانات بقوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأمُرُكُمْ...﴾ إلخ، تأمل انتهى.
قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ...﴾ الآية، مناسبتها لما قبلها: أنه لما أمر الولاة أن يحكموا بالعدل.. أمر الرعية بطاعتهم.
قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما
(٢) الجمل.
وعبارة أبي حيان (١): مناسبة هذه الآية لما قبلها ظاهرة؛ لأنه تعالى لما أمر المؤمنين بطاعة الله ورسوله وأولي الأمر.. ذكر أنه يعجب بعد ورود هذا الأمر من حال من يدعي الإيمان، ويريد أن يتحاكم إلى الطاغوت، ويترك الرسول انتهت.
قوله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ...﴾ الآيتين، مناسبتهما لما قبلهما (٢): أنَّ الله سبحانه وتعالى لما أوجب فيما سلف طاعة الله وطاعة الرسول، وشنَّع على من رغب عن التحاكم إلى الرسول، وآثر عليه التحاكم إلى الطاغوت.. ذكر هنا ما هو كالدليل على استحقاق الرسول للطاعة، وعلى استحقاق المنافقين الذين لم يقبلوا التحاكم للمقت والخذلان؛ لأنهم لم يرضوا بحكم الرسول - ﷺ -.
قوله تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ...﴾ الآيات، مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما بين فيما سلف أن الإيمان لا يتم إلا بتحكيم الرسول فيما شجر بينهم من خلاف مع التسليم والانقياد لحكمه.. ذكر هنا قصور كثير من الناس في ذلك؛ لوهن إسلامهم وضعف إيمانهم.
قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ...﴾ الآيتين، مناسبتهما لما قبلهما: لما أمر الله سبحانه وتعالى فيما سلف بطاعته وطاعة الرسول، ثم شنع على الذين تحاكموا إلى الطاغوت، وصدوا عن الرسول، ثم رغب في تلك الطاعة بقوله: ﴿لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا﴾.. حيث على الطاعة، وشوق إليها بذكر مزاياها، وبيان حسن عواقبها، وأنها منتهى ما تصل إليه الهمم، وأرفع ما تشرئب إليه الأعناق.
(٢) المراغي.
قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا...﴾ الآية، سبب نزولها (١): ما رواه ابن مردويه من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما فتح رسول الله - ﷺ - مكة.. دعا عثمان بن طلحة، فلما أتاه قال: "أرني المفتاح" مفتاح الكعبة - فأتاه به، فلما بسط يده إليه.. قام العباس فقال: يا رسول الله بأبي أنت وأمي اجمعه لي مع السقاية، فكف عثمان يده، فقال رسول الله - ﷺ -: "هات المفتاح يا عثمان"، فقال: هاك أمانة الله، فقام ففتح الكعبة، ثم خرج فطاف بالبيت، ثم نزل عليه جبريل برد المفتاح، فدعا عثمان بن طلحة فأعطاه المفتاح، ثم قال: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا﴾ حتى فرغ من الآية، وفي رواية زيادة: وأسلم عثمان، وقال الرسول - ﷺ -: "خذوها يا بني طلحة خالدة تالدة، لا يأخذها منكم إلا ظالم". وقيل (٢): نزلت عامة، وهو مروي عن أبي وابن عباس والحسن وقتادة.
قوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ...﴾ الآية، سبب نزولها: ما أخرجه البخاري عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ﴿أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ﴾، قال: نزلت في عبد الله بن حذافة بن قيس، إذ بعثه النبي - ﷺ - في سرية الحديث، قال الحافظ ابن كثير في "تفسيره": أخرجه بقية الجماعة إلا ابن ماجه.
وقد أخرج ابن جرير (٣): أنها نزلت في قصة جرت لعمار بن ياسر مع خالد بن الوليد، وكان خالد أميرًا فأجار عمار رجلًا بغير أمره، فتخاصما فنزلت الآية.
قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ...﴾ الآيات، سبب نزولها: ما أخرجه ابن أبي حاتم والطبراني بسند صحيح عن ابن عباس قال: كان أبو برزة الأسلمي كاهنًا يقضي بين اليهود فيما
(٢) البحر المحيط.
(٣) لباب النقول.
وأخرج ابن أبي حاتم من طريق عكرمة أو سعيد عن ابن عباس قال: كان الجلاس بن الصامت، ومتعب بن قشير، ورافع بن زيد، وبشر يدَّعون الإِسلام، فدعاهم رجال من قومهم من المسلمين في خصومة كانت بينهم إلى رسول الله - ﷺ -، فدعوهم إلى الكهان حكام الجاهلية، فأنزل الله فيهم: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ...﴾ الآية.
وأخرج ابن جرير عن الشعبي قال: كان بين رجل من اليهود ورجل من المنافقين خصومة فقال اليهودي أحاكمك إلى أهل دينك، أو قال: إلى النبي؛ لأنه قد علم أنه لا يأخذ الرشوة في الحكم، واتفقا على أن يأتيا كاهنًا في جهينة فنزلت.
قوله تعالى: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ...﴾ الآية، سبب نزولها (١): ما أخرجه الأئمة الستة عن عبد الله بن الزبير قال: خاصم الزبير رجلًا من الأنصار في شراج الحرة، فقال - ﷺ -: "اسق يا زبير، ثم أرسل الماء إلى جارك"، فقال الأنصاري: يا رسول الله أن كان ابن عمتك، فتلون وجه رسول الله - ﷺ -، ثم قال: "اسق يا زبير ثم احبس الماء، حتى يرجع إلى الجدار، ثم أرسل الماء إلى جارك"، واستوعب للزبير حقه، وكان أشار عليهما بأمر لهما فيه سعة، قال الزبير: ما حسبت هذه الآيات إلا نزلت في ذلك ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ...﴾.
وأخرج الطبراني في "الكبير"، والحميدي في "مسنده" عن أم سلمة رضي الله عنهما قالت: خاصم الزبير رجلًا إلى رسول الله - ﷺ -، فقضى للزبير فقال الرجل: إنما قضى له لأنه ابن عمته، فنزلت: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ...﴾ الآية.
وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي الأسود قال: اختصم رجلان إلى رسول الله - ﷺ -، فقضى بينهما، فقال الذي قضى عليه: ردنا إلى عمر بن الخطاب فأتيا إليه فقال الرجل: قضى لي رسول الله - ﷺ - على هذا، فقال: ردنا إلى عمر، فقال: أكذاك قال؟ قال: نعم، فقال عمر: مكانكما حتى أخرج إليكما فاقضي بينكما، فخرج إليهما مشتملًا على سيفه، فضرب الذي قال: ردنا إلى عمر، فأنزل الله ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ...﴾ الآية، وهذا مرسل غريب في إسناده ابن لهيعة.
وأخرج ابن جرير عن السدي قال: لما نزلت: ﴿وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ...﴾ الآية، افتخر ثابت بن شماس ورجل من اليهود، فقال اليهودي: والله لقد كتب الله علينا أن اقتلوا أنفسكم، فقتلنا أنفسنا، فقال ثابت: والله لو كتب الله علينا اقتلوا أنفسكم لقتلنا أنفسنا، فأنزل الله: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا﴾.
قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ...﴾ الآية، سبب نزولها ما أخرجه الطبراني وابن مردويه بسند لا بأس به عن عائشة رضي الله عنها قالت: جاء رجل إلى النبي - ﷺ - فقال: يا رسول الله إنك لأحب إلى من نفسي، وإنك لأحب إلى من ولدي، وإني لأكون في البيت فأذكرك فما أصبر حتى آتي فأنظر إليك، وإذا ذكرت موتي وموتك.. عرفت أنك إذا دخلت الجنة رفعت مع النبيين، وأني إذا دخلت الجنة خشيت أن لا أراك، فلم يردَّ النبي - ﷺ - شيئًا حتى نزل عليه جبريل بهذه الآية ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ...﴾ الآية.
وأخرج ابن أبي حاتم عن مسروق قال: قال أصحاب (١) محمَّد - ﷺ -: يا
وأخرج عن عكرمة قال: أتى فتى النبي - ﷺ - فقال: يا نبي الله، إن لنا منك نظرة في الدنيا، ويوم القيامة لا نراك فإنك في الجنة في الدرجات العلى، فأنزل الله هذه الآية، فقال رسول الله - ﷺ -: "أنت معي في الجنة إن شاء الله" وأخرج ابن جرير نحوه من مرسل سعيد بن جبير ومسروق والربيع وقتادة والسدي.
التفسير وأوجه القراءة
٥٨ - ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى، ﴿يَأمُرُكُمْ﴾ أيها المكلفون، ﴿أَنْ تُؤَدُّوا﴾ وتسلموا ﴿الْأَمَانَاتِ﴾ التي إئتمنتم عليها ﴿إِلَى أَهْلِهَا﴾ ومستحقيها، وتردوها إليهم فورًا، لما حكى الله سبحانه وتعالى عن أهل الكتاب أنهم كتموا الحق حيث قالوا للذين كفروا: هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلًا.. أمر المؤمنين في هذه الآية بأداء الأمانات في جميع الأمور، سواء كانت تلك الأمور من باب المذاهب والديانات، أو من باب الدنيا والمعاملات؛ لأن الآية وإن نزلت في عثمان بن طلحة بن عبد الدار سادن الكعبة كما مر، فإن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب وقرىء: ﴿أن تؤدوا الأمانة﴾ بالإفراد، كما ذكره أبو حيان.
والأمانة على ثلاثة أنواع (١):
الأول: أمانة العبد مع ربه، وهي ما عهد إليه حفظه من الائتمار بما أمره به، والانتهاء عما نهاه عنه، واستعمال مشاعره وجوارحه فيما ينفعه ويقربه من ربه، وقد ورد في الأثر: "إن المعاصي كلها خيانة لله عز وجل".
والثاني: أمانة العبد مع الناس، ومن ذلك رد الودائع إلى أربابها، وعدم الغش وحفظ السر ونحو ذلك، مما يجب للأهل والأقربين وعامة الناس والحكام. ويدخل في ذلك عدل الأمراء مع الرعية، وعدل العلماء مع العوام،
والثالث: أمانة الإنسان مع نفسه؛ بأن لا يختار لنفسه إلا ما هو الأصلح والأنفع له في الدين والدنيا، وأن لا يقدم على عمل يضره في آخرته أو دنياه، ويتوقى أسباب الأمراض والأوبئة بقدر معرفته، وما يعرف من الأطباء، وذلك يحتاج إلى معرفة علم الصحة ولا سيما في أوقات انتشار الأمراض والأوبئة.
فكل هذه الأنواع داخلة في الأمانة التي أمر الله سبحانه وتعالى بأدائها إلى أهلها.
وروى البغوي بسنده عن أنس رضي الله عنه قال: قلما خطبنا رسول الله - ﷺ - إلا قال: "لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له".
﴿و﴾ إن الله سبحانه وتعالى يأمركم ﴿إذا حكمتم بين الناس﴾ إذا أردتم الحكم بين الناس ﴿أن تحكموا﴾ بينهم ﴿بالعدل﴾؛ أي: بالحكم الذي شرعه الله سبحانه وتعالى لعباده على لسان نبيه محمد - ﷺ -. وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - ﷺ -: "إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن - وكلتا يديه يمين - الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا". أخرجه مسلم.
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله - ﷺ -: "أحب الناس إلى الله يوم القيامة، وأدناهم عنده مجلسًا، إمام عادل. وأبغض الناس إلى الله وأبعدهم منه مجلسًا إمام جائر". أخرجه الترمذي.
والحكم بين الناس له طرق منها: الولاية العامة والقضاء وتحكيم المتخاصمين لشخص في قضية خاصة. والحكم بالعدل يحتاج إلى أمور:
والثاني: خلو الحاكم من التحيز والميل إلى أحد الخصمين.
والثالث: معرفة الحاكم الحكم الذي شرعه الله تعالى؛ ليفصل بين الناس على مثاله من الكتاب أو السنة أو إجماع الأمة.
والرابع: تولية القادرين على القيام بأعباء الأحكام.
وقد أمر المسلمون بالعدل في الأحكام والأقوال والأفعال والأخلاق، قال تعالى: ﴿وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى﴾، وقال تعالى: ﴿اعدلوا هو أقرب للتقوى﴾، ثم بَيَّن حسن العدل وأداء الأمانة، فقال: ﴿إن الله﴾ سبحانه وتعالى ﴿نعما يعظكم به﴾؛ أي: نعم الشيء الذي يعظكم به، والمخصوص بالمدح أداء الأمانات، والحكم بالعدل بين الناس؛ إذ لا يعظكم إلا بما فيه صلاحكم وسعادتكم في الدنيا والآخرة. قرأ الجمهور بكسر النون إتباعًا لحركة العين؛ لأن أصله: نعم على وزن شهد، وقرأ بعض القراء بفتح النون على الأصل، وقرأ أبو عمرو بكسر النون وسكون العين.
﴿إنَّ اللهَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿كاَنَ سميعًا﴾ لكل المسموعات، يسمع ذلك الحكم إذا حكمتم بالعدل، ﴿بَصِيرًا﴾ لكل المبصرات، يبصركم إذا أديتم الأمانة، فيجازيكم على ما يصدر منكم.
والمعنى: فعليكم أن تعملوا بأمر الله ووعظه، فإنه أعلم منكم بالمسموعات والمبصرات، فإذا حكمتم بالعدل.. فهو سميع لذلك الحكم، وإن أديتم الأمانة.. فهو بصير بذلك، فيجازيكم على كل الأفعال والأقوال، وفي هذا وعد عظيم للمطيع ووعيد شديد للعاصي.
وإلى ذلك الإشارة بقوله - ﷺ -: "اعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه.. فإنه يراك" متفق عليه. وفيه أيضًا إيماء إلى الاهتمام بحكم القضاة والولاة؛ لأنه قد فوض إليهم النظر في مصالح العباد، وبعد أن أمر الله سبحانه وتعالى بأداء
٥٩ - أمر بطاعة الله وطاعة الرسول وطاعة أولي الأمر، إذ لا تقوم المصالح العامة إلا بذلك، فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ وصدقوا بما جاء به محمد - ﷺ - ﴿أَطِيعُوا اللَّهَ﴾ واعملوا بكتابه فيما أمر به ونهى عنه، ﴿وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ﴾ محمدًا - ﷺ - واعملوا بسنته، فقد جرت سنة الله تعالى بأن يبلغ عنه شرعه رسل منا تكفل بعصمتهم، وأوجب علينا طاعتهم، ﴿و﴾ أطيعوا ﴿أولي الأمر﴾؛ أي: أصحاب أمر الأمة ومتولي شؤونهم بالأمر والنهي لهم حالة كونهم كائنين ﴿مِنْكُمْ﴾ أيها المؤمنون، وهم (١) الأمراء والحكام والعلماء ورؤساء الجند، وسائر الرؤساء والزعماء الذين يرجع إليهم الناس في الحاجات والمصالح العامة، فهؤلاء إذا اتفقوا على أمر أو حكم وجب أن يطاعوا فيه، بشرط أن يكونوا أمناء، وأن لا يخالفوا أمر الله ولا سنة رسوله، التي عرفت بالتواتر، وأن يكونوا مختارين في بحثهم في الأمر واتفاقهم عليه، وأما العبادات وما كان من قبيل الاعتقاد الديني: فلا يتعلق به أمر أهل الحل والعقد، بل إنما يؤخذ عن الله ورسوله فحسب، وليس لأحد رأي فيه إلا ما يكون في فهمه، فأهل الحل والعقد من المؤمنين إذا أجمعوا على أمر من مصالح الأمة ليس فيه نص عن الشارع، وكانوا مختارين في ذلك، غير مكرهين بقوة أحد ولا نفوذه.. فطاعتهم واجبة، كما فعل عمر - رضي الله عنه - حين استشار أهل الرأي من الصحابة في اتخاذ الديوان الذي أنشأه، وفي غيره من المصالح التي أحدثها برأي أولي الأمر من الصحابة، ولم تكن في زمن النبي - ﷺ -، ولم يعترض عليه أحد من علمائهم في ذلك.
وقال الشوكاني (٢): وأولو الأمر هم الأئمة والسلاطين والقضاة، وكل من كانت له ولاية شرعية لا ولاية طاغوتية، والمراد طاعتهم فيما يأمرون به وينهون عنه، ما لم تكن معصية، فلا طاعة لمخلوق في معصية الله، كما ثبت ذلك عن رسول الله - ﷺ -.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - ﷺ -: "من أطاعتني فقد
(٢) فتح القدير.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - ﷺ - قال: "على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب أو كره، إلا أن يؤمر بمعصية الله، فإن أمر بمعصية الله.. فلا سمع ولا طاعة". متفق عليه.
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله - ﷺ - قال: "اسمعوا وأطيعوا، وإن استعمل عليكم عبد حبشي، كأن رأسه زبيبة، ما أقام فيكم كتاب الله" رواه البخاري.
وقال العلماء (١): طاعة الإِمام واجبة على الرعية ما دام على الحق، فإذا زال عن الكتاب والسنة.. فلا طاعة له، وإنما تجب طاعته فيما وافق الحق.
﴿فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ﴾؛ أي: فإن اختلفتم (٢) أيها المجتهدون ﴿فِي شَيْءٍ﴾ من أمور دينكم، غير مذكور حكمه في الكتاب والسنة والإجماع ﴿فَرُدُّوهُ﴾؛ أي: فأرجعوا ذلك الشيء ﴿إِلَى﴾ كتاب ﴿اللَّهِ﴾ تعالى، ﴿و﴾ إلى ﴿الرَّسُولِ﴾ محمد - ﷺ -، في حياته وإلى سنته المأثورة عنه بعد وفاته.
أي: فقيسوا ذلك الشيء المتنازع فيه على واقعة منصوص عليها في الكتاب والسنة، تشبهه في الصدرة، أي: في هيئة الصدور والوقوع والصفة، ويؤيد هذا (٣) المعنى الخبر والأثر:
أما الخبر: فهو أنهم سألوا رسول الله - ﷺ - عن قُبلة الصائم فقال - ﷺ - "أرأيت لو تمضمضت"، والمعنى: أخبرني هل تبطل المضمضة الصوم أم لا؟، أي: فكما أن المضمضة مقدمة للأكل، فكذا القبلة مقدمة للجماع، فإذا كانت المضمضة لا تفسد الصوم.. فكذلك القبلة، ولما سألته - ﷺ - الخثعمية عن الحج عن أبيها.. قال: "أرأيت لو كان على أبيك دين، فقضيته عنه.. هل يجزئ ذلك
(٢) المراح.
(٣) المرح.
وأما الأثر: فقد روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: اعرف الأشباه والنظائر، وقس الأمور برأيك. فدل مجموع ما ذكر على أن قوله تعالى: ﴿فَرُدُّوهُ﴾ أمر برد الشيء المتنازع فيه إلى شبيهه، وهذا هو الذي يسميه الشافعي رحمه الله تعالى: قياس الأشباه، ويسميه أكثر الفقهاء: قياس الطرد.
وفي هذه الآية (١): إشارة إلى أدلة الفقه الأربعة، فقوله: ﴿أَطِيعُوا اللَّهَ﴾ إشارة إلي الكتاب. وقوله: ﴿وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ﴾ إشارة إلى السنة. وقوله: ﴿وَأُولِي الْأَمْرِ﴾ إشارة إلى الإجماع. وقوله ﴿فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ......﴾ إلخ إشارة إلى القياس.
وعبارة المراغي هنا قوله (٢): ﴿فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ﴾؛ أي: فإذا لم يوجد نص على الحكم في الكتاب ولا في السنة.. ينظر أولو الأمر فيه؛ لأنهم هم الذين يوثق بهم، فإذا اتفقوا وأجمعوا.. وجب العمل بما أجمعوا عليه، وإن اختلفوا وتنازعوا.. وجب عرض ذلك على الكتاب والسنة وما فيهما من القواعد العامة، فما كان موافقًا لهما علم أنه صالح لنا ووجب الأخذ به، وما كان مخالفًا لهما علم أنه غير صالح ووجب تركه، وبذا يزول التنازع وتجتمع الكلمة، وهذا الرد واستنباط الفصل في الخلاف من القواعد هو الذي يعبر عنه بالقياس، والأول هو الإجماع الذي يعتد به.
ومما تقدم تعلم أن الآية مبينة لأصول الدين في الحكومة الإِسلامية، وهي أربعة:
الأصل الأول: القرآن الكريم، والعمل به هو طاعة الله تعالى.
والأصل الثاني: سنة رسول الله - ﷺ - والعمل بها طاعة الرسول - ﷺ -.
والأصل الثالث: إجماع أولي الأمر، وهم أهل الحل والعقد، الذين تثق بهم الأمة من العلماء والرؤساء في الجيش والمصالح العامة كالتجار والصناع
(٢) المراغي.
والأصل الرابع: عرض المسائل المتنازع فيها على القواعد والأحكام العامة المعلومة في الكتاب والسنة، وذلك قوله: ﴿فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ﴾ فهذه الأربعة الأصول هي مصادر الشريعة، ولا بد من وجود جماعة يقومون بعرض المسائل المتنازع فيها على الكتاب والسنة، ممن يختارهم أولو الأمر من علماء هذا الشأن، ويجب على الحكام الحكم بما يقرونه، وبذلك تكون الدولة الإِسلامية مؤلفة من جماعتين:
الأولى: الجماعة المبينة للأحكام الذين يسمون الآن الهيئة التشريعية.
والجماعة الثانية: جماعة الحاكمين والمنفذين وهم الذين يسمون الهيئة التنفيذية. وعلى الأمة أن تقبل هذه الأحكام وتخضع لها سرًّا وجهرًا، وهي بذلك لا تكون خاضعة لأحد من البشر؛ لأنها لم تعمل إلا بحكم الله تعالى، أو حكم رسوله - ﷺ - بإذنه، أو حكم نفسها الذي استنبطه لها جماعة أهل الحل والعقد والعلم والخبرة من أفرادها، الذين وثقت بإخلاصهم، وعدم اتفاقهم إلا على ما هو الأصلح لها.
وقوله: ﴿إنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ شرط جوابه محذوف معلوم مما قبله، تقديره: إن كنتم أيها المؤمنون تصدقون بوحدانية الله وبمجيء اليوم الآخر.. فردوا الشيء المتنازع فيه إلى الله ورسوله، بعرضه على الكتاب والسنة، فإن المؤمن لا يقدم شيئًا على حكم الله، كما أنه يهتم باليوم الآخر أشد من اهتمامه بحظوظ الدنيا، وفي هذا دليل على أن من لم يقدم اتباع الكتاب والسنة على أهوائه وحظوظه.. فإنه لا يكون مؤمنًا حقًّا.
وفي "الخازن" قال العلماء: في الآية دليل على أن من لا يعتقد وجوب طاعة الله وطاعة رسوله ومتابعة السنة والحكم بالأحاديث الواردة عن النبي - ﷺ - لا يكون مؤمنًا بالله واليوم الآخر انتهى.
﴿ذَلِكَ﴾؛ أي: رد الشيء المتنازع فيه إلى الله ورسوله ﴿خَيْرٌ﴾ لكم من
٦٠ - والاستفهام في قوله: ﴿أَلَمْ تَرَ﴾ استفهام تعجيب للمخاطب؛ أي: ألم تنظر يا محمد أو أيها المخاطب ﴿إِلَى﴾ عجيب أمر هؤلاء ﴿الَّذِينَ يَزْعُمُونَ﴾؛ أي: يدعون ويقولون بأفواههم قولًا كذبًا؛ لأن الزعم مطية الكذب، ﴿أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ﴾ من "القرآن" ﴿و﴾ بـ ﴿مَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ﴾ على الأنبياء من "التوراة" و"الإنجيل"، ومع ذلك الزعم ﴿يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا﴾ ويترافعوا ﴿إِلَى الطَّاغُوتِ﴾؛ أي: إلى الشخص الكثير الطغيان، الذي هو أبو برزة الأسلمي، أو كعب بن الأشرف، على الخلاف في سبب نزولها طلبًا للحكم منه ﴿و﴾ الحال أنهم ﴿قد أمروا﴾ في "القرآن" ﴿أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ﴾؛ أي: بالطاغوت قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾، وقال أيضًا: ﴿فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى﴾.
والمعنى: انظر أيها المخاطب إلى عجيب أمر هؤلاء الذين يزعمون الإيمان بك وبمن قبلك من الرسل، ويأتون بما ينافي الإيمان، إذ الإيمان الصحيح بكتب الله ورسله يقتضي العمل بما شرعه الله تعالى على ألسنة أولئك الرسل، وترك العمل مع الاستطاعة دليل على أن الإيمان غير راسخ في نفس مدعيه، فكيف إذا عمل بضد ما شرعه الله، فهؤلاء المنافقون إذا هربوا من التحاكم إليك، وقبلوا التحاكم إلى مصدر الطغيان والضلال، من أولئك الكهنة والمشعوذين (١)، سواء أكان أبا برزة الأسلمي أم كعب بن الأشرف.. فحالهم هذا دليل على أن الإيمان ليس له أثر في نفوسهم، بل هي كلمات يقولونها بأفواههم، لا تعبر عما تلجلج
ويدخل في هؤلاء كل من يتحاكم إلى الدجالين، كالعرافين وأصحاب المندل (١) والرمل من أولياء الشياطين المخرفين الضالين المضلين.
وفي الآية إيماء إلى أن من رد شيئًا من أوامر الله أو أوامر الرسول - ﷺ -.. فهو خارج من الإِسلام، سواء رده من جهة الشك، أو من جهة التمرد والعناد. وقرأ الجمهور: ﴿بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ﴾ مبنيًّا للمفعول. وقرىء مبنيًّا للفاعل فيهما، وقرأ عباس بن الفضل ﴿أنْ يَكْفُرُوا بِهِا﴾ بهاء التأنيث على أن الطاغوت جمع، كقوله تعالى: ﴿أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ﴾ وقوله: ﴿وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ﴾ عطف (٢) على يريدون، داخل في حكم التعجيب؛ أي: ويريد الشيطان ﴿أَنْ يُضِلَّهُمْ﴾ ويبعدهم عن طريق الحق والهدى ﴿ضَلَالًا بَعِيدًا﴾؛ أي: إضلالًا بالغًا النهاية، وأن يجعل بينهم وبين الحق مسافة بعيدة فهم لشدة بعدهم عن الحق لا يهتدون إلى الطريق الموصلة إليه.
والخلاصة: أن الواجب على المسلمين أن لا يقبلوا قول أحد، ولا يعملوا برأيه في شيء له حكم في كتاب الله أو سنة رسوله - ﷺ -، وما لا حكم له فيهما فالعمل فيه برأي أولي الأمر؛ لأنه أقرب إلى المصلحة.
٦١ - قوله: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ﴾ الآية، تكملة (٣) لمادة التعجيب، ببيان
(٢) أبو السعود.
(٣) أبو السعود.
وقرأ الحسن ﴿تعالوا﴾ بضم اللام على أنه حذف منه لام الفعل اعتباطًا بل تخفيفًا، ثم ضم اللام لمناسبة واو الضمير بناء على أن أصله ﴿تعاليوا﴾ من تعاليت، والوجه فتح اللام كقراءة الجمهور.
٦٢ - والاستفام في قوله: ﴿فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ﴾ للتعجب؛ أي: فكيف حال هؤلاء المنافقين، أو كيف يصنعون إذا أصابتهم مصيبة من مصائب الدنيا والآخرة، ووقعت عليهم بلية وعقوبة لا يقدرون على دفعها، وقيل المصيبة: هي قتل عمر ذلك المنافق، ﴿بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ﴾؛ أي: بسبب ما عملته واقترفته أيديهم من الإعراض عن حكمك والتحاكم إلى غيرك، وأطلعك الله على شأنهم في إعراضهم عن حكم الله، وتبين أن عملهم يكذب دعواهم الإيمان، ﴿ثُمَّ﴾ اضطروا إلى الرجوع إليك لتكشف عنهم ما نزل بهم من المصيبة، و ﴿جَاءُوكَ﴾ معتذرين عن صدودهم حالة كونهم ﴿يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ﴾؛ أي: يقسمون باسم الله تعالى، قائلين والله ﴿إنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا﴾؛ أي: ما قصدنا بالتحاكم إلى غيرك إلا إحسانًا وإصلاحًا في معاملتنا، لا إساءة بك، وإلا توفيقًا بين الخصمين وقطعًا للمنازعة بينهما، لا مخالفة لك في
٦٣ - ﴿أُولَئِكَ﴾ المنافقون الموصوفون بالصفات السابقة، هم ﴿الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿مَا فِي قُلُوبِهِمْ﴾ من النفاق والغيظ والعداوة، وهذا الكلام من الأسلوب الذي يستعمل فيما يعظم من خير أو شر، مسرة أو حزن، فيقول الرجل لمن يحبه، ويحفظ وده: الله يعلم ما في نفسي لك؛ أي: إنه لكثرته وقوته لا يقدر على معرفته إلا الله تعالى، ويقول في العدو الماكر المخادع: الله يعلم ما في قلبه؛ أي: إن ما في قلبه من الخبث والخديعة بلغ حدًّا كبيرًا لا يعلمه إلا علام الغيوب.
فالمعنى هنا: إنَّ ما في قلوبهم من الكفر والحقد والكيد، وتربص الدوائر بالمؤمنين، بلغ من الفظاعة مقدارًا لا يحيط به إلا من يعلم السر وأخفى، ﴿فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ﴾ ولا تُقبل (٢) عليهم بالبشاشة والتكريم؛ إذ هذا يحدث في نفوسهم الهواجس والخوف من سوء العاقبة، وهم لم يكونوا على يقين من أسباب كفرهم ونفاقهم، وكانوا يحذرون أن تنزل عليه سورة تنبئهم بما في قلوبهم، وإذا استمر هذا الإعراض عنهم.. ظنوا الظنون، وقالوا: لعله عرف ما في نفوسنا، لعله يريد أن يؤاخذنا بما في بواطننا، وقيل (٣): معنى ﴿فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ﴾؛ أي: لا تقبل منهم ذلك العذر والحلف، ولا تظهر لهم أنك عالم بكنه ما في بواطنهم، فإن من هتك ستر عدوه.. فربما يجرئه ذلك على أن لا يبالي بإظهار العداوة،
(٢) المراغي.
(٣) المراح.
وعبارة في" الجمل" ﴿وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ﴾؛ أي: في حق أنفسهم الخبيثة، وقلوبهم المنطوية على الشرور التي يعلمها الله تعالى، أو في أنفسهم حال كونك خاليًا بهم، ليس معهم غيرهم مسارًا بالنصيحة؛ لأنها في السر أنفع ﴿قَوْلًا بَلِيغًا﴾؛ أي: مؤثرًا في أنفسهم واصلًا إلى كنه المراد، مطابقًا لما سيق له من المقصود، يغتمون به اغتمامًا، ويستشعرون منه الخوف، وهو التخويف بعذاب الدنيا، بأن يقول لهم: إن ما في قلوبكم من النفاق والكيد معلوم عند الله الذي لا يخفى عليه السر والنجوى، وإنه لا فرق بينكم وبين سائر الكفار وإنما رفع الله السيف عنكم؛ لأنكم أظهرتم الإيمان، فإن واظبتم على هذه الأفعال القبيحة.. ظهر لكل الناس بقاءكم على الكفر، وحينئذ يلزمكم السيف، وتسفك دماؤكم، وتسبى نساؤكم وذراريكم، وتسلب أموالكم. وفي الآية شهادة للنبي - ﷺ - بالقدرة على بليغ الكلام، وتفويض أمر الوعظ والقول البليغ إليه؛ لأن لكل مقام مقالًا، والكلام يختلف تأثيره باختلاف أفهام المخاطبين، كما أن فيها شهادة له بالحكمة ووضع الكلام في مواضعه، وهذا نحو ما وصف الله به نبيه داود: ﴿وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ﴾.
قال القاضي عياض في كتابه " الشفاء" في وصف بلاغته - ﷺ -: أما فصاحة اللسان وبلاغة القول: فقد كان - ﷺ - من ذلك بالمحل الأرفع، والموضع الذي لا يجهل، قد أوتي جوامع الكلم، وخص ببدائع الحكم وعلم ألسنة العرب، يخاطب كل أمة بلسانها، ويحاورها بلغتها، حتى كان كثير من أصحابه يسألونه في غير موضع عن شرح كلامه وتفسير قوله، وليس كلامه مع قريش والأنصار وأهل الحجاز ونجد ككلامه مع ذي المعشار الهمداني، وطهفة النهدي، والأشعث بن قيس، ووائل بن حجر الكندي، وغيرهم من أقيال حضرموت وملوك اليمن انتهى.
والمعنى: وما (١) أرسلنا من رسول الله فرضت طاعته على من أرسلته إليهم، وأنت يا محمَّد من الرسل الذين فرضت طاعتهم على من أرسلوا إليهم، ففيه توبيخ وتقريع للمنافقين، الذين تركوا حكم رسول الله - ﷺ -، ورضوا بحكم الطاغوت.
وهذه الآية (٢) دالة على أنه لا رسول الله ومعه شريعة ليكون مطاعًا في تلك الشريعة، ومتبوعًا فيها، ودالة على أن الأنبياء معصومون عن المعاصي والذنوب، ودالة على أنه لا يوجد شيء من الخير والشر والكفر والإيمان والطاعة والعصيان إلا بإرادة الله تعالى.
﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ﴾؛ أي: ولو أن هؤلاء المنافقين الذين تحاكموا إلى الطاغوت وأعرضوا عن حكمك ﴿إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ﴾ بالتحاكم إلى الطاغوت.. ﴿جَاءُوكَ﴾ يا محمَّد تائبين، من ذلك الذنب الذي هو النفاق، والتحاكم إلى الطاغوت، متنصلين مما ارتكبوا من المخالفة، ﴿فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ﴾؛ أي: طلبوا من الله سبحانه وتعالى مغفرته لهم ذلك الذنب بالإخلاص، وبالغوا في الاعتذار إليك من إيذائك برد حكمك والتحاكم إلى غيرك، ﴿وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ﴾ أي وطلب لهم
(٢) المراح.
والمعنى: ولو أن أولئك القوم حين ظلموا أنفسهم، ورغبوا عن حكمك إلى حكم الظاغوت.. جاؤوك فاسغفروا الله من ذنبهم، وندموا على ما فرط منهم، وتابوا توبة نصوحًا، ودعا لهم الرسول بالمغفرة لتقبل الله توبتهم، وغمرهم بإحسانه، فرحمته وسعت كل شيء.
وإنما قرن (١) استغفار الرسول باستغفارهم؛ لأن ذنبهم لم يكن ظلمًا لأنفسهم فحسب، بل تعدى إلى إيذاء الرسول من حيث أنهم أعرضوا عن حكمه، وهو صاحب الحق في الحكم وحده، فكان لا بد في توبتهم وندمهم على ما فرط منهم أن يظهروا ذلك للرسول ليصفح عنهم؛ لأنهم اعتدوا على حقه، وليدعو لهم بالمغفرة إذ أعرضوا عن حكمه، وإنما التفت (٢) عن الخطاب إلى الغيبة في قوله: ﴿وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ﴾ ولم يقل: واستغفر لهم؛ لأن القياس يقتضي هذا، لقوله أولًا جاؤوك تفخيمًا لشأنه، وتنبيهًا على أن من حق الرسول أن يقبل اعتذار التائب، وإن عظم جرمه، ويشفع له، ومن منصبه أن يشفع في كبائر الذنوب، وأنهم إذا جاؤوه.. فقد جاؤوا من خصه الله تعالى برسالته، وأكرمه بوحيه، وجعله سفيرًا بينه وبين خلقه.
وفي الآية (٣): إيماء إلى أن التوبة الصحيحة تقبل حتمًا إذا استكملت
(٢) البيضاوي.
(٣) المراغي.
والاستغفار لا يكون مقبولًا إلا إذا ناجي العبد ربه عازمًا على اجتناب الذنب، وعدم العودة إليه، مع الصدق والإخلاص لله في ذلك. أما الاستغفار باللسان عقب الذنب دون أن يوجد هذا التوجه بالقلب فلا يكون استغفارًا معتدًا به عند الله إذ لا بد أن يشعر القلب أولًا بألم المعصية، وسوء مغبتها - عاقبتها - وبالحاجة إلى التزكي من دنسها، مع العزم القوي على اجتناب هذا الدنس، ومتى أخلص الداعي.. أجاب الله دعاءه بإعطائه ما طلب، أو بغيره من الأجر والثواب.
٦٥ - و ﴿لَا﴾ في قوله: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ﴾ زائدة زيدت لتأكيد معنى القسم، كما زيدت في: ﴿لئلا يعلم﴾؛ لتأكيد وجوب العلم، أو مفيدة لنفي أمر سبق، والتقدير: ليس الأمر كما يزعمون من أنهم آمنوا وهم يخالفون حكمك، فوربك؛ أي: فأقسمت لك بربك يا محمد، لا يؤمن هؤلاء المنافقون إيمانًا صحيحًا ﴿حَتَّى يُحَكِّمُوكَ﴾؛ أي: حتى يجعلوك حاكمًا بينهم ﴿فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ﴾؛ أي: فيما اختلط والتبس وأشكل، ووقع بينهم من المخاصمات والمنازعات، فتقضي بينهم فيها ﴿ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ﴾؛ أي: لا يحسوا في قلوبهم ﴿حَرَجًا﴾؛ أي: ضيقًا وشكًا ﴿مِمَّا قَضَيْتَ﴾ وحكمت به، ﴿وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾؛ أي: وينقادوا لك بظواهرهم انقيادًا تامًّا، بحيث لا يخالفونك في شيء ما. وقرأ أبو السمال: ﴿فيما شجر﴾ بسكون الجيم تخفيفًا فرارًا من ثقل توالي الحركات، والمعنى: أنهم لا يؤمنون إيمانًا صحيحًا مستوجبًا للفوز بالثواب والنجاة من العذاب، وهو إيمانُ الانقيادِ ظاهرًا وباطنًا، إلا إذا كملت لهم ثلاث خصال:
الأولى: أن يحكموا الرسول في القضايا التي يشتجرون يختصمون فيها، ولا يتبين لهم وجه الحق فيها.
والثالثة: الانقياد والتسليم لذلك الحكم، فكثيرًا ما يعرف الشخص أن الحكم حق، لكنه يتمرد عن قبوله عنادًا أو يتردد في ذلك.
ويستفاد من هذه الآية شيئان:
الأول: عصمة النبي - ﷺ -، بمعنى أنه لا يحكم إلا بالحق المطابق لصورة الدعوى وظاهرها، لا بحسب الواقع في نفسه إذ الحكم في شريعته على الظاهر، والله يتولى السرائر، وقد قال - ﷺ -: "إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون، فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فمن قضيت له بحق مسلم.. فإنما هي قطعة من النار، فليأخذها أو ليتركها" رواه البخاري ومسلم وأصحاب السنن، ومن ثم كانوا يسألونه إذا أمر بأمر لم يظهر لهم أنه الرأي، أعن وحي هو، أم عن رأي، فإن كان عن وحي.. أطاعوا وسلموا، وإن كان عن رأي.. ذكروا ما عندهم، وربما يرجع إليهم كما حدث يوم أحد.
والثاني: أنهم لا يؤمنون إيمانًا صحيحًا يعتد به إلا إذا كانوا موقنين بقلوبهم، مذعنين في بواطنهم بصدق الرسول في كل ما جاء به من أمور الدين. ومن أمارة ذلك: أن يحكموه فيما شجر من خلاف، وأن لا يجدوا ضيقًا وحرجًا في حكمه؛ إذ الضيق إنما يلازم قلب من لم يخضع، وأن ينقادوا انقيادًا كاملًا بلا تمرد ولا عناد في قبوله، كما مر جميع ذلك كله آنفًا.
٦٦ - ﴿وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا﴾ وفرضنا وأوجبنا ﴿عَلَيْهِمْ﴾؛ أي: على هؤلاء المنافقين ﴿أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ﴾ بأن يقتل كل واحد نفسه، أو يقتل بعضهم بعضًا ﴿أَوِ﴾ أن ﴿اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ﴾ بالهجرة إلى دار أخرى، توبة من نفاقهم، كما كتبنا على بني إسرائيل القتل والخروج من مصر، ﴿مَا فَعَلُوهُ﴾؛ أي: ما فعل هؤلاء المنافقون القتل والخروج المكتوب عليهم، ﴿إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ﴾ فإن القليل منهم يفعل ذلك
ومعنى الآية (١)؛ أنه تعالى لو فرض عليهم أن يقتلوا أنفسهم، إما بأن يقتل كل واحد نفسه، أو بقتل بعضهم بعضًا، أو أن يخرجوا من ديارهم بالهجرة إلى دار أخرى، كما فرض ذلك على بني إسرائيل، حين استتيبوا من عبادة العجل.. لم يطع منهم إلا القليل.
بين الله (٢) سبحانه وتعالى في هذه الآية أن صادق الإيمان هو الذي يطيع الله في كل ما يأمر به، في السهل والصعب، والمحبوب والمكروه، ولو كان ذلك بقتل النفس، والخروج من الديار، الجسم دار الروح والوطن دار الجسم، أما المنافق فيعبد الله على ما يوافق هواه وشهواته، فإن أصابه خير.. اطمأن به ورضي، وإن ناله أذى.. أنقلب على وجهه، وارتد على عقبه، وباء بالخسران في الدنيا والآخرة.
قرأ أبو عمرو (٣) بكسر نون ﴿أن﴾ وضم واو ﴿أَو﴾، وكسرهما حمزة وعاصم، وضمهما باقي السبعة، وأما ضم النون وكسر الواو فلم يقرأ به أحد، فالكسر على أصل التقاء الساكنين، والضم للاتباع للثالث؛ إذ هو مضموم ضمة لازمة، وإنما فرق أبو عمرو لأن الواو أخت الضمة. اهـ "سمين".
وقرأ الجمهور: ﴿إِلَّا قَلِيلٌ﴾ بالرفع على البدل من الواو في فعلوه، وهو المختار؛ لأنه استثناء من كلام تام غير موجب، وقرأ أبي وابن وأبي إسحاق وابن عامر وعيسى بن عمر ﴿إِلَّا قَلِيلا﴾ بالنصب على الاستثناء بعد النفي، وهو مرجوح.
﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ﴾ ويكلفون به؛ أي: ولو أن هؤلاء المنافقين فعلوا ما أمروا به، وتركوا ما نهوا عنه.. ﴿لَكَانَ﴾ ذلك الفعل والترك ﴿خَيْرًا لَهُمْ﴾؛ أي: أنفع لهم في الدنيا والآخرة ﴿وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا﴾ لإقدامهم على الحق،
(٢) المراغي.
(٣) الجمل.
٦٧ - ﴿و﴾ لو أنهم فعلوا هذا الخير العظيم، وامتثلوا ما أمروا به، وأخلصوا العمل.. ﴿إِذًا لَآتَيْنَاهُمْ﴾؛ أي: إذا لأعطيناهم من عندنا ﴿أجْرًا عَظِيمًا﴾؛ أي: ثوابًا جسيمًا وافرًا في الجنة، وكيف لا يكون عظيمًا وقد وصفه النبي - ﷺ - بقوله "فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر" و ﴿وَإِذًا﴾ واقعة في جواب شرط مقدر كما أشرنا إليه في الحل، وسيأتي بيانه في الإعراب،
٦٨ - ﴿وَلَهَدَيْنَاهُم﴾؛ أي: ولأرشدناهم ﴿صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا﴾؛ أي: طريقًا قويمًا موصلًا لهم إلى الفوز بالسعادة في الدنيا والآخرة، وهو صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين، كما ذكر ذلك سبحانه في الآية التالية، وهو دين الإِسلام. وقيل: معنى صراطًا مستقيمًا؛ أي: طريقًا (٢) من عرصة القيامة إلى الجنة فحمل لفظ الصراط في هذا الموضع على هذا المعنى أولى؛ لأنه تعالى ذكره بعد ذكر الأجر، والدين الحق مقدم على الأجر، والطريق من عرصة القيامة إلى الجنة إثما يحتاج إليه بعد استحقاق الأجر.
٦٩ - ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ﴾ محمدًا - ﷺ - أو غيره من بقية الرسل؛ أي: ومن يمتثل الله سبحانه وتعالى ورسوله محمدًا - ﷺ - بفعل ما أمرا
(٢) المراح.
وقوله ﴿مِنَ النَّبِيِّينَ﴾ والمرسلين.. إلخ بيان للذين أنعم الله عليهم، وفي الآية سلوك التدلي، فإن منزلة كل واحد من الأصناف الأربعة أعلى من منزلة من بعده، ﴿وَالصِّدِّيقِينَ﴾؛ أي: السابقين إلى تصديق الرسل، فصاروا في ذلك قدوة لسائر الناس، وهم أفاضل أصحاب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، سموا بذلك لمبالغتهم في الصدق والتصديق ﴿وَالشُّهَدَاءِ﴾ أي: القتلى في سبيل الله تعالى، أو الذين (١) يشهدون بصحة دين الله تعالى، تارة بالحجة والبيان، وتارة أخرى بالسيف والسنان، فالشهداء هم القائمون بالقسط، وأما كون الإنسان مقتول الكافر.. فليس فيه زيادة شرف لأن هذا القتل قد يحصل في الفساق ومن لا منزلة له عند الله، ﴿وَالصَّالِحِينَ﴾ غير الأصناف الثلاثة السابقة؛ لأن الأصناف الثلاثة صالحون أيضًا، وهم القائمون بحقوق الله وحقوق عباده، وقيل: الصارفون (٢) أعمارهم في طاعة الله، وأموالهم في مرضاته، وكل من كان اعتقاده صوبًا وعمله غير معصية فهو صالح، ثم إن الصالح قد يكون بحيث يشهد لدين الله بأنه هو الحق، وأن ما سواه هو الباطل، وهذه الشهادة تارة بالحجة والدليل وأخرى بالسيف، وقد يكون الصالح غير موصوف بكونه قائمًا بهذه الشهادة، فثبت أن كل من كان شهيدًا كان صالحًا، ولا عكس فالشهيد أشرف أنواع الصالحين، ثم الشهيد قد يكون صديقًا وقد لا، ومعنى الصديق: هو الذي كان أسبق إيمانًا من غيره، وكان إيمانه قدوة لغيره، فثبت أن كل من كان صديقًا كان شهيدًا، ولا عكس، فثبت أن أفضل الخلق الأنبياء، وبعدهم الصديقون، وبعدهم من ليس له درجة إلا محض درجة الشهادة، وبعدهم من ليس له درجة إلا محض درجة الصلاح.
(٢) المراح.
٧٠ - ﴿ذَلِكَ﴾ المذكور الذي أعطى الله المطيعين من الأجر العظيم، ومن مرافقة هؤلاء المنعم عليهم، هو ﴿الْفَضْلُ﴾ والعطاء ﴿مِنَ اللَّهِ﴾ سبحانه وتعالى، تفضل به على من أطاع الله ورسوله، لا أنهم نالوه بطاعتهم؛ أي: إن هذا الذي ذكر من الجزاء لمن يطيع الله والرسول هو الفضل الذي لا يعلوه فضل، فإن السمُّوَ إلى إحدى تلك المنازل في الدنيا، ومرافقة أهلها في الآخرة، هو منتهى ما يأمله المرء من السعادة، وبه يتفاضل الناس، فيفضل بعضهم بعضًا، ﴿وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا﴾؛ أي: وكفى باللهِ سبحانه وتعالى من جهة كونه عليمًا بالعصاة والمطيعين والمنافقين والمخلصين، ومن يصلح لمرافقة هؤلاء، ومن لا يصلح، فهو لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء.
وقرأ الجمهور (١): ﴿وَحَسُنَ﴾ بضم السين وهي الأصل ولغة الحجاز، وقرأ أبو السمال: ﴿وحسْن﴾ بسكون السين وهي لغة بعض بني قيس.
الإعراب
﴿إِنَّ اللَّهَ يَأمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا﴾.
﴿إنَّ﴾: حرف نصب. ﴿اللَّهَ﴾: اسمها. ﴿يَأمُرُكُمْ﴾: فعل ومفعول أول، وفاعله ضمير يعود على: ﴿اللَّهَ﴾، والجملة الفعلية خبر ﴿إن﴾، وجملة: ﴿إنَّ﴾ مستأنفة استئنافًا نحويًّا، ﴿أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ﴾ ناصب وفعل وفاعل ومفعول، ﴿إِلَى أَهْلِهَا﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق به، وجملة ﴿أَنْ﴾ المصدرية مع صلتها
نَقْلًا وَفِيَ أنَّ وَأنْ يَطَّرِدُ | مَعْ أَمْنِ لَبْسٍ كَعَجِبْتُ أنْ يَدُوْا |
﴿وَإِذَا﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة، ﴿إذا﴾ ظرف لما يستقبل من الزمان، مجردة عن معنى الشرط، ﴿حَكَمْتُمْ﴾: فعل وفاعل، ﴿بَيْنَ النَّاسِ﴾: ظرف ومضاف إليه متعلق بـ ﴿حَكَمْتُمْ﴾، والجملة الفعلية في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿إذا﴾، تقديره: وقت حكمكم بين الناس، والظرف متعلق بـ ﴿تَحْكُمُوا﴾ الآتي على مذهب الكوفيين المجيزين تقديم معمول الصلة على حرف مصدري، ويقال على مذهب البصريين المانعين ذلك إن المعمول هنا ظرف، والظروف يغتفر فيها ما لا يغتفر في غيرها، ﴿أَنْ تَحْكُمُوا﴾: ناصب وفعل وفاعل. ﴿بِالْعَدْلِ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿تَحْكُمُوا﴾، والجملة الفعلية صلة ﴿أن﴾ المصدرية ﴿أن﴾: مع صلتها في تأويل مصدر معطوف على مصدر منسبك من قوله: ﴿أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ﴾ على كونه مفعولًا ثانيًا لـ ﴿يَأمُرُكُمْ﴾، أو منصوبًا بنزع الخافض، والتقدير: إن الله يأمركم تأدية الأمانات إلى أهلها وحكمكم بالعدل وقت حكمكم بين الناس، وفصل (٢) هنا بين حرف العطف والمعطوف بـ ﴿إذا﴾، وقد جوزه بعضهم، وجعله مثل قوله تعالى: ﴿رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً﴾ ﴿وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا﴾ وخص هذا أبو علي الفارسي بالشعر وليس بصواب.
﴿إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا﴾.
﴿إِنَّ﴾: حرف نصب، ولفظ الجلالة ﴿اللَّهَ﴾ اسمها، ﴿نِعِمَّا﴾: ﴿نِعْمَ﴾ فعل ماض من أفعال المدح، ﴿ما﴾ موصولة في محل الرفع فاعل، ﴿يَعِظُكُمُ﴾: فعل
(٢) البحر المحيط.
وَ ﴿مَا﴾ مُمَيَّزٌ وَقِيلَ فَاعِلُ | فِيْ نَحْوِ نِعْمَ مَا يَقُوْلُ الْفَاضِلُ |
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ﴾.
﴿يَا أَيُّهَا﴾ ﴿يا﴾ حرف نداء. ﴿أي﴾ منادى نكرة مقصودة، و ﴿ها﴾ حرف تنبيه زائد، زيد تعويضًا عما فات أي من الإضافة، ﴿الَّذِينَ﴾: اسم موصول في محل الرفع صفة لـ ﴿أي﴾: وجملة النداء مستأنفة، ﴿ءَامَنُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، ﴿أَطِيعُوا اللَّهَ﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة جواب النداء، وكذلك ﴿وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة معطوفة على جملة ﴿أَطِيعُوا اللَّهَ﴾، ﴿وَأُولِي﴾: معطوف على ﴿الرَّسُولَ﴾، ﴿الْأَمْرِ﴾: مضاف إليه، ﴿مِنْكُمْ﴾: جار ومجرور حال من ﴿أولي الأمر﴾.
﴿فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأوِيلًا﴾.
﴿فَإن﴾: ﴿الفاء﴾ استئنافية بمعنى الواو، ﴿إن﴾ حرف شرط، ﴿تَنَازَعْتُمْ﴾: فعل وفاعل في محل الجزم على كونه فعل شرط لها، ﴿فِي شَيْءٍ﴾: جار ومجرور
﴿ألَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ﴾.
﴿أَلَمْ﴾: ﴿الهمزة﴾: للاستفهام التعجبي، ﴿لم﴾: حرف نفي وجزم، ﴿تَرَ﴾: فعل مضارع مجزوم بـ ﴿لم﴾، وفاعله ضمير يعود على محمد، أو إلى المخاطب، والجملة الفعلية جملة إنشائية لا محل لها من الإعراب، ﴿إِلَى الَّذِينَ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿تَرَ﴾، ﴿يَزْعُمُونَ﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول. ﴿أَنَّهُمْ﴾: ﴿أن﴾: حرف نصب، و ﴿الهاء﴾: ضمير الغائبين في محل النصب اسمها، ﴿آمَنُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة في محل الرفع خبر ﴿أن﴾، وجملة ﴿أن﴾ في تأويل مصدر ساد مسد مفعولي زعم، ﴿بِمَا﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿ءَامَنُوا﴾، ﴿أُنْزِلَ﴾: فعل ماض مغير الصيغة، ونائب فاعله ضمير يعود على ﴿ما﴾، ﴿إِلَيْكَ﴾: جار ومجرور متعلق به، والجملة صلة لما أو صفة لها، ﴿وَمَا﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة، ﴿ما﴾: اسم موصول في محل الجر معطوفة على ما الأولى، ﴿أُنزِل﴾: فعل ماض مغير الصيغة، ونائب فاعله ضمير يعود على ما، ﴿مِن قَبْلِك﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿أُنزِل﴾، وجمله ﴿أُنْزِلَ﴾ صلة لما أو صفة لها.
﴿يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا﴾.
﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا (٦١)﴾.
﴿وَإِذَا﴾: ﴿الواو﴾: استئنافية، ﴿إذا﴾: ظرف لما يستقبل من الزمان. ﴿قِيلَ﴾: فعل ماض مغير الصيغة، ﴿لَهُمْ﴾: جار ومجرور متعلق به، ﴿تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ﴾: نائب فاعل محكي، وجملة قيل في محل الخفض بإضافة ﴿إذا﴾ إليها، على كونها فعل شرط لها، والظرف متعلق بالجواب الآتي، وإن شئت قلت: ﴿تَعَالَوْا﴾: فعل وفاعل، ﴿إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿تَعَالَوْا﴾، ﴿وَإِلَى الرَّسُولِ﴾: جار ومجرور معطوف على الجار والمجرور قبله، وجملة ﴿تَعَالَوْا﴾ في محل الرفع نائب فاعل لـ ﴿قِيلَ﴾، ﴿رَأَيْتَ﴾: فعل وفاعل، ﴿الْمُنَافِقِينَ﴾: مفعول به، والجملة الفعلية جواب إذا، وجملة إذا مستأنفة، ﴿يَصُدُّونَ﴾: فعل وفاعل، ﴿عَنْكَ﴾: متعلق به، ومفعوله محذوف تقديره: غيرهم، ﴿صُدُودًا﴾: منصوب على المصدرية، وجملة ﴿يَصُدُّونَ﴾ في
﴿فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا (٦٢)﴾.
﴿فَكَيْفَ﴾: ﴿الفاء﴾ استئنافية، ﴿كيف﴾: اسم استفهام في محل النصب على التشبيه بالمفعول به بفعل محذوف، تقديره: فكيف يصنعون، ويجوز جعل ﴿كيف﴾ خبرًا مقدمًا لمبتدأ محذوف تقديره: فكيف صنعهم، ﴿إِذَا﴾: ظرف مجرد عن معنى الشرط، في محل النصب على الظرفية، والظرف متعلق بالجملة المحذوفة، والجملة المحذوفة جملة إنشائية مستأنفة، ﴿أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ﴾: فعل ومفعول وفاعل، والجملة في محل الخفض بإضافة ﴿إذا﴾ إليها، ﴿بِمَا﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿أَصَابَتْهُمْ﴾، والباء للسبب، ﴿قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ﴾: فعل وفاعل ومضاف إليه، والجملة صلة لما أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف، تقديره: بما قدمته أيديهم، ﴿ثُمَّ﴾: حرف عطف، ﴿جَاءُوكَ﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل الخفض معطوفة على جملة ﴿أَصَابَتْهُمْ﴾، ﴿يَحْلِفُونَ﴾: فعل وفاعل، ﴿بِاللَّهِ﴾: متعلق به، والجملة في محل النصب حال من فاعل ﴿جَاءُوكَ﴾، ﴿إِنْ﴾: نافية. ﴿رَدْنَا﴾: فعل وفاعل، ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ، ﴿إِحْسَانًا﴾: مفعول به، ﴿وَتَوْفِيقًا﴾: معطوف عليه، وجملة ﴿أَرَدْنَا﴾ من الفعل والفاعل جواب القسم لا محل لها من الإعراب، كما قاله أبو حيان في "النهر".
﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا﴾.
﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ﴾: مبتدأ وخبر، والجملة مستأنفة، ﴿يَعْلَمُ اللَّه﴾: فعل وفاعل، ﴿مَا﴾: موصولة أو موصوفة في محل النصب مفعول به، ﴿فِي قُلُوبِهِم﴾: جار ومجرور ومضاف إليه صلة لما، أو صفة لها، وجملة ﴿يَعْلَمُ اللَّه﴾ صلة الموصول، ﴿فَأَعْرِضْ﴾: ﴿الفاء﴾: رابطة الجواب بشرط محذوف، تقديره: إذا
﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ﴾.
﴿وَمَا﴾: ﴿الواو﴾: استئنافية، ﴿ما﴾: نافية، ﴿أَرْسَلْنَا﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة، ﴿مِنْ﴾: زائدة، ﴿رَسُولٍ﴾: مفعول به منصوب بفتحة مقدرة، ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ، ﴿لِيُطَاعَ﴾: ﴿اللام﴾ لام كي، ﴿يطاع﴾: فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام كي، ونائب فاعله ضمير يعود على الرسول، ﴿بِإِذْنِ اللَّهِ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ـ ﴿يطاع﴾، أو حال من الضمير في ﴿يطاع﴾، والجملة الفعلية صلة أن المضمرة، أن مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بلام كي، تقديره: إلا لإطاعة الناس له، الجار والمجرور متعلق بـ ـ ﴿أَرْسَلْنَا﴾.
﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا﴾.
﴿وَلَوْ﴾: ﴿الواو﴾ استئنافية، ﴿لو﴾: شرطية، ﴿أَنَّهُمْ﴾ ﴿أنَّ﴾: حرف نصب، ﴿والهاء﴾: اسمها، ﴿إذ﴾ ظرف لما مضى من الزمان، في محل النصب على الظرفية، ﴿ظَلَمُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿إذ﴾، والظرف متعلق بـ ﴿جَاءُوكَ﴾ الآتي، ﴿أَنْفُسَهُمْ﴾: مفعول به ومضاف إليه، ﴿جَاءُوكَ﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل الرفع خبر ﴿أنَّ﴾، تقديره: ولو أنهم جاؤوا إياك وقت ظلمهم أنفسهم، وجملة ﴿أنَّ﴾ من اسمها وخبرها في تأويل مصدر مرفوع على الفاعلية، لفعل محذوف فعل شرط لـ ﴿لو﴾، تقديره: ولو
﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (٦٥)﴾.
﴿فَلَا﴾ ﴿الفاء﴾: استئنافية، ﴿لَا﴾: زائدة، زيدت لتأكيد معنى القسم.
﴿وَرَبِّكَ﴾ ﴿الواو﴾: حرف جر وقسم، ﴿ربك﴾ ﴿رب﴾: مقسم به مجرور بواو القسم، ﴿والكاف﴾ مضاف إليه، الجار والمجرور متعلق بفعل قسم محذوف، تقديره: فأقسم لك بربك يا محمَّد، ﴿لَا﴾ نافية، ﴿يُؤْمِنُونَ﴾: فعل وفاعل، والجملة جواب القسم لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم مع جوابه مستأنفة، وفي ﴿لا﴾ هنا أربعة أقوال، ذكرها في "الفتوحات" لا نطيل الكلام بذكرها، ﴿حَتَّى﴾: حرف جر وغاية، ﴿يُحَكِّمُوكَ﴾: فعل وفاعل، ومفعول منصوب بأن مضمرة وجوبًا بعد ﴿حَتَّى﴾، والجملة في تأويل مصدر مجرور بـ ﴿حَتَّى﴾، تقديره: إلى تحكيمهم إياك، الجار والمجرور متعلق بـ ﴿يُؤمِنُونَ﴾، ﴿فِيمَا﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿يُحَكِّمُوكَ﴾، ﴿شَجَرَ﴾: فعل ماض وفاعله ضمير يعود على ﴿ما﴾، ﴿بَيْنَهُمْ﴾: ظرف ومضاف إليه متعلق بـ ﴿شَجَرَ﴾، والجملة الفعلية صلة لما أو صفة لها، ﴿ثُمَّ﴾: حرف عطف، ﴿لَا﴾: نافية، ﴿يَجِدُوا﴾: فعل وفاعل معطوف على ﴿يُحَكِّمُوكَ﴾، ﴿فِي أَنْفُسِهِمْ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿يَجِدُوا﴾، تعلق الظرف بالفعل، ويجوز أن يكون حالًا من ﴿حَرَجًا﴾،
﴿وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ﴾.
﴿وَلَوْ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية، ﴿لو﴾: شرطية، ﴿أَنَّا﴾: أنَّ حرف نصب، ﴿نا﴾: اسمها، ﴿كَتَبْنَا﴾: فعل وفاعل، ﴿عَلَيْهِمْ﴾: متعلق به، وجملة ﴿كَتَبْنَا﴾ في محل الرفع خبر ﴿أَن﴾، تقديره: ولو أنا كاتبون عليهم، وجملة ﴿أَن﴾ في تأويل مصدر مرفوع على الفاعلية لفعل شرط محذوف، تقديره: ولو ثبتت كتابتنا عليهم، ﴿أَنِ﴾، حرف نصب ومصدر، ﴿اقْتُلُوا﴾: فعل وفاعل في محل النصب بـ ﴿أَن﴾، ﴿أَنْفُسَكُمْ﴾: مفعول به ومضاف إليه، وجملة ﴿أَن﴾ المصدرية مع صلتها في تأويل مصدر منصوب على المفعولية لـ ﴿كَتَبْنَا﴾، تقديره: ولو أنا كتبنا عليهم قتلهم أنفسهم، ويجوز أن تكون أن مفسرة، لأنَّ ﴿كَتَبْنَا﴾ قريب من معنى أمرنا أو قلنا، ﴿أَوِ﴾، حرف عطف، ﴿اخْرُجُوا﴾: فعل فاعل في محل النصب معطوف على ﴿اقْتُلُوا﴾، ﴿مِنْ دِيَارِكُمْ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿اخْرُجُوا﴾، ﴿مَا﴾: نافية رابطة لجواب ﴿لَوْ﴾، ﴿فَعَلُوهُ﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة جواب ﴿لو﴾ الشرطية، لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿لو﴾ الشرطية مستأنفة، ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ. ﴿قَلِيل﴾: بالرفع بدل من واو ﴿فَعَلُوهُ﴾: بدل بعض من كل، وهو الراجح من نصبه على الاستثناء؛ لأن الاستثناء من كلام تام غير موجب، ﴿مِنْهُمْ﴾: جار ومجرور صفة لـ ﴿قَلِيلٌ﴾، وهو الرابط بين البدل والمبدل منه.
﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا﴾.
﴿وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا (٦٧) وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (٦٨)﴾.
﴿وَإِذًا﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة، ﴿إِذًا﴾: حرف نصب وجواب وجزاء، وهي ملغاة هنا عن عمل النصب، ﴿لَآتَيْنَاهُمْ﴾ ﴿اللام﴾: رابطة لجواب ﴿لو﴾، ﴿آتيناهم﴾: فعل وفاعل ومفعول أول، ﴿مِنْ لَدُنَّا﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿آتينا﴾، ﴿أَجْرًا﴾: مفعول ثان، ﴿عَظِيمًا﴾: صفة له، وجملة ﴿لَآتَيْنَاهُمْ﴾ معطوفة على جملة ﴿لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ﴾ على كونها جوابًا لـ ﴿لو﴾ الشرطية. ﴿وَلَهَدَيْنَاهُمْ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة، ﴿اللام﴾: رابطة لجواب ﴿لو﴾، ﴿هَدَيْنَاهُمْ﴾: فعل وفاعل ومفعول أول، ﴿صِرَاطًا﴾: مفعول ثان، ﴿مُسْتَقِيمًا﴾: صفة لـ ﴿صِرَاطًا﴾، وجملة ﴿لَهَدَيْنَاهُمْ﴾ معطوفة على جملة ﴿لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ﴾ على كونها جوابًا لـ ﴿لو﴾.
﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (٦٩)﴾.
﴿ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا (٧٠)﴾.
﴿ذَلِكَ﴾: مبتدأ، ﴿الْفَضْلُ﴾: خبر، ﴿مِنَ اللَّهِ﴾: جار ومجرور حال من ﴿الْفَضْلُ﴾، والعامل فيه معنى الإشارة، ويجوز أن يكون ﴿ذَلِكَ﴾ مبتدأ، و ﴿الفضلُ﴾: صفة له، ﴿مِنَ اللَّهِ﴾: خبرًا، والجملة مستأنفة، ﴿وَكَفَى بِاللَّهِ﴾: فعل وفاعل، ﴿عَلِيمًا﴾: تمييز، والجملة مستأنفة.
التصريف ومفردات اللغة
﴿أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ﴾ هو مضارع أدى تأدية، من باب فعَّل المضعف، وهو هنا بمعنى أصل الفعل، والأمانات جمع أمانة، وهي مصدر بمعنى اسم المفعول؛ أي: الشيء الذي يحفظ ليؤدى إلى صاحبه، ويسمى من يحفظها ويؤديا حفيظًا وأمينًا ووفيًّا، ومن لا يحفظها ولا يؤديها خائنًا، ﴿بِالْعَدْلِ﴾ العدل: مصدر لعدل من باب ضرب، وهو لغة: إيصال الحق إلى صاحبه من أقرب الطرق إليه،
﴿فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ﴾ تنازع من باب تفاعل، والتنازع: التجاذب، والمنازعة: المجاذبة، والنزع: الجذب، كأن كل واحد ينتزع حجة الآخر ويجذبها، والمراد الاختلاف والمجادلة، ﴿وَأَحْسَنُ تَأوِيلًا﴾ التأويل: مصدر أول - من باب فعل - تأويلًا، إذا فسر وبين، ولكن هنا بمعنى المآل والعاقبة، لا بمعنى التفسير والتبيين فله إطلاقان.
﴿يَزْعُمُون﴾ مضارع زعم، من باب نصر، والزعم بتثليث الزاي في أصل اللغة القول، حقًّا كان أو باطلًا، ثم كثر استعماله في الكذب، قال الراغب: الزعم حكاية قول يكون مظنة للكذب، وقد جاء في القرآن ذم القائلين به، كقوله: ﴿زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ﴾، وقوله: ﴿قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا (٥٦)﴾.
﴿إِلَى الطَّاغُوتِ﴾ الطاغوت: الكاهن والشيطان والصنم وكل رئيس في الضلالة، يطلق على الواحد والجمع والمذكر والمؤنث، ﴿ضَلَالًا بَعِيدًا﴾: ليس مصدرًا جاريًا على يضلهم، ويحتمل أن يكون جعل مكان الإضلال، فوضع أحد المصدرين موضع الآخر، ويحتمل أن يكون مصدرًا لثلاثي محذوف، تقديره: فيضلون ضلالًا بعيدًا، ﴿يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا﴾: يقال: صد عن الشيء يصد - من بابي ضرب ونصر - صدًّا وصدودًا، إذا أعرض عنه، وهو من المضاعف اللازم الذي جاء بالوجهين: الكسر على القياس، والضم على الشذوذ، لا من صد الذي هو المضاعف المعدى، فإنه بالضم على القياس لا غير، ومعناه المنع، يقال صده عن كذا إذا منعه وصرفه عنه، ومنه قوله تعالى: ﴿وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ وقوله: ﴿وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾، فالصدود: مصدر سماعي له، وقياسه صد، على وزن فعل بسكون العين؛ لأنه من فعل المفتوح.
وَهُمُ الْحُكَّامُ أَرْبَابُ الْهُدَى وَسُعَاةُ النَّاسِ في الأمْرِ الشَّجَرْ
أي: المختلف، ومنه تشاجر الرماح؛ أي: اختلافها، يقال: شجر الأمر يشجر شجورًا وشجرًا - من باب قعد - إذا التبس، وشاجر الرجل غيره في الأمر إذا نازعه فيه، وتشاجروا إذا تنازعوا، وخشبات الهودج يقال لها: شجار، لتداخل بعضها في بعض، ﴿حَرَجًا﴾ الحرج: الضيق، وقيل: الشك، ومنه قيل للشجر الملتف: حرج وحرجة، وجمعها حراج، وقيل: الحرج الإثم، ﴿تَسْلِيمًا﴾: مصدر مؤكد لعامله.
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات أنواعًا من البلاغة والفصاحة والبديع (١):
منها: دخول حرف الشرط على ما ليس بشرط في الحقيقة في قوله: ﴿إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾. ومنها: الإشارة في قوله: ﴿ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأوِيلًا﴾، وفي قوله: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ﴾، وفي قوله: ﴿فَأُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ﴾، وفي قوله: ﴿وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا﴾، وفي قوله: ﴿ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ﴾.
ومنها: الاستفهام المراد به التعجب في قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ
ومنها: التجنيس المغاير في قوله: ﴿أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا﴾، وفي قوله: ﴿وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا﴾ وفي قوله: ﴿يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا﴾، وفي قوله: ﴿ويسلموا تسليمًا﴾.
ومنها: الاستعارة في قوله: ﴿فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ﴾ أصل المنازعة الجذب باليد، ثم استعير للتنازع في الكلام، وفي قوله: ﴿ضَلَالًا بَعِيدًا﴾ استعار البعد المختص بالأزمنة والأمكنة للمعاني المختصة بالقلوب؛ لدوام القلوب عليها، وفي قوله: ﴿فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ﴾ استعار ما اشتبك وتضايق من الشجر للمنازعة التي يدخل بها بعض الكلام في بعض، استعارة المحسوس للمعقول، وفي قوله: ﴿أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا﴾ أطلق اسم الحرج الذي هو من وصف الشجر إذا تضايق على الأمر الذي يشق على النفس، للمناسبة التي بينهما وهو الضيق.
ومنها: التتميم وهو أن يتبع الكلام كلمة تزيد المعنى تمكنًا وبيانًا للمعنى المراد، وهو في قوله: ﴿قَوْلًا بَلِيغًا﴾؛ أي: يبلغ إلى قلوبهم ألمه أو بالغًا في زجرهم.
ومنها: زيادة الحرف لزيادة المعنى في قوله: ﴿مِنْ رَسُولٍ﴾ أتت ﴿مِنْ﴾ لإفادة الاستغراق، إذ لو لم تدخل هي في الكلام لأوهم الواحد.
ومنها: التكرار في قوله: ﴿فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ﴾، ﴿أَنْفُسِهِمْ﴾، وفي قوله: ﴿أَنْفُسَهُمْ﴾، وفي لفظ الجلالة في قوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأمُرُكُمْ﴾، وفي قوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ﴾، وفي قوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا﴾.
ومنها: التوكيد بالمصدر في قوله: ﴿وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾.
ومنها: التقسيم البليغ في قوله: ﴿مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ﴾.
ومنها: الإظهار في مقام الإضمار في قوله: ﴿رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ﴾ للتسجيل عليهم بالنفاق وذمهم به، والإشعار بعلة الحكم.
ومنها: إيراد الأمر بصورة الأخبار، وتصديره بإنَّ المفيدة للتحقيق في قوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ﴾ للتفخيم وتأكيد وجوب العناية والامتثال.
ومنها: الإطناب في مواضع.
ومنها: الحذف في مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا (٧١) وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا (٧٢) وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا (٧٣) فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (٧٤) وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا (٧٥) الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا (٧٦) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا (٧٧) أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا (٧٨) مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (٧٩)﴾.
المناسبة
قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا (٧١)﴾ مناسبة هذه الآية لما قبلها هو (١): أنه تعالى لما ذكر طاعته وطاعة رسوله، وكان من أهم الطاعات إحياء دين الله تعالى.. أمر بالقيام بإحياء دينه، وإعلاء دعوته، وأمرهم أن لا يقتحموا على عدوهم على جهالة، فقال: ﴿خُذُوا حِذْرَكُمْ﴾، فعلمهم مباشرة الحروب، ولما تقدم ذكر المنافقين.. ذكر في هذه الآية تحذير المؤمنين من قبول مقالاتهم، وتثبيطهم عن الجهاد، فنادى أولًا باسم
وقال المراغي: مناسبة هذه الآية لما قبلها (١)؛ يعني قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ﴾: أن الله سبحانه وتعالى، لما بين أولًا في هذه السورة كثيرًا من الأمور الدينية، من عبادته تعالى وعدم الشرك به، والمدنية كمعاملة ذوي القربى والجيران واليتامى والمساكين، والشخصية كأحكام الزواج والمصاهرة والمواريث.. بين هنا في هذه الآيات بعض الأحكام الحربية والسياسية، ورسم لنا الطريق التي نسير عليها في حفظ ملتنا وحكومتنا المبنية على تلك الأصول من الأعداء انتهى.
قوله تعالى: ﴿فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها (٢): أن الله سبحانه وتعالى لما بين حال ضعفاء الإيمان، الذين يبطئون عن القتال في سبيله.. دلهم بهذه الآية على طريق تطهير نفوسهم من ذلك الذنب العظيم، ذنب القعود عن القتال، وأمر به إيثارًا لما عند الله من الأجر والثواب على ما في الدنيا من نعيم زائل وعرض يفنى.
قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها (٣): أنه لما أمر الله سبحانه وتعالى المؤمنين أولًا بالنفر إلى الجهاد، ثم ثانيًا بقوله: ﴿فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ ثم ثالثًا على طريق الحث والحض بقوله: ﴿وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ﴾.. أخبر في هذه الآية بالتقسيم، أن المؤمن هو الذي يقاتل في سبيل الله، وأن الكافر هو الذي يقاتل في سبيل الطاغوت، ليبين للمؤمنين فرق ما بينهم وبين الكفار، ويقويهم بذلك، ويشجعهم ويحرضهم، وأن من قاتل في سبيل الله هو الذي يغلب؛ لأن الله هو وليه وناصره، ومن قاتل في سبيل الطاغوت فهو المخذول المغلوب، والطاغوت هنا الشيطان؛ لقوله: ﴿فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ﴾.
(٢) المراغي.
(٣) البحر المحيط.
أسباب النزول
قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ....﴾ الآية، سبب نزولها (٢): ما أخرجه النسائي (ج٦/ ص ٣) قال: أخبرنا محمد بن علي بن الحسن بن شقيق، قال: أنبأنا أبي، قال الحسين بن واقد: عن عمرو بن دينار عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن عبد الرحمن بن عوف الزهري
(٢) النسائي.
التفسير وأوجه القراءة
٧١ - ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ بما جاء به محمد - ﷺ -، ﴿خُذُوا﴾ أسلحتكم، والزموا ﴿حِذْرَكُمْ﴾؛ أي: احترازكم واحتراسكم من عدوكم، ولا تمكنوه من أنفسكم، واستعدوا لاتقاء شره وحربه، بأن تعرفوا حاله ومبلغ استعداده وقوته، وإذا كان لكم أعداء كثيرون.. فاعرفوا ما بينهم من وفاق وخلاف، واعرفوا الوسائل لمقاومتهم إذا هجموا عليكم، واعملوا بتلك الوسائل.
ويدخل في ذلك معرفة حال العدو، ومعرفة أرضه وبلاده، وأسلحته واستعمالها، وما يتوقف على ذلك من معرفة الهندسة والكيمياء وجر الأثقال، وبالجملة: يجب اتخاذ أهبة الحرب المستعملة فيها من طيارات وقنابل ودبابات وبوارج مدرعة ومدافع مضادة للطائرات إلى نحو ذلك، حتى لا يهاجمكم على غرة، أو يهددكم في دياركم، ويأخذ أراضيكم، وحتى لا يعارضكم في إقامة دينكم أو دعوتكم.
وقد كان النبي - ﷺ - والصحابة على علم بأرض عدوهم، كما لهم عيون وجواسيس يأتونهم بالأخبار، ولما أخبروه بنقض قريش للعهد إخلالهم بشروط المعاهدة في صلح الحديبية.. استعدو لفتح مكة، ولم يفلح أبو سفيان في تجديد العهد مرة أخرى، وقد كان يظن أن المسلمين لم يعلموا بنكثهم له، وقد قال أبو بكر لخالد بن الوليد في حرب اليمامة: حاربهم بمثل ما يحاربونك به، السيف بالسيف والرمح بالرمح.
وما رواه الحاكم عن عائشة: "لا يغني حذر من قدر" لا يناقض أخذ
﴿فَانْفِرُوا﴾؛ أي: فاخرجوا لقتال عدوكم، وانهضوا لمقاومته، ﴿ثُبَاتٍ﴾؛ أي: جماعات بعد جماعات، سرية بعد سرية، ﴿أَوِ انْفِرُوا﴾: واخرجوا إلى لقائه كلكم ﴿جَمِيعًا﴾؛ أي: مجتمعين كوكبة واحدة، والتخيير فيه لولاة الأمور بحسب اجتهادهم، والمراد بادروا كيفما أمكن؛ أي: فانفروا جماعة إثر جماعة، بأن تكونوا فصائل وفرقا إذا كان الجيش كبيرًا، أو موقع العدو يستدعي ذلك، أو تنفر الأمة كلها جميعًا إذا اقتضت الحال ذلك بحسب قوة العدو.
والخلاصة: أنكم إما أن تنفروا جماعات جماعات، وإما أن ينفر جميع المؤمنين على الإطلاق بحسب حال العدو.
وامتثال هذا الأمر يقتضي أن تكون الأمة على استعداد دائم للجهاد، بأن يتعلم كل فرد من أفرادها فنون الحرب، ويتمرن عليها، وأن تقتني السلاح الذي تحتاج إليه في هذا النضال، وتتعلم كيفية استعماله في كل زمان بما يناسبه.
وبهذا تعلم أن الحكومة الإِسلامية يجب عليها أن تقيم هذا الواجب بنفسها، لا أن تبقى عالة على غيرها وعلى الأمة أن تساعدها عليه، بل تلزمها إياه إذا قصرت فيه، بعكس ما نراه الآن من تراخي الأمم الإِسلامية وضعفها وتوانيها في ذلك، حتى طمعت فيها كل الدول التي تجاورها، واجتاحتها من أطرافها، واجتثت كثيرًا من أراضيها وأقاليمها، واستأمرت عليها واستعبدتها، وضربت عليها الخراج والجزية، كالشعوب الأرومية الإِسلامية في شرق أفريقيا، استعبدها استئمار الحبوش، فعلى الأمة الإِسلامية التي استعبدها الاستئمار أن يتوبوا إلى ربهم، ويتمسكوا بدينهم، ويعضوا عليه بالنواجذ، ويتوسلوا إلى ربهم بصالح أعمالهم، ويسألوا الله النصر على أعدائهم الشيوعية، ويستغيثوا بالأمم الإِسلامية التي تجاورهم، وأن يأخذوا أهبة الحرب وسلاحها، ويتعلموا
٧٢ - والخطاب في قوله: ﴿وَإِنَّ مِنْكُمْ﴾ لجماعة المؤمنين بحسب الظاهر الشامل للمنافقين وضعفاء الإيمان؛ أي: وإن من عسكر رسول الله - ﷺ -، ﴿لَمَنْ﴾ وعزتي وجلالي ﴿لَيُبَطِّئَنَّ﴾؛ أي: ليتثاقلنَّ ويتأخرنَّ عن الجهاد، ويتخلَّفنَّ عن القتال معكم، وهم المنافقون وضعفاء الإيمان، فالمنافقون يرغبون عن الحرب؛ لأنهم لا يحبون أن يبقى الإِسلام وأهله، ولا أن يدافعوا عنه ويحموا بيضته، فهم يبطئون عن القتال، ويبطئون غيرهم عن النفر إليه، والجبناء وضعفة الإيمان يبطئون بأنفسهم عن القتال خورًا وخوفًا من صليل السيوف ومن الكر والفر ومقابلة العدو وهو شاكي السلاح، ثم فصل أحوال هؤلاء الضعفاء فقال: ﴿فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ﴾ أيها المؤمنون المجاهدون، ونزلت بكم ﴿مُصِيبَةٌ﴾؛ أي: واقعة من قتل أو هزيمة أو جهد عيش، ﴿قَال﴾ ذلك المبطىء فرحًا بما فعل حامدًا رأيه شاكرًا ربه: ﴿قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ﴾ بالقعود وأكرمني بالسلامة، ﴿إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا﴾؛ أي: حاضرًا معهم في المعركة، فيصيبني مثل ما أصابهم من المصائب والشدة.
وقرأ الجمهور (١): ﴿لَيُبَطِّئَنَّ﴾ بالتشديد، وقرأ مجاهد ﴿ليبطئن﴾ بالتخفيف، والقرآتان يحتمل أن يكون الفعل فيهما لازمًا؛ لأنهم يقولون: أبطأ وبطأ في معنى
٧٣ - ﴿وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ﴾؛ أي: وعزتي وجلالي، لئن حصل لكم أيها المجاهدون فضل، ونعمة من الله سبحانه وتعالى، كفتح وغنيمة، فظفرتم بالعدو، وفتحتم البلاد، فغنمتم وأخذتم السبايا والأسرى.. ﴿لَيَقُولَنَّ﴾ ذلك المبطىء والمنافق: ﴿كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ﴾ أيها المؤمنون ﴿وَبَيْنَهُ﴾؛ أي: وبين ذلك المبطىء ﴿مَوَدَّةٌ﴾؛ أي: محبة وصلة في الدين ومعرفة في الصحبة ولا مخالطة أصلًا، وجملة التشبيه معترضة بين الفعل الذي هو ﴿لَيَقُولَن﴾ وبين مفعوله الذي هو قوله: ﴿يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ﴾؛ أي: ليقولن قول حاسد نادم: يا هؤلاء أتمنى كوني غازيًا معهم، ﴿فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾؛ أي: فأصيب غنائم كثيرة معهم، وآخذ حظًّا وافرًا من السبايا، والغرض من جملة التشبيه التعجب (١) كأنه تعالى يقول: انظروا إلى ما يقول هذا المنافق، كأنه ليس بينكم أيها المؤمنون وبين المنافق صلة في الدين، ومعرفة في الصحبة، وقيل: الجملة التشبيهية حال من ضمير ﴿ليقولن﴾؛ أي: ليقولن مشبَّهًا بمن لا معرفة بينكم وبينه، وقيل: هي داخلة في المقول؛ أي: ليقولن المثبط للمثبطين من المنافقين وضعفة المؤمنين، كأن لم تكن بينكم وبين محمد معرفة في الصحبة، حيث لم يستصحبكم في الغزو، حتى تفوزوا بما فاز محمد: يا ليتني كنت معهم، وغرض المثبط حينئذ إلقاء العداوة بينهم وبين رسول الله - ﷺ -.
ونسبة (٢) إصابة الفضل إلى جانب الله تعالى، دون إصابة المصيبة من العادات الشريفة التنزيلية، كما في قوله تعالى: ﴿وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (٨٠)﴾ وتقديم الشرطية الأولى على الثانية لما أن مضمونها لمقصدهم أوفق، وأثر نفاقهم فيها أظهر.
(٢) كرخي.
٧٤ - والفاء في قوله: ﴿فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ رابطة (٢) الجواب بشرط مقدر، تقديره: إن لم يقاتل في سبيل الله هؤلاء المثبطون المنافقون.. فليقاتل في سبيل الله، فليجاهد لإعلاء كلمة الله تعالى المؤمنون المخلصون ﴿الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ﴾؛ أي: الذين يبيعون الحياة الدنيا ولذاتها بالآخرة، ويبذلون أرواحهم لله تعالى، ويجعلون الآخرة وثوابها ثمنًا لها وعوضًا منها.
ثم رغب في القتال بعد الأمر به بذكر الثواب عليه فقال: ﴿وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ﴾؛ أي: في طاعته ويجاهد لإعلاء كلمة الله، لا للحمية والمفاخرة ﴿فـ﴾ يظفر به عدوه و ﴿يقتل﴾ شهيدًا ﴿أَوْ﴾ يظفر هو بعدوه، و ﴿يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ﴾؛ أي: نعطيه في كلا الحالين ﴿أَجْرًا عَظِيمًا﴾؛ أي: ثوابًا جسيمًا من عندنا في الآخرة، خالدًا مخلدًا في دار الجزاء والنعيم المقيم، وإذا كان الأجر حاصلًا له على كلا التقديرين.. لم يكن عمل أشرف من الجهاد، ونبه بقوله ﴿فَيُقتَل﴾ أو يغلب على أن المجاهد ينبغي له أن يثبت في المعركة، حتى يكرم نفسه بالشهادة، أو يعز الدين بالظفر والغلبة، وأن لا يكون قصده بالذات إلى القتل، بل إلى إعلاء الحق وإعزاز الدين.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - ﷺ -: تضمن الله لمن خرج في سبيله، لا يخرجه إلا جهاد في سبيلي، وإيمان بي، وتصديق برسلي، فهو علي ضامن أن أدخله الجنة، أو أرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه، نائلًا ما نال من أجر أو غنيمة". متفق عليه وهذا لفظ مسلم.
(٢) الشوكاني.
٧٥ - ثم زاد ترغيبًا فيه فقال: ﴿وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ والاستفهام فيه للتحريض والأمر بالجهاد؛ أي: وأيُّ عذر ثبت لكم أيها المؤمنون يمنعكم أن تقاتلوا في سبيل الله مع المشركين، لتقيموا التوحيد مقام الشرك وتحلوا الخير محل الشر، وتضعوا العدل والرحمة موضع الظلم والقسوة، ﴿و﴾ أي شيء منعكم أن تقاتلوا في تخليص ﴿الْمُسْتَضْعَفِينَ﴾؛ أي: في فك الضعفاء إخوانكم في الدين من أيدي المشركين حالة كونهم ﴿مِنَ الرِّجَالِ﴾ الضعفاء ﴿وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ﴾؛ أي: الصبيان، وقيل المراد بالولدان العبيد والإماء، والمراد بالمستضعفين جماعة من المسلمين الذين بقوا بمكة وعجزوا عن الهجرة إلى المدينة، وكانوا يلقون من كفار مكة أذى شديدًا، وكان النبي - ﷺ - يدعو لهم فيقول: "اللهم أنج الوليد بن الوليد، وسلمة بن هشام، وعياش بن ربيعة، والمستضعفين من المؤمنين"، قال ابن عباس: كنت أنا وأمي من المستضعفين من النساء والولدان، ﴿الَّذِينَ يَقُولُونَ﴾؛ أي: وفي تخليص المستضعفين الذين فقدوا النصير والمعين، وتقطعت بهم أسباب الرجاء، فاستغاثوا بربهم ودعوه ليفرج كربهم، ويخرجهم من تلك القرية - مكة - لظلم أهلها لهم، ويسخر لهم بعنايته من يتولى أمرهم، وينصرهم على من ظلمهم، فيتمكنوا بذلك من الهجرة إليكم، ويرتبطوا بكم بأقوى الروابط، وهي رابطة الإيمان، فهي أقوى من رابطة الأنساب والأوطان، فقالوا في دعوتهم واستغاثتهم: ﴿رَبَّنَا﴾ ويا مالك أمرنا ﴿أَخْرِجْنَا﴾؛ أي: حولنا وانقلنا ﴿مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ﴾ وهذه البلدة يعنون مكة ﴿اَلظالمِ أهلُهَا﴾؛ أي: التي اتصف أهلها وساكنوها بالظلم؛ لأنهم كانوا مشركين، وكانوا يؤذون
٧٦ - وما شُرع القتال إلا لعدم حرية الدين، وظلم المشركين للمسلمين، فالقتال قبيح ولا يجيزه العقل السليم إلا لإزالة قبيح أشد منه ضررًا، والأمور بمقاصدها وغاياتها، كما قال تشجيعًا للمجاهدين وترغيبًا لهم في الجهاد. ﴿الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ وهذا كلام مستأنف، سيق لترغيب المؤمنين في الجهاد؛ أي: إنما يقاتل الذين آمنوا لأجل إعلاء كلمة الله ونصرة دينه ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ﴾ والشيطان؛ أي: إنما يقاتل الذين كفروا لنصرة دين الشيطان وكلمة الباطل، واتباعًا لوسوسته وتزيينه الكفر، فلو ترك المؤمنون القتال.. لغلب الطغيان وعم الفساد، ﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ﴾. ثم حث مرة أخرى على القتال، وبين لهم ضعف عدوهم فقال: ﴿فَقَاتِلُوا﴾ أيها المؤمنون وأولياء الرحمن ﴿أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ﴾ وأصحابه الذين زين لهم الشيطان بوسوسته وخداعه الباطل، وأن في الظلم وإهلاك الحرث والنسل شرفًا لهم أيما شرف، ﴿إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ﴾ ومكره للمؤمنين ﴿كانَ ضَعِيفًا﴾ بالنسبة إلى مكر الله سبحانه وتعالى للكافرين، فالنصر والظفر لأوليائه، والهزيمة والخذلان للكافرين، فلا تخافوا أولياء الشيطان وخافون إن كنتم مؤمنين.
وقد جرت سنة الله أن الحق يعلو، والباطل يسفل، وأن الذي يبقى هو الأصلح والأمثل، فالذين يقاتلون في سبيل الله يطلبون ما تقتضيه سنة العمران، والذين يقاتلون في سبيل الشيطان يطلبون الانتقام والاستعلاء في الأرض بغير الحق، وتسخير الناس لأغراضهم وشهواتهم، وسنن العمران تأبى ذلك، فلا يكون لذلك قوة ولا بقاء إلا لنومة أهل الحقّ عن حقهم، فإذا هم أفاقوا من غفوتهم.. تغلب الحق على الباطل، ورده خاسئًا محسورًا.
على أن الذين يقاتلون في تأييد الحق تتوجه هممهم إلى إتمام الاستعداد، ويكونون أجدر بالثبات والصبر، وفي ذلك من القوة ما ليس في كثرة العدد والعدد.
وهذا في الحروب الدينية التي قد تركها المسلمون منذ أزمان طويلة، ولو وجدت في الأرض حكومة إسلامية، تقيم القرآن، وتحوط الدين وأهله بما أوجبه الله من إعداد العدة للحرب.. لاتخذها أهل المدنية قدوة لهم وإماما في أعمالهم، وما كانت الحمية والعصبية والوطنية ديدنًا لهم، فهم في أمد بعيد من النصر على أعدائهم، فيا مصيبة ابتلي المسلمون بها الآن، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
٧٧ - وقوله: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ﴾ استفهام (١) تعجيب لرسول الله - ﷺ - من إحجامهم عن القتال، مع أنهم كانوا قبل ذلك راغبين فيه حرصًا عليه، بحيث كانوا يباشرونه كما ينبىء عنه الأمر بكف الأيدي، فإن ذلك مشعر بكونهم بصدد بسطها إلى العدو، والخطاب (٢) فيه
(٢) المراح.
قال في "التسهيل": إن الآية في قوم من الصحابة كانوا قد أمروا بالكف عن القتال، فتمنوا أن يؤمروا به، فلما أمرو به.. كرهوه، لا شكًّا في دينهم، ولكن خوفًا من الموت، كما مر هذا القول، وقيل: الآية في المنافقين، وهو أليق بسياق الكلام، واختار القرطبي وأبو حيان هذا القول وهو الأرجح، قال في "البحر": الظاهر أن القائلين هذا هم منافقون؛ لأن الله تعالى إذا أمر بشيء لا يسأل عن علته من هو خالص الإيمان، ولهذا جاء السياق بعده: ﴿وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ﴾، وهذا لا يصدر إلا من منافق انتهى.
وقرأ حمزة والكسائي وابن كثير (١): ﴿وَلَا يُظْلَمُونَ﴾ بالياء، وباقي السبعة بالتاء على الخطاب، وهو التفات، ثم رغبهم في القتال،
٧٨ - وبين لهم أن الموت مصير كل شيء، فقال: ﴿أَيْنَمَا تَكُونُوا﴾؛ أي: في أي مكان وجدتم وحصلتم فيه، سواء كان برًّا أو بحرًا، سفرًا أو حضرًا ﴿يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ﴾؛ أي: يأخذكم الموت الذي تكرهون لأجله القتال، زعمًا منكم أنه من محله، ويقع بكم لا محالة، ﴿وَلَوْ كُنْتُمْ﴾ متحصنين منه ﴿فِي بُرُوجٍ﴾ وحصون ﴿مُشَيَّدَةٍ﴾؛ أي: مطولة مرتفعة قوية بالجص والنورة، فلا تخشوا القتال لأجله، ولا تتمتوا هذا التأخير الذي سألتم؛
وَمَنْ هَابَ أَسْبَابَ الْمَنَايَا يَنَلْنَهُ | ولَوَ رَامَ أَسْبَابَ السَّمَاءِ بسُلَّمِ |
والخلاصة (٢): أن الموت أمر محتم لا مهرب منه، فهو لا بد أن يدرككم في أي مكان، ولو تحصنتم في شواهق القصور التي يسكنها ذوو الثراء والنعمة، أو في القلاع والحصون التي تقطنها حامية الجند، وإذا كان الموت لا مفر منه، وكان المرء قد يقتحم غمار الوغى ولا يصاب بالأذى، وقد يموت المعتصم في البروج والحصون، وهو في غضارة العيش.. فلا عذر لكم أيها المثبطون المبطئون، ولماذا تختارون لأنفسكم الحقير على العظيم، ولماذا لا تدافعون عن الحق وتمنعون الشر أن يفشو، حتى تستحقوا مرضاة الله وسعادة الآخرة، ولماذا تكرهون القتال وتجبنون، وتخافون الناس وتتمنون البقاء، أليس هذا بضعف في الدين، وركة في العقل، وخورًا في العزيمة، تؤاخذون بها، وتقوم عليكم بها الحجة.
ثم ذكر سبحانه وتعالى شأنًا آخر من شؤونهم، أشد دلالة على الحمق وضعف العقل ومرض القلب، فقال: ﴿وَإِنْ تُصِبْهُمْ﴾؛ أي: اليهود والمنافقين ﴿حَسَنَةٌ﴾؛ أي: خصب ورخص السعر وتتابع الأمطار، ﴿يَقُولُوا هَذِهِ﴾ الحسنة ﴿مِنْ عِنْدِ اللَّهِ﴾ تعالى، قال المفسرون: كانت المدينة مملوءة من النعم وقت مقدم رسول الله - ﷺ -، فلما ظهر عناد اليهود والمنافقين على دعائه إياهم إلى الإيمان.. أمسك الله عنهم بعض الإمساك، كما جرت عادته تعالى في جميع الأمم، فعند
(٢) المراغي.
أي: لا يقربون أن يفهموا حديثًا من الأحاديث أصلًا، فقالوا ما قالوه، إذ لو فهموا شيئًا من ذلك.. لفهموا أن الكل من عند الله تعالى، فالنعمة منه تعالى بطريق التفضل، والبلية منه تعالى بطريق العقوبة على ذنوب العباد، عدلًا منه تعالى، والاستفهام هنا تعجبي مضمن معنى الإنكار.
وإذا (١) كانوا قد حرموا هذا الفقه من كل حديث.. فما أحراهم أن يحرموه من حديث يبلغه الرسول عن ربه، في الإخبار عن نظم الاجتماع، وارتباط الأسباب بالمسببات، وعما أحاط الله به المصطفين الأخيار من وافر الفضل، وخصهم به من جميل الرعاية، فتلك الحكم العالية لا تُنال إلا بفضل الروية،
وفي الآية إيماء إلى أن حصيف الرأي يجب أن يطلب فقه القول دون الأخذ بالجمل والظواهر، إذ من قنع بذلك.. بقي في عماية، ويظل طول دهره غِرًّا جاهلًا بما يحيط به من نظم هذا العالم.
ووقف أبو عمرو والكسائي على قوله (١): ﴿فما﴾، ووقف الباقون على ﴿اللام﴾ في قوله: ﴿فمال﴾ إتباعًا للخط، ولا ينبغي تعمد ذلك، لأن الوقف على ﴿فما﴾ فيه قطع عن الخبر، وعلى اللام فيه قطع عن المجرور دون حرف الجر، وإنما يكون ذلك لضرورة انقطاع النفس.
٧٩ - والخطاب في قوله: ﴿مَا أَصَابَكَ﴾ للنبي - ﷺ -، ولكن المراد غيره؛ أي: أيُّ شيء أصابك وأتاك أيها الإنسان ﴿مِنْ حَسَنَةٍ﴾؛ أي: من نعمة من النعم التي أنعم الله بها عليك ﴿فـ﴾ هي أتت ﴿مِنَ اللَّهِ﴾ سبحانه وتعالى بالذات تفضلًا وإحسانًا منه، من غير استيجاب لها من قبلك، ﴿وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ﴾؛ أي: وأيُّ شيء أصابك وأتاك من بلية من البلايا ﴿فَمِنْ نَفْسِكَ﴾؛ أي: فتلك السيئة أتت من نفسك، بسبب اقترافك المعاصي الموجبة لها، وإن كان الخلق من الله، وعن عائشة - رضي الله عنها -: "ما من مسلم يصيبه وصب ولا نصب حتى الشوكة يشاكها، وحتى انقطاع شسع نعله، إلا بذنب، وما يعفو الله عنه أكثر".
وحاصل المعنى (٢): أن كل حسنة تصيبك أيها المؤمن فهي من فضل الله وجوده، فهو الذي سخر لك المنافع التي تتمتع بها وتحسن لديك، فقد سخر لك الهواء الذي يحفظ الحياة، والماء العذب الذي يمد كل الأحياء وأزواج النبات والحيوان وغيرهما من مواد الغذاء، وأنعم عليك بوسائل الراحة والهناء، وكل سيئة تصيبك فهي من نفسك، فإنك بما أوتيت من قدرة على العمل، واختيار في
(٢) المراغي.
وقد تضافرت الآثار على أن طاعة الله من أسباب النعم، وأن عصيانه مما يجلب النقم، وطاعته إنما تكون باتباع سننه، وصرف ما وهب من الوسائل فيما وهب لأجله، وهذه الآية أصل من أصول الاجتماع وعلم النفس، وفيها شفاء للناس من خرافات الوثنية، واستدراجات الطاغوتية، وكرامات الشيطانية، وارتفاع وتكريم للنفس الإنسانية.
وفي مصحف ابن مسعود (١): ﴿فمن نفسك وإنما قضيتها عليك﴾، وحكى أبو عمرو أنها في مصحف ابن مسعود: ﴿وأنا كتبتها﴾، وروي أن ابن مسعود وأبيًّا قرأ: ﴿وأنا قدرتها عليك﴾، وعنى بالنفس هنا المذكورة في قوله: ﴿إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ﴾، وقرأت عائشة رضي الله عنها: ﴿فمَن نفسُك﴾ بفتح الميم ورفع السين، فـ ﴿مَن﴾ استفهام معناه الإنكار؛ أي: فمن نفسك حتى ينسب إليها فعل، المعنى: ما للنفس في الشيء فعل.
فائدة: فإن قلت (٢) إن قوله: ﴿مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ﴾ يعارض قوله: ﴿كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ﴾ الواقع ردًّا لقول المشركين ﴿وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ...﴾ الآية؟
فالجواب: أن قوله: ﴿كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ﴾ أي إيجادًا وقوله: ﴿وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ﴾؛ أي: من كسبك، كما في قوله تعالى: ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ﴾.
والحاصل: أنك إذا نظرت إلى الفاعل الحقيقي.. فالكل منه، وإذا نظرت
(٢) الفتوحات.
وقوله: ﴿وَأَرْسَلْنَاكَ﴾ يا محمَّد ﴿لِلنَّاسِ﴾؛ أي: إلى الناس كافة حالة كونك ﴿رَسُولًا﴾؛ أي: مرسلًا إليهم بشريعتنا، بيان لجلالة منصبه ومكانته عند الله تعالى، بعد بيان بطلان زعمهم الفاسد في حقه بناء على جهلهم بشأنه الجليل؛ أي: ليس لك إلا الرسالة والتبليغ وقد فعلت ذلك وما قصرت، وليس لك دخل فيما يصيب الناس من الحسنات والسيئات؛ لأنك لم ترسل إلا للتبليغ والهداية، لا للتصرف في نظم الكون وتحويل سنن الاجتماع أو تبديلها، فما زعمه أولئك الجاهلون من أن السيئة تصيبهم بشؤمك محض خرافة، لا مستند لها من عقل أو نقل، ومخالف لما بينه الله تعالى من وظيفة الرسل.
﴿وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا﴾؛ أي: وكفى الله سبحانه وتعالى شهيدًا على جدك وعدم تقصيرك في أداء الرسالة وتبليغ الوحي، فأما حصول الهداية فليس إليك بل إلى الله تعالى، أو كفى الله شهيدًا على أنك أرسلت للناس كافة بشيرًا ونذيرًا، لا مسيطرًا ولا جبارًا، ولا مغيرًا لنظم الكون وتحويل سنن الاجتماع أو تبديلها، ﴿فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا﴾ ﴿وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا﴾ فلا ينبغي لأحد من الناس، عربهم وعجمهم أن يخرج عن طاعتك واتباعك.
الإعراب
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا (٧١)﴾.
﴿يَا أَيُّهَا﴾ ﴿يا﴾: حرف نداء، ﴿أي﴾: منادى نكرة مقصودة، ﴿ها﴾: حرف
﴿وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ﴾.
﴿وَإِنَّ﴾: ﴿الواو﴾: استئنافية، ﴿إنَّ﴾: حرف نصب وتوكيد، ﴿مِنْكُمْ﴾: جار ومجرور خبر مقدم لـ ﴿إنَّ﴾، ﴿لَمَنْ﴾ ﴿اللام﴾: حرف ابتداء، من: اسم موصول، أو نكرة موصوفة في محل النصب اسم إن مؤخر عن خبرها، تقديره: وإن من ليبطئن لكائن منكم، وجملة ﴿إنَّ﴾ مستأنفة، ﴿لَيُبَطِّئَنَّ﴾ ﴿اللام﴾: موطئة للقسم، ﴿يُبَطِّئَنَّ﴾: فعل مضارع في محل الرفع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، ونون التوكيد حرف لا محل لها من الإعراب، وفاعله ضمير مستتر فيه يعود على ﴿من﴾، والجملة الفعلية جواب لقسم محذوف، تقديره: وإن الذي أقسم والله ليبطئن لكائن منكم، وجملة القسم وجوابه صلة ﴿مَن﴾ إن قلنا ﴿مَن﴾ موصولة، أو صفة لها إن قلنا نكرة موصوفة، والعائد أو الرابط الضمير المستتر في ﴿لَيُبَطِّئَنَّ﴾ وبذلك (١) علم أن جملة القسم مع جوابها خبرية مؤكدة بالقسم، فلا يمتنع وقوعها صلة للموصول، أو صفة للموصوف، والإنشائية إنما هي جملة القسم، أعني: أقسم بالله، كما ذكره الشيخ سعد الدين، واللام في ﴿لَمَنْ﴾ لام ابتداء، دخلت على اسم ﴿إن﴾؛ لوقوع الخبر فاصلًا.
﴿فَإِنْ﴾ ﴿الفاء﴾: حرف عطف وتفصيل، ﴿إن﴾: حرف شرط، ﴿أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ﴾: فعل ومفعول وفاعل في محل الجزم بـ ﴿إن﴾، على كونه فعل شرط لها، ﴿قَال﴾: فعل ماض في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ على كونه جواب شرط لها، وفاعله ضمير يعود على من يبطئن، وجملة ﴿إن﴾ الشرطية مع جوابها معطوفة على جملة قوله: ﴿وَإِنَّ مِنْكُمْ﴾ مفصلة لها، ﴿قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ...﴾ إلى أخر الآية: مقول محكي لـ ﴿قَالَ﴾، وإن شئت قلت: ﴿قَدْ﴾: حرف تحقيق، ﴿أَنْعَمَ اللَّهُ﴾ فعل وفاعل، ﴿عَلَيَّ﴾ جار ومجرور متعلق بـ ﴿أَنْعَمَ﴾، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾، ﴿إِذْ﴾: ظرف لما مضى من الزمان في محل النصب مبني على السكون، والظرف متعلق بـ ﴿أَنْعَمَ﴾، ﴿لَمْ أَكُنْ﴾: جازم وفعل ناقص، واسمه ضمير يعود على المبطىء، ﴿مَعَهُمْ﴾: ظرف ومضاف إليه متعلق بـ ﴿شَهِيدًا﴾: وهو خبر ﴿أَكُنْ﴾، وجملة الكون في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿إِذْ﴾.
﴿وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا (٧٣)﴾.
﴿وَلَئِنْ﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة، ﴿اللام﴾: موطئة للقسم، ﴿إن﴾: حرف شرط جازم، ﴿أَصَابَكُمْ فَضْلٌ﴾ فعل وفاعل ومفعول، في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ على كونه فعل شرط لها، ﴿مِنَ اللَّهِ﴾: جار ومجرور صفة لـ ﴿فَضْلٌ﴾، ﴿لَيَقُولَنَّ﴾ ﴿اللام﴾: لام القسم مؤكدة للَّام الأولى، ﴿يقولنّ﴾: فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، وفاعله ضمير يعود على المبطىء، والجملة الفعلية جواب القسم لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم مع جوابه معطوفة على جملة قوله: ﴿فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ﴾، وجواب الشرط محذوف لدلالة جواب القسم عليه، تقديره: ولئن أصابكم فضل من الله.. يقول: يا ليتني كنت معهم، وإنما جعلنا المذكور جواب القسم، وجعلنا جواب الشرط محذوفًا جريًا على القاعدة إنه إذا اجتمع شرط وقسم متواليان، ولم يتقدم عليهما ذو خبر.. جعل المذكور جواب المتقدم منهما، وقدر جواب المتأخر منهما، كما قال ابن مالك:
وَاحْذِفْ لَدَى اجْتِمَاعِ شَرْطٍ وَقَسَمْ | جَوَابَ مَا أخَّرْتَ فَهْوَ مُلْتَزَمْ |
وَإِنْ تَوَالَيَا وَقَبْلُ ذُوْ خَبَرْ | فَالشَّرْطَ رَجِّحْ مُطْلَقًا بِلاَ حَذَرْ |
﴿فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ﴾.
﴿فَلْيُقَاتِلْ﴾ ﴿الفاء﴾: رابطة لجواب شرط محذوف، تقديره: إن بطأ وتأخر
﴿وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا﴾.
﴿وَمَنْ يُقَاتِلْ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية، ﴿من﴾: اسم شرط في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط، أو جملة الجواب أو هما، ﴿يُقَاتِلْ﴾: فعل شرط مجزوم بـ ﴿من﴾ وفاعله ضمير يعود على ﴿من﴾، ﴿فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿يُقَاتِلْ﴾، ﴿فَيُقْتَلْ﴾ ﴿الفاء﴾: حرف عطف وتفريع، ﴿يُقْتَلْ﴾: فعل مضارع مغير الصيغة معطوف على ﴿يُقاتل﴾ مجزوم بـ ﴿من﴾، ونائب فاعله ضمير يعود على ﴿من﴾، ﴿أَوْ﴾: حرف عطف وتنويع، ﴿يَغْلِبْ﴾: فعل مضارع مبني للفاعل معطوف على ﴿يُقْتَلْ﴾، وفاعله ضمير يعود على ﴿مَنْ﴾، ﴿فَسَوْفَ﴾ ﴿الفاء﴾: رابطة لجواب ﴿من﴾ الشرطية وجوبًا؛ لاقتران الجواب بحرف التنفيس. ﴿سوف﴾: حرف تنفيس للاستقبال البعيد. ﴿نُؤْتِيهِ﴾: فعل مضارع ومفعول أول مرفوع لعدم صلاحية لفظه للجواب لاقترانه بحرف التنفيس، وفاعله ضمير يعود على ﴿الله﴾، ﴿أجرًا﴾: مفعول ثان، ﴿عَظِيمًا﴾: صفة له، والجملة الفعلية في محل الجزم جواب ﴿من﴾ الشرطية، وجملة ﴿من﴾ الشرطية: مستأنفة.
﴿وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾.
﴿وَمَا﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية، ﴿ما﴾: اسم استفهام في محل الرفع مبتدأ، ﴿لَكُمْ﴾: جار ومجرور خبر المبتدأ، والتقدير: أي شيء ثابت لكم، ﴿لَا﴾ نافية، ﴿تُقَاتِلُونَ﴾: فعل وفاعل، والجملة في محل النصب حال من ضمير المخاطبين، والعامل في هذه الحال الاستقرار المقدر، والتقدير: أيُّ شيء مستقر لكم حالة
أظهرهما: أنها في محل نصب على الحال؛ أي: ما لكم غير مقاتلين، أنكر عليهم أن يكونوا على غير هذه الحالة، وقد صرح بالحال بعد مثل هذا التركيب في قوله: ﴿فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ﴾ وقالوا في مثل هذه الحال: إنها حال لازمة؛ لأن الكلام لا يتم بدونها، وفيه نظر، والعامل في هذه الحال الاستقرار المقدر، كقولك مالك ضاحكًا.
والوجه الثاني: أن الأصل: وما لكم في أن لا تقاتلوا، فحذفت ﴿في﴾ فبقي أن لا تقاتلوا، فجرى الخلاف المشهور، ثم حذفت أن الناصبة، فارتفع الفعل بعدها، كقوله: تسمع بالمعيدي خير من أن تراه. اهـ. "سمين".
﴿الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ﴾.
﴿وَالْمُسْتَضْعَفِينَ﴾: معطوف على ﴿سَبِيلِ اللَّهِ﴾ ولكنه على تقدير مضاف تقديره: وفي تخليص المستضعفين من أيدي الكفار، ﴿مِنَ الرِّجَالِ﴾: جار ومجرور حال من ﴿الْمُسْتَضْعَفِينَ﴾، ﴿وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ﴾: معطوفان على ﴿الرِّجَالِ﴾.
﴿الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا﴾.
﴿الَّذِينَ﴾: صفة لـ ﴿المستضعفين﴾، ﴿يَقُولُونَ﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، ﴿رَبَّنَا أَخْرِجْنَا...﴾ إلى آخر الآية مقول محكي لـ ﴿يَقُولُونَ﴾ وإن شئت قلت: ﴿رَبَّنَا﴾: منادى مضاف وجملة النداء مقول القول، ﴿أَخْرِجْنَا﴾: فعل وفاعل والجملة جواب النداء على كونها مقول القول، ﴿مِنْ هَذِهِ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿أَخْرِجْنَا﴾، ﴿الْقَرْيَةِ﴾: بدل من اسم الإشارة، أو عطف بيان منه، ﴿الظَّالِمِ﴾: صفة للقرية، ﴿أَهْلُهَا﴾: مرفوع به على الفاعلية، وأل في ﴿الظَّالِمِ﴾: موصولة بمعنى: التي ظلم أهلها، فالظالم موافق للقرية إعرابًا ولما بعده معنى؛ لأنه نعت سببي. ﴿وَاجْعَلْ﴾: فعل دعاء وفاعله ضمير يعود على الله، وهو معطوف على
﴿الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا (٧٦)﴾.
﴿الَّذِينَ﴾: مبتدأ، ﴿آمَنُوا﴾: صلته، ﴿يُقَاتِلُونَ﴾: خبره والجملة الإسمية مستأنفة، ﴿فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿يُقَاتِلُونَ﴾. ﴿وَالَّذِينَ﴾: مبتدأ، ﴿كَفَرُوا﴾: صلته، ﴿يُقَاتِلُونَ﴾: خبره، والجملة معطوفة على الجملة التي قبلها، ﴿فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿يُقَاتِلُونَ﴾. ﴿فَقَاتِلُوا﴾ ﴿الفاء﴾: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن شرط مقدر تقديره إذا عرفتم أن الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله... إلخ، وأردتم بيان ما هو لازم لكم.. فأقول لكم: ﴿قاتلوا﴾: فعل وفاعل. ﴿أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ﴾: مفعول به ومضاف إليه، والجملة الفعلية في محل النصب مقول لجواب إذًا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. ﴿إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ﴾: ناصب ومنصوب ومضاف إليه، ﴿كَانَ﴾: فعل ماض ناقص، واسمها ضمير يعود على كيد الشيطان، ﴿ضَعِيفًا﴾: خبر ﴿كاَن﴾، وجملة ﴿كاَنَ﴾ في محل الرفع خبر ﴿إن﴾، وجملة ﴿إن﴾ مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها.
﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ﴾.
﴿أَلَمْ﴾: ﴿الهمزة﴾: للاستفهام التعجبي، ﴿لم﴾: حرف جزم، ﴿تَرَ﴾: فعل مضارع مجزوم بـ ﴿لم﴾، وفاعله ضمير يعود على محمد، أو على كل مخاطب، والجملة مستأنفة، ﴿إِلَى الَّذِينَ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿تَرَ﴾، ﴿قِيلَ﴾: فعل ماض مغير الصيغة، ﴿لَهُمْ﴾: جار ومجرور متعلق، ﴿كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ...﴾ إلى قوله: ﴿فَلَمَّا كُتِبَ﴾: نائب فاعل محكي، وجملة ﴿قِيلَ﴾: صلة الموصول، والعائد
﴿فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ﴾.
﴿فَلَمَّا﴾ ﴿الفاء﴾: استئنافية، ﴿لما﴾: حرف شرط غير جازم، ﴿كُتِب﴾: فعل ماض مغير الصيغة، ﴿عَلَيْهِمُ﴾: متعلق به، ﴿الْقِتَالُ﴾: نائب فاعل، والجملة الفعلية فعل شرط لـ ﴿لما﴾ لا محل لها من الإعراب، ﴿إِذَا﴾: حرف مفاجأة رابطة لجواب ﴿لما﴾ لا محل لها من الإعراب على الأصح، كما هو مذكور في كتب النحو، ﴿فَرِيقٌ﴾: مبتدأ، ﴿مِنْهُمْ﴾: جار ومجرور صفة له، وهو المسوغ للابتداء، ﴿يَخْشَوْنَ النَّاسَ﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الإسمية جواب ﴿لما﴾ لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿لما﴾ مستأنفة ﴿كَخَشْيَةِ اللَّهِ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه صفة لمصدر محذوف، تقديره: يخشون الناس خشية كائنة كخشية الله، وإضافة خشية إلى لفظ الجلالة من إضافة المصدر إلى مفعوله؛ أي: كخشيتهم الله، ﴿أَوْ﴾: حرف عطف بمعنى بل، ﴿أَشَدَّ﴾، معطوف على ﴿كَخَشْيَةِ اللَّهِ﴾ مجرور بالفتحة؛ لأنه اسم لا ينصرف للوصفية ووزن الفعل، ﴿خَشْيَةً﴾: تمييز له، أو ﴿أَشَدَّ﴾: معطوف على محل الجار والمجرور في ﴿كَخَشْيَةِ اللَّهِ﴾، و ﴿خَشْيَةً﴾: تمييز له، أو ﴿أَشَدَّ﴾: منصوب على الحال من ﴿خَشْيَةً﴾ المذكور بعده؛ لأنه نعت نكرة قدمت عليها، و ﴿خَشْيَةً﴾: معطوف على محل الجار والمجرور في: ﴿كَخَشْيَةِ اللَّهِ﴾، والتقدير: يخشون الناس كخشية الله بل خشية أشد من خشية الله، ﴿وَقَالُوا﴾: فعل وفاعل معطوف على ﴿يَخْشَوْنَ﴾. ﴿رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ﴾: مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿رَبَّنَا﴾: منادى مضاف، وجملة النداء في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾، ﴿لِمَ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿كَتَبْتَ﴾ وهو فعل وفاعل، ﴿عَلَيْنَا﴾: جار ومجرور
﴿لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا﴾.
﴿لَوْلَا﴾: حرف تحضيض بمعنى هلَّا. ﴿أَخَّرْتَنَا﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾، ﴿إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ﴾: جار ومجرور وصفة متعلق بـ ﴿أَخَّرْتَنَا﴾، ﴿قُلْ﴾: فعل أمر وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة مستأنفة. ﴿مَتَاعُ الدُّنْيَا﴾: إلى آخر الآية: مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿مَتَاعُ الدُّنْيَا﴾: مبتدأ ومضاف إليه. ﴿قَلِيلٌ﴾: خبره، والجملة الإسمية في محل النصب مقول ﴿قَلِيلٌ﴾، ﴿وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ﴾: مبتدأ وخبر، والجملة معطوفة على جملة ﴿مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ﴾، ﴿لِمَنِ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿خَيْرٌ﴾، ﴿اتَّقَى﴾: فعل ماض وفاعله ضمير يعود على ﴿من﴾، والجملة صلة الموصول والعائد ضمير الفاعل، ﴿وَلَا﴾: ﴿الواو﴾ عاطفة، ﴿لَا﴾: نافية، ﴿تُظْلَمُونَ﴾: فعل ونائب فاعل، ﴿فَتِيلًا﴾: مفعول ثان، والجملة معطوفة على محذوف تقديره: تجزون فيها؛ أي: في الآخرة ولا تظلمون فتيلًا، والجملة المحذوفة مع المعطوفة عليها في محل النصب مقول ﴿قُلْ﴾.
﴿أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ﴾.
﴿أَيْنَمَا﴾: ﴿أَيْنَ﴾: اسم شرط جازم في محل النصب على الظرفية المكانية. ﴿ما﴾: زائدة، والظرف متعلق بـ ﴿تَكُونُوا﴾، ﴿تَكُونُوا﴾: فعل وفاعل مجزوم بـ ﴿أَيْنَمَا﴾، على كونه فعل شرط لها، وكان هنا تامة، ﴿يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ﴾: فعل ومفعول وفاعل، مجزوم بـ ﴿أَيْنَمَا﴾ على كونه جوابًا لها، وجملة ﴿أَيْنَمَا﴾: مستأنفة. ﴿وَلَوْ﴾: الواو عاطفة، ﴿لَوْ﴾: حرف شرط غير جازم، ﴿كُنْتُمْ﴾: فعل ناقص واسمه، ﴿فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ﴾: جار ومجرور وصفة متعلق بمحذوف خبر كان، وجملة كان فعل شرط لـ ﴿لَوْ﴾ لا محل لها من الإعراب، وجواب ﴿لَوْ﴾ معلوم مما قبله، تقديره: ولو كنتم في بروج مشيدة لأدرككم الموت، وجملة ﴿لَوْ﴾
﴿وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ﴾.
﴿وَإِنْ﴾ ﴿الواو﴾ استئنافية. ﴿إن﴾ حرف شرط جازم. ﴿تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ﴾: فعل ومفعول وفاعل مجزوم بـ ﴿إن﴾ على كونه فعل شرط لها. ﴿يَقُولُوا﴾: فعل وفاعل مجزوم بـ ﴿إن﴾ على كونه جوابًا لها وجملة ﴿إن﴾ الشرطية مستأنفة. ﴿هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ﴾ مقول محكى وإن شئت قلت: ﴿هَذِهِ﴾: مبتدأ. ﴿مِنْ عِنْدِ اللَّهِ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه خبر المبتدأ والجملة في محل النصب مقول ﴿يَقُولُوا﴾.
﴿وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ﴾.
﴿وَإنْ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿إن﴾: حرف شرط. ﴿تصبهم سيئة﴾: فعل ومفعول وفاعل، مجزوم بـ ﴿إن﴾، ﴿يَقُولوُا﴾: فعل وفاعل، مجزوم بـ ﴿إن﴾ على كونه جوابًا لها. ﴿هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ﴾: مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ﴾: مبتدأ وخبر، والجملة في محل النصب مقول القول، وجملة ﴿إن﴾ الشرطية معطوفة على جملة ﴿إن﴾ الأولى. ﴿قُلْ﴾: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، والجملة مستأنفة، ﴿كُلٌّ﴾: مبتدأ، ﴿مِنْ عِنْدِ اللَّهِ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه، خبر المبتدأ، والجملة في محل النصب مقول ﴿قُلْ﴾.
﴿فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا﴾.
﴿فَمَا﴾: ﴿الفاء﴾ استئنافية، ﴿ما﴾: اسم استفهام تعجبي في محل الرفع مبتدأ. ﴿اللام﴾: حرف جر، وفصلت عن المجرور بها تبعًا لخط المصحف العثماني، وفي غير المصحف متصلة بمجرورها وجوبًا صناعيًّا. ﴿هَؤُلَاءِ﴾: في محل الجر بها، ﴿الْقَوْمِ﴾: بدل من اسم الإشارة، أو عطف بيان منه، الجار والمجرور في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة مستأنفة، أو معترضة بين البيان والمبين، ﴿لَا﴾: نافية. ﴿يَكَادُونَ﴾: فعل ناقص واسمه. ﴿يَفْقَهُونَ﴾: فعل وفاعل، ﴿حَدِيثًا﴾: مفعول به، وجملة ﴿يَفْقَهُونَ﴾ في محل النصب خبر ﴿يَكَادُونَ﴾، وجملة
﴿مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (٧٩)﴾.
﴿مَا﴾: اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط أو جملة الجواب أو هما. ﴿أَصَابَ﴾: فعل ومفعول، في محل الجزم بـ ﴿مَا﴾ على كونه فعل شرط لها، وفاعله ضمير يعود على ﴿مَا﴾، ﴿من حَسَنَةٍ﴾: جار ومجرور حال من فاعل ﴿أَصَابَكَ﴾. ﴿فَمِنَ اللَّهِ﴾ الله: ﴿الفاء﴾: رابطة لجواب ﴿ما﴾ الشرطية، ﴿مِنَ اللَّهِ﴾: جار ومجرور خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: فهو كائن من الله، والجملة الإسمية في محل الجزم بـ ﴿مَا﴾، على كونها جوابًا لها، وجملة ﴿مَا﴾ الشرطية مستأنفة، وقال أبو البقاء (٢): ولا يصح أن تكون ﴿مَا﴾ هنا موصولة؛ لأن ذلك يقتضي أن يكون المصيب لهم ماضيًا مخصصًا، والمعنى على العموم، والشرط أشبه وأوفق، والتقدير: فهو من الله، والمراد بالأية الخصب والجدب، ولذلك لم يقل أصابت انتهى. ﴿وَمَاَ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿مَا﴾: اسم شرط، أو اسم موصول في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط أو الجواب الجار والمجرور الآتي. ﴿أَصَابَك﴾: فعل ومفعول، في محل الجزم بـ ﴿مَا﴾، وفاعله
(٢) العكبري.
التصريف ومفردات اللغة
﴿خُذُوا حِذْرَكُمْ﴾ الحذر بكسر أوله وسكون ثانيه، والحذر بفتحتين كالمثل والمثل، كلاهما مصدر معناهما واحد: الاحتراس والاستعداد لاتقاء شر العدو، والتحفظ والتيقظ، وفي الكلام مبالغة، كأنه جعل الحذر آلة يقي بها نفسه، وقيل هو ما يحذر به من السلاح والخدم.
﴿فَانْفِرُوا﴾ النفر: الانزعاج والفزع من الشيء، وفي "المصباح،: نفر نفرًا من باب ضرب في اللغة العالية، وبها قرأ السبعة، ونفر نفورًا من باب قعد لغة، وقرىء بمصدرها في قوله تعالى: ﴿إِلَّا نُفُورًا﴾ والنفير مثل النفور والاسم النفر بفتحتين انتهى.
﴿ثُبَاتٍ﴾ جمع ثبة: وهي الجماعة من الرجال فوق العشرة إلى المئة، والسرية الجماعة أقلها مئة وغايتها أربع مئة، والمنسر من أربع مئة إلى ثمان مئة، والجيش من ثمان مئة إلى أربعة آلاف، والجحفل ما زاد على ذلك، وفي "السمين": ﴿ثُبَاتٍ﴾ جمع ثبة، ووزنها في الأصل فعلة كحطمة، فحذفوا لامها، وعوضوا عنها تاء التأنيث، وهل عينها واو ثبوة أو ياء ثبية؟ هناك قولان:
وحجة الثاني: أنها مشتقة من ثبيت على الرجل إذا أثنيت عليه، كأنك جمعت محاسنه، ويجمع بالألف والتاء، وبالواو والنون، ويجوز في فائها حين جمع على ثبين الضم والكسر، وتصغيره ثبيوة على اللغة الأولى، كما تقول في سه سييهة، وعلى اللغة الثانية. ثبية.
﴿لَيُبَطِّئَنَّ﴾ يقال: أبطأ وبطأ بمعنى؛ أي: تأخر وتثاقل، والثلاثي منه من باب قرب، والبطء التأخر عن الانبعاث في السير، وقد يستعمل أبطأ وبطأ بالتشديد متعديين، وعليه فالمفعول هنا محذوف؛ أي: ليبطئن غيره؛ أي: يثبطه ويجبنه عن القتال، ويقال أبطأ وبطؤ مثل أسرع وسرع مقابله، وبطآن اسم فعل بمعنى بطؤ.
﴿فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ سبيل الله هي تأييد الحق، والانتصار له بإعلاء كلمة الدين، ونشر دعوته، ودفاع الأعداء إذا هددوا أمتنا، أو أغاروا على أرضنا، أو نهبوا أموالنا، أو صدونا عن استعمال حقوقنا مع الناس. ﴿يَشْرُونَ﴾: يبيعون، كما جاء في قوله تعالى: ﴿وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ﴾، ﴿وَالْوِلْدَانِ﴾: جمع وليد، وهو الصبي الصغير، وفي "السمين" الولدان: جمع وليد، وقيل جمع ولد، والمراد بهم الصبيان، وقيل الأرقاء، يقال للعبد وليد، وللأمة وليدة، فغُلِّب المذكر على المؤنث لاندراجه فيه. ﴿بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ﴾: البروج المشيدة - واحدها برج - القصور العالية المطلية بالشيد، وهو الجص، أو الحصون والقلاع المتينة التي تعتصم فيها حامية الجند، وفي "أبي السعود": ﴿ولَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ﴾؛ أي: في حصون رفيعة أو قصور محصنة، وقال السدي وقتادة: بروج السماء، ويقال شاد البناء وأشاده وشيده؛ أي: رفعه، وشيد القصر إذا رفعه أو طلاه بالشيد وهو الجبس، وفي "المصباح": الشيد الجص، وشدت البيت أشيده - من باب باع - بنيته بالشيد، فهو مشيد، وشيدته تشييدًا إذا طولته ورفعته. ﴿حَسَنَةٌ﴾؛ أي: شيء يحسن عند صاحبه كالرضا، والخصب والظفر بالغنيمة. ﴿سَيِّئَةٌ﴾ هي ما تسوء صاحبها كالشدة والبأساء والضراء والهزيمة والجرح والقتل. ﴿يَفْقَهُونَ حَدِيثًا﴾ يفهمون كلامًا يوعظون به.
وقد تضمنت هذه الآيات أنواعًا من البلاغة والبيان والبديع.
فمنها: التجنيس المغاير في قوله: ﴿فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ﴾، وفي قوله: ﴿فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾.
ومنها: إسناد الفعل إلى ما لا يصح وقوعه منه حقيقة في: ﴿أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ﴾، و ﴿أَصَابَكُمْ فَضْلٌ﴾.
ومنها: جعل الشيء من الشيء وليس منه لمناسبة في قوله: ﴿وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ﴾.
ومنها: الاعتراض على قول الجمهور في قوله: ﴿كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ﴾.
ومنها: الاستعارة في قوله: ﴿يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ﴾، وفي قوله: ﴿فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا﴾، لما يناله من النعيم في الآخرة وفي ﴿سَبِيلِ اللَّهِ﴾، وفي قوله: ﴿سَبِيلِ الطَّاغُوتِ﴾ استعار الطريق للاتباع وللمخالفة، وفي: ﴿كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ﴾ أطلق كف اليد الذي هو مختص بالإجرام على الإمساك عن القتال.
ومنها: الاستفهام الذي معناه الاستبطاء والاستبعاد في قوله: ﴿وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ﴾.
ومنها: الاستفهام الذي معناه التعجب في قوله: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا﴾.
ومنها: التجوز بقي التي للوعاء عن دخولهم في الجهاد.
ومنها: الالتفات في قوله: ﴿فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ﴾ في قراءة النون.
ومنها: الطباق اللفظي في قوله: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا﴾ و ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا﴾.
ومنها: المعنوي في قوله: ﴿فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ طاعته، وفي قوله: ﴿فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ﴾ معصيته.
ومنها: الاختصاص في قوله: ﴿إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا﴾، وفي ﴿وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى﴾.
ومنها: التجوز بإسناد الفعل إلى غير فاعله في قوله: ﴿يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ﴾، وفي ﴿وَإِنْ تُصِبْهُمْ﴾، وفي قوله: ﴿مَا أَصَابَكَ﴾.
ومنها: التشبيه المرسل المجمل في قوله: ﴿كَخَشْيَةِ اللَّهِ﴾.
ومنها: إيقاع أفعل التفضيل حيث لا مشاركة في قوله: ﴿خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى﴾.
ومنها: التجنيس المغاير في قوله: ﴿يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ﴾.
ومنها: المقابلة في قوله: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ﴾.
ومنها: الحذف في مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
﴿مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا (٨٠) وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (٨١) أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (٨٢) وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا (٨٣) فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا (٨٤) مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا (٨٥) وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا (٨٦) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا (٨٧)﴾.
المناسبة
قوله تعالى: ﴿مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما أمر (١) فيما تقدم بطاعة الله تعالى وطاعة الرسول، وبين جزاء المطيع، وأحوال الناس في هذه الطاعة بحسب قوة الإيمان وضعفه، ثم أمر بالقتال، وبين مراتب الناس في الامتثال له.. أعاد هنا الأمر بالطاعة، وبين أنها أولًا وبالذات لله تعالى ولغيره بالتبع، وبين ضروب مراوغة الضعفاء والمنافقين.
قوله تعالى: ﴿فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها (٢): أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر في الآية قبلها تثبيطهم عن القتال، واستطرد من ذلك إلى أن الموت يدرك كل أحد، ولو اعتصم بأعظم معتصم، فلا فائدة في الهرب من القتال، وأتبع ذلك بما أتبع من سوء خطاب
(٢) البحر المحيط.
قوله تعالى: ﴿مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أنه سبحانه وتعالى لما أمر (١) نبيه عليه السلام أن يحرض المؤمنين على الجهاد، وذكر أنه ليس عليه وزر من تمرد وعصى.. بين في هذه الآية أنهم حين أطاعوك، ولبوا دعوتك، أصابهم من هذه الطاعة خير كثير، وأن لك من هذا الخير نصيبًا تستحق عليه الأجر؛ لأنك قد بذلت الجهد في ترغيبهم فيه، بجعل نفسك شفيعًا ونصيرًا لهم في الوصول إلى تحصيل هذه الأغراض الشريفة.
قوله تعالى: ﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ...﴾ الآية، مناسبتها لما قبلها ظاهرة: وهي أنه تعالى لما ذكر أن الله كان على كل شيء حسيبًا.. أردفه بالإعلام بوحدانية الله تعالى، والحشر والبعث من القبور للحساب، ذكره أبو حيان في "البحر".
أسباب النزول
قوله تعالى: ﴿مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ...﴾ الآية، سبب نزول هذه الآية (٢): أن النبي - ﷺ - قال: "من أطاعني فقد أطاع الله، ومن أحبني فقد أحب الله"، فقال بعض المنافقين: ما يريد هذا الرجل إلا أن نتخذه ربًّا، كما اتخذت النصارى عيسى بن مريم ربًّا، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
قوله تعالى: ﴿وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ...﴾ الآية، سبب نزولها: ما رواه مسلم (٣) عن ابن عباس عن عمر بن الخطاب رضي الله
(٢) الخازن.
(٣) لباب النقول.
قوله تعالى: ﴿فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ...﴾ الآية، نزلت هذه الآية (١) في مواعدة رسول الله - ﷺ - أبا سفيان بن حرب، وذلك أن رسول الله - ﷺ - واعده موسم بدر الصغرى بعد حرب أحد، وذلك في ذي القعدة، فلما بلغ الميعاد.. دعا رسول الله - ﷺ - الناس إلى الخروج، فكرهه بعضهم فأنزل تعالى هذه الآية: ﴿فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ يعني لا تدع جهاد العدو، والانتصار للمستضعفين من المؤمنين، لا تكلف إلا نفسك.
التفسير وأوجه القراءة
٨٠ - ﴿مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ﴾ محمدًا - ﷺ -، ويوافقه فيما أمر به، ونهى عنه ﴿فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى، وذلك لأنه سبحانه وتعالى هو الآمر والناهي في الحقيقة، والرسول - ﷺ - إنما هو مبلغ للأمر والنهي، فليست الطاعة له بالذات، وإنما هي لمن بلغ عنه، إذ قد جرت سنته سبحانه وتعالى أن لا يأمر الناس، ولا ينهاهم إلا بواسطة رسل منهم، يفهمون عنهم ما يوحيه تعالى إليهم ليبلغوه عنه.
وقال الشافعي رحمه الله تعالى: وهذه الآية تدل على أن كل تكليف كلف
فالمؤمن (١) حقًّا لا يكون خاضعًا إلا لخالقه وحده دون أحد من خلقه، والخروج عن ذلك شرك وهو نوعان:
الأول: أن ترى لبعض المخلوقات سلطة غيبية وراء الأسباب العادية، ومن ثم ترجو نفعها، وتخاف ضرها، وتدعوها وتذل لها، وذلك هو الشرك في الألوهية.
الثاني: أن ترى لبعض المخلوقين حق التشريع والتحليل والتحريم، كما فسر النبي - ﷺ - قوله تعالى: ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾.. بطاعتهم فيما يحللون ويحرمون، وذلك هو الشرك في الربوبية.
ذاك أن المؤمن يجب أن يكون أعز الناس نفسًا، وأعظمهم كرامة، فلا يرضى أن يستعبده سلطان ظالم، ولا حاكم مستعبد، إذ يعلم علم اليقين أن الكل عبيد مسخرون لله تعالى، يخضعون لأمره، وأن ذلك منتهى سعادتهم في الدارين. هذا كله فيما يبلغه عن ربه، أما ما يقوله الرسول عليه السلام من تلقاء نفسه، وما يأمر به مما يستحسنه باجتهاده ورأيه من أمور المعيشة كتأبير النخل - تلقيحه بطلع الذكر - ونحوه، مما يسميه العلماء أمر إرشاد.. فطاعته فيه ليست من الفرائض التي فرضها الله تعالى؛ لأنه ليس دينًا ولا شرعًا عنه تعالى، فقد أمر النبي - ﷺ -
وقد كان الصحابة رضوان الله عليهم إذا شكوا في الأمر أمن عند الله هو، أم من رأي الرسول واجتهاده، وكان لهم في ذلك رأي آخر.. سألوه فإن أجابهم بأنه من الله تعالى أطاعوه بلا تردد، وإن قال إنه من رأيه ذكروا رأيهم، وربما رجع النبي - ﷺ - عن رأيه إلى رأيهم، كما فعل في بدر وأحد، وجواب الشرط في قوله: ﴿وَمَنْ تَوَلَّى﴾ وأعرض عن طاعتك يا محمد التي هي طاعة الله تعالى محذوف، تقديره: فأعرض عنه، ولا تهتم به، ولا تحزن عليه، وليس لك أن تكرهه عليها. وقوله: ﴿فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا﴾ تعليل لذلك المحذوف؛ أي: لأنَّا ما أرسلناك حفيظًا، تحفظ الناس عن المعاصي، ومسيطرًا ورقيبًا عليهم، ترقب أفعالهم وأقوالهم، فالإيمان والطاعة إنما يكونان بالاختيار بعد الإقناع والاختبار، وإنما أرسلناك مبشرًا ونذيرًا، فعليك البلاغ وعلينا الحساب، قال المفسرون: وكان هذا قبل أن يؤمر بالجهاد ثم نسخ ذلك بآية السيف.
٨١ - وفي هذه الجملة تسلية له - ﷺ -؛ لأنه كان يشتد حزنه بسبب كفرهم وإعراضهم عن الإيمان. ﴿وَيَقُولُونَ﴾؛ أي: ويقول المنافقون - الذين أخبر الله تعالى عنهم أنهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية - إذا أمرهم النبي - ﷺ - بأمر.. أمرك يا محمد، ﴿طَاعَةٌ﴾؛ أي: مطاع مقبول عندنا، أو أمرنا طاعه، وشأننا طاعة لك؛ أي: إطاعة لك إظهارًا لكمال الانقياد والخضوع، ﴿فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ﴾؛ أي: فإذا خرجوا من المكان الذين يكونون معك فيه إلى البراز والفضاء وهم منصرفون إلى بيوتهم.. ﴿بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ﴾؛ أي: دبر جماعة منهم ليلًا قولًا غير الذي قالوا لك وأظهروه عندك نهارًا من الطاعة والسمع، وتكلموا فيما بينهم بعصيانك وتوافقوا عليه، وقيل: الضمير في تقول يعود على محمَّد - ﷺ -؛ أي: غير الذي تقوله يا محمد، وقرأ يحيى بن يعمر ﴿يقول﴾ بالياء ويحتمل أن يعود الضمير على الرسول عليه السلام، فيكون التفاتًا من الخطاب في: ﴿مِنْ عِنْدِكَ﴾ إلى الغيبة، ﴿وَاللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿يَكْتُبُ﴾
﴿فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ﴾ يا محمد، ولا تهتم بما يبيتون، ولا تؤاخذهم بما أسروا ولم يعلنوا، ﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ﴾؛ أي: واعتمد على الله تعالى، وفوض الأمر إليه، وثق به في جميع أمورك، فإن الله تعالى يكفيك شرهم، وينتقم لك منهم، ﴿وَكَفَى بِاللَّهِ﴾ سبحانه وتعالى من جهة كونه ﴿وَكِيلًا﴾؛ أي: مفوضًا إليه، لمن توكل عليه فهو قادر على إيقاع الجزاء بهم، وعالم بمقدار ما يستحقون منه، لا يعجزه منه شيء،
٨٢ - ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ﴾؛ أي: أيعرضون عن القرآن، فلا يتأملون فيه، ليعلموا كونه من عند الله تعالى، بمشاهدة ما فيه من الشواهد التي من جملتها هذا الوحي الناطق بنفاقهم، وأصل (١) التدبر التأمل في أدبار الأمور وعواقبها، ثم استعمل في كل تأمل، سواء كان نظرًا في حقيقة الشيء وأجزائه، أو سوابقه وأسبابه، أو لواحقه وأعقابه، وتدبر الكلام هو النظر والتفكر في غاياته ومقاصده التي يرمي إليها، وعاقبة من يعمل به ومن يخالفه، والهمزة هنا للاستفهام الإنكاري، داخلة على محذوف كما قدرنا، والفاء عاطفة على ذلك المحذوف؛ أي: أجهل هؤلاء المنافقون حقيقة الرسالة، وكنه هذه الهداية، فلا يتدبرون القرآن الذي يدل على حقيقتها، ولو تدبروه لعرفوا أنه الحق من ربهم، وأن ما وعد به المتقين الصادقين وما أنذر به الكافرين والمنافقين واقع لا محالة، فهو إذ صدق في الأخبار عما يبيتون في أنفسهم من القول، يصدق كذلك فيما أخبر عن سوء مصيرهم، والوبال والنكال في عاقبتهم. وقرأ الجمهور ﴿يَتَدَبَّرُونَ﴾ بياء وتاء بعدها على الأصل، وقرأ ابن محيص بإدغام التاء على الدال. ﴿وَلَوْ كَانَ﴾ هذا القرآن ﴿مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ﴾ تعالى بل كان من عندك كما يزعمون.. ﴿لَوَجَدُوا فِيهِ﴾؛ أي: في هذا القرآن ﴿اخْتِلَافًا كَثِيرًا﴾، وتناقضًا جمًّا، من حيث (٢) التوحيد والتشريك،
(٢) النسفي.
والمعنى (١): أنهم لو تدبروه حق تدبره.. لوجدوه مؤتلفًا غير مختلف، صحيح المعاني قوي المباني، بالغًا في البلاغة إلى أعلى درجاتها.
والخلاصة (٢): أن تدبر القرآن، وتأمل ما امتاز به، هو طريق الهداية القويم، وصراط الحق المستقيم، فإنه يرشد إلى كونه من عند الله، وإلى وجوب الاهتداء به، وإلى أنه معقول في نفسه موافق للفطرة، ملائم للمصلحة وفيه سعادة الخلق في الدنيا والآخرة.
ولو تدبر المسلمون القرآن واهتدوا به في كل زمان.. لما فسدت أخلاقهم وآدابهم، ولما ظلم واستبد حكامهم، ولما زال ملكهم وسلطانهم، ولما صاروا عالة في معايشهم على سواهم، فإن قلت: إن قوله: ﴿اخْتِلَافًا كَثِيرًا﴾ يدل بمفهومه على أن في القرآن اختلافًا قليلًا، وإلا لما كان للتقييد بوصف الكثرة فائدة مع أن لا اختلاف فيه أصلًا.. قلت: بأن التقييد بالكثرة للمبالغة في إثبات الملازمة؛ أي: لو كان من عند غير الله تعالى لوجدوا فيه اختلافًا كثيرًا فضلًا عن القليل، لكنه من عند الله تعالى فليس فيه اختلاف لا كثير ولا قليل.
واعلم: أنه يدل على كون القرآن من عند الله سبحانه وتعالى لا من عند غيره أمور كثيرة:
(٢) المراغي.
الثاني: أنه حكى عن الماضي الذي لم يشاهده محمد - ﷺ - ولم يقف على تاريخه، وعن الآتي، فوقع كما أنبأ به، وعن الحاضر فأخبر عن خبايا الأنفس ومكنونات الضمائر، كما أخبر عما بيتته هذه الطائفة مخالفًا لما تقول للرسول - ﷺ -، أو ما يقوله لها، فتقبله في حضرته، وترفضه في غيبته.
الثالث: أن أحدًا لا يستطيع أن يأتي بمثله في سنن الاجتماع ونواميس العمران وطبائع الملل والأقوام، مع إيراد الشواهد وضرب الأمثال وتكرار القصة الواحدة بالعبارات البليغة، تنويعًا للعبرة وتلوينًا للموعظة، واتفاق كل ذلك وتوافقه على الصدق، وبراءته من الاختلاف والتناقض.
الرابع: أن أحدًا لا يستطيع أن يأتي بمثله في بيان أصول العقائد وقواعد الشرائع وسياسة الشعوب والقبائل، مع عدم الاختلاف والتفاوت في شيء من ذلك.
الخامس: أن أحدًا لا يستطيع أن يأتي بمثله فيما جاء به من فنون القول، وألوان العبر في أنواع المخلوقات في الأرض أو في السموات، فقد تكلم على الخلق والتكوين، ووصف جميع الكائنات، كالكواكب ونظامها والرياح والبحار والحيوان والنبات، وما فيها من الحكم والآيات، وكان في كل ذلك يؤيد بعضه بعضًا، لا تفاوت فيه ولا اختلاف بين معانيه.
السادس: أنه أخبر عن عالم الغيب والدار الآخرة، وما فيها من الحساب على الأعمال والجزاء العادل، وكان في كل ذلك جاريًا على سنة الله تعالى في تأثير الأعمال الاختيارية في الأرواح، مع الالتئمام بين الآيات الكثيرة، وهو غاية الغايات في ذلك عند من أوتي الحكمة وفصل الخطاب.
هذا بالإضافة إلى أنه نزل منجمًا بحسب الوقائع والأحوال، وكان النبي - ﷺ - عند نزول الآية أو الآيات يأمر بأن توضع في محلها من سورة كذا، وهو يحفظه حفظًا، وقد جرت العادة بأن من يأتي بكلام من عنده في مناسبات مختلفة لا
٨٣ - ﴿وَإِذَا جَاءَهُمْ﴾؛ أي: وإذا جاء ضعفة المؤمنين الذين لا خبرة لهم بالشؤون العامة، وقيل: الضمير يعود إلى المنافقين ﴿أَمْرٌ﴾ من أمور المسلمين، وشأن من شؤونهم، سواء كان ذلك الأمر ﴿مِنَ الْأَمْنِ﴾ والبشارة والخير، كفتح وغنيمة ﴿أو﴾ كان ﴿مِّنَ الْخَوْفِ﴾ والحزن والشر، كقتل وهزيمة.. ﴿أَذَاعُوا بِهِ﴾؛ أي: أفشى هؤلاء الضعفة أو المنافقون ذلك الأمر والخبر، وأشاعوه بين الناس، وذلك أن النبي - ﷺ - كان يبعث البعوث والسرايا، فإذا غَلبوا أو غُلبوا.. بادر هؤلاء الضعفة أو المنافقون يستخبرون عن حالهم، ثم يشيعونه، ويتحدثون به قبل أن يحدث به رسول الله - ﷺ -، فيضعفون به قلوب المؤمنين، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
ويستفاد من الآية: أنه لا ينبغي للعامة الذين لا خبرة لهم بالشؤون العامة أن تشيع أخبار الحرب وأسرارها، ولا أن تخوض في السياسة العامة للدولة؛ لأن ذلك مضرة لها، ومفسدة لشؤونها ومرافقها العامة، وعلاقاتها مع غيرها من الأمم، بالإضافة إلى أن في ذلك مشغلة لهم عن شؤونهم الخاصة، وضياع زمن كانوا فيه أحوج إلى العمل بما يفيدهم ويفيد الأمة، وهذا بيان لجناية ضعفاء الإيمان إثر بيان جناية المنافقين.
ثم بين ما ينبغي أن يفعل في مثل هذه الحال، فقال: ﴿وَلَوْ رَدُّوهُ﴾؛ أي: ولو رد هؤلاء المذيعون من ضعفة الإيمان أو المنافقين هذا الخبر الذي تحدثوا به من الأمن أو الخوف، وفوضوا الكلام في الأمور العامة ﴿إِلَى الرَّسُولِ﴾ محمد - ﷺ -، وهو الإِمام الأعظم، والقالد العام في الحرب ﴿وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ﴾؛ أي: وإلى
وخلاصة المعنى: أي (٢) ولولا فضل الله تعالى عليكم ورحمته بكم، إذ هداكم لطاعته وطاعة رسوله - ﷺ - ظاهرًا وباطنًا، ورد الأمور العامة إلى الرسول - ﷺ -، وإلى أولي الأمر منكم.. لاتبعتم وسوسة الشيطان فيما يأمركم به
(٢) المراغي.
٨٤ - والفاء في قوله: ﴿فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا أردت يا محمد الفوز والظفر على الأعداء.. فقاتل في سبيل الله؛ أي: جاهد في طاعة الله تعالى لإعلاء كلمته امتثالًا لأمره، وأنت ﴿لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ﴾؛ أي: لا تكلف إلا أفعال نفسك، ولا تطالب إلا بها دون أفعال الذين قالوا: ﴿رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ﴾، والذين يقولون لك طاعة ويبيتون غير ذلك، فمن أطاع الله تعالى لا يضيره عصيان من عصاه، والمعنى: قاتل في سبيل الله ولا تنظر لكسلهم، حال كونك غير مكلف إلا نفسك، فلا يضرك مخالفتهم وتقاعدهم عن القتال، وقد كان رسول الله - ﷺ - في شدة الحرب لا يتغير وجهه أبدًا، بل كان يبتسم إذ ذاك، ولا يكترث بملاقاة الأعداء، وكان من خصائصه إذا بدأ بالحرب لا يرجع حتى يحكم الله تعالى بينه وبين عدوه.
وقرأ الجمهور (١): ﴿لَا تُكَلَّفُ﴾ على صيغة الخبر مبنيًّا للمفعول، والجملة في موضع الحال أو مستأنفة، وقرىء: ﴿لا نكلف﴾ بالنون وكسر اللام، ويحتمل وجهي الإعراب الحال والاستئناف، وقرأ عبد الله بن عمر ﴿لا تكلف﴾ بالتاء وفتح اللام والجزم على جواب الأمر.
﴿وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ﴾؛ أي: وحث يا محمد المؤمنين على الخروج معك للقتال، بذلًا للنصيحة لهم، ورغبهم في الثواب عليه، بذكر الآيات الواردة في فضل الجهاد، فإن تخلفوا بعد ذلك.. فلا يضرونك، وإنما وبالهم على أنفسهم؛
وفي الآية إيماء إلى أنه - ﷺ - كلف قتال الكافرين الذين قاوموا دعوته بقوتهم وبأسهم، وإن كان وحده، كما أنه تدل على أنه - ﷺ - أعطي من الشجاعة ما لم يعطَ أحد من العالمين، وفي سيرته الشريفة أصدق الأدلة على ذلك، فقد تصدى لمقاومة الناس جميعًا، بدعوتهم إلى ترك ما هم عليه من الضلال، وحين قاتلوه قاتلهم، وقد انهزم عنه أصحابه في أحد، فبقي ثابتًا كالجبل لا يتزلزل. ﴿عَسَى اللَّهُ﴾؛ أي: حقق الله سبحانه وتعالى ﴿أَنْ يَكُفَّ﴾ ويمنع ويصرف عنك ﴿بَأسَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾؛ أي: شدتهم وصولتهم وشوكتهم، وقد فعل ذلك بإلقاء الرعب في قلب أبي سفيان حين تخلف عن الخروج إلى الموعد، ﴿اللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿أَشَدُّ بَأسًا﴾؛ أي: أقوى أخذًا وصولة وسلطة، من الذين كفروا، ﴿وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا﴾؛ أي: أشد عقوبة وتعذيبًا منهم.
والمعنى: لا تخافوا بأس هؤلاء الكافرين وشدتهم، ولا يصدنكم ذلك عن طاعة الرسول - ﷺ - والعمل بتحريضه، فإن الله تعالى الذي وعد الرسول - ﷺ - بالنصر أشد منهم بأسًا، وأشد منهم تنكيلًا، وقد جرت سنته أن تكون العاقبة للمتقين، ما استمسكوا بأوامره وتركوا نواهيه، وأعدوا العدة مع الصبر والثبات والتباعد عن أسباب الخذلان والفشل.
٨٥ - ﴿مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً﴾؛ أي: من يشفع بين الناس شفاعة موافقة للشرع ﴿يَكُنْ لَهُ﴾؛ أي: لذلك الشافع ﴿نَصِيبٌ﴾ وحظ من الأجر ﴿مِنْهَا﴾؛ أي: بسببها، وقد بين النصيب في حديث: "من دعا لأخيه المسلم بظهر الغيب.. استجيب له، وقال الملك: ولك مثل ذلك". ﴿وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً﴾؛ أي: مخالفة للشرع ﴿يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا﴾؛ أي: نصيب من الوزر بسببها.
وقال المراغي قوله تعالى: ﴿منْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا﴾؛ أي: من (٢) يجعل نفسه شفيعًا وزوجًا لك، ويناصرك في القتال، وقد أمرت به وحدك.. يكن له من شفاعته نصيب بما يناله من الفوز والشرف والغنيمة في الدنيا، عندما ينتصر الحق على الباطل، بما يناله من الثواب في الآخرة في جميع الحالات، سواء أدرك النصر في الدنيا أم لم يدرك.
ووصف الشفاعة بالحسنة لأنها تأييد ونصر للحق، ومثل هذا كل من يعاون فاعل الخير ويساعده، ﴿وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا﴾؛ أي: ومن ينضم إلى عدوك فيقاتل معه، أو يخذل المؤمنين عن قتاله.. يكن له نصيب من سوء العاقبة، بما يناله من الخذلان في الدنيا، والعقاب في الآخرة، وهذه هي الشفاعة السيئة؛ لأنها إعانة على السيئات، وسمى هذا النصيب كفلًا؛ لأنه نصيب مكفول للشافع إذ هو أثر عمله، أو محدود لأنه على قدره.
والخلاصة: أن من ينضم إلى غيره معينًا له في فعل حسن.. يكن له منه نصيب، ومن ينضم إلى غيره معينًا له في فعل سيء.. ينله منه سوء وشدة.
ويدخل في الآية شفاعة الناس بعضهم لبعض، وهي قسمان: حسنة وسيئة، فالحسنة: أن يشفع الشافع لإزالة ضرر ورفع مظلمة عن مظلوم، أو جر منفعة إلى مستحق ليس في جرها إليه ضرر ولا ضرار.
(٢) المراغي.
وفي الآية من العبرة لنا أن نتذكر أن الحاكم العادل لا تنفع الشفاعة عنده إلا بإخباره بما لم يكن يعلم من مظلمة المشفوع له، أو استحقاقه لما يطلب له، ولا يقبل الشفاعة لإرضاء الشافع فيما يخالف الحق والعدل ويخالف المصلحة العامة. أما الحاكم الظالم فتروج عنده الشفاعات؛ لأنه يحابي أعوانه المقربين منه ليكونوا شركاء له في استبداده، ليثبتوا على خدمته وإخلاصهم له، والحكومات التي تروج فيها الشفاعات وتعتمد عليها الرعية في كل ما تطلب تضيع فيها الحقوق، ويحل الظلم محل العدل، ويسري من الدولة إلى الأمة، فيعم فيها الفساد، ويختل نظام الأعمال. ﴿وَكَانَ اللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا﴾؛ أي: قادرًا على إيصال الجزاء إلى الشافع، مثل ما يوصله إلى المشفوع فيه، وحافظًا للأشياء، شاهدًا عليها، فهو عالم بأن الشافع يشفع في حق أو باطل، فيجازي كلًّا بما علم منه.
والمعنى: أن الله سبحانه وتعالى كان مقتدرًا على كل شيء، فلا يعجزه أن يعطي الشافع نصيبًا وكفلًا من شفاعته، على قدرها في النفع والضر، ويجازي كلًّا بما يستحق؛ لأن سننه قد قضت بأن يربط الجزاء بالأسباب.
٨٦ - وبعد أن علَّم الله سبحانه وتعالى المؤمنين طريق الشفاعة الحسنة والسيئة، وهي من أسباب التواصل بين الناس.. علمهم سنة التحية بينهم وبين إخوانهم؛ ليؤدبهم بأدب دينه، ويزكيهم ويطهر نفوسهم من الغل والحسد، فقال: ﴿وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ﴾؛ أي: وإذا حياكم أحد بتحية، بأن قال لكم: السلام عليكم، أو قال: السلام عليكم ورحمة الله.. ﴿فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا﴾؛ أي: فأجيبوه بتحية أحسن وأكمل وأزيد من تحية المسلِّم عليكم، إذا كان المسلِّم من أهل الإِسلام، بأن تقولوا: وعليكم السلام ورحمة الله، أو وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، ويقال: لكل شيء منتهى، ومنتهى السلام: وبركاته، بدليل أن هذا القدر هو
وقد يكون (١) حسن الجواب بمعناه، أو كيفية أدائه، وإن كان بمثل لفظ المبتدأ بالتحية، أو مساويه في الألفاظ أو أخصر منه، فمن قال لك: السلام عليك بصوت خافت، يشعر بقلة العناية، فقلت له: وعليكم السلام بصوت أرفع وبإقبال يشعر بالعناية، أو بزيادة الإقبال والتكريم.. كنت قد حييته بتحية أحسن من تحيته في صفتها، وإن كانت مثلها في لفظها.
والخلاصة: أن الجواب عن التحية له مرتبتان:
أدناهما: ردها بعينها.
وأعلاهما: الجواب عنها بأحسن منها، والمجيب مخير بينهما.
والتحية (٢): تفعلة من حيَّا، وأصلها من الحياة، ثم جُعل السلام تحية؛ لكونه خارجًا عن حصول الحياة، وسبب الحياة في الدنيا أو في الآخرة، والتحية أن يقال: حياك الله؛ أي: جعل الله لك حياة، وذلك إخبار، ثم جُعل دعاء، وهذه اللفظة كانت العرب تقولها، فلما جاء الإِسلام.. بدل ذلك بالسلام، وهو
(٢) الخازن.
ذكر نبذة من أحكام السلام فصل في فضل السلام والحث عليه
عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رجلًا سأل رسول الله - ﷺ -: أي الإِسلام خير؟ قال: "تطعم الطعام، وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف". متفق عليه. قوله: أي الإِسلام خير معناه: أي خصال الإِسلام خير. وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - ﷺ -: "لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم.. أفشوا السلام بينكم". أخرجه مسلم.
(٢) المراغي.
وعن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: أمرنا نبينا - ﷺ - أن نفشي السلام، أخرجه ابن ماجه.
فصل في أحكام تتعلق بالسلام وفيه مسائل المسألة الأولى: في كيفية السلام
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - ﷺ - قال: "لما خلق الله تعالى آدم عليه السلام.. قال: اذهب فسلم على أولئك - نفر من الملائكة جلوس - فاستمع ما يحيونك به، فإنها تحيتك، وتحية ذريتك، فقال: السلام عليكم، فقالوا: عليك السلام ورحمة الله، فزادوه ورحمة الله". متفق عليه، قال العلماء: يستحب لمن يبتدىء بالسلام أن يقول: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فيأتي بضمير الجمع، وإن كان المسلم عليه واحدًا، ويقول المجيب: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، فيأتي بواو العطف في قوله وعليكم، ليحصل الارتباط بين الجملتين.
وعن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: "جاء رجل إلى النبي - ﷺ - فقال: السلام عليكم، فرد عليه ثم جلس، فقال رسول الله - ﷺ -: عشر، ثم جاء آخر فقال: السلام عليكم ورحمة الله، فرد عليه فجلس فقال: عشرون، فجاء آخر فقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فرد عليه فجلس، فقال: ثلاثون" أخرجه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن. وقيل إذا قال المسلم: السلام عليكم.. يقول المجيب: وعليكم السلام ورحمة الله، فيزيده ورحمة الله، وإذا قال: السلام عليكم ورحمة الله.. يقول: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، فيزيده وبركاته، وإذا قال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.. يرد عليه السلام بمثله ولا يزيد عليه.
المسألة الثانية: في حكم السلام
الابتداء بالسلام سنة مستحبة ليس بواجب، وهو سنة على الكفاية، فإن كانوا جماعة، فسلم واحد منهم.. كفى عن جميعهم، ولو سلم كلهم.. كان أفضل وأكمل. قال القاضي حسين من أصحاب الشافعي: ليس لنا سنة على الكفاية إلا هذا، وفيه نظر؛ لأن تشميت العاطس سنة على الكفاية أيضًا كالسلام، ولو دخل على جماعة في بيت أو مجلس أو مسجد.. وجب عليه أن يسلم على الحاضرين، لقوله - ﷺ -: "أفشوا السلام"، والأمر للوجوب، أو يكون ذلك سنة مؤكدة؛ لأن السلام من شعار أهل الإِسلام، فيجب إظهاره أو يتأكد استحبابه.
أما الرد على المسلّم: فقد أجمع العلماء على وجوبه، ويدل عليه قوله تعالى: ﴿وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا﴾؛ والأمر للوجوب؛ لأن في ترك الرد إهانة للمسلِّم، فيجب ترك الإهانة، فإن كان المسلَّم عليه واحدًا.. وجب عليه الرد، وإذا كانوا جماعة.. كان رد السلام في حقهم فرض كفاية، فلو رد واحد منهم.. سقط فرض الرد عن الباقين، وإن تركوه كلهم.. أثموا.
عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن النبي - ﷺ - قال: "يجزئ عن الجماعة إذا مروا أن يسلم أحدهم، ويجزىء عن الجلوس أن يرد أحدهم". أخرجه أبو داود.
المسألة الثالثة: في آداب السلام
السنة أن يسلم الراكب على الماشي، والماشي على القاعد، والقليل على الكثير، والصغير على الكبير.
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - ﷺ - قال: "يسلم الراكب على الماشي، والماشي على القاعد، والقليل على الكثير". متفق عليه.
ويُستحب أن يبدأ بالسلام قبل الكلام والحاجة، والسنة إذا مر بجماعة صبيان صغار أن يسلم عليهم؛ لما روي عن أنس رضي الله عنه: أنه مر على صبيان فسلم عليهم، وقال: كان رسول الله - ﷺ - يفعله. أخرجاه في "الصحيحين". وفي رواية لأبي داود أن النبي - ﷺ -: "مر على غلمان يلعبون فسلم عليهم".
وأما السلام على النساء: فإن كن جمعًا جالسات في مسجد أو موضع.. فيستحب أن يسلم عليهن، إذا لم يخف على نفسه أو عليهن فتنة، لما روي عن أسماء بنت يزيد قالت: "مر علينا رسول الله - ﷺ - في نسوة فسلم علينا". أخرجه أبو داود. وفي رواية للترمذي: "أن رسول الله - ﷺ - مر في المسجد يومًا وعصبة من النساء قعود فألوى بيده بالتسليم". قال الترمذي حديث حسن.
وإذا مر على امرأة مفردة أجنبية، فإن كانت جميلة.. فلا يسلم عليها، ولو سلم.. فلا ترد هي عليه؛ لأنه لم يستحق الرد، وإن كانت عجوزًا، لا يخاف عليه ولا عليها الفتنة.. سلم عليها، وترد هي عليه، وحكم النساء مع النساء كحكم الرجال مع الرجال في السلام، فيسلم بعضهن على بعض.
المسألة الرابعة: في الأحوال التي يكره فيها السلام
فمن ذلك الذي يبول أو يتغوط أو يجامع ونحو ذلك، لا يسلم عليه، فلو سلم.. فلا يستحق المسلِّم جوابًا، لما روي عن ابن عمر رضي الله عنما: أن رجلًا مر ورسول الله - ﷺ - يبول، فسلم عليه، فلم يرد عليه. أخرجه مسلم. قال الترمذي: إنما يكره إذا كان على الغائط أو البول. ويكره التسليم على من في
المسألة الخامسة: في حكم السلام على أهل الذمة اليهود والنصارى
واختلف العلماء فيه: فذهب أكثرهم إلى أنه لا يجوز ابتداؤهم بالسلام، وقال بعضهم: إنه ليس بحرام بل هو مكروه كراهة تنزيه، ويدل على ذلك ما روي عن أبي هريرة: أن رسول الله - ﷺ - قال: "لا تبدؤوا اليهود ولا النصارى بالسلام، وإذا لقيتم أحدهم في طريق فاضطروه إلى أضيقه". أخرجه مسلم.
وإذا سلم يهودي أو نصراني على مسلم فيرد عليه، ويقول: عليك، بغير واو العطف، لما روي عن أنس رضي الله عنه أن يهوديًّا أتى على رسول الله - ﷺ - وأصحابه، فقال: السام - الموت - عليكم، فرد عليه القوم، فقال رسول الله - ﷺ -: "هل تدرون ما قال"؟ قالوا: الله ورسوله أعلم يا نبي الله، قال: "لا ولكنه قال كذا وكذا، ردوه عليَّ"، فردوه، فقال: "قلت: السام عليكم"، قال: نعم يا نبي الله، فقال - ﷺ - عند ذلك: "إذا سلم عليكم أحد من أهل الكتاب.. فقولوا عليك؛ أي: عليك ما قلت". أخرجه الترمذي. فلو أتى بواو العطف وميم الجمع، فقال: وعليكم.. جاز؛ لأنَّا نجاب عليهم في الدعاء، ولا يجابون علينا، ويدل على ذلك ما روي عن جابر: أن رسول الله - ﷺ - مر عليه ناس من اليهود، فقالوا: السام عليك يا أبا القاسم، فقال: "وعليكم "، فقالت عائشة وغضبت: ألم تسمع ما قالوا، قال: "بلى قد سمعت فرددت عليهم، وإنا نجاب عليهم، ولا يجابون علينا". أخرجه مسلم.
وإذا مر المسلم على جماعة فيهم مسلمون ويهود ونصارى.. يسلم عليهم؛ ويقصد بتسليمه المسلمين، لما روي عن أسامة بن زيد: أن رسول الله - ﷺ - مر على مجلس فيه أخلاط من المسلمين واليهود فسلم عليهم. أخرجه الترمذي.
(٢) المراغي.
يَزِيْدُ زَادَ اللهُ فِيْ خَيْرَاتِهِ | حَامِيْ الذِّمَارِ عِنْدَ مَزْدُوْقَاتِهِ |
الإعراب
﴿مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا (٨٠)﴾.
﴿مَنْ﴾: اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط أو جملة أو هما، ﴿يُطِعِ الرَّسُولَ﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على ﴿من﴾، ﴿فَقَدْ﴾ ﴿الفاء﴾: رابطة الجواب وجوبًا لاقترانه بـ ﴿قد﴾، ﴿قد﴾: حرف تحقيق، ﴿أَطَاعَ اللَّهَ﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على ﴿مَن﴾، وجملة ﴿مَنْ﴾ الشرطية من فعل شرطها وجوابها مستأنفة. ﴿وَمَنْ تَوَلَّى﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة، ﴿مَنْ﴾ اسم شرط في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط أو الجواب كما مر آنفًا. ﴿تَوَلَّى﴾: فعل ماض في محل الجزم بـ ﴿من﴾ على كونه فعل شرط لها، وفاعله ضمير يعود على ﴿من﴾، ﴿فَمَا﴾ ﴿الفاء﴾: رابطة لجواب ﴿من﴾ الشرطية وجوبًا لاقترانه بـ ﴿ما﴾، لأنه من المواضع السبعة المجموعة في قول بعضهم:
إِسْمِيَّةٌ طَلَبِيَّةٌ وَبِجَامِدِ | وَبِمَا وَلَنْ وَبِقَدْ وَبِالتَّنْفِيْسِ |
﴿وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ﴾.
﴿وَيَقُولُونَ﴾: ﴿الواو﴾: استئنافية، ﴿يَقُولُونَ﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. ﴿طَاعَةٌ﴾: خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: أمرك، أو أمرنا طاعة، أو مبتدأ خبره محذوف، تقديره: منا طاعة، والجملة الإسمية في محل النصب مقول القول. ﴿فَإذَا﴾ ﴿الفاء﴾ عاطفة، ﴿إذا﴾ ظرف لما يستقبل من الزمان، ﴿بَرَزُوا﴾: فعل وفاعل والجملة في محل الخفض بإضافة إذا على كونها فعل شرط لها، والظرف متعلق بالجواب، ﴿مِنْ عِنْدِكَ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿بَرَزُوا﴾، ﴿بَيَّتَ طَائِفَةٌ﴾: فعل وفاعل، ﴿مِنْهُمْ﴾: جار ومجرور صفة لـ ﴿طائفةٌ﴾، والجملة الفعلية جواب ﴿إذا﴾ لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿إذا﴾ معطوفة على جملة ﴿يقولون﴾ ﴿غَيْرَ الَّذِي﴾: مفعول به ومضاف إليه. ﴿تَقُولُ﴾: فعل مضارع وفاعله ضمير يعود على ﴿طَائِفَةٌ﴾، والجملة صلة الموصول.
﴿وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا﴾.
﴿وَاللَّهُ﴾: ﴿الواو﴾: استئنافية، ﴿اللَّهُ﴾: مبتدأ، ﴿يَكْتُبُ﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على ﴿اللَّهُ﴾، والجملة خبر المبتدأ، والجملة الإسمية مستأنفة، ﴿مَا﴾ موصولة، أو موصوفة في محل النصب مفعول به، ﴿يُبَيِّتُونَ﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة لـ ﴿مَا﴾ أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف تقديره: يبيتونه. ﴿فَأَعْرِضْ﴾: ﴿الفاء﴾: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت حالهم وأردت بيان ما هو الأصلح لك.. فأقول لك: أعرض. ﴿أعرض﴾: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد - ﷺ -، والجملة في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة: مستأنفة استئنافًا بيانيًّا. ﴿عَنْهُمْ﴾: جار ومجرور متعلق به. ﴿وَتَوَكَّلْ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة
﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (٨٢)﴾.
﴿أَفَلَا﴾ ﴿الهمزة﴾: داخلة على محذوف، تقديره: أيعرضون عن القرآن فلا يتدبرون فيه، ﴿الفاء﴾: عاطفة ما بعدها على ذلك المحذوف، والجملة المحذوفة مستأنفة، ﴿لا﴾: نافية. ﴿يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة معطوفة على ذلك المحذوف، ﴿وَلَوْ﴾: ﴿الواو﴾: استئنافية، ﴿لوْ﴾: حرف شرط غير جازم. ﴿كَانَ﴾: فعل ماض ناقص، واسمها ضمير يعود على ﴿القرآن﴾، ﴿مِنْ عِندِ﴾ جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر ﴿كان﴾، تقديره: كائنًا، ﴿مِنْ﴾: حرف جر. ﴿عِنْدِ﴾: مضاف. ﴿غَيْرِ﴾: مضاف إليه. ولفظ الجلالة ﴿اللَّهِ﴾: مضاف إليه، وجملة ﴿كان﴾ فعل شرط لـ ﴿لو﴾، لا محل لها من الإعراب، ﴿لَوَجَدُوا﴾: ﴿اللام﴾: رابطة لجواب ﴿لو﴾، ﴿وجدوا﴾: فعل وفاعل، ﴿فِيهِ﴾: متعلق بـ ﴿وجدوا﴾، ﴿اخْتِلَافًا﴾: مفعول به، ﴿كَثِيرًا﴾: صفته، والجملة الفعلية جواب ﴿لو﴾ لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿لو﴾ الشرطية: مستأنفة.
﴿وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ﴾.
﴿وَإِذَا﴾: ﴿الواو﴾: استئنافية. ﴿إذا﴾: ظرف لما يستقبل من الزمان. ﴿جَاءَهُمْ أَمْرٌ﴾: فعل ومفعول وفاعل، والجملة في محل الجر بإضافة ﴿إذا﴾ إليها، والظرف متعلق بالجواب. ﴿مِنَ الْأَمْنِ﴾: جار ومجرور صفة لـ ﴿أَمْرٌ﴾، ﴿أَوِ الْخَوْفِ﴾: معطوف على ﴿الْأَمْنِ﴾. ﴿أَذَاعُوا﴾: فعل وفاعل، ﴿بِهِ﴾: متعلق به، والجملة جواب إذا لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿إذا﴾: مستأنفة استئنافًا بيانيًّا أو نحويًّا.
﴿وَلَوْ﴾: ﴿الواو﴾: استئنافية أو عاطفة، ﴿لَوْ﴾: حرف شرط، ﴿رَدُّوهُ﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة فعل شرط لـ ﴿لو﴾ لا محل لها من الإعراب. ﴿إِلَى الرَّسُولِ﴾: جار ومجرور متعلق به، ﴿وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه معطوف على الجار والمجرور قبله، ﴿مِنْهُمْ﴾: جار ومجرور حال من ﴿أُولِي الْأَمْرِ﴾، ﴿لَعَلِمَهُ﴾ ﴿اللام﴾ رابطة لجواب ﴿لو﴾، ﴿علمه﴾ فعل ومفعول، ﴿الَّذِينَ﴾: فاعل، والجملة جواب ﴿لو﴾ لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿لو﴾ الشرطية مستأنفة، أو معطوفة على جملة ﴿إذا﴾. ﴿يَسْتَنْبِطُونَهُ﴾: فعل وفاعل ومفعول، صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل، ﴿مِنْهُمْ﴾: جار ومجرور حال من ﴿الَّذِينَ﴾، أو من الضمير في ﴿يَسْتَنْبِطُونَهُ﴾
﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا﴾.
﴿وَلَوْلَا﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية. ﴿لولا﴾: حرف دال على امتناع شيء لوجود غيره. ﴿فَضْلُ اللَّهِ﴾: مبتدأ ومضاف إليه، ﴿عَلَيْكُمْ﴾: متعلق بـ ﴿فَضْلُ اللَّهِ﴾، ﴿وَرَحْمَتُهُ﴾: معطوف على ﴿فَضْلُ اللَّهِ﴾، والخبر محذوف وجوبًا؛ لقيام الجواب مقامه، تقديره: موجودان، والجملة الإسمية شرط لـ ﴿لولا﴾ لا محل لها من الإعراب. ﴿لَاتَّبَعْتُمُ﴾ ﴿اللام﴾: رابطة لجواب ﴿لولا﴾. ﴿اتبعتم﴾: فعل وفاعل. ﴿الشَّيْطَانَ﴾: مفعول به. ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء. ﴿قَلِيلًا﴾: مستثنى من فاعل ﴿اتَّبَعْتُمُ﴾ والجملة الفعلية جواب ﴿لولا﴾ لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿لولا﴾ مستأنفة.
﴿فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ﴾.
﴿فَقَاتِلْ﴾: ﴿الفاء﴾: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا أردت يا محمد الفوز والظفر على الأعداء.. فقاتل. ﴿قاتل﴾: فعل أمر وفاعله ضمير يعود على محمد. ﴿فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿قاتل﴾ والجملة الفعلية جواب لـ ﴿إذا﴾ المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة، ﴿لَا﴾: نافية، ﴿تُكَلَّفُ﴾: فعل مضارع مغير الصيغة، ونائب فاعله ضمير
﴿عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا﴾.
﴿عَسَى﴾: من أفعال الرَّجاء ترفع الاسم وتنصب الخبر. ﴿اللَّهُ﴾: اسمها. ﴿أَن﴾: حرف نصب ومصدر. ﴿يَكُفَّ﴾: فعل مضارع منصوب، وفاعله ضمير يعود على ﴿اللَّهُ﴾، ﴿بَأسَ الَّذِينَ﴾: مفعول به ومضاف إليه. ﴿كَفَرُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، وجملة ﴿يَكُفَّ﴾ من الفعل والفاعل صلة ﴿أَنْ﴾ المصدرية في تأويل مصدر منصوب على كونه خبرًا لـ ﴿عَسَى﴾، ولكنه على حذف مضاف إما قبل الاسم تقديره: عسى أمر الله كف بأس الذين كفروا، أو قبل الخبر تقديره: عسى الله ذا كف بأس الذين كفروا، والكثير في كلامهم اقتران خبر ﴿عَسَى﴾ بـ ﴿أن﴾ المصدرية، كما قال ابن مالك:
كَكَانَ كَادَ وَعَسَى لَكِنْ نَدَرْ | غَيْرُ مُضَارعٍ لِهَذَيْنِ خَبَرْ |
وَكَوْنُهُ بِدُوْنِ أَنْ بَعْدَ عَسَى | نَزْرٌ وَكَادَ الأمْرُ فِيْهِ عُكِسَا |
﴿مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا﴾.
﴿وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا﴾.
﴿وَمَنْ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿مَن﴾: اسم شرط في محل الرفع مبتدأ، والخبر إما جملة الشرط أو الجواب أو هما. ﴿يَشْفَعْ﴾: مجزوم بـ ﴿مَن﴾ وفاعله ضمير يعود على ﴿مَن﴾، ﴿شَفَعَة﴾: مفعول به. ﴿سَيِّئَةً﴾: صفة لـ ﴿شَفَاعَةً﴾. ﴿يَكُنْ﴾: جواب الشرط. ﴿لَهُ﴾: خبر ﴿يَكُنْ﴾ مقدم على اسمها. ﴿كِفْلٌ﴾: اسمها مؤخر. ﴿مِنْهَا﴾: صفة لـ ﴿كِفْلٌ﴾ وجملة ﴿من﴾ الشرطية معطوفة على جملة ﴿مَنْ﴾ الأولى. ﴿وَكَانَ﴾: ﴿الواو﴾: استئنافية. ﴿كان الله﴾: فعل ناقص واسمه، ﴿عَلَى كُلِّ شَيْءٍ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ـ ﴿مُقِيتًا﴾، ﴿مُقِيتًا﴾: خبر ﴿كان﴾ وجملة ﴿كان﴾: مستأنفة.
﴿وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا (٨٦)﴾.
﴿وَإِذَا﴾: ﴿الواو﴾: استئنافية، ﴿إذا﴾: ظرف لما يستقبل من الزمان، ﴿حُيِّيتُمْ﴾: فعل ونائب فاعل، ﴿بِتَحِيَّةٍ﴾: متعلق بها، والجملة في محل الخفض بإضافة ﴿إذا﴾ إليها، والظرف متعلق بالجواب، ﴿فَحَيُّوا﴾: الفاء رابطة لجواب ﴿إذا﴾، ﴿حيوا﴾: فعل وفاعل، والجملة جواب ﴿إذا﴾ لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿إذا﴾ مستأنفة، ﴿بِأَحْسَنَ﴾: متعلق بـ ﴿حيوا﴾، ﴿مِنْهَا﴾: متعلق بـ ﴿أَحْسَنَ﴾، ﴿أَوْ﴾: حرف عطف وتنويع، ﴿رُدُّوهَا﴾: فعل وفاعل ومفعول معطوف على ﴿حيوا﴾، ﴿إنَّ﴾: حرف نصب، ﴿اللَّهَ﴾: اسمها، ﴿كاَنَ﴾: فعل
﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا (٨٧)﴾.
﴿اللَّهُ﴾: مبتدأ، ﴿لَا﴾: نافية تعمل عمل إن، ﴿إِلَه﴾ في محل النصب اسمها، وخبر ﴿لَا﴾ محذوف تقديره: موجود، ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ. ﴿هُوَ﴾: ضمير للمفرد المنزه بدل من الضمير المستكن في خبر ﴿لَا﴾، وجملة ﴿لَا﴾: في محل الرفع خبر المبتدأ، وجملة المبتدأ مع خبره مستأنفة. ﴿لَيَجْمَعَنَّكُمْ﴾: ﴿اللام﴾: موطئة للقسم. ﴿يَجْمَعَنَّكُمْ﴾: فعل مضارع في محل الرفع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد، و ﴿نون التوكيد﴾ حرف لا محل له من الإعراب، و ﴿الكاف﴾ مفعول به، وفاعله ضمير يعود على ﴿اللَّهُ﴾، والجملة (١) القسمية إما مستأنفة لا محل لها من الإعراب، أو خبر ثان للمبتدأ، أو هي الخبر و ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾ اعتراض اهـ. أبو السعود. ﴿إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿يجمعنكم﴾. ﴿لَا﴾: نافية تعمل عمل إن، ﴿رَيْبَ﴾: في محل النصب اسمها. ﴿فِيهِ﴾: جار ومجرور خبر ﴿لا﴾ وجملة ﴿لَا رَيْبَ﴾ في محل النصب حال من يوم القيامة، ويجوز أن تكون صفة لمصدر محذوف؛ أي: جمعًا لا ريب فيه، والهاء تعود على الجمع. ﴿وَمَن﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية، ﴿مَن﴾: اسم استفهام في محل الرفع مبتدأ، ﴿أَصدَقُ﴾ خبره، والجملة مستأنفة، ﴿مِنَ اللَّهِ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿أَصْدَقُ﴾، ﴿حَدِيثًا﴾: تمييز محول عن المبتدأ.
التصريف ومفردات اللغة
﴿وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ﴾ الطاعة اسم مصدر لأطاع الرباعي، يقال: أطاع يطيع
أَتَوْنِي فَلَمْ أَرْضَ مَا بَيَّتُوْا | وَكَانُوْا أَتَوْنِي بِأَمْرٍ نُكُرْ |
وَتَبِيْتُ قَوْلِي عِنْدَ اْلْمَلـ | يْكِ قَاتَلَكَ اللهُ عَبْدًا كَفُوْرَا |
﴿أَذَاعُوا بِهِ﴾ يقال: أذاع الشر، وأذاع به، إذا نشره وأشاعه بين الناس وأظهره لهم، فالإذاعة: إظهار الشيء وإفشاؤه، يقال: ذاع يذيع من باب باع وأذاع، ويتعدى بنفسه وبالباب، فيكون إذ ذاك أذاع في معنى الفعل المجرد، قال أبو الأسود:
أَذَاعُوْا بِهِ فيْ النَّاسِ حَتَّى كَأَنَّهُ | بِعَلْيَاءِ نَارٍ أُوْقِدَتْ بِثُقُوْبِ |
(٢) العكبري.
﴿مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً﴾ قال الراغب: الشفع ضم الشيء إلى مثله، والشفاعة الانضمام إلى آخر، ناصرًا له وسائلًا عنه، ﴿نَصِيبٌ﴾؛ أي: حظ، ﴿كِفْلٌ﴾؛ أي: حظ، ولكن النصيب في الخبر أكثر استعمالًا، والكفل في الشر أكثر منه في الخير، ولقلة استعمال النصيب في الشر وكثرة استعمال الكفل فيه غاير بينهما في الآية الكريمة، حيث أتى بالكفل مع السيئة وبالنصيب مع الحسنة، ﴿مُقِيتًا﴾؛ أي: مقتدرًا أو حافظًا أو شاهدًا، قال الراغب: وحقيقته قائمًا عليه يحفظه ويعينه، وقال النحاس: هو مشتق من القوت، والقوت مقدار ما يحفظ به الإنسان من التلف، يقال: قاته يقوته إذا أطعمه قوته، وأقاته يقيته إذا جعل له ما يقوته، وفي "المختار": أقات على الشيء إذا اقتدر عليه، ﴿بِتَحِيَّةٍ﴾ التحية مصدر حياه، إذا قال له: حياك الله، وأصله تحيية بوزن تفعلة كترضية وتسمية وتنمية، فأدغموا الياء في الياء بعد نقل حركة الياء الأولى إلى الحاء، وهي في الأصل الدعاء بالحياة، ثم صار اسمًا لكل دعاء وثناء، كقولهم أنعم صباحًا، وأنعم مساء، وعم صباحًا وعم مساء، وجعل الشارع تحية المسلمين السلام عليكم، إشارة إلى أن الدين دين سلام وأمان. ﴿فَحَيُّوا﴾ أصله حييوا، استثقلت الضمة
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات أنواعًا من البيان والبديع (١):
منها: الالتفات في قوله: ﴿فَمَا أَرْسَلْنَاكَ﴾.
ومنها: التكرار في قوله: ﴿مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ﴾، وفي قوله: ﴿بَيَّتَ﴾ و ﴿يُبَيِّتُونَ﴾، وفي اسم الله في مواضع، و ﴿أَشَدّ﴾، وفي قوله: ﴿مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً﴾.
ومنها: التجنيس المماثل في قوله: ﴿يُطِعِ﴾ و ﴿أَطَاعَ﴾، وفي ﴿بَيَّتَ﴾ و ﴿يُبَيِّتُونَ﴾، وفي قوله: ﴿حُيِّيتُمْ﴾ ﴿فَحَيُّوا﴾.
ومنها: التجنيس المغاير في قوله: ﴿وَتَوَكَّلْ﴾ و ﴿وَكِيلًا﴾، و ﴿مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً﴾، و ﴿وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ﴾.
ومنها: الاستفهام المراد به الإنكار في قوله: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ﴾.
ومنها: الطباق في قوله: ﴿مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ﴾، وفي قوله: ﴿شَفَاعَةً حَسَنَةً﴾ و ﴿شَفَاعَةً سَيِّئَةً﴾.
ومنها: التوجيه في قوله: ﴿غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ﴾.
ومنها: الاحتجاج النظري ويسمى المذهب الكلامي في قوله: ﴿وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ﴾.
ومنها: الاستعارة في قوله: ﴿فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾، وفي قوله: ﴿أَنْ يَكُفَّ بَأسَ﴾.
ومنها: أفعل في غير المفاضلة في قوله: ﴿أَشَدُّ﴾.
ومنها: إطلاق كل على بعض في قوله: ﴿بَأسَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ واللفظ مطلق والمراد بدر الصغرى.
ومنها: الحذف في عدة مواضع تقتضيها الدلالة.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
﴿فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (٨٨) وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (٨٩) إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا (٩٠) سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (٩١) وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (٩٢) وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا (٩٣)﴾.
المناسبة
قوله تعالى: ﴿فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى (١) لما ذكر أحكام القتال، وختمها ببيان أنه لا إله غيره يُخشى ضرره، أو يُرجى خيره، فتترك هذه الأحكام لأجله.. ذكر هنا أنه لا ينبغي التردد في أمر المنافقين، وتقسيمهم فئتين، مع أن دلائل كفرهم ظاهرة جلية، فيجب أن تقطعوا بكفرهم، وتقاتلوهم حيثما وجدوا.
قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً...﴾ الآيات،
أسباب النزول
قوله تعالى: ﴿فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ...﴾ الآية، سبب نزولها (٢): ما رواه الشيخان وغيرهما عن زيد بن ثابت: أن رسول الله - ﷺ - خرج إلى أحد، فرجع ناس خرجوا معه، فكان أصحاب رسول الله - ﷺ - فيهم فرقتين، فرقة تقول: نقتلهم، وفرقة تقول: لا، فأنزل الله تعالى: ﴿فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ﴾.
وأخرج (٣) سعيد بن منصور وابن أبي حاتم عن سعد بن معاذ قال: خطب رسول الله - ﷺ - الناس فقال: "من لي بمن يؤذيني ويجمع في بيته من يؤذيني"، فقال سعد بن معاذ: إن كان من الأوس.. قتلناه، وإن كان من إخواننا من الخزرج.. أمرتنا فأطعناك، فقام سعد بن عبادة فقال: ما بك يا ابن معاذ طاعة رسول الله - ﷺ -، ولقد عرفت ما هو منك، فقام أسيد بن حضير فقال: إنك يا ابن عبادة منافق، وتحب المنافقين، فقام محمَّد بن مسلمة فقال: اسكتوا يا أيها الناس فإن فينا رسول الله - ﷺ -، وهو يأمرنا فننفذ أمره، فأنزل الله تعالى: ﴿فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ...﴾ الآية.
وأخرج (٤) أحمد عن عبد الرحمن بن عوف: أن قومًا من العرب أتوا
(٢) لباب النقول.
(٣) لباب النقول.
(٤) لباب النقول.
وروى (١) ابن جرير عن ابن عباس: أنها نزلت في قوم أظهروا الإِسلام بمكة، وكانوا يعينون المشركين على المسلمين، فاختلف المسلمون في شأنهم وتشاجروا فنزلت الآية.
قوله تعالى: ﴿إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ...﴾ الآية، سبب نزولها: ما أخرجه ابن أبي حاتم (٢) وابن مردويه عن الحسن: أن سراقة بن مالك المدلجي حدثهم قال: لما ظهر النبي - ﷺ - على أهل بدر وأُحد وأسلم من حولهم، قال سراقة: بلغني أنه يريد أن يبعث خالد بن الوليد إلى قومي بني مدلج، فأتيته فقلت: أنشدك النعمة، بلغني أنك تريد أن تبعث إلى قومي، وأنا أريد أن توادعهم، فإن أسلم قومك.. أسلموا ودخلوا في الإِسلام، وإن لم يسلموا.. لم يحسن تغليب قومك عليهم، فأخذ رسول الله - ﷺ - بيد خالد فقال: "اذهب معه فافعل ما يريد"، فصالحهم خالد على أن لا يعينوا على رسول الله - ﷺ -، وإن أسلمت قريش أسلموا معهم، وأنزل الله عز وجل: ﴿إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ﴾ وكان من وصل إليهم كان معهم على عهدهم.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: نزلت ﴿إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ﴾ في هلال بن عويمر الأسلمي، وسراقة بن مالك المدلجي، وفي بني جذيمة بن عامر بن عبد مناف، وأخرج أيضًا عن مجاهد أنها نزلت في هلال بن عويمر الأسلمي، وكان بينه وبين المسلمين عهد، وقصده ناس من قومه فكره أن يقاتل المسلمين، وكره أن يقاتل قومه.
(٢) لباب النقول.
قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا...﴾ الآية، سبب نزولها: ما أخرجه ابن جرير من طريق بن جريج عن عكرمة: أن رجلًا من الأنصار قتل أخا مقيس بن صبابة، فأعطاه النبي - ﷺ - الدية فقبلها، ثم وثب على قاتل أخيه فقتله، ولحق بمكة بعد ذلك وارتد عن الإِسلام، فقال النبي - ﷺ -: لا أؤمنه في حل ولا حرم، فقتل يوم الفتح، قال ابن جريج: وفيه نزلت هذه الآية ﴿وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا...﴾ الآية.
التفسير وأوجه القراءة
٨٨ - ﴿فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ﴾؛ أي: فأيُّ شيء ثبت لكم يا معشر المؤمنين حتى تفرقتم في شأن المنافقين، وصرتم في أمرهم ﴿فِئَتَيْنِ﴾؛ أي: فرقتين، فرقة ترى أنهم يعدون من الأولياء، ويستعان بهم على سائر المشركين المجاهرين لهم بالعداوة والكفر، وفرقة ترى أن يعاملوا كما يعامل غيرهم من المشركين المعلنين العداوة، ﴿وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ﴾؛ أي: والحال أن الله سبحانه وتعالى قد أركسهم وصرفهم وردهم عن الحق الذي أنتم عليه من الإيمان والجهاد في سبيل الله، ﴿بِمَا كَسَبُوا﴾؛ أي: بسبب ما اقترفوا من أعمال الشرك والنفاق، واجترحوا من المعاصي، حتى إنهم لا ينظرون إليكم نظرة المودة والإخاء، بل نظرة العداوة والبغضاء، ويتربصون بكم الدوائر، ﴿أَتُرِيدُونَ﴾ أيها المؤمنون ﴿أَنْ تَهْدُوا﴾ وترشدوا إلى طريق الحق ﴿مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ﴾؛ أي: من أراد الله تعالى إضلاله وغوايته؛ أي: أتقولون هؤلاء مهتدون والله تعالى أضلهم، وهذا خطاب للفئة التي دافع عن المنافقين، والمراد بالهداية المنفية خلق الهداية في الخلق، وأما الهداية بمعنى الإرشاد والتبيين فهي للرسل، والاستفهام في الموضعين للإنكار مع
وقرأ عبد الله (١): ﴿ركسهم﴾ ثلاثيًّا، وقرىء: ﴿ركَّسهم﴾ بالتشديد، ﴿وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ﴾؛ أي: ومن يرد الله سبحانه وتعالى إضلاله عن طريق الحق ﴿فَلَنْ تَجِدَ﴾ يا محمَّد أو أيها المخاطب ﴿لَهُ﴾؛ أي: لذلك الضال الذي أضله الله تعالى ﴿سَبِيلًا﴾؛ أي: طريقًا تهديه فيها إلى الحق.
والمعنى: ومن (٢) تقضي سننه تعالى في خلقه أن يكون ضالًا عن طريق الحق.. فلن تجد له سبيلًا يصل بسلوكها إليه، فإن للحق سبيلًا واحدة هي صراط الفطرة المستقيم، وللباطل سبلًا كثيرة، عن يمين سبيل الحق وعن شمالها، كل من سلك منها سبيلًا بَعُدَ عن سبيل الحق بقدر إيغاله في السبيل التي سلكها، كما قال تعالى: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ﴾ وقد أوضح النبي - ﷺ - معنى الآية بالخطوط الحسية، فخط في الأرض خطًّا فجعله مثالًا لسبيل الله تعالى، وخط على جانبيه خطوطًا لسبل الشيطان، وهذه الخطوط المستقيمة لا تلتقي مع الخط الأول.
وسبيل الفطرة تقتضي أن يعرض الإنسان جميع أعماله على ميزان الشرع وسنن العقل، ويتبع ما يظهر له أنه الحق الذي فيه منفعته عاجلًا وآجلًا، وفيه كماله الإنساني، وأكثر ما يصده عن هذه السبيل التقليد والغرور بالطواغيت، وظنه أنه ليس هناك ما هو أكمل مما هو فيه، وبهذا يقطع على نفسه طريق الحق، والنظر في النفع والضر والحق والباطل، وشبهته في ترك صراط الفطرة أن عقله قاصر عن التمييز بين الحق والباطل والخير والشر، فعليه أن يتبع ما وجد عليه الآباء والأجداد من زعماء عصره، ولو كانوا لا يعقلون شيئًا ولا يهتدون، ثم ذكر سبحانه وتعالى ما يجول في صدور أولئك المنافقين من أماني فقال:
٨٩ - {وَدُّوا لَوْ
(٢) المراغي.
ثم حذر المؤمنين من غوائل نفاقهم فقال: ﴿فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ وهذا جواب شرط محذوف، تقديره: إذا كان حال هؤلاء المنافقين ما ذُكر من ودادة كفركم، وطمعهم فيه.. فلا تجعلوا لكم منهم أولياء وأنصارًا يساعدونكم على المشركين، حتى يؤمنوا ويهاجروا من أوطانهم ويقاتلوا مع رسول الله - ﷺ - في سبيل الله تعالى، والمراد بالهجرة هنا الخروج مع رسول الله - ﷺ - للقتال في سبيل الله تعالى، مخلصين صابرين محتسبين، وإنما قيد الهجرة بكونها في سبيل الله تعالى، لإخراج الهجرة من دار الكفر إلى دار الإِسلام ومن شعار الكفر إلى شعار الإِسلام لغرض من أغراض الدنيا كامرأة ينكحها أو دنيا يصيبها، فإن المعتبر وقوع تلك الهجرة لأجل أمر الله تعالى.
واعلم أن الهجرة ثلاثة أقسام (١):
هجرة المومنين في أول الاسلام: وهي المذكورة في قوله تعالى: ﴿لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ﴾، وقوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ ونحوهما من الآيات.
وهجرة المنافقين: وهي خروج الشخص مع رسول الله - ﷺ - صابرًا محتسبًا لأغراض الدنيا، وهي المرادة هنا.
وهجرة عن جميع المعاصي: وهي المرادة بقوله - ﷺ -: "المهاجر من هجر ما نهى الله عنه".
٩٠ - أحدهما: ما ذكره بقوله تعالى: ﴿إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ﴾ وهذا مستثثى من الأخذ والقتل فقط، وأما الموالاة فحرام مطلقًا، لا تجوز بحال، وعبارة الكرخي: قوله تعالى: ﴿إِلَّا الَّذِينَ﴾ استثناء من ضمير المفعول في: ﴿فَاقْتُلُوهُمْ﴾ لا من قوله تعالى: ﴿وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا﴾ وإن كان أقرب مذكور، لأن اتخاذ الولي منهم حرام بلا استثناء، بخلاف قتلهم، انتهت.
أي: فخذوهم واقتلوهم إلا الذين يتصلون بقوم معاهدين للمسلمين، فيدخلون في عهدهم، ويرضون بحكمهم، فيمتنع قتلهم مثلهم، لأنهم صاروا في أمانكم بواسطة التجائهم إلى المعاهدين، والمعنى: أن من دخل في عهد من كان داخلًا في عهدكم فهم أيضًا داخلون في عهدكم فلا يجوز أخذهم ولا قتلهم.
وثانيهما: ما ذكره بقوله تعالى: ﴿أَوْ﴾ إلا الذين ﴿جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ﴾؛ أي: أو إلا الذين جاؤوكم، وأتوكم حالة كونهم قد ضاقت صدورهم، وخافت قلوبهم عن قتالكم، وعن قتال قومهم، فلا تنشرح
والحاصل: أنه سبحانه وتعالى استثنى من المأمور بقتلهم فريقين:
أحدهما: من ترك المحاربين ولحق بالمعاهدين.
والآخر: من أتى المؤمنين وكف عن قتال الفريقين، فريق الإِسلام وفريق قومهم، وقبول معذرة الفريقين موافق لما يبنى عليه الإِسلام من التسامح والسماحة وعدم الاعتداء، كما قال تعالى: ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا﴾.
﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى تسليطهم عليكم وقتالهم لكم ﴿لَسَلَّطَهُمْ﴾؛ أي: لسلط هؤلاء المعاهدين من الفريقين ﴿عَلَيْكُمْ﴾ ببسط صدورهم، وتقوية قلوبهم، وإزالة الرعب عنها، ﴿فَلَقَاتَلُوكُمْ﴾ ولم يكفوا عنكم، وهذا في الحقيقة جواب ﴿لو﴾، وما قبله توطئة له، وهذه اللام هي اللام التي في قوله تعالى: ﴿لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ﴾ وأعيدت تأكيدًا، ولكنه لم يشأ فألقى في قلوبهم الرعب، وقرأ الجمهور (١): ﴿فَلَقَاتَلُوكُمْ﴾ بألف المفاعلة وقرأ مجاهد وطائفة: ﴿فلقتلوكم﴾ على وزن ضربوكم، وقرأ الحسن والجحدري ﴿فلقتلوكم﴾ بالتشديد، والمعنى: أن ضيق صدوركم عن قتالكم إنما هو بقذف الله تعالى الرعب في قلوبهم، ولو قوى قلوبهم على قتال المسلمين.. لتسلطوا عليهم، والمقصود من هذا الكلام أن الله تعالى منَّ على المسلمين بكف بأس المعاهدين، فالله سبحانه بنظامه في الأسباب والمسببات، وسننه في الأفراد والجماعات جعل الناس في ذلك العصر أصنافًا ثلاثةً:
١ - سليمو الفطرة الذين حصفت (٢) آراؤهم، فسارعوا إلى الإيمان، واستنارا بنور الإِسلام.
(٢) يقال: حَصُف حصافة - من باب ظرف - إذا كان جيد الرأي محكم العقل فهو حصيف.
٣ - الموغلون في الضلال والشرك، والمحافظون على القديم وهم المحاربون.
﴿فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ﴾؛ أي: فإن ترك هؤلاء المعاهدون من الفريقين إياكم، وابتعدوا عن قتالكم، ولم يتعرضوا لكم ﴿فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ﴾ مع قومهم ﴿وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ﴾؛ أي: الصلح والأمان، وأعطوا لكم زمام أمرهم بالانقياد للصلح والأمان، وقرأ الجحدري ﴿السلم﴾ بسكون اللام، وقرأ الحسن: بكسر السين وسكون اللام، ﴿فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا﴾؛ أي: ما جعل لكم سبيلًا وطريقًا تسلكونها للاعتداء عليهم بالأسر والقتل، إذ من قواعد ديننا أن لا نعتدي إلا على من يعتدي علينا، ولا نقاتل إلا من قاتلنا.
قال بعض المفسرين (١): هذا منسوخ بآية السيف، وهي قوله تعالى: ﴿فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ﴾ وقال بعضهم: هي غير منسوخة؛ لأنا إذا حملناها على المعاهدين، فكيف يمكن أن يقال إنها منسوخة؟ ثم بين تعالى جماعة آخرين وبالغ في ذمهم فقال:
٩١ - ﴿سَتَجِدُونَ﴾ أيها المؤمنون عن قريب قومًا ﴿آخَرِينَ﴾ من المنافقين غير من سبق ﴿يُرِيدُونَ أَنْ يَأمَنُوكُمْ﴾؛ أي: يأمنوا من قتالكم بإظهار الإِسلام عندكم ﴿وَيَأمَنُوا قَوْمَهُمْ﴾؛ أي: من بأس قومهم بإظهار الكفر إذا رجعوا إليهم، فكانوا مذبذبين بين المؤمنين والكافرين، فهم قد غلت عليهم أرواحهم، ورخصت عليهم عقولهم، يظهرون لكل من الفئتين أنهم منهم أو معهم، ﴿كُلَّ مَا رُدُّوا﴾؛ أي: كلما دعوا ﴿إِلَى الْفِتْنَةِ﴾؛ أي: إلى الشرك وعداوة المؤمنين.. ﴿أُرْكِسُوا فِيهَا﴾؛ أي: قلبوا في الفتنة أقبح قلب، وكبوا فيها على وجوههم أشد انكباب، وأوقعوا فيها أبلغ إيقاع، وكانوا فيها شرًّا من كل عدو شرير، وهذا استعارة لشدة إصرارهم على الكفر وعدواة المسلمين؛ لأن من وقع
وقد بين الله تعالى حكمهم بقوله ﴿فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ﴾؛ أي: فإن لم يتركوا قتالكم، ﴿و﴾ لم ﴿يلقوا إليكم السلم﴾؛ أي: لم يطلبوا منكم الصلح، ﴿و﴾ لم ﴿يَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ﴾ عن قتالكم ﴿فَخُذُوهُمْ﴾ بالأسر ﴿وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ﴾؛ أي: في أي محل وجدتموهم فيه من حل أو حرم، فلا علاج لهم غير ذلك، كما ثبت بالتجارب والاختبار، ﴿وَأُولَئِكُمْ﴾ الموصوفون بهذه الصفة ﴿جَعَلْنَا لَكُمْ﴾ أيها المؤمنون ﴿عَلَيْهِمْ﴾؛ أي: على جواز قتلهم ﴿سُلْطَانًا مُبِينًا﴾؛ أي: حجة واضحة وبرهانًا ظاهرًا، وهي ظهور عداوتهم، وانكشاف حالهم في الكفر والغدر، وإضرارهم بأهل الإِسلام، أو جعلنا لكم عليهم تسلطًا ظاهرًا، حيث أذنَّا لكم في أخذهم وقتلهم،
٩٢ - ﴿وَمَا كَانَ﴾ ينبغي، ﴿لِمُؤْمِنٍ﴾ ولا يليق به ولا يصح ﴿أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا﴾ بغير حق ﴿إِلَّا خَطَأً﴾؛ أي: إلا حالة كونه مخطئًا في قتله؛ أي: ليس المؤمن كالكافر الذي تقدم في إباحة دمه، فحينئذ لا يليق بمؤمن قتل مؤمن في حال من الأحوال، إلا في حالة كونه ملتبسًا بخطأ، بأن قصد رمي غيره كصيد أو شجرة فأصابه، أو ملتبسًا بشبه عمد كان ضربه بما لا يقتل غالبًا، كالعصا
والمعنى: ليس (١) من شأن المؤمن ولا من خُلقه أن يقتل أحدًا من المؤمنين، إذ الإيمان وهو صاحب السلطان على النفس والحاكم على الإرادة والمصرف لها يمنعه أن يجترح هذه الكبيرة عمدًا، لكنه قد يفعل ذلك خطأ، ذلك أنه لا يكمل إيمان المؤمن إلا إذا شعر بحقوق الإيمان عليه، وهي حقوق لله تعالى وحقوق للعباد، ومن الثانية القصاص، لما في ذلك من الزجر من القتل، ولما في تركه من الاستهزاء بحقوق الدماء، ومن استهزأ بها.. كان قد انتهك أكبر حق من حقوق الأمة، وهدم ركنًا من أركان الإيمان، يرشد إلى ذلك قوله تعالى: ﴿مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا﴾.
وسبب العقوبة على الفعل الخطأ كالقتل: أن الخطأ لا يخلو من التهاون وعدم العناية ومثله النسيان، إذ من شأنهما أن يعاقب الله تعالى عليهما، ومن ثم أمرنا الله تعالى أن ندعوه أن لا يؤاخذنا عليهما بقوله تعالى: ﴿رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأنَا﴾ كما ثبت بنص القرآن أن آدم نسي، وسمى مخالفته معصية وعوقب عليها، ولكن ورد في السنة قوله - ﷺ -: "وضع الله عن هذه الأمة ثلاثًا: الخطأ والنسيان، والأمر يكرهون عليه". رواه ابن ماجه. ﴿وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً﴾ بأن قصد رمي صيد أو غرض فأصاب مؤمنًا، أو قصد رمي المشرك فأصاب مسلمًا، أو ظن الشخص مشركًا فقتله فبان مسلمًا، أو قتله شبه عمد، ويسمى عمد خطأ، وخطأ عمد، كأن ضربه بما لا يقتل عادة، كأن صفعه باليد، أو ضربه بعصا فمات، ولم يقصد قتله. ﴿فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ﴾؛ أي: فالواجب عليه عتق نسمة من أهل الإيمان؛ لأنه لما أعدم نفسًا مؤمنة كان كفارته أن يوجد نفسًا،
فالدية ضابطها هو المال الواجب بالجناية على الحر في النفس، أو فيما دونها، ويعطى إلى ورثة المقتول، عوضًا عن دمه.
وقرأ الجمهور (١): ﴿يَصَّدَّقُوا﴾ وأصله يتصدقوا فأدغمت التاء في الصاد،
﴿فَإِنْ كَانَ﴾ المقتول خطأ ﴿مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ﴾؛ أي: من سكان دار الحرب، بأن أسلم فيما بينهم ولم يفارقهم، أو بأن أتاهم بعد أن فارقهم لمهم من المهمات، ﴿وَهُوَ﴾؛ أي: المقتول ﴿مُؤْمِنٌ﴾ ولم يعلم القاتل بكونه مؤمنًا، كالحارث بن يزيد كان من قريش، وهم أعداء النبي - ﷺ -، والمؤمنون في حرب معهم، ولم يعلم المسلمون إيمانه؛ لأن قد قتله عياش حين خروجه مهاجرًا، وهو لم يعلم بذلك، ومثله كل من آمن في دار الحرب ولم يعلم المسلمون بإيمانه حين قتله، ﴿فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ﴾؛ أي: فالواجب على القاتل بسبب قتله الواقع على سبيل الخطأ هو عتق نسمة من أهل الإيمان فقط، وأما الدية فلا تجب، إذ لا وراثة بين المقتول وأهله؛ لأنهم أعداء يحاربون المسلمين، فلا يعطون من أموال المسلمين ما يستعينون به على قتالهم والتنكيل بهم، وأما الكفارة فإنها حق الله تعالى ليقوم المعتوق به مقام المقتول في المواظبة على العبادات.
﴿وَإِنْ كَانَ﴾ المقتول خطأ ﴿مِنْ قَوْمٍ﴾ كفرة ﴿بَيْنَكُمْ﴾ أيها المؤمنون ﴿وَبَيْنَهُمْ﴾؛ أي: وبين أولئك الكفرة ﴿مِيثَاقٌ﴾؛ أي: عهد مؤقت أو مؤبد على ترك القتال بينهم، كما هو حال الدول في العصر الحاضر يعقد بعضهم معاهدات ومواثيق مع بعض آخر على أن لا يقاتلوهم ولا يساعدوا عليهم عدوًّا، ﴿فَدِيَةٌ﴾؛ أي: فالواجب على قاتله دية ﴿مُسَلَّمَةٌ﴾؛ أي: مؤداة ﴿إلَى أَهْلِهِ﴾؛ أي: إلى أهل المقتول الكفار المعاهدين. وقرأ الحسن (١): ﴿وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق وهو مؤمن﴾ بزيادة: وهو مؤمن، وبه قال مالك، وقد اختلف الفقهاء في دية غير المسلمين، لاختلاف الرواية في ذلك، روى أحمد والترمذي أن النبي - ﷺ - قال: "عقل - دية - الكافر نصف دية المسلم"، وروي عن أحمد: أن
فائدة: حاصل (١) ما ذكره في الخطأ ثلاثة أقسام؛ لأن المقتول إما مؤمن أو كافر معاهد، والأول إما أن تكون ورثته مسلمين أو حربيين، فالمؤمن الذي ورثته مسلمون فيه الدية والكفارة، وكذا الكافر المُؤمَّنُ، أما المؤمن الذي ورثته كفار حربيون ففيه الكفارة فقط.
فصل في أحكام تتعلق بالآية وفيه مسائل
المسألة الأولى: في بيان صفة القتل
قال الشافعي: القتل على ثلاثة أقسام: عمد وشبه عمد وخطأ.
أما العمد المحض: فهو أن يقصد قتل إنسان بما يقتل به غالبًا، فقتل به، ففيه القصاص عند وجود التكافؤ، أو دية حالة مغلظة في مال القاتل.
وأما شبه العمد: فهو أن يقصد ضرب إنسان بما لا يقتل بمثله غالبًا مثل أن ضربه بعصا خفيفة، أو رماه بحجر صغير فمات، فلا قصاص عليه، وتجب عليه دية مغلظة على عاقلته مؤجلة إلى ثلاث سنين.
وأما الخطأ المحض: فهو أن لا يقصد قتله، بل قصد شيئًا آخر فأصابه، فمات منه، فلا قصاص عليه، وتجب فيه دية مخففة على عاقلته، مؤجلة إلى ثلاث سنين. ومن صور قتل الخطأ أيضًا: أن يقصد رمي مشرك أو كافر فيصيب مسلمًا، أو يقصد قتل إنسان يظنه مشركًا، بأن كان عليه لباس المشركين أو شعارهم، فبان مسلمًا، فالصورة الأولى خطأ في الفعل والثانية خطأ في القصد.
المسألة الثانية: في حكم الديات
فدية الحر المسلم مئة من الإبل، فإذا عدمت الإبل.. فتجب قيمتها من الدراهم أو الدنانير في قول، وفي قول بدل مقدر، وهو ألف دينار، أو اثنا عشر ألف درهم، ويدل على ذلك ما روي عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: كانت الدية على عهد رسول الله - ﷺ - ثمان مئة دينار، أو ثمانية آلاف درهم، قال: وكانت دية أهل الكتاب يومئذ على النصف من دية المسلم، فكانت كذلك حتى استخلف عمر، فقام خطيبًا، فقال: إن الإبل قد غلت، ففرضها عمر على أهل الذهب ألف دينار، وعلى أهل الورق اثني عشر ألف درهم، وعلى أهل البقر مئتي بقرة، وعلى أهل الشاء ألفي شاة، وعلى أهل الحلل مئتي حلة، قال: وترك دية أهل الكتاب، فلم يرفعها فيما رفع من الدية، أخرجه أبو داود.
وذهب قوم إلى أنها مئة من الإبل، أو ألف دينار، أو عشرة آلاف درهم، وهو قول سفيان الثوري وأصحاب الرأي.
ودية المرأة نصف دية الذكر الحر، ودية أهل الذمة والعهد ثلث دية المسلم إن كان كتابيًّا، وإن كان مجوسيًّا فخمس الثلث ثمان مئة درهم، وهو قول سعيد بن المسيب وإليه ذهب الشافعي.
وذهب قوم إلى أن دية الذمي والمعاهد مثل دية المسلم، روي ذلك عن ابن مسعود، وهو قول سفيان الثوري وأصحاب الرأي. وقال قوم: دية الذمي نصف دية المسلم، وهو قول عمر بن عبد العزيز، وبه قال مالك وأحمد، والأصل في ذلك ما روي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن رسول الله - ﷺ - قال: "دية المعاهد نصف دية الحر". أخرجه أبو داود. وعنه أن النبي - ﷺ - قال: "عقل أهل الذمة نصف عقل المسلمين وهم اليهود والنصارى" أخرجه النسائي. فمن ذهب إلى أن دية أهل الذمة ثلث دية المسلم أجاب عن هذا الحديث بأن الأصل في ذلك كان النصف، ثم رفعت زمن عمر دية المسلم ولم ترفع دية الذمي، فبقيت على أصلها وهو قدر الثلث من دية المسلمين.
والدية في قتل العمد وشبه العمد مغلظة فتجب ثلاثون حقة، وثلاثون جذعة، وأربعون خلفة في بطونها أولادها، وهذا قول عمرو بن زيد بن ثابت، وبه قال عطاء، وإليه ذهب الشافعي، لما روي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله - ﷺ - قال: "من قتل متعمدًا دُفع إلى أولياء المقتول، فإن شاؤوا قتلوا، وإن شاؤوا أخذوا الدية، وهي ثلاثون حقة وثلاثون جذعة وأربعون خلفة، وما صولحوا عليه فهو لهم"، وذلك لتشديد العقل. أخرجه الترمذي، وقال حديث حسن غريب.
وعن عقبة بن أوس عن رجل من أصحاب النبي - ﷺ - قال: خطب النبي - ﷺ -
وذهب قوم إلى أن الدية المغلظة أرباع، خمس وعشرون بنت مخاض، وخمس وعشرون بنت لبون، وخمس وعشرون حقة، وخمس وعشرون جذعة، وهذا قول الزهري وربيعة، وإليه ذهب مالك وأحمد وأصحاب الرأي.
وأما دية الخطأ فمخففة، وهي أخماس بالاتفاق، غير أنهم اختلفوا في تقسيمها، فذهب قوم إلى أنها عشرون بنت مخاض، وعشرون بنت لبون، وعشرون ابن لبون، وعشرون حقة، وعشرون جذعة، وهذا قول عمر بن عبد العزيز وسليمان بن يسار والزهري وربيعة، وبه قال مالك والشافعي، وأبدل قوم أبناء اللبون بأبناء المخاص يروون ذلك عن ابن مسعود، وبه قال أحمد وأصحاب الرأي.
والدية في قتل الخطأ وشبه العمد على العاقلة، وهم العصبات من المذكور، ولا يجب على الجاني منها شيء؛ لأن النبي - ﷺ - أوجبها على العاقلة. ودية الأعضاء والأطراف حكمها مبين في كتب الفقه، فلا نطيل الكلام بها، ودية أعضاء المرأة على النصف من دية أعضاء الرجل. والله أعلم.
المسألة الثالثة: في حكم الكفارة
الكفارة: إعتاق رقبة مؤمنة، وتجب في مال القاتل، سواء كان المقتول مسلمًا أو معاهدًا، رجلًا كان أو امرأة، حرًّا كان أو عبدًا، فمن لم يجد الرقبة.. فعليه صيام شهرين متتابعين، فالقاتل إن كان واجدًا لرقبة أو قادرًا على تحصيلها بوجود الثمن، فاضلًا عن نفقته ونفقة عياله، وحاجته من مسكن ونحوه.. فعليه
فمنهم من قال: ينقطع التتابع وعليه استئناف الشهرين، وهو قول النخعي، وأظهر قولي الشافعي؛ لأنه أفطر مختارًا.
ومنهم من قال: لا ينقطع التتابع، وعليه أن يبني، وهو قول سعيد بن المسيب والحسن والشعبي.
ولو حاضت المرأة في خلال الشهرين أفطرت أيام الحيض، ولا ينقطع، فإذا طهرت.. بنت؛ لأنه أمر كتبه الله تعالى على بنات آدم، ولا يمكن الاحتراز عنه.
فإن عجز عن الصوم، فهل ينتقل عنه إلى الإطعام، فيطعم ستين مسكينًا؟.. فيه قولان:
أحدهما: أنه ينتقل إلى الإطعام كما في كفارة الظهار.
والثاني: لا ينتقل لأن الله تعالى لم يذكر له بدلًا، فقال: فصيام شهرين متتابعين توبة من الله، فنص على الصوم، وجعل ذلك عقوبة لقتل الخطأ والله أعلم.
٩٣ - ثم بين الله سبحانه وتعالى حكم القتل العمد وعقوبته الشديدة، فقال: ﴿وَمَنْ يَقْتُلْ﴾ شخصًا ﴿مُؤْمِنًا﴾ بالله ورسوله، حالة كون القاتل ﴿مُتَعَمِّدًا﴾؛ أي: قاصدًا قتله بما يقتل غالبًا كالسيف مثلًا، عالمًا بكونه مؤمنًا ولو ظنًّا ﴿فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ﴾؛ أي: فجزاء ذلك القاتل وعقوبته جهنم؛ أي: فجزاؤه وعقوبته على قتله أن يدخل جهنم حالة كونه ﴿خَالِدًا فِيهَا﴾؛ أي: حالة كونه ماكثًا في جهنم مكثًا مؤبدًا إن استحل قتله، أو ماكثًا مكثًا طويلًا إن لم يستحل ﴿وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ﴾؛ أي: وسخط الله سبحانه وتعالى على ذلك القاتل سخطًا شديدًا، يستلزم الانتقام منه، ﴿وَلَعَنَهُ﴾؛ أي: وطرده الله تعالى من رحمته، وأبعده عنها في الدنيا والآخرة، ﴿وَأَعَدَّ لَهُ﴾؛ أي: وهيأ الله تعالى لذلك القاتل في جهنم ﴿عَذَابًا عَظِيمًا﴾؛ أي: تعذيبًا شديدًا لا يقادر قدره إلا الله تعالى، جزاء على عمله الشنيع.
١ - يرى ابن عباس وفريق من السلف: أن قاتل المؤمن عمدًا لا تقبل له توبة، وهو خالد في النار أبدًا، ويدل على ذلك ما أخرجه أحمد والنسائي عن معاوية قال: سمعت رسول الله - ﷺ - يقول: "كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا الرجل يموت كافرًا أو الرجل يقتل مؤمنًا متعمدًا".
وأخرج البيهقي عن ابن عمر قال: قال رسول الله - ﷺ -: "من أعان على دم امرئ مسلم بشطر كلمة، كتب بين عينيه يوم القيامة آيس من رحمة الله تعالى"، وروي عن البراء بن عازب أن النبي - ﷺ - قال: "لزوال الدنيا وما فيها أهون عند الله تعالى من قتل مؤمن، ولو أن أهل سماواته وأهل أرضه اشتركوا في دم مؤمن.. لأدخلهم الله تعالى النار".
وعن ابن عمر أنه عليه الصلاة والسلام قال: "لو أن الثقلين اجتمعوا على قتل مؤمن.. لأكبهم الله تعالى على مناخرهم في النار، وإن الله تعالى حرم الجنة على القاتل والآمر". وهؤلاء يرون أن التائب من الشرك وقد كان قاتلًا زانيًا تقبل توبته، ولا تقبل توبة المؤمن الذي ارتكب القتل وحده، إذ الأول لم يؤمن بالشريعة التي تحرم هذه الأمور، فله شبه عذر إذا هو كان متبعًا لهواه بالكفر، وما يتبعه، ولم يكن ظهر له صدق النبوة، فلما ظهر له الدليل على أن ما كان عليه كفر وضلال وتاب وأناب وعمل صالحًا كان جديرًا بالعفو، وأما المؤمن الموقن بصحة النبوة وحرمة القتل، فلا عذر له، إذ هو يعلم أن المؤمن أخ له ونصير، فكيف يعود بعد هذا إلى الاستهانة بأمر الله وحكمه، وتوهين أمر دينه بهدم أركان قوته، ومن ثم يهن المسلمون ويضعفون، ويكون بأسهم بينهم شديدًا.
وإنك لترى أنه ما انحلت الرابطة بين المسلمين، وانفصمت عروة الوفاق بينهم، إلا بعد أن أقدم بعضهم على سفك دماء بعض، ورجحوا شهوة الغضب والانتقام على أمر الله تعالى، ومن رجح شهوات نفسه الضارة على أمر الله، وعلى مصلحة المؤمنين بغير شبهة.. فهو جدير بالخلود في النار والغضب واللعنة، إذ هؤلاء تجرؤوا على حدود دينه ولم يبق للشرع حرمة في قلوبهم.
٢ - فريق آخر يرى: أن المراد بالخلود المكث الطويل، لا الدوام؛ لتظاهر النصوص القاطعة بأن عصاة المؤمنين لا يدوم عذابهم، وما في الآية إخبار من الله بأن جزاءه ذلك، لا بأنه يجزيه ذلك، كما جاء في قوله جل ذكره: ﴿وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا﴾ فإنه لو كان المراد منها أنه سبحانه يجز كل سيئة بمثلها، لعارضه قوله جل شأنه: ﴿وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ﴾ ومن ثم روي عن النبي - ﷺ - مرفوعًا أنه قال: "هو جزاؤه إن جازاه"، وبهذا قال جمع من العلماء، وقالوا: هو كما يقول الإنسان لمن يزجره عن أمر: إن فعلت فجزاؤك القتل والضرب، وهو إن لم يجازه.. لم يكن كذابًا، وقد روح عن ابن عباس جواز المغفرة بلا توبة أيضًا، وقال في الآية: هي جزاؤه، فإن شاء.. عذبه، وإن شاء.. غفر له.
٣ - ويري فريق ثالث: أن حكم الآية إنما هو للقاتل المستحل، وحكمه مما لا شك فيه جواب المبتدأ: حكمه، وعكرمة وابن جريج فسرا متعمدًا مستحلًا في الآية؛ أي: ومن يقتل مؤمنًا، متعمدًا لقتله، مستحلًا له.. فجزاؤهُ جهنم خالدًا فيها أبدًا.
الإعراب
﴿فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (٨٨)﴾.
﴿فَمَا﴾: ﴿الفاء﴾: استئنافية، ﴿ما﴾: اسم استفهام إنكار في محل الرفع مبتدأ، ﴿لَكُم﴾: جار ومجرور خبره، تقديره: فأي شيء ثابت لكم، والجملة
وفي "السمين": ﴿فَمَا لَكُمْ﴾ (١): مبتدأ وخبر، و ﴿فِي الْمُنَافِقِينَ﴾ ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه متعلق بما تعلق به الخبر وهو ﴿لَكُمْ﴾؛ أي: أي شيء كائن لكم، أو مستقر لكم في أمر المنافقين.
والثاني: أنه متعلق بمعنى ﴿فِئَتَيْنِ﴾، فإنه في قوة مالكم تفترقون في أمور المنافقين، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه.
والثالث: أنه متعلق بمحذوف على أنه حال من ﴿فِئَتَيْنِ﴾؛ لأنه في الأصل صفة لها، تقديره: فئتين مفترقتين في المنافقين، وصفة النكرة إذا تقدمت عليها.. انتصبت حالًا. وفي ﴿فِئَتَيْنِ﴾ وجهان:
أحدهما: أنه حال من الكاف والميم في ﴿لَكُمْ﴾، والعامل فيها الاستقرار الذي تعلق به ﴿لَكُمْ﴾، ومثله: ﴿فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (٤٩)﴾ وقد تقدم أن هذه الحال لازمة؛ لأن الكلام لا يتم بدونها، وهذا مذهب البصريين في كل ما جاء من هذه التراكيب.
والثاني: وهو مذهب الكوفيين: أنه نصب على أنه خبر كان مضمرة، والتقدير: ما لكم في المنافقين كنتم فئتين، انتهى.
﴿وَاللَّهُ﴾: ﴿الواو﴾: حالية أو استئنافية، ﴿اللَّهُ﴾: مبتدأ. ﴿أَرْكَسَهُمْ﴾: فعل ومفعول، والفاعل ضمير يعود على ﴿اللَّهُ﴾، والجملة الفعلية خبر المبتدأ، والجملة الإسمية في محل النصب حال من ﴿الْمُنَافِقِينَ﴾، أو مستأنفة، ﴿بِمَا﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿أركس﴾، ﴿كَسَبُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة لـ ﴿ما﴾،
﴿وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (٨٩)﴾.
﴿وَدُّوا﴾: فعل وفاعل والجملة مستأنفة، ﴿لَوْ﴾: مصدرية، ﴿تَكْفُرُونَ﴾ فعل وفاعل، وجملة ﴿لَوْ﴾ المصدرية مع صلتها: في تأويل مصدر منصوب على المفعولية، تقديره: ودوا كفركم أيها المؤمنون، ﴿كَمَا﴾ ﴿الكاف﴾ حرف جر، ﴿ما﴾: مصدرية، ﴿كَفَرُوا﴾ فعل وفاعل، والجملة صلة ﴿ما﴾ المصدرية، ﴿ما﴾ مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بـ ﴿الكاف﴾، تقديره: ككفرهم، الجار والمجرور متعلق بمحذوف صفة لمصدر محذوف، تقديره: ودوا كفركم كفرًا كائنًا ككفرهم. ﴿فَتَكُونُونَ﴾ ﴿الفاء﴾ عاطفة، ﴿تكونوا﴾: فعل ناقص واسمه، ﴿سَوَاءً﴾: خبره، ولكنه في تأويل اسم الفاعل؛ لأنه لا يخبر عن الذات باسم المعنى، فهو في تأويل مستوين، وجملة ﴿تكونون﴾ في محل النصب معطوفة على جملة
﴿إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ﴾.
﴿حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ﴾.
﴿حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ﴾: فعل وفاعل ومضاف إليه، والجملة الفعلية دعائية لا محل لها من الإعراب، أو في محل النصب حال من فاعل ﴿جَاءُوكُمْ﴾ ولكنها على تقدير قد، وقيل (١): لا حاجة إلى تقديرها؛ لأنه قد جاء الماضي حالًا بغير تقديرها كثيرًا، فإن لم تقدر قد.. فهو دعاء عليهم، كما تقول: لعن الله الكافر. اهـ. "كرخي". وفي "السمين": وإذا وقعت الحال فعلًا ماضيًا.. ففيها خلاف هل يحتاج إلى اقترانه بقد أم لا، والراجح عدم الاحتياج لكثرة ما جاء منه، فعلى هذا لا تقدر قد قبل ﴿حَصِرَتْ﴾ انتهى. ﴿أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ﴾: ناصب وفعل وفاعل ومفعول، وجملة ﴿أَنْ﴾ المصدرية مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بحرف جر محذوف متعلق بـ (حَصِرَتْ} تقديره: حصرت صدورهم عن قتالهم إياكم.
﴿أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا﴾.
﴿أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ﴾: فعل وفاعل ومفعول ومضاف إليه، معطوف علي ﴿يُقَاتِلُوكُمْ﴾ ﴿وَلَوْ﴾. ﴿الواو﴾ استئنافية، ﴿وَلَوْ﴾: حرف شرط، ﴿شَاءَ اللَّهُ﴾: فعل وفاعل والجملة فعل شرط لـ ﴿لو﴾ لا محل لها من الإعراب. ﴿لَسَلَّطَهُمْ﴾: ﴿اللام﴾: رابطة لجواب ﴿لَوْ﴾. ﴿سلطهم﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود
﴿سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأمَنُوكُمْ وَيَأمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (٩١)﴾.
﴿سَتَجِدُونَ﴾: فعل وفاعل، ﴿آخَرِينَ﴾: مفعول أول، ﴿يُرِيدُونَ﴾: فعل وفاعل، والجملة في محل النصب مفعول ثان لوجد، وجملة وجد مستأنفة، ﴿أَنْ يَأمَنُوكُمْ﴾: ناصب وفعل وفاعل، وجملة ﴿أَنْ﴾ مع صلتها: في تأويل مصدر
﴿وَمَا﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية. ﴿ما﴾: نافية، ﴿كاَنَ﴾: فعل ماض ناقص، ﴿لِمُؤْمِنٍ﴾: جار ومجرور خبر مقدم لـ ﴿كَانَ﴾ على اسمها، ﴿أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا﴾: ناصب وفعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على ﴿مؤمن﴾. ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ، ﴿خَطَأً﴾: منصوب على المفعولية المطلقة؛ لأنه صفة مصدر محذوف، تقديره: إلا قتلًا خطأً، أو منصوب على الحال من فاعل ﴿يَقْتُلَ﴾، وجملة ﴿أَن﴾ المصدرية مع صلتها: في تأويل مصدر مرفوع على كونه اسم ﴿كَانَ﴾ مؤخرًا، والتقدير: وما كان قتل مؤمن مؤمنًا جائزًا له إلا قتلًا خطأً، أو إلا حالة كونه مخطئًا.
﴿وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا﴾.
﴿وَمَن﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية، ﴿مَنْ﴾: اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط أو الجواب أو هما، ﴿قَتَلَ مُؤْمِنًا﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على ﴿من﴾، والجملة في محل الجزم بـ ﴿من﴾ الشرطية على كونها فعل شرط لها، ﴿خَطَأً﴾: منصوب على المفعولية المطلقة، ﴿فَتَحْرِيرُ﴾ ﴿الفاء﴾ رابطة لجواب ﴿من﴾ الشرطية وجوبًا، ﴿تحرير﴾: خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: فالواجب عليه تحرير رقبة، ﴿رَقَبَةٍ﴾: مضاف إليه، ﴿مُؤْمِنَةٍ﴾: صفة لـ ﴿رَقَبَةٍ﴾، والجملة الإسمية في محل الجزم بـ ﴿من﴾ على كونها جوابًا لها، وجملة ﴿من﴾ الشرطية مستأنفة، ﴿وَدِيَةٌ﴾: معطوف على ﴿تحرير﴾. ﴿مُسَلَّمَةٌ﴾: صفة لـ ﴿دية﴾، ﴿إِلَى أَهْلِهِ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿مُسَلَّمَةٌ﴾، ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء، ﴿أَنْ يَصَّدَّقُوا﴾: ناصب وفعل وفاعل، في تأويل مصدر منصوب على الاستثناء من عام الأحوال، تقديره: ودية مسلمة إلى أهله في جميع الأحوال إلا حال تصدقهم وعفوهم عنها، وإن شئت قلت: ﴿إلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ، والجملة الفعلية في محل النصب حال من ﴿أَهْلِهِ﴾، والتقدير: ودية مسلمة إلى أهله إلا حالة كونهم متصدقين وعافين عنها، تأمل.
﴿فَإن﴾: ﴿الفاء﴾: حرف عطف وتفريع على محذوف تقديره: هذا الحكم إذا كان المقتول منكم. ﴿إن﴾: حرف شرط جازم، ﴿كَانَ﴾: فعل ماض ناقص في محل الجزم بـ ﴿إن﴾، واسمها ضمير يعود على المقتول، ﴿مِنْ قَوْمٍ﴾: جار ومجرور خبر ﴿كاَنَ﴾، ﴿عَدُوٍّ﴾: صفة لـ ﴿قَوْمٍ﴾، ﴿لَكُمْ﴾: صفة ﴿عَدُوّ﴾، وقيل (١): يتعلق به؛ لأن عدوًّا في معنى معاد، وفعول يعمل عمل فاعل، ﴿وَهُوَ مُؤْمِنٌ﴾: مبتدأ وخبر، والجملة في محل النصب حال من اسم ﴿كَانَ﴾، ﴿فَتَحْرِيرُ﴾ ﴿الفاء﴾: رابطة لجواب ﴿إن﴾ الشرطية، ﴿تحرير رقبة﴾: مبتدأ ومضاف إليه، ﴿مُؤْمِنَةٍ﴾: صفة لـ ﴿رَقَبَةٍ﴾، والخبر محذوف، تقديره: فتحرير رقبة مؤمنة واجب عليه، والجملة الإسمية في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ على كونها جوابًا لها، وجملة ﴿إن﴾ الشرطية معطوفة ومفرعة على الجملة المحذوفة التي قدرناها آنفًا.
﴿وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ﴾.
﴿وَإِنْ﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة، ﴿إن﴾: حرف شرط، ﴿كَانَ﴾: فعل ماض ناقص في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ على كونه فعل شرط لها، واسمها ضمير يعود على المقتول، ﴿مِنْ قَوْمٍ﴾: جار ومجرور خبر ﴿كَانَ﴾، ﴿بَيْنَكُمْ﴾: خبر مقدم، ﴿وَبَيْنَهُمْ﴾ معطوف عليه، ﴿مِيثَاقٌ﴾: مبتدأ مؤخر، والجملة الإسمية في محل الجر صفة لـ ﴿قَوْمٍ﴾، ﴿فَدِيَةٌ﴾: ﴿الفاء﴾: رابطة لجواب ﴿إن﴾ الشرطية، ﴿وَدِيَةٌ﴾ مبتدأ، وسوغ الابتداء بالنكرة وصفه بما بعده، ﴿مُسَلَّمَةٌ﴾: صفة لـ ﴿وَدِيَةٌ﴾، ﴿إِلَى أَهْلِهِ﴾: جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بـ ﴿مُسَلَّمَةٌ﴾، والخبر محذوف جوازًا تقديره: واجبة عليه، والجملة الإسمية في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ على كونها جوابًا لها، وجملة ﴿إن﴾ الشرطية معطوفة على جملة قوله: {فَإن
﴿فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾.
﴿فَمَن﴾: ﴿الفاء﴾: حرف عطف وتفريع على محذوف، تقديره: هذا الحكم في حق من وجد الرقبة. ﴿من﴾: اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط أو جملة الجواب أو هما، ﴿لَمْ يَجِدْ﴾: جازم ومجزوم، وفاعله ضمير يعود على ﴿من﴾ ومفعوله محذوف تقديره: فمن لم يجد الرقبة، وهو متعد إلى واحد؛ لأنه من وجدان الضالة، لا بمعنى علم، والجملة في محل الجزم بـ ﴿من﴾ على كونه فعل شرط لها. ﴿فَصِيَامُ﴾ ﴿الفاء﴾: رابطة لجواب ﴿من﴾ الشرطية وجوبًا. ﴿صيام﴾: خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: فالواجب عليه صيام وهو مضاف. ﴿شَهْرَيْنِ﴾: مضاف إليه، ﴿مُتَتَابِعَيْنِ﴾: صفة لـ ﴿شَهْرَيْنِ﴾، والجملة الإسمية في محل الجزم بـ ﴿من﴾ على كونها جوابًا لها، وجملة ﴿من﴾ الشرطية: معطوفة مفرعة على ذلك المحذوف. ﴿تَوْبَةً﴾: منصوب على المفعولية المطلقة بفعل محذوف، تقديره: تاب الله عليكم توبة منه، حيث نقلكم من الأثقل الذي هو الإعتاق إلى الأخف الذي هو الصيام، والجملة المحذوفة مستأنفة. ﴿مِنَ اللَّهِ﴾: جار ومجرور صفة لـ ﴿تَوْبَةً﴾. ﴿وَكَانَ اللَّهُ﴾: فعل ناقص واسمه. ﴿عَلِيمًا﴾: خبر أول لها. ﴿حَكِيمًا﴾: خبر ثان، والجملة مستأنفة.
﴿وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا (٩٣)﴾.
﴿وَمَن﴾: ﴿الواو﴾: استئنافية، أو عاطفة، ﴿من﴾: اسم شرط في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط أو الجواب أو هما. ﴿يَقْتُل﴾: فعل مضارع مجزوم بـ ﴿من﴾ على كونه فعل شرط لها، وفاعله ضمير يعود على ﴿من﴾. ﴿مُؤْمِنًا﴾: مفعول به، ﴿مُتَعَمِّدًا﴾: حال من فاعل ﴿يَقْتُلْ﴾، ﴿فَجَزَاؤُهُ﴾ ﴿الفاء﴾: رابطة لجواب ﴿من﴾ الشرطية وجوبًا، ﴿جَزَاؤُهُ﴾: مبتدأ ومضاف إليه،
التصريف ومفردات اللغة
﴿فِئَتَيْنِ﴾: تثنية فئة، والفئة الجماعة. ﴿وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ﴾: من أركس الرباعي إركاسًا، والإركاس (٢) الرد والرجع، قيل: من آخره على أوله، والركس: بكسر أوله وسكون ثانيه الرجيع والروثة، ومنه قول النبي - ﷺ - في الروثة: "هذا ركس" وقال أمية بن أبي الصلت:
فَأُرْكِسُوْا فِيْ حَمِيْمِ النَّارِ إِنَّهُمُ | كَانُوْا عُصَاةً وَقَالُوْا الإِفْكَ والزَّوْرَا |
وحكى الكسائي والنضر بن شميل (٤): ركس وأركس بمعنى واحد؛ أي:
(٢) البحر المحيط.
(٣) المراغي.
(٤) البحر المحيط.
بِشُؤمِكَ أَرْكَسْتَنِي في الْخَنَا | وَأَرْمَيْتَنِيْ بِضُرُوْبِ الْعَنَا |
وَأَرْكَسْتَنِي عَنْ طَرِيْقِ الْهُدَى | وَصَيَّرْتَنِي مَثَلًا لِلْعِدَا |
رُكِسُوْا فِيْ فِتْنَةٍ مُظْلِمَةٍ | كَسَوَادِ اللَّيْلِ يَتْلُوْهَا فِتَنْ |
﴿حَصِرَتْ صُدُورُهُم﴾: وفي "المصباح" (١): حصر الصدر حصرًا - من باب تعب - إذا ضاق، وحصر القارئ إذا منع من القراءة، فهو حصير، والحصور الذي لا يشتهي النساء، وحصير الأرض وجهها، والحصير أيضًا الحبس، والحصير البادية، وجمعها حُصر، مثل بريد وبُرد، وتأنيثها بالهاء عامي. ﴿فَإنِ اعْتَزَلُوكم﴾: من باب افتعل الخماسي بمعنى ابتعد، وهو من مزيد الثلاثي؛ لأن ثلاثيه عزل: بمعنى بعد وانفصل عن القوم، ﴿سَبِيلًا﴾: السبيل الطريق، والمراد بها هنا طريق النجاة، ﴿وَلِيًّا﴾: الولى النصير والمعين.
﴿وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ﴾: الدية (٢) ما غرِّم في القتل من المال، وكان لها في الجاهلية أحكام ومقادير، ولها في الشرع أحكام ومقادير سبق ذكر شيء منها، وأصلها مصدر أطلق على المال المأخوذ في القتل، ولذلك قال: ﴿مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ﴾ والفعل لا يسلم بل الأعيان، تقول في تصريفه: ودى يدي وديًا ودية،
(٢) البحر المحيط.
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات من البلاغة والبيان والبديع أنواعًا (١):
منها: الاستفهام بمعنى الإنكار في قوله: ﴿لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ﴾، وفي قوله: ﴿أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا﴾.
ومنها: الطباق في قوله: ﴿أن تَهدُوا مَن أَضَل اَللهُ﴾.
ومنها: التجنيس المماثل في قوله: ﴿لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا﴾، وفي قوله: ﴿بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ﴾، وفي قوله: ﴿أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ﴾، وفي قوله: ﴿أَنْ يَأمَنُوكُمْ وَيَأمَنُوا قَوْمَهُمْ﴾، وفي قوله: ﴿خَطَأً﴾ و ﴿خَطَأً﴾.
ومنها: الاستعارة في قوله: ﴿بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ﴾، وفي قوله: ﴿حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ﴾، وفي قوله: ﴿فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ﴾ ﴿وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ﴾، وقوله ﴿سَبِيلًا﴾، وقوله ﴿كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ...﴾ الآية.
ومنها: الاعتراض في قوله: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ﴾.
ومنها: التكرار في مواضع.
ومنها: التقسيم في قوله: ﴿وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا...﴾ إلى آخره.
ومنها: الحذف في مواضع.
ومنها: المجاز المرسل في قوله: ﴿فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ﴾ حيث أطلق الجزء وأراد الكل؛ أي: عتق نسمة مملوكة.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (٩٤) لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (٩٥) دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (٩٦) إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (٩٧) إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا (٩٨) فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا (٩٩) وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (١٠٠)﴾.
المناسبة
قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها ظاهرة (١): وهي أنه تعالى لما ذكر جزاء من قتل مؤمنًا متعمدًا، وأنه مأواه جهنم، وذكر غضب الله عليه ولعنته، وإعداد العذاب العظيم له.. أمر المؤمنين بالتثبت والتبين، وأن لا يقدم الإنسان على قتل من أظهر الإيمان، وأن لا يسفكوا دمًا حرامًا بتأويل ضعيف، وكرر ذلك آخر الآية تأكيدًا أن لا يقدم عند الشبه والإشكال حتى يتضح له ما يقدم عليه، ولما كان خفاء ذلك منوطًا بالأسفار والغزوات.. قال: إذا ضربتم في الأرض، وإلا فالتثبت والتبين لازم في قتل من تظاهر بالإِسلام في السفر وفي الحضر.
وقال المراغي: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
قوله تعالى: ﴿لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها (٢): أنه تعالى لما رغب المؤمنين في قتال - في سبيل الله - أعداءِ الله الكفار، واستطرد من ذلك إلى قتل المؤمن خطأ وعمدًا بغير تأويل وبتأويل، فنهى أن يُقْدِم على قتله بتأويل أمر يحمله على الإِسلام إذا كان ظاهره يدل على ذلك.. ذكر بيان فضل المجاهد على القاعد، وبيان تفاوتهما، وأن ذلك لا يمنع منه كون الجهاد مظنة أن يصيب المجاهد مؤمنًا خطأ، أو من يلقي السلم فيقتله بتأويل، فيتقاعد عن الجهاد لهذه الشبهة، فأتى عقيب ذلك بفضل الجهاد وفوزه، بما ذكر في الآية من الدرجات والمغفرة والرحمة والأجر العظيم دفعًا لهذه الشبهة.
(٢) البحر المحيط.
قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: هي أنه تعالى لما ذكر ثواب من أقدم على الجهاد.. أتبعه بعقاب من قعد عن الجهاد، وسكن في بلاد الكفر، وعبارة المراغي هنا: مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر في الآية السالفة فضل المجاهدين في سبيل الله على القاعدين بغير عجز.. ذكر هنا حال قوم أخلدوا إلى السكون، وقعدوا عن نصرة الدين، وعذروا أنفسهم بأنهم في أرض الكفر، حيث غلبهم الكافرون، ومنعوهم من إقامة الحق، وهم عاجزون عن مقاومتهم، ولكنهم في الحقيقة غير معذورين؛ لأنه كان يجب عليهم الهجرة إلى المؤمنين الذي يعتزون بهم، إذ هم بحبهم لبلادهم وإخلادهم إلى أرضهم وسكونهم إلى أهليهم ومعارفهم ضعفاء في الحق، لا مستضعفون، وهم بضعفهم هذا قد حرموا أنفسهم بترك الهجرة من خير الدنيا مما أفاء الله به على المؤمنين، ومن خير الآخرة بإقامة الحق وإعلاء كلمة الدين. وظلمهم لأنفسهم هو بتركهم العمل بالحق خوفًا من الأذى، وفقد الكرامة عند ذوي قرابتهم من المبطلين، وهذا الاعتذار وما أشبهه مما يعتذر به الذين سايروا أهل البدع على بدعهم في عصرنا الحاضر، بحجة دفع الأذى عن أنفسهم بمدارة المبطلين، وذلك عذر لا يعتد به، إذ الواجب عليهم إقامة الحق مع احتمال الأذى في سبيل الله، أو الهجرة إلى حيث يتمكنون من إقامة دينهم.
أسباب النزول
قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا...﴾ الآية، في سبب نزول هذه الآية روايات كثيرة (٢):
(٢) المراغي.
ومنها: ما أخرجه أحمد والطبراني وغيرهما عن عبد الله بن أبي حدرد الأسلمي قال: بعثنا رسول الله - ﷺ - في نفر من المسلمين، فيهم أبو قتادة ومحلم بن جثامة، فمر بنا عامر بن الأضبط الأشجعي، فسلم علينا، فحمل عليه محلم فقتله، فلما قدمنا على النبي - ﷺ - وأخبرناه الخبر.. نزل فينا القرآن: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ...﴾ الآية.
وأخرج البزار من وجه آخر عن ابن عباس قال: "بعث رسول الله - ﷺ - سرية فيها المقداد، فلما أتوا القوم.. وجدوهم قد تفرقوا، وبقي رجل له مال كثير، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، فقتله المقداد، فقال النبي - ﷺ -: "كيف لك بلا إله إلا الله غدًا". وأنزل الله هذه الآية. وقيل غير ذلك.
ولا مانع من تعدد الوقائع قبل نزول الآية، وأن النبي - ﷺ - كان يقرؤها على أصحاب كل واقعة، فيرون أنهم سبب نزولها.
قوله تعالى: ﴿لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ...﴾ الآية، سبب نزولها: ما رواه البخاري عن البراء رضي الله عنه قال: لما نزلت: ﴿لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ دعا رسول الله - ﷺ - زيدًا، فجاءه بكتف فكتبها، وشكى ابن أم مكتوم ضرارته فنزلت ﴿لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ﴾.
وقد روي (١): أن الآية نزلت في كعب بن مالك من بني سلمة، ومرارة بن الربيع من بني عمرو بن عوف، والربيع وهلال بن أمية من بني واقف، حين تخلفوا عن رسول الله - ﷺ - في غزوة تبوك.
وأخرجه بن مردويه وسمى منهم في روايته: قيس بن الوليد بن المغيرة، وأبا قيس بن الفاكهة بن المغيرة، والوليد بن عتبة بن ربيعة وغيرهم، وذكر في شأنهم أنهم خرجوا إلى بدر، فلما رأوا قلة المسلمين دخلهم شك، وقالوا: غر هؤلاء دينهم، فقتلوا ببدر.
وأخرج ابن المنذر وابن جرير عن ابن عباس (٢) قال إن سبب نزول هذه الآية: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ﴾ أن قومًا من أهل مكة قد أسلموا، وكانوا يخفون الإِسلام، فأخرجهم المشركون معهم يوم بدر، فأصيب بعضهم، فقال المسلمون: هؤلاء كانوا مسلمين فأكرهوا، فاستغفروا لهم، فنزلت الآية فكتبوا بها إلى من بقي منهم بمكة، وأنه لا عذر لهم فخرجوا، فلحق بهم المشركون ففتنوهم فرجعوا، فنزلت: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ﴾ فكتب إليهم المسلمون بذلك فتحزنوا فنزلت: ﴿ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا...﴾ الآية، فكتبوا إليهم بذلك، فخرجوا فلحقوهم، فنجا من نجا، وقتل من قتل.
قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ...﴾ الآية، روى (٣) ابن جرير عن ابن جبير أنها نزلت في جندب بن ضمرة وكان بلغه قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ...﴾ الآية، وهو بمكة حين بعث بها رسول الله - ﷺ - إلى مسلميها، فقال لبنيه: احملوني فإني لست من المستضعفين، وإني لأهتدي إلى الطريق، وإني لا أبيت الليلة بمكة، فحملوه على سرير وتوجهوا به إلى المدينة، وكان شيخًا كبيرًا فمات بالتنعيم - موضع قرب المدينة - ولما
(٢) لباب النقول.
(٣) المراغي.
التفسير وأوجه القراءة
٩٤ - ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمنوا﴾؛ أي: يا أيها الذين صدقوا الله تعالى وصدقوا رسوله محمدًا - ﷺ -، واتبعوا الأوامر وتركوا النواهي، ﴿إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾؛ أي: إذا سافرتم وسرتم لجهاد أعداء الله تعالى وأعدائكم لإعلاء كلمته ورفعة دينه، ﴿فَتَبَيَّنُوا﴾؛ أي: اطلبوا البيان والتحقق واليقين، وتأنوا في قتل من اشتبه عليكم أمره فلم تعلموا أمسلم هو أم كافر، ولا تعجلوا في قتل أحد إلا إذا علمتم يقينًا أنه حرب لكم ولله تعالى والرسول - ﷺ - وقرأ (١) حمزة والكسائي هنا في الموضعين وفي الحجرات ﴿فتثبتوا﴾ بالثاء المثلثة؛ أي: اطلبوا التثبت والباقون: ﴿فَتَبَيَّنُوا﴾، وكلاهما تفعَّل بمعنى استفعل التي للطلب؛ أي: اطلبوا إثبات الأمر وبيانه، ولا تقدموا عليه من غير رويّة وإيضاح.
والمراد في الآية: فتأنوا واتركوا العجلة واحتاطوا ﴿وَلَا تَقُولُوا﴾ أيها المؤمنون المجاهدون بغير تأمل وتبين ﴿لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ﴾؛ أي: لمن حياكم بتحية الإِسلام السلام عليكم ورحمة الله، أو لمن ألقى إليكم الاستسلام والانقياد بقول: لا إله إلا الله محمَّد رسول الله، الذي هو أمارة على الإِسلام، ولم يقاتلكم وأظهر أنه من أهل ملتكم ﴿لَسْتَ مُؤْمِنًا﴾؛ أي: إنك لست بمؤمن حقًّا، وإنما تقوله تقية وخوفًا من السيف، فتقتلوه حالة كونكم ﴿تَبْتَغُونَ﴾ وتطلبون بقتله ﴿عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ ومتاعها من الغنائم، قاصدين ماله الذي هو سريع النفاذ والزوال ﴿فَعِنْدَ اللَّهِ﴾ سبحانه وتعالى ﴿مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ﴾؛ أي: أرزاق كثيرة ونعم لا تحصى ولا تعد، وثواب جسيم، فاطلبوها عنده تعالى
(٢) الخازن.
والمعنى: إذا كان الأمر كذلك.. فتبينوا، وقيسوا حاله بحالكم، وافعلوا به ما فعل بكم في أوائل أموركم، من قبول ظاهر الحال من غير وقوف على تواطىء الظاهر والباطن، وفي إعادة التبين مرة أخرى المبالغة في التحذير من ذلك الفعل والوعيد عليه، ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿كَانَ﴾ أزلًا وأبدًا ﴿بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ من الأعمال الظاهرة والباطنة ﴿خَبِيرًا﴾؛ أي: عالمًا فيجازيكم بحسبها إن خيرًا فخير، وإن شرًّا فشر، فلا تتهاونوا في القتل، واحتاطوا فيه.
وقرأ الجمهور (١): ﴿إِنَّ﴾ بكسر الهمزة على الاستئناف، وقرىء بفتحها، على أن تكون معمولة لقوله: ﴿فَتَبَيَّنُوا﴾؛ أي: أنه تعالى (٢) خبير بأعمالكم، لا يخفى عليه شيء من البواعث التي حفزتكم على الفعل، فإن كانت ابتغاء حظ الحياة الدنيا فهو تعالى يجازيكم على ذلك، فلا تفعلوا بل تثبتوا وتبينوا، وإن كان محض الدفاع عن الحق فهو تعالى يثيبكم على ذلك، وفي هذا وعيد وتحذير شديد من الوقوع في مثل هذا الخطأ، وكذلك فيه إرشاد إلى أن لا نحكم بتكفير من يخالفنا من أهل القبلة، والعلم الصحيح، والدعوة إلى كتاب الله تعالى، وسنة رسوله - ﷺ -، بمجرد المخالفة لنا في رأي أو عقيدة، فإنَّ مثل هذا لا يقدم عليه المسلم جزافًا، وعلينا أن ننظر بعد هذا كله إلى أن الإِسلام منع قتل من يلقي السلم، ومن بينه وبين المسلمين عهد وميثاق، إما على النصر وإما على ترك القتال، ورغب عن ابتغاء عرض الدنيا بالقتال؛ وليكون لمحض رفع العدوان والبغي، وتقرير الحق والإصلاح.
وأين هذا مما تفعله الدول الآن من القتال للربح وجمع الأموال، وهم ينقضون العهد والميثاق مع الضعفاء، ولا يلتزمون حفظ المعاهدات إلا مع الأقوياء.
(٢) المراغي.
أما مع العجز والضرر كالعمى والزمانة والمرض فلا تبعة فيه، فحينئذ فالقاعدون أولو الضرر يساوون المجاهدين؛ لأن العذر أقعدهم عن الجهاد، روى مسلم عن جابر قال: كنا مع رسول الله - ﷺ - في غزاة فقال رسول الله - ﷺ -: "إن بالمدينة رجالًا، ما سرتم مسيرًا ولا قطعتم واديًا إلا كانوا معكم، حبسهم المرض"، وروى البخاري عن أنس قال: رجعنا من تبوك مع النبي - ﷺ -، فقال: "إن أقوامًا خَلفنا، ما سلكنا شعبًا ولا واديًا.. إلا وهم معنا، حبسهم العذر".
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة وعاصم ﴿غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ﴾ بالرفع بدل من القاعدون، ونافع وابن عامر والكسائي والباقون: بالنصب على الحال من ﴿القاعدون﴾، والأعمش بالجر على الصفة للمؤمنين.
ثم بين (١) ما أجمله أولًا من التفاضل الذي بين الفريقين وعدم تساويهما فقال: ﴿فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً﴾؛ أي: إن الله سبحانه
وقيل المعنى: وفضل المجاهدين بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله ﴿عَلَى الْقَاعِدِينَ﴾ أولي الضرر ﴿دَرَجَةً﴾؛ أي: فضيلة واحدة في الآخرة لأن المجاهد باشر الجهاد بنفسه وماله مع النية، وأولو الضرر كانت لهم نية ولم يباشروا الجهاد، فنزلوا عن المجاهدين درجة، قال ابن عباس: أراد بالقاعدين هنا أولي الضرر، ﴿وَكُلًّا﴾ من المجاهدين والقاعدين مطلقًا ﴿وَعَدَ اللَّهُ﴾ لهم ﴿الْحُسْنَى﴾؛ أي: الجنة بإيمانهم ﴿وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ﴾ في سبيل الله تعالى ﴿عَلَى الْقَاعِدِينَ﴾ الذين لا عذر لهم ولا ضرر ﴿أَجْرًا عَظِيمًا﴾؛ أي: ثوابًا جزيلًا وأجرًا وافرًا،
٩٦ - ثم فسر ذلك الأجر العظيم فقال: ﴿دَرَجَاتٍ مِنْهُ﴾ سبحانه وتعالى، وانتصاب أجرًا عظيمًا بنزع الخافض، أو على التمييز، ودرجات بدل منه، بدل كل من كل، ﴿وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً﴾ معطوفان على درجات؛ أي: وفضل الله سبحانه وتعالى المجاهدين في سبيل الله تعالى على القاعدين بلا عذر بأجر عظيم، وثواب وافر، بدرجات منه وبمغفرة ورحمة منه تعالى؛ أي: فضلهم عليهم بدرجات ومنازل بعضها فوق بعض، من منازل الكرامة، وبمغفرة للذنوب، وبرحمة لهم بنعيم الجنة. والمراد بهذه الدرجات (١) هي ما ادخره الله تعالى لعباده من المنازل الرفيعة التي يقصر الحصر عن عدها، كما قال تعالى: ﴿انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا (٢١)﴾ ودرجات الآخرة مبنية على درجات الدنيا، من قوة الإيمان بالله تعالى، وإيثار رضاه على الراحة والنعيم، وترجيح المصلحة العامة على الشهوات الخاصة، والمغفرة المقرونة بهذه الدرجات هي المغفرة لما يفرط منهم
فإن قلت (١): قد ذكر الله عز وجل في الآية الأولى درجة واحدة، وذكر في هذه الآية درجات، فما وجه الحكمة في ذلك؟
قلتُ: أما الدرجة الأولى: فلتفضيل المجاهدين على القاعدين بوجود الضرر والعذر، وأما الثانية: فلتفضيل المجاهدين على القاعدين من غير ضرر ولا عذر، فُضِّلوا عليهم بدرجات كثيرة، وقيل: يحتمل أن تكون الدرجة الأولى درجة المدح والتعظيم في الدنيا، والدرجات درجات الجنة ومنازلها، كما في الحديث والله أعلم.
﴿وَكاَنَ اللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿غَفُورًا﴾ لذنوب عباده المؤمنين ﴿رَّحِيمًا﴾ بهم، يتفضل عليهم برحمته ومغفرته، عن ابن عمر - رضي الله عنهما - عن النبي - ﷺ - فيما يحكي عن ربه عز وجل قال: "أيما عبد من عبادي خرج مجاهدًا في سبيل الله ابتغاء مرضاتي.. ضمنت له إن أرجعته أرجعته بما أصاب من أجر أو غنيمة، وإن قبضته.. غفرت له ورحمته" أخرجه النسائي.
٩٧ - ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ﴾؛ أي: تتوفاهم ﴿الْمَلَائِكَةُ﴾ وتقبض أرواحهم حين انتهاء آجالهم، والمراد بالملائكة ملك الموت وأعوانه، وهم ستة: ثلاثة منهم يلون قبض أرواح المؤمنين، وثلاثة يلون قبض أرواح الكفار والمنافقين، وقيل: أراد به
وفي هذا (١) إيماء إلى الرجل إذا كان في بلد لا يتمكن فيه من إقامة دينه كما يجب، لبعض الأسباب، أو علم أنه في غير بلده أقوم بحق الله تعالى، وأدوم على العبادة. وجبت عليه الهجرة، أما المقيم في دار الكفر ولا يمنع ولا يؤذى إذا هو عمل بدينه، وأقام أحكامه بلا نكير، فلا يجب عليه أن يهاجر، كما هو مشاهد من المسلمين المقيمين في بلاد الإنكليز الآن، كما أن الإقامة فيها ربما كانت سببًا من أسباب ظهور محاسن الإِسلام وإقبال الناس عليه.
٩٨ - ثم استثنى أهل العذر ومن علم ضعفه منهم فقال: ﴿إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ﴾؛ أي: فأولئك المذكورون مأواهم جهنم، إلا الذين صدقوا في استضعافهم ﴿مِنَ الرِّجَالِ﴾ العجزة والزمنى، كعياش بن أبي ربيعة، وسلمة بن هشام ﴿وَالنِّسَاءِ﴾ كأم الفضل لبابة أم عبد الله بن عباس، ﴿وَالْوِلْدَانِ﴾ كعبد الله المذكور وغيره، فإنه قال: كنت أنا وأمي من المستضعفين في مكة، وإنما (٢) ذكر الولدان مع عدم التكليف لهم لقصد المبالغة في شأن الهجرة، وإيهام أنها تجب لو استطاعها غير المكلف، فكيف من كان مكلفًا، وقيل أراد بالولدان المراهقين والمماليك حالة كونهم ﴿لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً﴾؛ أي: لا يقدرون على حيلة الخروج، ولا على نفقته، أو كان بهم مرض، أو كانوا تحت قهر قاهر، يمنعهم من تلك المهاجرة، ﴿وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا﴾؛ أي: لا يعرفون طريقًا، ولا يجدون من يدلهم على الطريق. واستطاعة (٣) الحيلة: وجدان أسباب الهجرة، وما تتوقف عليه من مركوب وزاد. واهتداء السبيل: معرفة الطريق بنفسه أو بدليل،
٩٩ - ﴿فَأُولَئِكَ﴾ المستضعفون الذين لم يهاجروا
(٢) الشوكاني.
(٣) الخازن.
١٠٠ - ثم رغب الله سبحانه وتعالى في أمر الهجرة، ونشط المستضعفين، لما جرت به العادة من أن الإنسان يتهيب الأمر المخالف لما اعتاده وأنس به، ويتخيل مصاعب ومشقات لا توجد إلا في خياله، وأن ما يتصوره بعض الناس من عسر الهجرة لا محل له، وأن عسرها إلى يسر، فقال: ﴿وَمَنْ يُهَاجِرْ﴾؛ أي: ومن يرتحل من بلده الأصيلة إلى بلد آخر ﴿فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾؛ أي: في طاعته وطلب رضاه، لا لدنيا يصيبها، ولا لامرأة ينكحها مثلًا، ﴿يَجِدْ فِي الْأَرْضِ﴾؛ أي: يجد في الأرض التي هاجر إليها ﴿مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً﴾ في المعيشة؛ أي: يجد في تلك الأرض من الخير والنعمة ما يكون سببًا لرغم أنوف أعدائه، الذين كانوا معه في بلدته الأصيلة، وذلك لأن من ارتحل إلى بلدة أجنبية وتحول إليها، فإذا استقام أمره في تلك البلدة، وتمكن فيها، ووصل خيره إلى أهل بلدته الأولى، خجلوا من سوء معاملتهم معه، وندموا عليه، ورغمت أنوفهم بسبب ذلك.
وقرأ (١) الجراح ونبيح والحسن بن عمران: ﴿مرغما﴾ على وزن مفعل كمذهب، قال ابن جني: هو على حذف الزوائد من راغم، وفي هذا وعد للمهاجرين في سبيله بتسهيل سبل العيش لهم، وإرغامهم أعداءهم، والظفر بهم، وبعد أن وعد سبحانه من هاجر في سبيل الله تعالى بالظفر بما يحب من وجدان السبل ميسورة أمامه، ومن سعة العيش.. وعد من يموت في الطريق قبل وصوله دار الهجرة بالأجر العظيم، الذي ضمنه له عز وجل إذا كان يقصد بهجرته رضا الله تعالى، ونصرة رسوله - ﷺ - في حياته، وإقامة سننه بعد وفاته، وكان مستحقًا لهذا الأجر ولو مات بعد أن تجاوز عتبة بابه، ولو لم يصب تعبًا ولا مشقة؛ فإن نية الهجرة مع الإخلاص كافية لاستحقاقه، كما في الحديث: "إنما الأعمال
وقرأ النخعي وطلحة بن مصرف (١): ﴿ثم يدركه﴾ برفع الكاف، قال ابن جني: هذا رفع على أنه خبر مبتدأ محذوف؛ أي: هو يدركه الموت، فعطف الجملة من المبتدأ والخبر على الفعل المجزوم وفاعله، وخرج على وجه آخر وهو أن رفع الكاف منقول من الهاء، كأنه أراد أن يقف عليها، ثم نقل حركة الهاء إلى الكاف، وقرأ الحسن بن أبي الحسن ونبيح والجراح: ﴿ثم يدركه﴾ بنصب الكاف، وذلك على إضمار أن المصدرية، قال ابن جني: هذا ليس بالسهل، إنما بابه الشعر لا القرآن، ولك أن تقول: أجري ﴿ثم﴾ مجرى الواو والفاء، فكما جاز نصب الفعل بإضمار أن بعدهما، بين الشرط وجوابه، كذلك جاز في ﴿ثم﴾ إجراء لها مجراهما، وهذا مذهب الكوفيين، واستدلوا بهذه القراءة.
الإعراب
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾.
﴿يَا أَيُّهَا﴾: حرف نداء ﴿أي﴾: منادى نكرة مقصودة، ﴿ها﴾: حرف تنبيه
﴿فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (٩٤)﴾.
﴿فَعِنْدَ اللَّهِ﴾ ﴿الفاء﴾: تعليلية، ﴿عند الله﴾: ظرف ومضاف إليه، متعلق بمحذوف خبر مقدم، ﴿مَغَانِمُ﴾: مبتدأ مؤخر، ﴿كَثِيرَةٌ﴾: صفة له، والجملة الإسمية في محل الجر بلام التعليل المقدرة، المدلول عليها بـ ﴿الفاء﴾ التعليلية المتعلقة بمعلول محذوف، تقديره: وإنما نهيتكم عن القول المذكور، وابتغاء عرض الدنيا، لكون مغانم كثيرة عند الله تعالى، ﴿كَذَلِكَ﴾: جار ومجرور خبر مقدم على كان واسمها، ﴿كُنتُم﴾: فعل ناقص واسمه، ﴿مِنْ قَبْلُ﴾: جار ومجرور حال من الضمير المستكن في خبر كان، والتقدير: كنتم كائنين كذلك الرجل حالة كونكم كائنين من قبل، وجملة كان مستأنفة، ﴿فَمَنَّ اللَّهُ﴾
﴿لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (٩٥)﴾.
﴿لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ﴾: ناف وفعل وفاعل، والجملة مستأنفة. ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾: حال من ﴿الْقَاعِدُونَ﴾. ﴿غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ﴾: بالرفع بدل من ﴿الْقَاعِدُونَ﴾. وهو أرجح؛ لأن الكلام منفي، والبدل معه أرجح من النصب كما تقرر في كتب النحو، وقيل إنه بالرفع صفة لـ ﴿الْقَاعِدُونَ﴾، وبالنصب على الاستثناء من ﴿الْقَاعِدُونَ﴾، أو على الحال، وبالجر صفة لـ ﴿الْمُؤْمِنِينَ﴾. ﴿وَالْمُجَاهِدُونَ﴾: معطوف على ﴿الْقَاعِدُونَ﴾، ﴿فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ ﴿الْمُجَاهِدُونَ﴾. ﴿بِأَمْوَالِهِمْ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق أيضًا بـ ﴿المجاهدون﴾. ﴿وَأَنْفُسِهِمْ﴾: معطوف على ﴿أموالهم﴾. ﴿فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة مستأنفة، مسوقة لبيان عدم الاستواء المفهوم من الجملة التي قبلها. ﴿بِأَمْوَالِهِمْ﴾: متعلق بـ ﴿فَضَّلَ﴾. ﴿وَأَنْفُسِهِمْ﴾؛ معطوف على أموالهم. ﴿عَلَى الْقَاعِدِينَ﴾: متعلق أيضًا بـ ﴿فَضَّلَ﴾. ﴿دَرَجَةً﴾: منصوب على التمييز، أو بنزع الخافض؛ أي: بدرجة واحدة، أو على المصدرية؛ أي: فضلهم تفضيلة، وقيل غير ذلك. ﴿وَكُلًّا﴾: مفعول أول لـ ﴿وَعَدَ﴾ مقدم عليه لإفادة الحصر ﴿وَعَدَ﴾ ﴿اللَّهُ﴾: فعل وفاعل، ﴿الْحُسْنَى﴾: مفعول ثان له، والجملة معطوفة على جملة ﴿فَضَّلَ﴾. ﴿وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ﴾: فعل وفاعل ومفعول، معطوف على ﴿فَضَّلَ﴾
﴿دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (٩٦)﴾.
﴿دَرَجَاتٍ﴾: بدل من ﴿أَجْرًا﴾. ﴿مِنْهُ﴾: جار ومجرور صفة لـ ﴿دَرَجَاتٍ﴾. ﴿وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً﴾: معطوفان على ﴿دَرَجَاتٍ﴾. ﴿وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا﴾: فعل ناقص واسمه وخبره. ﴿رَحِيمًا﴾: خبر ثان لها، والجملة مستأنفة استئنافًا بيانيًّا.
﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (٩٧)﴾.
﴿إِنَّ الَّذِينَ﴾: ناصب واسمه. ﴿تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ﴾: فعل ومفعول وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير المفعول، ويجوز (٢) أن يكون ﴿تَوَفَّاهُمُ﴾ فعلًا ماضيًا، وإنما لم تلحق علامة التأنيث للفصل، ولأن التأنيث مجازي، ويدل على كونه فعلًا ماضيًا قراءة ﴿توفتهم﴾ بتاء التأنيث، ويجوز أن يكون مضارعًا حذفت منه إحدى التاءين، والأصل: تتوفاهم، ﴿ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ﴾: حال من ضمير ﴿تَوَفَّاهُمُ﴾، والإضافة فيه غير محضة، إذ الأصل ظالمين أنفسهم، ﴿قَالُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة حال من ﴿الْمَلَائِكَةُ﴾، ولكنها على تقدير قد؛ أي: حالة كون الملائكة قائلين لهم. ﴿فِيمَ كُنْتُمْ﴾: مقول محكي لـ ﴿قَالُوَا﴾، وإن شئت قلت: ﴿في﴾: حرف جر، ﴿م﴾: اسم استفهام في محل الجرب ﴿في﴾ مبني بسكون على الألف المحذوفة فرقًا بينها وبين ما الموصولة، كما قال ابن مالك:
وَمَا فِيْ الاسْتِفْهَامِ إِنْ جَرَّتْ حُذِفْ | أَلِفُهَا وَأوْلهَا الْهَا إنْ تَقِفْ |
(٢) الفتوحات.
﴿إلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا (٩٨)﴾.
﴿فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا (٩٩)﴾.
﴿فَأُولَئِكَ﴾: ﴿الفاء﴾: تعليلية، ﴿أولَئِكَ﴾: مبتدأ. ﴿عَسَى﴾: من أفعال الرَّجاء تنصب الاسم وترفع الخبر. ﴿اللَّهُ﴾: اسمها. ﴿أَنْ﴾. حرف نصب، ﴿يَعْفُوَ﴾: فعل مضارع منصوب، وفاعله ضمير يعود على ﴿اللَّهُ﴾، ﴿عَنْهُمْ﴾: متعلق به، والجملة الفعلية صلة ﴿أن﴾ المصدرية، ﴿أن﴾ مع صلتها في تأويل مصدر منصوب على كونه خبرًا لـ ﴿عَسَى﴾، ولكنه في تأويل اسم الفاعل؛ لأنه لا يخبر باسم المعنى عن الذات، تقديره: عسى الله عفوًا عنهم، أو ذا العفو عنهم، وجملة ﴿عَسَى﴾ في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الإسمية في محل الجر بلام التعليل، المدلول عليها بالفاء التعليلية، والتقدير: وإنما استثنيناهم لتحقيق الله وإثباته العفو عنهم. ﴿وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا﴾: فعل ناقص واسمه وخبره. ﴿غَفُورًا﴾: خبر ثان له، وجملة ﴿كان﴾ مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها.
﴿وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً﴾.
﴿وَمَن﴾: ﴿الواو﴾ استئنافية، ﴿من﴾: اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط أو الجواب أو هما. ﴿يُهَاجِرْ﴾: فعل شرط مجزوم بـ ﴿من﴾، وفاعله يعود على ﴿من﴾، ﴿فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق به، ﴿يَجِدْ﴾: فعل مضارع مجزوم بـ ﴿مَن﴾ على كونه جواب الشرط، وفاعله ضمير يعود على ﴿من﴾. ﴿فِي الْأَرْضِ﴾: متعلق به. ﴿مُرَاغَمًا﴾:
﴿وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾.
﴿وَمَن﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة، ﴿مَن﴾: اسم شرط في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط، ﴿يَخْرُجْ﴾: فعل شرط مجزوم بـ ﴿مَن﴾، وفاعله ضمير يعود على ﴿من﴾، ﴿مِنْ بَيْتِهِ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿يَخْرُجْ﴾، ﴿مُهَاجِرًا﴾ حال من فاعل ﴿يَخْرُجْ﴾، ﴿إِلَى اللَّهِ﴾ جار ومجرور متعلق بـ ﴿يَخْرُجْ﴾، ﴿وَرَسُولِهِ﴾: معطوف على لفظ الجلالة، ﴿ثُمَّ﴾: حرف عطف وترتيب، ﴿يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ﴾: فعل ومفعول وفاعل، مجزوم بـ ﴿مَن﴾ الشرطية، على كونه معطوفًا على فعل الشرط، وتقدم لك بيان وجه رفعه ونصبه في مبحث القراءة، فلا عود ولا إعادة، ﴿فَقَدْ﴾: ﴿الفاء﴾ رابطة لجواب ﴿من﴾ الشرطية وجوبًا لاقترانه بـ ﴿قد﴾، ﴿وَقَعَ أَجْرُهُ﴾: فعل وفاعل ومضاف إليه، في محل الجزم بـ ﴿من﴾ على كونه جواب الشرط لها، ﴿عَلَى اللَّهِ﴾: متعلق بـ ﴿وَقَعَ﴾، وجملة ﴿من﴾ الشرطية معطوفة على جملة ﴿من﴾ الأولى. ﴿وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا﴾: فعل ناقص واسمه وخبره: ﴿رَحِيمًا﴾: خبر ثان لها، وجملة ﴿كان﴾ مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها.
التصريف ومفردات اللغة
﴿إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ يقال: ضرب في الأرض إذا سافر فيها، والضرب في الأرض السير فيها بالسفر للتجارة أو الجهاد؛ لأن المسافر يضرب الأرض برجليه وعصاه أو بقوائم راحلته.
﴿فَتَبَيَّنُوا﴾ تبين من باب تفعل الخماسي الذي هو من مزيد الثلاثي، وفي قراءة ﴿فتثبتوا﴾ بالثاء المثلثة، وهو من باب تفعل أيضًا، وفي "السمين": وتفعل هنا على كلا القراءتين بمعنى استفعل الدال على الطلب؛ أي: اطلبوا التثبت أو البيان. اهـ.
السلاَم بالأَلِفِ التحية، وقيل الاستسلام والانقياد، والسَلْم بفتح السين وسكون اللام الانقياد فقط، وكذا بالكسر والسكون، والمعنى: انقاد واستسلم لكم فلم يقاتلكم، ﴿عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾؛ أي: متاعها الحاضر الذي يأخذ منه البر والفاجر، ﴿الدُّنْيَا﴾ صفة مؤنث على وزن فعلى، مذكره الأدنى؛ أي: الحياة القريبة الزوال، أو الدنيئة الخسيسة لكثرة ما يكدرها، ﴿فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ﴾ المغانم جمع مغنم - مفعل - من غنم الثلاثي، يصلح للزمان والمكان والمصدر، ويطلق على الغنيمة تسمية للمفعول بالمصدر؛ أي: المغنوم، وهو: ما يأخذه الرجل من مال العدو وفي الغزو قهرًا، نحو قولهم هذا ضرب الأمير؛ أي: مضروبه، ﴿غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ﴾ الضرر يجمع على أضرار، ضد النفع والشدة والضيق وسوء الحال، والنقصان يدخل في الشيء، يقال: ضره يضره ضرًّا وضررا، من باب شد، فهو من المضاعف المعدى، ﴿دَرَجَةً﴾ الدرجة تجمع على درجات الطبقة والرتبة والمنزلة، ﴿أَجْرًا﴾ مصدر أجره أجرًا؛ إذا أعطاه الأجر: وهو ما يعطى في مقابلة العمل الصالح.
﴿لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً﴾ الحيلة: هي ما يتوصل به إلى المقصود بطريق خفي، يجمع على حيل، كفيلة تجمع على فيل ﴿مُرَاغَمًا كَثِيرًا﴾؛ أي: متحولًا (١) ينتقل إليه، فهو اسم مكان، وهو بمعنى المهاجر؛ أي: المكان الذي يهاجر إليه وعبر عنه بالمراغم؛ للإشعار بأنَّ المهاجر يرغم أنف قومه؛ أي: يذلهم، والرغم: الذل والهوان، وأصله لصوق الأنف بالرغام بفتح الراء، وهو التراب اهـ أبو السعود".
وقال أبو حيان: المراغم (٢) مكان المراغمة: وهي أن يرغم كل واحد من المتنازعين، بحصوله في منعة منه أنف صاحبه، بأن يغلب على مراده، يقال:
(٢) البحر المحيط.
وفي "المصباح": الرغام (١) - بالفتح -: التراب، ورغم أنفه رغمًا من باب قتل كناية عن الذل، كأنَّه لصق بالرغام هوانًا، ويتعدى بالألف فيقال: أرغم الله أنفه، وفعلته على رغم أنفه بالفتح والضم؛ أي: على كره منه، وأرغمته غاضبته، وهذا ترغيم له؛ أي: إذلال له، وهذا من الأمثال التي جرت في كلامهم بأسماء الأعضاء، ولا يراد أعيانها، بل وضعوها لمعان غير معاني الأسماء الظاهرة، ولا حظ لظاهر الأسماء من طريق الحقيقة، ومنه قولهم: كلامه تحت قدمي وحاجته خلف ظهري، يريدون الإهمال وعدم الاحتفال انتهى.
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات أنواعًا من البلاغة والبديع (٢):
منها: الاستعارة في قوله: ﴿إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ استعار الضرب للسعي في قتال الأعداء، والسبيل لدينه، وفي قوله: ﴿لَا يَسْتَوِي﴾ عبر به وهو حقيقة في المكان عن التساوي في المنزلة والفضيلة، وفي قوله: ﴿درجة﴾ حقيقتها في المكان، فعبر به عن المعنى، اقتضى التفضيل، وفي قوله: ﴿يُدْرِكْهُ﴾ استعار الإدراك الذي هو صفة من فيه حياة لحلول الموت، وفي قوله: ﴿فَقَدْ وَقَعَ﴾ استعار الوقوع الذي هو من صفات الأجرام؛ لثبوت الأجر.
ومنها: التكرار في اسم الله تعالى، و ﴿فَتَبَيَّنُوا﴾ و ﴿وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ﴾.
ومنها: التجنيس المماثل في قوله: ﴿مَغْفِرَةً﴾ و ﴿غَفُورًا﴾.
ومنها: التجنيس المغاير في قوله: ﴿عَفُوًّا غَفُورًا﴾ و ﴿عَفُوًّا﴾ وفي قوله: ﴿يُهَاجِرْ﴾ و ﴿مُهَاجِرًا﴾.
(٢) البحر المحيط.
ومنها: الاستفهام المراد به التوبيخ في قوله: ﴿فِيمَ كُنْتُمْ﴾، وفي قوله: ﴿أَلَمْ تَكُنْ﴾.
ومنا: الإشارة في قوله: ﴿كَذَلِك﴾ وفي: ﴿فَأُولَئِكَ﴾.
ومنها: السؤال والجواب في قوله: ﴿فِيمَ كُنتُمْ﴾ وما بعدها.
ومنها: الحذف في عدة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
﴿وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا (١٠١) وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (١٠٢) فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا (١٠٣) وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (١٠٤) إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا (١٠٥) وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (١٠٦) وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا (١٠٧) يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا (١٠٨) هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (١٠٩) وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا (١١٠) وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (١١١) وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (١١٢) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا (١١٣)﴾.
المناسبة
قوله تعالى: ﴿وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنه لمَّا (١) كان الكلام في سابق الآيات في الجهاد والحث عليه؛ لإقامة الدين وحفظه، وإيجاب الهجرة لأجل ذلك،
قوله تعالى: ﴿وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَألَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَألَمُونَ...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: لمَّا كان (١) الكلام فيما سلف في شأن الحرب وما يقع فيها، وبيان كيفية الصلاة في أثنائها وما يلاحظ فيها إذا كان العدو متأهبًا للحرب، من اليقظة وأخذ الحذر، وحمل السلاح في أثنائها، وبين في أثناء السياق شدة عداوة الكفار لهم، وتربصهم غفلتهم، وإهمالهم ليوقعوا بهم.. نهى هنا عن الضعف في لقائهم، وأقام الحجة على كون المشركين أجدر بالخوف منهم؛ لأن ما في القتال من الألم والمشقة يستوي فيه المؤمن والكافر، ويمتاز المؤمن بأن له من الرجاء في ربه ما ليس عند الكافر، فهو يرجو منه النصر والمعونة، ويعتقد أنَّه قادر على إنجاز وعده، كما يرجو منه المثوبة على حسن بلائه في سبيله، وقوة الرجاء تخفف الآلام وتنسيه التعب والنصب.
قوله تعالى: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ...﴾ الآيات، مناسبتها لما قبلها: أنَّه سبحانه وتعالى لمَّا (٢) حذر المؤمنين من المنافقين أعداء الحق، وأمرهم أن يستعدوا لمجاهدتهم خوف أن يطمسوا معالم الدين والحق، ويهلكوا أهله.. أمرهم هنا أن يقوا بحفظ الحق، وأن لا يحابوا فيه أحدًا.
وقال أبو حيان: مناسبة هذه الآية لما قبلها (٣): أنَّه لما صرح بأحوال المنافقين، واتصل بذلك أمرُ المحاربة وما يتعلق بها من الأحكام الشرعية.. رجع إلى أحوال المنافقين؛ فإنَّهم خانوا الرسول - ﷺ - على ما ينبغي، فأطلعه الله تعالى على ذلك، وأمره أن لا يلتفت إليهم.
(٢) المراغي.
(٣) البحر المحيط.
قوله تعالى: ﴿وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ...﴾ الآية، سبب نزولها: ما أخرجه (١) ابن جرير عن علي قال: سأل قوم من بني النجار رسول الله - ﷺ - فقالوا: يا رسول الله إنَّا نضرب في الأرض فكيف نصلي؟ فأنزل الله تعالى: ﴿وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ﴾. ثم انقطع الوحي، فلمَّا كان بعد ذلك بحول.. غزا النبي - ﷺ -، فصلى الظهر، فقال المشركون: لقد أمكنكم محمد وأصحابه ظهورهم هلا شددتم عليهم؟ فقال قائل منهم: إن لهم أخرى مثلها في إثرها، فأنزل الله تعالى بين الصلاتين: ﴿إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا...﴾ إلى قوله تعالى: ﴿عَذَابًا مُهِينًا﴾ فنزلت صلاة الخوف.
وأخرج أحمد والحاكم وصححه البيهقي في "الدلائل" عن أبي عياش الزرقي قال: كنا مع رسول الله - ﷺ - بعسفان، فاستقبلنا المشركون عليهم خالد بن الوليد، وهم بيننا وبين القبلة، فصلى بنا النبي - ﷺ - الظهر فقالوا: قد كانوا على حال لو أصبنا غرتهم، ثم قالوا: يأتي عليهم الآن صلاة هي أحب إليهم من أبنائهم وأنفسهم، فنزل جبريل عليه السلام بهذه الآيات بين الظهر والعصر: ﴿وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ﴾ فحضرت، فأمرهم رسول الله - ﷺ -، فأخذوا السلاح، قال: فصففنا خلفه صفين، قال: ثم ركع فركعنا جميعًا، ثم رفع فرفعنا جميعًا.. الحديث، وروى الترمذي نحوه عن أبي هريرة ﴿وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ﴾، وابن جرير نحوه عن جابر بن عبد الله وابن عباس.
قوله تعالى: ﴿وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ...﴾ الآية، أخرج البخاري عن ابن عباس قال نزلت ﴿إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى﴾ في عبد الرحمن بن عوف، كان جريحًا.
قوله تعالى: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا (١٠٥)﴾ الآيات، سبب نزولها: ما أخرجه الترمذي (٢)
(٢) لباب النقول.
قال الحاكم: صحيح على شرط مسلم.
وأخرج ابن سعد في "الطبقات" بسنده عن محمود بن لبيد قال: عدا بشير بن الحارث على عُليَّة رفاعة بن زيد عم قتادة بن النعمان، فنقبها من ظهرها، وأخذ طعامًا له ودرعين بأداتهما، فأتى قتادة النبي - ﷺ - فأخبره بذلك، فدعا بشيرًا فسأله، فأنكر ورمى بذلك لبيد بن سهل رجلًا من أهل الدار ذا حسب ونسب، فنزل القرآن بتكذيب بشير وبراءة لبيد: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ...﴾ الآيات، فلما نزل القرآن في بشير وعثر عليه.. هرب إلى مكة مرتدًا، فنزل على سلافة بنت سعد، فجعل يقع في النبي - ﷺ -، وفي المسلمين فنزل فيه: ﴿وَمَن يشَاقِقِ اَلرَّسُولَ...﴾ الآية، وهجاه حسان بن ثابت حتى رجع، وكان ذلك في شهر ربيع سنة أربع من الهجرة.
التفسير وأوجه القراءة
١٠١ - ﴿وَإِذَا ضَرَبْتُمْ﴾ وسافرتم أيها المؤمنون للغزو أو للتجارة أو غيرهما ﴿فِي﴾ بعض نواحي ﴿الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ﴾ لا حرج ولا إثم في ﴿أنْ تَقْصُرُوا﴾ وتنقصوا، وتتركوا ركعتين ﴿مِنَ﴾ عدد ركعات ﴿الصَّلَاة﴾ الرباعية التي تصلونها في الحضر، بأن تصلوا الظهر والعصر والعشاء ركعتين ﴿إِنْ خِفْتُمْ﴾ وخشيتم ﴿أَنْ يَفْتِنَكُمُ﴾؛ أي: أن يقصدكم ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ بفتنة وأذية، من قتل أو جرح أو أخذ في حال إتمامكم الصلاة، وذكر الخوف ليس للشرط والقيد، وإنَّما هو لبيان الواقع، حيث كانت أسفارهم لا تخلو من خوف العدو؛ لكثرة المشركين وقتئذ، ويؤيده حديث يعلى بن أمية قال: قلت لعمر بن الخطاب: إن الله سبحانه وتعالى يقول: ﴿إِنْ خِفْتُمْ﴾ وقد أمن؟ فقال: عجبت منه، فسألت رسول الله - ﷺ - عن ذلك، فقال: "صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته" رواه مسلم وأصحاب السنن. قال ابن كثير: وأمَّا قوله (١): ﴿إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ فقد يكون هذا خرج
وقد تقرر بالسنة المطهرة: أن النبي - ﷺ - قصر مع الأمن، ففي الصحيحين أنه - ﷺ -: "سافر بين مكة والمدينة لا يخاف إلا الله عز وجل، فكان يصلي ركعتين" فالقصر (١) مع الخوف ثابت بالكتاب، والقصر مع الأمن ثابت بالسنة، ومفهوم الشرط لا يقوى على معارضة ما تواتر عنه - ﷺ - من القصر مع الأمن فحينئذ فالقصر في السفر رخصة، سواء وجد خوف أم لا، ويدل على أن قيد الخوف لا مفهوم له قراءة أبي: ﴿أن تقصروا من الصلاة أن يفتنكم الذين كفروا﴾ بسقوط: ﴿إنْ خفتم﴾ والمعنى على هذه القراءة: كراهية أن يفتنكم الذين كفروا. وقرأ (٢) الزهري ﴿تقصِّروا﴾ مشددًا، وقرأ ابن عباس ﴿أن تقصروا رباعيا﴾ وبه قرأ الضبي عن رجاله، وقرأ أبي وعبد الله: ﴿أن تقصروا من الصلاة أن يفتنكم﴾ بإسقاط إن خفتم، وهو مفعول من أجله من حيث المعنى؛ أي: مخافة أن يفتنكم، كما مر آنفًا.
ويؤخذ من قوله: ﴿فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ﴾ أنَّه رخصة لا واجب، وعليه الشافعي؛ لأن ﴿لَّا جُنَاحَ﴾ يستعمل في موضع التخفيف والرخصة، لا في موضع العزيمة، بخلاف أبي حنيفة فإن القصر واجب عنده.
﴿إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا﴾ أي: ظاهري العداوة، فتحرزوا عنهم؛ أي: إن العداوة الحاصلة بينكم وبين الكافرين قديمة، والآن قد أظهرتم خلافهم في الدين، وازدادت عداوتهم، وبسبب شدة العداوة قصدوا إتلافكم إن قدروا، فإنْ طالت صلاتكم.. فربما وجدوا الفرصة في قتلكم، فلأجل هذا رخصت لكم
(٢) البحر المحيط.
فصل في أحكام تتعلق بالآية وفيه مسائل
المسألة الأولى في حكم القصر: قصر الصلاة في حالة السفر جائز بإجماع الأمة، وإنَّما اختلفوا في جواز الإتمام في حال السفر، فذهب أكثر العلماء إلى أن القصر واجب في السفر، وهو قول عمر وعلي وابن عمر وجابر وابن عباس، وبه قال الحسن وعمر بن عبد العزيز وقتادة، وهو قول مالك وأبي حنيفة، ويدل عليه ما روي عن عائشة قالت: فرض الله الصلاة حين فرضها ركعتين، ثم أتمها في الحضر، وأقرت صلاة السفر على الفريضة الأولى. وفي رواية أخرى قالت: فرض الله الصلاة حين فرضها ركعتين ركعتين في الحضر والسفر، فأقرت صلاة السفر، وزيد في صلاة الحضر، أخرجاه في "الصحيحين".
وذهب قوم إلى جواز الإتمام في السفر، ولكن القصر أفضل، يروى ذلك عن عثمان وسعد بن أبي وقاص، وإليه ذهب الشافعي وأحمد، وهو رواية عن مالك أيضًا، ويدل على ذلك ما روى البغوي بسند الشافعي عن عائشة قالت: كل ذلك قد فعله رسول الله - ﷺ -، قصر وأتمّ. وعن عائشة أنَّها اعتمرت مع رسول الله - ﷺ - من المدينة إلى مكة، حتى إذا قدمت مكة.. قالت: يا رسول الله بأبي أنت وأمي قصرت وأتممت، وصمت وأفطرت، قال: "أحسنت يا عائشة، وما عاب علي. أخرجه النسائي، وظاهر القرآن يدل على ذلك؛ لأن الله تعالى قال: ﴿فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ﴾. ولفظة ﴿لَّا جُنَاحٌ﴾ إنَّما تستعمل في الرخصة لا فيما يكون حتمًا كما مر، وأجيب عن حديث عائشة (فرض الله الصلاة ركعتين) بأن معناه: فرضت ركعتين أولًا، وزيد في صلاة الحضر ركعتان على سبيل التحتم وأقرت صلاة السفر على جواز الاقتصار عليها، وثبت جواز الإتمام بدليل آخر، فوجب المصير إليه، ليمكن الجمع بين دلائل الشرع.
المسألة الثالثة: ذهب الشافعي ومالك وأحمد والجمهور إلى أنَّه يجوز القصر في كل سفر مباح، وشرط بعضهم كونه سفر حج أو عمرة أو جهاد، أو سفر طاعة كطلب العلم، ولا يجوز القصر في سفر المعصية، كسفر ناشزة وآبق وقاطع طريق، وقال أبو حنيفة والثوري: يجوز ذلك.
المسألة الرابعة: اختلف العلماء في مسافة القصر، فقال داود الظاهري وأهل الظاهر: يجوز القصر في قصير السفر وطويله، ويروى ذلك عن أنس أيضًا، وقال عمرو بن دينار: قال لي جابر بن زيد: أقصر بعرفة. وأما عامة أهل العلم فإنَّهم لا يجوِّزون القصر في السفر القصير، واختلفوا في حد الطويل الذي يجوز فيه القصر، فقال الأوزاعي: مسيرة يوم، وكان ابن عمر وابن عباس يقصران ويفطران في رمضان في مسيرة أربعة برد، وهي ستة عشر فرسخًا، وقدر هذه المسافة المرحوم أحمد الحسيني بك في كتابه "دليل المسافر" بنحو (٨٩ ك م)، وإليه ذهب مالك وأحمد وإسحاق، وقول الحسن والزهري قريب من ذلك، فإنهما قالا: مسيرة يومين، وإليه ذهب الشافعي فقال: مسيرة ليلتين قاصدتين ستة عشر فرسخًا، كل فرسخ ثلاثة أميال، فتكون ثمانية وأربعين ميلًا بالهاشمي، والميل ستة آلاف ذراع، والذراع أربعة وعشرين إصبعًا معترضة معتدلة، والأصبع ست شعيرات معترضات معتدلات، وقال الثوري وأبو حنيفة وأهل الكوفة: لا قصر في
١٠٢ - ثم شرع الله سبحانه وتعالى في بيان كيفية صلاة الخوف فقال: ﴿وَإِذَا كُنْتَ﴾ يا محمد ﴿فِيهِمْ﴾؛ أي: في جماعتك من المؤمنين في حالة خوفهم من الأعداء ﴿فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ﴾؛ أي: فأردت أن تقيم الصلاة إمامًا لهم، فاجعلهم طائفتين ﴿فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ﴾؛ أي: فلتقف فرقة واحدة من الفرقتين منهم وراءك ليصلوا ﴿مَعَكَ﴾ الركعة الأولى من الثنائية، ولتقف الطائفة الأخرى بإزاء العدو ليحرسوا المصلين معك، خوفًا من هجوم العدو على المصلين، وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق، ﴿فلتقم﴾ بكسر اللام، ﴿وَلْيَأخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ﴾؛ أي: وليحمل الذين يقومون معك في الصلاة أسلحتهم التي لا تشغلهم عن الصلاة كالسيف والخنجر، ولا يدعوها وقت الصلاة، فإن ذلك أقرب إلى الاحتياط، وأمنع للعدو من الإقدام عليهم ﴿فَإِذَا سَجَدُوا﴾؛ أي: فإذا سجد الذين يقومون معك في الصلاة ﴿فَلْيَكُونُوا﴾؛ أي: فليكن الذي يحرسونكم ﴿مِنْ وَرَائِكُمْ﴾؛ أي: من خلفكم؛ أي: من خلف المصلين معك، إذ أحوج ما يكون المصلي للحراسة حين السجود؛ لأنَّه لا يرى من يهم به، ويجب حينئذ أن يكون الحارسون مستعدين للقيام مقام المصلين، ليصلوا مع النبي - ﷺ - الركعة الثانية، كما صلت الفرقة الأولى الركعة الأولى معه، أو المعنى: ﴿فَإِذَا سَجَدُوا﴾؛ أي: فإذا سجد المصلون معك وأتموا صلاتهم بعد نية المفارقة.. ﴿فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ﴾؛ أي: فلينصرفوا إلى مصاف أصحابهم بإزاء العدو للحراسة من ورائكم، ثم يبقى الإِمام قائمًا في الركعة الثانية ﴿وَلْتَأتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى﴾؛ أي: ولتجيء الطائفة الأخرى الذين ﴿لَمْ يُصَلُّوا﴾ معك في الركعة الأولى لاشتغالهم بالحراسة. وقرأ أبو حيوة: ﴿وليأت﴾ بالياء التحتانية على تذكير الطائفة، واختلف عن أبي عمرو في إدغام التاء في الطاء. ﴿فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ﴾ في الركعة الثانية كما صلت الطائفة الأولى معك الركعة الأولى، ثم يجلس الإِمام منتظرًا لهم في التشهد إلى أن يصلوا ركعة ثانية، ثم يسلم الإِمام بهم ﴿وَلْيَأخُذُوا حِذْرَهُمْ﴾؛ أي: ولتأخذ هذه الطائفة الثانية حذرهم واحتياطهم للعدو، وانتباههم وتيقظهم له ﴿وَأَسْلِحَتَهُمْ﴾ معهم في الصلاة، كما فعل الذين من قبلهم، وإنَّما أمر بالحذر هنا؛
والمعنى: وليكونوا حذرين من عدوهم، متسلحين لقتالهم، وقد بين الله سبحانه وتعالى علة الأمر بأخذ الحذر والسلاح حتى في الصلاة بقوله تعالى: ﴿وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾؛ أي: تمنى أعداؤكم الذين كفروا بالله تعالى وبرسوله - ﷺ - وبما أنزل عليكم ﴿لَوْ تَغْفُلُونَ﴾ وتنشغلون وتعرضون ﴿عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ﴾ التي تقاتلونهم بها ﴿و﴾ عن ﴿أمتعتكم﴾ التي بها بلاغكم وحياتكم في سفركم، بأن تشغلكم صلاتكم عنها. وقرىء: ﴿وأمتعاتكم﴾ وهو شاذ، إذ هو جمع الجمع ﴿فَيَمِيلُونَ﴾ حينئذ ﴿عَلَيْكُمْ مَيْلَةً﴾؛ أي: يهجمون ويحملون عليكم حملة واحدة وأنتم مشغولون بالصلاة واضعون للسلاح تاركون حماية المتاع والزاد فيصيبون منكم غرة، فيقتلون من استطاعوا قتله، وينتهبون ما استطاعوا نهبه، فلا تغفلوا عنهم.
والمعنى: تمنوا أن ينالوا منكم غرة في صلاتكم، فيشدون عليكم شدة واحدة، ويأخذونكم بالدفعة، وهذا بيان ما لأجله أمروا بأخذ السلاح، ﴿وَلَا جُنَاحَ﴾؛ أي: ولا حرج ولا إثم ﴿عَلَيْكُمْ﴾ أيها المؤمنون ﴿إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ﴾؛ أي: إذا أصابكم أذى من مطر تمطرونه، فيشق عليكم حمل السلاح مع ثقله في ثيابكم، وربَّما أفسد الماء السلاح إذ يجعله يصدأ ﴿أَوْ﴾ إن ﴿كُنْتُمْ مَرْضَى﴾ بالجراح أو بغير الجراح من العلل في ﴿أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ﴾ على الأرض، وتتركوا حملها رخصة لكم في وضعها، إذا ثقل عليكم حملها بسبب مطر أو مرض؛ لأن السلاح يثقل على المريض، ويفسد في المطر، والمعنى: لا وزر عليكم في وضع الأسلحة، وترك حملها إنْ تعذر عليكم حملها، إما لثقلها بسبب مطر أو مرض، أو لإيذاء من في الجنب ﴿و﴾ لكن ﴿خذوا حذركم﴾؛ أي: احترازكم من عدوكم وراقبوه ولا تغفلوا عنه؛ أي: ولكن يجب عليكم في جميع الأحوال أن تأخذوا حذركم، ولا تغفلوا عن أنفسكم، ولا عن أسلحتكم
وهذه الآية تدل على وجوب الحذر عن جميع المضار المظنونة، وبهذا الطريق كان الإقدام على العلاج بالدواء، والاحتراز عن الوباء، وعن الجلوس تحت الجدار المائل واجبًا والله أعلم، ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿أَعَدَّ﴾ وهيأ ﴿لِلْكَافِرِينَ﴾ باللهِ تعالى وبرسوله - ﷺ - ﴿عَذَابًا مُهِينًا﴾؛ أي: ذا إهانة وإذلال لهم في الدنيا، بأن يخذلهم وينصركم عليهم، فاهتموا بأموركم ولا تهملوا في مباشرة الأسباب، كي يحل بهم عذابه تعالى بأيديكم بالقتل والأسر والنهب، فهذا العذاب المهين هو عذاب غلب المسلمين، وانتصارهم عليهم، إذا قاموا بما أمرهم الله تعالى به، ويؤيده قوله تعالى: ﴿فَإِنَّهُمْ يَألَمُونَ كَمَا تَألَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ﴾ وقوله: ﴿قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ﴾ ﴿قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ﴾.
فصل في كيفية صلاة الخوف
واعلم: أنه دلت (١) هذه الكيفية التي ذكرت في هذه الآية على أن طائفة صلت مع الرسول - ﷺ - بعض صلاة، ولا دلالة فيها على مقدار ما صلت معه، ولا كيفية إتمامهم، وإنَّما جاء ذلك في السنة، ونحن نذكر تلك الكيفيات على سبيل الاختصار؛ لأنَّها مبينة ما أجمل القرآن:
الكيفية الأولى: صلت طائفة معه وطائفة وجاه العدو، وثبتت قائمة حتى تتم صلاتهم، ويذهبوا وجاه العدو، وجاءت هذه التي كانت وجاه العدو أولًا، فصلى بهم الركعة التي بقيت، ثم ثبت جالسًا حتى أتموا لأنفسهم، ثم سلم بهم، وهذه كانت بذات الرقاع.
الكيفية الثانية: كالأولى إلا أنَّه حين صلى بالطائفة الأخيرة ركعة سلم، ثم قضت بعد سلامه، وهذه مروية في ذات الرقاع أيضًا.
الكيفية الرابعة: مثل هذه إلا أنَّه ينكص الصف المتقدم القهقرى حين يرفعون رؤوسهم من السجود، ويتقدم الآخر فيسجدون في مصاف الأولين.
الكيفية الخامسة: صلى بإحدى الطائفتين ركعة والأخرى مواجهة العدو، ثم انصرفوا وقاموا في مقام أصحابهم مقبلين على العدو، وجاء أولئك فصلى بهم ركعة، ثم سلم، ثم قضى بهؤلاء ركعة، وهؤلاء ركعة في حين واحد.
الكيفية السادسة: يصلي بطائفة ركعة، ثم ينصرفون تجاه العدو، وتأتي الأخرى، فيصلي بهم ركعة، ثم يسلم، وتقوم التي معه تقضي، فإذا فرغوا.. ساروا تجاه العدو، وقضت الأخرى.
الكيفية السابعة: صلى بكل طائفة ركعة، ولم يقض أحد من الطائفتين شيئًا زائدًا على ركعة واحدة.
الكيفية الثامنة: صلى بكل طائفة ركعتين ركعتين، فكانت له أربع ولكل رجل ركعتان.
الكيفية التاسعة: يصلي بإحدى الطائفتين ركعة، إن كانت الصلاة ركعتين، والأخرى بإزاء العدو، ثم تقف هذه بازاء العدو وتأتي الأولى، فتؤدي الركعة بغير قراءة، وتتم صلاتها، ثم تحرس، وتأتي الأخرى، فتؤدي الركعة بقراءة وتتم صلاتها، وكذا في المغرب، إلا أنَّه يصلي بالأولى ركعتين، وبالثانية ركعة.
الكيفية العاشرة: قامت معه طائفة، وطائفة أخرى مقابل العدو، وظهورهم إلى القبلة فكبرت الطائفتان معه، ثم ركع وركع معه اللذين معه، وسجدوا كذلك،
الكيفية الحادية عشرة: صلى بطائفة ركعتين ثم سلم، ثم جاءت الطائفة الأخرى، فصلى بهم ركعتين وسلم، وهذه كانت ببطن نخل. واختلاف هذه الكيفيات يرد على مجاهد قوله: إنه ما صلى الرسول - ﷺ - إلا مرتين، مرة بذات الرقاع من أرض بني سليم، ومرة بعسفان والمشركون بضجنان بينهم وبين القبلة، وذكر ابن عباس: أنَّه كان في غزوة ذي قرد صلاة الخوف، وقال أبو بكر بن العربي: روي عنه - ﷺ - أنَّه صلى صلاة الخوف أربعًا وعشرين مرة؛ أي: كيفية. وقال ابن حنبل: لا نعلم أنه روي في صلاة الخوف إلا حديث صحيح، فعلى أي حديث صليت أجزأ، وكذا قال الطبري. ذكره أبو حيان في "البحر".
١٠٣ - ﴿فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ﴾؛ أي: فإذا أديتم صلاة الخوف على هذه الكيفية وفرغتم منها ﴿فَاذْكُرُوا اللَّهَ﴾؛ أي: فداوموا على ذكر الله تعالى في أنفسكم، بتذكر وعده بنصر من ينصرونه في الدنيا، وقيل الثواب في الآخرة، وبألسنتكم بالحمد والتكبير والدعاء حالة كونكم ﴿قِيَامًا وَقُعُودًا﴾؛ أي: قائمين وقاعدين ﴿و﴾ مضطجعين ﴿على جنوبكم﴾؛ أي: داوموا على ذكره تعالى في كل حال تكونون عليها، من قيام في المسايفة والمقارعة، وقعود للرمي أو المصارعة، واضطجاع من الجراح أو المخادعة، فذكر الله تعالى مما يقوي القلوب، ويعلي الهمم، ويجعل متاعب الدنيا حقيرة، ومشاقها سهلة، والثبات والصبر يعقبهما الفلاح والنصر، كما قال تعالى في سورة الأنفال: ﴿إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾.
والخلاصة: أننا إذا أمرنا بالذكر على كل حال نكون عليها في الحرب، كما يدل على ذلك السياق.. فأجدر بأن نؤمر به في حال السلم؛ لأن المؤمنين في جهاد مستمر وحروب دائمة، فهم تارة يجاهدون الأعداء، وأخرى يجاهدون
وقد روى ابن جرير عن ابن عباس أنه قال: لا يفرض الله على عباده فريضة إلا جعل لها جزاء معلومًا، ثم عذر أهلها في حال العذر، غير الذكر فإنَّ الله لم يجعل له حدًّا ينتهي إليه، ولم يعذر أحدًا في تركه إلا مغلوبًا على عقله فقال: ﴿فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ﴾؛ أي: بالليل والنهار، في البر والبحر، وفي السفر والحضر، والغنى والفقر، والسقم والصحة، والسر والعلانية، وعلى كل حال. اهـ.
﴿فَإِذَا اطْمَأنَنْتُمْ﴾؛ أي: فإذا سكنت قلوبكم من الخوف، وأمنتم بعد أن تضع الحرب أوزارها ﴿فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾؛ أي: فأدوا الصلاة المفروضة بتعديل أركانها، ومراعاة شرائطها، ولا تقصروا من هيآتها المعهودة، كما أذن لكم في حال الحرب.
وقيل معنى الآية (١): فإذا أردتم أداء الصلاة.. فصلوا قيامًا حال اشتغالكم بالمسايفة والمقارعة، وقعودًا جاثين على الركب حال اشتغالكم بالمراماة، وعلى جنوبكم حال ما تكثر الجراحات فيكم فتسقطون على الأرض، فإذا زال الخوف عنكم بانقضاء الحرب.. فاقضوا ما صليتم في تلك الأحوال، وهذا ظاهر على مذهب الشافعي من إيجاب الصلاة على المحارب في حال المسايفة إذا حضر وقتها، وإذا اطمأنوا فعليهم القضاء.
وقال ابن عباس: أي فإذا فرغتم من صلاة الخوف.. فصلوا لله قيامًا للصحيح، وقعودًا للمريض، وعلى الجُنوب للجريح والمريض، فإذا ذهب منكم الخوف، ورجعتم إلى منازلكم.. فأتموا الصلاة أربعًا.
ثم علل وجوب المحافظة على الصلاة حتى في وقت الخوف، ولو مع
والحكمة في توقيتها في تلك الأوقات المعلومة: أن الأشياء إن لم يكن لها وقت معين لا يحافظ عليها الجم الغفير من الناس، إلى ما في هذا النوع من الذكر المهذب للنفس من التربية العملية للأمة الإِسلامية بأن تلتزم أداء أعمالها في أوقات معينة، مع عدم الهوادة فيها، ومن قصر فيها في تلك الأوقات الخمسة في اليوم والليلة.. فهو جدير بأن ينسى ربه ويغرق في بحار الغفلة، ومن قوي إيمانه وزكت نفسه لا يكتفي بهذا القدر القليل من ذكر الله تعالى ومناجاته، بل يزيد عليه من النوافل ما شاء الله أن يزيد.
والخلاصة: أن الصلوات الخمس إنما كانت موقوتة؛ لتكون مذكرة للمؤمن بربه في الأوقات المختلفة، لئلا تحمله الغفلة على الشر، أو التقصير في الخير، ولمن يريد الكمال في النوافل والأذكار أن يختار الأوقات التي يرى أنها أوفق بحاله.
١٠٤ - ﴿وَلَا تَهِنُوا﴾؛ أي: ولا تضعفوا أيها المؤمنون، ﴿فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ﴾؛ أي: في طلب القوم الكفار الذين ناصبوكم وظاهروكم العداوة بل عليكم أن تستعدوا لقتالهم بعد الفراغ من الصلاة، مع أخذ الحذر وحمل السلاح عند أدائها، وهذا في معنى الأمر بالهجوم عليهم؛ أي: لا تعجزوا ولا تتوانوا في طلب الكفار بالقتال، نزلت (١) هذه الآية في شأن بدر الصغرى، وذلك لما بعث رسول الله - ﷺ - طائفة في طلب أبي سفيان وأصحابه، فشكوا الجراحات حين رجعوا من أحد.
وسر هذا: أن الذي يوجه همته إلى المهاجمة تشتد عزيمته، وتعلو همته، أما الذي يلتزم الدفاع فحسب.. فإنه يكون خاثر العزيمة ضعيف القوة، ﴿إِنْ تَكُونُوا﴾ أيها المؤمنون ﴿تَألَمُونَ﴾؛ أي: إن كنتم تتوجعون بالجراح ﴿فَإِنَّهُمْ﴾؛
﴿وَكَانَ اللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿عَلِيمًا﴾ بنياتكم ﴿حَكِيمًا﴾ فيما يأمركم به وينهاكم عنه، فلا يكلفكم شيئًا إلا بما هو عالم بأنه سبب لصلاحكم في دينكم ودنياكم، وقد ثبت في واسع علمه ومضت به سننه أن العاقة للمتقين، والنصرة
(٢) البحر المحيط.
١٠٥ - ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ﴾ يا محمد ﴿الْكِتَابَ﴾؛ أي: هذا القرآن حالة كونه متلبسًا ﴿بِالْحَقِّ﴾؛ أي: بتحقيق الحق وبيانه، ﴿لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ﴾؛ أي: لأجل أن تحكم بين الناس ﴿بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى؛ أي: بما أعلمك الله تعالى به في هذا الكتاب من الأحكام وأوحى به إليك، ﴿وَلَا تَكُن﴾ يا محمد ﴿لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا﴾؛ أي: لا تكن مدافعًا ومخاصمًا عن الخائنين، تجادل وتدافع عنهم، والمراد بهم طعمة بن أبيرق وجماعته، بنو أبيرق بشر وبشير ومبشر، كما أخرجه الترمذي من حديث قتادة بن النعمان؛ أي: لا تكن مخاصمًا لمن كان بريئًا من الذنب والسرقة، وهو اليهودي زيد بن سمين، لأجل الدفع عن الخائنين، وهم طعمة وقومه، اعتمادًا على شهادتهم بالزور بأن اليهودي هو السارق لا هم.
وخلاصة ذلك: أن عليك أن لا تتهاون في تحري الحق اغترارًا بلحن الخائنين، وقوة جدلهم في الخصومة، لئلا تكون خصيمًا لهم، وتقع في ورطة الدفاع عنهم، ويؤيد هذا حديث أم سلمة: "إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلى، ولعل بعضكم يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي بنحو ما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه شيئًا.. فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار".
١٠٦ - ﴿وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى، مما هممت به من القضاء على اليهودي بقطع يده، تعويلًا على شهادتهم الكاذبة، أو المعنى: واستغفر الله مما يعرض لك من شؤون البشر وأحوالهم، بالميل إلى من تراه ألحن بحجته، أو الركون إلى مسلم لأجل إسلامه تحسينًا للظن به، فهذا ونحوه صورته صورة من أتى ذنبًا يوجب الاستغفار، وإن لم يكن متعمدًا للزيغ عن العدل والتحيز للخصم، وفي هذا من زيادة الحرص على الحق والتشديد فيه ما لا يخفى، حتى كان مجرد الالتفات إلى قول المخادع يجب الاحتراس منه، كما أن فيه إيماء إلى أن
١٠٧ - ﴿وَلَا تُجَادِلْ﴾؛ أي: لا تخاصم يا محمد ولا تدافع ﴿عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ﴾؛ أي: يخونون أنفسهم بالمعاصي. وسمى خيانة غيرهم خيانة لأنفسهم؛ لأن ضررها عائد إليهم، وهم طعمة ومن عاونه من قومه ممن علم كونه سارقًا. ووجه هذا الخطاب إلى النبي - ﷺ -، وهو أعدل الناس وأكملهم، مبالغة في التحذير من هذه الخلة المعهودة في كثير من الحكام.
وخلاصة المعنى: لا تدافع عن هؤلاء الخونة، ولا تساعدهم عند التخاصم ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى يبغض و ﴿لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا﴾؛ أي: كثير الخيانة ﴿أَثِيمًا﴾؛ أي: كثير الإثم فإن طعمة خان في الدرع، وأثم في نسبة اليهودي إلى تلك السرقة، وطلب من النبي - ﷺ - أن يدفع السرقة عنه، ويلحقها باليهودي، وهذا يبطل رسالة الرسول، ومن حاول إبطالها وإظهار كذبه.. فهو كافر، والمراد بعدم الحب البغض والسخط؛ أي: إن الله تعالى يبغض من اعتاد الخيانة، وألفت نفسه اجتراح السيئات، وضربت عليها، ولم يعد للعقاب الإلهي الرهبة والخشية، التي ينبغي أن يفكر مثله فيها، وإنما يحب الله سبحانه وتعالى أهل الأمانة والاستقامة،
١٠٨ - ثم بين أحوال الخائنين ونعى عليهم أفعالهم فقال: ﴿يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ﴾؛ أي: يستترون من الناس حياء وخوفًا من ضررهم، ﴿وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ﴾؛ أي: لا يستترون من الله، أو لا يستحيون منه تعالى، ﴿وَهُوَ مَعَهُمْ﴾؛ أي: والحال أن الله سبحانه وتعالى مع أولئك الخائنين بعلمه ورؤيته وقدرته، ﴿إِذْ يُبَيِّتُونَ﴾؛ أي: إذ يدبرون في الليل بينهم، ﴿مَا لَا يَرْضَى﴾ الله سبحانه، ولا يحبه ﴿مِنَ الْقَوْلِ﴾؛ أي: من الرأي الذي أداروه بينهم، وذلك أن قوم طعمة قالوا فيما بينهم: نرفع الأمر إلى النبي - ﷺ -، فإنه يسمع قول طعمة، ويقبل يمينه على أنه لم يسرق؛ لأنه مسلم، ولا يقبل قول اليهودي؛ لأنه كافر، فلم يرض الله ذلك منهم، فأطلع نبيه - ﷺ - على سرهم، وما هموا به وسمى تدبيرهم تبييتًا؛ لأن الغالب أن تكون إدارة الرأي بالليل، وسماه قولًا؛ لأنه لا يحصل إلا بعد المقاولة بينهم.
١٠٩ - ثم حذر المؤمنين من مساعدة هؤلاء الخوانين والحدب عليهم فقال: ﴿هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ﴾ ها حرف تنبيه، والخطاب فيه لقوم من المؤمنين، كانوا يذبون عن طعمة وقومه؛ أي: انتبهوا يا هؤلاء القوم الذي يذبون ويدافعون عن طعمة وقومه، أنتم ﴿جَادَلْتُمْ﴾ وخاصمتم ﴿عَنْهُمْ﴾؛ أي: عن القوم الخائنين طعمة وقومه، وحاولتم تبرئتهم، وقرأ عبد الله بن مسعود وأبي بن كعب: ﴿عنه﴾ بالإفراد؛ أي: عن طعمة ﴿فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ عند تعذيبهم بذنوبهم يوم الخصم، والحاكم هو الله تعالى المحيط بأعمالهم، وأحوالهم وأحوال الخلق كافة، ﴿أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا﴾؛ أي: مجادلًا ومخاصمًا، والوكيل في الأصل القائم بتدبير الأمور، والمعنى: من ذا الذي يقوم بأمرهم إذا أخذهم الله بعذابه، والاستفهام فيه للإنكار والتوبيخ؛ أي: فلا يمكن أن يجادل هناك أحد عنهم، ولا أن يكون وكيلًا بالخصومة لهم، فيدافع عنهم العذاب، فعلى المؤمنين أن يراقبوا الله تعالى في مثل ذلك، ولا يظنوا أن من أمكنه أن ينال الفوز والحكم له وأخذه من قضاة الدنيا بغير حق، يمكنه أن يظفر به في الآخرة ﴿يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (١٩)﴾.
وفي الآية (١): إيماء إلى أن حكم الحاكم في الدنيا لا يجيز للمحكوم له أن
١١٠ - ثم رغِّب في التوبة من الذنوب وحثَّ عليها فقال: ﴿وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا﴾؛ أي: قبيحًا يسوء ويحزن به غيره، كما فعل طعمة من سرقة الدرع لقتادة، ومن رمي اليهودي بالسرقة، ﴿أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ﴾ بفعل معصية تختص به، كالحلف الكاذب ﴿ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ﴾ من ذلك السوء والظلم بالتوبة الصادقة، ﴿يَجِدِ اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿غَفُورًا﴾؛ أي: غفارًا لذنوبه ﴿رَحِيمًا﴾؛ أي: متفضلًا عليه بالعفو والمغفرة حيث قبل توبته، وهذه (١) الآية دلت على أن التوبة مقبولة من جميع الذنوب، سواء كانت كفرًا أو قتلًا عمدًا أو غصبًا للأموال؛ لأن السوء وظلم النفس يعم الكل، والمراد بوجدان الله غفورًا رحيمًا هو: أن التائب المستغفر يجد أثر المغفرة في نفسه، بكراهة الذنب وذهاب داعيته، ويجد أثر الرحمة بالرغبة في الأعمال الصالحة، التي تطهر النفس، وتزيل الدرن عنها.
وفي ذلك ترغيب وحث لطعمة وقومه في التوبة والاستغفار، كما أن فيها بيانًا للمخرج من الذنب بعد وقوعه، وفيها تحذير من أعداء الحق والعدل الذين يحاولون هدمهما، وهما أسس الشرائع،
١١١ - ثم حذر من فعل الذنوب والآثام، وذكر عظيم ضررها فقال: ﴿وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا﴾؛ أي: يعمل ذنبًا ﴿فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ﴾ فلا يتعدى ضرره إلى غيره، فليتحرز عن إقبال نفسه للعقاب عاجلًا وآجلًا، والكسب عبارة عما يفيد جر منفعة أو دفع مضرة، ولذلك لم يجز وصف الله تعالى بذلك، وهذا إجمال بعد تفصيل، والمعنى (٢): ومن يعمل الإثم وير أنه قد كسبه وانتفع به.. فإنما كسبه وبال على نفسه، وضرر لا نفع له فيه، كما يخطر على بال من يجهل عواقب الآثام في الدنيا والآخرة، من فضيحة للآثم ومهانة له بين الناس وعند الحاكم العادل، كما وقع لأصحاب هذه القصة الذين نزلت في شأنهم هذه الآيات، ومن خزي في الآخرة، يوم لا ينفع مال ولا بنون
(٢) المراغي.
١١٢ - ﴿وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً﴾؛ أي: ومن يكسب ذنبًا خطأ بلا تعمد أو صغيرة أو قاصرة على الفاعل، أو ما لا ينبغي فعله بالعمد أو بالخطأ، أو ذنبًا بينه وبين الله تعالى، يعني يمينه الكاذبة. وقرأ معاذ بن جبل: ﴿ومن يكسب﴾ بكسر الكاف وتشديد السين، وأصله يكتسب. وقرأ الزهري ﴿خطية﴾ بالتشديد، ﴿أَوْ إِثْمًا﴾؛ أي: كبيرة، أو ما يتعدى إلى الغير، كالظلم والقتل، أو ما يحصل بالعمد، أو ذنبًا بينه وبين الناس، يعني سرقته ورميه اليهودي، ﴿ثُمَّ يَرْمِ بِهِ﴾؛ أي: يقذف بذلك الذنب شخصًا ﴿بَرِيئًا﴾ منه كما فعل طعمة حين رمى اليهودي بالسرقة ولم يسرق. فإن قلت (١): الخطيئة والإثم شيئان، فكيف وحد الضمير في قوله: ﴿ثُمَّ يَرْمِ بِهِ﴾؟.
قلت: معناه ثم يرم بأحد هذين المذكورين بريئًا، وقيل: معناه ثم يرم بهما، فاكتفى بأحدهما عن الآخر، وقيل: إنه يعود الضمير إلى الإثم وحده؛ لأنه أقرب مذكور، وقيل: إن الضمير يعود إلى الكسب، ومعناه: ثم يرم بما كسب بريئًا؛ أي: ومن يكسب خطيئة أو إثمًا، ثم يبرىء نفسه منه، وينسبه إلى شخص بريء منه، ويزعم أنه هو الذي كسبه.. ﴿فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا﴾؛ أي: فقد كلف نفسه يحمل وزر البهتان والكذب العظيم، وحمل وزر الذنب المبين الظاهر بافترائه على البريء، واتهامه إياه؛ أي: فقد (٢) أوجب على نفسه عقوبة بهتان عظيم، وعقوبة ذنب بين، فالبهتان أن ترمي أخاك بأمر منكر، وهو بريء منه،
(٢) المراح.
وقد فشا هذا بين المسلمين في هذا الزمان، ولم يكن لهذا من سبب إلا ترك هداية الدين، وقلة الوازع النفسي والغفلة عن الأوامر والنواهي التي جاءت به الشريعة.
١١٣ - وبعد أن ذكر المختانين أنفسهم، ومحاولتهم زحزحة الرسول صلوات الله وسلامه عليه عن الحق.. بيَّن فضله ونعمته عليه، فقال تعالى: ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ﴾ سبحانه وتعالى وإحسانه ﴿عَلَيْكَ﴾ يا محمد بالنبوة، والتأييد بالعصمة ﴿وَرَحْمَتُهُ﴾ لك ببيان حقيقة الواقع وما هم عليه بالوحي، ﴿لَهَمَّتْ﴾ وقصدت ﴿طَائِفَةٌ﴾؛ أي: جماعة ﴿مِنْهُمْ﴾؛ أي: من الخائنين قوم طعمة ﴿أنْ يُضِلُّوكَ﴾؛ أي: أن يخطئوك عن الحكم العادل المنطبق على حقيقة القضية في نفسها، ويوقعوك في الحكم الباطل، وذلك لأن قوم طعمة قد عرفوا أنه سارق، ثم سألوا النبي - ﷺ - أن يجادل عنه ويبرئه عن السرقة، وينسب تلك السرقة إلى اليهودي، ولكنه قبل أن يطمعوا في ذلك ويهموا به، جاءك الوحي ببيان الحق، وإقامة أركان العدل والمساواة فيه بين جميع الخلق ﴿وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ﴾؛ أي: ما يضلون أحدًا إلا أنفسهم بسبب تعاونهم على الإثم والعدوان، وشهادتهم بالزور والبهتان؛ لأن وبال ذلك عائد عليهم ﴿وَمَا يَضُرُّونَكَ﴾ يا محمد ﴿مِنْ شَيْءٍ﴾؛ لأنه سبحانه وتعالى هو عاصمك من الناس، فإنهم وإن سعوا في إلقائك في الباطل.. فأنت ما وقعت فيه؛ لأنك عملت بالظاهر، ولا ضرر عليك في الحكم به قبل نزول الوحي، ﴿وَأَنْزَلَ اللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿عَلَيْكَ﴾ يا محمد ﴿الْكِتَابَ﴾؛ أي: القرآن الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ﴿و﴾ أوحى إليك
الإعراب
﴿وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ﴾.
﴿وَإِذَا﴾: ﴿الواو﴾: استئنافية. ﴿إذا﴾ ظرف لما يستقبل من الزمان. ﴿ضَرَبْتُمْ﴾: فعل وفاعل، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿إذا﴾، على كونه فعل شرط لها، ﴿فِي الْأَرْضِ﴾: جار ومجرور متعلق به، ﴿فَلَيْسَ﴾ ﴿الفاء﴾: رابطة لجواب ﴿إذا﴾ وجوبًا، لكون الجواب جملة جامدية، ﴿ليس﴾: فعل ماض ناقص، ﴿عَلَيْكُمْ﴾: جار ومجرور خبر مقدم لـ ﴿ليس﴾. ﴿جُنَاحٌ﴾: اسم ﴿ليس﴾ مؤخر، وجملة ﴿ليس﴾ من اسمها وخبرها جواب ﴿إذا﴾ لا محل لها من الإعراب وجملة ﴿إذا﴾ مستأنفة، ﴿أَنْ تَقْصُرُوا﴾: ناصب وفعل وفاعل. ﴿مِنَ﴾ زائدة على مذهب الأخفش. ﴿الصَّلَاةِ﴾: مفعول به، و ﴿من﴾: تبعيضية على مذهب الجمهور من عدم زيادتها في الإثبات، متعلقة بـ ﴿تَقْصُرُوا﴾، وصفة لمحذوف عند سيبويه؛ أي شيئًا من الصلاة، وجملة ﴿أَن﴾ المصدرية مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بحرف جر محذوف، تقديره: فليس عليكم جناح في قصر الصلاة.
﴿إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا﴾.
﴿وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ﴾.
﴿وَإِذَا﴾ ﴿الواو﴾ استئنافية، ﴿وَإِذَا﴾: ظرف لما يستقبل من الزمان، ﴿كُنْتَ﴾: فعل ناقص واسمه، ﴿فِيهِمْ﴾: خبره، وجملة كان في محل الخفض بإضافة ﴿إِذَا﴾ إليها، على كونها فعل شرط لها، ﴿فَأَقَمْتَ﴾: عاطف وفعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة كان، ﴿لَهُمُ﴾: متعلق بـ ﴿أقمت﴾، ﴿الصَّلَاةَ﴾: مفعول به، ﴿فَلْتَقُمْ﴾: ﴿الفاء﴾: رابطة لجواب ﴿إذا﴾ وجوبًا، ﴿لتقم طائفة﴾: جازم وفعل وفاعل، ﴿مِنْهُمْ﴾: جار ومجرور صفة ﴿طَائِفَةٌ﴾، ﴿مَعَكَ﴾: ظرف ومضاف إليه حال من ﴿طَائِفَةٌ﴾ لوصفه بالجار والمجرور، والجملة الفعلية جواب ﴿إذا﴾ لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿إذا﴾ مستأنفة، ﴿وَلْيَأخُذُوا﴾: جازم وفعل وفاعل، ﴿أسْلِحَتَهُمْ﴾: مفعول به ومضاف إليه، والجملة معطوفة على جملة ﴿فَلْتَقُمْ﴾ على كونها جواب ﴿إِذَا﴾، ﴿فَإِذَا﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة، ﴿إذا﴾: ظرف لما يستقبل من الزمان، ﴿سَجَدُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة في محل الخفض بإضافة ﴿إذا﴾، ﴿فَلْيَكُونُوا﴾: الفاء: رابطة لجواب ﴿إِذَا﴾، ﴿يَكُونُوا﴾: فعل ناقص واسمه، ﴿مِنْ وَرَائِكُمْ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه، خبر كان، وجملة كان جواب ﴿إذا﴾ لا محل لها من الإعراب، وجملة
﴿وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (١٠٢)﴾.
﴿وَدَّ الَّذِينَ﴾: فعل وفاعل والجملة مستأنفة، ﴿كَفَرُوا﴾: فعل وفاعل صلة الموصول، ﴿لَوْ﴾: حرف مصدر ﴿تَغْفُلُونَ﴾: فعل وفاعل، ﴿عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ﴾ جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿تَغْفُلُونَ﴾، ﴿وَأَمْتِعَتِكُمْ﴾: معطوف على ﴿أَسْلِحَتِكُمْ﴾، والجملة الفعلية صلة ﴿لَوْ﴾ المصدرية، ﴿لَوْ﴾ مع صلتها في تأويل مصدر منصوب على المفعولية، تقديره: ود الذين كفروا غفلتكم عن أسلحتكم وأمتعتكم، ﴿فَيَمِيلُونَ﴾: عاطف وفعل وفاعل، ﴿عَلَيْكُمْ﴾: متعلق به، ﴿مَيْلَةً﴾: مفعول مطلق، ﴿وَاحِدَةً﴾: صفة لـ ﴿مَيْلَةً﴾ والجملة الفعلية معطوفة على جملة ﴿تَغْفُلُونَ﴾ على كونها صلة لـ ﴿لَوْ﴾: المصدرية، والتقدير: ود الذين كفروا غفلتكم عن أسلحتكم فميلهم عليكم، ﴿وَلَا﴾: ﴿الواو﴾: استئنافية، ﴿لا﴾: نافية، ﴿جُنَاحَ﴾: في محل النصب اسمها، ﴿عَلَيْكُمْ﴾؛ خبرها، والجملة مستأنفة. ﴿إِن﴾: حرف شرط، ﴿كاَنَ﴾: فعل ناقص، ﴿بِكُمْ﴾: جار ومجرور، خبر ﴿كَانَ﴾ مقدم على اسمها، ﴿أَذًى﴾: اسم ﴿كاَنَ﴾، ﴿مِنْ مَطَرٍ﴾: صفة لـ ﴿أَذًى﴾، والتقدير: إن كان أذى من مطر واقعًا بكم، وجملة ﴿كان﴾ في محل الجزم فعل شرط لـ ﴿إن﴾، وجوابها معلوم مما قبلها، تقديره: إن كان بكم أذى من مطر فلا جناح عليكم، وجملة ﴿إِن﴾ الشرطية مستأنفة، ﴿أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى﴾،
﴿فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا (١٠٣)﴾.
﴿فَإذَا﴾ ﴿الفاء﴾: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن شرط مقدر، تقديره: إذا عرفتم كيفية صلاة الخوف، وأردتم بيان ما هو أصلح لكم بعد الفراغ من الصلاة.. فأقول لكم، ﴿إذا قضيتم﴾: ﴿إذا﴾ ظرف لما يستقبل من الزمان، ﴿قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل الخفض بإضافة ﴿إذا﴾ إليها، ﴿فَاذْكُرُوا﴾ ﴿الفاء﴾: رابطة لجواب ﴿إذا﴾، ﴿اذكروا الله﴾ فعل وفاعل ومفعول، والجملة جواب ﴿إذا﴾ لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿إذا﴾ في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة، ﴿قِيَامًا﴾ حال من فاعل ﴿اذكروا﴾، ﴿وَقُعُودًا﴾: معطوف عليه، ﴿وَعَلَى جُنُوبِكُمْ﴾: متعلق بمحذوف معطوف على ﴿قِيَامًا﴾ على كونه حالًا من فاعل ﴿ذكروا﴾ تقديره: ومضطجعين على جنوبكم، ﴿فَإِذَا﴾ ﴿الفاء﴾: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت على شرط مقدر، تقديره: إذا عرفتم ما تشتغلون بعد قضاء الصلاة وانتهائها، وأردتم بيان ما هو لازم لكم بعد الاطمئنان، وزوال الخوف عنكم.. فأقول لكم، ﴿إذا﴾: ظرف لما يستقبل من الزمان، ﴿اطْمَأنَنْتُمْ﴾: فعل وفاعل، والجملة في
﴿وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَألَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَألَمُونَ كَمَا تَألَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (١٠٤)﴾.
﴿وَلَا﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية، ﴿وَلَا تَهِنُوا﴾: جازم وفعل وفاعل والجملة مستأنفة، ﴿فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿تَهِنُوا﴾، ﴿إن﴾: حرف شرط، ﴿تَكُونُوا﴾: فعل ناقص واسمه: مجزوم بـ ﴿إن﴾ على كونه فعل شرط لها، ﴿تَألَمُونَ﴾: فعل وفاعل، والجملة خبر كان، ﴿فَإِنَّهُمْ﴾: ﴿الفاء﴾: رابطة لجواب ﴿إن﴾ وجوبًا، ﴿إنهم﴾ ناصب واسمه، وجملة ﴿يَألَمُونَ﴾ في محل الرفع خبر ﴿إن﴾، وجملة ﴿إن﴾ في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة ﴿إن﴾ الشرطية معللة للنهي السابق قبلها، أعني قوله: ﴿وَلَا تَهِنُوا﴾، ﴿كَمَا﴾ ﴿الكاف﴾: حرف جر، ﴿ما﴾: مصدرية، ﴿تَألَمُونَ﴾: فعل وفاعل، صلة ﴿ما﴾ المصدرية، ﴿ما﴾ مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بالكاف، تقديره: كإيلامكم، الجار والمجرور صفة لمصدر محذوف، تقديره: فإنهم يألمون، إيلامًا كائنًا كإيلامكم. ﴿وَتَرْجُونَ﴾: فعل وفاعل ﴿مِنَ اللَّهِ﴾: متعلق به، والجملة مستأنفة، أو حال من فاعل ﴿كَمَا تَألَمُونَ﴾ ﴿مَا﴾: موصولة أو موصوفة في محل النصب مفعول ﴿ترجون﴾، ﴿لَا يَرْجُونَ﴾: فعل وفاعل، صلة لـ ﴿ما﴾، أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف، تقديره: ما لا يرجونه، ﴿وَكَانَ اللَّهُ﴾: فعل ناقص واسمه، ﴿عَلِيمًا﴾: خبر أول لها، ﴿حَكِيمًا﴾: خبر ثان لها، وجملة ﴿كان﴾ من اسمها وخبرها مستأنفة.
﴿إِنَّا﴾: ناصب واسمه، ﴿أَنْزَلْنَا﴾: فعل وفاعل، ﴿إِلَيْكَ﴾: متعلق به، ﴿الْكِتَابَ﴾: مفعول به، ﴿بِالْحَقِّ﴾: حال من الكتاب، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر ﴿إن﴾، وجملة ﴿إن﴾ مستأنفة، ﴿لِتَحْكُمَ﴾: ﴿اللام﴾: لام كي، ﴿تحكم﴾: منصوب بأن مضمرة، وفاعله ضمير يعود على محمد، ﴿بَيْنَ النَّاسِ﴾: ظرف ومضاف إليه متعلق بـ ﴿تحكم﴾، ﴿بِمَا﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿تحكم﴾ أيضًا، وجملة ﴿تحكم﴾ صفة ﴿أن﴾ المصدرية، ﴿أن﴾ مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بالكاف، تقديره: لحكمك بين الناس، الجار والمجرور متعلق بـ ﴿أَنْزَلْنَا﴾، ﴿أَرَاكَ اللَّهُ﴾: فعل ومفعول أول وفاعل، والمفعول الثاني محذوف، تقديره: أراكه الله، وهو العائد على ﴿ما﴾ الموصولة والجملة صلة لـ ﴿ما﴾، أو صفة لها، ﴿وَلَا تَكُن﴾: جازم وفعل ناقص، واسمه ضمير يعود على محمد، ﴿لِلْخَائِنِينَ﴾: متعلق بـ ﴿خَصِيمًا﴾، ﴿خَصِيمًا﴾: خبر ﴿تَكُنْ﴾، وجملة ﴿تَكُنْ﴾ مستأنفة. ﴿وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ﴾: فعل ومفعول أول، والثاني محذوف، تقديره: ذنبك، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة معطوفة على جملة ﴿لا تكن﴾، ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾: ناصب واسمه، ﴿كَانَ﴾: فعل ناقص، واسمه ضمير يعود على ﴿اللَّهَ﴾، ﴿غَفُورًا﴾: خبر أول لـ ﴿كَانَ﴾، ﴿رَحِيمًا﴾: خبر ثان لها، وجملة ﴿كَانَ﴾ في محل الرفع خبر ﴿إِنَّ﴾، وجملة ﴿إِنَّ﴾ مستأنفة.
﴿وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا (١٠٧)﴾.
﴿وَلَا تُجَادِلْ﴾: جازم وفعل، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة مستأنفة، ﴿عَنِ الَّذِينَ﴾: متعلق به، ﴿يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ﴾: فعل وفاعل ومفعول ومضاف إليه، والجملة صلة الموصول، ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾: ناصب ومنصوب، ﴿لَا﴾: نافية، ﴿يُحِبُّ﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على ﴿اللَّهَ﴾، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر ﴿إِنَّ﴾، وجملة ﴿إِنَّ﴾ في محل الجر معللة للنهي السابق
﴿يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا (١٠٨)﴾.
﴿يَسْتَخْفُونَ﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة، ﴿مِنَ النَّاسِ﴾: متعلق به، ﴿وَلَا يَسْتَخْفُونَ﴾: ناف وفعل وفاعل، معطوف على ﴿يَسْتَخْفُونَ﴾، ﴿مِنَ اللَّهِ﴾: متعلق به، ﴿وَهُوَ﴾: مبتدأ، ﴿مَعَهُمْ﴾: خبره، والجملة حال من لفظ الجلالة، ﴿إِذ﴾: ظرف لما مضى متعلق بالاستقرار الذي تعلق به الخبر، ﴿يُبيتُونَ﴾: فعل وفاعل، مضاف إليه لـ ﴿إذ﴾ ﴿مَا﴾: اسم موصول في محل النصب مفعول لـ ﴿يُبَيِّتُونَ﴾، ﴿لَا﴾: نافية، ﴿يَرْضَى﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على ﴿الله﴾، والمفعول محذوف، تقديره: يرضاه، وهو العائد على ﴿مَا﴾ الموصولة، والجملة صلة لـ ﴿مَا﴾ أو صفة لها، ﴿مِنَ الْقَوْلِ﴾: حال من الضمير المحذوف، ﴿وَكَانَ اللَّهُ﴾: فعل ناقص واسمه، ﴿بِمَا يَعْمَلُونَ﴾: متعلق بـ ﴿مُحِيطًا﴾ وهو خبر ﴿كَانَ﴾، وجملة ﴿كَانَ﴾ هو مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها.
﴿هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (١٠٩)﴾.
﴿هَا أَنْتُمْ﴾: ﴿ها﴾: حرف تنبيه، ﴿أنتم﴾: مبتدأ، ﴿هَؤُلَاءِ﴾: منادى نكرة مقصودة، حذف منه حرف النداء، وجملة النداء معترضة، لاعتراضها بين المبتدأ والخبر، ﴿جَادَلْتُمْ﴾: فعل وفاعل، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الإسمية مستأنفة، ﴿عَنْهُمْ﴾: متعلق بـ ﴿جَادَلْتُمْ﴾، ﴿فِي الْحَيَاةِ﴾: متعلق بـ ﴿جَادَلْتُمْ﴾ أيضًا، ﴿الدُّنْيَا﴾ صفة للحياة، ﴿فَمَن﴾ ﴿الفاء﴾: عاطفة، ﴿من﴾ اسم استفهام في محل الرفع مبتدأ، ﴿يُجَادِلُ﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على ﴿من﴾، ﴿اللَّهَ﴾: مفعول به، ﴿عَنْهُمْ﴾: متعلق بـ ﴿يُجَادِلُ﴾، والجملة الفعلية
﴿وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا (١١٠)﴾.
﴿وَمَن﴾: اسم شرط في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط أو الجواب أو هما، ﴿يَعْمَلْ سُوءًا﴾: فعل ومفعول، مجزوم بـ ﴿مَنْ﴾ على كونه فعل شرط لها، وفاعله ضمير يعود على ﴿من﴾، ﴿أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ﴾: فعل ومفعول، معطوف على ﴿يَعْمَلْ﴾، وفاعله ضمير يعود على ﴿من﴾، ﴿ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ﴾: فعل ومفعول أول، معطوف على ﴿يَظْلِمْ﴾ أو على ﴿يَعْمَلْ﴾، والمفعول الثاني محذوف، تقديره: ذنبه، ﴿يَجِدِ اللَّهَ﴾: فعل ومفعول أول، مجزوم بـ ﴿من﴾ على كونه جواب الشرط، وفاعله ضمير يعود على ﴿من﴾، ﴿غَفُورا﴾: مفعول ثان، ﴿رَحِيمًا﴾: صفة لـ ﴿غَفُورًا﴾، وجملة ﴿من﴾ الشرطية مستأنفة.
﴿وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (١١١)﴾.
﴿وَمَنْ﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة، ﴿من﴾: اسم شرط في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط أو الجواب، ﴿يَكْسِبْ إِثْمًا﴾: فعل ومفعول، مجزوم بـ ﴿من﴾ على كونه فعل شرط لها، وفاعله ضمير يعود على ﴿من﴾، ﴿فَإِنَّمَا﴾: ﴿الفاء﴾: رابطة لجواب ﴿من﴾، ﴿إنما﴾ أداة حصر، ﴿يَكْسِبُهُ﴾: فعل ومفعول، ﴿عَلَى نَفْسِهِ﴾ جار ومجرور متعلق به، وفاعله ضمير يعود على ﴿من﴾، والجملة في محل الجزم بـ ﴿من﴾ على كونها جوابًا لها، وجملة ﴿من﴾ الشرطية معطوفة
﴿وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (١١٢)﴾.
﴿وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً﴾: جازم ومجزوم ومفعول به، وفاعله ضمير يعود على ﴿من﴾، ﴿أَوْ إِثْمًا﴾: معطوف على ﴿خَطِيئَةً﴾، ﴿ثُمَّ يَرْمِ﴾: معطوف على ﴿يَكْسِبْ﴾، مجزوم بحذف حرف العلة، وفاعله ضمير يعود على ﴿من﴾، ﴿بِهِ﴾ متعلق بـ ﴿يرم﴾، ﴿بَرِيئًا﴾: مفعول به، ﴿فَقَدِ﴾ ﴿الفاء﴾: رابطة لجواب ﴿من﴾ وجوبًا، ﴿قد﴾: حرف تحقيق، ﴿احْتَمَلَ﴾: فعل ماض في محل الجزم بـ ﴿مَنْ﴾ على كونه جوابًا لها، وفاعله ضمير يعود على ﴿من﴾ ﴿بُهْتَانًا﴾: مفعول به، ﴿وَإِثْمًا﴾: معطوف عليه، ﴿مُبِينًا﴾: صفة له، وجملة ﴿من﴾ الشرطية معطوفة على جملة ﴿من﴾، ولى.
﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا (١١٣)﴾.
﴿ولولا﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية، ﴿لولا﴾: حرف امتناع لوجود، ﴿فَضْلُ اللَّهِ﴾: مبتدأ ومضاف إليه، ﴿عَلَيْكَ﴾: متعلق به، ﴿وَرَحْمَتُهُ﴾: معطوف على ﴿فَضْلُ اللَّهِ﴾، وخبر المبتدأ محذوف وجوبًا؛ لقيام جواب ﴿لولا﴾ مقامه، تقديره: موجودان، ﴿لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ﴾: ﴿اللام﴾: رابطة لجواب ﴿لولا﴾ ﴿همت طائفة﴾: فعل وفاعل، ﴿مِنْهُمْ﴾: جار ومجرور صفة لـ ﴿طَائِفَةٌ﴾، والجملة الفعلية جواب ﴿لولا﴾ لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿لولا﴾ مع جوابها مستأنفة استئنافًا نحويًّا، والمعنى: انتفى ضلالك الذي هموا به لوجود فضل الله عليك بالعصمة والحفظ، ﴿أَنْ يُضِلُّوكَ﴾: ناصب وفعل وفاعل ومفعول به، وجملة ﴿أَن﴾ المصدرية مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بالباء المحذوفة
التصريف ومفردات اللغة
﴿أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ﴾: يقال قصرت الشيء من باب نصر، إذا جعلته قصيرًا بحذف بعض أجزائه، فمتعلق القصر جملة الشيء لا بعضه، فإن البعض متعلق الحذف، والقصير ضد الطويل، والقصر بالفتح من القصر - كعنب - ضد الطول، و ﴿الجناح﴾: التضييق من جنح البعير إذا انكسرت جوانحه - أضلاعه - لثقل حمله، ﴿عَدُوًّا مُبِينًا﴾: في "المصباح" قال في "مختصر العين" يقع العدو بلفظ واحد على الواحد المذكر والمؤنث والمجموع انتهى، ﴿وَلْيَأخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ﴾:
﴿وَلْيَأخُذُوا حِذْرَهُمْ﴾ والحذر بفتحتين وبكسر فسكون التحرز والاحتياط، يقال: حذر حذرًا وحذرًا من باب تعب. ﴿وَأَمْتِعَتِكُمْ﴾: جمع متاع، وجمع الجمع أماتع وأماتيع، والمتاع كل ما ينتفع به من عروض الدنيا كثيرها وقليلها، سوى الفضة والذهب، وكل ما يلبسه الإنسان ويبسطه، وما ينتفع به انتفاعًا قليلًا غير باق بل ينقضي عن قريب، يقال: إنما الحياة الدنيا متاع؛ أي: بلغة يتبلغ به لا بقاء له.
﴿أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى﴾: جمع مريض، كقتلى جمع قتيل، وجرحى جمع جريح. ﴿عَذَابًا مُهِينًا﴾: اسم فاعل من أهان يهين إهانة - نظير أعان - إذا أذله، فهو مهين وذاك مهان. ﴿قِيَامًا وَقُعُودًا﴾ جمع قائم وقاعد، ﴿فَإِذَا اطْمَأنَنْتُمْ﴾: الهمزة فيه أصلية، ووزن الكلمة افعلل، والمصدر الطمأنينة كالقشعريرة، والاطمئنان كالاقشعرار، والطمأنينة سكون النفس من الخوف، وأما قولهم طامن رأسه فأصل آخر. ﴿مَوْقُوتًا﴾: مفعول من وقت بالتخفيف، كمضروب من ضرب، ولم يقل موقوتة بالتاء مراعاة لكتابًا، فإنه في الأصل مصدر.
﴿وَلَا تَهِنُوا﴾: يقال وهن يهن من باب وعد، وهنا يقال وهنه إذا أضعفه، ووَهُنَ يَوْهُن وهنًا بإسكان العين، ووهنًا بالتحريك، من باب فعل المضموم، إذا ضعف في الأمر أو العمل أو البدن، ويقال: وَهِنَ يَهِن بكسر العين في الماضي والمضارع وَهْنًا ووَهَنًا، ووَهِنَ ويَوْهَن على وزن وَجِلَ يَوْجَل، وهنا بالتحريك بمعنى: وهن بضم العين. ﴿إِنْ تَكُونُوا تَألَمُونَ﴾: ويقرأ ﴿تيلمون﴾ بكسر التاء وقلب
البلاغة
وتضمنت هذه الآيات أنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع (٢):
منها: الاستعارة في قوله: ﴿وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ﴾ و ﴿فَيَمِيلُونَ﴾ استعار الميل للحرب.
ومنها: التكرار في قوله: ﴿جُنَاحَ﴾ ﴿وَلَا جُنَاحَ﴾ لاختلاف متعلقهما، وفي قوله: ﴿فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ﴾ ﴿وَلْتَأتِ طَائِفَةٌ﴾ وفي الحذر والأسلحة، و ﴿الصَّلَاةَ﴾، و ﴿تَألَمُونَ﴾، وفي اسم ﴿اللَّهِ﴾.
ومنها: التجنيس المغاير في قوله: ﴿فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً﴾ وفي قوله: {كَفَرُوا
(٢) البحر المحيط.
ومنها: التجنيس المماثل في قوله: ﴿فَأَقَمْتَ﴾ ﴿فَلْتَقُمْ﴾، وفي قوله: ﴿لَمْ يُصَلُّوا﴾ ﴿فَلْيُصَلُّوا﴾، وفي قوله: ﴿يَسْتَخْفُونَ﴾ ﴿وَلَا يَسْتَخْفُونَ﴾، وفي قوله: ﴿جَادَلْتُمْ﴾ ﴿فَمَن يُجَادِل﴾، وفي قوله: ﴿يَكْسِبْ﴾ و ﴿يَكْسِبْ﴾، وفي قوله: ﴿يُضِلُّوكَ﴾ ﴿وَمَا يُضِلُّونَ﴾، وفي قوله: ﴿وَعَلَّمَكَ﴾ و ﴿تَعْلَمُ﴾.
ومنها: العام يراد به الخاص في قوله ﴿فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ﴾ ظاهره العموم، وأجمعوا على أن المراد بها صلاة الخوف خاصة؛ لأن السياق يدل على ذلك، ولذلك كانت أل فيه للعهد انتهى. وإذا كانت أن للعهد.. فليس من باب العام المراد به الخاص؛ لأن أن للعموم وأل للعهد، فهما قسيمان، فإذا استعمل لأحد القسيمين.. فليس موضوعًا للآخر.
ومنها: الإبهام في قوله: ﴿بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ﴾، وفي قوله: ﴿مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ﴾.
ومنها: خطاب عين ويراد به غيره في قوله: ﴿وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا﴾ فإنه - ﷺ - محروس بالعصمة عن أن يخاصم عن المبطلين.
ومنها: التتميم في قوله: ﴿وَهُوَ مَعَهُمْ﴾ للإنكار عليهم، والتغليظ لقبح فعلهم؛ لأن حياء الإنسان ممن يصحبه أكثر من حيائه وحده، وأصل المعية في الإجرام، والله تعالى منزه عن ذلك، فهو مع عبده بالعلم والإحاطة.
ومنها: إطلاق وصف الإجرام على المعاني في قوله: ﴿فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا﴾.
ومنها: الحذف في مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
﴿لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (١١٤) وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (١١٥) إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (١١٦) إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا (١١٧) لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (١١٨) وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا (١١٩) يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (١٢٠) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا (١٢١) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا (١٢٢) لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (١٢٣) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا (١٢٤) وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا (١٢٥) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا (١٢٦)﴾.
المناسبة
قوله تعالى: ﴿لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ...﴾ الآيات، مناسبتها لما قبلها ظاهرة؛ لأنه لا يزال الحديث (١) في الذين يختانون أنفسهم، ويستخفون من الناس ولا يستخفون من الله، وهم طعمة بن أبيرق ومن أراد مساعدته من بني جلدته.
قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ...﴾ إلي قوله: ﴿وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا﴾ مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما
قوله تعالى: ﴿لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ...﴾ هو الآيات، مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى (١) لما بين في الآيات السالفة أن الشيطان يعدهم ويمنيهم، ويدخل في تلك الأماني ما كان يمنيه أهل الكتاب، من الغرور بدينهم، إذ كانوا يرون أنهم شعب الله الخاص، ويقولون إنهم أبناء الله وأحباؤه، وأن النار لن تمسهم إلا أيامًا معدودات، وقد سرى لهم هذا الغرور من اتكالهم على الشفاعات، وزعمهم أن فضلهم على غيرهم من البشر بمن بعث فيهم من الأنبياء، فهم يدخلون الجنة بكرامتهم لا بأعمالهم.. حذرنا هنا في هذه الآيات الكريمات أن نكون مثلهم، وكانت هذه الأماني قد دبت إلى المسلمين في عصر النبي - ﷺ -، كما دل على ذلك قوله تعالى: ﴿أَلَمْ يَأنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ...﴾... الآية، فلضعفاء الإيمان من المسلمين في الصدر الأول ولأمثالهم في كل زمن أنزلت هذه الموعظة، ولو تدبروها لما كان لهذه الأماني عليهم من سلطان.
أسباب النزول
قوله: ﴿وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى...﴾ الآية، روي في سبب نزولها (٢): أن طعمة بن أبيرق لما رأى أن الله تعالى هتك ستره، وبرأ اليهودي عن تهمة السرقة.. ارتد وذهب إلى مكة، ونقب جدار إنسان لأجل السرقة، فتهدم الجدار عليه ومات، فنزلت هذه الآية.
(٢) المراح.
قوله تعالى: ﴿لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ...﴾ الآية، سبب نزولها (٢): ما أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: قالت اليهود والنصارى: لا يدخل الجنة غيرنا، وقالت قريش: إنا لا نبعث، فأنزل الله: ﴿لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾.
وأخرج ابن جرير عن مسروق قال (٣): تفاخر النصارى وأهل الإِسلام، فقال هؤلاء: نحن أفضل منكم، وقال هؤلاء: نحن أفضل منكم، فأنزل الله تعالى: ﴿لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾.
وأخرج نحوه عن قتادة والضحاك والسدي وأبي صالح، ولفظهم: تفاخر أهل الأديان، وفي لفظ: جلس ناس من اليهود، وناس من النصارى، وناس من المسلمين، فقال هؤلاء: نحن أفضل، وقال هؤلاء: نحن أفضل، فنزلت. وأخرج أيضًا عن مسروق قال: لما نزلت ﴿لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾.. قال أهل الكتاب نحن وأنتم سواء، فنزلت هذه الآية: ﴿وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ﴾.
التفسير وأوجه القراءة
١١٤ - ﴿لَا خَيْرَ﴾: ولا ثواب، ﴿فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ﴾؛ أي: في كثير من نجوى الناس بعضهم لبعض ومحادثتهم معًا، أو لا خير في نجوى أولئك الذين
(٢) لباب النقول.
(٣) لباب النقول.
والحكمة في تخصيص هذه الثلاثة بالذكر (٢): أن عمل الخير المتعدي للناس، إما إيصال منفعة، أو دفع مضرة، المنفعة إما جسمانية وإليها الإشارة بقوله: ﴿إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ﴾، وإما روحانية وإليها الإشارة بقوله: ﴿أَوْ مَعْرُوفٍ﴾، ودفع المضرة أشير إليه بقوله: ﴿أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ﴾، وإنما قال (٣): ﴿فِي كَثِير﴾ لأن من النجوى ما يكون في الشؤون الخاصة، كالزراعة والتجارة مثلًا، فلا توصف بالشر، ولا مقصودة من الخير، وإنما المراد بالنجوى الكثيرة المنفي عنها الخير هي النجوى في شؤون الناس، ومن ثم استثنى منها الأشياء الثلاثة التي هي جماع الخير للناس. والكتاب الحكيم يجعل النجوى مظنة الإثم والشر، ومن ثم خاطب الله المؤمنين بقوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾. والسر في كون النجوى مظنة الشر في الأكثر أن العادة قد جرت بحب إظهار الخير، والتحدث به في الملأ، وأن الشر والإثم هو الذي يذكر في السر والنجوى، وفي الأثر: "الإثم ما حاك في النفس وكرهت أن يطلع عليه الناس". وقد استثنى الله سبحانه وتعالى من النجوى التي لا خير في أكثرها أمورًا ثلاثة؛ لأن خيريتها أو
(٢) أبو السعود.
(٣) المراغي.
فالصدقة وهي من الخير قد يؤذي إظهارها المتصدَّق عليه، ويضع من كرامته، ومن ثم قال الله سبحانه وتعالى: ﴿إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ﴾ وقد يكون الجهر بالأمر بها والحث عليها أشد إيذاء وإهانة من إيتاءه إياها جهرًا، ولو مع الإخلاص وابتغاء مرضاة الله تعالى.
وكذلك الأمر بالمعروف على مسمع من الناس، فكثيرًا ما يستاء منه المأمور به، ولا سيما إذا كان الآمر من أقرانه، لأنه يرى في أمره إياه استعلاء عليه بالعلم والفضل، واتهامًا له بالتقصير أو الجهل، فمن ثم كانت النجوى به أبعد عن الإيذاء، ومثله الإصلاح بين الناس، فإنه ربما ترتب على إظهاره والتحدث به كثير من الشر، ألا ترى أن بعض الناس إذا علم أن ما يطالَب به من الصلح كان بأمر فلان من الناس.. لا يستجيب ولا يقبل، أو يصده عن الرضا به ذكره بين الناس، وعلمه بأنه كان بسعي وتواطؤ. أخرج البيهقي عن أبي أيوب الأنصاري أن النبي - ﷺ - قال له: "يا أبا أيوب ألا أدلك على صدقة خير لك من حمر النعم"، فقال: بلى يا رسول الله، قال: "تصلح بين الناس إذا تفاسدوا، وتقرب بينهم إذا تباعدوا"، وعن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله - ﷺ -: "أفضل الصدقة إصلاح ذات البين"، وعن أبي الدرداء - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - ﷺ -: "ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة"، قالوا بلى يا رسول الله، قال: "إصلاح ذات البين، وأن فساد ذات البين هي الحالقة" أخرجه الترمذي وأبو داود، وقال الترمذي: ويروى عن النبي - ﷺ - أنه قال "هي الحالقة، لا أقول تحلق الشعر، ولكن تحلق الدِّين".
وعن سهل بن سعد رضي الله عنه: أن أهل قباء اقتتلوا حتى تراموا بالحجارة، فأخبر رسول الله - ﷺ -، فقال: "اذهبوا بنا نصلح بينهم". رواه البخاري.
وعن أم مكتوم بنت عقبة بن أبي معيط رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله - ﷺ - يقول: "ليس الكذاب الذي يصلح بين اثنين"، أو قال: بين
﴿وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ﴾ المذكور من الأمور الثلاثة: الصدقة والمعروف والإصلاح؛ أي: فعل واحدًا من هذه الثلاثة أو كلها؛ لأنه لما ذكر أولًا أن الخير في مَنْ أمر.. ذكر هنا ثواب من فعل، ويحتمل كون المعنى: ومن يفعل ذلك المذكور من الأمر بواحد من هذه الثلاثة فكأنه قال: ومن يأمر بذلك المذكور ﴿ابتغاء مرضاة الله﴾؛ أي: لأجل طلب رضوان الله سبحانه وتعالى، لا لغرض دنيوي، كالرياء والسمعة والمحمدة.. ﴿فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ﴾؛ أي: فسوف يعطي الله سبحانه وتعالى ذلك الفاعل في الآخرة ﴿أَجْرًا عَظِيمًا﴾ وثوابًا جسيمًا وأجرًا جزيلًا، جزاء على عمله ذلك، وهذه الآية من أقوى الدلائل على أن المطلوب من الأعمال الظاهرة رعاية أحوال القلب في إخلاص النية، وتصفية القلب عن داعية الالتفات إلى غرض سوى رضوان الله تعالى.
والخلاصة: أن ابتغاء مرضاة الله تعالى إنما يكون بالإخلاص، وعدم إرادة السمعة والرياء، كما يفعل المتأخرون من الأغنياء والدول، خصوصًا في هذا العصر الفاسد أهله، تصدقنا كذا وكذا، ومنحنا كذا وكذا، وساعدنا كذا وكذا، وبنينا المساجد والقناطر كذا وكذا، وأنفقنا في كذا من الخيرات ملايين كذا وكذا، فهؤلاء إنما يبتغون الربح بما يبذلون أو يعملون، لا مرضاة الله تعالى، ولذلك يشق عليهم أن يكون عملهم خفيًّا، وأن يخلصوا في الحديث عنه نجيًّا؛ لأن الاستفادة منه بجذب القلوب إليهم، وتسخير الناس لخدمتهم، ورفعهم لمكانتهم، إنما تكون بإظهاره لهم، ليتعلق الرجاء فيهم. وقرأ أبو عمرو وحمزة (١): ﴿يؤتيه﴾ بالياء، والباقون بالنون، على سبيل الالتفات، ليناسب ما بعده من قوله: ﴿نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ﴾ فيكون إسناد الثواب والعقاب إلى ضمير المتكلم العظيم، وهو أولى من إسناده إلى ضمير الغائب، ومن قرأ بالياء..
١١٥ - وبعد أن وعد الله سبحانه وتعالى بالجزاء الحسن لمن فعل ذلك ابتغاء مرضاة الله تعالى، أوعد الذين يتناجون بالشر، ويبيتون ما يكيدون به للناس فقال: ﴿وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ﴾ محمدًا - ﷺ -؛ أي: يخالفه بارتداده عن الإِسلام، وإظهار عداوته له، كطعمة بن أبيرق، ﴿مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى﴾؛ أي: من بعد ما ظهرت له الهداية على لسان الرسول، وقامت عليه الحجة ﴿وَيَتَّبِعْ﴾ سبيلًا ﴿غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ﴾؛ أي: غير سبيل الموحدين.. ﴿نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى﴾؛ أي: نجعله واليًا لما تولى من الضلال، ومباشرًا له، ونخلي بينه وبين ما اختاره، ونتركه وما اختاره لنفسه في الدنيا، ونكله إلى ما توكل إليه، ﴿وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ﴾؛ أي: وندخله في الآخرة نار جهنم فيحترق فيها، ﴿وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾؛ أي: قبحت جهنم مرجعًا له، والمخصوص بالذم هي. وقرىء (١): ﴿ونصله﴾ بفتح النون، من صلاه، وقرأ ابن أبي عبلة: ﴿يوله﴾ و ﴿يصله﴾ بالياء فيهما، جريًا على قوله: ﴿فسوف يؤتيه﴾ بالياء، وفي هاء ﴿نُوَلِّهِ﴾ و ﴿نصله﴾ الإشباع والاختلاس والإسكان.
وفي هذه الآية (٢): بيان لسنة الله في عمل الإنسان، وإيضاح لما أوتيه من الإرادة والاستقلال والعمل بالاختيار، فالوجهة التي يتولاها ويختارها لنفسه يوليه الله إياها؛ أي: يجعله واليًا لها، وسائرًا على طريقها، فلا يجد من القدرة الإلهية ما يجبره على ترك ما اختاره لنفسه، بحسب الاستعداد والإدراك وعمل ما يرى أنه خير له وأنفع في عاجله أو آجله، أو فيهما معًا، ثم ندخله جهنم ونعذبه أشد العذاب؛ لأنه استحب العمى على الهدى، وعاند الحق، واتبع الهوى، وما أقبحها عاقبة لمن تفكر وتدبر، وقد اشترط في هذا الوعيد أن يتبين له الهدى، أما من لم يتبين له فلا يدخل فيه، وهم أصناف:
فمنهم: من نظر في الدليل ولم يظهر له الحق، وبقي متوجهًا إلى طلبه
(٢) المراغي.
١١٦ - ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ﴾؛ أي: لا يغفر البتة لأحد أشرك به سواه، إذا مات على الشرك ﴿وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾؛ أي: وإنه قد يغفر لمن يشاء من المذنبين، ما دون الشرك من الذنوب، فلا يعذبهم عليه، ذاك أن الشرك هو منتهى فساد الأرواح، وضلال العقول، فكل خير يلابسه لا يقوى على إضعاف مفاسده وأثامه، والعروج بها إلى جوار ربها، إذ أنها تكون موزعة بين شركاء يحولون بينها وبين الخلوص إليه عز وجل، والله لا يقبل إلا ما كان خالصًا له.
﴿وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ﴾ سبحانه وتعالى شيئًا فيدعوه معه، ويذكر اسمه مع اسمه، أو يدعوه وحده، ملاحظًا أنه يقربه إليه زلفى.. ﴿فَقَدْ ضَلَّ﴾ عن القصد، وبعد عن سبيل الرشد ﴿ضَلَالًا بَعِيدًا﴾ في سبيل الغواية، لأنه ضلال يفسد العقل، ويكدر صفاء الروح، ويجعله يخضع لعبد مثله، ويخضع أمام مخلوق يحاكيه، ويكون عبدًا للخرافات والأوهام، أما من لم يشرك بالله.. لم يكن ضلاله بعيدًا، فلا يصير محرومًا عن الرحمة.
وخلاصة ما تقدم (١):
١ - أن الشرك في العبادة الذي يتجلى في الدعاء هو أقوى أنواع الشرك؛ لأنه يكون باعتقاد ناشيء عن وجدان حاكم على النفس مستعبد لها.
٢ - أن الجزاء في الآخرة يكون تابعًا لما تكون عليه النفس في الدنيا، من سلامة العقيدة، ومقدار درجة الفضيلة التي يلازمها فعل الخيرات، أو فساد
٣ - أن الناس متفاوتون فيما بين ذلك من درجات ودركات، أخسها الشرك، وأعلاها التوحيد، ولكل منهم صفات تناسبها، فلو جاز أن يغفر الشرك، ويجعل صاحبه مع النبيين والصديقين والملائكة المقربين.. لكان ذلك نقضًا لسنة الله التي لا تبديل فيها ولا تغيير.
واعلم: أنه قد تقدم نص هذه الآية بعينها في غرض آخر من هذه السورة، وأعادها هنا مرة أخرى للتأكيد، ولتكون راسخة في نفوس السامعين، لأنه إنما ترجى الهداية والموعظة بإبراز المعاني التي يراد إيداعها في نفوس السامعين في كل سياق يقصد فيه توجيها إليها، وإعدادها لقبولها، ولن يتم ذلك إلا بتكرار المقاصد الأساسية، فالذين عرفوا سنن الاجتماع، وفهموا طبائع البشر وأخلاقهم، يكررون في خطبهم ومقالاتهم أغراضهم ومقاصدهم التي ينشرونها في الصحف والكتب، فإن الذهن إذا تكرر عليه مدح الشيء أو ذمه.. أثر فيه، إلا أن (١) آخر ما تقدم: ﴿فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا﴾، وآخر هذه: ﴿فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا﴾، ختمت كل آية بما يناسبها، فتلك كانت في أهل الكتاب، وهم مطلعون من كتبهم على ما لا يشكون في صحته من أمر الرسول - ﷺ -، ووجوب اتباع شريعته، ونسخها لجميع الشرائع، ومع ذلك فقد أشركوا باللهِ، مع أن عندهم ما يدل على توحيد الله، والإيمان بما نزل، فصار ذلك افتراءً واختلاقًا مبالغًا في العظم والجرأة على الله، وهذه الآية في ناس مشركين، ليسوا بأهل كتب ولا علوم، ومع ذلك فقد جاءهم الهدى من الله، وبان لهم طريق الرشد، فأشركوا بالله، فضلوا بذلك ضلالًا يستبعد وقوعه، أو يبعد عنه الصواب، ولذلك جاء بعده:
١١٧ - ﴿إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا﴾ وجاء بعد تلك: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ﴾، وقوله: ﴿انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ﴾ ولم يختلف أحد من المتأولين في أن المراد بهم اليهود، وإن كان اللفظ عامًّا، ولما كان الشرك أعظم
ثم بين الله تعالى كون الشرك ضلالًا بعيدًا فقال: ﴿إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا﴾؛ أي: ما يعبد هؤلاء المشركون (١) من أهل مكة وغيرهم إلا أوثانًا يسمونها باسم الإناث، كقولهم: اللات والعزى ومناة، واللات تأنيث الله، والعزى تأنيث العزيز، ومناة تأنيث المنان، أو لأنهم يزينونها على هيئات النسوان. أو المعنى (٢): هؤلاء المشركون لا يدعون لقضاء حاجتهم وتفريج كربهم إلا أمواتًا، فقد كانوا يعظمون الموتى ويدعونها، كما يفعل ذلك كثير من أهل الكتاب أو إلا إناثًا كاللات والعزى، وقد كان لكل قبيلة صنم يسمونه أنثى بني فلان.
وقرأ أبو رجاء (٣): ﴿إن تدعون﴾ بالتاء على الخطاب، ورويت عن عاصم. وفي مصحف عائشة - رضي الله عنها -: ﴿إلا أوثانًا﴾ جمع وثن وهو الصنم، وقرأ بذلك أبو السوار والهنائي، وقرأ الحسن: ﴿إلا أنثى﴾ على التوحيد، وقرأ ابن عباس وأبو حيوة والحسن وعطاء وأبو العالية وأبو نهيك ومعاذ القاريء: ﴿أُنثًا﴾ جمع أنيث كغرير وغرر، والأنيث: المخنث الضعيف من الرجال، وقرأ سعد بن أبي وقاص وعبد الله بن عمر وأبو المتوكل وأبو الجوزاء: ﴿إلا وثنًا﴾ بفتح الواو والثاء من غير همزة، وقرأ ابن المسيب ومسلم بن جندب، ورويت عن ابن عباس وابن عمر وعطاء: ﴿إلا أنثًا﴾ يريدون وَثَنًا، وقرأ أبو أيوب السجستاني: ﴿إلا وثنًا﴾ بضم الواو والثاء من غير همزة كشُقُق، وقرأت فرقة:
(٢) المراغي.
(٣) البحر المحيط.
﴿وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا﴾؛ أي: وما يعبدون بعبادتها إلا شيطانًا، شديد التمرد والبعد عن طاعة الله، إذ هو الذي أمرهم بعبادتها، وأغراهم بها، فكانت طاعتهم له في ذلك عبادةً له،
١١٨ - ﴿لَعَنَهُ اللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى؛ أي: طرده الله عن كل خير، وأبعده عن رحمته وفضله، فإنه داعية كل شر وباطل في نفس الإنسان، بما يوسوس في صدره ويعده ويمنيه ﴿وَقَالَ﴾؛ أي: الشيطان عندما لعنه الله تعالى: وعزتك ﴿لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا﴾؛ أي: لأجعلن لنفسي من عبادك حظًّا مقدرًا معينًا، وهم الذين يتبعون خطوات الشيطان ويقبلون وساوسه، وروي عن النبي - ﷺ - أنه قال: "من كل ألف واحد لله، وسائره للناس ولإبليس". وقيل: النصيب المفروض هو ما للشيطان في نفس كل أحد من الاستعداد للشر، إذ ما من إنسان إلا يشعر من نفسه بوسوسة الشيطان، فإن لم يكن بالشرك فبالمعصية والإصرار عليها، أو الرياء في العبادة، لكن الله أخبر أنه ليس له سلطان على عباده المخلصين، وقد جاء في القرآن والحديث ما يدل على هذا.
والخلاصة: أن الشيطان خلق متمردًا على الحق، بعيدًا من الخير، مغرى بإغواء البشر وإضلالهم.
١١٩ - ﴿وَلَأُضِلَّنَّهُمْ﴾ عن طريق الهدى، ﴿وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ﴾؛ أي: ولألقين في قلوبهم الأماني الكاذبة، وهي تورث شيئين: الحرص والأمل، وهما يستلزمان أكثر الأخلاق الذميمة، ويلازمان للإنسان، وفي الحديث: "يهرم ابن آدم ويشبُّ معه اثنان: الحرص والأمل". فالحرص يستلزم ركوب الأهوال، فإذا اشتد حرصه على الشيء.. فقد لا يقدر على تحصيله إلا بمعصية الله وإيذاء الخلق، وإذا طال أمله.. نسي الآخرة، وصار غريقًا في الدنيا، فلا يكاد يقدم على التوبة، ولا يكاد يؤئر فيه الوعظ، فيصير قلبه كالحجارة أو أشد قسوة.
وقيل: إضلال الشيطان لمن يضلهم هو صرفهم عن العقائد الصحيحة،
والخلاصة: أن من شأن الشيطان ومقتضى طبعه: إضلال العباد، وشغلهم بالأماني الباطلة، كرحمة الله للمجرمين بغير توبة، والخروج من النار بعد دخولها بالشفاعة، وتزيين لذات الحياة العاجلة على ثواب الآجلة ونعيمها.
﴿وَلأمُرَنَّهُمْ﴾ بالتبتيك؛ أي: شق آذان الناقة ﴿فَلَيُبَتِّكُنَّ﴾؛ أي: فليقطعن ﴿آذَانَ الْأَنْعَامِ﴾ ويشقونها بموجب أمري لهم، والمراد به: ما كانوا يفعلونه من قطع آذان بعض الأنعام لأصنامهم، كالبحائر التي كانوا يقطعون آذانها أو يشقونها شقًّا واسعًا، ويتركون الحمل عليها إذا ولدت خمسة أبطن وجاء الخامس ذكرًا، وهذا من سخيف أعمالهم الوثنية الدالة على ضعف عقولهم، ﴿وَلأمُرَنَّهُمْ﴾ بتغيير خلق الله، ﴿فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ﴾ صورة أو صفة، بموجب أمري لهم، كخصاء العبيد، وفقء العيون، وقطع الآذان، والوشم والوشر، ووصل الشعر، فإن المرأة تتوصل بهذه الأفعال إلى الزنا، وكانت العرب إذا بلغت إبل أحدهم ألفًا.. عوَّروا عين فحلها، ويدخل في هذه الآية التخنث والسحاقات، لأن التخنث عبارة عن تشبه الذكر بالأنثى، والسحق عبارة عن تشبه المرأة بالذكر، وعموم اللفظ يمنع الخصاء مطلقًا، لكن الفقهاء رخصوا في البهائم للحاجة، فيجوز في المأكول الصغير، ويحرم في غيره، وأما خصاء بني آدم فحرام.
وقال الشوكاني (١): واختلف العلماء في هذا التغيير ما هو، فقالت طائفة: هو الخصاء، وفقء الأعين، وقطع الآذان، وقال آخرون: إن المراد بهذا التغيير هو: أن الله سبحانه وتعالى خلق الشمس والقمر والأحجار والنار ونحوها من المخلوقات لما خلقها له، فغيرها الكفار بأن جعلوها آلهة معبودة، وبه قال الزجاج، وقيل: المراد بهذا التغيير، تغيير الفطرة التي فطر الله الناس عليها، ولا مانع من حمل الآية على جميع هذه الأمور، حملًا شموليًّا أو بدليًّا، انتهى.
والخلاصة: أن الدين الفطري الذي هو من خلق الله وآثار قدرته ليس هو مجموع الأحكام التي جاء بها الرسل ليبلغوها للناس، بل هو ما أودعه في فطرة البشر من توحيده والاعتراف بقدرته وجلاله، وهو ما أشار إليه في الحديث: "كل مولود يولد على الفطرة".
ومن أهم أسس هذا الدين: فطرية العبودية للسلطة الغيبية، التي تنتهي إليها الأسباب، وتقف دون الوصول إلى حقيقتها العقول، وقرأ أبو عمرو (٢): ﴿ولأمرنهم﴾ بغير ألف كذا قاله ابن عطية، وقرأ أبي: ﴿وأضلنهم وأمنينهم وآمرنهم﴾ وتكون جملًا مقولة، لا مقسمًا عليها.
﴿وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾؛ أي: ومن يجعل الشيطان المطرود وليًّا وناصرًا له متوليًّا عليه، أو يجعله ربًّا يطيعه من دون الله، ويتبع وسوسته وإغواءه، وهو البعيد من أسباب رحمة الله وفضله.. ﴿فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا﴾؛ أي: خسرانًا ظاهرًا في الدنيا والآخرة، بتضييع رأس ماله وهو الدين الفطري، وذلك لأن طاعة الله تفيد المنافع العظيمة الدائمة، وطاعة الشيطان تفيد المنافع القليلة المنقطعة، ويعقبها العذاب الأليم؛ إذ أنه يكون أسير الأوهام والخرافات يتخبط في عمله على غير هدى، ويفوته الانتفاع التام بما وهبه الله من العقل والمواهب الكسبية التي أوتيها الإنسان وميز بها من بين أصناف الحيوان،
١٢٠ - ﴿يَعِدُهُمْ﴾؛ أي: يعد الشيطان الناس الفقر إذا هم أنفقوا شيئًا
(٢) البحر المحيط.
ويدخل في وعد الشيطان وتمنيته ما يكون من أوليائه من الإنس، وهم قرناء السوء، الذين يزينون للناس الضلال والمعاصي، ويمدونهم في الطغيان، وينشرون مذاهبهم الفاسدة، وآراءهم الضالة التي يبتغون بها الرفعة والجاه والمال، وهؤلاء يوجدون في كل زمان ومكان، ﴿وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا﴾؛ أي: وما يعدهم الشيطان إلا باطلًا يغترون به، ولا يملكون منه ما يحبون، فيزين لهم النفع في بعض الأشياء، وهي مشتملة على كثير من الآلام والمضار، فالزاني أو المقامر أو شارب الخمر يخيل إليه أنه يتمتع باللذات، بينما هو في الحقيقة يتمتع بلذائذ وقتية، تعقبها آلام دنيوية طويلة المدى وخيمة العواقب، إلى عذاب أخروي لا يعلم كنهه إلا من أحاط بكل شيء علمًا. وقرأ الأعمش: ﴿وما يعدهم﴾ بسكون الدال، خفف لتوالي الحركات.
١٢١ - وبعد أن بين حال أولياء الشيطان.. ذكر عاقبتهم فقال: ﴿أُولَئِكَ﴾ الذين يعبث بهم الشيطان بوسوسته، أو بإغواء دعاة الباطل من أوليائه ﴿مَأوَاهُمْ﴾؛ أي: مسكنهم ومنازلهم في الآخرة ومرجعهم ومصيرهم ﴿جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا﴾؛ أي: عن جهنم ﴿مَحِيصًا﴾؛ أي: معدلًا ومهربًا يفرون إليه، إذ هم بطبيعتهم ينجذبون إليها، ويتهافتون عليها تهافت الفراش على النار، فتصلى وجوههم وجنوبهم وظهورهم.
١٢٢ - ثم بعدئذ ذكر عاقبة من لا يستجيب دعوة الشيطان وأولياءه، ولا يصيخ لأمره ونهيه فقال: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا﴾ باللهِ ورسوله ﴿وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾؛ أي: وامتثلوا المأمورات واجتنبوا المنهيات ﴿سَنُدْخِلُهُمْ﴾ يوم القيامة ﴿جَنَّاتٍ﴾؛
ولما ذكر أن وعد الشيطان هو غرور باطل.. ذكر أن هذا الوعد منه تعالى هو الحق الذي لا ارتياب فيه، ولا شك في إنجازه فقال: ﴿وَعْدَ اللَّهِ﴾؛ أي: وعدهم الله تعالى بذلك الإدخال وعدًا لا خلف فيه، وحق ذلك الإدخال، ﴿حَقًّا﴾ فالأول مؤكد لنفسه، والثاني مؤكد لغيره ﴿وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا﴾؛ أي: لا أحد أصدق من الله قولًا فيما وعده لعباده الصالحين، وهذا توكيد ثالث، وفائدة هذه التوكيدات: معارضة مواعيد الشيطان الكاذبة، وترغيب العباد في تحصيل ما وعده الله تعالى.
والمعنى: ذلك الذي وعدكم الله به هو الوعد الحق، فهو القادر على أن يعطي ما وعد بفضله وجوده وواسع كرمه ورحمته، وأما وعد الشيطان فهو غرور من القول وزور، إذ هو عاجز عن الوفاء، فهو يدلي إلى أوليائه بباطله، فحقه أن لا يستجاب له أمر ولا نهي، ولا تتبع له نصيحة، فوساوسه أباطيل وسراب بقيعة، يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئًا.
١٢٣ - ﴿لَيْسَ﴾ الثواب الذي تقدم الوعد به في قوله تعالى: ﴿سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾ حاصلًا ﴿بِأَمَانِيِّكُمْ﴾؛ أي: بتمنياتكم يا معشر المؤمنين أن يغفر لكم وإن ارتكبتم الكبائر؛ أي: فإنكم تمنيتم أن لا تؤاخذوا بسوء بعد الإيمان ﴿وَلَا﴾ حاصلًا بـ ﴿أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾؛ أي: بتمنيات اليهود والنصارى، فإنهم قالوا: ﴿لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى﴾، وقالوا: ﴿نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ﴾ فلا يعذبنا، وقالوا: ﴿لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً﴾، وليس الأمر كذلك، فإنه تعالى يخص بالعفو أو الرحمة من يشاء؛ أي: ليس يستحق
وقرأ الحسن، وأبو جعفر، وشيبة بن نصاح، والحكم، والأعرج: ﴿بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب﴾ بتخفيف الياء ساكنة، جمعًا على فعالل، كما يقال: قراقر وقراقير في جمع قرقور - بوزن عصفور -: السفينة الطويلة.
ثم أكد ذلك وبينه بقوله: ﴿وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا﴾: ويرتكب ذنبًا أيَّ ذنب كان، سواء كان مؤمنًا أم كافرًا ﴿يُجْزَ بِهِ﴾؛ أي: يجازى بذلك الذنب الذي ارتكبه، فالمؤمن يجزى عند عدم التوبة، إما في الدنيا بالمصيبة، أو بعد الموت قبل دخول الجنة، أو بإحباط ثواب طاعته بمقدار عقاب تلك المعصية، والكافر يجزى بالمحن والبلاء في الدنيا وفي الآخرة دائمًا، فعلى الصادق في دينه أن يحاسب نفسه على العمل بما هداه إليه كتابه ورسوله، ويجعل ذلك المعيار في سعادته، لا أن يجعل تكأته أن هذا الكتاب أكمل، ولا أن ذلك الرسول أفضل.
وأخرج مسلم وغيره عن أبي هريرة قال: لما نزلت هذه الآية: ﴿مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ﴾ شق ذلك على المسلمين، وبلغت منهم مبلغًا شديدًا، فشكوا ذلك إلى رسول الله - ﷺ - فقال: "سددوا وقاربوا، فإن في كل ما أصاب المسلم كفارة، حتى الشوكة يشاكها، والنكبة ينكبها"، والأحاديث بهذا المعنى كثيرة، ومن ثم يرى عامة العلماء الأمراض والأسقام ومصايب الدنيا وهمومها يكفر الله بها الخطايا.
﴿وَلَا يَجِدْ﴾ الذي يعمل السوء، ويستحق العقاب عليه ﴿لَهُ﴾؛ أي: لنفسه ﴿مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ سبحانه وتعالى ﴿وَلِيًّا﴾ غير الله يتولى أمره، ويدفع الجزاء عنه، ﴿وَلَا نَصِيرًا﴾ ينصره، وينقذه مما يحل به، لا من الأنبياء الذين تفاخر بهم، ولا
وقرأ الجمهور: ﴿وَلَا يَجِدْ﴾ بالجزم عطفًا على الجزاء، وروى ابن بكار عن ابن عامر: ﴿وَلَا يَجِدْ﴾ بالرفع على الاستئناف.
١٢٤ - ﴿وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ﴾؛ أي: بعضها (١)، حالة كونه ﴿مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى﴾ أو خنثى، ﴿وَهُوَ مُؤْمِنٌ﴾؛ أي: وحالة كونه مؤمنًا، فالحال الأولى لبيان من يعمل، والحال الثانية لإفادة اشتراط الإيمان في كل عمل صالح، ﴿فَأُولَئِكَ﴾ العاملون المتصفون بالإيمان ﴿يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ﴾ جزاءً على عملهم الصالح، ﴿وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا﴾؛ أي: ولا ينقصون من جزاء أعمالهم الصالحة شيئًا قليلًا ولا كثيرًا، ولو قدر نقرة النواة.
ويستفاد من الآية: أن جزاء الأعمال الصالحة في الآخرة، وأما النعم التي يعطاها المؤمن في الدنيا من عافية ورزق وغير ذلك، فليست جزاء لأعماله الصالحة، بل تكفل الله بها لكل حي في الدنيا مسلمًا أو كافرًا، وإذا لم (٢) ينقص ثواب المطيع، فلأن لا يزاد عقاب العاصي أولى وأحرى، كيف لا والمجازي أرحم الراحمين، وهو السر في الاقتصار على ذكره عقيب الثواب.
ومعنى الآية: أي ومن (٣) يعمل كل ما يستطيع عمله من الأعمال التي تصلح بها النفوس، في أخلاقها وآدابها وأحوالها الاجتماعية، سواء كان العامل ذكرًا أو أنثى، وهو مطمئن القلب بالإيمان.. فأولئك العاملون المؤمنون بالله واليوم الآخر يدخلون الجنة، بزكاء أنفسهم وطهارة أرواحهم، ولا يظلمون من أجور أعمالهم شيئًا، ولو حقيرًا كالنقير.
(٢) أبو السعود.
(٣) المراغي.
١٢٥ - وبعد أن بين الله سبحانه وتعالى أن النجاة والسعادة منوطان بصالح الأعمال مع الإيمان.. أردف ذلك بذكر درجات الكمال فقال: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا﴾؛ أي: لا أحد أحسن دينًا وطريقة ﴿مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ﴾؛ أي: نفسه ﴿لِلَّهِ﴾ وعبر بالوجه عن النفس لأنه أشرف الأعضاء؛ أي: ممن عرف ربه بقلبه، وأقر بربوبيته وبعبودية نفسه، وجعل قلبه خالصًا لله وحده، فلا يتوجه إلى غيره في دعاء ولا رجاء، ولا يجعل بينه وبينه حجابًا من الوسطاء والشفعاء، ولا يرى في الوجود إلا هو، ويعتقد أنه سبحانه وتعالى ربط الأسباب بالمسببات، فلا يطلب شيئًا إلا من خزائن رحمته، ولا يأتي بيوت هذه الخزائن إلا من مسالكها، وهي السنن والأسباب التي سنها في الخلائق، ﴿وَهُوَ مُحْسِنٌ﴾؛ أي: والحال أنه آت بالحسنات تارك للسيئات؛ أي: والحال أنه مع هذا الإيمان الكامل والتوحيد الخالص محسن للعمل، مُتَحَلٍّ بأحسن الأخلاق والفضائل.
وقد عبر عن توجه القلب بإسلام الوجه؛ لأن الوجه أعظم مظهر لما في النفس، من إقبال وإعراض وسرور وكآبة، وما فيه هو الذي يدل على ما في السريرة، ﴿وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ﴾ معطوف على أسلم، وقوله: ﴿حَنِيفًا﴾ إما حال من إبراهيم.
والمعنى: أي واتبع ذلك المسلم الذي أسلم وجه لله، إبراهيم الخليل عليه السلام في دينه وملته الحنيفية، حالة كون إبراهيم حنيفًا، ومائلًا عن الوثنية وأهلها، ومتبرئًا مما كان عليه أبوه وقومه، إلى الدين الحق، والصراط المستقيم
قال ابن عباس (١): ومن دين إبراهيم عليه السلام الصلاة إلى الكعبة، والطواف، ومناسك الحج، والختان ونحو ذلك. فإن قلت: ظاهر هذه الآية يقتضي أن شرع محمَّد - ﷺ - هو نفس شرع إبراهيم عليه السلام، وعلى هذا لم يكن لمحمد - ﷺ - شرع يستقل به، وليس الأمر كذلك فما الجواب؟.
قلت: إن شرع إبراهيم وملته داخلان في شرع محمد - ﷺ - وملته، مع زيادات كثيرة حسنة خص الله بها محمدًا - ﷺ -، فمن اتبع ملة محمَّد - ﷺ -.. فقد اتبع ملة إبراهيم؛ لأنها داخلة في ملة محمَّد - ﷺ -، وشرع إبراهيم داخل في شرع محمَّد - ﷺ -، وإنما قال تعالى: ﴿وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ﴾ لأن إبراهيم عليه السلام كان يدعو إلى توحيد الله وعبادته، ولهذا خصه بالذكر؛ لأنه كان مقبولًا عند جميع الأمم، فإنَّ العرب كانوا يفتخرون بالانتساب إليه، وكذا اليهود والنصارى، وإذا ثبت هذا، وأن شرعه كان مقبولًا عند الأمم، وأن شرع محمَّد - ﷺ - وملته هو شرع إبراهيم وملته.. لزم الخلق عمومًا الدخول في دين محمد - ﷺ -، وقبول شرعه وملته.
﴿وَاتَّخَذَ اللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا﴾؛ أي: صفيًّا بالرسالة والنبوة، محبًّا له خالص الحب؛ أي: اصطفاه الله سبحانه وتعالى من أهل أرضه بالنبوة والرسالة، لإقامة دينه، وتوحيده في بلاد غلبت عليها الوثنية، وأفسد الشرك عقول أهلها، وقد بلغ من الزلفى عند ربه ما صح به أن يسمى خليلًا وصفيًّا، فقد اختصه بكرامة ومنزلة تشبه الخليل لدى خليله، ومن كانت له هذه المنزلة كان جديرًا أن تُتبع ملته وتؤتسى طريقته.
وإنما سمي (١) إبراهيم خليلًا لأنه انقطع إلى الله في كل حال، وقيل: لأنه وإلى في الله وعادى في الله، وقيل: لأنه تخلق بأخلاق حسنة وخلال كريمة، وقيل: الخليل المحب الذي ليس في محبته خلل، وسمي إبراهيم خليل الله لأنه أحبه محبة كاملة ليس فيها نقص ولا خلل، وأُنشد في معنى الخلة التي هي بمعنى المحبة:
قَدْ تَخَلَّلْتَ مَسْلَكَ الرُّوْحِ مِنِّيْ | وَبِهِ سُمِّيَ الْخَلِيْلُ خَلِيْلاَ |
١٢٦ - ثم ذكر ما هو كالعلة لما سبق بقوله: ﴿وَلِلَّهِ﴾ سبحانه وتعالى، لا لغيره ﴿مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ ملكًا وخلقًا وعبيدًا؛ أي: إن كل ما في السموات والأرض ملك له ومن خلقه، مهما اختلفت صفات المخلوقات.. فجميعها مملوكة عابدة له، خاضعة لأمره، يصطفي من يشاء منها بما شاء من كرمه وجوده، لا اعتراض عليه ﴿وَكَانَ اللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿بِكُلِّ شَيْءٍ﴾: من أهل السموات والأرض وغيرهما ﴿مُحِيطًا﴾ إحاطة قهر وتسخير، وإحاطة علم وتدبير، وإحاطة وجود؛ لأن هذه الموجودات ليس وجودها من ذاتها، ولا هي ابتدعت نفسها، بل وجودها مستمد من ذلك الوجود الأعلى، فالوجود الإلهي هو المحيط بكل موجود، فوجب أن يخلص له الخلق، ويتوجه إليه العباد، فهذه الجملة مقررة لمعنى الجملة التي قبلها؛ أي: أحاط علمه بكل شيء، لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها.
وقد جاءت هذه الآية خاتمة لما تقدم لفوائد:
ومنها: نفي ما يتوهم في اتخاذ إبراهيم خليلًا من أن هناك شيئًا من المقاربة في حقيقة الذات والصفات.
ومنها: التذكير بقدرته تعالى على إنجاز وعده ووعيده في الآيات التي قبلها، إذ من له ما في السموات وما في الأرض خلقًا وملكًا فهو أكرم من وعد، وفي "الفتوحات": وهذه الجملة مستأنفة، مقررة لوجوب طاعة الله تعالى، وقيل: لبيان أن اتخاذه لإبراهيم خليلًا ليس لاحتياجه إلى ذلك، كما هو شأن الآدميين، وقيل: لبيان أن الخلة لا تخرج إبراهيم عن رتبة العبودية، وقيل: لبيان أن اصطفائه إبراهيم للخلة بمحض مشيئته تعالى اهـ.
فصل
وقد اتخذ الله تعالى محمدًا - ﷺ - خليلًا كما اتخذ إبراهيم خليلًا، فقد ثبت في "الصحيحين" عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي - ﷺ - أنه قال: "لو كنت متخذًا خليلًا غير ربي.. لاتخذت أبا بكر خليلًا".
وعن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي - ﷺ -: "لو كنت متخذًا خليلًا" لاتخذت أبا بكر خليلًا، ولكنه أخي وصاحبي، وقد اتخذ الله صاحبكم خليلًا" أخرجه مسلم، فقد ثبت بهذين الحديثين الخلة للنبي - ﷺ -، وزاد على إبراهيم عليه السلام بالمحبة، فمحمد - ﷺ - خليل الله وحبيبه، فقد جاء في الحديث عن ابن عباس أن النبي - ﷺ - قال:"ألا وأنا حبيب الله ولا فخر" أخرجه الترمذي بأطول منه.
الإعراب
﴿لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (١١٤)﴾.
﴿لَا﴾: نافية عاملة عمل إن، ﴿خَيْرَ﴾: في محل النصب اسمها، {فِي
﴿وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (١١٥)﴾.
﴿وَمَنْ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة أو استئنافية، ﴿من يشاقق الرسول﴾: جازم ومجزوم ومفعول، و ﴿مَنْ﴾: في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط أو الجواب، وفاعله ضمير يعود على ﴿مَنْ﴾، ﴿مِنْ بَعْدِ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿يُشَاقِقِ﴾، ﴿مَا﴾: مصدرية، ﴿تَبَيَّنَ﴾: فعل ماض، ﴿لَهُ﴾: متعلق به، ﴿الْهُدَى﴾: فاعل، والجملة الفعلية صلة ﴿مَا﴾ المصدرية، ﴿مَا﴾ مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بإضافة الظرف إليه، تقديره: من بعد تبين الهدى له، ﴿وَيَتَّبِعْ﴾: معطوف على ﴿يُشَاقِقِ﴾، وفاعله ضمير يعود على ﴿مِنْ﴾، ﴿غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ﴾: مفعول به ومضاف إليه. ﴿نُوَلِّهِ﴾: فعل ومفعول أول، مجزوم بـ ﴿من﴾
﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (١١٦)﴾.
﴿إنَّ الله﴾: ناصب واسمه، ﴿لَا يَغْفِرُ﴾: ناف وفعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على ﴿الله﴾، والجملة في محل الرفع خبر ﴿إنَّ﴾، وجملة ﴿إنَّ﴾ مستأنفة، ﴿أَن﴾: حرف نصب ومصدر، ﴿يشُرَكَ﴾: فعل مضارع مغير الصيغة منصوب بـ ﴿أنْ﴾، ﴿بِهِ﴾: جار ومجرور في محل الرفع نائب فاعل، وجملة ﴿أَن﴾ المصدرية مع صلتها في تأويل مصدر منصوب على المفعولية، تقديره: لا يغفر الإشراك به، ﴿وَيَغفِرُ﴾: فعل مضارع وفاعله ضمير يعود على ﴿الله﴾، والجملة في محل الرفع معطوفة على جملة ﴿لَا يَغْفِرُ﴾، ﴿مَا﴾: موصولة أو موصوفة في محل النصب مفعول به، ﴿دون ذلك﴾: ظرف ومضاف إليه، والظرف صل لـ ﴿ما﴾ أو صفة لها، ﴿لِمَن﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿يَغْفِرُ﴾، ﴿يشاء﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على ﴿الله﴾، ومفعوله محذوف، تقديره: لمن يشاء غفران ذنوبه، والجملة صلة لـ ﴿مَنْ﴾ الموصولة، ﴿وَمَن﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية، ﴿مَنْ﴾: اسم شرط في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط، ﴿يُشرِك﴾: فعل شرط، وفاعله ضمير يعود على ﴿من﴾، ﴿بالله﴾: متعلق به، ﴿فَقَدْ﴾ ﴿الفاء﴾: رابطة لجواب ﴿من﴾ الشرطية وجوبًا، ﴿قد﴾: حرف تحقيق، ﴿ضَلَّ﴾: فعل ماض في محل الجزم بـ ﴿مَنْ﴾ على كونه جواب الشرط، وفاعله ضمير يعود على
﴿إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا (١١٧) لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (١١٨)﴾.
﴿إِنْ﴾: نافية، ﴿يَدْعُونَ﴾: فعل وفاعل، ﴿مِنْ دُونِهِ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿يَدْعُونَ﴾، ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ، ﴿إِنَاثًا﴾: مفعول به، والجملة مستأنفة، ﴿وَإِنْ﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة، ﴿إِنْ﴾: نافية، ﴿يَدْعُونَ﴾: فعل وفاعل، والجملة معطوفة على الجملة التي قبلها، ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ، ﴿شَيْطَانًا﴾: مفعول به، ﴿مَرِيدًا﴾: صفة له. ﴿لَعَنَهُ اللَّهُ﴾: فعل ومفعول وفاعل، والجملة في محل النصب صفة ثانية لـ ﴿شَيْطَانًا﴾، ﴿وَقَالَ﴾: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على الشيطان، والجملة معطوفة على جملة ﴿لَعَنَهُ اللَّهُ﴾، ﴿لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا﴾ إلى قوله: ﴿وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ﴾ مقول محكي لـ ﴿قَالَ﴾ وإن شئت قلت: ﴿لَأَتَّخِذَنَّ﴾ ﴿اللام﴾: موطئة للقسم، ﴿أتَّخِذَنَّ﴾: فعل مضارع في محل الرفع مبني على الفتح، وفاعله ضمير يعود على الشيطان، ﴿مِنْ عِبَادِكَ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿أتَّخِذَنَّ﴾ أو حال من ﴿نَصِيبًا﴾، ﴿نَصِيبًا﴾: مفعول به، ﴿مَفْرُوضًا﴾: صفة له، والجملة الفعلية مع القسم المحذوف في محل النصب مقول القول.
﴿وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا (١١٩)﴾.
﴿وَلَأُضِلَّنَّهُمْ﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة، ﴿اللام﴾: موطئة للقسم، ﴿أضلن﴾: فعل مضارع في محل الرفع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، ونون التوكيد الثقيلة حرف لا محل لها من الإعراب، و ﴿الهاء﴾: مفعول به، وفاعله ضمير يعود على الشيطان، والجملة مع القسم المحذوف في محل النصب معطوفة على
﴿يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (١٢٠)﴾.
﴿يَعِدُهُمْ﴾: فعل ومفعول أول، والمفعول الثاني محذوف، تقديره: يعدهم
﴿أُولَئِكَ مَأوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا (١٢١)﴾.
﴿أُولَئِكَ﴾: مبتدأ أول، ﴿مَأوَاهُمْ﴾: مبتدأ ثان ومضاف إليه، ﴿جَهَنَّمُ﴾: خبر للمبتدأ الثاني، وجملة المبتدأ الثاني خبر للأول، وجملة الأول مستأنفة، ﴿وَلَا﴾ ﴿الواو﴾ عاطفة. ﴿لا﴾: نافية، ﴿يَجِدُونَ﴾: فعل وفاعل، ﴿عَنْهَا﴾: حال من ﴿مَحِيصًا﴾: وهو مفعول به لوجد، والجملة الفعلية في محل الرفع معطوفة على جملة المبتدأ الثاني، على كونها خبرأ للمبتدأ الأول، أو معطوفة على جملة ﴿أُولَئِكَ﴾.
﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا (١٢٢)﴾.
﴿وَالَّذِينَ﴾: مبتدأ، ﴿آمَنُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول ﴿وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾: فعل وفاعل ومفعول معطوف على ﴿آمَنُوا﴾ و ﴿سَنُدْخِلُهُمْ﴾: فعل ومفعول أول، وفاعله ضمير يعود على الله، ﴿جَنَّاتٍ﴾: مفعول ثان، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الإسمية مستأنفة، ﴿تَجْرِي﴾: فعل مضارع، ﴿مِنْ تَحْتِهَا﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿تَجْرِي﴾، ﴿الْأَنْهَارُ﴾: فاعل، والجملة في محل النصب صفة لـ ﴿جَنَّاتٍ﴾، ﴿خَالِدِينَ﴾: حال من هاء ﴿سَنُدْخِلُهُمْ﴾، ﴿فِيهَا﴾: متعلق بـ ﴿خَالِدِينَ﴾، ﴿أَبَدًا﴾: منصوب على الظرفية، متعلق بـ ﴿خَالِدِينَ﴾، ﴿وَعْدَ اللَّهِ﴾: مصدر مؤكد لمضمون جملة قوله: ﴿سَنُدْخِلُهُمْ﴾ منصوب بفعل محذوف، تقديره: وعدهم الله ذلك الإدخال وعدًا؛ لأن قوله:
﴿لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (١٢٣)﴾.
﴿لَيْسَ﴾: فعل ماض ناقض، واسمه ضمير يعود على المفهوم من المقام، تقديره: ليس الأمر من الثواب والفضل، ﴿بِأَمَانِيِّكُمْ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بمحذوف، تقديره: ليس الأمر منوطا بأمانيكم، وجملة ﴿لَيْسَ﴾ مستأنفة، ﴿وَلَا أَمَانِيِّ﴾: معطوف على ﴿أمانيكم﴾ وهو مضاف، ﴿أَهْلِ الْكِتَابِ﴾: مضاف إليه، ﴿مَنْ﴾ اسم شرط في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط، ﴿يَعْمَلْ﴾: فعل شرط مجزوم بـ ﴿مَنْ﴾ وفاعله ضمير يعود على ﴿مَنْ﴾، ﴿سُوءًا﴾: مفعول به، ﴿يُجْزَ﴾: فعل مضارع مغير الصيغة مجزوم بـ ﴿مَنْ﴾ على كونه جواب الشرط، ونائب فاعله ضمير يعود على ﴿مَنْ﴾، ﴿بِهِ﴾: جار ومجرور متعلق به، وجملة ﴿مَنْ﴾ الشرطية مستأنفة، ﴿وَلَا يَجِدْ﴾: معطوف على ﴿يُجْزَ﴾ مجزوم بـ ﴿مَنْ﴾، وفاعله ضمير يعود على ﴿مَنْ﴾، ﴿لَهُ﴾: متعلق به، ﴿مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بمحذوف حال من ﴿وَلِيًّا﴾ لأنه صفة نكرة قدمت عليها، ﴿وَلِيًّا﴾: مفعول ﴿يَجِدْ﴾، ﴿وَلَا نَصِيرًا﴾: معطوف عليه.
﴿وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا (١٢٤)﴾.
﴿وَمَنْ﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة، ﴿من﴾: اسم شرط في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط، ﴿يَعْمَلْ﴾: فعل مضارع مجزوم بـ ﴿مَنْ﴾، ﴿مِنَ الصَّالِحَاتِ﴾: متعلق به، ﴿مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى﴾: جار ومجرور حال من فاعل ﴿يَعْمَلْ﴾، ﴿وَهُوَ مُؤْمِنٌ﴾: مبتدأ وخبر، والجملة حال أيضًا من فاعل ﴿يَعْمَلْ﴾، ﴿فَأُولَئِكَ﴾
﴿وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا (١٢٥)﴾.
﴿وَمَنْ أَحْسَنُ﴾: مبتدأ وخبر، ﴿دِينًا﴾: تمييز محول عن المبتدأ، والجملة مستأنفة، ﴿مِمَّنْ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿أَحْسَنُ﴾ ﴿أَسْلَمَ وَجْهَهُ﴾: فعل ومفعول، ومضاف إليه، وفاعله ضمير يعود على ﴿من﴾ والجملة صلة الموصول، ﴿لِلَّهِ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿أَسْلَمَ﴾، ﴿وَهُوَ مُحْسِنٌ﴾: مبتدأ وخبر، والجملة حال من فاعل ﴿أَسْلَمَ﴾، ﴿وَاتَّبَعَ﴾ معطوف على ﴿أَسْلَمَ﴾، وفاعله ضمير يعود على ﴿من﴾، ﴿مِلَّةَ﴾: مفعول به، وهو مضاف، ﴿إِبْرَاهِيمَ﴾: مضاف إليه، ﴿حَنِيفًا﴾: حال من فاعل ﴿اتبع﴾، أو حال من إبراهيم المضاف إليه لوجود شرطه، كما قال ابن مالك:
وَلَا تُجِزْ حَالًا مِنَ الْمُضَافِ لَهْ | إِلَّا إِذَا اقْتَضَى الْمُضَافُ عَمَلَهْ |
أَوْ كَانَ جُزْءَ مَالَهُ أُضِيْفَا | أَوْ مِثْلَ جُزْئِهِ فَلا تَحِيْفَا |
﴿وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا (١٢٦)﴾.
﴿وَلِلَّهِ﴾: جار ومجرور خبر مقدم، ﴿مَا﴾: اسم موصول في محل الرفع مبتدأ مؤخر، ﴿فِي السَّمَاوَاتِ﴾: جار ومجرور صلة ﴿مَا﴾ الموصولة، والجملة
التصريف ومفردات اللغة
﴿لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ﴾: النجوى (١) مصدر كالدعوى، يقال نجوت الرجل أنجوه نجوى، من باب دعا، إذا ناجيته، قال الواحدي: ولا تكون النجوى إلا بين اثنين، وقال الزجاج: النجوى ما انفرد به الجماعة، أو الاثنان سرًّا كان أو ظاهرًا انتهى. وقال ابن عطية: النجوى المسارة بالحديث، وتطلق النجوى على القوم المتناجين؛ أي: المتسارين، وهو من باب قوم عدل وصف بالمصدر، وقال الكرماني: النجوى جمع نجي، كقوله تعالى: ﴿وَإِذْ هُمْ نَجْوَى﴾، ﴿أَوْ مَعْرُوفٍ﴾ المعروف هو ما تعرفه النفوس وتقره، وتتلقاه بالقبول. ﴿ابْتِغَاءَ﴾ مصدر ابتغى الخماسي من باب افتعل، ثلاثية بغى - من باب رمى - يبغى بغاء، بضم أوله، وبغيًا وبغية إذا طلب الشيء، ﴿مَرْضَاتِ﴾ مصدر ميمي بمعنى الرضوان؛ لأنه على وزن مفعلة، فأصله مرضوة فألفه بدل من الواو، ﴿وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ﴾ شاقق من باب فاعل، والمشاقة المعاداة والمخالفة، مأخوذة من الشق، كأن كل واحد من المتعاديين يكون في شق غير الذي فيه الآخر، وإنما جاز إظهار القاف الأولى هنا؛ لأن الثانية سكنت بالجزم، وحركتها عارضة لالتقاء الساكنين. ﴿مَرِيدًا﴾ المَريدُ العاتي المتمرد، من مَرُدَ - من باب ظرف - إذا عتا وتجبر، والمرِّيد - بوزن السكِّيت - الشديد المرادة والعتو، قال الأزهري: يقال مرد الرجل إذا عتا وخرج عن الطاعة، فهو مارد ومريد، ويقال مرد الرجل إذا عتا وعلا في الحذاقة وتجرد للشر والغواية، قال ابن عيسى: وأصله التملس يقال شجرة مرداء؛ أي: ملساء تناثر ورقها، وغلام أمرد لا نبات بوجهه، وصرح ممرد مملس، لا يعلق به شيء لملاسته، والمارد الذي لا يعلق بشيء من الفضائل.
حَتَى إِذَا مَا هَوَتْ كَفُّ الْوَلِيْدِ لَهَا | طَارَتْ وَفِيْ كَفِّهِ مِنْ رِيْشِهَا بِتَكُ |
وَلَمْ نَدْرِ أَنَّ حِصْنًا مِنَ الْمَوْتِ حِيْصَةٌ | كَمِ الْعُمْرُ بَاقٍ وَالْمَدَا مُتَطَاوِلُ |
تَحِيْص مِنْ حُكْمِ الْمَنِيَّةِ جَاهِدًا | مَا لِلرِّجَالِ عَنِ الْمَنُوْنِ مَحَاصُ |
﴿لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ﴾ الأماني واحدها أمنية، وهي الصورة التي تحصل في النفس من تمني الشيء وتقديره، وكثيرًا ما يطلق التمني على ما لا حقيقة له، ومن ثم يعبرون به عن الكذب، كما قال عثمان رضي الله عنه: ما تغنيت ولا تمنيت منذ أسلمت، ﴿حَنِيفًا﴾ الحنيف فعيل بمعنى فاعل، فالحنيف المائل عن الزيغ والضلال إلى الحق والعدل. ﴿خَلِيلًا﴾ الخليل فعيل من الخلة بفتح الخاء، وهي الفقر والفاقة؛ لأنه جعل فقره وحاجته إلى الله، أو من الخلة بضم الخاء وهي المودة والمحبة التي تتخلل النفس وتمازجها، أو من الخَلَل، قال ثعلب: إنما
قَدْ تَخَلَّلْتَ مَسْلَكَ الرُّوْحِ مِنِّيْ | وَبِهِ سُمِّيَ الْخَلِيْلُ خَلِيْلَا |
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات أنواعًا من الفصاحة والبلاغة والبيان والبديع (١):
منها: التجنيس المغاير في قوله: ﴿فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا﴾، وفي قوله: ﴿فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا﴾، وفي قوله: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ﴾ و ﴿وَهُوَ مُحْسِنٌ﴾.
ومنها: التكرار في قوله: ﴿لَا يَغْفِرُ﴾ و ﴿يَغْفِرُ﴾، وفي قوله: ﴿يُشْرِكْ﴾ ﴿وَمَنْ يُشْرِكْ﴾، وفي ﴿لآمرنهم﴾، وفي: اسم الشيطان، وفي قوله: ﴿يَعِدُهُمُ﴾ و ﴿ما يعدهم﴾، وفي الجلالة، في مواضع، وفي قوله: ﴿بِأَمَانِيِّكُمْ﴾ ﴿وَلَا أَمَانِيِّ﴾، وفي قوله: ﴿مَنْ يَعْمَلْ﴾، وفي ﴿إِبْرَاهِيمَ﴾.
ومنها: الطباق المعنوي في قوله: ﴿وَمَنْ يُشَاقِقِ﴾، و ﴿الْهُدَى﴾، وفي قوله: ﴿أَنْ يُشْرَكَ بِهِ﴾، و ﴿لِمَنْ يَشَاءُ﴾ يعني المؤمن، وفي قوله: ﴿سُوءًا﴾ و ﴿الصَّالِحَاتِ﴾.
ومنها: الاختصاص في قوله: ﴿بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ﴾ وفي قوله: ﴿وَهُوَ مُؤْمِنٌ﴾ و ﴿مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ﴾ وفي قوله: ﴿مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾.
ومنها: التأكيد بالمصدر في قوله: ﴿وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا﴾.
ومنها: الاستعارة في قوله: ﴿وَجْهَهُ لِلَّهِ﴾، عبر به عن القصد أو الجهة، وفي قوله: ﴿مُحِيطًا﴾ عبر به عن العلم بالشيء، من جميع جهاته.
ومنها: الإظهار في مقام الإضمار في قوله: ﴿وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا﴾ لتفخيم شأنه، والتنصيص على أنه متفق على مدحه.
ومنها: الحذف في مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
﴿وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا (١٢٧) وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (١٢٨) وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (١٢٩) وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا (١٣٠) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا (١٣١) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (١٣٢) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا (١٣٣) مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (١٣٤) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (١٣٥) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (١٣٦)﴾.
المناسبة
قوله: ﴿وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ...﴾ الآيات، مناسبتها لما قبلها ظاهرة بالنظر (١) إلى ما كانت عليه العرب من تربيع كلامها، أنها تكون في أمر ثم تخرج منه إلى شيء، ثم تعود إلى ما كانت فيه أولًا، وهكذا كتاب الله سبحانه وتعالى، يبين فيه أحكام تكليفه، ثم يعقب بالوعد والوعيد، والترغيب والترهيب، ثم يعقب
وعبارة المراغي هنا: لما كان الكلام (١) أول السورة في الأحكام المتعلقة بالنساء واليتامى والقرابة، ومن قوله: ﴿وَاعْبُدُوا اللَّهَ﴾ إلى هنا في أحكام عامة في أسس الدين وأصوله، وأحوال أهل الكتاب والمنافقين والقتال.. عاد الكلام هنا إلى أحكام النساء، لشعور الناس بالحاجة إلى زيادة البيان في تلك الأحكام، فالآيات السالفة أوجبت مراعاة حقوق الضعيفين المرأة واليتيم، وجعلت للنساء حقوقًا مؤكدة في المهر والإرث، وحرمت ظلمهن، وأباحت تعدد الزوجات، وحددت العدد الذي يحل منهن حين عدم الخوف من الظلم، ولكن ربما يحدث لهم الاشتباه في بعض الوقائع المتعلقة بها، كأن يقع الاشتباه في حقيقة العدل الواجب بين النساء، هل يدخل العدل في الحب أو في لوازمه من زيادة الإقبال على المحبوبة، والتبسط في الاستمتاع بها، أو لا؟ وهل يحل للرجل أن يمنع اليتيمة ما كتب الله لها من الإرث حين يرغب في نكاحها؟ وبماذا يصالح امرأته إذا أرادت أن تفتدي منه؟ كل هذا مما تشتد الحاجة إلى معرفته بعد العمل بتلك الأحكام، فمن ثم جاءت هذه الآيات مبينة أتم البيان لذلك.
قوله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه (٢) وتعالى لما أمر أولًا بالعدل والإحسان إلى اليتامى والمساكين.. بين هنا أنه ما أمر بهذه الأشياء لاحتياجه إلى أعمال العباد؛ لأن كل ما في السموات والأرض
(٢) المراغي.
قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ...﴾ مناسبتها لما قبلها: أنه تعالى لما ذكر النساء والنشوز والمصالحة.. أعقبه بالقيام بأداء حقوق الله تعالى، وفي الشهادة حقوق لله، أو لأنه لما ذكر تعالى طالب الدنيا، وأنه عنده ثواب الدنيا والآخرة.. بين أن كمال السعادة أن يكون قول الإنسان وفعله لله تعالى، أو لأنه ذكر في هذه السورة: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى﴾ والإشهاد عند دفع أموال اليتامى إليهم، وأمر ببذل النفس والمال في سبيل الله، وذكر قصة بن أبيرق، واجتماع قومه على الكذب والشهادة بالباطل، وندب للمصالحة.. أعقب ذلك بأن أمر عباده المؤمنين بالقيام بالعدل والشهادة لوجه الله سبحانه وتعالى، وأتى بصيغة المبالغة في ﴿قَوَّامِينَ﴾ حتى لا يكون منهم جور ما.
وقيل: المناسبة أن الله سبحانه وتعالى لما أمر (١) بالقسط في اليتامى والنساء، في سياق الاستفتاء فيهن؛ لأن حقهن آكد، وضعفهن معهود.. عمم الأمر هنا بالقسط بين الناس؛ لأن قوام أمور الاجتماع لا يكون إلا بالعدل، وحفظ النظام لا يتم إلا به، وبما فيه من الشهادة لله بالحق، ولو على النفس والوالدين والأقربين، وعدم محاباة أحد لغناه أو لفقره؛ لأن العدل مقدم على حقوق النفس وحقوق القرابة وغيرها، وقد كانت سنة الجاهلية محاباة ذوي القربى؛ لأنه يعتز بهم، كما كانوا يظلمون النساء واليتامى لضعفهن وعدم الاعتزاز بهن.
قوله تعالي: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ...﴾ الآية، مناسبتها لما قبلها (٢): أنه تعالى لما أمر المؤمنين بالقيام بالقسط والشهادة لله.. بين أنه لا يتصف بذلك إلا من كان راسخ القدم في الإيمان بالأشياء المذكورة في هذه الآية، فأمر بها.
(٢) البحر المحيط.
قوله تعالى: ﴿وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ...﴾ الآية، سبب نزولها: ما أخرجه البخاري عن عائشة رضي الله عنها في هذه الآية، قالت (١): هو الرجل تكون عنده اليتيمة هو وليها ووارثها، قد شركته في مالها حتى في المذق، فيرغب أن ينكحها، ويكره أن يزوجها رجلًا فيشركه في مالها، فيعضلها، فنزلت هذه الآية.
وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي: كان لجابر بنت عم دميمة، ولها مال ورثته عن أبيها، وكان جابر يرغب عن نكاحها، ولا يُنكِحها خشية أن يذهب الزوج بمالها، فسأل النبي - ﷺ - عن ذلك، فنزلت هذه.
قوله تعالى: ﴿وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا...﴾ الآية، سبب نزولها: ما أخرجه البخاري (ج ٩/ ص ٣٣٤) عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها: ﴿وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا﴾ قالت: الرجل تكون عنده المرأة ليس بمستكثر منها، يريد أن يفارقها، فتقول: أجعلك من شأني في حل، فنزلت هذه الآية في ذلك. الحديث رواه مسلم (ج ٨/ ص ١٥٧).
وقد أخرج أبو داود والترمذي والطيالسي، والحاكم وصححه، وأقره الذهبي وابن جرير: أنها نزلت في شأن سودة، أخرجه الترمذي والطيالسي وابن جرير من حديث ابن عباس، وأخرجه أبو داود والحاكم وابن جرير أيضًا من حديث عائشة، ولفظ أبي داود: قالت عائشة لعروة: يا ابن أختي كان رسول الله - ﷺ - لا يفضل بعضنا على بعض في القسم من مكثه عندنا، وكان كل يوم إلا وهو يطوف علينا جميعًا، فيدنو من كل امرأة من غير مسيس، حتى يبلغ إلى التي هو يومها فيبيت عندها، ولقد قالت سودة بنت زمعة حين أسنت وفرقت أن يفارقها رسول الله - ﷺ -: يا رسول الله يومي لعائشة، فقبل رسول الله - ﷺ - ذلك منها، قالت: تقول في ذلك أنزل الله عَزَّ وَجَلَّ وفي أشباهها، أراه قال: ﴿وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا﴾.
وأخرج الحاكم (١) عن عائشة قال: نزلت هذه الآية: ﴿وَالصُّلْحُ خَيْرٌ﴾ في رجل كانت تحته امرأة قد ولدت له أولادًا، فأراد أن يستبدل بها، فراضته على أن تقر عنده ولا يقسم لها.
وأخرج ابن جرير عن سعيد بن جبير قال: جاءت امرأة حين نزلت هذه الآية: ﴿وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا...﴾ قالت: إني أريد أن تقسم لي من نفقتك، وقد كانت رضيت أن يدعها فلا يطلقها ولا يأتيها، فأنزل الله: ﴿وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ﴾.
قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ...﴾ الآية، سبب نزولها: ما أخرجه (٢) ابن أبي حاتم عن السدي قال: نزلت هذه الآية على النبي - ﷺ - حين اختصم إليه رجلان غني وفقير، وكان النبي - ﷺ - مع الفقير يرى أن الفقير لا يظلم الغني، فأبى الله إلا أن يقوم بالقسط في الغني والفقير.
التفسير وأوجه القراءة
١٢٧ - ﴿وَيَسْتَفْتُونَكَ﴾؛ أي: يستخبرك ويسألك يا محمد جماعة من الصحابة ما أشكل عليهم ﴿فِي﴾ شؤون ﴿النِّسَاءِ﴾ وحقوقهن، ويطلبونك ببيان ما غمض وخفي عليهم من أحكامهن، من جهة حقوقهن المالية والزوجية، كالعدل في المعاشرة
(٢) لباب النقول.
والخلاصة: أن الذي يتلى في الضعيفين - المرأة واليتيم - هو ما تقدم في أول السورة، وأن الله يذكرهم بتلك الآيات المفصلة ليتدبروها ويتأملوا معانيها، ثم يعملوا بها، إذ قد جرت طباع البشر أن يتغافلوا عن دقائق الأحكام والعظات التي ترجعهم عن أهوائهم، وتؤنبهم على اتباع شهواتهم.
واعلم: أن المفهوم من الآية كون المفتي اثنين:
أحدهما: الله سبحانه وتعالى، يفتي ويبين بما يوحي إلى رسوله - ﷺ - من الأحاديث الواردة في حقوق النساء واليتامى وشؤونهن، وبما سيأتي من الآيات الكريمة، كالآية التالية لهذه الآية من قوله: ﴿وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا﴾، وغيرها من الآيات المتعلقة بشؤون النساء.
والثاني: الكتاب يفتي ويبين بما يتلى منه في أول هذه السورة من الآيات النازلة في شؤونهن، والله أعلم بمعنى كتابه، فتأمل، وفيه مزيد اعتناء بتلك الفتوى.
ثم رغبهم في العمل بما فيه فائدة لليتامى، وحبب إليهم النصفة فقال تعالى: ﴿وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ﴾؛ أي: وما تفعلوا من الخير أو الشر ففيه اكتفاء لليتامى، ﴿فَإِنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿كَانَ بِهِ﴾؛ أي: بذلك الخير المفعول ﴿عَلِيمًا﴾ لا يعزب عن علمه شيء، ولا يضيع عنده شيء، فيجازيكم عليه، وهذا وعد لمن آثر الخير لهم.
ولكن الواجب عليها أن تتثبت فيما تراه من أمارات الإعراض، فربما كان الذي شغله من مسامرتها والرغبة في مباعلتها عوارض من مشاكل الحياة الدنيوية أو الدينية، وهي أسباب خارجية لا دخل لها فيها، ولا تعلق لها بكراهتها والجفوة عنها، وحينئذ عليها أن تعذره وتصبر على ما لا تحب من ذلك، أما إذا استبان لها أن ذلك لكراهته إياها ورغبته عنها ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا﴾؛ أي: فلا حرج ولا إثم على الزوج والمرأة حنيئذ في ﴿أَنْ يُصْلِحَا﴾ ويتوافقا فيما ﴿بَيْنَهُمَا﴾ ويفعلا ﴿صُلْحًا﴾؛ أي: أمرًا فيه صلاح وموافقة لهما عليه، كأن تسمح له ببعض حقها عليه في النفقة، أو المبيت معها، أو بحقها كله فيهما، أو في أحدهما لتبقى في عصمته مكرمة، أو تسمح له ببعض المهر ومتعة الطلاق، أو بكل ذلك ليطلقها كما جاء في قوله تعالى: ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ﴾ وإنما يحل له ذلك إذا كان برضاها، لاعتقادها أن الخير لها في ذلك؛ بلا ظلم ولا إهانة.
وقد روي أن امرأة أراد زوجها أن يطلقها لرغبته عنها، وكان لها منه ولد، فقالت له: لا تطلقني ودعني أقوم على ولدي وتقسم لي في كل شهرين، فقال: إن كان هذا يصلح فهو أحب إلى، فأقرها على ما طلبت بعد ما أتى رسول الله - ﷺ - فسأله عن ذلك، وأنزلت الآية فيه.
وهذا من جملة ما أخبر الله تعالى أنه يفتيهم به في النساء، مما لم يتقدم ذكره في هذه السورة، وقرأ الكوفيون (١): ﴿يُصْلِحَا﴾ من أصلح الرباعي على وزن
وأجمل ما جاء في الإِسلام لمنع الخلاف بين الزوجين هو المساواة بينهما في كل شيء، إلا القيام برياسة الأسرة، لأنه أقوى من المرأة بدنًا وعقلًا، وأقدر على الكسب، وعليه النفقة كما جاء في قوله تعالى: ﴿وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ﴾ فيجب على الرجل أن يعاشرها بالمعروف، وأن يتحرى العدل بقدر المستطاع، ﴿وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ﴾؛ أي: جعلت الأنفس عرضة وهدفًا للشح والبخل، وجعل الشح حاضرًا لها لا يغيب عنها، ولا ينفك عنها أبدًا، والفعل فيه مبني للمفعول، والمعنى: أحضر الله الأنفس الشح؛ أي: جبلها عليه، فمتى تعلقت الأنفس بشيء منه.. فلا ترجع عنه إلا بمشقة، يعني: أن أنفسهما بل أنفس كل إنسان طبعت وجبلت على البخل بما يلزمها، أو بما يحسن فعله من الخيرات، فإذا عرض لها داع من دواعي البذل.. ألم بها الشح والبخل، ونهاها أن تبذل ما ينبغي بذله لأجل الصلح، فالنساء حريصات على حقوقهن في القسم والنفقة وحسن العشرة، والرجال حريصون على أموالهم أيضًا، فينبغي أن يكون التسامح بينهما كاملًا؛ إذ هما قد ارتبطا ارتباطًا وثيقًا بذلك الميثاق العظيم، وأفضى بعضهما إلى بعض،
ثم رغب في بقاء الرابطة الزوجية جهد المستطاع، فقال: ﴿وَإِنْ تُحْسِنُوا﴾ أيها الأزواج العشرة مع نسائكم، وإن كرهتموهن، بأن تسووا بين الشابة والعجوز في القسم والنفقة، ﴿وَتَتَّقُوا﴾ ما يؤدي إلى الأذى والخصومة من الجور والميل، وتجتنبوا أسباب النشوز والإعراض، وما يترتب عليهما من الشقاق.. ﴿فَإِنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه يجازيكم على ذلك الإحسان والتقوى، ويثيبكم عليهما، لأنه تعالى: ﴿كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ من الإحسان وغيره ﴿خَبِيرًا﴾؛ أي: عالمًا لا يخفى عليه شيء منه، فيجازيكم عليه الجزاء الأوفى، وكان عمران بن حطان الخارجي من أُدم الناس، وامرأته من أجملهن، فأجالت في وجهه نظرها، ثم تابعت الحمد لله، فقال: ما لَكِ؟ فقالت: حمدت الله على أني وإياك من أهل الجنة، قال: كيف؟ قالت: لأنك رزقت مثلي فشكرت، ورزقت مثلك فصبرت، وقد وعد الله الجنة الشاكرين والصابرين.
١٢٩ - ثم بين أن العدل بين النساء في الميل القلبي في حكم المستحيل، فعلى الرجل أن يفعل جهد المستطاع، فقال: ﴿وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا﴾؛ أي: ولن تقدروا أيها الأزواج على ﴿أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ﴾؛ أي: على العدل والتسوية بين الزوجات في الحب وميل القلب، ﴿وَلَوْ حَرَصْتُمْ﴾ وجهدتم وتحريتم وبالغتم، وكلفتم أنفسكم على التسوية بينهن في الحب والميل القلبي، حتى لا يقع ميل إلى إحداها بلا زيادة ولا نقص، ولو قدرتم لما قدرتم على إرضائها به، ومن ثم رفع الله ذلك عنكم، وما كلفكم إلا العدل فيما تستطيعون، بشرط أن تبذلوا فيه وسعكم، لأن الباعث على الكثير من هذا الميل هو الوجدان النفسي والميل القلبي الذي لا يملكه المرء، ولا يحيط به اختياره، ولا يملك آثاره الطبيعية، ولهذا خفف الله ذلك عنكم، وبين أن العدل الكامل غير مستطاع، ولا يتعلق به تكليف ﴿فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ﴾؛ أي: وإذا كان ذلك غير مستطاع لكم، فعليكم أن لا تميلوا كل الميل إلى من تحبون منهن في القسم والنفقة، وتعرضوا عن الأخرى ﴿فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ﴾؛ أي: فتتركوا التي أعرضتم عنها فتجعلوها كأنها ليست
والمعنى (١): أنكم لستم منهيين عن حصول التفاوت في الميل القلبي؛ لأن ذلك خارج عن قدرتكم ووسعكم، ولكنكم منهيون عن إظهار ذلك الميل في القول والفعل.
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - ﷺ - قال: "من كانت له امرأتان فلم يعدل بينهما.. جاء يوم القيامة وشقه ساقط" أخرجه الترمذي.
وعند أبي داود: "من كانت له امرأتان فمال إلى إحداهما.. جاء يوم القيامة وشقه مائل".
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله - ﷺ - يقسم فيعدل، فيقول: "اللهم هذا قسمي فيما أملك، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك"، يعني: القلب، أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي.
وقرأ أبي (٢): ﴿فتذروها كالمسجونة﴾، وقرأ عبد الله: ﴿فتذروها كأنها معلقة﴾. ﴿وَإِنْ تُصْلِحُوا﴾ في معاملة النساء ﴿وَتَتَّقُوا﴾ ظلمهن، وتفضيل بعضهن على بعض، فيما يدخل في اختياركم كالقسم والنفقة ﴿فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا﴾؛ أي: فإن الله تعالى يغفر لكم ما دون ذلك، مما لا يدخل في اختياركم كالحب وزيادة الإقبال وغير ذلك، أو المعنى: ﴿وَإِنْ تُصْلِحُوا﴾ ما مضى من ميلكم، وتتداركوه بالتوبة ﴿وَتَتَّقُوا﴾ في المستقبل عن مثله.. غفر الله لكم ذلك، ﴿فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ فيغفر ما حصل في القلب من الميل إلى بعضهن دون البعض، ويتفضل عليكم برحمته.
(٢) البحر المحيط.
١٣٠ - ثم بين الله سبحانه وتعالى أن الفراق قد يكون فيه الخير إذا لم يمكن الوفاق، فقال: ﴿وَإِنْ يَتَفَرَّقَا﴾؛ أي: وإن يتفرق الزوجان اللذان يخافان أن لا يقيما حدود الله، بأن كره الرجل امرأته لدمامتها أو كبرها، وأراد أن يتزوج غيرها، أو كان عنده زوجتان ولم يقدر على العدل بينهما.. ﴿يُغْنِ اللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿كُلًّا﴾ منهما عن صاحبه ﴿مِنْ سَعَتِهِ﴾؛ أي: بسعة فضله، ووافر إحسانه وجوده، فقد يسخر للمرأة رجلًا خيرًا منه، كما يهيء له امرأة أخرى، تحصنه وترضيه وتقوم بشؤون بيته وأولاده، ويكون عيشه أهنأ من عيشه الأول بفضله تعالى، ولن يكون كل منهما جديرًا بعناية الله تعالى وإغنائه عن الآخر إلا إذا التزما حدود الله، بأن اجتهدا في الوفاق والصلح، وظهر لهما بعد التفكير والتروي في الأسباب أنه غير مستطاع، فافترقا وهما حافظان لكرامتهما عما يجعلهما عرضة للنقد ونهش العرض، فإن ذلك مما يرغب الناس فيهما، لما يرونه فيهما من الأخلاق الفاضلة وعدم التلاحي والتنابذ والتهاجي واختلاق الأكاذيب، فالرجل ذو الخلق الكريم إذا علم أن امرأة اختلفت مع بعلها لأنها لم تقبل أن تعيش مع من يعرض عنها، أو يترفع عليها، بل أحبت أن تعيش معه بطريق عادلة.. رأى فيها أفضل صفات الزوجية، وكذلك كرائم النساء وأولياؤهن يرغبون في الرجل إذا علموا أنه يمسك المرأة بمعروف، أو يسرحها بإحسان، ولا
فصل فيما يتعلق بهذه الآيات من الأحكام
واعلم أن الرجل إذا كان تحته امرأتان فأكثر يجب عليه التسوية بينهن في القسم، فإن ترك التسوية بينهن في فعل القسم.. عصى الله عَزَّ وَجَلَّ في ذلك، وعليه القضاء للمظلومة، والتسوية في البيتوتة واجب، أما في الجماع فلا، لأن ذلك يدور على النشاط وميل القلب، وليس ذلك إليه، ولو كان في نكاحه حرة وأمة.. قسم للحرة ليلتين وللأمة ليلة واحدة.
وإذا تزوج جديدة على قديمات كن عنده.. فإنه يخص الجديدة بأن يبيت عندها سبع ليال، إن كانت الجديدة بكرًا، وإن كانت ثيبًا.. خصها بثلاث ليال، ثم إنه يستأنف القسم بينها وبينهن، ويسوي بينهن كلهن، ولا يجب عليه قضاء عوض هذه الليالي للقديمات، ويدل على ذلك ما روى أبو قلابة عن أنس رضي الله عنه قال: من السنة إذا تزوج البكر على الثيب أقام عندها سبعًا وقسم، وإذا تزوج الثيب أقام عندها ثلاثًا وقسم، قال أبو قلابة: ولو شئت لقلت: إن أنسًا رفعه إلى النبي - ﷺ -، أخرجاه في "الصحيحين".
وإذا سافر الرجل إلى سفر حاجة جاز له أن يحمل معه بعض أزواجه، بشرط أن يقرع بينهن، ولا يجب عليه أن يقضي للباقيات عوض مدة سفره وإن طالت إذا لم يزد مقامه في البلد على مدة المسافرين، ويدل على ذلك ما روي عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله - ﷺ - إذا أراد سفرًا أقرع بين نسائه، فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه. أخرجه البخاري مع زيادة فيه. وإذا أراد الرجل سفر نُقلَةٍ.. وجب عليه أخذ نسائه معه.
١٣١ - ﴿وَلِلَّهِ﴾ سبحانه وتعالى: ﴿مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾؛ أي: له جميع ما فيهما من المخلوقات خلقًا وعبودية وملكًا، فهو مدبر الأكوان، فلا يتعذر عليه
وفائدة (١) هذا التكرير التأكيد، ليتنبه العباد على سعة ملكه وينظروا في ذلك، ويعلموا أنه غني عن خلقه، ثم زاد ما سلف توكيدًا فقال: ﴿وَكَانَ اللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿غَنِيًّا﴾ عن خلقه، وعن عباداتهم، فلا يزداد جلاله بالطاعات، ولا ينقص بالمعاصي والسيئات، ﴿حَمِيدًا﴾ في ذاته وصفاته وأفعاله؛ أي: مستحقًا لأن يحمد لكثرة نعمه، وإن لم يحمده أحد منكم فهو لا يحتاج إلى شكركم، لتكميل نفسه: ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ﴾. وفي الحديث القدسي: "يا عبادي، إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم.. ما زاد ذلك في ملكي شيئًا، يا عبادي: لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم.. ما نقص ذلك في ملكي شيئًا، يا عبادي: لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد، فسألوني فأعطيت كل واحد مسألته.. ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل في
١٣٢ - ثم أعاد ما سلف لزيادة التوكيد فقال: ﴿وَلِلَّهِ﴾ سبحانه وتعالى، لا لغيره ﴿مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ خلقًا وملكًا، يتصرف فيهما كيفما شاء، إيجادًا وإعدامًا وإحياء وإماتة ﴿وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا﴾؛ أي: وكفى به سبحانه وتعالى قيمًا وكفيلًا يوكل به، ويفوض إليه أمر العباد في أرزاقهم وأقواتهم وسائر شؤونهم،
١٣٣ - ﴿إِنْ يَشَأ﴾؛ أي: إن يرد الله سبحانه وتعالى إعدامكم واستئصالكم.. ﴿يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ﴾؛ أي: يستأصلكم ويعدمكم بالمرة أيها المشركون من الأرض ﴿وَيَأتِ بِآخَرِينَ﴾؛ أي: ويوجد قومًا آخرين من الإنس، أو من غيره، موحدين له، يحلون محلكم في الحكم والتصرف، فهو قادر على ذلك؛ لأن كل ما في السموات والأرض فهو تحت قبضته وخاضع لسلطانه.
والمعنى: إن يشاء إفناءكم بالكلية وإيجاد قوم آخرين يشتغلون بعبوديته وتعظيمه يفنكم بالمرة ويوجد مكانكم قومًا خيرًا منكم وأطوع لله تعالى.
والخلاصة: أن إبقاءكم على ما أنتم عليه من العصيان إنما هو لكمال غناه عن طاعتكم، ولأن مشيئته لم تتعلق بهذا الإفناء لحكم ومصالح أرادها سبحانه، لا لعجز عن ذلك تعالى الله علوًّا كبيرًا.
وفي هذه الآيات تهديد للمشركين الذين كانوا يؤذون النبي - ﷺ - ويقاومون دعوته، وتنبيه للناس إلى التأمل في سنن الله تعالى التي جرت في حياة الأمم وموتها، وإن هذه السنن إذا تعلقت بها المشيئة.. وقعت لا محالة. ﴿وَكَانَ اللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿عَلَى ذَلِكَ﴾؛ أي: على إهلاككم وإذهابكم من الأرض وإخلاف غيركم مكانكم ﴿قَدِيرًا﴾؛ أي: قادرًا إذ بيده ملكوت كل شيء، لكنه لحكم يعلمها لم تتعلق إرادته بذلك،
١٣٤ - ﴿مَنْ كَانَ﴾ منكم أيها الناس ﴿يُرِيدُ﴾ ويقصد بسعيه وجهاده في حياته ﴿ثَوَابَ الدُّنْيَا﴾ ونعيمها ومتاعها بالمال والجاه ونحوهما، فلا يقتصر عليه، وليطلب الثوابين من الله تعالى ﴿فَعِنْدَ اللَّهِ﴾ سبحانه وتعالى ﴿ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ﴾؛ أي: بيده ثوابهما، فلا يضيع نفسه بالاقتصار على الثواب
والمعنى: فعند الله تعالى ثواب الدارين جميعًا، بما أعطاكم من العقل والشعور وهداية الحواس، فعليكم أن تطلبوهما معًا، ولا تكتفوا بما هو أدناهما وهو ما يفنى، وتتركوا أعلاهما وهو ما يبقى، مع أن الجمع بينهما هين ميسور لكم، وهو تحت قدرتكم وسلطانكم، فمن خطل الرأي أن تتركوا ذلك، وترغبوا عنه، بل عليكم أن تقولوا: ﴿رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾.
والخلاصة: أن من أراد بعمله الدنيا.. آتاه الله منها ما أراد، وصرف عنه من شرها ما أراد، وليس له ثواب في الآخرة يجزى به، ومن أراد بعمله وجه الله وثواب الآخرة.. فعند الله ثواب الدنيا والآخرة، يؤتيه من الدنيا ما قدر له، ويجزيه في الآخرة خير الجزاء ذكره في "الخازن".
وفي الآية (١) إيماء إلى أن الدين يهدي أهله إلى السعادتين، وإلى أن ثواب الدنيا والآخرة من فضله تعالى ورحمته، وفي الآية أيضًا (٢) تعريض بالكفار الذين كانوا لا يؤمنون بالبعث، وكانوا يقولون: ﴿آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ﴾، وظاهر (٣) الآية العموم، وقال ابن جرير الطبري: إنها خاصة بالمشركين والمنافقين، ﴿وَكَانَ اللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿سَمِيعًا﴾ لأقوال عباده حين مخاطباتهم ومناجاتهم ﴿بَصِيرًا﴾ بجميع أمورهم في سائر حالاتهم، فعليهم أن يراقبوه في الأقوال والأفعال، وبذلك تزكو نفوسهم، وتقف عند حدود الفضيلة، التي بها تستقيم أمورهم في دنياهم، ويستعدون لحياة أبدية في آخرتهم يكون فيها نعيمهم وثوابهم.
١٣٥ - ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ بالله ورسوله ﴿كُونُوا قَوَّامِينَ﴾؛ أي: مبالغين في القيام ﴿بِالْقِسْطِ﴾ والعدل وإثباته، ومديمين القيام، فمن عدل مرة أو مرتين. لا
(٢) الواحدي.
(٣) الشوكاني.
وقرأ عبد الله: ﴿إن يكن غني أو فقير﴾ على أن كان تامة، وفي قراءة أبي: ﴿فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِم﴾ فالضمير عليها عائد على الأغنياء والفقراء، فالمراد حينئذ بالغني والفقير الجنس، ﴿فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى﴾ والشهوات إرادة ﴿أَنْ تَعْدِلُوا﴾ عن الحق وتميلوا عنه، وتجوروا فيه، فهو حينئذ من العدول بمعنى الميل عن الحق، أو المعنى: فلا تتبعوا الهوى كراهة أن تعدلوا بين الناس، فهو حينئذ من العدل ضد الجور، والمعنى على الأول: فلا تتبعوا الهوى والتشهي لئلا تعدلوا عن الحق إلى الباطل إذ في الهوى الزلل، ﴿وَإِنْ تَلْوُوا﴾ قرأ ابن كثير ونافع وأبو بكر وأبو عمرو وعاصم والكسائي: بإسكان اللام وبعدها واوان، الأولى مضمومة والثانية ساكنة، من اللي، والمعنى على هذه القراءة: وإن تلفوا ألسنتكم عن الشهادة بالحق إلى الباطل، وتحرفوها عنه بأن شهدتم بالباطل على خلاف ما يعلم من الدعوى، ﴿أَوْ تُعْرِضُوا﴾ وتمتنعوا عن أداء الشهادة بالكلية، وتنكروها من أصلها، فالعطف مغاير، خلافًا لمن قال بالترادف، فالمراد من اللّيّ هنا: أداء الشهادة على غير وجهها الذي تستحق الشهادة أن تكون عليه. ومن الإعراض: أن لا يقوم بها أصلًا بوجه ما.
والحاصل: أن اللفظين يختلفان باختلاف المتعلق، وقيل: إن الليَّ مثل الإعراض في المعنى، قال تعالى: ﴿لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ﴾؛ أي: أعرضوا. ﴿فَإِنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾؛ أي: فإن الله تعالى خبير بأعمالكم، لا يخفى عليه قصدكم، فهو مجازيكم بما تعملون، فيجازي المحسن المقبل بإحسانه، والمسىء المعرض بإساءته.
وعبر (١) بالخبير ولم يعبر بالعليم؛ لأن الخبرة: العلم بدقائق الأمور
وقيل (١): الخطاب على كلا القراءتين للحاكم، والمعنى على القراءة الأولى: وإن تلووا أيها الحكام؛ أي: تميلوا مع أحد الخصمين دون الآخر، أو تعرضوا عنه بالكلية. وعلى القراءة الثانية: وإن تلوا أيها الحكام أمور المسلمين وتضيعوهم، أو تعرضوا عنهم بالكلية.
١٣٦ - وقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ خطاب (٢) لكافة المسلمين، وذكر ذلك عقب الأمر بالعدل؛ لأنه لا يكون عدل إلا بعد الاتصاف بالإيمان، فهو من ذكر السبب بعد المسبب، وقوله فيما يأتي: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا...﴾ إلخ، بيان للطريق التي تفسد الإيمان، وهي الردة لتجتنب، والمعنى: يا أيها الذين آمنوا وصدقوا بما جاء به محمَّد - ﷺ - ﴿آمِنُوا بِاللَّهِ﴾؛ أي: داوموا على ما أنتم عليه من الإيمان بالله، وازدادوا فيه طمأنينة ويقينًا، ﴿و﴾ آمنوا بـ ﴿رسوله﴾ محمد - ﷺ - خاتم النبيين، بامتثال ما أمر به، واجتناب ما نهى عنه ﴿و﴾ آمنوا بـ ﴿الكتاب الذي نزل﴾ الله سبحانه وتعالى بحسب الوقائع في ثلاث وعشرين سنة؛ لأن صيغة التفعيل تفيد التكرير كما قاله الزمشخري، ﴿عَلَى رَسُولِهِ﴾ محمَّد - ﷺ -، بالعمل بما فيه من الأوامر والنواهي وهو القرآن الكريم ﴿و﴾ آمنوا بـ ﴿الكتاب الذي أنزل من قبل﴾؛ أي: وبجنس الكتب التي أنزل الله تعالى من قبل القرآن على الرسل السالفة من قبل محمَّد - ﷺ -، كتوراة موسى، وإنجيل عيسى، وزبور داود وغيرها؛ أي: آمنوا بأنها حقة منزلة من عند الله تعالى، فإنه سبحانه وتعالى لم يترك عباده في زمن ما محرومين من البينات والهدى، وقرأ (٣) ابن كثير وأبو
(٢) الفتوحات.
(٣) البحر المحيط.
وبعد أن أمر بالإيمان بما ذكر، توعد من كفر بذلك فقال: ﴿وَمَنْ يَكْفُرْ﴾ ويجحد ﴿بـ﴾ وجود ﴿اللَّهِ﴾ سبحانه وتعالي ﴿و﴾ بوجود ﴿وَمَلَائِكَتِهِ وَ﴾ بإنزال ﴿كُتُبِهِ﴾ السماوية، وقرىء: ﴿وكتابه﴾، ﴿و﴾ بإرسال ﴿رُسُلِهِ وَ﴾ بمجيء ﴿الْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ مع ما فيه من الحساب والميزان والجزاء والجنة والنار؛ أي: من يكفر بواحد من هذه المذكورات، وهذه كلها أسس الإيمان وأركانه.. ﴿فَقَدْ ضَلَّ﴾ وأخطأ عن صراط الحق، الذي ينجي صاحبه في الآخرة من العذاب الأليم، ويمتعه بالنعيم المقيم، ﴿ضَلَالًا بَعِيدًا﴾ بحيث يعسر العود من الضلال إلى سواء الطريق.
ومن فرق بين كتب الله ورسله، فآمن ببعض وكفر ببعض كاليهود والنصارى.. فلا يعتد بإيمانه؛ لأنه إما يتبع الهوى، أو يقلد عن جهل وعمى، ذلك أن سر الرسالة هي الهداية، ولم يكن بعض النبيين فيها بأكمل من بعض، فإذا كفر ببعض الكتب أو الرسل.. كان كفره بها دليلًا على أنه لم يؤمن بشيء منها إيمانًا صحيحًا مبنيًّا على فهم حقيقتها والبصر بحكمتها، وكل ذلك من الضلال البعيد عن طرق الهداية.
وإنما ذكر (١) الرسول فيما سبق؛ لذكر الكتاب الذي أنزل عليه، وذكر الرسل هنا؛ لذكر الكتب جملة.. فناسبه ذكر الرسل جملة، وتقديم الملائكة على الرسل؛ لأنهم الوسائط بين الله وبين رسله.
الإعراب
﴿وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا (١٢٧)﴾.
﴿وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا﴾.
﴿وَإِنِ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية، ﴿إِنِ﴾: حرف شرط، ﴿امْرَأَةٌ﴾: فاعل بفعل محذوف وجوبًا يفسره المذكور بعده، تقديره: وإن خافت امرأة خافت من بعلها نشوزًا، ﴿خَافَتْ﴾: فعل ماض في محل الجزم بـ ﴿إِنِ﴾ على كونه فعل شرط لها، ﴿امْرَأَةٌ﴾: فاعل، ﴿خَافَتْ﴾: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على ﴿امْرَأَةٌ﴾، والجملة مفسرة للمحذوف لا محل لها من الإعراب، ﴿مِنْ بَعْلِهَا﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿خَافَتْ﴾، ﴿نُشُوزًا﴾: مفعول به، ﴿أَوْ إِعْرَاضًا﴾: معطوف عليه.
﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾.
﴿وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (١٢٩)﴾.
﴿وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا﴾: فعل وفاعل وناصب، والجملة مستأنفة، ﴿أَنْ تَعْدِلُوا﴾: فعل وفاعل وناصب، ﴿بَيْنَ النِّسَاءِ﴾: ظرف ومضاف إليه، متعلق بـ ﴿تعدلوا﴾، والجملة الفعلية صلة ﴿أَنْ﴾ المصدرية، ﴿أَنْ﴾ مع صلتها في تأويل مصدر منصوب على المفعولية، تقديره: ولن تستطيعوا العدل بين النساء، ﴿وَلَوْ﴾: ﴿الواو﴾: اعتراضية، ﴿لَوْ﴾: حرف شرط غير جازم، ﴿حَرَصْتُمْ﴾: فعل وفاعل، والجملة
﴿وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا (١٣٠)﴾.
﴿وَإِنْ يَتَفَرَّقَا﴾: فعل وفاعل، مجزوم على كونه فعل الشرط، ﴿يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا﴾: فعل وفاعل ومفعول، مجزوم على كونه جواب الشرط، وجملة ﴿إِنْ﴾ الشرطية: مستأنفة. ﴿مِنْ سَعَتِهِ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ ﴿يُغْنِ﴾، ﴿وَكَانَ اللَّهُ﴾: فعل ناقص واسمه، ﴿وَاسِعًا﴾: خبر أول لها، ﴿حَكِيمًا﴾: خبر ثان
﴿وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا (١٣١)﴾.
﴿وَلِلَّهِ﴾: جار ومجرور خبر مقدم، ﴿مَا﴾: موصولة أو موصوفة في محل الرفع مبتدأ مؤخر، والجملة الإسمية مستأنفة معللة لقوله: ﴿وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا﴾، ﴿فِي السَّمَاوَاتِ﴾: جار ومجرور صلة لـ ﴿مَا﴾ أو صفة لها، ﴿وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ معطوفة على: ﴿مَا فِي السَّمَاوَاتِ﴾. ﴿وَلَقَدْ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية، و ﴿اللام﴾: موطئة للقسم، ﴿قد﴾: حرف تحقيق، ﴿وَصَّيْنَا﴾: فعل وفاعل، ﴿الَّذِينَ﴾: في محل النصب مفعول به، والجملة الفعلية جواب القسم، لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم مع جوابه مستأنفة، ﴿أُوتُوا﴾: فعل ونائب فاعل، ﴿الْكِتَابَ﴾: مفعول ثان؛ لأن أتى بمعنى أعطى يتعدى لمفعولين، الأول منهما نائب فاعل، والجملة الفعلية صلة الموصول، ﴿مِنْ قَبْلِكُمْ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿أُوتُوا﴾، ﴿وَإِيَّاكُمْ﴾: في محل النصب معطوف على الموصول، ﴿أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ﴾: فعل وفاعل ومفعول وناصب، والجملة الفعلية في تأويل مصدر مجرور بحرف جر محذوف، تقديره: ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم بتقوى الله، ﴿وَإِنْ تَكْفُرُوا﴾: فعل وفاعل مجزوم بـ ﴿إِنْ﴾ على كونه فعل شرط لها. ﴿فَإِنَّ﴾: ﴿الفاء﴾: رابطة لجواب ﴿إِنْ﴾ الشرطية، ﴿إِنَّ﴾ حرف نصب، ﴿لِلَّهِ﴾: جار ومجرور خبر مقدم لـ ﴿إِنَّ﴾ على اسمها. ﴿مَا﴾: موصولة في محل النصب اسم ﴿إِنَّ﴾ مؤخر، ﴿مَا فِي السَّمَاوَاتِ﴾: جار ومجرور صلة لـ ﴿مَا﴾، ﴿وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾: معطوفة على ﴿مَا فِي السَّمَاوَاتِ﴾ وجملة ﴿إِنَّ﴾ من اسمها وخبرها في محل الجزم بـ ﴿إِنْ﴾ على كونها جوابًا لها، وجملة ﴿إِنْ﴾ الشرطية: معطوفة على جملة القسم أو مستأنفة، ﴿وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا﴾: فعل ناقص واسمها وخبرها، والجملة مستأنفة.
{وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (١٣٢) إِنْ يَشَأ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا
﴿وَلِلَّهِ﴾: خبر مقدم، ﴿مَا فِي السَّمَاوَاتِ﴾: مبتدأ مؤخر، ﴿وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾: معطوف عليه، والجملة الإسمية مستأنفة ﴿وَكَفَى بِاللَّهِ﴾: فعل وفاعل، ﴿وَكِيلًا﴾: تمييز، والجملة مستأنفة. ﴿إِنْ يَشَأ﴾: فعل مضارع مجزوم بـ ﴿إِنْ﴾ على كونه فعل شرط لها، وفاعله ضمير يعود على ﴿اللَّه﴾، ﴿يُذْهِبْكُمْ﴾: فعل ومفعول مجزوم بـ ﴿إن﴾ على كونه جوابًا لها، وفاعله ضمير يعود على ﴿اللَّه﴾، وجملة ﴿إن﴾ الشرطية: مستأنفة، ﴿أَيُّهَا﴾: ﴿أَيُّ﴾: منادى نكرة مقصودة، حذف منه حرف النداء و ﴿ها﴾: حرف تنبيه زائد، ﴿النَّاسُ﴾: صفة لـ ﴿أيُّ﴾ تابع للفظه، وجملة النداء جملة معترضة؛ لاعتراضها بين المعطوف والمعطوف عليه، ﴿وَيَأتِ﴾: معطوف على ﴿يُذْهِبْكُمْ﴾ وفاعله ضمير يعود على ﴿اللَّه﴾، ﴿بِآخَرِينَ﴾: متعلق به، ﴿وَكَانَ اللَّهُ﴾: فعل ناقص واسمه، ﴿عَلَى ذَلِكَ﴾: متعلق بـ ﴿قَدِيرًا﴾، ﴿قَدِيرًا﴾: خبر ﴿كَانَ﴾، وجملة ﴿كَانَ﴾: مستأنفة.
﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (١٣٤)﴾.
﴿مَنْ﴾: اسم شرط في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط أو الجواب، ﴿كَانَ﴾: فعل ماض ناقص في محل الجزم بـ ﴿مَنْ﴾ على كونه فعل شرط لها، واسمها ضمير يعود على ﴿مَنْ﴾، ﴿يُرِيدُ﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على ﴿مَنْ﴾، ﴿ثَوَابُ الدُّنْيَا﴾: مفعول به ومضاف إليه، وجملة ﴿يُرِيدُ﴾ في محل النصب خبر ﴿كَانَ﴾، ﴿فَعِنْدَ اللَّهِ﴾: ﴿الفاء﴾: رابطة الجواب، ﴿عِنْدَ اللَّهِ﴾: ظرف ومضاف إليه خبر مقدم، ﴿ثَوَابُ الدُّنْيَا﴾: مبتدأ مؤخر ومضاف إليه، ﴿وَالْآخِرَةِ﴾: معطوف على ﴿الدُّنْيَا﴾، والجملة الإسمية في محل الجزم جواب ﴿مَنْ﴾ الشرطية، وجملة ﴿مَنْ﴾ الشرطية مستأنفة، ﴿وَكَانَ اللَّهُ﴾: فعل ناقص واسمه، ﴿سَمِيعًا﴾: خبر أول لها، ﴿بَصِيرًا﴾: خبر ثان لها، والجملة مستأنفة.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ
﴿يَا أَيُّهَا﴾: ﴿يَا﴾: حرف نداء، ﴿أي﴾: منادى نكرة مقصودة، ﴿ها﴾: حرف تنبيه زائد، ﴿الَّذِينَ﴾: صفة لـ ﴿أيُّ﴾، وجملة النداء مستأنفة، ﴿آمَنُوا﴾: فعل وفاعل صلة الموصول، ﴿كُونُوا﴾: فعل أمر ناقص، والواو: اسمها، ﴿قَوَّامِينَ﴾: خبرها، والجملة جواب النداء لا محل لها من الإعراب، ﴿بِالْقِسْطِ﴾: متعلق بـ ﴿قَوَّامِينَ﴾، ﴿شُهَدَاءَ﴾: خبر ثان لـ ﴿كُونُوا﴾، ﴿لِلَّهِ﴾: متعلق به ﴿وَلَوْ﴾: ﴿الواو﴾: استئنافية، ﴿لَوْ﴾: حرف شرط غير جازم، ﴿عَلَى أَنْفُسِكُمْ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه، خبر لكان المحذوفة مع اسمها، تقديرها: ولو كانت الشهادة كائنة على أنفسكم، وجواب ﴿لو﴾ محذوف، تقديره: ولو كانت الشهادة على أنفسكم فاشهدوا عليها، وجملة ﴿لو﴾: مستأنفة، ﴿أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ﴾: معطوفان على ﴿أَنْفُسِكُمْ﴾. ﴿إِنْ﴾: حرف شرط، ﴿يَكُنْ﴾: فعل ناقص مجزوم بـ ﴿إن﴾، واسمها محذوف جوازًا، تقديره: إن يكن المشهود عليه، ﴿غَنِيًّا﴾: خبرها، ﴿أَوْ فَقِيرًا﴾: معطوف عليه، ﴿فَاللَّهُ﴾: ﴿الفاء﴾: رابطة لجواب ﴿إن﴾ الشرطية، ﴿اللَّهُ﴾: مبتدأ، ﴿أَوْلَى﴾: خبره، ﴿بِهِمَا﴾: متعلق بـ ﴿أَوْلَى﴾، والجملة الإسمية في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ على كونها جوابًا لها، وجملة ﴿إن﴾ الشرطية: مستأنفة.
﴿فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾.
﴿فَلَا﴾: ﴿الفاء﴾: حرف عطف وتفريع، ﴿لا﴾: ناهية، ﴿تَتَّبِعُوا﴾: فعل وفاعل مجزوم بـ ﴿لا﴾ الناهية، ﴿الْهَوَى﴾: مفعول به، والجملة معطوفة على جملة قوله: ﴿كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ﴾ على كونها جواب النداء، ﴿أَنْ تَعْدِلُوا﴾: فعل وفاعل وناصب، والجملة الفعلية صلة ﴿أَنْ﴾ المصدرية، ﴿أَنْ﴾ مع صلتها في تأويل مصدر منصوب على كونه مفعولًا لأجله، ولكنه على حذف مضاف، تقديره: فلا تتبعوا الهوى كراهية العدل بين الناس. ﴿وَإِنْ تَلْوُوا﴾: فعل وفاعل مجزوم بـ ﴿إن﴾ الشرطية، ﴿أَوْ تُعْرِضُوا﴾: معطوف عليه، ﴿فَإِنَّ﴾: ﴿الفاء﴾: رابطة الجواب بالشرط، ﴿إِنَّ﴾: حرف نصب، ﴿اللَّهَ﴾: اسمها، ﴿كَانَ﴾: فعل ماض ناقص، واسمها ضمير يعود على ﴿اللَّهَ﴾، ﴿بِمَا تَعْمَلُونَ﴾: متعلق بـ ﴿خَبِيرًا﴾: وهو
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (١٣٦)﴾.
﴿يَا أَيُّهَا﴾: ﴿يَا﴾: حرف نداء، ﴿أَيُّ﴾: منادى نكرة مقصودة، ﴿ها﴾: حرف تنبيه، ﴿الَّذِينَ﴾: صفة لـ ﴿أيُّ﴾، وجملة النداء مستأنفة، ﴿آمَنُوا﴾: فعل ماض وفاعل، والجملة صلة الموصول، ﴿آمِنُوا﴾: فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعل، والجملة جواب النداء، ﴿بِاللَّهِ﴾: متعلق بـ ﴿آمِنُوا﴾، ﴿وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ﴾: معطوفان على لفظ الجلالة، ﴿الَّذِينَ﴾: صفة للكتاب، ﴿نَزَّلَ﴾: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على ﴿اللَّه﴾، والجملة صلة الموصول، والعائد محذوف تقديره: والكتاب الذي نزله على رسوله محمَّد - ﷺ -، ﴿عَلَى رَسُولِهِ﴾: متعلقان بـ ﴿نَزَّلَ﴾ ﴿وَالْكِتَابِ﴾: معطوف على الجلالة أيضًا، ﴿الَّذِي﴾: صفة لـ ﴿الْكِتَابِ﴾، ﴿أَنْزَلَ﴾: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على ﴿اللَّه﴾، ﴿مِنْ قَبْلُ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿أَنْزَلَ﴾، والجملة الفعلية صلة الموصول، والعائد محذوف تقديره: والكتاب الذي أنزله من قبل، ﴿وَمَنْ﴾: اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط أو الجواب أو هما، ﴿يَكْفُرْ﴾: فعل شرط مجزوم بها، ﴿بِاللَّهِ﴾: متعلق به، ﴿وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ﴾: معطوفات على الجلالة، ﴿الْآخِرِ﴾: صفة لـ ﴿اليوم﴾، ﴿فَقَدْ﴾: ﴿الفاء﴾: رابطة لجواب ﴿مَنْ﴾ الشرطية وجوبًا؛ لاقترانه بـ ﴿قد﴾، ﴿قد﴾: حرف تحقيق، ﴿ضَلَّ﴾: فعل ماض في محل الجزم بـ ﴿مَنْ﴾ على كونه جواب شرط لها، وفاعله ضمير يعود على ﴿مَنْ﴾، ﴿ضَلَالًا﴾: منصوب على المصدرية، ﴿بَعِيدًا﴾: صفة له، وجملة ﴿مَنْ﴾ الشرطية: مستأنفة لا محل لها من الإعراب.
التصريف ومفردات اللغة
﴿وَيَسْتَفْتُونَكَ﴾: من باب استفعل السداسي وبناؤه للطلب، يقال استفتى
فالمعنى كأنه بيان ما أشكل فيثبت ويقوى، والاستفتاء ليس في ذوات النساء، وإنما هو عن شيء من أحكامهن، ولم يبين، فهو مجمل، ومعنى ﴿يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ﴾ يبين لكم حال ما سألتم عنه، وحكمه ذكره أبو حيان في "البحر"، وفي "المصباح" (١): والفتوى بالواو وفتح الفاء وبالياء فتضم، وهي اسم من أفتى العالم إذا بين الحكم، واستفتيته سألته أن يفتي، والجمع الفتاوى بكسر الواو على الأصل: وقيل يجوز الفتح للتخفيف.
﴿وَأَنْ تَقُومُوا﴾؛ أي: تعنوا عناية خاصة، ﴿بِالْقِسْطِ﴾؛ أي: بالعدل، ﴿وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ﴾؛ أي: توقعت ما تكره بوقوع بعض أسبابه، أو ظهور بعض أماراته، قيل: الخوف هنا على بابه، وهو حالة تحدث في القلب عند حدوث أمر مكروه، أو عند ظن حدوثه، وقيل: المراد بالخوف هنا العلم، ﴿نُشُوزًا﴾؛ أي؛ ترفعًا وتكبرًا، قال ابن فارس: يقال نشزت المرأة: استعصت على بعلها، ونشز بعلها إذا ضربها وجفاها، ﴿أَوْ إِعْرَاضًا﴾؛ أي: ميلًا وانحرافًا، قال النحاس: الفرق بين النشوز والإعراض أن النشوز: التباعد، والإعراض: أن لا يكلمها ولا يأنس بها.
﴿الشُّحَّ﴾ قال ابن فارس (٢): الشح البخل مع الحرص، ويقال: تشاح الرجلان في الأمر لا يريدان أن يفوتهما، وهو بضم الشين وكسرها، وقال ابن عطية: الشح الضبط على المعتقدات والإرادة، ففي الهمم والأموال، ونحو ذلك مما أفرط فيه، وفيه بعض المذمة، وما صار إلى حيز الحقوق الشرعية وما تقتضيه المروءة فهو البخل، وهو رذيلة، لكنها قد تكون في المؤمن، ومنه الحديث: قيل: يا رسول الله أيكون المؤمن بخيلًا؟ قال: "نعم"، وأما الشح ففي كل أحد، ويدل عليه: {وَأُحْضِرَتِ
(٢) البحر المحيط.
﴿وَإِنْ تَلْوُوا﴾ بواوين (١)، أصله تلويون بوزن تضربون، نقلت ضمة الياء إلى ما قبلها وهو الواو بعد سلب حركتها، فسكنت الياء ثم حذفت لالتقاء الساكنين، وحذفت نون الرفع للجازم؛ لأنه من الأفعال الخمسة، وهذه الياء التي حذفت هي لام الكلمة، فصار ﴿تَلْوُوا﴾ بوزن تفعوا، وعلى القراءة الثانية: ﴿تلوا﴾ فعل به ما تقدم ثم نقلت ضمة هذه الواو التي هي عين الكلمة إلى الساكن قبلها، وهو اللام التي هي فاء الكلمة، فسكنت الواو ثم حذفت، فصار ﴿تلوا﴾ بوزن تفوا، إلا أن فيه حينئذ إجحافًا بالكلمة إذ لم يبق منها إلا فاءها.
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات من الفصاحة والبديع فنونًا (٢):
منها: التجنيس المغاير في قوله: ﴿أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا﴾، وفي قوله:
(٢) البحر المحيط.
ومنها: التجنيس المماثل في قوله: ﴿وَيَسْتَفْتُونَكَ﴾ و ﴿يُفْتِيكُمْ﴾، وفي قوله: ﴿صُلْحًا﴾ و ﴿وَالصُّلْحُ﴾.
ومنها: التكرار في لفظ ﴿النِّسَاءِ﴾، وفي لفظ ﴿يَتَامَى﴾ و ﴿الْيَتَامَى﴾، و ﴿رَسُولِهِ﴾، ولفظ ﴿الْكِتَابِ﴾.
ومنها: التشبيه المرسل المجمل في قوله: ﴿كَالْمُعَلَّقَةِ﴾.
ومنها: اللفظ المحتمل للضدين في قوله: ﴿وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ﴾.
ومنها: الاستعارة في قوله: ﴿نُشُوزًا﴾، وفي قوله: ﴿وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ﴾، لأن الشح لما كان غير مفارق للأنفس ولا متباعد عنها.. كان كأنه أحضرها، وحمل على ملازمتها، فاستعار الإحضار للملازمة، وفي قوله: ﴿فَلَا تَمِيلُوا﴾، وفي قوله: ﴿قَوَّامِينَ﴾ وفي قوله: ﴿وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا﴾، وهذه كلها للأجسام استعيرت للمعاني.
ومنها: الاختصاص في قوله: ﴿بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾ خص العمل.
ومنها: الحذف في مواضع.
ومنها: الطباق بين ﴿غَنِيًّا﴾ و ﴿فَقِيرًا﴾.
ومنها: الجناس الناقص في قوله: ﴿آمِنُوا﴾ و ﴿آمَنُوا﴾ لتغيير الشكل.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا (١٣٧) بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (١٣٨) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا (١٣٩) وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا (١٤٠) الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا (١٤١) إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا (١٤٢) مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (١٤٣) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (١٤٤) إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (١٤٥) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (١٤٦) مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا (١٤٧)﴾.
المناسبة
قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أنه لما أمر الله سبحانه وتعالى أولًا بالعدل والإحسان إلى اليتامى والمساكين، ثم عمم الأمر بالقسط بين الناس، الذي أساسه الإيمان الصادق.. ذكر في هذه الآيات حال قوم من أهل الضلال البعيد، آمنوا في الظاهر نفاقًا، وكان الكفر قد استحوذ على قلوبهم، ولم يجعل فيها مكانًا للاستعداد للفهم، ومن ثم لم يمنعهم ذلك من الرجوع إلى الكفر مرة بعد أخرى، إذ هم لم يفقهوا حقيقة الإيمان، ولا ذاقوا حلاوته، ولا أشربت قلوبهم حبه، ولا عرفوا فضائله ومناقبه، ثم أوعد بعدئذٍ المنافقين بالعذاب الأليم، وذكر أنهم أنصار الكافرين
قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذم المنافقين بأنهم مذبذبون، لا يستقر لهم قرار، فهم تارة مع المؤمنين، وأخرى مع الكافرين.. حذر المؤمنين أن يفعلوا فعلهم، وأن يوالي بعض ضعفائهم الكافرين دون المؤمنين، يبتغون عندهم العزة، ويرجون منهم المنفعة، كما فعل حاطب بن أبي بلتعة، إذ كتب إلى كفار قريش يخبرهم بما عزم عليه النبي - ﷺ - في شأنهم؛ لأنه كان له عندهم أهل ومال.
التفسير وأوجه القراءة
١٣٧ - قوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ قيل نزلت هذه الآية في اليهود، وهو قول قتادة، وأختاره الطبري، والمعنى: إنَّ الذين آمنوا بموسى، ﴿ثُمَّ كَفَرُوا﴾ بعبادة العجل، ﴿ثُمَّ آمَنُوا﴾ بعد رجوع موسى إليهم من المناجاة، ﴿ثُمَّ كَفَرُوا﴾ بعيسى، ﴿ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا﴾ بمحمد - ﷺ -، وقيل نزلت في المنافقين، آمنوا بألسنتهم ثم ارتدوا، ثم آمنوا ثم ارتدوا وثم ماتوا على الكفر، ويؤيد هذا القول قوله: ﴿بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ﴾، قال ابن عباس: دخل في هذه الآية كل منافق كان في عهد النبي - ﷺ - في البر والبحر، وقال ابن كثير: يخبر تعالى عمن دخل في الإيمان ثم رجع عنه، ثم عاد إلى الإيمان، ثم رجع واستمر على ضلاله، وازداد حتى مات على الكفر، فإنه لا توبة له بعد موته، ولا يغفر الله له، ولا يجعل له مما هو فيه فرجًا ولا مخرجًا ولا طريقًا إلى الهدى ﴿لَمْ يَكُنِ اللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿لِيَغْفِرَ لَهُمْ﴾؛ أي: ليسامح لهم ولا ليعفو عنهم، ﴿وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا﴾؛ أي: طريقًا إلى الجنة، وذلك لأن من تكرر منه الإيمان مرات كثيرة يدل على أنه لا وقع للإيمان في قلبه، ومن كان كذلك لا يكون مؤمنًا بالله إيمانًا كاملًا صحيحًا، لأن يستبعد منهم أن يتوبوا عن الكفر، ويثبتوا قلوبهم على الإيمان؛ لأن قلوبهم قد تعودت الكفر، وتمرنت على الردة، وكان الإيمان عندهم أهون شيء وأدونه، لا أنهم لو أخلصوا الإيمان لم
والمعنى: أنَّ هؤلاء قد استبان من ذبذبتهم واضطراب أحوالهم من إيمان إلى كفر ثم من كفر إلى إيمان وهكذا، إنهم قد فقدوا الاستعداد لفهم حقيقة الإيمان، وفقه مزاياه وفضائله، ومثلهم لا يرجى لهم بحسب سنن الله في خليقته أن يهتدوا إلى الخير، ولا أن يسترشدوا إلى نافع، ولا أن يسلكوا سبيل الله، فجدير بهم أن يمنع الله عنهم رحمته، ورضوانه ومغفرته وإحسانه؛ لأن أرواحهم قد دنست، وقلوبهم قد عميت، فلم تكن محلًا للمغفرة، ولا للرجاء في ثواب، والله أرحم الراحمين واسع المغفرة، لم يكن ليحرم أحدًا المغفرة والهداية بمحض الخلق والمشيئة وإنما مشيئته مقترنة بحكمته، وقد جرت سنة الله وحكمته الأزلية بأن يكون كسب البشر لعلومهم وأعمالهم مؤثرًا في نفوسهم، فمن طال عليه أمد التقليد.. حجب عن عقله نور الدليل، ومن طال عليه عهد الفسوق والعصيان.. حرم من أسباب الغفران التي ذكرها الله سبحانه وتعالى في قوله: ﴿وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى (٨٢)﴾ ولا شك أن المغفرة وهي محو أثر الذنب من العبد إنما تكون بتأثير التوبة والعمل الصالح، الذي يزيل ما علق في النفس من تلك الآثام، كما قال تعالى: ﴿إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ﴾.
١٣٨ - ﴿بَشِّرِ﴾؛ أي: أخبر يا محمَّد ﴿الْمُنَافِقِينَ﴾، وأنذرهم ﴿بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾؛ أي: مؤلمًا، البشارة لا تستعمل غالبًا إلا في سارِّ الأخبار، إذ هي مأخوذة من انبساط بشرة الوجه، فاستعمالها في الأخبار السيئة يكون من باب التهكم والتوبيخ؛ أي: بشر المنافقين بالعذاب المؤلم، الذي لا يقدر قدره ولا يحيط بكنهه إلا علام الغيوب،
١٣٩ - ثم بين بعض صفاتهم التي تستوجب لهم الذم فقال: ﴿الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ﴾؛ أي: هؤلاء المنافقون هم الذين يتخذون ويجعلون الكافرين المجاهرين بالكفر المعادين للمؤمنين أولياء وأنصارًا لأنفسهم ﴿مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ حال من فاعل ﴿يَتَّخِذُونَ﴾؛ أي: يتخذون الكفرة أنصارًا حالة كونهم متجاوزين في اتخاذهم اتخاذ المؤمنين؛ أي: قاصرين في الموالاة والمناصرة على الكافرين، معرضين عن موالاة المؤمنين، وتاركين لها، ويمالؤون
وبعدئذ نهى المؤمنين أن يجلسوا مع من ينتقص الدين، ويزدري بأحكامه فقال: ﴿وَقَدْ نَزَّلَ﴾ الله سبحانه وتعالى ﴿عَلَيْكُمْ﴾ يا معشر المؤمنين ﴿فِي الْكِتَابِ﴾؛ أي: في القرآن في سورة الأنعام في مكة ﴿أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا﴾؛ أي: أنزل عليكم أنه إذا سمعتم آيات الله مكفورًا بها ومستهزأ بها؛ أي: سمعتم القرآن يكفر به الكافرون، ويستهزىء به المستهزؤون.. ﴿فَلَا تَقْعُدُوا﴾؛ أي: فلا تجلسوا ﴿مَعَهُمْ﴾؛ أي: مع الكافرين الذين يستهزؤون، ويسخرون بالقرآن ﴿حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ﴾؛ أي: حتى يشرعوا ويشتغلوا بحديث في غير القرآن، ويتركوا الخوض فيه ﴿إِنَّكُمْ﴾ أيها المؤمنون ﴿إِذًا﴾؛ أي: إذا قعدتم معهم، واستمعتم حديثهم في استهزاء القرآن ﴿مِثْلُهُمْ﴾؛ أي: مثل الكافرين في الاستهزاء والكفر به؛ أي: تكونون شركاء لهم في الكفر، لأنكم رضيتم به، ووافقتموهم عليه. قال البيضاوي: إذا هنا ملغاة لوقوعها بين الاسم والخبر، ولذلك لم يذكر بعدها الفعل، وإفراد ﴿مِثْلُهُمْ﴾ لأنه كالمصدر، أو للاستغناء بالإضافة إلى الجمع انتهى. وهذه الجملة مستأنفة مسوقة لتعليل النهي غير داخلة تحت التنزيل. وقرىء شاذًا: ﴿مِثْلُهُمْ﴾ بالفتح، وهو مبني لإضافته إلى المبهم، كما بني في قوله: ﴿مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ﴾، ويذكر في موضعه إن شاء الله
وإِذْ مَا مِثْلُهُمْ بَشَرُ
أي: إنكم في مثل حالهم، ذكره أبو البقاء، والمعنى: إنكم مشاركون لهم في الإثم قال بعضهم:
وَسَمْعَكَ صُنْ عَنْ سَمَاعِ الْقَبِيْحِ | كَصَوْنِ اللِّسَانِ عَنِ النُّطْقِ بِهْ |
فَإِنَّكَ عِنْدَ سَمَاعِ الْقَبِيْحِ | شَرِيْكٌ لِقَائِلِهِ فَانْتَبِهْ |
ثم إن يهود المدينة كانوا يفعلون فعل مشركي مكة، وكان المنافقون يجلسون معهم، ويستمعون إليهم، فنهى الله المؤمنين عن ذلك.
والخلاصة: أنكم إذا سمعتم الكلام الذي يتضمن جعل الآيات في موضع السخرية والاحتقار.. فابتعدوا عنهم، ولا ترجعوا إليهم حتى يعودوا إلى حديث آخر.
وفي الآية (١) دليل على وجوب اجتناب كل موقف يخوض فيه أهله بما يفيد التنقيص والاستهزاء للأدلة الشرعية والأحكام الدينية، كما يقع ذلك كثيرًا من أسراء التقليد الذين استبدلوا آراء العلماء بالكتاب والسنة، ولم يبق في أيديهم سوى قال إمام مذهبنا كذا، وقال فلان من أتباعه بكذا، وإذا سمعوا من يستدل على تلك المسألة بآية قرآنية أو بحديث نبوي.. سخروا منه، ولم يرفعوا إلى ما قاله رأسًا، ولا بالوا به بالة، وظنوا أنه قد جاء بأمر فظيع وخطب شنيع، وخالف
وفي الآية (١) إيماء إلى أن من يقر المنكر ويسكت عليه يقع في الإثم، وإلى أن إنكار الشيء يمنع من انتشاره بين الناس، وقد وقع في هذا المنكر كثير من المسلمين، فإنهم يرون الملحدين في البلاد يخوضون في آيات الله ويستهزؤون بالدين، وهم يسكتون عن ذلك، ولا يبدون إنكارًا ولا اشمئزازًا ولا صدًّا ولا إعراضًا.
قال بعض أهل العلم (٢): هذه الآية تدل على أن من رضي بالكفر.. فهو كافر، ومن رضي بمنكر يراه، وخالط أهله، وإن لم يباشر.. كان في الإثم بمنزلة المباشر، أما إذا كان ساخطًا لقولهم وفعلهم، وإنما جلس على سبيل التقية والخوف، فالأمر ليس كذلك، فالمنافقون الذين كانوا يجالسون اليهود ويطعنون في الرسول والقرآن مع اليهود هم كافرون مثل أولئك اليهود، أما المسلمون الذين كانوا بمكة يجالسون الكفار الذين كانوا يطعنون في القرآن.. فإنهم باقون على الإيمان؛ لأنهم إنما يجالسون الكفار للضرورة والتقية منهم، وأما المنافقون في المدينة فلا ضرورة لهم إلى الجلوس مع اليهود.
﴿إِنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ﴾؛ أي: منافقي أهل المدينة، عبد الله بن أبي وأصحابه وغيرهم، ﴿وَالْكَافِرِينَ﴾؛ أي: كفار أهل مكة أبي جهل وأصحابه، وكفار أهل المدينة كعب بن الأشرف وغيرهم، ﴿فِي﴾ نار ﴿جَهَنَّمَ﴾ وقعرها حالة كونهم ﴿جَمِيعًا﴾؛ أي: مجتمعين فيها؛ أي: فكما أنهم اجتمعوا في الدنيا على الاستهزاء بآيات الله تعالى.. فكذلك يجتمعون في عذاب جهنم يوم القيامة، ولا يخفى ما في هذا من الوعيد للكفار والمنافقين، وهذه الجملة (٣)
(٢) المراح.
(٣) أبو السعود.
١٤٠ - وقرأ الجمهور (١): ﴿وَقَدْ نَزَّلَ﴾ مشددًا مبنيا للمفعول، وقرأ عاصم: ﴿نَزَّلَ﴾ مشددًا مبنيًّا للفاعل، وقرأ أبو حيوة وحميد: ﴿نزَل﴾ مخففًا مبنيًّا للفاعل، وقرأ النخعي: ﴿أنزل﴾ بالهمزة مبنيًّا للمفعول، ومحل ﴿أَنْ﴾ رفع أو نصب، على حسب العامل فنصب على قراءة عاصم، ورفع على الفاعل على قراءة أبي حيوة وحميد، وعلى المفعول الذي لم يسم فاعله على قراءة الباقين، وهي مخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن.
١٤١ - ثم بين بعض أحوال المنافقين فقال: ﴿الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ﴾ بدل من: ﴿الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ﴾ أو صفة للمنافقين والكافرين؛ أي: الذين ينتظرون ما يحدث بكم من خير أو شر؛ أي: إن هؤلاء المنافقين ينتظرون أمرهم وما يحدث لكم من كسر أو نصر وشر أو خير، ﴿فَإِنْ كَانَ لَكُمْ﴾ أيها المؤمنون ﴿فَتْحٌ﴾ ونصر ﴿مِنَ اللَّهِ﴾ تعالى على الكافرين وظفر وغنيمة ﴿قَالُوا﴾؛ أي: قال المنافقون للمؤمنين: ﴿أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ﴾ أيها المؤمنون في الدين والجهاد، والاستفهام فيه وفيما بعده تقريري؛ أي؛ لتقرير ما بعد النفي على حد: ﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ﴾؛ أي: كنا معكم واستحوذنا عليكم ومنعناكم، فأعطونا من الغنيمة؛ أي: فإن نصركم الله وفتح عليكم.. ادعوا أنهم كانوا معكم، فيستحقون مشاركتكم في النعمة وإعطاءهم من الغنيمة، وإنما سمى (٢) ظفر المسلمين فتحًا، وظفر الكافرين نصيبًا تعظيمًا لشأن المسلمين، وتحقيرًا لحظ الكافرين لتضمن الأول نصرة دين الله وإعلاء كلمته، ولهذا أضاف الفتح إليه تعالى، وحظ الكافرين في ظفر دنيوي سريع الزوال ﴿وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ﴾؛ أي: حظ من الظفر عليكم ﴿قَالُوا﴾؛ أي: قال المنافقون للكافرين: ﴿أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ﴾؛ أي: ألم نغلب عليكم، ونتمكن من قتلكم وأسركم، وأبقينا عليكم ورحمناكم، فرجعتم سالمين غانمين ﴿و﴾ ألم ﴿نمنعكم من المؤمنين﴾؛ أي: ألم نحمكم ونمنع المؤمنين من قتلكم وأسركم وظفرهم عليكم بتخذيلهم
(٢) كرخي.
والسر (٢) في التعبير عن ظفر المؤمنين بالفتح، وأنه من الله، وعن ظفر الكافرين بالنصيب، كما مر الإيماء إلى أن العاقبة للحق دائمًا، وأن الباطل ينهزم أمامه، مهما كان له أول أمره من صولة ودولة، وقد يقع أثناء ذلك نصيب من الظفر للباطل، ولكن تنتهي بغلبة الحق عليه كما قال: ﴿وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ ما دام أهله متبعين لسنة الله، بأخذ الأهبة وإعداد العدة، كما أمر بذلك الكتاب العزيز بقوله: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ﴾.
وإنما غلب المسلمون في هذه العصور على أمرهم، وفتح الكافرون بلادهم، التي فتحوها من قبل بقوة إيمانهم؛ لأنهم تركوا أخذ الأهبة وإعداد العدة، وقام أعداؤهم بكل ما تستدعيه الحروب الحاضرة، فأنشؤوا البوارج (٣)
(٢) المراغي.
(٣) البوارج - جمع بارجة -: وهي السفينة الكبيرة للقتال.
﴿فَاللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ﴾ أيها المؤمنون الصادقون، وبين المنافقين الذين يظهرون الإيمان، ويبطنون الكفر ﴿يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ حكمًا يليق بشأن كل من الثواب والعقاب، فيثيب أحباءه ويعاقب أعداءه، أما في الدنيا فأنتم وهم سواء في عصمة الأنفس والأموال، كما جاء في الحديث: "فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم".
والحاصل: أن المنافقين (١) يميلون مع من له الغلب والظفر من الطائفتين، ويظهرون لهم أنهم كانوا معهم على الطائفة المغلوبة، وهذا شأن المنافقين أبعدهم الله تعالى، وشأن من حذا حذوهم من أهل الإِسلام، من التظهر لكل طائفة بأنه معها على الأخرى، والميل إلى من معه الحظ من الدنيا في مال أو جاه، فيلقاه بالتملق والتودد والخضوع والذلة ويلقى من لا حظ له من الدنيا بالشدة والغلظة وسوء الخلق ويزدري به، ويكافحه بكل مكروه، فقبح الله أخلاق أهل النفاق وأبعدها، وهذا مما ابتلي به المسلمون كثيرًا في عصرنا هذا، الذي تذهب فيه النحاس، وتنحس فيه الذهب وَعُدَّ العلم فيه جهلًا والجهل علمًا، ﴿وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا﴾؛ أي: غلبة وسلطة ما داموا مستمسكين بدينهم؛ أي: إن المؤمنين ما داموا مستمسكين بدينهم متبعين لأمره ونهيه، قائمين بعمل ما يستدعيه الدفاع عن بيضة الدين، من أخذ الأهبة وإعداد العدة.. لن يغلبهم الكافرون، ولن يكون لهم عليهم سلطان، وما غُلب المسلمون على أمرهم.. إلا بتركهم هدي كتابهم، وتركهم أوامر دينهم وراءهم ظهريًّا، فذلوا بعد عزة، وأجلب الكفار عليهم بخيلهم ورجلهم، ودخلوا عليهم في عقر دارهم، وامتلكوا بلادهم، واقتسموا أراضيهم، وضربوا عليهم الجزية،
١٤٢ - ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ﴾ هذا كلام مستأنف (١)، يتضمن بيان بعض قبائح المنافقين وفضائحهم، ومعنى مخادعتهم لله هي أنهم يفعلون فعل المخادع من إظهار الإيمان وإبطال الكفر، ومعنى كون الله خادعهم أنه صنع بهم صنع من يخادع من خادعه، وذلك أنه تركهم على ما هم عليه من التظهر بالإِسلام في الدنيا، فعصم به أموالهم ودماءهم، وأخر عقوبتهم إلى الدار الآخرة، فجازاهم على خداعهم بالدرك الأسفل؛ أي: إن المنافقين يخادعون رسول الله، فيظهرون له الإيمان ليدفعوا عنهم أحكام الإِسلام الدنيوية من قتلهم، ويبطنون الكفر، ونسب ذلك إلى الله من جهة أن معاملة الرسول بذلك كمعاملة الله به، كما قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ﴾ وفي جعل ذلك خداعًا لله تنبيه إلى شيئين: فظاعة فعلهم فيما تحروه من الخديعة، إذ هم بمخادعتهم للرسول إنما يخادعون الله، وعظم شأن المقصود بالخداع وهو الرسول - ﷺ -، وأن معاملته بذلك كمعاملة الله به. وسمي المنافق منافقًا أخذًا من: نافقاء اليربوع، وهو جحره، فإنه يجعل له بابين يدخل من أحدهما، ويخرج من الآخر، فكذلك المنافق يدخل مع المؤمنين بقوله: أنا مؤمن، ويدخل مع الكفار بقوله: أنا كافر، وجحر اليربوع يسمى: النافقاء والسامياء والدامياء، فالسامياء: هو الجحر الذي تلد فيه الأنثى، والدامياء: هو الذي يكون فيه الذكر، والنافقاء: هو الذي يكونان فيه "كرخي" اهـ.
﴿وَهُوَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿خَادِعُهُمْ﴾؛ أي: مجازيهم على خداعهم، وسمي ذلك مخادعة مشاكلة للفظ الأول، ونظيره: ﴿وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ﴾ وإنما جعل كذلك؛ لأنه قد استعمل في المعاني المذمومة التي تتضمن الكذب، أو تدل على ضعف صاحبها وعجزه غالبًا.
وخلاصة المعنى (١): أنه عبر عن سنة الله عاقبة أمرهم في العاجل والآجل، من حيث إنها جاءت على غير ما يحبون، بلفظ مأخوذ من المخادعة، إذ أنهم بمخادعتهم للرسول والمؤمنين يسيرون في طريق يضلون فيه، وينتهون إلى الخزي والوبال من حيث هم يطلبون السلامة والنجاة، فمخادعتهم لأنفسهم بسوء اختيارهم لها هو مخادعة الله لهم، إذ جرت سنته تعالى فيمن يعمل مثل عملهم أن يلاقي الخزي في الدنيا، والنكال في الآخرة، وهكذا حال المنافقين في كل أمة وملة، يخادعون ويكذبون ويكيدون ويغشون، ويتولون أعداء أمتهم، يبتغون بذلك يدًا عندهم يمتون - يتقربون - بها إليهم، إذا دالت دولتهم، وكتب التاريخ ملأى بأخبار هؤلاء الأشرار، ويكثر عددهم في الأمم في أطوار الضعف وقوة الأعداء، إذ هم طلاب منافع، يلتمسونها من كل فج، ويسلكون لها كل طريق، ولو فيما يضر أمتهم والناس أجمعين.
وقد روي عن ابن عباس أنه قال: خداعه تعالى لهم: أن يعطيهم نورًا يوم القيامة يمشون به مع المسلمين، فإذا وصلوا إلى الصراط.. انطفأ نورهم، وبقوا في ظلمة، ودليله قوله تعالى: ﴿كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ﴾.
﴿وَإِذَا قَامُوا﴾ معطوف على خبر إن، أخبر عنهم بهذه الصفات الذميمة؛ أي: وإذا قام المنافقون إلى الصلاة ﴿قَامُوَا﴾ إليها حالة كونهم ﴿كُسَالَى﴾ عنها؛ أي: متكاسلين متباطئين متثاقلين، ليست لديهم رغبة تبعثهم على عمل، ولا نشاط
﴿وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا﴾؛ أي: لا يصلون إلا قليلًا بمرأى من الناس، وإذا لم يكن معهم أحد.. لم يصلوا، وإذا كانوا مع الناس.. راؤوهم وصلوا معهم، ولا يذكرون الله إلا باللسان، وسميت الصلاة ذكرًا لاشتمالها عليه، حالة كونهم
١٤٣ - ﴿مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ﴾؛ أي: مضطربين مترددين بين كفر السر وإيمان العلانية ﴿لَا﴾ هم منسوبين ﴿إِلَى هَؤُلَاءِ﴾ المؤمنين لإسرارهم الكفر ﴿وَلَا﴾ هم منسوبين ﴿إِلَى هَؤُلَاءِ﴾ الكافرين لإظهارهم الإيمان، والمعنى: ذبذبهم وقلقلهم الشيطان والهوى بين الإيمان والكفر، يترددون بينهما متحيرين، لا يخلصون إلى أحد الفريقين؛ لأنهم طلاب منافع، ولا يدرون لمن تكون له العاقبة، فمتى ظهرت الغلبة لأحدهما.. ادعوا أنهم منه، كما بين ذلك فيما سلف، ﴿وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ﴾؛ أي: يخذله ويسلبه التوفيق ﴿فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا﴾؛ أي: طريقًا يوصله إلى الحق؛ أي: ومن قضت سنته أن يكون ضالًا عن الحق، موغلًا في الباطل بما قدم من عمل، وتخلق به من خلق.. فلن تجد له سبيلًا للهداية باجتهادك والمبالغة في إقناعه بالحجة والدليل، فإن سنة الله لا تتبدل ولا تتحول.
(٢) البحر المحيط.
وعن ابن عمر - رضي الله عنهما - عن النبي - ﷺ - قال: "مثل المنافق كمثل الشاة العائرة بين الغنمين، تعير إلى هذه مرة، وإلى هذه مرة". متفق عليه. قوله كمثل الشاة العائرة - بالعين المهملة - ومعناه: المتحيرة المترددة، لا تدري لأي الغنمين تتبع، ومعنى تعير تتردد وتذهب يمينًا وشمالًا مرة إلى هذه ومرة إلى هذه، لا تدري إلى أين تذهب، وهذا مثل المنافق مرة مع المؤمنين ومرة مع الكافرين، أو ظاهره مع المؤمنين وباطنه مع الكافرين.
١٤٤ - ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ باللهِ وبرسوله سرًّا وعلانية ﴿لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ﴾؛ أي: المجاهرين بالكفر ﴿أَوْلِيَاءَ﴾؛ أي: أنصارا وأصدقاء ﴿مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ المخلصين، كما فعل المنافقون، ﴿أَتُرِيدُونَ﴾ يا معشر المؤمنين المخلصين ﴿أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ﴾ باتخاذكم الكفار أولياء من دون المؤمنين ﴿سُلْطَانًا مُبِينًا﴾؛ أي: حجة واضحة على استحقاقكم العذاب؛ إذا اتخذتموهم أولياء من دون المؤمنين، فإن عملًا كهذا لا يصدر إلا من منافق، والاستفهام فيه للتقريع والتوبيخ، والمراد (٢) بالولاية هنا النصرة بالقول أو بالفعل، بما يكون فيه ضرر
(٢) المراغي.
١٤٥ - ثم بيَّن مقر النار مِنَ المنافقين فقال: ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ﴾؛ أي: في الطبقة السفلى من النار، وهي الهاوية لغلظ كفرهم وكثرة غوائلهم، وأعلى الدركات جهنم، ثم الحطمة، ثم السعير، ثم سقر، ثم الجحيم، ثم الهاوية. وقد تسمى كلها باسم الطبقة العليا أعاذنا الله من عذابها.
سميت طبقات جهنم دركات لأنها متداركة متتابعة، وقيل الدرك بيت مقفل عليهم، تتوقد فيه النار من فوقهم ومن تحتهم، وقيل: هي توابيت من حديد مقفلة عليهم في النار، وإنما كان المنافقون في الدرك الأسفل من النار؛ لأنهم شر أهلها، إذ هم جمعوا بين الكفر والنفاق ومخادعة الرسول والمؤمنين وغشهم، فأرواحهم أسفل الأرواح، ونفوسهم أحط النفوس، ومن ثم كانوا أجدر الناس بالدرك الأسفل منها، أما أكثر الكفار فقد غلب عليهم الجهل بحقيقة التوحيد، فهم مع إيمانهم بالله يشركون به غيره من صنم أو وثن، يتخذونه شفيعًا عنده ووسيطًا بينهم وبينه، وقد قاسوا ذلك على معاملة الملوك المستبدين والأمراء الظالمين.
﴿وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ﴾؛ أي: ولن تجد يا محمَّد لهؤلاء المنافقين ﴿نَصِيرًا﴾؛ أي: ناصرًا ينصرهم ويمنعهم من عذاب الله إذا نزل بهم، وينقذهم من ذلك العذاب، أو يخففه عنهم، فيرفعهم من الطبقة السفلى إلى ما فوقها.
وقرأ الحرميان (٢): نافع وابن كثير، والعربيان: أبو عمرو وابن عامر: {في
(٢) البحر المحيط.
١٤٦ - ثم استثنى الله سبحانه وتعالى من المنافقين الذين استحقوا الدرك الأسفل من النار فقال: ﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا﴾ عن النفاق ﴿وَأَصْلَحُوا﴾ ما أفسدوا من أسرارهم وأحوالهم ﴿وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ﴾؛ أي: تمسكوا بدين الله وكتابه، ووثقوا بوعده ﴿وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ﴾ وعملهم وعبادتهم ﴿لِلَّهِ﴾ سبحانه وتعالى، وأرادوا به وجه الله تعالى، ولم يريدوا رياء ولا سمعة، فهذه الأمور الأربعة إذا حصلت فقد كمل الإيمان، ولما (١) كان المنافق متصفًا بنقائض هذه الأوصاف من الكفر، وفساد الأعمال، والموالاة للكافرين، والاعتراز بهم، والمراءاة للمؤمنين.. شرط في توبتهم ما يناقض تلك الأوصاف، وهي التوبة من النفاق، وهو الوصف المحتوي على بقية الأوصاف من حيث المعنى، ثم فصل ما أجمل فيها، وهو الإصلاح للعمل المستقبل المقابل لفساد أعمالهم الماضية، ثم الاعتصام بالله في المستقبل، وهو المقابل لموالاة الكافرين والاعتماد عليهم في الماضي، ثم الإخلاص لدين الله، وهو المقابل للرياء الذي كان لهم في الماضي، ثم بعد تحصيل هذه الأوصاف جميعها، أشار إليهم بأنهم مع المؤمنين فقال: ﴿فَأُولَئِكَ﴾ التائبون الموصوفون بهذه الصفات المذكورة من المنافقين كائنون ﴿مَعَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ المخلصين، الذين لم يصدر منهم نفاق أصلًا منذ آمنوا؛ أي: فأولئك مصحبون بالمؤمنين في أحكام الدنيا والآخرة، وفي الدرجات العالية من الجنة؛ لأنهم آمنوا كإيمانهم، وعملوا كعملهم، فيجزون جزاءهم، ولم يحكم عليهم بأنهم المؤمنون ولا من المؤمنين، وإن كانوا قد صاروا مؤمنين، تنفيرًا مما كانوا عليه من عظم كفر النفاق، وتعظيما لحال من كان ملتبسا بها، ومعنى مع المؤمنين رفقاؤهم ومصاحبوهم في الدارين كما مر آنفا.
والخلاصة (٢): أن هذا الجزاء الشديد - الذي أعده الله للمنافقين - لا يكون للذين تابوا من النفاق والكفر، وندموا على ما فرط منهم وأتبعوا ذلك بأمور ثلاثة:
(٢) المراغي.
٢ - اعتصامهم باللهِ، بأن يكون غرضهم من التوبة وصلاح العمل مرضاة الله مع التمسك بكتابه، والتخلق بآدابه، والاعتبار بمواعظه، والرجاء في وعده، والخوف من وعيده، والائتمار بأوامره، والانتهاء عن نواهيه، كما قال تعالى: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (١٧٥)﴾.
٣ - إخلاصهم لله بأن يدعوه وحده، ولا يدعوا من دونه أحدًا لكشف ضر، ولا لجلب نفع، بل يكون كل ما يتعلق بالدين والعبادة خالصًا له وحده، كما قال تعالى: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (٥)﴾ وكما جاء في قوله: ﴿فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ﴾.
﴿وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ويعطي ﴿الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ وثوابا جزيلًا في الآخرة، ودرجات عالية في الجنة، لا يقدر قدره، كما قال تعالى: ﴿فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (١٧)﴾.
فائدة: وحذفت (١) الياء من ﴿يُؤْتِ﴾ في الخط مع عدم الجازم كما حذفت في اللفظ لسكونها وسكون اللام بعدها، ومثله: ﴿يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ﴾ و ﴿سَنَدْعُ اَلزَبَايَةَ (١٨)﴾ و ﴿يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ﴾ ونحوها، فإن الحذف في الجميع لالتقاء الساكنين، والقراء يقفون عليه دون ياء اتباعًا للخط الكريم، إلا يعقوب: فإنه يقف بالياء نظرًا إلى الأصل، وروي ذلك عن الكسائي وحمزة.
١٤٧ - ثم بين أن تعذيبهم إنما كان لكفرهم بأنعم الله عليهم فقال: ﴿مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ﴾ والاستفهام فيه إنكاري، بمعنى النفي؛ أي: لا يعذبكم إن حصل منكم الشكر والإيمان، والمعنى: أي منفعة له في عذابكم إن
والخلاصة: أنه تعالى لا يعذب أحدًا من خلقه انتقامًا منه، ولا طلبًا لنفع، ، ولا دفعًا لمضرة؛ لأنه تعالى غني عن كل أحد، منزه عن جلب منفعة له، وعن دفع مضرة عنه، بل ذلك جزاء كفرهم بأنعم الله عليهم، فهو قد أنعم عليهم بالعقل والحواس والجوارح والوجدان، لكنهم استعملوها في غير ما خلقت لأجله من الاهتداء بها، لتكميل نفوسهم بالفضائل والعلوم والمعارف، كما كفروا بخالق هذه القوى، فاتخذوا له شركاء، ولا ينفعهم تسميتهم شفعاء أو وسطاء، حتى فسدت فطرتهم، ودنست أرواحهم، ولو آمنوا وشكروا.. لطهرت أرواحهم، وظهرت آثار ذلك في عقولهم، وسائر أعمالهم التي تصلحهم في معاشهم ومعادهم، واستحقوا بذلك رضوان الله تعالى: ﴿وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ﴾ ﴿وَكَانَ اللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿شَاكِرًا﴾؛ أي: قابلًا لأعمالكم مثيبًا عليها، موفيًّا أجوركم، وأتى (٢) في صفة الشكر باسم الفاعل بلا مبالغة؛ ليدل على أنه يتقبل ولو أقل شيء من العمل وينميه ﴿عَلِيمًا﴾ بشكركم وإيمانكم، فيجازيكم، وفي قوله: ﴿عَلِيمًا﴾ تحذير وندب إلى الإخلاص لله تعالى.
الإعراب
﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا﴾.
﴿إِنَّ﴾: حرف نصب، ﴿الَّذِينَ﴾: في محل النصب اسمها، ﴿آمَنُوا﴾: فعل
(٢) البحر المحيط.
﴿لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا﴾.
﴿لَمْ﴾: حرف نفي وجزم، ﴿يَكُنِ﴾: مجزوم بـ ﴿لَمْ﴾، وهو من الأفعال الناقصة، ﴿اللَّهُ﴾: اسمها، ﴿لِيَغْفِرَ﴾ ﴿اللام﴾: حرف جر وجحود، ﴿يغفر﴾: فعل مضارع منصوب بأن مضمرة وجوبًا بعد لام الجحود، وفاعله ضمير يعود على ﴿اللَّهُ﴾، ﴿لَهُمْ﴾: متعلق بـ ﴿يغفر﴾ ومفعول ﴿يغفر﴾ محذوف، تقديره: كفرهم، وجملة ﴿يغفر﴾ صلة أن المضمرة، أن مع صلتها في تأويل مصدر مجرور باللام، تقديره: لم يكن الله لغفرانهم، الجار والمجرور متعلق بواجب الحذف؛ لوقوعه خبرًا لـ ﴿يكن﴾ تقديره: لم يكن الله مريدًا لغفرانهم، هذا على مذهب البصريين وهو الراجح، وجملة ﴿يَكُنِ﴾ من اسمها وخبرها في محل الرفع خبر ﴿إِنَّ﴾ وجملة ﴿إِنَّ﴾ مستأنفة، ﴿وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة، ﴿لا﴾: زائدة، زيدت لتأكيد نفي ما قبلها، ﴿اللام﴾ حرف جر وجحود، ﴿يهدي﴾ منصوب بأن مضمرة وجوبًا بعد لام الجحود، وفاعله ضمير يعود على ﴿اللَّهُ﴾، و ﴿الهاء﴾: ضمير الغائبين في محل النصب مفعول أول، ﴿سَبِيلًا﴾: مفعول ثان، وجملة ﴿يهدي﴾ صلة أن المضمرة، أن مع صلتها في تأويل مصدر مجرور باللام، والجار والمجرور معطوف على الجار والمجرور قبله، والتقدير: لم يكن الله مريدًا لغفرانهم، ولا مريدًا لهدايتهم سبيلًا.
﴿بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾.
﴿بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على محمَّد - ﷺ -،
﴿الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا (١٣٩)﴾.
﴿الَّذِينَ﴾: اسم موصول في محل النصب صفة لـ ﴿الْمُنَافِقِينَ﴾، ﴿يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ﴾: فعل وفاعل ومفعولان، والجملة صلة الموصول، ﴿مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه حال من فاعل ﴿يَتَّخِذُونَ﴾، تقديره: يتخذون الكافرين أنصارًا حالة كونهم متجاوزين في اتخاذهم اتخاذ المؤمنين، ﴿أَيَبْتَغُونَ﴾ ﴿الهمزة﴾: للاستفهام الإنكاري، ﴿يبتغون﴾: فعل وفاعل، والجملة جملة استفهامية إنشائية لا محل لها من الإعراب، ﴿عِنْدَهُمُ﴾: ظرف ومضاف إليه، متعلق بـ ﴿يبتغون﴾، ﴿الْعِزَّةَ﴾: مفعول به، ﴿فَإِنَّ﴾ ﴿الفاء﴾: تعليلية، ﴿إن﴾: حرف نصب، ﴿الْعِزَّةَ﴾: اسمها، ﴿لِلَّهِ﴾: جار ومجرور خبر ﴿إن﴾، ﴿جَمِيعًا﴾: حال من الضمير المستكن في ﴿لِلَّهِ﴾ لاعتماده على المبتدأ، وجملة ﴿إن﴾ في محل الجر بلام التعليل المقدرة، المدلول عليها بالفاء التعليلية المتعلقة بمعلول محذوف، مفهوم من الاستفهام الإنكاري، تقديره: لا ينبغي ابتغاء العزة عند غير الله تعالى، لكون العزة لله سبحانه وتعالى جميعًا وفي "الفتوحات" (١) قوله: ﴿فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا﴾ دخلت ﴿الفاء﴾ لما في الكلام من معنى الشرط، إذ المعنى: إن تبتغوا من هؤلاء عزة اهـ "سمين". وعبارة أبي السعود: وهذه الجملة تعليل لما يفيده الاستفهام الإنكاري من بطلان رأيهم، وخيبة رجائهم، فإن انحصار جميع أفراد العزة في جنابه عز وعلا بحيث لا ينالها إلا أولياؤه الذين كتب لهم العزة والغلبة، قال تعالى: ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ...﴾ يقتضي
﴿وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا (١٤٠)﴾.
﴿وَقَدْ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية، ﴿قد﴾: حرف تحقيق، ﴿نَزَّلَ﴾: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على ﴿اللَّهَ﴾، والجملة مستأنفة، ﴿عَلَيْكُمْ﴾: متعلق بـ ﴿نَزَّلَ﴾، وكذا ﴿فِي الْكِتَابِ﴾ متعلق بـ ﴿نَزَّلَ﴾، ﴿أَنْ﴾: مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن، تقديره: أنه، ﴿إِذَا﴾: ظرف لما يستقبل من الزمان، ﴿سَمِعْتُمْ﴾: فعل وفاعل، والجملة في محل الخفض بإضافة ﴿إذا﴾ إليها، على كونها فعل شرط لها، والظرف متعلق بالجواب، ﴿آيَاتِ اللَّهِ﴾: مفعول به ومضاف إليه، ﴿يُكْفَرُ﴾: فعل مضارع مغير الصيغة، ﴿بِهَا﴾: جار ومجرور في محل الرفع نائب فاعل أصله: يكفر بها أحد، فحذف الفاعل، وأقيم الجار والمجرور مقامه، والجملة في محل النصب حال من ﴿آيَاتِ اللَّهِ﴾، ﴿وَيُسْتَهْزَأُ﴾: فعل مضارع مغير الصيغة، ﴿بِهَا﴾: نائب فاعل، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة ﴿يُكْفَرُ بِهَا﴾، على كونها حالًا من ﴿آيَاتِ اللَّهِ﴾؛ أي: حالة كونها مكفورًا بها ومستهزءًا بها، ﴿فَلَا﴾ ﴿الفاء﴾: رابطة لجواب ﴿إذَا﴾ وجوبًا لكون الجواب جملة طلبية، ﴿لا﴾: ناهية، ﴿تَقْعُدُوا﴾: فعل وفاعل مجزوم بـ ﴿لا﴾ الناهية، ﴿مَعَهُمْ﴾: ظرف ومضاف إليه متعلق بـ ﴿تَقْعُدُوا﴾، والجملة الفعلية جواب ﴿إذا﴾ لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿إذَا﴾ من فعل شرطها وجوابها في محل الرفع خبر ﴿أَنْ﴾ المخففة، وجملة ﴿أَنْ﴾ المخففة في تأويل مصدر منصوب على المفعولية على قراءة ﴿نَزَّلَ﴾ بالبناء للفاعل، أو مرفوع على النيابة عن الفاعل على قراءة البناء للمفعول، تقديره: على القراءة الأولى: وقد نزل عليكم في الكتاب عدم قعودكم مع الكفار والمنافقين وقت سماعكم آيات الله يكفر بها ويستهزء بها، ﴿حَتَّى﴾: حرف جر وغاية، ﴿يَخُوضُوا﴾: فعل وفاعل، منصوب بأن مضمرة وجوبًا بعد
﴿الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ﴾.
﴿الَّذِينَ﴾: في محل النصب بدل من قوله: ﴿الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ﴾، والمعنى: بشر الذين يتربصون بكم، ﴿يَتَرَبَّصُونَ﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، ﴿بِكُمْ﴾: متعلق به، ﴿فَإِنْ﴾ ﴿الفاء﴾: تفصيلية، ﴿إن﴾ حرف شرط، ﴿كاَنَ﴾: فعل ماض ناقص في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ الشرطية على كونه فعل شرط لها ﴿لَكُمْ﴾: جار ومجرور خبر مقدم لـ ﴿كان﴾، ﴿فَتْحٌ﴾: اسم ﴿كَانَ﴾ مؤخر، ﴿مِنَ اللَّهِ﴾ جار ومجرور صفة لـ ﴿فَتْحٌ﴾؛ أي: فإن كان فتح من الله كائنا لكم، ﴿قَالُوا﴾: فعل وفاعل، في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ على كونه جوابًا لها، وجملة ﴿إن﴾ الشرطية جملة مفصلة لجملة الصلة لا محل لها من الإعراب، ﴿أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ﴾ مقول محكي لـ ﴿قَالُوا﴾، وإن شئت قلت ﴿أَلَمْ﴾ ﴿الهمزة﴾ للاستفهام التقريري، ﴿لم﴾: حرف نفي وجزم، ﴿نَكُنْ﴾: فعل ناقص مجزوم بـ ﴿لم﴾
(٢) أبو السعود.
﴿وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا﴾.
﴿وَإِنْ﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة، ﴿إن﴾: حرف شرط، ﴿كاَنَ﴾: فعل ماض ناقص في محل الجزم بـ ﴿إِنْ﴾ على كونه فعل شرط لها، ﴿لِلْكَافِرِينَ﴾: جار ومجروو خبر مقدم لـ ﴿كان﴾، ﴿نَصِيبٌ﴾: اسم ﴿كَانَ﴾ مؤخر، ﴿قَالُوا﴾: فعل وفاعل، في محل الجزم بـ ﴿إِنْ﴾ على كونه جوابا لها، وجملة ﴿إن﴾ الشرطية معطوفة على جملة ﴿إن﴾ التي قبلها. ﴿أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾: مقول محكي لـ ﴿قَالُوا﴾، وإن شئت قلت: ﴿أَلَمْ﴾ ﴿الهمزة﴾: للاستفهام التقريري، ﴿لم﴾ حرف جزم، ﴿نَسْتَحْوِذْ﴾: فعل مضارع مجزوم لـ ﴿لم﴾ وفاعله ضمير يعود على ﴿الْمُنَافِقِينَ﴾، ﴿عَلَيْكُمْ﴾: متعلق به، والجملة في محل النصب مقول القول، ﴿وَنَمْنَعْكُمْ﴾: فعل ومفعول معطوف على ﴿نَسْتَحْوِذْ﴾، وفاعله ضمير يعود على ﴿الْمُنَافِقِينَ﴾، ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾: متعلق به، ﴿فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ﴾ ﴿الفاء﴾: استئنافية، ﴿الله﴾: مبتدأ، وجملة ﴿يَحْكُمُ﴾ خبره، والجملة الإسمية مستأنفة، ﴿بَيْنَكُمْ﴾: ظرف ومضاف إليه متعلق بـ ﴿يَحْكُمُ﴾، ﴿يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾: متعلق أيضا بـ ﴿يَحْكُمُ﴾، ﴿وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ﴾: ناصب وفعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة قوله: ﴿فَاللَّهُ يَحْكُمُ﴾، ﴿لِلْكَافِرِينَ﴾: متعلق بـ ﴿يَجْعَلَ﴾، ﴿عَلَى الْمُؤْمِنِينَ﴾: متعلق أيضًا بـ ﴿يَجْعَلَ﴾ أو حال من ﴿سَبِيلًا﴾؛ لأنه صفة نكرة قدمت عليها فيعرب حالًا ﴿سَبِيلًا﴾: مفعول به.
﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا﴾.
﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ﴾: ناصب واسمه، ﴿يُخَادِعُونَ اللَّهَ﴾: فعل وفاعل ومفعول،
﴿مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا﴾.
﴿مُذَبْذَبِينَ﴾: حال من فاعل ﴿يُرَاءُونَ﴾، أو منصوب على الذم، ﴿بَيْنَ ذَلِكَ﴾: ظرف ومضاف إليه، متعلق بـ ﴿مُذَبْذَبِينَ﴾، ﴿لَا﴾: نافية، ﴿إِلَى هَؤُلَاءِ﴾ جار ومجرور متعلق بمحذوف حال من الضمير المستكن في ﴿مُذَبْذَبِينَ﴾، تقديره: حالة كونهم لا منسوبين إلى هؤلاء المؤمنين، ولا منسوبين على هؤلاء الكافرين، ﴿وَلَا﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة، ﴿لَا﴾: نافية، ﴿إِلَى هَؤُلَاءِ﴾ معطوف على الجار والمجرور قبله. ﴿وَمَنْ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية، ﴿من﴾: اسم شرط في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط أو جملة الجواب، ﴿يُضْلِلِ اللَّهُ﴾: فعل وفاعل، مجزوم بـ ﴿مَنْ﴾ على كونه فعل شرط لها، ﴿فَلَن﴾ ﴿الفاء﴾: رابطة الجواب وجوبا، ﴿لن﴾: حرف نصب، ﴿تَجِدَ﴾: منصوب بـ ﴿لن﴾، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، أو على أي مخاطب، ﴿لَهُ﴾: متعلق به، ﴿سَبِيلًا﴾: مفعول به؛ لأنه
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا﴾.
﴿يا﴾: حرف نداء، ﴿أي﴾: منادى نكرة مقصودة، ﴿ها﴾: حرف تنبيه زائد، ﴿الَّذِينَ آمَنُوا﴾: صفة لـ ﴿أي﴾، وجملة النداء مستأنفة، ﴿لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ﴾: ناف وفعل وفاعل ومفعولان، والجملة صلة الموصول، ﴿مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه حال من فاعل ﴿تَتَّخِذُوا﴾. ﴿أَتُرِيدُونَ﴾ ﴿الهمزة﴾ للاستفهام الإنكاري، ﴿تريدون﴾: فعل وفاعل، والجملة جملة إنشائية مستأنفة، ﴿أَنْ تَجْعَلُوا﴾ ناصب وفعل وفاعل، والجملة في تأويل مصدر منصوب على المفعولية، تقديره: أتريدون جعلكم لله سلطانا مبينا عليكم، ﴿لِلَّهِ﴾: جار ومجرور، متعلق بـ ﴿تَجْعَلُوا﴾، ﴿عَلَيْكُمْ﴾: جار ومجرور حال من ﴿سُلْطَانًا﴾ لأنه صفة نكرة قدمت عليها، ﴿سُلْطَانًا﴾: مفعول به، ﴿مُبِينًا﴾ صفة له.
﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (١٤٥)﴾.
﴿إِنَّ﴾: حرف نصب، ﴿الْمُنَافِقِينَ﴾: اسمها، ﴿فِي الدَّرْكِ﴾ جار ومجرور خبر ﴿إِنَّ﴾، ﴿الْأَسْفَلِ﴾: صفة لـ ﴿الدَّرْكِ﴾، ﴿مِنَ النَّارِ﴾: جار ومجرور حال من ﴿الدَّرْكِ﴾، والعامل فيه معنى الاستقرار في الجار والمجرور لاعتماده على المخبر عنه، وجملة ﴿إِنَّ﴾ مستأنفة، ﴿وَلَنْ﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة، ﴿لن﴾: حرف نفي ونصب، ﴿تَجِدَ﴾: فعل مضارع منصوب بـ ﴿لن﴾، ﴿لَهُمْ﴾: متعلق به أو حال من ﴿نَصِيرًا﴾، ﴿نَصِيرًا﴾: مفعول به، والجملة الفعلية في محل الرفع معطوفة على خبر ﴿إن﴾.
﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا﴾.
﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء، ﴿الَّذِينَ﴾: اسم موصول في محل النصب على
﴿مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا﴾.
﴿مَا﴾: اسم استفهام في محل النصب مفعول مقدم وجوبا لكونه مما يلزم الصدارة، ﴿يَفْعَلُ اللَّهُ﴾: فعل وفاعل، والاستفهام هنا للإنكار بمعنى النفي، كما مر في بحث التفسير؛ أَي: لا يفعل الله عذابكم، ﴿بِعَذَابِكُمْ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿يَفْعَلُ﴾، ﴿إن﴾: حرف شرط، ﴿شَكَرْتُمْ﴾: فعل وفاعل في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ على كونه فعل شرط لها، ﴿وَآمَنْتُمْ﴾: معطوف عليه، وجواب ﴿إن﴾ معلوم مما قبلها، تقديره: إن شكرتم وآمنتم لا يعذبكم الله، والجملة مستأنفة ﴿وَكاَنَ اللهُ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية، ﴿كان اللهُ﴾: فعل ناقص واسمها، ﴿شَاكِرًا﴾: خبر أول لها، ﴿عَلِيمًا﴾: خبر ثان لها، والجملة مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها.
﴿ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا﴾ ازداد بمعنى زاد، لازما ومتعديًا، يقال ازداد الشيء إذا طلب منه الزيادة، أصله ازتيد على وزن افتعل، قلبت تاء الافتعال دالًا فصار ازديد، فيقال تحركت الياء وانفتح ما قبلها فقلبت ألفًا، فصار ازداد. ﴿أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ﴾ العزة والعز بكسر أولهما مصدران لعزه يعزه عزًّا وعزة إذا غلبه، والعزة الغلبة والقوة. ﴿حَتَّى يَخُوضُوا﴾ يقال خاض خوضًا من باب قال، والخوض (١) الاقتحام في الشيء، تقول خصت الماء خوضًا وخياضًا، وخضت الغمرات اقتحمتها، وخاضه بالسيف حرك سيفه في المضروب، وتخاوضوا في الحديث إذا تفاوضوا فيه، والمخاضة موضع الخوض، والخوضة بفتح الخاء اللؤلؤة، واختاض بمعنى خاض، وتخوض إذا تكلف الخوض.
﴿الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ﴾ في "المصباح" يقال: تربصت الأمر تربصًا انتظرته، والربصة وزان الغرفة، اسم منه وتربصت الأمر بفلان انتظرت وقوعه به، ﴿أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ﴾ وقولهم نستحوذ واستحوذ مما شذ قياسًا، وفصح استعمالًا؛ لأن من حقه نقل حركة حرف علته إلى الساكن قبلها، وقلبها ألفًا، كاستقام، واستعان، واستبان، وبابه، والاستحواذ: التغلب على الشيء والاستيلاء عليه، ومنه: ﴿اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ﴾، يقال: حاذ وأحاذ بمعنى والمصدر الحوذ.
﴿وَهُوَ خَادِعُهُمْ﴾ والخادع اسم فاعل من خادعته فخدعته، إذا غلبته وكنت أخدع منه، ﴿كسالى﴾ بضم الكاف على قراءة الجمهور جمع كسلان، كسكارى جمع سكران، والضم لغة أهل الحجاز، وفعلان (٢) هذا يجمع على فعالى كهذا، وعلى فعالى كغضبان وغضابى، والكسل الفتور عن الشيء والتواني فيه، وهو ضد النشاط، وأكسل إذا جامع وفتر ولم ينزل، وقال بعضهم في ذم الفلاسفة:
وَمَا انْتَسَبُوْا إِلَى الإِسْلاَمِ إلا | لِصَوْنِ دِمَائِهِمْ أَنْ لاَ تُسَالاَ |
فَيَأَتُوْنَ الْمَنَاكِرَ في نَشَاطٍ | وَيَأتُوْنَ الصَّلاَةَ وَهُمْ كُسَالَى |
(٢) النهر.
قلت: أن المرائي يريهم عمله، وهم يرونه إستحسانه.
﴿مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ﴾ جمع مذبذب اسم مفعول من ذبذب، وفي "المصباح" ذبذبه ذبذبة إذا تركه حيران مترددًا، وفي "أبي السعود": حقيقة المذبذب ما يذب ويدفع عن كلا الجانبين مرة بعد أخرى، وعبارة البيضاوي: والمعنى مرددين بين الإيمان والكفر، من الذبذبة وهي جعل الشيء مضطربًا، وأصل الذب بمعنى الطرد، وقرىء بكسر الذال بمعنى يذبذبون قلوبهم أو دينهم، أو يذبذبون كقولهم: صلصل بمعنى تصلصل، وزلزل بمعنى تزلزل، وفي "الشوكاني": الذبذبة الاضطراب، يقال ذبذبه فتذبذب ومنه قول النابغة:
أَلَمْ ترَ أَنَّ اللهَ أعْطَاكَ سُوْرَةً | تَرَى كُلَّ مُلْكٍ دُوْنَهَا يَتذَبْذَبُ |
﴿سُلْطَانًا مُبِينًا﴾ السلطان يذكر ويؤنث، فتذكيره باعتبار البرهان، وتأنيثه باعتبار الحجة، إلا أن التأنيث أكثر عند الفصحاء، وقال الفراء: التذكير أشهر، وهي لغة القرآن.
﴿فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ﴾ قرأ الكوفيون بخلاف من عاصم: الدرك بسكون الراء، والباقون بفتحها، وفي ذلك قولان:
أحدهما: أن الدَّرْك والدَّرَك لغتان بمعنى واحد، كالشَّمْع والشَّمَع، والغَّدْر والغدر.
والثاني: أن الدرك بالفتح جمع دركة، على حد بقر وبقرة، والدرك مأخوذ من المداركة وهي المتابعة، والدركات بالكاف منازل أهل النار، والدرجات
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات أنواعًا من الفصاحة والبلاغة (١):
فمنها: الجناس المغاير في قوله: ﴿يُخَادِعُونَ﴾ و ﴿خَادِعُهُمْ﴾، وفي قوله: ﴿شَكَرْتُمْ﴾ و ﴿شَاكِرًا﴾.
ومنها: الجناس المماثل في قوله: ﴿جَامِعُ﴾ و ﴿جَمِيعًا﴾، وفي قوله: ﴿كَفَرُوا﴾ و ﴿كَفَرُوا﴾، وفي ﴿وَإِذَا قَامُوا﴾ و ﴿قَامُوا﴾.
ومنها: التكرار في قوله: ﴿ءَامَنوُا ثُمَّ كَفَرُوا﴾، وفي قوله: ﴿المُنَافِقِينَ﴾.
ومنها: الاستعارة في قوله: ﴿ازْدَادُواْ كُفْرًا﴾، وفي قوله: ﴿لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا﴾، وفي قوله: ﴿يَتَرَبَّصُونَ﴾، وفي قوله: ﴿فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ﴾، وفي قوله: ﴿أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ﴾، وفي قوله: ﴿سَبِيلًا﴾، وهذه كلها للأجسام استعيرت للمعاني.
ومنها: الطباق في قوله: ﴿الْكَافِرِينَ﴾ و ﴿الْمُؤْمِنِينَ﴾.
ومنها: الأسلوب التهكمي في قوله: ﴿بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ﴾ حيث استعمل لفظ البشارة مكان الإنذار تهكمًا.
ومنها: الاستفهام الإنكاري في قوله: ﴿أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ﴾ والغرض منه التقريع والتوبيخ.
ومنها: الالتفات في قوله: ﴿وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ﴾ إذا كان الخطاب للمنافقين.
ومنها: التكرار أيضًا في: اسم الله، وفي قوله: ﴿هَؤُلَاءِ﴾ و ﴿هَؤُلَاءِ﴾، وفي قوله: ﴿الْكَافِرِينَ﴾ و ﴿الْكَافِرِينَ﴾.
ومنها: الاختصاص في قوله: ﴿إِلَى الصَّلَاةِ﴾، وفي قوله: ﴿الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ﴾.
ومنها: الاستعارة في: ﴿يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ﴾ استعار اسم الخداع للمجازاة، وفي ﴿سَبِيلًا﴾، وفي ﴿سُلْطَانًا﴾ لقيام الحجة، والدرك الأسفل لانخفاض طبقاتهم في النار، واعتصموا للالتجاء.
ومنها: الحذف في مواضع (١).
والله سبحانه وتعالى أعلم بمعنى كلامه وبمراده به.
* * *
وكان الفراغ من مسودة هذا المجلد السادس في اليوم الرابع والعشرين قبيل المغرب من شهر الله المحرم المبارك، من سنة تسع وأربع مئة وألف من الهجرة النبوية، بحارة الرشد من المسفلة من مكة المكرمة، زادها الله شرفًا، وختم عمرنا فيها، وصلى الله على سيدنا ومولانا محمَّد، وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين آمين.
تم بعون الله تعالى المجلد السادس من شرح حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن، ويليه المجلد السابع، وأوله قوله: ﴿لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا﴾ رقم (١٤٨) من الآيات سورة النساء. وما أحسن قول العلامة الحريري في ملحمة الأعراب:
وَإِنْ تَجِدْ عَيبًا فَسُدَّ اَلْخَلَلاَ | فَجَلَّ مَنْ لاَ عَيْبَ فِيْهِ وَعَلَا |
وإِنْ تَجِدْ عَيْبًا فَسُدَّ الخَلَلاَ | وَجَلَّ مَنْ لاَ عَيْبَ فِيْهِ وَعَلاَ |
وَلِبَنِي سَبْعٍ وَخَمْسِيْنَ سَنَهْ | مَعْذِرَةٌ مَقْبُولَةٌ مُسْتَحْسَنَهْ |
جَزَى اللَّهُ خَيْرًا مَنْ تَأَمَّلَ صَنْعَتِيْ | وَقَابَلَ مَا فِيهَا مِنَ السَّهْوِ بالْعَفْوِ |
وَأَصْلَحَ مَا أَخْطَأتُ فِيْهِ بِفَضْلِهِ | وَفِطْنَتِهِ أَستَغْفِرُ اللهَ مِنْ سَهْوِيْ |
الصَّبْرُ مِفْتَاحُ مَا يُرْجَى | وَكُلُّ خَيْرٍ بِهِ يَكُوْنُ |
فَاصْبِرْ وَإِنْ طَالَتِ اللَّيَالِي | فَرُبَّمَا أمْكَنَ الْحَزُوْنُ (١) |
وُرُبَّمَا نِيْلَ بِاصطِبَارِ | مَا قِيْلَ هَيْهَاتَ لاَ تَكُوْن |
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله على إفضاله، والصلاة والسلام على نبيه وآله، سيدنا محمَّد من القرآنُ مِنْ خُلُقِهِ وحالِه.قال الله سبحانه جلَّ وعلا:
﴿لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا (١٤٨) إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا (١٤٩) إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (١٥٠) أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (١٥١) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (١٥٢) يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا (١٥٣) وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (١٥٤) فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (١٥٥) وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا (١٥٦) وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (١٥٧) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (١٥٨) وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا (١٥٩)﴾.
قوله تعالى: ﴿لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ﴾ إلى قوله: ﴿أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنه لما ذكر الله سبحانه وتعالى المنافقين وفضحهم في الآيات السابقة.. ذكر هنا أنه لا يحب إظهار الفضائح والقبائح إلا في حقِّ منْ زاد ضرره وعظم خطره، فلا عجيب أن يكشف الله عن المنافقين الستر. ثم تحدث عن اليهود، وعدد بعض جرائمهم الشنيعة، كطلبهم رؤية الله جهرةً، وعبادتهم للعجل، وادعائهم صلب المسيح، واتهامهم مريم البتول بالفاحشة، إلى غير ما هناك من قبائح وجرائم شنيعة.
وعبارة المراغي هنا قوله تعالى: ﴿لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ...﴾ الآيات، مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما بين كثيرًا من عيوب المنافقين ومفاسدهم لإقامة الحجة عليهم وحذر المؤمنين من مثل أعمالهم وأخلاقهم - كما قال: ﴿وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ﴾ بين هنا حكم الجهر بالسوء من القول، وإبداء الخير وإخفائه؛ حتى لا يستدل المؤمنون بذكر عيوب المنافقين والكافرين في القرآن على استحباب الجهر بالسوء من القول أو مشروعيته إذا كان حقًّا على الإطلاق، فيفشوا ذلك، وفي هذا من الضرر ما سنذكره. وفي "الجمل": مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن ما تقدم فيه ذكر قبائح المنافقين وإيذائهم للمؤمنين، فالمؤمنون مظلومون، فيجوز لهم ذكر سوئهم جهرًا، وأيضًا تناسب قوله شاكرًا، أي: سواء كان سرًّا أو جهرًا، وهذا ضده. انتهى.
وقال أبو حيان (١): مناسبة هذه الآية لما قبلها هي: أنه تعالى لما ذكر من أحوال المنافقين وذمهم وإظهار فضائحهم ما ذكر وبين ظلمهم واهتضامهم جانب المؤمنين.. سوغ هنا للمؤمنين أن يذكروهم بما فيهم من الأوصاف الذميمة، وقال عليه السلام: "اذكروا الفاسق بما فيه كي يحذره الناس" انتهى.
قوله تعالى: ﴿يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ...﴾ الآيات، مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما (٢) بين في سابق الآيات حال الذين يكافرون بالله ورسله ويفرقون بين الله ورسله فيقولون: نؤمن ببعض ونكفر ببعض وهم أهل الكتاب.. بين في هذه الآيات بعض حوادث لليهود تدل على شديد تعنتهم وجهلهم بحقيقة الدين.
أسباب النزول
قوله تعالى: ﴿لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ...﴾ الآية، سبب نزولها: أن رجلًا استضاف قومًا فلم يحسنوا ضيافته، فلما خرج.. تكلم فيهم جهرًا بسوء. وقيل: إن سبب نزولها أن رجلًا نال من أبي بكر رضي الله عنه والنبي - ﷺ - حاضر، فسكت عنه مرارًا، ثم رد عليه، فقام النبي - ﷺ -، فقال أبو بكر رضي الله عنه: يا رسول الله، شتمني فلم تقل شيئًا، حتى إذا رددت عليه قمت؟! فقال له: "إن ملكًا كان يجيب عنك، فلما رددت عليه.. ذهب الملك وجاء الشيطان، فقمت" فنزلت الآية.
قوله تعالى: ﴿يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ...﴾ الآية، سبب نزولها (٣): ما أخرجه ابن جرير عن محمَّد بن كعب القرظي قال: جاء ناسٌ من أهل الكتاب إلى رسول الله - ﷺ - فقالوا: إن موسى جاءنا بالألواح من عند الله، فأتنا بالألواح حتى نصدقك، فأنزل اللهُ عزَّ وجل: ﴿يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ﴾ إلى قوله: ﴿بُهْتَانًا عَظِيمًا﴾ فجثا رجل من اليهود فقال: ما أنزل الله عليك ولا على موسى ولا على عيسى
(٢) المراغي.
(٣) لباب النقول.
ورُوي: أن كعبًا وأصحابه وفنحاص قالوا لرسول الله - ﷺ -: إن كنتَ رسولًا من عند الله.. فأتنا بكتاب من السماء جملة، كما جاء موسى بالألواح.
التفسير أوجه القراءة
١٤٨ - ﴿لَا يُحِبُّ اللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى، ولا يرضى من أحد ﴿الْجَهْرَ﴾ والإظهار أو الإسرار ﴿بِالسُّوءِ﴾ والقبيح حالة كونه كائنًا ﴿مِنَ اَلقَوْلِ﴾ أو الفعل، والجهر ليس بقيد، وكذا القول ليس بقيد. ومعنى حب الله لشيء: هو الرضا به والإثابة عليه، والجهر يقابل السر والإخفاء. والسوء من القول: هو ما يسوء من يقال فيه، كذكر عيوبه ومساويه التي تؤذي كرامته؛ أي: لا يحبُّ الله رفع الصوت بالسوء؛ أي: بأحوال الناس المكتومة؛ كغيبة ونميمة، فإن العاقل من اشتغل بعيوبه.
والمعنى: أنه تعالى لا يحبّ من عباده أن يجهروا فيما بينهم بذكر العيوب والسيئات؛ لما في ذلك من المفاسد الكثيرة التي من أهمها:
١ - أنه مجلبة للعداوة والبغضاء بين من يجهر بالسوء ومن ينسب إليه هذا السوء، وقد يصل الأمر إلى هضم الحقوق وسفك الدماء.
٢ - وأنه يؤثر في نفوس السَّامعين تأثيرًا ضارًّا بهم، فقد جرت العادة بأن الناس يقتدي بعضهم ببعض، فمن رأى إنسانًا يسب آخر لضغائن بينه وبينه أو لكراهته إياه.. قلده في ذلك ولا سيما إذا كان من الأحداث الذين يغلب عليهم التقليد، أو من طبقة دون طبقته؛ إذ عامة الناس يقلدون خواصهم، فإذا ظهرت المنكرات في الخاصّة لا تلبث أن تصل إلى العامّة وتفشو بينهم، ومن تميل نفسه إلى منكر أو فاحشة.. يجترىء على ارتكابهما إذا علم أن له سلفًا وقدوةً فيهما، فسماع السّوء كعمل السوء، فذاك يؤثر في نفس السامع، وهذا يؤثر في نفس الرائي والناظر، وأقل هذه الأضرار: أنه يضعف في النفس استقباحه واستبشاعه، خصوصًا إذا تكرر السماع أو النظر. وكثير من الناس يجهل مبلغ تأثير الكلام في القلوب، فلا ينزهون ألسنتهم عن السوء من القول ولا أسماعهم عن الإصغاء إليه.
﴿إِلَّا مَنْ ظُلِمَ﴾ قيل: الاستثناء فيه متصل، والمعنى عليه: لا يحبّ الله (١) تعالى أن يجهر أحد بالسّوء كائنًا من القول إلا جهر من ظلم فهو غير مَسْخوطٍ عليه عنده تعالى، وذلك بأن يقول: سرق فلان مالي، أو غصبني، أو سبني، أو قذفني، ويدعو عليه دعاء جائزًا؛ بأن يكون بقدر ظلمه، فلا يدعو عليه بخراب دياره لأجل أخذ ماله منه، ولا يسب والده وإن كان هو فعل ذلك، ولا يدعو عليه لأجل ذلك بالهلاك، بل يقول: اللهمَّ خلص حقي منه، أو اللهمَّ جازه أو كافئه، ولا يجوز أن يدعو عليه بسوء الخاتمة أو الفتنة في الدين. وقيل: (٢) الاستثناء فيه منقطع، والمعنى عليه: ﴿إِلَّا مَنْ ظُلِمَ﴾، أي: لكن من ظلمه ظالم فجهر بالشكوى من ظلمه شارحًا ظلامته لحاكم أو غيره ممن ترجى نجدته ومساعدته على إزالة هذا الظلم.. فلا حرج عليه في ذلك؛ فإن الله لا يحب لعباده أن يسكتوا على الظّلم، ولا أن يخضعوا للضيم، بل يحب لهم العزة والإباء، فها هنا تعارضت مفسدتان: مفسدة الجهر بالشكوى من الظلم بقول السوء، ومفسدة السكوت على الظلم وهو مدعاة فشوه والتمادي فيه، وذاك مما يؤدي إلى هلاك الأمم وخراب العمران، وكانت ثانيهما أخف الضررين فأجيزت للضرورة التي تقدر بقدرها. وإذًا: فلا يجوز للمظلوم أن يتمادى في الجهر في السوء بما لا دخل له في دفع الظلم، وفي الحديث: "إن لصاحب الحق مقالًا". رواه الإِمام أحمد.
(٢) المراغي.
﴿وَكَانَ اللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿سَمِيعًا﴾ لِمَا يجهر به من السّوء، فلا يفوته قولٌ من أقوال مَنْ يجهر بالسوء ﴿عَلِيمًا﴾ بما يسر به منه، فلا يعزب عن علمه البواعث التي أدت إليه؛ إذ لا يخفى عليه شيء من أقوال العباد ولا من أفعالهم ونياتهم، فمن جهر بالسوء الذي لا يحبه اللهُ لعباده لضرره ومفسدته لظلم وقع عليه.. فإنه لا يؤاخذه، بل ربما أثابه على ذلك؛ لإراحة الناس من شر فاعله، فإن الظالم إن لم يؤاخذ على ظلمه يزداد فيه ضراوة وإصرارًا. وقيل: سميعًا لكلام المظلوم، عليمًا بالظالم. وقيل: سميعًا بشكوى المظلوم، عليمًا بعقبى الظالم، أو عليمًا بما في قلب المظلوم، فليتقِ الله ولا يقل إلّا الحق. وهذه الجملة خبر، ومعناه: التهديد والتحذير
١٤٩ - ﴿إِنْ تُبْدُوا﴾ وتظهروا ﴿خَيْرًا﴾؛ أي: عمل بر وخير؛ كالصلاة والصيام والصدقة مثلًا ﴿أَوْ تُخْفُوهُ﴾؛ أي: تخفوا الخير. وتعملوه سرًّا ﴿أَوْ تَعْفُوا﴾ وتسامحوا ﴿عَنْ سُوءٍ﴾؛ أي: عن مظلمة لكم المؤاخذة عليها؛ أي: تسامحوا عن ظلم من ظلمكم وهذا هو المقصود من الكلام (٣). وذكر إبداء الخير وإخفائه توطئة له، ولذلك رتب عليه قوله: ﴿فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا﴾ وهذا تعليل لجواب الشرط المحذوف، تقديره: فهو أولى لكم من تركه؛ أي: فالعفو عن السوء أولى وأصلح لكم من ترك العفو؛ فإن الله سبحانه وتعالى ﴿كَانَ عَفُوًّا﴾؛ أي:
(٢) الشوكاني.
(٣) البيضاوي.
والمعنى: إن تبدوا الصدقة فتعطوها الفقراء جهرًا أو تخفوها فتعطوها سرًّا، أو تعفوا عن مظلمة.. فإن الله كان عفوًا لمن عفا، قديرًا على إيصال الثواب إليه. وبالجملة فهو حث للمظلوم على عفو ما رُخص له في الانتصار منه، حثًّا له على مكارم الأخلاق.
والخلاصة: أن فاعلي الخير سرًّا وجهرًا والعافين عمن يسيء إليهم.. يجزيهم ربهم من جنس ما عملوا، فيعفو عن سيئاتهم ويجزل مثوبتهم، والله من شأنه العفو، وهو القدير الذي لا يعجزه الثواب الكثير على العمل القليل.
واعلم: أن جميع مواضع الخيرات على كثرتها محصورة في قسمين (٣):
أحدهما: صدق النية مع الحق.
والثاني: التخلق مع الخلق. فالذي يتعلق بالخلق ينحصر في قسمين أيضًا، وهما:
إيصال نفعٍ إليهم في السّر والعلانية، وهو المشار إليه بقوله: ﴿إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ﴾.
ودفع ضرر عنهم، وهو المشار إليه بقوله: ﴿أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ﴾ فدخل في هذين القسمين جميعُ أنواع الخير وأعمالِ البر.
١٥٠ - ولما فرغ من ذكر المشركين والمنافقين.. ذكر الكفار من أهل الكتاب،
(٢) الخازن.
(٣) الخازن والمراح.
١٥١ - فالإشارة بقوله: ﴿ذَلِكَ﴾ إلى قوله نؤمن ونكفر ﴿أُولَئِكَ﴾ المفرقون بين الله وبين رسله ﴿هُمُ الْكَافِرُونَ﴾؛ أي: هم الذين كفروا كفرًا ﴿حَقًّا﴾؛ أي: ثابتًا يقينًا لا شك فيه؛ لأن الله تعالى قد أمرهم بالإيمان بجميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وما من نبي من الأنبياء إلا وقد أخبر قومه بحقيقة دين نبينا محمَّد - ﷺ -، فمن كفر بواحد منهم.. فقد كفر بالكل وبالله تعالى، وإنما قال (٢) حقًّا، توكيدًا لكفرهم؛ لئلا يتوهم متوهم أن الإيمان ببعض الرسل يزيل اسم الكفر عنهم، وليعلم أن الكفر ببعض الأنبياء كالكفر بكلهم.
﴿وَأَعْتَدْنَا﴾؛ أي: هيأنا ﴿لِلْكَافِرِينَ﴾ اليهود والنصارى وغيرهم {عَذَابًا
(٢) الخازن.
والخلاصة (١): أن الكافرين بالرسل فريقان:
فريق: لا يؤمن بأحد منهم؛ لإنكارهم النبوة وزعمهم أن ما أتى به الأنبياء من الهدى والشرائع هو من عند أنفسهم لا من عند الله تعالى، وأكثر الملحدين والشوعيين في هذا العصر من ذلك الفريق.
وفريق آخر: يؤمن ببعض الرسل دون بعض، كقول اليهود: نؤمن بموسى ونكفر بعيسى ومحمد فهما ليسا برسولين؛ لأن النسخ عندهم من المستحيل، وكقول النصارى: نؤمن بموسى وعيسى ونكفر بمحمد، وكل من الفريقين مستحقون للعذاب، ولا عبرة بما يدعونه إيمانًا. ﴿وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا﴾، أي: وأعددنا لكل كافرٍ، سواء أكان منهم أم من غيرهم عذابًا فيه ذل وإهانة لهم؛ جزاء كفرِهِم الذي ظنوا فيه العزة والكرامة، ذاك أن من آمن بالله ولم يؤمن بوحيه إلى رسله.. لا يكون إيمانه صحيحًا، ولا يهتدي إلى ما يجب عليه من الشكر، ولا يعرف كيف يعبده على الوجه الذي يرضيه، ومن ثم ترى أمثال هؤلاء ماديين، لا تهمهم إلا شهواتهم، كما أن من آمن ببعض الرسل وكفر ببعض، كأهل الكتاب.. لا يعتد بإيمانه؛ لأن الإيمان بالرسالة على الوجه الحق إنما يكون بفهمها وفهم صفات الرسل ووظائفهم وتأثير هدايتهم، ومن فهم هذا حق الفهم.. علم أن صفات الرسل قد ظهرت بأكملها في محمَّد - ﷺ -، فهو قد جاء بكتاب حوى ما لم يحوه كتاب آخر، مع أنه نشأ بين قوم أميين، ونقل كتابه وأصول دينه بالتواتر القطعي والأسانيد المتصلة دون غيره من الكتب.
١٥٢ - وبعد أن ذكر حال الفريقين السابق ذكرهما ذكر حال فريق ثالث فقال: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ﴾؛ أي: والذين صدقوا بوحدانية الله تعالى ونبوة جميع أنبيائه، وأن جميع ما جاؤوا به من عند الله حق وصدق ﴿وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ﴾؛ أي: من الرسل بالإيمان به، بل آمنوا بجميعهم، وهم المؤمنون، وإنما
وقرأ عاصم في رواية حفص (١) ﴿يُؤْتِيهِمْ﴾ بالياء؛ ليعود الضمير على اسم الله قبله. وقرأ الباقون، ﴿نؤتيهم﴾ بالنون على الالتفات، ومقابله: وأعتدنا والقراءتان متواترتان، فلا أولوية لإحداهما على الأخرى، خلافًا لمن توهمه. ﴿وَكاَنَ اَللهُ﴾ سبحانه تعالى ﴿غَفُورًا﴾ لهفوات من صح إيمانه ولم يشرك بربِّه أحدًا، ولم يفرِّق بين أحد من رسله ﴿رحِيمًا﴾ به، يعامله بالإحسان ويضاعف حسناته ويزيد على ما وعد تفضلًا منه ورحمة.
والخلاصة: والذين آمنوا بالله وجميع الرسل وعملوا بشريعة آخرهم علمًا منهم بأن جميعهم مرسل من عند الله تعالى، وما مثلهم إلا مثل ولاة يرسلهم السلطان إلى البلاد، ومثل الكتب التي جاؤوا بها مثل القوانين التي يصدر السلطان مراسيم للعمل بها، فكل وال منهم إنما ينافذ أوامر السلطان، وكل قانون يعمل به؛ لأنه منه، وكل قانون جديد ينسخ ما قبله ويمنع العمل به، وأولئك يؤتينهم الله أجورَهم بحسب حالهم في العمل؛ لأنهم وقد صح إيمانهم به وبرسله يهديهم إلى العمل الصالح؛ إذ هو الأثر اللازم لذلك الإيمان الصحيح.
ولم يقل في هؤلاء أنهم هم المؤمنون حقًّا كما في ﴿أُوْلَئِكَ هُمُ اَلْكَافِرُونَ حَقًا﴾ لئلا يدور بخلد أحد أن كمال الإيمان يوجد بدون العمل الصالح، فيغتر بذلك ويترك العمل النافع، وهذا مما يتلاءم مع نصوص الدين، فقد وصف الله تعالى المؤمنين حقًّا بقوله: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٢) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (٣) أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٤)﴾.
﴿فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ﴾؛ أي: فأحرقتهم النار التي جاءت من السماء فماتوا. وقرأ السلمي والنَّخعي (٢): ﴿فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ﴾ وقراءة الجمهور ﴿الصَّاعِقَةُ﴾.
(٢) البحر المحيط.
والمقصود من هذا (١): تسلية النبي - ﷺ -، والمعنى: أنَّ هؤلاء الذين يطلبون منك يا محمَّد أن تنزل عليهم كتابًا من السماء إنما يطلبونه عنادًا ولجاجًا، فإني قد أنزلت التوراة جملة واحدة على موسى، وآتيته من المعجزات الباهرات والآيات البينات ما فيه كفاية، ثم إنهم طلبوا الرؤية على سبيل العناد، وعبدوا العجل، وكل ذلك يدل على جهلهم وأنهم مجبولون على اللجاج والعناد. وفي قوله: ﴿فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ﴾ استدعاء إلى التوبة.
والمعنى: أنَّ أولئك الذين أجرموا لما تابوا.. عفونا عنهم، فتوبوا أنتم نعف عنكم ﴿وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا﴾؛ أي: وأعطينا موسى قهرًا ظاهرًا وتسلطًا بيِّنًا عليهم، فإنه أمرهم بقتل أنفسهم توبة من عبادة العجل، فبادروا إلى الامتثال، فقتل منهم سبعون ألفًا في يوم واحد، وفي هذا بشارة للنبي - ﷺ - بأن هؤلاء الكفار وإن كانوا يعاندون فإنك ستغلب عليهم آخرًا وتقهرهم.
١٥٤ - ثم حكى الله تعالى عنهم سائر جهالاتهم وإصرارهم على أباطيلهم، وقد تقدم بعضها في سورة البقرة، فقال: ﴿وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ﴾؛ أي: قلعنا ورفعنا وحبسنا
﴿وَقُلْنَا لَهُمُ﴾ على لسان موسى أو على لسان يوشع عليهما السلام: ﴿ادْخُلُوا الْبَابَ﴾؛ أي: باب هذه القرية، وهي قرية بيت المقدس، أو أريحا حالة كونكم ﴿سُجَّدًا﴾ أي: ركعًا خاضعين مطأطئين الرؤوس مائلي الأعناق ذلة وانكسارًا لعظمته؛ أي: وقلنا لهم على لسان يوشع: ادخلوا باب هذه القرية بذلة وانكسار، فخالفوا ودخلوا وهم يزحفون على أستاههم ﴿وَقُلْنَا لَهُمْ﴾ قيل: على لسان داود عليه السلام: ﴿لَا تَعْدُوا﴾؛ أي: لا تجاوزوا حدود الله ﴿فِي﴾ يوم ﴿السَّبْتِ﴾ إلى ما لا يحل لكم فيه؛ أي: لا تظلموا باصطياد الحيتان فيه، وذلك أنهم نهوا عن أن يصطادوا السمك في يوم السبت، فاعتدوا واصطادوا فيه، فمسخوا قردة وخنازير، وقيل: المراد به: النهي عن العمل والكسب في يوم السبت.
وقرأ ورش (٢): ﴿لا تعدوا﴾ بفتح العين وتشديد الدال، على أن الأصل: لا تعتدوا، فألقيت حركة التاء على العين وأدغمت التاء في الدال، وقرأ قالون بإخفاء حركة العين وتشديد الدال، والنص بالإسكان، وأصله أيضًا: لا تعتدوا وقرأ الباقون من العشرة ﴿لا تعْدوا﴾ بإسكان العين وتخفيف الدال من عدى يعد، وقال تعالى: ﴿إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ﴾ وقرأ الأعمش والأخفش ﴿لا تعتدوا﴾ من اعتدى الخماسي. ﴿وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا﴾ الميثاق الغليظ: العهد المؤكَّد
(٢) البحر المحيط.
١٥٥ - ثم إنهم نقضوا ذلك الميثاق، وهو قوله تعالى: ﴿فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ﴾ ما (١): مزيدة للتأكيد، والباء: سببية متعلقة بلعنا المحذوف، ويجوز أن تتعلق بـ ﴿حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ﴾ فيكون التحريم بسبب النقض، وما عطف عليه إلى قوله: ﴿فَبِظُلْمٍ﴾؛ أي: لعنَّا أهلَ الكتاب وفعلنا بهم ما فعلنا من لَعْن إلى غضب إلى ضرب الذلة والمسكنة وإزالة الملك والاستقلال بسبب نقضهم للميثاق الذي واثقهم الله به، فأحلوا ما حرمه الله، وحرموا ما أحله الله ﴿و﴾ لعناهم بـ ﴿كفرهم﴾ وجحودهم ﴿بِآيَاتِ اللَّهِ﴾ وحججه الدالة على صدق أنبيائه ﴿و﴾ لعناهم بـ ﴿قتلهم الأنبياء﴾ الذين أرسلوا لهدايتهم بعد قيام الحجة والدلالة على صحة نبوتهم؛ كزكريا ويحيى عليهما السلام ﴿بِغَيْرِ حَقٍّ﴾، أي: بغير استحقاق لذلك القتل، حتى في زعمهم ﴿و﴾ لعنَاهم بـ ﴿قولهم﴾ للنبي - ﷺ -: ﴿قُلُوبُنَا غُلْفٌ﴾: جمع أغلف، كحمر وأحمر، أي: مغطاة مغشاة، أي: عليها أغطية، وغشاوة، فهي لا تفقه ما تقول، ومحجوبة عليها حجاب لا يصل إليها شيء من الذكر والوعظ ولا يؤثر فيها، وقيل: جمع غلاف، أي: قلوبنا أوعية للعلم، فلا حاجة بنا إلى ما تدعونا إليه، فرد الله عليهم بقوله: ﴿بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ﴾ أظهر القراء لام بل في ﴿بَلْ طَبَعَ﴾؛ إلا الكسائي، فأدغم من غير خلاف، وعن حمزة خلاف؛ أي: ليس الأمر كما قالوا: بل ختم الله على قلوبهم بسبب كفرهم، فغشيت وغطيت بغطاء معنوي، فلا تعي وعظًا؛ مجازاة على كفرهم، أو جعلها الله كالسكة المطبوعة - الدراهم مثلًا - في قساوتها، وجعلها بوضع خاص لا تقْبل غيرَه؛ أي: ليس ما وصفوا به قلوبهم هو الحق الواقع، بل لأن الله تعالى ختم عليها بسبب كفرهم الكسبي، وما له من الأثر القبيح في أعمالهم وأخلاقهم، فهم باستمرارهم على ذلك الكفر لا ينظرون في شيء آخر نظر استدلال واعتبار، مع أنه من الأمور التي يصل إليها اختيارهم، ولكنّهم لا يختارون إلا ما ألفوا وتعودوا ﴿فَلَا يُؤْمِنُونَ﴾؛ أي: أهل الكتاب ﴿إِلَّا﴾ إيمانًا ﴿قَلِيلًا﴾ لا يعتد به، وهو
١٥٦ - ﴿وَبِكُفْرِهِمْ﴾؛ أي: وطبع اللهُ على قلوبهم بكفرهم بعيسى عليه السلام؛ لإنكارهم قدرة الله تعالى على خلق الولد من دون الأب، وهو (١) معطوف على ﴿بكفرهم﴾؛ لأنه من أسباب الطبع، أو معطوف على قوله: ﴿فَبِمَا﴾ نقضهم ويجوز أن يعطف مجموع هذا وما عطف عليه على مجموع ما قبله، ويكون تكرير ذلك الكفر إيذانًا بتكرر كفرهم، فإنهم كفروا بموسى، ثم بعيسى، ثم بمحمد - ﷺ - ﴿و﴾ طبع الله على قلوبهم بـ ﴿قولهم﴾ وافترائهم ﴿عَلَى مَرْيَمَ﴾ بنت عمران أم عيسى عليهما السلام ﴿بُهْتَانًا عَظِيمًا﴾؛ أي: كذبًا شنيعًا يبهت من يقال فيه، أي: يدهشه ويحيره، لبعده وغرابته. والمراد به هنا: رميها بالفاحشة، حيث رموها بيوسف النجار، وكان من الصالحين بعدما ظهر منها من الكرامات الدالة على براءتها من كل عيب؛ فإنها ملازمة للعبادة بأنواع الطاعات، وعيسى تكلم حال كونه طفلًا منفصلًا عن أمه، والمعنى: إن الله تعالى طبع على قلوبهم بكفرهم بعيسى وأمه ورميهم إيّاها بالكذب العظيم، وأي بهتان أعظم من البهتان الذي تُبهتُ به العذراء التقية.
١٥٧ - والخلاصة: أن هذا الكفر والبهتان من أسباب ما حل بهم من غضب الله ﴿و﴾ طبع عليها بـ ﴿قَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ﴾ وصلبناه. ﴿رَسُولَ اللَّهِ﴾؛ أي: في زعم عيسى نفسه، فإن وصفهم له بوصف الرسالة استهزاء به، أو أن الله وضع الذكرَ الحسن بقوله: ﴿رَسُولَ اللَّهِ﴾ مكان ذكرهم القبيح في الحكاية عنهم، فإنهم قالوا: هو ساحر ابن ساحرة، أو إنَّ ﴿رَسُولَ اللَّهِ﴾ وصفٌ له من عند الله تعالى مدحًا له، وتنزيهًا له عن مقالتهم التي لا تليق بها. أي: وطبع على قلوبهم بسبب قولهم هذا القول المؤذِن بالجرأة على الباطل والاستهزاء بآيات الله، وذكروه بوصف الرسالة تهكمًا واستهزاء بدعوته بناء على أنه إنما ادعى النبوة
روى (١) النسائي عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن رهطًا من اليهود سبوه وأمه، فدعا عليهم، فمسخهم اللهُ قردةً وخنازير، فاجتمعت اليهود على قتله، فأخبره الله بأنه يرفعه إلى السماء. اهـ خطيب. وفي القرطبي في آل عمران قال الضحاك: لما أرادوا قتل عيسى اجتمع الحواريون في غرفة، وهم: اثنا عشر رجلًا، فدخل عليهم المسيح من مشكاة الغرفة، فأخبر إبليس جميع اليهود، فركب أربعة آلاف رجل فأخذوا باب الغرفة، فقال المسيح للحواريين: أيكم يخرج ويُقْتَل ويكون معي في الجنة؟ فقال رجل: أنا يا نبي الله، فألقى إليه مدرعته من صوف وعمامته من صوف وناوله عكازه، وألقى اللهُ عليه شبه عيسى، فخرج على اليهود فقتلوه وصلبوه، وأما المسيح فكساه الله الريش وألبسه النور وقطع عنه لذة الطعام والمشرب، فصار مع الملائكة اهـ.
﴿وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ﴾؛ أي: في شأن عيسى ﴿لَفِي شَكٍّ مِنْهُ﴾؛ أي: لفي تردد من قتله، وذلك أنهم لما قتلوا الشخص المشبه به.. كان الشبه ألقي على وجهه فقط، ولم يلق على سائر جسده شبه جسد عيسى فلما قتلوه.. نظروا إليه فقالوا: الوجه وجه عيسى، والجسد جسد غيره؛ فاختلفوا، فقال بعضهم: هذا عيسى، وقال بعضهم: الوجه وجه عيسى، والبدن بدن صاحبنا، فليس هذا المقتول بعيسى. وقال بعضهم: إن كان هذا عيسى فأين صاحبنا؟ وإن كان هذا صاحبنا فأين عيسى؟ ﴿مَا لَهُمْ﴾؛ أي: ما لليهود ﴿بِهِ﴾؛ أي: بقتله ﴿مِنْ عِلْمٍ﴾؛ أي: من يقين، أقتل أم لم يقتل؟ ﴿إلا اتباع الظن﴾ استثناء منقطع؛ أي: ما لهم
والخلاصة: أن روايات المسلمين جميعًا متفقة على أن عيسى عليه السلام نجا من أعدائه ومريدي قتله، فقتلوا آخر ظنًّا منهم أنَّه هو.
١٥٨ - ﴿بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ﴾؛ أي: بل رفع الله سبحانه وتعالى عيسى بن مريم بروحه وجسده إلى موضع لا يجري فيه حكمُ غيرِ الله تعالى ولا يصل إليه حكم آدمي، وذلك الموضع هو السماء الثالثة كما في حديث "الجامع الصغير": "آدم في السماء الدنيا تعرض عليه أعمال ذريته، ويوسف في السماء الثانية، وابنا الخالة يحيى وعيسى في السماء الثالثة.. إلخ" وفي بعض كتب المعاريج أنه في السماء الثانية.
﴿وَكَانَ اللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿عَزِيزًا﴾ في ملكه ﴿حَكِيمًا﴾ في صنعه، فرَفْعُ عيسى بروحه وجسده من الأرض إلى السماء لا صعوبة فيه بالنسبة إلى قدرة الله تعالى وحكمته؛ أي: إن الله سبحانه وتعالى عزيزٌ يغلب ولا يغلب، وبهذه العزة أنقذ عبده ورسوله من اليهود الماكرين وحكام الروم الظالمين، وبحكمته جازى كل عامل بعمله، ومن ثم أحل باليهود ما أحل بهم من الذلة والمسكنة والتشريد في الأرض ويوفيهم جزاءهم يوم القيامة - ﴿يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (١٩)﴾.
١٥٩ - ﴿وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾؛ أي: وما أحد من أهل الكتاب اليهود والنصارى ﴿إِلَّا﴾ والله ﴿لَيُؤْمِنَنَّ﴾ ذلك الكتابي ﴿بِهِ﴾؛ أي: بعيسى ﴿قَبْلَ مَوْتِهِ﴾؛ أي: قبل موت ذلك الكتابي، قبل أن تزهق روحه، حين عاين ملائكة الموت، فلا ينفعه إيمانهُ وقتئذ؛ لانقطاع التكليف. والمعنى: وإن كان أحد من أهل الكتاب عندما يدركه الموت ينكشف له الحق في أمر عيسى وغيره من أمور الدين، فيؤمن بعيسى إيمانًا حقًّا لا زيغ فيه ولا ضلال، فاليهودي يعلم أنه رسولٌ صادقٌ في رسالته
وفائدة إخبارهم بذلك: بيان أنه لا ينفعهم حينئذ إيمانهم، فعليهم أن يبادروا به قبل أن يضطروا إليه مع عدم الجدوى والفائدة ﴿وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ﴾ عيسى عليه السلام ﴿عَلَيْهِمْ﴾؛ أي: على أهل الكتاب ﴿شَهِيدًا﴾ فيشهد على اليهود: أنهم كذبوه وطعنوا فيه، وعلى النصارى: أنهم أشركوا به، وكل نبي شاهد على أمته، كما قال تعالى: ﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا (٤١)﴾، وقد ورد في الآثار ما يدل على اطلاع الناس قبل موتهم على منازلهم في الآخرة، فيبشرون برضوان الله أو بعذابه وعقوبته. روى البخاري عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله - ﷺ -: "إن المؤمن إذا حضره الموت بشر برضوان الله وكرامته، وإن الكافر إذا حضر - حضره الموت - بشر بعذاب الله وعقوبته". وروى ابن مردويه عن ابن عباس: "ما من نفس تفارق الدنيا حتى ترى مقعدها من الجنة أو النار" وهذا يؤيد ما روي عن ابن عباس في تفسير الآية: من أن الملائكة تخاطب من يموت من أهل الكتاب قبل خروج روحه بحقيقة أمر المسيح مع الإنكار الشديد والتقبيح.
فصل في بيان الخلاف الجاري في مرجع الضمير في قوله: ﴿قَبْلَ مَوْتِهِ﴾
واعلم: أنه اختلف المفسرون في هذا الضمير إلى من يرجع (١):
فقال ابن عباس وأكثر المفسرين: إن الضمير يرجع إلى الكتابي، والمعنى على هذا القول: وما من أحد من أهل الكتاب إلا آمن بعيسى قبل موت ذلك الكتابي، ولكن يكون ذلك الإيمان عند الحشرجة حين لا ينفعه إيمانه. قال ابن عباس رضي الله عنهما: معناه إذا وقع في اليأس حين لا ينفعه إيمانه، سواء احترق أو تردى من شاهق أو سقط عليه جدار أو أكله سبع أو مات فجأة، فقيل
وذهب جماعة من أهل التفسير إلى أن الضمير يرجع إلى عيسى عليه السلام، وهو رواية عن ابن عباس رضي الله عنهما أيضًا، والمعنى على هذا: وما من أحد من أهل الكتاب إلا ليؤمنن بعيسى قبل موت عيسى، وذلك عند نزوله من السماء في آخر الزمان، فلا يبقى أحد من أهل الكتابين إلا آمن بعيسى حتى تكون الملة واحدةً وهي ملة الإِسلام.
قال عطاء: إذا نزل عيسى إلى الأرض لا يبقى يهوديٌّ ولا نصراني ولا أحدٌ يعبد غير الله إلا آمن بعيسى وأنه عبد الله وكلمته، ويدل على صحة هذا القول: ما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - ﷺ -: "والذي نفسي بيده ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حَكَمًا مقسطًا، فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ويفيض المال حتى لا يقبله أحد". متفق عليه. زاد في رواية "حتى تكون السجدة الواحدة خيرًا من الدنيا وما فيها"، ثم يقول أبو هريرة رضي الله عنه: اقرؤوا إن شئتم ﴿وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ﴾ الآية. وفي رواية قال: قال رسول الله - ﷺ -: "والله لينزلنَّ فيكم ابن مريم حَكَمًا عادِلًا، فليكسرن الصليب وليقتلن الخنزير وليضعن الجزية، ولتتركن القلاص فلا يسعى عليها؛ وليذهبن الشحناء والتباغض والتحاسد، وليدعون إلى المال فلا يقبله أحد". أخرجاه في "الصحيحين".
ففي هذا الحديث دليل على أن عيسى ينزل في آخر الزمان في هذه الأمة، ويحكم بشريعة محمَّد - ﷺ -، وأنه لا ينزل نبيًّا برسالة مستقلةٍ وشريعة ناسخة، بل يكونُ حاكمًا من حكام هذه الأمة وإمامًا من أئمتهم؛ لقوله - ﷺ -: "فيكسر الصليب" يعني: يكسره حقيقة ويبطل ما تزعمه النصارى، وكذلك قتله الخنزير، وقوله:
والجواب: إنَّ هذا الحكم ليس مستمرًا إلى يوم القيامة، بل هو مقيد بما قبل نزول عيسى عليه السلام، وقد أخبر النبي - ﷺ - بنسخه، وليس الناسخ هو عيسى عليه السلام، بل الناسخ لهذا الحكم هو نبينا محمَّد - ﷺ -؛ لأنه هو المبين للنسخ، أو أنّ عيسى عليه السلام يحكم بشريعة محمَّد - ﷺ -، فدل على أن الامتناع من قبول الجزية في ذلك الوقت هو شرع نبينا محمَّد - ﷺ -، والله أعلم. قال - - الزجاج: هذا القول بعيد - يعني قول من قال: إن إيمان أهل الكتاب بعيسى إنما يكون عند نزوله في آخر الزمان - قال: لعموم قوله تعالى: ﴿وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ﴾ قال: والذين يبقون يومئذ، يعني: عند نزوله شرذمة قليلة منهم. وأجاب أصحاب هذا القول - يعني الذين يقولون: إن إيمان أهل الكتاب بعيسى إنما يكون عند نزوله في آخر الزمان - بأن هذا على العموم، ولكنَّ المراد بهذا العموم الذين يشاهدون ذلك الوقت ويدركون نزوله فيؤمنون به.
ويكون معنى الآية: وما من أحد من أهل الكتاب أدرك ذلك الوقت إلا آمن بعيسى عند نزوله من السماء، وصحَّح الطبري هذا القول.
وقال عكرمة في معنى الآية: وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن بمحمد - ﷺ - قبل موت الكتابي، فلا يموت يهودي ولا نصراني حتى يؤمن بمحمد - ﷺ -، وذلك عند الحشرجة، حتى لا ينفعه إيمانه، والله أعلم.
الإعراب
﴿لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا﴾.
﴿لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ﴾ ناف وفعل وفاعل ومفعول، والجملة مستأنفة
﴿إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا (١٤٩)﴾.
﴿إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا﴾: جازم وفعل وفاعل ومفعول. ﴿أَوْ تُخْفُوهُ﴾: فعل وفاعل ومفعول مجزوم معطوف على تبدوا. ﴿أَوْ تَعْفُوا﴾: فعل وفاعل مجزوم معطوف على تبدوا أيضًا. ﴿عَنْ سُوءٍ﴾: جار ومجرور متعلق بتعفوا، وقوله: ﴿فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا﴾: تعليل لجواب الشرط المحذوف، وتقديره فهو أي العفو أولى لكم من تركه، فإن الله كان عفوًّا قديرًا. ﴿فَإِنَّ اللَّهَ﴾ (الفاء): تعليلية، (إن): حرف نصب، ﴿اَللهَ﴾: اسمها، ﴿كاَنَ﴾: فعل ماض ناقص، واسمها، ضمير يعود على الله. ﴿عَفُوًّا﴾: خبر أول لها. ﴿قَدِيرًا﴾: خبر ثان لها، وجملة كان: في محل الرفع خبر إنَّ، وجملة إنَّ في محل الجر بلام التعليل المقدرة المدلول عليها بالفاء التعليلية.
﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا﴾.
﴿إِنَّ﴾ حرف نصب. ﴿الَّذِينَ﴾ في محل النصب اسمها، ﴿يَكْفُرُونَ﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد ضمير الفاعل. ﴿بِاللَّهِ﴾: جار ومجرور متعلق بيكفرون، ﴿وَرُسُلِهِ﴾ معطوف على لفظ الجلالة ﴿وَيُرِيدُونَ﴾: فعل وفاعل معطوف على يكفرون ﴿أَنْ يُفَرِّقُوا﴾: ناصب وفعل وفاعل، والجملة في تأويل مصدر منصوب على المفعولية، تقديره: ويريدون تفريقهم ﴿بَيْنَ اللَّهِ﴾: ظرف ومضاف إليه متعلق بـ ﴿يُفَرِّقُوا﴾. ﴿وَرُسُلِهِ﴾: معطوف على الجلالة.
﴿أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (١٥١) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (١٥٢)﴾.
﴿أُولَئِكَ﴾: مبتدأ. ﴿هُمُ﴾: ضمير فصل. ﴿الْكَافِرُونَ﴾: خبر المبتدأ، والجملة من المبتدأ والخبر في محل الرفع خبر إنَّ، وجملة إنَّ من اسمها وخبرها مستأنفة. ﴿حَقًّا﴾: نعت لمصدر محذوف تقديره: هم الكافرون كفرًا حقًّا، والعامل فيه: اسم الفاعل، أعني: لفظ الكافرون. ﴿وَأَعْتَدْنَا﴾: فعل وفاعل. ﴿لِلْكَافِرِينَ﴾: متعلق به ﴿عَذَابًا﴾: مفعول به. ﴿مُهِينًا﴾: صفة له، والجملة الفعلية مستأنفة. ﴿وَالَّذِينَ﴾: مبتدأ أول. ﴿آمَنُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول. ﴿بِاللَّهِ﴾: متعلق بآمنوا. ﴿وَرُسُلِهِ﴾: معطوف على لفظ الجلالة، ﴿وَلَمْ يُفَرِّقُوا﴾: جازم وفعل وفاعل، معطوف على آمنوا. ﴿بَيْنَ أَحَدٍ﴾: ظرف ومضاف إليه متعلق بيفرقوا. ﴿مِنْهُمْ﴾: جار ومجرور صفة لأحد ﴿أُولَئِكَ﴾: مبتدأ ثان، ﴿سَوْفَ﴾: حرف تنفيس. ﴿يُؤْتِيهِمْ﴾: فعل ومفعول أول ﴿أُجُورَهُمْ﴾: مفعول ثان ومضاف إليه، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر للمبتدأ الثاني، والجملة من المبتدأ الثاني وخبره في محل الرفع خبر للمبتدأ الأول،
﴿يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا (١٥٣)﴾.
﴿يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ﴾: فعل ومفعول أول وفاعل ومضاف إليه. ﴿أَنْ﴾: حرف نصب. ﴿تُنَزِّلَ﴾: فعل مضارع منصوب بأن، وفاعله ضمير يعود على محمد. ﴿عَلَيْهِمْ﴾: متعلق به. ﴿كِتَابًا﴾: مفعول به، والجملة الفعلية صلة أن المصدرية، أن مع صلتها في تأويل مصدر منصوب على كونه مفعولا ثانيًا لسأل، تقديره: يسألك أهل الكتاب تنزيلك عليهم كتابًا من السماء، وجملة سأل مستأنفة استئنافًا نحويًّا. ﴿مِنَ السَّمَاءِ﴾: جار ومجرور صفة لكتابًا، أو متعلق بتنزل. ﴿فَقَدْ﴾: ﴿الفاء﴾ حرف تعليل وعطف على محذوف، تقديره: ولا تستغرب يا محمَّد سؤالهم لك ولا تستعظمه؛ لأنهم قد سألوا موسى أعجب وأغرب من ذلك، قد: حرف تحقيق، ﴿سَأَلُوا﴾: فعل وفاعل، ﴿مُوسَى﴾: مفعول أول، ﴿أَكْبَرَ﴾: مفعول ثان، ﴿مِنْ ذَلِكَ﴾: جار ومجرور متعلق بأكبر، والجملة الفعلية معطوفة على الجملة المحذوفة والجملة المحذوفة مستأنفة. ﴿فَقَالُوا﴾: الفاء حرف عطف وتفسير ﴿قالوا﴾ فعل وفاعل والجملة جملة مفسرة معطوفة على جملة سألوا. ﴿أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً﴾: مقول محكي لقالوا، وإن شئت قلت: ﴿أَرِنَا اللَّهَ﴾: فعل ومفعولان، وفاعله ضمير يعود على الله، ﴿جَهْرَةً﴾: منصوب على المفعولية المطلقة؛ لأنها نوع من مطلق الرؤية فيلاقي عامله في الفعل كما في "الفتوحات". والجملة الفعلية في محل النصب مقول قالوا. ﴿فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ﴾ الفاء: حرف عطفه وتفريع، أخذتهم الصاعقة: فعل ومفعول وفاعل، والجملة معطوفة على جملة قالوا. ﴿بِظُلْمِهِمْ﴾ الباء: حرف جر وسبب، ظلم: مجرور بها، والهاء: مضاف إليه الجار والمجرور متعلق بأخذتهم ﴿ثُمَّ﴾ للترتيب الذكرى، أي: الأخباري،
﴿وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (١٥٤)﴾.
﴿وَرَفَعْنَا﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة، أو معطوفة على آتينا. ﴿فَوْقَهُمُ﴾: ظرف ومضاف إليه، والظرف متعلق برفعنا، ويجوز أن يكون حالًا من الطّور. ﴿الطُّورَ﴾: مفعول به. ﴿بِمِيثَاقِهِمْ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق برفعنا. ﴿وَقُلْنَا﴾: فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة رفعنا. ﴿لَهُمُ﴾: جار ومجرور متعلق برفعنا. ﴿ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا﴾: مقول محكي لقلنا، وإن شئت قلت: ﴿ادْخُلُوا الْبَابَ﴾: فعل وفاعل ومفعول، ﴿سُجَّدًا﴾: حال من فاعل ادخلوا، والجملة في محل النصب مقول لقلنا. ﴿وَقُلْنَا﴾: فعل وفاعل معطوف على رفعنا أيضًا. ﴿لَهُمُ﴾: جار ومجرور متعلق بقلنا. ﴿لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ﴾: مقول محكي لقلنا، وإن شئت قلت: ﴿لَا تَعْدُوا﴾ جازم وفعل وفاعل، ﴿فِي السَّبْتِ﴾: متعلق به، والجملة في محل النصب مقول القول. ﴿وَأَخَذْنَا﴾: فعل وفاعل معطوف على رفعنا. ﴿مِنْهُمْ﴾: متعلق به. ﴿مِيثَاقًا﴾: مفعول به، ﴿غَلِيظًا﴾: صفة له.
﴿فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (١٥٥)﴾.
﴿فَبِمَا﴾ ﴿الفاء﴾: استئنافية بمعنى الواو، الباء: حرف جر وسبب، ﴿ما﴾: زائدة، ﴿نَقْضِهِمْ﴾: مجرور بالباء ومضاف إليه، الجار والمجرور متعلق بمحذوف،
﴿وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا (١٥٦) وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ﴾.
﴿وَبِكُفْرِهِمْ﴾: معطوف على قوله: ﴿فَبِمَا نَقْضِهِمْ﴾ وكرَّر الباء للفصل بينه وبين المعطوف عليه بأجنبي وهو قوله: ﴿بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ...﴾ إلخ. ﴿وَقَوْلِهِمْ﴾: معطوف على كفرهم. ﴿عَلَى مَرْيَمَ﴾: متعلق بقولهم، أو حال من بهتانا. ﴿بُهْتَانًا﴾: مفعول مطلق لقولهم؛ لأنه ضرب منه فهو كقولهم: قعد القرفصاء. ﴿عَظِيمًا﴾: صفة بهتانًا. ﴿وَقَوْلِهِمْ﴾: معطوف على كفرهم. ﴿إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ﴾: مقول محكي لقولهم، وإن شئت قلت: ﴿إنَّ﴾ حرف نصب، ونا: ضمير المتكلمين في محل النصب اسمها، ﴿قَتَلْنَا﴾: فعل وفاعل، ﴿الْمَسِيحَ﴾: مفعول به، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر ﴿إنَّ﴾، وجملة إنَّ في محل النصب مقول القول، ﴿عِيسَى﴾: بدل من المسيح، أو عطف بيان منه، ﴿ابْنَ﴾: صفة لعيسى وهو مضاف، ﴿مَرْيَمَ﴾: مضاف إليه ممنوع من الصرف للعلمية والتأنيث المعنوي، ﴿رَسُولَ اللَّهِ﴾: بدل ثان من المسيح، أو عطف بيان منه، وهو مضاف، ولفظ الجلالة: مضاف إليه. ﴿وَمَا﴾: الواو: حالية،
﴿وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (١٥٧)﴾.
﴿وَإِنَّ﴾ الواو: استئنافية، ﴿إنَّ﴾: حرف نصب، ﴿الَّذِينَ﴾: في محل النصب اسمها، ﴿اخْتَلَفُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول، ﴿فِيهِ﴾: جار ومجرور متعلق به. ﴿لَفِي شَكٍّ﴾ ﴿اللام﴾: لام الابتداء، ﴿في شك﴾: جار ومجرور خبر إن، ﴿مِنْهُ﴾: جار ومجرور صفة لشك، وجملة إنَّ: مستأنفة. ﴿مَا﴾: نافية. ﴿لَهُمْ﴾: جار ومجرور خبر مقدم، ﴿بِهِ﴾: جار ومجرور حال من الضمير المستكن في الخبر، والعامل فيه الاستقرارُ المقدر، ﴿مِنْ عِلْمٍ﴾ ﴿من﴾: زائدة، ﴿علم﴾: مبتدأ، والجملة من المبتدأ والخبر في محل الجر صفة ثانية لشك، أي غير معلوم.
وفي "الفتوحات" (١) قوله: ﴿مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ﴾ يجوز في ﴿علم﴾ وجهان:
أحدهما: أنه مرفوع بالفاعلية، والعامل أحد الجارين إما لهم، وإما به، وإذا جُعل أحدهما رافعًا له تعلق الآخر بما تعلق به الرافع من الاستقرار المقدر، ومِن: زائدة لوجود شرطي الزيادة.
والوجه الثاني: أن يكون مبتدأً زِيدت فيه ﴿مِنْ﴾ أيضًا، وفي الخبر احتمالان أحدهما: أن يكون ﴿لَهُمْ﴾ فيكون به إما حالًا من الضمير المستكن في الخبر والعامل فيها الاستقرار المقدر، وإما حالًا من علم، وإن كان نكرة؛
أحدها: الجر على أنها صفة ثانية لشك؛ أي: غير معلوم.
الثاني: النصب على الحال من شك، وجاز ذلك وإن كان نكرة؛ لتخصيصه بالوصف بقوله منه.
الثالث: الاستئناف، ذكره أبو البقاء، وهو بعيد اهـ "سمين".
﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء منقطع؛ لأن اتباع الظن ليس من جنس العلم، ﴿اتِّبَاعَ﴾: منصوب على الاستثناء. ﴿الظَّنِّ﴾: مضاف إليه. ﴿وَمَا﴾ الواو: عاطفة، ﴿مَا﴾: نافية، ﴿قَتَلُوهُ﴾ فعل وفاعل ومفعول. ﴿يَقِينًا﴾: صفة لمصدر محذوف، تقديره: وما قتلوه قتلًا يقينًا، والجملة في محل الجر معطوفة على جملة قوله: ﴿مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ﴾ علي كونها صفة لشك.
﴿بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (١٥٨) وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا (١٥٩)﴾.
﴿بَلْ﴾: بل: حرف عطف وإضراب. ﴿رَفَعَهُ اللَّهُ﴾: فعل ومفعول وفاعل، ﴿إِلَيْهِ﴾: متعلق برفع، والجملة معطوفة على محذوف، تقديره: ليس الأمر كما قالوا من قولهم: إنا قتلنا المسيح، بل رفعه الله إليه ﴿وَكَانَ اللَّهُ﴾: فعل ناقص واسمه. ﴿عَزِيزًا﴾: خبر أول لكان. ﴿حَكِيمًا﴾: خبر ثان لها، والجملة مستأنفة. ﴿وَإِنْ﴾ (الواو): استئنافية، (إن): نافية، ﴿مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾: جار ومجرور مضاف إليه صفة لمبتدأ محذوف جوازًا، تقديره: وما أحد كائن من أهل الكتاب ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ، ﴿لَيُؤْمِنَنَّ﴾: اللام موطئة لقسم محذوف، تقديره: والله ليؤمنن، ﴿يؤمنن﴾: فعل مضارع في محل الرفع مبني على الفتح؛ لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، وفاعله ضمير يعود على ﴿وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾. ﴿بِهِ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿يؤمنن﴾، ﴿قَبْلَ مَوْتِهِ﴾: ظرف ومضاف إليه متعلق بـ ﴿يؤمنن﴾، والجملة الفعلية جواب القسم لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم مع جوابه
التصريف ومفردات اللغة
﴿لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ﴾: يحبُّ بضم أوله، من أحب الرباعي، وهو بمعنى حبه، وهو أكثر استعمالًا من حب الثلاثي، فهو محب وذاك محب ومحبوب، وأما ثلاثيه فمن المضاعف المعدّى الذي انفرد بالكسر الشاذ، ولم يسمع فيه الضم وكان قياسه ضمَّ عين المضارع، ولكنه لم يسمع على ما قاله ابن مالك في لامية الأفعال:
فَذُوْ التَعَدِّيْ بِكَسْرِ حَبَّهُ وَعِ ذَا | وَجْهَيْنِ هَرَّ وَشَذَّ عَلَّهُ عَلَلاَ |
ومعنى حب الله للشيء هو: الرضا به والإثابة عليه كما مر، وعدمُ حبه للشيء: السخط عليه والعقاب به.
﴿الْجَهْرَ﴾: ضد السر والإخفاء، يقال: جهر الأمر وبالأمر يجهر - من باب نصر - جهرًا وجهارًا وجهرةً إذا أعلنه، وجهر بالقول يجهر - من باب فتح - جهرًا وجهارًا إذا رفع به صوته، وجهر الصوت إذا رفعه. ﴿بِالسُّوءِ﴾ - بضم أوَّله: اسم مصدر من ساءه الأمر يسوءه سوءًا وسواء وسواءة، من باب قال إذا أحزنه أو فعل به ما يكرهه، يجمع على أسواء. وكل آفة الشر والفساد.
﴿إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ﴾ من أبدى الرباعي، يقال: أبدى الشيء إذا
﴿وَأَعْتَدْنَا﴾: أصله أعددنا، قلبت الدال الأولى تاء، فهو من باب أفعل الرباعي، وليست التاء تاء الافتعال كما مر. ﴿سُلْطَانًا﴾: مصدر بمعنى التسلط، وفي "المختار": والسلاطة: القهر، يقال: سلط ككرم وسمع، وسلاطة وسلوطة بالضم، وقد سلطه الله تسليطًا فتسلط عليهم، والسلطان: الوالي، والسلطان أيضًا: الحجة والبرهان، ولا يثنى ولا يجمع؛ لأن مجراه مجرى المصدر. انتهى. ﴿سُجَّدًا﴾: جمع ساجد، كعادل وعدل، وراكع وركع، قال ابن مالك:
وفُعَلٌ لِفَاعِلٍ وَفَاعِلَهْ | وَصْفَيْنِ نَحْوُ عَاذِلٍ وَعَاذِلَهْ |
﴿قُلُوبُنَا غُلْفٌ﴾: جمع أغلف، كحمر جمع أحمر، ويصح أن يكون جمع غلاف، ككتاب وكتب، وسكن للتخفيف. ﴿بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا﴾: يقال: طبع الشيء يطبع - من باب فتح - طبعًا، إذا صوره بصورة ما، وطبع عليه إذا ختم عليه، ويقال: طبع الله على قلبه، أي: ختم وغطى، فلا يعي ولا يوفق، وطبع الدرهم إذا نقشه وسكه، وطبع السيف إذا عمله وصاغه، وطبع الله الخلق خلقهم. ﴿وَمَا صَلَبُوهُ﴾: يقال: صلبه يصلبه صلبًا، - من بابي نصر وضرب - إذا جعله
البلاغة
وتضمنت هذه الآيات أنواعًا من البلاغة والفصاحة والبديع (١):
فمنها: التكرار في قوله: ﴿وَيُرِيدُونَ﴾ و ﴿وَيُرِيدُونَ﴾، وفي قوله: ﴿أَهْلُ الْكِتَابِ﴾ و ﴿كِتَابًا﴾، وفي قوله: ﴿بِمِيثَاقِهِمْ﴾ و ﴿مِيثَاقًا﴾.
ومنا: الطباق بين ﴿تُبْدُوا﴾ ﴿أَوْ تُخْفُوهُ﴾، وفي قوله: ﴿نُؤْمِنُ﴾ ﴿وَنَكْفُرُ﴾.
ومنها: الاختصاص في قوله: ﴿لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ﴾.
ومنها: الإشارة في مواضع.
ومنها: الاستعارة في قوله: ﴿أَنْ يُفَرِّقُوا﴾ ﴿وَلَمْ يُفَرِّقُوا﴾، وهو حقيقة في الأجسام استعير للمعاني، وفي قوله: ﴿سُلْطَانًا﴾ استعير للحجة، وفي قوله: ﴿غُلْفٌ﴾ استعار الغلاف بمعنى الغطاء؛ لعدم الفهم والإدراك؛ أي: لا يتوصل إليها شيء من الذكر والموعظة، و ﴿بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا﴾.
ومنها: زيادة الحرف لمعنى التأكيد في قوله: ﴿فَبِمَا نَقْضِهِمْ﴾.
ومنها: إسناد الفعل إلى غير فاعله في قوله: ﴿فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ﴾، و ﴿جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ﴾ وإلى الراضي به في قوله: ﴿وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ﴾، وفي قوله: ﴿قَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا﴾، وفي قوله: ﴿وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ﴾.
ومنها: حصن النسق في قوله: ﴿فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ﴾، والمعاطيف عليه؛ حيث نسقت بالواو التي تدل على الجمع فقط، وبين هذه الأشياء أعصار متباعدة، فشرّك أوائلهم وأواخرهم لعمل أولئك ورضا هؤلاء.
ومنها: إطلاق اسم الكل على البعض في قوله: ﴿وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ﴾ وهو القرآن والإنجيل، ولم يكفروا بشيء من الكتب إلا بهما، وفي قولهم: ﴿إِنَّا قَتَلْنَا﴾
ومنها: التعريض والتهكم في قوله: ﴿قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ﴾ إذا قلنا: إنه عن كلامهم، قالوه على سبيل التهكم والاستهزاء؛ لأنهم لا يؤمنون برسالته.
ومنها: الاعتراض في قوله: ﴿بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ﴾ ردًّا لمزاعمهم الفاسدة.
ومنها: التوجيه في قوله: ﴿غُلْفٌ﴾ من احتمال المصدر جمع غلاف، أو جمع أغلف.
ومنها: عود الضمير علي غير مذكور في قوله: ﴿لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ﴾ على من جعلهما لغير عيسى.
ومنها: النقل من صيغة فاعل إلى صيغة فعيل في قوله: ﴿شَهِيدًا﴾.
ومنها: الالتفات في قوله: ﴿أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا﴾؛ والأصل: سيؤتيهم، وتنكير الأجر للتفخيم.
ومنها: المجاز المرسل في قوله: ﴿وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ﴾ حيث أطلق الكل وأريد البعض.
ومنها: الحذف في مواضع.
ومنها (١): الإظهار في مقام الإضمار في قوله: ﴿وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا﴾ لغرض ذمهم وتذكيرًا لوصفهم، أو المراد جمع الكافرين.
ومنها: التأكيد في قوله: ﴿أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا﴾؛ لأن قوله حقًّا مصدر مؤكد لمضمون الجملة قبله.
ومنها: التوطئة في قوله: ﴿إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ﴾ قد ذكر
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
﴿فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا (١٦٠) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (١٦١) لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا (١٦٢) إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (١٦٣) وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (١٦٤) رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (١٦٥) لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (١٦٦) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا (١٦٧) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا (١٦٨) إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (١٦٩) يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (١٧٠)﴾.
المناسبة
قوله تعالى: ﴿فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر (١) فضائح اليهود وقبيح أعمالهم.. ذكر هنا تشديده عليهم في الدّنيا والآخرة، أما في الدنيا: فتحريم طيبات كانت محللة لهم، وأما في الآخرة: فبما بينه الله بقوله: ﴿وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾، ثم بين أن فريقًا آمنوا إيمانًا صادقًا، وعملوا الصالحات، فأقاموا الصلاة، وآتوا الزكاة، وتوعدهم بالأجر العظيم يوم القيامة.
قوله تعالى: ﴿إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ...﴾
قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما (٢) أزال في الآيات السالفة ما كان لليهود من شبهة في نبوة محمَّد - ﷺ - بشهادة الله بما أنزل عليه مما لم يستطع البشر أن يأتوا بمثله.. أنْذَرَ في هذه الآيات من يصر منهم على الكفر ويستمر على الإعراض والظلم، وبين لهم سوء العاقبة.
أسباب النزول
قوله تعالى: ﴿إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ...﴾ الآية، سبب نزولها: ما روى (٣) ابن إسحاق عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: قال عدي بن زيد: ما نعلم أن الله أنزل على بشر من شيء من بعد موسى، فأنزل هذه الآية.
قوله تعالى: ﴿لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ...﴾ الآية، سبب نزولها: ما رواه ابن إسحاق عن ابن عباس قال: دخل جماعة من اليهود على رسول الله - ﷺ - فقال لهم: "إني أعلم أنكم تعلمون أني رسول الله " فقالوا: ما نعلم ذلك، فأنزل الله تعالى: ﴿لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ...﴾ الآية.
(٢) المراغي.
(٣) لباب النقول.
١٦٠ - ﴿فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا﴾: فالباء للسببية، والتنوين للتنكير والتعظيم؛ أي: فبسبب ظلم عظيم واقع من الذين رجعوا وتابوا عن عبادة العجل. ﴿حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ﴾؛ أي: على الذين هادوا ﴿طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ﴾؛ أي؛ مستلذات كانت محللة لهم قبل ظلمهم، لا بسبب شيء آخر، كما زعموا أنها كانت محرمة على مَنْ قبلهم، فإن اليهود كانوا كلّما فعلوا معصية من المعاصي يحرم عليهم نوع من الطيبات التي كانت محللة لهم ولمن قبلهم عقوبة لهم. يعني: ما حرمنا عليهم الطيبات التي كانت حلالًا لهم إلا بظلم عظيم ارتكبوه، وذلك الظلم هو: ما ذكره من نقضهم الميثاق، وما عدد عليهم من أنواع الكفر والكبائر العظيمة، مثل قولهم: اجعل لنا إلهًا كما لهم آلهة، وكقولهم: أرنا الله جهرة، وكعبادتهم العجل، فبسبب هذه الأمور حرَّم الله عليهم طيباتٍ كانت حلالًا لهم، لعلهم يرجعون عن ظلمهم، وكانوا كما ارتكبوا معصية يحرم عليهم نوع من الطيبات، وهم مع ذلك كانوا يفترون على الله الكذب، ويقولون: لسنا بأول من حُرِّمت عليه، بل كانت محرَّمة على نوح وإبراهيم، فكذبهم اللهُ تعالى في مواضع كثيرة؛ كقوله: ﴿كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ﴾.
أما الطيبات التي حرَّمها الله تعالى عليهم: فهي ما بُيِّن في قوله جل ذكره في سورة الأنعام: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ﴾ الآية، وقد أبهمها الله تعالى هنا؛ لأن الغرض من السياق العبرة بكونها عقوبة، لا بيانها في نفسها، كما أبهم الظلم الذي كان سببًا في العقوبة؛ ليعلم أن أي نوع منه يكون سببًا للعقاب في الدنيا والآخرة، والعقاب:
إما دنيوي: كالتكاليف الشاقة زمن التشريع، والجزاء الوارد في الكتب على الجرائم، كالحدود والتعزيرات، وما اقتضته السنن التي سنها الله تعالى في نظم الاجتماع، من كون الظلم سببًا لضعف الأمم، وفساد عمرانها، واستيلاء الأمم الأخرى عليها.
وإما أخروي: هو ما بينه في الكتاب الكريم من العذاب في النار، ثم بين
وإنما أعيدت الباء في قوله (١): ﴿وَبِصَدِّهِمْ﴾ ولم تُعَدْ في قوله: ﴿وَأَخْذِهِمُ﴾ وما بعده؛ لأنه قد فصَل بين المعطوف والمعطوف عليه بما ليس معمولًا للمعطوف عليه، بل بالعامل فيه، وهو ﴿حَرَّمْنَا﴾ وما تعلق به، فلما بعد المعطوف من المعطوف عليه بالفصل بما ليس معمولًا للمعطوف عليه.. أعيدت الباء لذلك، وأما ما بعده فلم يفصل فيه إلا بما هو معمول للمعطوف عليه، وهو الربا.
١٦١ - ﴿وَ﴾ حرّمنا عليهم طيبات أحلت لهم بسبب ﴿أَخْذِهِمُ﴾ وأكلهم ﴿الرِّبَا﴾ والزيادة في المعاملات ﴿وَ﴾ الحال أنهم ﴿قَدْ نُهُوا عَنْهُ﴾؛ أي: عن معاملة الربا مطلقًا على ألسنة أنبيائهم، والتوراةُ (٢) التي بأيديهم إنما تصرحُ بتحريم أخذهم الربا من شعبهم ومن إخوتهم دون الأجانب، وهي محرَّفة، أما النسخة التي كتبها موسى.. فقد فقدت باتفاق اليهود والنصارى، وبعض أنبيائهم قد نهوا عن الربا إطلاقًا، فلم يقيدوه بشعب إسرائيل، كقول داود في "المزمور الخامس عشر من الزبور": فضته لا يعطيها بالربا، ولا يأخذ الرشوة من البريء ﴿وَ﴾ حرَّمنا عليهم طيبات أحلت لهم بسبب ﴿أَكْلِهِمْ﴾ وأخذهم ﴿أَمْوَالَ النَّاسِ﴾ ﴿بِـ﴾ الوجه ﴿الْبَاطِلِ﴾؛ أي: بطريق الرشوة والخيانة وسائر الوجوه المحرمة مما أخذ فيه المال بلا مقابل يعتد به.
ونحو هذه الآية قوله تعالى: ﴿سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ﴾ والسحت: الكسب الحرام، فقد كانوا يأخذون أثمان الكتب التي يكتبونها بأيديهم، ثم يقولون: هي من عند الله تعالى.
(٢) المراغي.
قال المفسرون (١): إنّما قال: منهم؛ لأنَّ الله سبحانه وتعالى علم أنَّ قومًا منهم سيؤمنون، فيأمَنون من العذاب،
١٦٢ - وبعد أن بيَّن الله تعالى في هذا السياق سوء حال اليهود وكفرهم وعصيانهم، وأطلق القولَ في ذلك، وكان هذا مما يوهم أنَّه شامل لكل أفرادهم.. جاء الاستدراك عقبه ببيان حال خيارهم الذين لم يذهب عمى التقليد بنور عقولهم، فقال: ﴿لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ﴾؛ أي: لكن المتمكنون في علم التوراة من أهل الكتاب، كعبد الله بن سلام وأصحابه ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ﴾: منهم، ومن المهاجرين والأنصار وسائر أمتك ﴿يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ﴾: يا محمَّد، وهو القرآن ﴿وَ﴾ يؤمنون بـ ﴿بما أنزل من قبلك﴾ على سائر الأنبياء من الكتب السماوية؛ أي: لكنْ أهل العلم الصحيح بالدين منهم، المستبصرون فيه، غير التابعين للظنّ، الذين لا يشترون به ثمنًا قليلًا من المال والجاه، والمؤمنون من أمتك إيمان إذعان لا إيمان عصبية وجدل.. يؤمنون بما أنزل إليك من البينات والهدى، وما أنزل على موسى وعيسى وغيرهما من الرسل، ولا يفرِّقون بين الله ورسله بهوىً ولا عصبية، روى ابن إسحاق والبيهقي في "الدلائل" عن ابن عباس: أن الآية نزلت في عبد الله بن سلام، وأسيد بن سعية، وثعلبة بن سعية، حين فارقوا يهود وأسلموا.
﴿أُولَئِكَ﴾: الموصوفون بالصفات السابقة ﴿سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا﴾؛ أي: سنعطيهم في الآخرة على ما كان منهم من طاعة الله واتباع أمره: ثوابًا جزيلًا لا يدرك وصفه إلا علام الغيوب، وهو الجنة. قال أبو حيان (١): وارتفع الراسخون على الابتداء، والخبر ﴿يُؤْمِنُونَ﴾ لا غير؛ لأن المدح لا يكون إلا بعد تمام الجملة، ومن جعل الخبر جملة قوله: ﴿أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ﴾ فقوله ضعيف. وانتصب ﴿الْمُقِيمِينَ﴾ على المدح، وارتفع ﴿وَالْمُؤْتُونَ﴾ هو أيضًا على إضمار (وهم) على سبيل القطع إلى الرفع، ولا يجوز أن يعطف على المرفوع قبله؛ لأن النعت إذا انقطع في شيء منه.. لم يعد ما بعده إلى إعراب المنعوت، وهذا القطع لبيان فضل الصلاة والزكاة، فأكثر الوصف؛ بأن جعل في جمل. وقرأ ابن جبير (٢)، وعمرو بن عبيد، والجحدري، وعيسى بن عمر، ومالك بن دينار، وعاصم عن الأعمش، ويونس وهارون عن أبي عمرو: ﴿وَالْمُقِيمِون﴾ - بالرفع - نسقًا على الأول، وكذا هو في مصحف ابن مسعود، قاله الفراء، وروى أنها كذلك في مصحف أُبيٍّ، وقيل: بل هي فيه ﴿وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ﴾، كمصحف عثمان.
(٢) البحر المحيط.
١٦٣ - ﴿إِنَّا﴾ قد ﴿أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ﴾ يا محمد هذا القرآن ﴿كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ﴾؛ أي: من بعد نوح، والكاف في قوله: ﴿كَمَا أَوْحَيْنَا﴾ نعت لمصدر محذوف؛ أي: أوحينا إليك إيحاءً مثل إيحائنا إلى نوح والنبيين من بعده، وأخرج عبد بن حميد والحكيم الترمذي في "نوادر الأصول" وابن حبان في "صحيحه" عن أبي ذر قال قلت: يا رسول الله، كم الأنبياء؟ قال: "مئة ألف وأربعة وعشرون ألفًا" قلت: كم الرسل منهم؟ قال: ثلاث مئة وثلاثة عشر، جم غفير"، والمعنى: إنا قد أوحينا إليك هذا القرآن كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده ممن يؤمن بهم، والله لم يُنَزِّل على أحد منهم كتابًا من السماء كما سألوك للتعجيز والعناد؛ لأن الوحي ضرب من الإعلام السريع الخفي، وليس بالأمر المشاهد الحسي.
وقيل: هذه الآية متصلة في المعنى بقوله: ﴿يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ﴾ فهي (١) جواب لأهل الكتاب عن سؤالهم رسول الله - ﷺ - أن ينزل عليهم كتابًا من السماء جملةً واحدة، والمعنى: أنكم يا معشر اليهود تقرون بنبوة نوح، وبجميع المذكورين في هذه الآية، وهم اثنا عشر نبيًّا، وأن الله تعالى أوحى إلى هؤلاء الأنبياء، وأنتم يا معشر اليهود معترفون بذلك، وما أنزل الله على أحد من هؤلاء المذكورين كتابًا جملة واحدة مثل ما أنزل على موسى، فكما لم يكن عدم إنزال الكتاب جملة واحدة على أحد هؤلاء الأنبياء قادحًا في ثبوته.. فكذلك لا يكون إنزال الكتاب على محمَّد - ﷺ - مفرقًا قادحًا في نبوته، بل قد أنزل عليه كما أنزل عليهم.
قال المفسرون (٢): وإنما بدأ الله عَزَّ وَجَلَّ بذكر نوح عليه السلام؛ لأنه أول نبي بعث بشريعة وتكليف، وأول نذير على الشرك، وأنزل الله عليه عشر صحائف، وكان أول من عُذِّبت أمته لردهم دعوته وأهلك أهل الأرض بدعائه، وكان أبا البشر كآدم عليهما السلام، وكان أطول الأنبياء عمرًا، عاش ألف سنة،
(٢) الخازن.
ثم ذكر الله تعالى الأنبياء من بعده جملة بقوله تعالى: ﴿وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ﴾ ثم خص جماعة من الأنبياء بالذكر؛ لشرفهم وفضلهم فقال: ﴿وَ﴾ كما ﴿أَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ﴾ بن آزر ﴿وَ﴾ أوحينا بعد إبراهيم إلى ﴿إِسْمَاعِيلَ﴾ بن إبراهيم، فمات بمكة ﴿وَ﴾ إلى ﴿إِسْحَاقَ﴾ بن إبراهيم فمات بالشام ﴿وَ﴾ إلى ﴿يَعْقُوبَ﴾ وهو إسرائيل بن إسحاق ﴿وَ﴾ إلى ﴿الْأَسْبَاطِ﴾؛ أي: أولاد يعقوب الأثني عشر، فمنهم يوسف نبي رسول باتفاق، وفي البقية خلاف ﴿وَ﴾ أوحينا إلى ﴿عِيسَى﴾ بن مريم، وقدَّم (١) عيسى على أيوب ومن بعده - مع كونهم في زمان قبل زمانه - ردًّا على اليهود الذين كفروا به، وأيضًا قالوا ﴿وَ﴾ ليست إلا لمطلق الجمع. ﴿وَ﴾ إلى ﴿أَيُّوبَ﴾ بن أموص ﴿وَ﴾ إلى ﴿يُونُسَ﴾ بن متَّى. قرأ الجمهور (٢): ﴿يونس﴾ بياء ونون مضمومتين بلا همز، وهي لغة أهل الحجاز، وقرأ نافع في رواية بن جمّاز عنه ﴿يُونِسَ﴾، بكسر النون، وهي لغة لبعض العرب، وقرأ النخعي وابن وثاب بفتحها، وهي لغة لبعض عقيل، وبعض العرب يهمز ويكسر، وبعض أسد يهمز ويضم النون. ﴿وَ﴾ إلى ﴿سُلَيْمَانَ﴾ بن داود ﴿وَ﴾ كما ﴿آتَيْنَا﴾: وأعطينا أيّاه ﴿دَاوُودَ﴾ بن أيشا ﴿زَبُورًا﴾ - بفتح الزاي - بوزن رسول، وقرأ حمزة زُبورًا بالضم، وهو جمع زبر، بمعنى: مزبور؛ أي: مكتوب، كفلس وفلوس، وهو: اسم للكتاب الذي أنزل عليه، وهو مئة وخمسون سورة، ليس فيها حكم ولا حلال ولا حرام، بل فيها تسبيح وتقديس وتحميد وثناء على الله عَزَّ وَجَلَّ ومواعظ، وقد أفرد بالذكر، أعني: داود؛ لأن له شأنًا خاصًّا عند أهل الكتاب من حسن الصوت واجتماع الطيور عليه.
قال بعض العلماء (٣): وإنما لم يذكر موسى في هذه الآية؛ لأنَّ الله أنزل عليه التوراة جملةً واحدة، وكان المقصود بذكر من ذكر من الأنبياء في الآية أنّه
(٢) البحر المحيط.
(٣) الخازن.
١٦٤ - ﴿وَ﴾ كما أرسلنا ﴿رُسُلًا﴾ آخرين غير هؤلاء ﴿قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ﴾ يا محمَّد ﴿مِنْ قَبْلُ﴾؛ أي: من قبل تنزيل هذه السورة، وهم الذين ذكرت أسماؤهم في السور المكية، كقوله في سورة الأنعام - في سياق الكلام عن إبراهيم -: ﴿وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٨٤) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (٨٥) وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ (٨٦)﴾ ﴿وَ﴾ كما أرسلنا ﴿رُسُلًا﴾ آخرين غير هؤلاء المذكورين ﴿لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ﴾ يا محمَّد، كالذين (١) أرسلوا إلى الأمم المجهول تاريخها عند قومك وعند أهل الكتاب المجاورين لبلادك، كالصين واليابان والهند وأوروبا وأمريكا وأفريقيا وأروميا.
وإنّما لم يقص الله علينا خبرهم؛ لأن القصد من القصم: العبرة والتثبيت والذكرى والاحتجاج على نبوته - ﷺ -، - كما أشار إلى ذلك في قوله تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ﴾، وقوله: ﴿وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (١٢٠)﴾ - وكل هذا يَثبت بذكر من قصهم الله علينا من الرسل.
فائدة: في أن إرسال الرسل عام في كل الأمم الأبيض والأحمر والأسود، وعلينا أنْ نعلم أن الله تعالى قد أرسل رسلًا في كل الأمم الأبيض والأحمر والأسود، فكانت رحمته بهم عامة، لا مختصة بشعب وجنس معين، كما يزعم أهل الكتاب، يرشد إلى ذلك قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾. وقوله: ﴿وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ﴾. وهذه حقيقة دلَّ عليها الدّين السماوي، ولم يكن يعلمها أهل الكتاب الذين يزعمون أن القرآن مقتبس من كتبهم، وكم فيه من حقائق جلاها للناظرين بجميل بيانه،
والخلاصة (١): أنَّا أوحينا إليك إيحاء مثل ما أوحينا إلى نوحٍ، ومثل ما أوحينا إلى إبراهيم ومن بعده، وآتيناك الفرقان إيتاء مثل ما أتينا داود زبورًا، وأرسلنا رسلًا قد قصصناهم عليك من قبل، ورسلًا آخرين لم نقصصهم عليك، من غير تفاوت بينك وبينهم في حقيقة الإيحاء وأصل الإرسال، فما للكفرة يسألونك شيئًا لم يعْطه أحد من هؤلاء الرسل عيهم السلام؟!
وقرأ أُبي ﴿رسل﴾ بالرفع في الموضعين على الابتداء، وسوغ الابتداء بالنكرة: وقوعه في معرض التفصيل، كما في قول الشاعر:
فَثَوْبٌ لَبِسْتُ وَثَوْبٌ أَجُرّ
﴿وَكَلَّمَ اللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿مُوسَى﴾ بن عمران عليه السلام ﴿تَكْلِيمًا﴾؛ أي: خاطبه مخاطبةً بلا واسطة ملك؛ أي: كلَّمه (٢) تكليمًا خاصًّا له، ميزه عن غيره من ضروب الوحي العام لأولئك النبيين، وليس لنا أنْ نخوض في معرفة حقيقته؛ لأنَّا لم نكن من أهله، على أنَّا لا نعرف حقيقة كلام بعضنا بعضًا، وكيف تنقل ذرات الهواء الأصوات إلى الآذان؟ فضلًا عن أن نعرف حقيقة كلام الباري. والوحي إلى الأنبياء يُسمَّى تكليمًا، والتكليم لهم يسمى وحيًا، كما قال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (٥١)﴾. والحكمة في الحجاب: الاستعداد بالتوجه إلى شيء واحد، تتحد فيه هموم النفس وأهواؤها المتفرقة، كما كان شأن موسى إذ رأى النار في الشجرة. والرسول الذي يرسله الله فيوحي بإذنه ما يشاء هو: ملك الوحي المعبر عنه بالروح الأمين.
والمعنى (٣): أنه تعالى بعث هؤلاء الأنبياء والرسل، وخص موسى عليه
(٢) المراغي.
(٣) المراح.
وقرأ إبراهيم بن وثاب ﴿وَكَلَّمَ اللَّهَ﴾ بنصب الجلالة، على أنَّ موسى هو المكلِّم.
١٦٥ - ﴿رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ﴾؛ أي: أرسلنا رسلًا قد قصصنا بعضهم عليك، ولم نقصص بعضًا آخر، ليكونوا مبشرين مَنْ آمن وعمل صالحًا بالثواب العظيم، وينذروا من كفر وأجرم بالعذاب الأليم، ﴿لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ﴾؛ أي: معذرة يعتذرون بها في ترك التوحيد والعمل الصالح ﴿بَعْدَ﴾ إرسال ﴿الرُّسُلِ﴾ إليهم، وإنزال الكتب عليهم؛ إذ لو لم يرسلهم لكان للناس أن يحتجوا ويعتذروا - إذا هم أجرموا أو كفروا - بأنهم ما فعلوا ذلك إلا لجهلهم ما يجب عليهم من الإيمان والعمل الصالح، كما قال تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى (١٣٤)﴾ وقال: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا﴾. وسمِّيت (١) المعذرة حجةً - مع أنه لم يكن لأحد من العباد على الله حجة - تنبيهًا على أنَّ هذه المعذرة مقبولةٌ لديه تفضلًا منه ورحمة، والمعنى: لئلا يحتج الناس يوم القيامة على الله في ترك التوحيد والطاعة بعدم الرسل فيقولوا: لم لم ترسل إلينا رسولًا، ولم لم تنزل إلينا كتابًا فنتبع الرسل ونجب دعوتَك؟.
والخلاصة (٢): أنَّ من حكمة إرسال الرسل قطع حجة الناس واعتذارهم بالجهل، عندما يُحاسبهم الله ويقضي بعقابهم، فلولا إرسالهم لكان لهم أن يحتجوا في الآخرة على عذابهم فيها، وعلى عذاب الدنيا الذي كان قد أصابهم بظلمهم، والدين وضعٌ إلهي لا يستقل العقل بالوصول إليه، ولا يعرف إلا
(٢) المراغي.
﴿وَكَانَ اللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿عَزِيزًا﴾ لا يغالب في أمر يريده، ومن عزته: أن لا يجيب المتعنت إلى مطلوبه ﴿حَكِيمًا﴾ في جميع أفعاله. وحكمته تقضي هذا الامتناع عن الإجابة؛ لأنه يعلم أنه لو فعل ذلك لأصروا على لجاجهم، كما فعلوا مع موسى بعد أن جاءهم بما طلبوا، ومن حكمته أيضًا: اختلاف الكتب والشرائع، فإن اختلافها في كيفية النزول وتغايرها في بعض الشرائع والأحكام إنما هو لتفاوت طبقات الأمم في الأحوال التي يدور عليها ذلك التكليف، فكلَّفهم الله تعالى بما يليق بشأنهم وحالهم.
١٦٦ - وقوله عَزَّ وَجَلَّ: ﴿لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ﴾ استدراك على ما عدم من السياق من إنكارهم نبوته - ﷺ -، وعدم شهادتهم بها، وهي واضحة عندهم في مرتبة المشهود به، لكنَّهم استبدلوا المباهتة والمكابرة بالشهادة والإيمان، فسألوه أن ينزل عليهم كتابًا من السماء يثبت دعواه، ويكون شاهدًا له، فكأنَّه تعالى يقول لرسوله - ﷺ -: إنهم مع وضوح نبوتك لا يشهدون بها، لكن الله يشهد لك بالنبوة بواسطة هذا القرآن الذي أنزله إليك، البالغ في فصاحة اللفظ وبلاغة المعنى إلى حيث عجز الأولون والآخرون عن معارضته، فكان القرآن معجزًا. وإظهار المعجزة على يد من يدِّعي الرسالة.. شهادة له بكونه صادقًا في دعواه، فقال: ﴿لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ﴾؛ أي: يشهد لك بالنبوة ويبينها بهذا القرآن الذي أنزله إليك. وقرأ السلمي والجرَّاح الحكمي: ﴿لَكِنِ اللَّهُ﴾ بالتشديد، ونصب الجلالة، وقرأ الحسن: ﴿بِمَا أُنْزَلَ إِلَيْكَ﴾ مبنيًّا للمفعول. ثم أكد هذه الشهادة، فقال: ﴿أَنْزَلَهُ﴾؛ أي: أنزل الله تعالى هذا القرآن حالة كونه متلبسًا ﴿بِعِلْمِهِ﴾ سبحانه وتعالى، بأنه في غاية الحسن ونهاية الكمال؛ أي: فإنَّه أنزله بعلمه الخاص الذي لم تكن تعلمه أنت ولا قومك، بتأليفه على نظم وأسلوب يعجز عنه كل بليغ وصاحب بيان، وبما فيه من العلوم الإلهية والأدبية والسياسية
والخلاصة (١): كان الله سبحانه وتعالى يقول لنبيِّه: إنَّ جحود هؤلاء اليهود وعدم شهادتهم لك لا يضرّك بشيء، فالله يشهد بما أنزل إليك من الوحي، وأنت على يقين منه، وقد أيد الله شهادته لك بما أودعه فيه مما عجز عنه البشر، فكان بذلك مثبتًا لكونه أنزل عليك من لدنه، كما أيده بتصديق ما أنزله فيه من الوعد بالفلاح، والنصر لمن اتبعك، والوعيد لمن عاداك بالخذلان والخسران.
﴿وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ﴾ بذلك أيضًا؛ لأن الذي نزل به إليك هو الروح الأمين، وهو منهم، كما يؤيدك بجند منهم يثبتونك ويثبتون المؤمنين في القتال، كما في غزوة بدر. قال تعالى: ﴿إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ﴾. وإنّما تعرَف (٢) شهادةُ الملائكة له - ﷺ - بصدقه فيما يدعيه من النبوة والرسالة؛ لأن ظهور المعجز على يده - ﷺ - يدل على أنه تعالى شهد له بالنبوة، وإذا شهد الله بذلك فقد شهدت الملائكة بذلك بلا شك؛ لأنَّه ثبت في القرآن أنهم لا يسبقونه تعالى بالقول.
والمعنى: يا محمَّد، إنْ كذبك هؤلاء اليهود.. فلا تبال بهم، فإنَّ الله تعالى - وهو إله العالمين - يصدقك في ذلك، وملائكة السموات السبع والعرش والكرسي يصدقونك في ذلك، ومن صدقه الله والملائكة أجمعون.. لم يلتفت
(٢) المراح.
١٦٧ - ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ بمحمد - ﷺ -، وبما أنزله الله تعالى عليه وشهد به، وهو القرآن ﴿وَصَدُّوا﴾ غيرهم ومنعوا ﴿عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾؛ أي: عن دين الإِسلام من أراد سلوكه، بإلقاء الشبهات في قلوبهم، وهم اليهود؛ حيث قالوا: ما نعرف صفة محمَّد في كتابنا، وقالوا: لو كان رسولًا لأتى بكتابه دفعة واحدة من السماء، وقالوا: إنَّ الله ذكر في التوراة أنَّ شريعة موسى لا تنسخ إلى يوم القيامة، وقالوا: إنّ الأنبياء لا يكونون إلا من ولد هارون وداود. ﴿قَدْ ضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا﴾: عن الحق والصواب؛ لأنهم جمعوا بين الضلال والإضلال، ولأن المضلّ يكون أغرق في الضلال وأبعد في الانقطاع عنه؛ ولأنَّ أشد الناس ضلالًا من كان ضالًا، ويعتقد في نفسه أنه محق، ثم يتوسل بذلك الضلال إلى اكتساب المال والجاه، ثم يبذل غاية ما في وسعه في إلقاء غيره في مثل ذلك الضلال، فهو قد سار في سبيل الشيطان وبعد عن سبيل الله، فلم يعد يفقه أنَّها هي الموصلة إلى خير العاقبة. وقرأ عكرمة وابن هرمز: ﴿وَصُدُّوا﴾ بضم الصاد، قيل: وهي في اليهود.
١٦٨ - ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ بما أنزل إليك ﴿وَظَلَمُوا﴾ أنفسهم بإعراضهم عن الطريق الموصل إلى الخير والسعادة، وظلموا غيرهم بإغوائهم إياهم بزخرف قولهم وسوء سيرتهم وكتمان نعت محمَّد - ﷺ - وصدهم عن الصراط المستقيم وماتوا على الشرك ﴿لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ﴾؛ أي: لم يكن من سنته تعالى أن يغفر لهم ذلك الكفر والظلم يوم الحساب والجزاء؛ لأن الكفر والظلم قد أفسدا فطرتهم، وأثرا في نفوسهم، وأعميا قلوبهم وجعلاها تستمرىء قبيح الأفعال، وتهوى شر الخلال والأعمال، ولا يزول هذا إلا إذا اتجهت نفوسهم إلى ما يضاد ذلك من إيمان صحيح وعمل صالح يزكي النفوس مما ران عليها، ويطهرها وينشئها نشأة أخرى، ولا سبيل إلى ذلك يوم الجزاء والحساب، ومن ثم قال تعالى: {وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ
١٦٩ - ﴿إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ﴾: فهي الطريق التي ينتهي إليها من دنس نفسه بالكفر والظلم، وأوغل في السير فيها طول عمره، واستمرأ الشرور والمفاسد، حتى هوت به إلى وادٍ سحيقٍ، يعني: يهديهم إلى طريق تؤدي إلى جهنم، وهي اليهودية، لما سبق في علمه أنهم أهل لذلك، فانتظار المغفرة ودخول الجنات لأمثال هؤلاء انتظارٌ لإبطال نظام العالم، ونقض لسنن الله وحكمته في خلق الإنسان، وما أجود قولَ الشاعر:
ترْجُوْ النَّجَاةَ وَلَمْ تَسْلُكْ مَسَالِكَهَا | إِنَّ السَّفِيْنَةَ لاَ تَجْرِيْ عَلَى الْيَبَسِ |
فائدة: والفرق بين الخلود والأبد: أن الخلود: بقاء الشيء مدةً طويلة على حال واحدة، لا يطرأ عليه فيها تغيير ولا فناء، والأبد: الزمن الممتد الذي لا نهاية له ولا انقضاء، يقال: تأبد الشيء إذا بقي أبدًا، وأبد بالمكان - من باب تعب - أبودًا إذا أقام به ولم يبرحه.
﴿وَكَانَ ذَلِكَ﴾؛ أي: تخليدهم في جهنم، أو ترك المغفرة لهم والهداية مع الخلود في جهنم ﴿عَلَى اللَّهِ﴾ سبحانه وتعالى ﴿يَسِيرًا﴾؛ أي: هينًا سهلًا على الله دون غيره؛ لأنه مقتضى حكمته وسننه، وليس بالعزيز على قدرته؛ لأنه لا يصعب عليه شيء ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٨٢)﴾ وفي هذا تحقير لأمرهم، وبيان بأن الله تعالى لا يعبأ بهم ولا يبالي بشأنهم.
١٧٠ - ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ﴾ هذا خطاب عام يدخل فيه جميع الكفار من اليهود والنصارى وعبدة الأوثان وغيرهم، وقيل: هو خطاب لمشركي مكة {قَدْ
﴿وَكَانَ اللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿عَلِيمًا﴾ لا يخفى عليه من أعمال عباده المؤمنين والكافرين شيء ﴿حَكِيمًا﴾ لا يضيع عمل عامل منهم، ولا يسوي بين المؤمن والكافر والمحسن والمسيء، أي: وكان شأنهُ تعالى العلم المحيط، والحكمة البالغة الكاملة في جميع أفعاله وأحكامه، فهو لا يخفى عليه أمركم في إيمانكم وكفركم وسائر أحوالكم، ومن حكمته: أن يجازيكم على ما تجترحون من الآثام والموبقات؛ فإنه لم يخلقكم عبثًا، ولم يترككم سدى، فطوبى لمن نهى النفس عن الهوى وآثر الآخرة على الدنيا، وويل لمن أعرض عن ذكر ربِّه، وأعرض عن أمره ونهيه، وحالف الشيطان وحزبه.
﴿فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا (١٦٠)﴾.
﴿فَبِظُلْمٍ﴾: (الفاء): زائدة، كما قاله أبو البقاء. و (الباء): سببية. ﴿ظُلْمٍ﴾: مجرور بالباء، الجار والمجرور متعلق بحرمنا الآتي. ﴿مِنَ الَّذِينَ﴾: جار ومجرور صفة لظلم. ﴿هَادُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول. ﴿حَرَّمْنَا﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. ﴿عَلَيْهِمْ﴾: جار ومجرور متعلق بحرمنا. ﴿طَيِّبَاتٍ﴾: مفعول به. ﴿أُحِلَّتْ﴾: فعل ماض مغير الصيغة، ونائب فاعله ضمير يعود على طيبات. ﴿لَهُمْ﴾: جار ومجرور متعلق بأحلت، والجملة الفعلية صفة لطيبات. ﴿وَبِصَدِّهِمْ﴾: جار ومجرور، ومضاف إليه معطوف على قوله: ﴿فَبِظُلْمٍ﴾. ﴿عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾: جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بصدهم. ﴿كَثِيرًا﴾: مفعول به لصدهم؛ لأنه من إضافة المصدر إلى فاعله، أو صفة لمصدر محذوف، تقديره: صدًّا كثيرًا، أو لزمان محذوف، تقديره: زمانًا كثيرًا.
﴿وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (١٦١)﴾.
﴿وَأَخْذِهِمُ﴾: معطوف على صدهم، وهو من إضافة المصدر إلى فاعله. ﴿الرِّبَا﴾: مفعوله منصوب بفتحة مقدرة. ﴿وَقَدْ﴾: (الواو): حالية. ﴿قَدْ﴾: حرف تحقيق. ﴿نُهُوا﴾: فعل ونائب فاعل. ﴿عَنْهُ﴾: متعلق به، والجملة في محل النصب حال من ضمير أخذهم. ﴿وَأَكْلِهِمْ﴾: معطوف على ﴿صدهم﴾ وهو من إضافة المصدر إلى فاعله. ﴿أَمْوَالَ النَّاسِ﴾: مفعول به لأكلهم، وهو مضاف. ﴿النَّاسِ﴾: مضاف إليه. ﴿بِالْبَاطِلِ﴾: جار ومجرور متعلق بأكلهم على أنَّ الباء سببية، أو حال من ضمير أكلهم على أنَّ الباء للملابسة، أي: حالة كونهم متلبسين بالباطل. ﴿وَأَعْتَدْنَا﴾: فعل وفاعل، والجملة معطوفة على حرَّمنا. ﴿لِلْكَافِرِينَ﴾: متعلق به. ﴿مِنْهُمْ﴾: جار ومجرور حال من الكافرين، أو صفة له. ﴿عَذَابًا﴾: مفعول به. ﴿أَلِيمًا﴾: صفة له.
﴿لَكِنِ﴾: حرف استدراك. ﴿الرَّاسِخُونَ﴾: مبتدأ. ﴿فِي الْعِلْمِ﴾: متعلق به. ﴿مِنْهُمْ﴾: جار ومجرور حال من الضمير المستكن في ﴿الرَّاسِخُونَ﴾، ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ﴾: معطوف على ﴿الرَّاسِخُونَ﴾. ﴿يُؤْمِنُونَ﴾: فعل وفاعل، والجملة خبرُ المبتدأ، والجملة الإسمية جملة استدراكية، لا محل لها من الإعراب. ﴿بِمَا﴾: جار ومجرور متعلق بيؤمنون. ﴿أُنْزِلَ﴾: فعل ماض مغير الصيغة، ونائب فاعله ضمير يعود على ما. ﴿إِلَيْكَ﴾: متعلق بأنزل، والجملة الفعلية صلة لما، أو صفة لها. ﴿وَمَا﴾: موصولة، أو موصوفة في محل الجر معطوفة على (ما) الأولى. ﴿أُنْزِلَ﴾: فعل ماض مغير الصيغة، ونائب فاعله ضمير مستتر فيه، والجملة صلة لما، أو صفة لها. ﴿مِنْ قَبْلِكَ﴾: جار ومجوور، ومضاف إليه متعلق بأنزل.
﴿وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا﴾.
﴿وَالْمُقِيمِينَ﴾: الواو: استئنافية. ﴿الْمُقِيمِينَ﴾: منصوب على المدح بفعل محذوف، تقديره: أمدح المقيمين. ﴿الصَّلَاةَ﴾: مفعول المقيمين، والجملة المحذوفة مستأنفة. ﴿وَالْمُؤْتُونَ﴾: مبتدأ. ﴿الزَّكَاةَ﴾: مفعوله. ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ﴾: معطوف على المؤتون. ﴿بِاللَّهِ﴾: متعلق بـ ﴿الْمُؤْمِنُونَ﴾. ﴿وَالْيَوْمِ﴾: معطوف على الجلالة. ﴿الْآخِرِ﴾: صفة لليوم، وخبر المبتدأ محذوف جوازًا، تقديره: والمؤتون الزكاة والمؤمنون بالله واليوم الآخر مثل المقيمين الصلاة في استحقاق الفضل والمدح، والجملة مستأنفة. ﴿أُولَئِكَ﴾: مبتدأ. ﴿سَنُؤْتِيهِمْ﴾: فعل ومفعول أول، وفاعله ضمير يعود على الله. ﴿أَجْرًا﴾: مفعول ثان. ﴿عَظِيمًا﴾: صفة له، والجملة الفعلية خبر المبدأ، والجملة الإسمية مستأنفة استئنافًا بيانيًّا، وهذا الإعراب الذي ذكرناه أرجح الأعاريب كما أشرنا إليه في بحث التفسير نقلًا عن أبي حيان.
﴿إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ﴾.
﴿إِنَّا﴾: حرف نصب. و (نا): اسمها. ﴿أَوْحَيْنَا﴾: فعل وفاعل، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر إنَّ، وجملة إنَّ مستأنفة. ﴿إِلَيْكَ﴾: متعلق بأوحينا.
﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا﴾.
﴿وَأَوْحَيْنَا﴾: فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة ﴿أَوْحَيْنَا﴾ الأولى، على كونها صلة لما المصدرية. ﴿إِلَى إِبْرَاهِيمَ﴾: جار ومجرور متعلق بأوحينا. ﴿وَإِسْمَاعِيلَ﴾: معطوف على إبراهيم. ﴿وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ﴾: معطوفان أيضًا على إبراهيم. ﴿وَالْأَسْبَاطِ﴾: معطوف على إبراهيم، وكذا قوله: ﴿وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ﴾: معطوفات على إبراهيم جريًا على القاعدة: أن المعطوفات إذا كثرت - وكان العطف بالواو - يكون على الأول. ﴿وَآتَيْنَا﴾: فعل وفاعل. ﴿دَاوُودَ﴾: مفعول أول. ﴿زَبُورًا﴾: مفعول ثان، والجملة معطوفة على جملة ﴿وَأَوْحَيْنَا﴾.
﴿وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (١٦٤)﴾.
﴿وَرُسُلًا﴾: مفعول لفعل محذوف، تقديره: وأرسلنا رسلًا، والجملة المحذوفة معطوفة على ﴿أوحينا﴾، وهو (٢) الدَّال على هذا المحذوف بالالتزام، فإنَّ الإيحاء يلزمه الإرسال أو يدل عليه رسلًا ﴿قَدْ﴾: حرف تحقيق. ﴿قَصَصْنَاهُمْ﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة صفة رسلًا. ﴿عَلَيْكَ﴾: متعلق
(٢) الجمل.
﴿رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (١٦٥)﴾.
﴿رُسُلًا﴾: مفعول لفعل محذوف، تقديره: أرسلنا رسلًا، والجملة مستأنفة. ﴿مُبَشِّرِينَ﴾: صفة. ﴿وَمُنْذِرِينَ﴾: معطوف على مبشرين. ﴿لِئَلَّا﴾: (اللام): حرف جر وتعليل، (أنْ): حرف نصب ومصدر، (لا): نافية. ﴿يَكُونَ﴾: فعل ناقص منصوب بأن. ﴿لِلنَّاسِ﴾: جار ومجرور خبر مقدم ليكون. ﴿عَلَى اللَّهِ﴾: حال من حجة. ﴿حُجَّةٌ﴾: اسم يكون مؤخر عن خبرها. ﴿بَعْدَ الرُّسُلِ﴾: ظرف ومضاف إليه متعلق بحجة، أو صفة لها، وجملة يكون صلة أن المصدرية، أن مع صلتها: في تأويل مصدر مجرور باللام، والجار والمجرور متعلق بأرسلنا المحذوف، والتقدير: وأرسلنا رسلًا مبشرين ومنذرين؛ لإعدام كون حجة للناس على الله بعد الرسل. ﴿وَكَانَ اللَّهُ﴾: فعل ناقص واسمه ﴿عَزِيزًا﴾: خبر أول لها. ﴿حَكِيمًا﴾: خبر ثان لها، والجملة مستأنفة.
﴿لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (١٦٦)﴾.
﴿لَكِنِ﴾: حرف استدراك. ﴿اللَّهُ﴾: مبتدأ. ﴿يَشْهَدُ﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الإسمية: جملة استدراكية لا محل لها من الإعراب. ﴿بِمَا﴾: جار ومجرور متعلق بيشهد. ﴿أَنْزَلَ﴾: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على الله. ﴿إِلَيْكَ﴾: متعلق به، والجملة صلة الموصول، والعائد محذوف، تقديره: بما أنزله إليك. ﴿أَنْزَلَهُ﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الله. ﴿بِعِلْمِهِ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه حال من ضمير ﴿أَنْزَلَهُ﴾، والتقدير: أنزله حالة كونه معلومًا له تعالى، أو
﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا (١٦٧)﴾.
﴿إِنَّ﴾: حرف نصب. ﴿الَّذِينَ﴾: في محل النصب اسمها. ﴿كَفَرُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول. ﴿وَصَدُّوا﴾: فعل وفاعل معطوف على كفروا. ﴿عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بصدوا. ﴿قَدْ﴾: حرف تحقيق. ﴿ضَلُّوا﴾: فعل وفاعل. ﴿ضَلَالًا﴾: مفعول مطلق. ﴿بَعِيدًا﴾: صفة له، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر إن، وجملة إن مستأنفة.
﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا (١٦٨)﴾.
﴿إِنَّ﴾: حرف نصب. ﴿الَّذِينَ﴾: في محل النصب اسمها. ﴿كَفَرُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول. ﴿وَظَلَمُوا﴾: فعل وفاعل معطوف على كفروا. ﴿لَمْ﴾: حرف نفي وجزم. ﴿يَكُنِ اللَّهُ﴾: فعل ناقص واسمه، مجزوم بلم. ﴿لِيَغْفِرَ﴾: اللام: حرف جر وجحود. ﴿يَغْفِرَ﴾: فعل مضارع منصوب بأن مضمرة وجوبًا بعد لام الجحود، وفاعله ضمير يعود على الله. ﴿لَهُمْ﴾: جار ومجرور متعلق بيغفر، وجملة يغفر في تأويل مصدر مجرور بلام الجحود، تقديره: لم يكن الله لغفرانهم، الجار والمجرور متعلق بواجب الحذف؛ لوقوعه خبرًا ليكن، تقديره: لم يكن الله مريدًا لغفرانهم، وجملة يكن من اسمها وخبرها في محل الرفع خبر إن، وجملة إنَّ من اسمها وخبرها مستأنفة، لا محل لها من الإعراب. ﴿وَلَا﴾: (الواو): عاطفة. (لا): زائدة، زيدت لتأكيد نفي ما قبلها. ﴿لِيَهْدِيَهُمْ﴾: (اللام): حرف جر وجحود. (يهدي): منصوب بأن مضمرة بعد لام الجحود، وفاعله ضمير يعود على الله. و (الهاء): ضمير الغائبين في محل النصب مفعول
﴿إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (١٦٩)﴾.
﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء. ﴿طَرِيقَ﴾: منصوب على الاستثناء، استثناء متصلًّا؛ لأنه من جنس الأول؛ لأن الأول في معنى العموم؛ لوقوعه في سياق النفي، ﴿طَرِيقَ﴾: مضاف. ﴿جَهَنَّمَ﴾ مضاف إليه. ﴿خَالِدِينَ﴾: حال مقدرة من مفعول يهديهم. ﴿فِيهَا﴾: جار ومجرور متعلق بخالدين ﴿أَبَدًا﴾: منصوب على الظرفية متعلق بخالدين. ﴿وَكَانَ ذَلِكَ﴾: فعل ناقص واسمه. ﴿عَلَى اللَّهِ﴾: متعلق بيسيرًا. ﴿يَسِيرًا﴾: خبر كان، وجملة كان من أسمها وخبرها مستأنفة، لا محل لها من الإعراب.
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (١٧٠)﴾.
﴿يَا أَيُّهَا﴾: حرف نداء (أي): منادى نكرة مقصودة، (ها): حرف تنبيه زائد. ﴿النَّاسُ﴾: صفة لأيّ، تابع للفظه، وجملة النداء مستأنفة. ﴿قَدْ﴾: حرف تحقيق. ﴿جَاءَكُمُ الرَّسُولُ﴾: فعل ومفعول وفاعل، والجملة جواب النداء، لا محل لها من الإعراب. ﴿بِالْحَقِّ﴾: جار ومجرور حال من الوصول، أو متعلق بجاء. ﴿مِنْ رَبِّكُمْ﴾: جار ومجروو ومضاف إليه، حال من الحال - أعني بالحق -، أي: حالة كون ذلك الحق كائنًا من ربكم، أو متعلق بجاء، كما قاله أبو البقاء. ﴿فَآمِنُوا﴾: (الفاء): عاطفة سببية، كما في "الجمل". ﴿فَآمِنُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة ﴿قَدْ جَاءَكُمُ﴾ على كونها جواب النداء، لا محل لها من الإعراب. ﴿خَيْرًا﴾: خبر ليكن المحذوفة مع اسمها. ﴿لَكُمْ﴾: جار ومجرور متعلق بخيرًا، أو صفة له، وجملة يكن المحذوفة جواب لشرط مقدر،
التصريف ومفردات اللغة
﴿لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ﴾ ﴿الرَّاسِخُونَ﴾: جمع راسخ، والراسخ: هو المبالغ في علم الكتاب، الثابت فيه، من الرسوخ، وأصل الرسوخ في لغة العرب: الثبوت في الشيء، وكل ثابت راسخ، وأصله في الأجرام: أن ترسخ الخيل، أو الشجر في الأرض، ومنه قول الشاعر:
لَقَدْ رَسَخَتْ فِي الصَّدْرِ مِنِّي مَوَدَّةٌ | لِلَيْلَى أبَتْ آياتُهَا أَنْ تَغَيَّرَا |
﴿وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا﴾: والزبور (١): - بفتح الزاي - وهي قراءة الجمهور، بمعنى: المزبور، أي: المكتوب، كالرسول والحلوب والركوب، بمعنى: المرسل والمحلوب والمركوب، من الزبر، أي: الكتابة - وبضمها - وهي قراءة حمزة، جمع زبر، كفلس وفلوس، والزبر بمعنى المزبور، والأصل في الكلمة: التوثيق، يقال: بئر مزبورة، أي: مطوية بالحجارة، وسمِّيَ كتاب داود زبورًا - بضم الزاي -؛ لقوة الوثيقة به، وفي "الفتوحات": والزبور: جمع زبر، والزبير (٢) - بالفتح - مصدر لزبر - من بابي ضرب ونصر، بمعنى: كتب أو جمع زبر بالكسر - مثل: حمل وحمول، وقدر وقدور كما في "الشهاب". وفي "المختار". والزبير - بالكسر -: الكتاب، والجمع زبور، كقدر وقدور، ومنه قراءة بعضهم ﴿وَآتَيْنَا دَاوُودَ زُبورًا﴾ اهـ.
﴿وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا﴾: تكليمًا: مصدر مؤكد رافع لاحتمال المجاز، قال الفراء: العرب تسمي ما وصل إلى الإنسان كلامًا بأي طريق وصل ما لم يؤكد بالمصدر فإن أوكد به لم يكن إلا حقيقة الكلام.
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات أنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع (٣):
(٢) الجمل.
(٣) البحر المحيط.
ومنها: التكرار في قوله: ﴿وَأَوْحَيْنَا﴾، وفي قوله: ﴿رُسُلًا﴾، وفي قوله: ﴿يَشْهَدُ﴾ و ﴿يَشْهَدُونَ﴾، وفي قوله: ﴿كَفَرُوا﴾، وفي اسم الله.
ومنها: تخصيص بعض الأنبياء بالذكر في قوله: ﴿كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ﴾ الخ؛ للتشريف وإظهار فضل المذكورين، وفيه تشبيه يسمى مرسلًا.
ومنها: جناس الاشتقاق في قوله: ﴿وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا﴾.
ومنها: التشبيه في قوله: ﴿كَمَا أَوْحَيْنَا﴾.
ومنها: الاستعارة في قوله: ﴿الرَّاسِخُونَ﴾، وهي في الأجرام، استعيرت للثبوت في العلم والتمكن فيه، وفي قوله: ﴿سَبِيلِ اللَّهِ﴾ و ﴿يَشْهَدُ﴾ و ﴿طَرِيقًا﴾.
ومنها: الحذف في عدة مواضع.
ومنها: الالتفات في قوله: ﴿أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا﴾، والأصل: سيؤتيهم، وتنكير الأجر؛ للتفخيم.
ومنها: تقديم السبب على المسبّب في قوله: ﴿فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ﴾ تنبيهًا على فحش الظلم، وتقبيحًا له، وتحذيرًا منه.
ومنها: الإشارة إلى أوصاف متعددة في قوله: ﴿أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ﴾.
ومنها: للتأكيد بالمصدر في قوله: ﴿وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا﴾، دلالة على وقوع الفعل على حقيقته، لا على مجازه، وهذا هو الغالب في كلامهم، وقد جاء التأكيد بالمصدر في المجاز إلا أنه قليل، فمن ذلك قول هند بنت النعمان بن بشير الأنصاري:
بَكَى الْخَزُّ مِنْ عَوْفٍ وَأنْكَرَ جِلْدَهُ | وَعَجَّتْ عَجِيْجًا مِنْ جُذَامِ اَلْمَطَارِفِ |