ﰡ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الأنفال (٨) : الآيات ١ الى ٤]بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٢) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣) أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٤). (١) الأنفال: جمع نفل. وهو في أصله الزيادة على ما هو حق وواجب، ومنه نوافل العبادات. ومنه ما يعطى زيادة عن الحق من الغنائم. وكان يطلق كذلك على ما يفد من أسلاب الحرب من دواب وسلاح ومتاع. وصار جمعها (الأنفال) مرادفا لكلمة غنائم الحرب. وقد روي حديث جاء فيه أن النبي قال لأصحابه حينما
(٢) ذات بينكم: دخيلة نفوسكم وسرائركم.
في الآيات:
١- حكاية لسؤال وجهه المسلمون إلى النبي ﷺ عن غنائم الحرب.
٢- وأمر بالإجابة بأنها لله والرسول.
٣- وتعقيب على الجواب بأمر موجّه إلى السائلين بتقوى الله ومراقبته وإصلاح سرائرهم وإطاعة الله ورسوله إن كانوا مؤمنين حقا.
٤- ووصف للمؤمنين حقا: فهم الذين يستشعرون بخوف الله وهيبته حينما يذكر اسمه. ويزدادون إيمانا حينما تتلى عليهم آياته. ويتوكلون عليه. ويفوضون الأمر إليه. وهم الذين يؤدون واجب الصلاة له. وينفقون مما رزقهم في وجوه البرّ والخير. فهؤلاء هم المؤمنون حقا المستحقون للدرجات الرفيعة عند الله والذين لهم المغفرة والرزق الكريم لديه.
وأسلوب الآيات قوي رائع من شأنه أن ينفذ إلى أعماق العقول والقلوب.
تعليق على الآيات الأربع الأولى من السورة
ولقد تعددت الروايات في سبب نزول الآيات «١». منها المتفق في الجوهر مع اختلاف في الصيغة ومنها المختلف. ولقد أخرج الإمام أحمد حديثا عن عبادة بن الصامت جاء فيه: «خرجنا مع رسول الله ﷺ فشهدت بدرا فالتقى الناس فهزم الله العدوّ فانطلقت طائفة في آثارهم يهزمون ويقتلون. وأقبلت طائفة على العسكر
رواية قصة سيف سعد رواها الترمذي في حديث صححه عن مصعب بن سعد عن سعد بصيغة أخرى جاء فيها «قال سعد لما كان يوم بدر جئت بسيف فقلت يا رسول الله إنّ الله قد شفى صدري من المشركين فهب لي هذا السيف، فقال هذا ليس لي ولا لك. فقلت عسى أن يعطى هذا السيف من لا يبلى بلائي. وجاء الرسول فقال إنك سألتني وليست لي وقد صارت لي وهو لك قال ونزلت يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ» «٤». وروى الطبري روايات أخرى عن ابن عباس منها «أن النبي فضّل أقواما على بلاء أي قال من فعل كذا فله كذا. فأبلى قوم وتخلّف
(٢) انظر المصدر نفسه.
(٣) تفسير الطبري.
(٤) التاج، ج ٤ ص ١٠٧.
فتنازعوا فأنزل الله الآيات» «١». وهناك رواية يرويها الطبرسي بالإضافة إلى الروايات السابقة عزوا إلى مجاهد تذكر «أن المهاجرين قالوا لماذا يرفع منّا الخمس ولماذا يخرج منّا فأنزل الله الآيات إيذانا بأن الأنفال جميعها لله ورسوله يقسمانها كيف شاءا». ومع عدم نفي الروايات الأولى التي تنطوي على صور محتملة لما كان من أصحاب رسول الله حول قسمة غنائم بدر فإننا نميل إلى ترجيح صحة رواية الطبرسي عن مجاهد التي تفيد أن النبي ﷺ أراد أن يعزز خمس الغنائم لإنفاقه على مصالح المسلمين فاعترض فريق من المهاجرين على ذلك فاقتضت حكمة التنزيل إيذانهم في أول السورة بأن الغنائم جميعها لله ورسوله. وقد يؤيد هذا نص الآية [٤١] من السورة التي انصبّ التشريع فيها أو انحصر بالخمس بأسلوب قوي يؤذن فيه المؤمنون بأن ذلك هو ما يجب أن يعلموه ويقفوا عنده. وقد يؤيده ذلك ما يلمح في الآيات التي بعد هذه الآيات من إيذان متكرر بأن ما أحرزه المؤمنون من انتصار على أعدائهم إنما كان بتأييد الله. كأنما يساق ذلك لتبرير هذا التشريع ولتوكيد القول إن الغنائم والحالة هذه من حقّ الله ورسوله وليس لهم أي حقّ باعتراض وخلاف. بل وكأنما كان نزول هذه السورة من أجل ذلك، والله تعالى أعلم.
ولقد اختلفت الاجتهادات التي يرويها المفسرون عن أهل التأويل فيما إذا كانت الآية [٤١] قد نسخت هذه الآيات أم لا. من حيث إن هذه الآيات جعلت الغنائم كلها لله ورسوله والآية [٤١] حصرت حق الله ورسوله بالخمس. وقد عزي إلى ابن زيد قول بأنها محكمة لأنها قررت مبدأ لا يصح عليه النسخ وتغيير وهو أن الغنائم لله ولرسوله يقسمانها كيف شاءا وهذا هو الأوجه فيما يتبادر لنا. وما تقدم
ولقد روى البغوي عن عطاء أن جملة لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ [٤] تعني درجات الجنة يرتقونها بأعمالهم. وقد ساق المفسرون بعض الأحاديث عن منازل أهل الجنة ودرجاتها في سياق الجملة. والمتبادر أن الجملة هي بسبيل بيان مراتب المؤمنين العالية عند الله على سبيل الترغيب والتنويه وهو ما قرره غير واحد من المفسرين أيضا.
ولقد كانت جملة زادَتْهُمْ إِيماناً موضوع بحث كلامي فيما إذا كان الإيمان يزيد وينقص. ولقد بحثنا هذا الموضوع ومحّصناه في سياق جملة مماثلة في سورة المدثر فنكتفي بهذا التنبيه.
تعليق على مدى أمر القرآن بإطاعة الله ورسوله في السور المدنية
وبمناسبة الأمر بإطاعة الله ورسوله في الآية الأولى نقول إن مثل هذا الأمر قد تكرر كثيرا في السور المدينة دون السور المكية التي لم يرد فيها مثل هذا الأمر وإن أكثرها موجّه إلى المؤمنين. ومنها ما تكرر في هذه السورة مثل الآيات [٢٠ و ٤٧] وفي بعضها جعل ذلك دليلا على الإيمان. وفي بعضها جعلت طاعة الرسول من طاعة الله. وفي بعضها جعلت رحمة الله منوطة بذلك «١».
والمتبادر أن حكمة التنزيل اقتضت ذلك في العهد المدني. لأن المؤمنين في العهد المكي كانوا قلّة مصفّاة مستغرقة في الله ورسوله ودينه. وكلهم دخلوا
[سورة الأنفال (٨) : الآيات ٥ الى ١٤]
كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ (٥) يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (٦) وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ (٧) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (٨) إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ (٩)
وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (١٠) إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ (١١) إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ (١٢) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (١٣) ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ (١٤)
(٢) غير ذات الشوكة: غير ذات القوة والسلاح.
(٣) مردفين: ردفه بمعنى قام من ورائه وتبعه ودهمه. ومعنى الكلمة في مقامها متتابعين مددا وراء مدد.
(٤) رجز الشيطان: بمعنى وسوسة الشيطان وتخويفه لهم.
(٥) شاقّوا: من المشاققة وهي المكايدة والإعنات.
تتضمن الآيات إشارات تذكيرية وتنبيهية وتنويهية إلى ظروف مشاهد وقعة بدر كما يلي إيضاحه:
١- إن الله ألهم نبيه الخروج على العدو ووعده بالنصر على إحدى طائفتي العدو اللتين كانت إحداهما ذات شوكة وسلاح واستعداد للقتال.
٢- ومع ما في أمر الله وإلهامه لنبيه من الحق والخير فقد أخذ بعض المسلمين يجادلون النبي في أمر الخروج والقتال كما جادلوه في أمر الغنائم، وتملكهم الخوف كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون أي متيقنون من أنه واقع عليهم!.
٤- ولقد أخذ المسلمون يستغيثون الله حينما واجهوا عدوهم القوي فاستجاب لهم بأنه ممدهم بألف من الملائكة لينجدوهم ويساعدوهم. وقد كان هذا من الله على سبيل تطمين قلوبهم وتسكين روعهم، فالله هو الذي نصرهم وهو العزيز القادر الحكيم.
٥- ولقد ألقى الله عليهم النعاس ليكون لهم فيه راحة وهدوء، وأنزل عليهم المطر ليكون لهم فيه زيادة طمأنينة وتمكين وتثبيت قدم وإحباط لوساوس الشيطان لهم. ولقد أمر الله الملائكة ليكونوا في صفوف المسلمين ويثبتوا قلوبهم وأقدامهم مؤذنا بأنه سيلقي في قلوب الكافرين ويمكّن الملائكة أو المسلمين منهم ليضربوا أعناقهم وأياديهم. فقد شاقوا الله ورسوله وعاندوهما فاستحقوا شديد العقاب الذي يستحقه من يفعل ذلك. فليذوقوا طعم هذا العقاب الآن بما حل فيهم ولهم من بعده عذاب النار.
تعليق على الآية كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ إلخ وما بعدها إلى آخر الآية [١٤] وشرح ظروف ومشاهد وقعة بدر
والمتفق عليه أن هذه الآيات في صدد وقعة بدر. وواضح من أسلوبها وفحواها أنها نزلت بعد انتهاء المعركة وانتصار المسلمين فيها. وأنها استمرار للآيات السابقة التي نزلت هي الأخرى بعد انتهاء المعركة بسبب الخلاف على قسمة الغنائم.
وليس في هذه السورة ولا في غيرها إشارة أو وصف بأن الله قد أمر نبيه بالخروج ووعد المؤمنين بأن تكون إحدى الطائفتين أنها لهم. وهناك رواية يرويها المفسرون ووردت في كتب السيرة القديمة «أن النبي ﷺ قال لأصحابه حين خروجه إلى بدر سيروا وأبشروا فإن الله وعدني إحدى الطائفتين». على ما سوف نذكره بعد. فإما أن يكون الأمر بالخروج والوعد نزلا قرآنا ثم رفعا لحكمة ربانية وإما أن يكونا إلهاما ربانيا ووحيا غير قرآني عبّر عنهما بما جاء في العبارة. وفي هذا صورة من النسخ القرآني في حياة رسوله إذا كان قرآنا ورفع، أو مظهر من مظاهر حكمة الله ورسوله إذا كان إلهاما ربانيا. أو صورة من صور الوحي الرباني إذا كان وحيا غير قرآني. ومن هذا الباب تحويل القبلة عن المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام على ما خمّنّاه وشرحناه في سياق تفسير آيات تحويل القبلة في سورة البقرة.
ولقد روت كتب الحديث والسيرة والتفسير والتاريخ المعتبر «١» تفصيلات لأحداث ومشاهد وقصة بدر متفقة في الجوهر مع تباين في الجزئيات والأسماء ومتّسقة في الوقت نفسه إجمالا مع مدى هذه الآيات وغيرها من آيات السيرة.
ومجمل ذلك أن رسول الله ﷺ سمع أن أبا سفيان بن حرب مقبل من الشام في عير عظيمة لقريش (قافلة تجارية) وليس معه إلّا نحو ثلاثين أو أربعين رجلا، فندب المسلمين إليها، وقال لهم هذه عير قريش فيها أموالهم فاخرجوا إليها لعل
وأخذ حذره فسلك طرقا غير مطروقة واستطاع أن ينجو من الخطر ويتجه آمنا نحو مكة. وقد خرج رسول الله على رأس ثلاثمائة ونيف نحو ربعهم من المهاجرين والباقون من الأنصار في أوائل شهر رمضان للسنة الهجرية الثانية. وقد سارعت قريش حينما جاءها النذير إلى النفرة حتى لم يكد يتخلف من أشرافها أحد. ومن لم يستطع الخروج منهم بنفسه بعث رجلا مكانه حيث لم يكن أحد منهم إلّا وكان له شركة في القافلة.
وفي الطريق علم رسول الله أن أبا سفيان نجا مع القافلة وأن قريشا مقبلة نحوه في نحو ألف فيهم عدد كبير من زعمائهم حتى قال لأصحابه هذه مكة قد ألقت إليكم بأفلاذ أكبادها. وقد انقسم المسلمون في الرأي فريقين، منهم من قال إنما خرجنا للعير فلما نجت لم يعد حاجة إلى قتال، ومنهم من قال إذا عدنا اتهمتنا قريش بالجبن والفرار فلا بدّ من لقائهم. وجمع رسول الله كبار أصحابه من مهاجرين وأنصار وهتف بهم أن أشيروا عليّ، فقام أبو بكر ثم عمر ثم المقداد فقالوا فأحسنوا. ولكن رسول الله ظلّ يهتف قائلا أشيروا عليّ قاصدا سماع الأنصار لأن الأوّلين من المهاجرين. لأن الأنصار بايعوه على الدفاع عنه وكان يظن أنهم قد لا يرون عليهم نصرته إلّا ممن دهمه في المدينة. فقام سعد بن معاذ زعيم الأوس وقال يا رسول الله لكأنك تريدنا؟ قال: أجل، فقال: لقد آمنا بك وصدقناك وشهدنا أن ما جئت به الحق. وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة فامض يا رسول الله لما أردت فنحن معك. فو الذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلف منّا رجل واحد. وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدا. إنا لصبر في الحرب، صدق في اللقاء. لعل الله يريك منا ما تقرّ به عينك فسر بنا على بركة الله «١». فسرّ رسول الله ونشط بذلك ثم قال سيروا وأبشروا فإن الله
وهكذا صار اللقاء محتما، ولقد نزل النبي ﷺ أدنى ماء بدر فأشار عليه المنذر بن الحباب إذا لم يكن منزله بأمر الله أن يتقدم حتى يكون جميع الماء وراءه فيشرب المسلمون ويعطش المشركون فاستحسن رأيه وتقدم إلى حيث أشار قائلا:
إن منزله ليس بأمر الله إنما هو رأي اجتهد فيه.
وبدأت المعركة بمبارزات فردية كان الغالبون فيها أصحاب رسول الله حيث قتل حمزة وعلي وغيرهما مبارزيهم من شبان وصناديد قريش. ثم تهيأ الفريقان للتزاحف، وأخذ رسول الله حفنة من الحصباء فاستقبل بها قريشا وسوّى صفوف أصحابه ثم قال لهم شدّوا فشدّوا فالتحم الفريقان وحميت المعركة وانجلت عن هزيمة المشركين وقتل منهم نحو سبعين وأسر مثلهم. وكان في عداد قتلاهم عدد كبير من صناديدهم. واستشهد من المسلمين أربعة عشر ستة من المهاجرين وثمانية من الأنصار. وكان النصر يوم السابع عشر من رمضان على أشهر الروايات. وكان عدد المسلمين ثلاثمائة ونيفا وعدد المشركين نحو ألف. وقد وصّى النبي بالأسرى خيرا ونهى عن التمثيل بالقتلى. واستثنى من الأسرى اثنين كانا من أشدّ المشركين
وهناك بعض مشاهد أخرى رويت في سياق آيات أخرى تأتي بعد قليل سنلمّ بها في مناسبتها.
ولقد توطدت في هذه المعركة أخوة الجهاد بين المهاجرين والأنصار كما توطدت من قبل أخوة الدين. ولقد كان نصر الله لنبيه والمؤمنين فيها من أقوى دعائم الدعوة الإسلامية وعوامل توطدها. ولذلك فإنها شغلت حيزا خطيرا في السيرة النبوية. ونال الذين شهدوها من المسلمين من التنويه والتكريم ما خلّد لهم الذكر وأحاطهم بهالة من الإجلال والإكبار في تاريخ الإسلام. ومن أروع ما كان من ذلك قول النبي ﷺ المأثور فيهم الذي رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي:
«لعلّ الله اطّلع على أهل بدر فقال لهم افعلوا ما شئتم فقد غفرت لكم» «١».
ومما تذكره الروايات من مشاهد يوم بدر أن المسلمين بنوا للنبي عريشا والتمسوا منه أن يكون فيه ليكون من ورائهم درءا لهم فجلس مستقبلا القبلة يناشد ربّه. وفي هذا المشهد يروي البخاري عن عمر أنه قال: «لما كان يوم بدر نظر رسول الله إلى المشركين وهم ألف وأصحابه ثلاثمائة وتسعة عشر رجلا فاستقبل القبلة ومدّ يديه فجعل يهتف بربّه اللهمّ أنجز لي ما وعدتني، اللهمّ إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض. فما زال يهتف مادّا يديه مستقبل القبلة حتى سقط رداؤه عن منكبيه فأخذ أبو بكر الرداء فألقاه على منكبيه ثم التزمه
ومما روي أن النبي ﷺ خفق خفقة وهو في العريش ثم انتبه فقال: «أبشر يا أبا بكر أتاك نصر الله. هذا جبريل أخذ بعنان فرسه يقوده على ثنايا النقع».
وتروي الروايات عن بعض شهود المعركة أنهم كانوا يشعرون بأن الملائكة يقاتلون معهم. وأن بعضهم سمع هتافهم وبعضهم رآهم عيانا معتمّين بعمامات بيضاء وخضراء وصفراء راكبين على خيل بلق. وبعض هذه الروايات رواها مسلم عن ابن عباس قال: «بينما رجل من المسلمين يومئذ يشتدّ في أثر رجل من المشركين أمامه إذ سمع ضربة بالسوط فوقف ورأى فارسا يقول أقدم حيزوم فنظر إلى المشرك فإذا هو قد خطّم أنفه وشقّ وجهه كأنما كان ذلك بضربة سوط، فجاء الرجل وحدّث رسول الله فقال: صدقت ذلك مدد السماء» «٢».
وأمر الملائكة من المسائل المغيبة الواجب الإيمان بكل ما يخبره القرآن عنهم. وقد أخبر القرآن بأن الله أيّد المسلمين في هذه الوقعة بالملائكة فوجب الإيمان بذلك والوقوف عنده وإذا كان شيء يمكن أن يقال في صدد ما جاء في الآيات أن الآيات لا تفيد أن المسلمين رأوا الملائكة وإنما تتضمن إخبارا بعد الوقعة بأن الله أيدهم بالملائكة ثم تذكرهم بما كان من استغاثتهم وما كان من استجابة الله لهم مما قد يلهم أنهم تمنوا على الله أن يؤيدهم ويمدهم بالملائكة.
فلما اشتدّت المعركة وقطع المسلمون صلتهم بالدنيا واستغرقوا في الجهاد في سبيل الله ولم يكن في أذهانهم إلّا الله ورسوله ودينه شملتهم العناية الربانية وأيقنوا أن الله قد استجاب لهم وأمدهم وأيدهم بملائكته وشعروا بحقيقة ما أخبرهم الله به في الآيات بعد الوقعة.
(٢) المصدر نفسه، ص ٣٦٧.
فهذه الروحانية التي شملتهم وجعلتهم يشعرون ما أخبر الله به بعد المعركة بأن الملائكة يقاتلون معهم إنما كانت للتطمين والبشرى. وإلّا فالنصر هو من الله عزّ وجل. والمتبادر أن هذا الاستدراك قد استهدف نزع ما قد يمكن أن يعلق في ذهن أحد من المسلمين من عقيدة تأثير الملائكة. وهي العقيدة التي كانت سائدة عند العرب قبل الإسلام. وكان العرب بقوتها يعبدون الملائكة تقربا بهم إلى الله، وفي هذا ما فيه من التلقين التوحيدي البليغ المستمر المدى.
وفي صدد ما جاء في الآيات من غشيان النعاس للمسلمين والمطر الذي أنزله الله عليهم من السماء نقول: إن المسلمين كانوا على ما يبدو على شيء من التهيّب والتعب وكانوا في حاجة إلى الماء حتى يشربوا ويغتسلوا وتثبت الأرض تحت أقدامهم وكان في كل هذا مجال لوسوسة الشيطان وتخويفه وإثارته القلق في نفوسهم فكان من عناية الله بهم وتأييده أن سلّط عليهم النعاس فجعلهم يستغرقون في نوم أزال عنهم تعبهم وأنساهم قلقهم وأنزل عليهم المطر ليشربوا ويغتسلوا ويتزودوا بالماء ولتجمد الأرض تحت أقدامهم، ثم كانت تلك الروحانية التي شملتهم وأنزلت على قلوبهم الطمأنينة والسكينة وأشعرتهم بتأييد الله لهم بملائكته أيضا.
وكل هذا تأييد رباني لرسول الله والصادقين من أصحابه تدخل في نطاق المعجزات ويمكن أن تكرر في كل موقف جهادي إيماني يقفه المؤمنون الصادقون من أعداء الله وأعدائهم.
[سورة الأنفال (٨) : الآيات ١٥ الى ١٩]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ (١٥) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٦) فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٧) ذلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ (١٨) إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (١٩)
(٢) متحرّفا لقتال: قاصدا أسلوبا من أساليب القتال والحركات الحربية.
(٣) متحيّزا إلى فئة: منضما إلى جماعة أخرى للتعاون على القتال.
(٤) وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنا: ليكون به للمؤمنين عمل فيه النفع والخير والحسنى.
(٥) إن تستفتحوا: إن تطلبوا الفتح والنصر أو إن تطلبوا حكم الله لأن كلمة الفتح جاءت في بعض آيات القرآن بمعنى الحكم. ومن ذلك آية الأعراف رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ [٨٩].
في الآيتين الأولى والثانية: خطاب موجّه للمسلمين شدّد فيه التنبيه والإنذار بعدم الفرار من أمام العدو حينما يتزاحفون على بعضهم للقتال. ومن يفعل ذلك بدون قصد حربي مشروع كاستهداف أسلوب من أساليب القتال أو الانحياز إلى فئة مقاتلة أخرى من جماعته فقد باء بغضب الله واستحقّ النار وبئس ذلك من مصير له ولأمثاله.
وفي الآية الثالثة: ١- تقرير رباني موجّه فيه الخطاب أولا إلى المسلمين بأنهم ليسوا هم الذين قتلوا الكفار وإنما الذي قتلهم هو الله. وثانيا إلى النبي بأنه ليس هو الذي رمى فأصاب ولكن ذلك هو الله.
٢- وتنبيه بأن الله عز وجل قد أراد بما جرى أن يكون للمؤمنين فيه البلاء الحسن الذي لهم فيه الخير والثواب وأن الله سميع لكل ما يقولونه عليم به.
وفي الآية الرابعة: إيذان بأن الله قد ألهم ويسّر ما كان إيهانا لقوة الكافرين
وفي الآية الخامسة: خطاب موجّه للكفار على سبيل الإنذار والتحدي، فإذا كانوا ينتظرون حكم الله بينهم وبين المسلمين فقد جاء حكمه عليهم بما كان من نصره للمسلمين. وإذا كانوا ينتهون مما هم فيه من كفر وعناد وعداء فهو خير لهم وأفضل. وإذا عادوا إلى العدوان والبغي فإن الله لهم بالمرصاد ولن تغني عنهم جموعهم مهما كثرت. لأن الله مع المؤمنين دائما.
تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ (١٥) وما بعدها إلى آخر الآية [١٩]
والآيات كما هو المتبادر استمرار تعقيبي للآيات السابقة وقد نزلت مثل سابقاتها بعد الوقعة وبرغم تنوع الجهات المخاطبة فيها فإنها تبدو وحدة متماسكة.
وهذا ما جعلنا نعرضها وحدة تامة.
ولقد روى المفسرون روايات عن بعض أمور حدثت، وأقوال قيلت كانت سببا لنزول هذه الآيات «١».
منها أن النبي ﷺ أخذ قبضة من تراب أو من حصباء فرمى بها نحو الكفار قبل الاشتباك قائلا: شاهت الوجوه، فلم يبق أحد منهم إلّا وأصابه شيء منها وأن الآية [١٧] تشير إلى ذلك، ومنها أن أبا جهل وقف عند الكعبة قبل خروجه إلى بدر ودعا الله أن ينصر الأهدى والأفضل من الفريقين وأن يفتح عليه وأن يخذل أقطعهما للرحم، وأن الآية [١٩] تشير إلى ذلك. ومنها أنه كانت مفاخرات بين المسلمين بقتل فلان فلانا وأن الفقرة الأولى من الآية [١٧] في صدد ذلك.
ومع ما في الآية الأخيرة من التحدي والإنذار للكفار فقد احتوت أيضا دعوة من جديد إلى الحق والصواب والكفّ عن الموقف الباغي الجحودي. وقد جاءت الدعوة من جانب الغالب للمغلوب. وفي هذا ما فيه من جليل التلقين ورائعه في صدد مبادئ الجهاد الإسلامي وفي صدد هدف الرسالة المحمدية في هداية الناس على اختلافهم ومختلف مواقفهم ودعوتهم المرة بعد المرة وفي كل مناسبة وظرف إلى الحق والصواب والخير والإسلام مما تكرر في الآيات القرآنية المكيّة والمدنيّة وفي الظروف المماثلة أيضا.
ولم يرو المفسرون شيئا في مناسبة الآيتين الأوليين أي [١٥ و ١٦] وكل ما قالوه أنهما نزلتا في أهل بدر. وكلامهم يفيد أنهما نزلتا قبل المعركة مع أن كل الآيات السابقة واللاحقة من السورة نزلت بعد انتهاء المعركة على ما يلهمه فحواها ونبهنا عليه قبل.
وقد تلهمان أنه لوحظ على بعض المسلمين حين اشتداد المعركة شيء من الاضطراب أو أن بعضهم كاد ينكشف للعدو فاقتضت الحكمة هذا التنبيه والإنذار الشديدين اللذين احتوتهما الآيتان بالنسبة للمستقبل. والحكمة في هذا التشديد القاصم واضحة. والتلقين فيها مستمر المدى. فإن الجهاد ثبات وجلد. وفرار واحد من الصف قد يخلّ الصف كله. وقد يضيع ثمرة النصر ويقلبه إلى هزيمة
ولقد روى الطبري وغيره عن بعض أهل التأويل أن هاتين الآيتين هما خاصتان بيوم بدر لا قبله ولا بعده، وأن بعض المؤمنين ولّوا الأدبار يوم أحد ويوم حنين فعفا الله عنهم كما جاء في آية سورة آل عمران [١٥٥] وآيات سورة التوبة [٢٥- ٢٧] ومعنى هذا أن الآيتين منسوختان. على أن هناك من قال إنهما محكمتان وإن توبة الله وعفوه عن المتولّين يوم أحد ويوم حنين أمر خاص لا يستوجب نسخ حكمهما. وقد رجّح الطبري هذا القول وفي هذا سداد وصواب.
وإطلاق الكلام في الآيتين يؤيد ذلك حيث يلهم بقوة أنهما بالنسبة للمستقبل عامة، ولا سيما نزلتا بعد معركة بدر على ما رجّحناه قبل. ولقد روى الخمسة حديثا عن أبي هريرة يذكر فيه «من الموبقات السبع التولّي يوم الزحف» «١». وروى الطبري عن ابن عباس قولا جاء فيه «أكبر الكبائر الشرك بالله والفرار يوم الزحف». والحديثان هما بالنسبة لكل موقف ويدعمان قول محكمية الآيتين وشمولهما لكل موقف.
تعليق على ما قيل في مدى جملة وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى
لقد اتخذ بعض الكلاميين هذه الجملة حجّة على إثبات عدم تأثير أي مؤثر في شيء ما لذاته، فالنار في رأي القائلين لا تحرق وإنما الحارق الله. والسكين لا تذبح بذاتها وإنما الذابح الله... إلخ «٢».
وهذا للرد على مذهب كلامي آخر يقول بتأثير عمل الإنسان ومسؤوليته عن الأثر الذي يحدثه ومع تسليمنا بصواب استلهام نصوص القرآن وتلقيناته ومبادئه في
(٢) انظر تفسير الجملة في تفسير الطبري والبغوي وابن كثير والخازن والزمخشري والطبرسي.
هذا، ولبعض الصوفيين شطح آخر في تأويل الجملة حيث يستنتجون منها أن فعل العبد هو عين فعل الله بقصد إثبات كون ذات العبد هو عين ذات الله أو صورته تعالى الله. وقد تصدى الإمام ابن تيمية لذلك فيمن تصدوا له ونبّه على ما فيه من مغالطة ومفارقة بل وكفر إذا أريد القياس عليه فيقال للماشي ما مشيت ولكن الله مشى. وللآكل والشارب والصائم والمصلي بل وللكافر والكاذب والزاني والزانية والقاتل والسارق مثل هذا والعياذ بالله تعالى «١».
[سورة الأنفال (٨) : الآيات ٢٠ الى ٢٦]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (٢٠) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (٢١) إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (٢٢) وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (٢٣) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٢٤)
وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٢٥) وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآواكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٢٦).
في هذه الآيات:
١- نداء موجّه إلى المؤمنين يؤمرون فيه بإطاعة الله ورسوله وينهون عن الانصراف عنه وعدم الأبوه لأوامره وهم يسمعونها عنه. ويحذرون من أن يكونوا كالذين يقولون سمعنا وهم لا يسمعون فلا يستجيبون إلى ما يسمعون.
٢- ونعي على الذين لا يستجيبون إلى دعوة الحق ولا يقبلونها. فشرّ الناس عند الله هم الذين بعدم استماعهم للحق وانصياعهم له كالدواب والصمّ والبكم الذين لا يسمعون ولا يعقلون ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم. ولكنهم في حالتهم هذه قد فقدوا كل قابلية للخير والانصياع للحق، فلو سمعوا لما استجابوا ولا نصرفوا عن النداء وأعرضوا.
٣- ونداء آخر موجّه إلى المؤمنين يؤمرون فيه الاستجابة إلى الله ورسوله إذا ما دعاهم الرسول وبلغهم دعوة الله إلى ما فيه حياتهم ومصلحتهم. ويحذرون من أن الله يحول بين المرء وقلبه وينذرون بأنهم محشورون إليه ليؤدوا حساب أعمالهم.
٤- ودعوة للمؤمنين إلى اجتناب الفتنة. والتعاون على درئها. وتخويف من نتائجها فهي لا تصيب بشرّها الظالمين الذين يثيرونها فقط ولكنها كثيرا ما تكون
٥- وتذكير بما كانت عليه حالتهم، وبما صارت إليه بفضل الله، تذكيرا ينطوي فيه تدعيم لواجب الاستماع والطاعة عليهم. فلقد كانوا قليلين ضعفاء في خوف دائم من أذى الكفار وبغيهم فآواهم الله إلى ساحة الأمن والطمأنينة، وجعلهم أقوياء بعد ضعف وأعزّاء بعد هوان. وأيدهم بنصره. ورزقهم من الطيبات. وكل ذلك يتطلب منهم الشكر له وطاعته وطاعة رسوله والانصياع لأوامرهما ونواهيهما.
تعليق على ما روي في صدد الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٢٤) وما بعدها إلى الآية [٢٦] من روايات وأقوال وما فيها من تلقينات
روى بعض المفسرين أن الآيتين [٢٢ و ٢٣] نزلتا في بني عبد الدار الذين لم يكن أسلم منهم أحد إلّا مصعب بن عمير. أو في النضر بن الحرث الذي كان يقول للناس أنا أحدثكم بأحسن مما يحدثكم محمد. وروى بعضهم في صدد الآية [٢٥] أن الزبير بن العوام قال: قد قرأنا هذه الآية زمنا وما نرانا من أهلها فإذا نحن المعنون بها مشيرا بذلك إلى ما تورط به هو وغيره فيه من الفتن في زمن عثمان بن عفان وبعده، ومما رواه بعضهم أن النبي ﷺ قال حينما نزلت هذه الآية: «من ظلم عليا بعد وفاتي فكأنما جحد بنبوتي ونبوّة الأنبياء من قبلي» «١».
وليس شيء من هذه الروايات واردا في كتب الصحاح. والذي يتبادر لنا أن
أما الروايات المروية في صدد صلة الآيات بالفتنة المريرة في زمن عثمان وعلي رضي الله عنهما فإن أثر الفتنة ظاهر فيها ويسوغ التوقف في صحتها أو القول إنها أخذت على ذلك بعد وقوع الفتن من قبيل التطبيق ورائحة الهوى والوضع الشيعيين عاقبة في الحديث الذي يرويه الطبرسي عن النبي ﷺ بشأن علي رضي الله عنه.
ولقد أورد الطبرسي مع الحديث المذكور حديثا آخر معزوا إلى أبي أيوب الأنصاري ويرويه رواة شيعيون أن النبي ﷺ قال لعمّار: «يا عمّار إنه سيكون بعدي هنات حتى يختلف السيف فيما بينهم وحتى يقتل بعضهم بعضا وحتى يبرأ بعضهم من بعض. فإذا رأيت ذلك فعليك بهذا الأصلع عن يميني علي بن أبي طالب.
فإن سلك الناس كلهم واديا وسلك علي واديا فاسلك وادي علي. وخلّ الناس.
يا عمار إن عليا لا يردك عن هوى ولا يدلك على ردى. يا عمار طاعة علي طاعتي وطاعتي طاعة الله». وأثر الصنع الحزبي بارز لذلك بقوة على هذا الحديث أيضا.
ولقد قال بعض المفسرين «١» في تأويل جملة وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ إن الله قد يميتكم بغتة فتفوتكم فرصة الطاعة والاستجابة لله
وقد قال بعض المفسرين «٢» في تأويل جملة وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ إنها بمعنى لو كان الله يعلم فيهم قبولا للهدى وإقبالا على الحق لأسمعهم ما ينصرفون عن سماعه. وقال بعضهم: إنها بمعنى أن الله لو علم فيهم استعدادا للسمع لأسمعهم الجواب عن كل ما سألوا «٣». وكلا التأويلين وجيه.
ومما يتبادر لنا أن الجملة هي بشأن بيان حالة الصمّ البكم الممثلة بهم حالة الفئة المقصودة التي تقول سمعنا وهم لا يسمعون وأنها بسبيل تقرير أن الله يعلم أن الصم البكم لا يمكن أن يسمعوا ولو سمعوا صوتا ما لا يمكن أن يعقلوه ويردوا عليه. وأن هذه الفئة المقصودة مما انطوى في نفوسها خبث وسوء نيّة وعناد لا يمكن أن تسمع ولو سمعت لا يمكن أن تعقل لأنها كالصمّ البكم الذين لا يسمعون ولا يعقلون. أما الفئة المقصودة فالغالب أنها المنافقون والذين في قلوبهم مرض.
فهم الذين يقولون سمعنا وأطعنا. وحقيقة حالهم هي أنهم لم يؤمنوا ولم يسمعوا ولم يطيعوا.
ومع خصوصية موضوع الآيات وظروفها فإنها تنطوي على حكم جليلة مستمرة التلقين.
(٢) انظر تفسيرها في تفسير الطبرسي. [.....]
(٣) انظر تفسيرها في الطبري والخازن.
ومن واجبهم أن يقفوا في وجه الفتن والمنكرات والفساد ويتعاونوا على درئها وكبح جماح مثيريها لأن نتائجها لا تنحصر في المثيرين لها وإنما تشمل غيرهم ممن ليس له يد فيها ولا دخل.
وجملة لِما يُحْيِيكُمْ ذات مغزى تلقيني عظيم بنوع خاص حيث يمكن أن يستنبط منها أنه ليس للسلطان في الإسلام أن يدعو المسلمين لغير ما فيه خيرهم ومصلحتهم وصلاحهم وأنه ليس عليهم واجب الإجابة والطاعة له إذا خرج عن هذا النطاق. وهناك حديث يرويه الخمسة عن ابن عمر عن النبي ﷺ مؤيد لذلك جاء فيه: «السمع والطاعة على المرء المسلم في ما أحبّ أو كره. ما لم يؤمر بمعصية، فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة» «١».
ولقد أورد ابن كثير على هامش الآية [٢٥] خاصة أحاديث نبوية عديدة بسبيل تأويلها وتوضيح مداها والتحذير من الفتن وعواقبها أخرجها الإمام أحمد منها حديث جاء فيه: «إنّ الله عزّ وجلّ لا يعذّب العامة بعمل الخاصة حتى يروا المنكر بين ظهرانيهم وهم قادرون على أن ينكروه فلا ينكرونه فإذا فعلوا ذلك عذّب الله الخاصة والعامة». ومنها حديث جاء فيه «إذا ظهرت المعاصي في أمّتي عمّهم الله بعذاب من عنده» فقالت أم سلمة التي يروى عنها الحديث: «يا رسول الله أما فيهم أناس صالحون؟ قال: بلى، قالت: فكيف يصنع أولئك؟ قال: يصيبهم ما أصاب الناس ثم يصيرون إلى مغفرة من الله ورضوان». ومنها حديث جاء فيه «ما من قوم يعملون بالمعاصي وفيهم رجل أعزّ منهم وأمنع لا يغيّره إلّا عمّهم الله بعقاب أو أصابهم العقاب».
وهناك أحاديث وردت في كتب الصحاح قوية المدى في بابها منها حديث
[سورة الأنفال (٨) : الآيات ٢٧ الى ٢٩]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٧) وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (٢٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٢٩)
. (١) فتنة: هنا بمعنى ابتلاء واختبار أو سبب للافتتان والانحراف.
(٢) فرقانا: هنا بمعنى الهداية والنصر والتأييد أو القدرة على تمييز الحق من الباطل.
وفي الآيات نداء موجه إلى المؤمنين:
١- يحذرهم وينهاهم من خيانة الله وخيانة رسوله وخيانة أماناتهم عن علم وعمد.
٢- وينبههم إلى ما في أموالهم وأولادهم من سبب لفتنتهم ويشوقهم إلى ما عند الله من عظيم الأجر كأنما يقال لهم: إن ما عند الله أحسن وأفضل من الأموال والأولاد وإن عليهم أن لا يدعوا أموالهم وأولادهم يفتنونهم عن واجبهم ويوقعونهم في إثم خيانة الله ورسوله وأماناتهم فيستحقون غضب الله ويحرمون مما عنده من فضل وأجر.
(٢) المصدر نفسه.
تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٧) والآيتين اللتين بعدها
وقد روى المفسرون أن الآيات نزلت في أبي لبابة الأنصاري الذي حذّر يهود بني قريظة من النزول على حكم سعد بن معاذ حينما حاصرهم النبي ﷺ وضيّق عليهم عقب انسحاب جيوش الأحزاب التي غزت المدينة وحاصرتها مما عرف في تاريخ السيرة بوقعة الخندق أو الأحزاب حيث خيروا في النزول على حكم سعد وكان حليفهم وهو زعيم الأوس فأشار إليهم أبو لبابة إشارة معناها أنهم سيذبحون ثم شعر أنه خان الله ورسوله فربط نفسه في سارية من سواري المسجد وحلف أن لا يبرح ولا يذوق طعاما وشرابا حتى يموت أو يتوب الله عليه ثم تاب الله عليه.
ورووا كذلك أنها نزلت في رجل من المنافقين كتب إلى أبي سفيان يقول له: إن محمدا يريده فخذ حذرك منه. ولا تذكر الرواية الثانية وقت هذا التحذير. ووقعة الخندق كانت بعد وقعة بدر بمدة طويلة. وأشير إليها إشارات عديدة في سورة الأحزاب. فمن المستبعد أن تكون هذه الآيات نزلت في صدد أبي لبابة ووضعت في سياق سورة الأنفال بدون مناسبة والروايات لم ترد في كتب الصحاح. ويلحظ من جهة أخرى أن الآيات منسجمة نظما وسياقا مع ما قبلها مما يجعلنا نرجّح أنها هي الأخرى متصلة بظروف ومشاهد وقعة بدر. ولقد أقبل بعض المجاهدين بعد الوقعة فاحتازوا بعض الأسلاب بدون علم النبي وإذنه. وكان ذلك من أسباب الخلاف الذي وقع ونزلت الآيات الأولى من السورة فيه فأمر النبي بأن يعيد كل
ولا عبرة بما جاء في الرواية من وصف الرجل بالمنافق الذي قد يوهم أنه من أهل المدينة فقد يكون ذلك من الراوي على اعتبار أنه لا يفعل ذلك إلّا منافق.
ولقد روى البخاري ومسلم في سياق تفسير سورة الممتحنة حادثا مماثلا وقع في ظروف عزيمة النبي ﷺ على الزحف على مكة لفتحها في السنة الثامنة للهجرة.
حيث كتب حاطب بن أبي بلتعة وهو من المهاجرين إلى أبي سفيان يخبره بالأمر وعلم النبي بذلك فأرسل فاستردّ الرسول وعوتب حاطب فاعترف وقال إني مؤمن مخلص ولي أموال وأقارب في مكة وليس لهم من يحميهم فأردت أن أتخذ يدا عند أبي سفيان، وصدّقه الرسول فعفا عنه وقال لعمر الذي طلب أن يضرب عنقه: «وما يدريك لعلّ الله اطّلع على أهل بدر فقال لهم اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم» وكان حاطب ممن شهد بدرا. وإلى هذا الحادث أشارت الآية الأولى من سورة الممتحنة يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا...
إلخ «١».
ومن تحصيل الحاصل أن نقول إن ما احتوته من أوامر ونواه وتحذير وتشويق هو عام التوجيه والشمول. وفيها تلقينات أخلاقية واجتماعية ونفسية جليلة مستمرة المدى انطوى مثلها في آيات عديدة مرّ تفسيرها. وننوّه بخاصة بما يعده الله تعالى في الآية [٢٩] من وعود جليلة للمؤمنين إذا ما اتقوا الله توكيدا لوعود كثيرة سابقة.
[سورة الأنفال (٨) : آية ٣٠]
وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (٣٠)
. (١) ليثبتوك: ليقيدوك أو يحبسوك.
في هذه الآية تذكير موجه إلى النبي ﷺ بما كان من موقف الكفار في مكة إزاءه حيث تآمروا على سجنه أو قتله أو إخراجه فأحبط الله مكرهم بمكر أقوى وأنفذ.
تعليق على الآية وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ (١) أَوْ يَقْتُلُوكَ
لقد ذكر المصحف الذي اعتمدناه أن هذه الآية مكية. وروى بعض المفسرين ذلك عن بعض التابعين وذكر ذلك السيوطي أيضا «١». والصورة التي احتوتها الآية مكية من دون ريب. غير أن أسلوبها تذكيري مشابه لصورة مكية أخرى في الآية [٢٦] التي يدل مضمونها على مدنيتها دلالة قطعية تسوغ نفي مكية الآية التي نحن في صددها وترجيح مدنيتها هي الأخرى والقول إنها جاءت لتعقب على الآيات السابقة التي نوهت بما كان من نصر الله لنبيه والمؤمنين في بدر ولتذكر بما كان من
ويروي المفسرون في صدد جملة أَوْ يُخْرِجُوكَ أن المتآمرين قالوا نخرجه من بين أظهرنا ليذهب أنّى شاء لا نبالي بما يصنع. وهذا غريب فالمتآمرون يجتمعون للتشاور في الطريقة المثلى لمنع تفاقم خطر النبي فكيف يقول بعضهم بتركه حرا يذهب أنّى شاء؟ والمعقول أنهم قصدوا بذلك أن يخرجوه بالقوة إلى منفى إجباري يقيم فيه معزولا فتفشل حركته ويؤمن خطره. وليس ثمة معنى يصح أن يتبادر في هذا المقام غير هذا إلّا أن يقال إن مقترح هذا القول من الذين كانوا يميلون إلى بني هاشم أو ينتمون إليهم بنسب أو من الذين كانوا يعترفون في قرارة نفوسهم بأن رسالة النبي ﷺ حقّ ويخشون الدمار والاضطهاد من متابعته على ما شرحناه في سياق الآية [٥٧] من سورة القصص. وعلى كل حال فإن ما حكته الآية لا يمكن أن يكون موضع تنفيذ وتحقيق إلّا من قبل من هم قادرون عليه. وهذا يسوغ القول بالتبعية إن أصحاب السلطة الحكومية في مكة كانوا هم المتآمرون أو على رأسهم وقد ذكرت الروايات أن اجتماع المتآمرين كان في دار الندوة، وهذه الدار كانت مجتمع أصحاب السلطة والشأن من زعماء قريش على ما تذكره الروايات أيضا.
ونرى أن نستدرك أمرا في صدد معنى الإخراج، ففي السور المدنية آيات عديدة تذكر أن كفار قريش أخرجوا النبي والمسلمين أو أن النبي والمسلمون أخرجوا من ديارهم مثل آيات البقرة [١٩١] وآل عمران [١٩٥] والتوبة [٤١] والحج [٤٠] والحشر [٨] والممتحنة [١] والطلاق [٨] فالمتفق عليه أن هذه العبارات عنت في مقامها الإلجاء أو الاضطرار إلى الخروج بشدّة المضايقة والمناوأة وليست في معنى الإخراج أو الطرد عنوة وبالقوة وهذا غير ما يتبادر لنا من كلمة يُخْرِجُوكَ في الآية التي نحن في صددها والله أعلم.
والمتفق عليه أن تآمر المشركين الذي حكته الآية وذكرت به قد أدّى إلى هجرة النبي والمسلمين من مكة إلى المدينة. فصارت المناسبة واردة لشرح كيفية وظروف هذا الحدث التاريخي العظيم ولقد أسهب المفسرون في سياق هذه الآية ثم في سياق آيات آل عمران [٩٨- ١٠٣] في ذلك وروت تفصيلاتها كتب السيرة القديمة أيضا.
وملخص ما روي أن النبي ﷺ لمّا رأى شدة مناوأة زعماء قريش له ويئس منهم ومن استجابة معظم أهل مكة نتيجة لذلك. وتوفّي عمه أبو طالب وكان ذلك في آخر السنة العاشرة من بعثته والذي كان ينصره عصبيّة ومعه جلّ بني هاشم. ثم توفيت زوجته السيدة خديجة رضي الله عنها بعد عمّه بنحو شهر ونصف، والتي كانت من أقوى مشجعيه ومهدئيه، فضاقت مكة على نفسه وكاد ييئس منها وأخذ يفكر في مخرج خارج مكة فسافر إلى الطائف لعله يجد فيها سمعا ونصرا فخاب أمله على ما شرحناه في سياق تفسير الآيات [٢٩- ٣٢] من سورة الأحقاف. ثم أخذ يعرض نفسه على القبائل في موسم الحج وعرض نفسه في الجملة في السنة العاشرة على جماعة من الخزرج من أهل المدينة ودعاهم إلى الإسلام وتلا عليهم القرآن. فانشرحت صدورهم وكانوا يسمعون من اليهود الذين كانوا في المدينة أنه يوشك أن يبعث الله نبيا من العرب مما أشارت إليه الآية [٨٩] من سورة البقرة على ما شرحناه في تفسيرها. فقالوا لبعضهم: لعله النبي الذي توعدكم به اليهود فلا يسبقنكم إليه. فأجابوه بالتصديق والإسلام وقالوا له إنا تركنا قومنا ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم فعسى الله أن يجمعهم بك وسنعرض عليهم أمرك فإن يجمعهم الله عليك فلا رجل أعزّ منك «١».
ورجعوا دعاة للإسلام مع مصعب داعية النبي الأول فاتسعت دائرة الإسلام حتى لم يبق بيت إلّا دخله وقد أشارت آية سورة الحشر إلى ذلك وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ [٩] ومن ثم أذن النبي ﷺ لأصحابه بالهجرة فأخذوا يهاجرون فردا بعد فرد وفوجا بعد فوج فيلقون الترحاب والرعاية.
ولقد شعر زعماء قريش بالحركة فاستشعروا بخطر عظيم لم يستشعروا به من قبل حيث كانوا يقولون إن النبي لن يلبث أن يموت فينتهي أمره وهو ما أشارت إليه آية سورة الطور أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (٣٠) وحيث حسبوا أن اتفاق النبي مع أهل المدينة وإسلامهم وهجرته مع أصحابه إليهم سوف يفتح عليهم باب خطر عظيم متعدد الوجهات لأن المدينة كانت طريق تجارتهم وكان الأوس والخزرج أولي حرب وبأس. فرأوا أن يدبروا تدبيرا يدرأ هذا الخطر فاجتمعوا في
(٢) هذه أسماؤهم للتكريم والتخليد: أسعد بن زرارة، عبد الله بن رواحة، رافع بن مالك، البراء بن معرور، عبد الله بن حرام، عبادة بن الصامت، سعد بن عبادة، المنذر بن عمرو، سعد بن الربيع من الخزرج، وأسيد بن خضير، سعد بن خيثمة، رفاعة بن عبد المنذر من الأوس رضوان الله عليهم.
واقترح بعضهم إخراجه ليذهب أنى شاء فيستريحوا منه. واقترح بعضهم قتله بواسطة شباب من مختلف بطون قريش ليفترق دمه ولا تقدر عشيرته على حربهم جميعا ثأرا له فيرضون بديته. ورأوا أن هذا هو الأهم فاتفقوا عليه وندبوا شبابا لرصده وتنفيذ القرار وهذا ما أشارت إليه الآية التي نحن في صددها... وأخبره الله بواسطة جبريل وحذره من المبيت في بيته وفراشه فأمر عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه وكان يعيش معه بالنوم مكانه والتسجّي ببرده الأخضر الذي يستجّى به عادة عند النوم. ثم تسلل إلى دار أبي بكر رضي الله عنه. وكان هذا قد اعتزم الهجرة فقال له رسول الله على رسلك عسى أن يأذن الله بالخروج. فحبس نفسه لصحبة رسول الله وأعد راحلتين واعتنى بعلفهما. فلما دخل إلى بيت أبي بكر قال له إن الله قد أذن لي بالخروج. فركبا الراحلتين بعد الغسق وخرجا إلى جبل ثور من جبال مكة حيث كمنا في غار ثلاث ليال خشية أن يبعث زعماء قريش في طلبه حينما يفتقدونه. وكان يبيت عندهما عبد الله بن أبي بكر ثم يدلج إلى مكة كأنه بات فيها فيتسمع الأخبار ويعود بها إليهما بعد الغلس. وكان لأبي بكر راع يروح عليهما في الغلس أو الفجر فيجلب لهما الحليب الذي يغذيهما. ولقد صدق ظنّ رسول الله حيث تروي الروايات والأحاديث أنهم أرسلوا من يلتمسونهما في شعاب مكة. ومرّ بعضهم بالغار حتى لقد تسلقه بعضهم وشعر بذلك أبو بكر فارتاع أشدّ الروع وقال للنبي: لو أن أحدهم ينظر إلى قدميه لأبصرنا تحتهما، فقال له: يا أبا بكر ما ظنّك باثنين الله ثالثهما؟ مما أشارت إليه آية سورة التوبة هذه: إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٤٠).
ولما سكن عنهما الطلب خرجا من الغار واستأجرا دليلا أخذ بهم طريق
ولقد كان حادث نجاة النبي ﷺ من مكر الكفار وهجرته إلى المدينة ثاني أعظم أحداث السيرة النبوية وأبركها بعد الحدث الأعظم الأول وهو نزول الوحي على رسول الله بأمر الله وقرآنه. حيث انفتح الأفق الواسع أمام الدعوة الإسلامية وانتشارها وانتصارها. وتحقق قول الله تعالى في آية سورة التوبة وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا [٤٠].
والروايات في تاريخ بدء الهجرة النبوية ووصول النبي ﷺ إلى المدينة مختلفة وليس هناك أثر وثيق صحيح السند وأشهر الروايات أن خروجه كان في أول شهر ربيع الأول ووصوله في نحو منتصفه، والله تعالى أعلم.
ولقد كان في إقدام المهاجرين الأولين من أصحاب رسول الله على ترك وطنهم وذوي أرحامهم وأموالهم وبيوتهم في سبيل الله تضحية عظمى فكانت موضوع تنويه الله عز وجل في آية سورة الحشر هذه: لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ
[سورة الأنفال (٨) : آية ٣١]
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٣١)
. في الآية تذكير بقول كان يقوله الكفار حينما كان يتلى عليهم القرآن حيث كانوا يقولون إنه أساطير وقصص الأولين ولو شئنا لقلنا مثله.
تعليق على الآية وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٣١)
المصحف الذي اعتمدناه يذكر أن هذه الآية أيضا مكية. وبعض المفسرين والسيوطي يؤكدون ذلك أيضا، وما قلناه في صدد مكية الآية السابقة وترجيح مدنيتها يصحّ قوله هنا، وهو ما قاله غير واحد من المفسرين أيضا.
ولقد روى المفسرون أن صاحب هذا القول النضر بن الحرث. وقد كان تاجرا يختلف إلى فارس والحيرة فيسمع أخبار رستم وإسفنديار وأحاديث العجم.
ويجتمع اليهود والنصارى ويسمع ما يقولون ويقرأون من الكتب فيأتي فيحدث به الناس، فلما بعث النبي ﷺ وصار يتلو ما أنزله الله عليه من فصول وفيها قصص الأولين صار يقول ما حديث محمد بأحسن من حديثي وإنه استكتبه من أساطير الأولين ولو شئت لقلت مثله.
ولقد ذكر اسم النضر في مناسبات مماثلة عديدة على ما ذكرناه في سياق تفسير السور المكية، وكثرة ترداد الاسم في هذا المقام قد يجعل العز وصحيحا مع احتمال كون الذين كانوا يقولون مثل هذا القول أكثر من واحد على ما قد يلهمه مضمون الآية والله أعلم.
[سورة الأنفال (٨) : الآيات ٣٢ الى ٣٧]
وَإِذْ قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٣٢) وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (٣٣) وَما لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٣٤) وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٣٥) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (٣٦)
لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٣٧)
. (١) مكاء: صفير.
(٢) تصدية: تصفيق.
١- حكاية بأسلوب تذكيري لما كان الكفار يقولونه على سبيل التحدي والاستهتار والسخرية حينما كان النبي ﷺ يتلو عليهم القرآن ويقول لهم إنه وحي من الله تعالى.
٢- ردّ على تحديهم وسخريتهم وجّه الخطاب فيه إلى النبي ﷺ وتضمن تقرير ما يلي:
١- إن الله تعالى إذا لم يكن قد صبّ عليهم العذاب الذي تحدوه فإنما ذلك لأن النبي كان بينهم، كأنه يراد القول إن سنة الله جرت على أن ينزل الله عذابه على الكفار بعد خروج أنبيائه من بين ظهرانيهم. وهو ما قررته آيات كثيرة في السور المكية.
٢- وإن الله لم يكن ليعذبهم أيضا وهم يستغفرون.
٣- وإنهم مستحقون لعذاب الله بعد ما بدا منهم ما بدا من الكفر وبخاصة من الصدّ عن المسجد الحرام بدعوى أنهم أولياؤه وأصحابه في حين أنهم ليسوا كذلك في الحقيقة. لأن أولياءه هم الذين يتقون صاحبه الحقيقي أي الله ويخافونه ويقفون عند حدوده ولا يصدون عن سبيله ولو كان أكثرهم يجهل هذه الحقيقة أو يتجاهلها. ولا سيما أن صلاتهم التي يؤدونها عند البيت ويعتبرون أنفسهم أولياءه بسببها ليست إلّا صفيرا وتصفيقا وليس فيها خضوع وخشوع يدلان على أنهم مخلصون لربّ البيت فعلا.
٤- وخطاب موجه إلى الكفار على سبيل التأنيب بعد ما وقع عليهم في بدر ما وقع مما اعتبر عذابا ربانيا: أن ذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون. كأنما أريد أن يقال لهم إن الله قد صدق وعده واستجاب لدعاء الكفار وتحديهم بالعذاب بعد أن أخرج النبي وأصحابه من بين أظهرهم.
٥- وتقرير ينطوي على تقريع وإنذار وشماتة بما كان ويكون من الكفار.
تعليق على الآية وَإِذْ قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٣٢) وما بعدها إلى آخر الآية [٣٧]
المصحف الذي اعتمدناه يذكر أن هذه الآيات أيضا عدا الأخيرة مكيات مثل الآيتين [٣٠ و ٣١] وروى الطبري أن الآية [٣٣] نزلت في مكة ثم خرج النبي ﷺ من بين أظهرهم فاستغفر لمن بقي فيها من المسلمين ثم خرج هؤلاء فعذب الله الكفار. وهناك حديث يرويه الشيخان عن أنس جاء فيه: «قال أبو جهل اللهمّ إن كان هذا هو الحقّ عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم فنزلت وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ إلى جملة وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ» «١». هذا في حين أن أسلوب الآية الأولى من الآيات الخمس تذكيري مثل أسلوب الآيتين [٣١ و ٣٢] اللتين رجحنا مدنيتهما لمشابهة أسلوبهما لأسلوب الآية [٢٦] التي لا خلاف في مدنيتها. وفي الآية [٣٦] أمر إنما كان منهم بعد الهجرة وهو الاستعداد للحرب والإنفاق في سبيلها.
وجملة فَذُوقُوا الْعَذابَ في الآية [٣٥] هي على الأرجح إن لم نقل الأحسم في صدد ما وقع عليهم في بدر. ولهذا كله لا يمكن التسليم بمكية الآيات
ولقد روى الطبري أن الآية [٣٦] نزلت في أبي سفيان وغيره ممن وتروا في بدر حيث أخذوا يبذلون جهودهم ويجمعون الأموال وينفقونها في سبيل تحشيد الناس وتحريضهم على الحرب لأخذ الثأر من النبي والمسلمين بعد هزيمتهم في بدر. والرواية محتملة جدا وفيها دليل آخر على أن الآية وما قبلها مدنيات أيضا.
والذي يتبادر لنا على ضوء ما تقدم وعلى ضوء فحوى الآيات والسياق أن هذه الآيات جاءت لتذكر بما كان من تحدي كفار قريش واستعجالهم لعذاب الله على سبيل السخرية ولتبرر عدم إيقاع الله عذابه عليهم قبل هجرة النبي والمؤمنين وإيقاعه العذاب عليهم بعد الهجرة ولتذكرهم بذلك ولتنذرهم بهزائم أخرى بسبب استمرارهم في مواقف الصدّ وتحشيدهم للحرب وبذلهم الأموال في سبيل الله وما سوف يكون من حسرتهم ثم بالعذاب الأخروي الشديد، والله تعالى أعلم.
والخازن يروي أن جملة وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ نزلت في ظروف وقعة الحديبية لأن كفار قريش منعوا رسول الله وأصحابه من زيارة الكعبة أو أنها تشير إلى ذلك. وهذا غريب. ومقام ورود الآيات وبعد الزمن والمناسبة وبين وقعة بدر ووقعة الحديبية يسوغ التوقف في هذه الرواية والترجيح بأنها قصدت التذكير بما كان من كفار قريش من منع المسلمين وبخاصة ضعفاءهم من الصلاة عند الكعبة في العهد المكي مما وردت الإشارة إليه في آيات سورة الحجج [٢٥- ٢٨] على ما شرحناه في سياق تفسيرها ومما روته روايات أيضا، ومما أريد به كذلك تبرير ما وقع على المشركين من عذاب يوم بدر.
ولقد تعددت التأويلات التي يرويها ويقولها المفسرون لجملة وَما
(٣٣) منها أن الله كما أنه لم يشأ أن يعذبهم والنبي بين ظهرانيهم لم يشأ أن يعذبهم وبعض المسلمين ما زالوا بين ظهرانيهم وكانوا يستغفرون الله فلما خرج هؤلاء عذبهم.
ومنها أن القصد من ذلك ما كان يصدر من الكفار من كلمات الاستغفار مثل غفرانك اللهمّ حيث كانوا يعتقدون أن الله هو الغفار الحقيقي لأنه هو الخالق القادر المدبر. ومنها أن الله لم يكن ليعذبهم لو استغفروه عما بدا منهم وتابوا وأنابوا.
ولعل التأويل الأخير هو الأوجه المتسق مع مقاصد الآيات والوقائع. فالمشركون ظلوا يقولون بطبيعة الحال غفرانك اللهمّ، ولكن الله عذبهم بسبب استمرارهم على الصد عن المسجد الحرام وهو ما انطوى في الآية [٣٤] وليس في الآيات قرينة تبرر صرف الضمير في جملة يَسْتَغْفِرُونَ إلى المسلمين الذين بقوا في مكة. والنظم يقتضي أن تكون الجملة حكاية عن الكفار.
هذا، والآيات قوية محكمة مفحمة في تقريعها وإنذارها وتقريراتها وبخاصة بمجيئها عقب وقعة بدر التي نال الكفار فيها ما نالهم من خسارة وهوان.
ومع ذلك فإن من الحق أن نقول إنها من قبيل تسجيل واقع أمر الكفار ومواقفهم حين نزولها. ولقد آمن جميع من بقي حيّا منهم تقريبا عقب الفتح المكي وحسن إسلامه وسجل الله رضاءه عنهم ورضاءهم عنه. فيكون ما فيها إنذارا وتقريرا في صدد العذاب الأخروي قائما بالنسبة للذين ماتوا وهم كفار منهم.
وجملة وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكاءً وَتَصْدِيَةً تدل على كل حال على أن المشركين كانوا يؤدون عند الكعبة طقوسا يسمونها صلاة وإن لم يرد بيان وثيق يزيد الأمر وضوحا.
ولقد أورد ابن كثير وغيره في سياق الآية [٣٣] أحاديث عديدة، منها حديث رواه الترمذي عن أبي موسى عن النبي ﷺ قال: «أنزل الله عليّ أمانين لأمتي وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (٣٣) إذا
ومنها حديث عزاه ابن كثير إلى الإمام أحمد عن النبي ﷺ قال: «العبد آمن من عذاب الله ما استغفر الله عزّ وجلّ». وفي هذا الحديث دعم لما قلناه من اعتبار النبي ﷺ الآية منطلقا عاما للمسلمين والله أعلم. والتطمين والتبشير من الحكمة الملموحة في الأحاديث. وفي القرآن آيات كثيرة بالأمر بالاستغفار. وقد علقنا على ذلك وأوردنا طائفة من الأحاديث في سياق تفسير سورة المزمل فنكتفي بهذا التنبيه.
[سورة الأنفال (٨) : الآيات ٣٨ الى ٤٠]
قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ (٣٨) وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٣٩) وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (٤٠)
. تعليق على الآية قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ (٣٨) والآيتين التاليتين لها
عبارة الآيات واضحة ولا يروي المفسرون رواية خاصة بنزولها والمتبادر أنها متصلة بسابقاتها سياقا وموضوعا ومعقبة على نتائج نصر المسلمين في وقعة بدر كما هو المتبادر. وفيها إشعار بما أثاره هذا النصر في المسلمين من عزة وقوة.
وفيها مع ذلك دعوة فيها تسامح وتسام، حيث يؤمر النبي ﷺ بدعوة كفار قريش بعد أن انتصر عليهم إلى الانتهاء من موقف العناد والعداء والجحود فيغفر الله لهم كل ما سلف منهم، ويوكل أمرهم إلى الله العليم البصير في أمورهم ومقاصدهم ثم
وفي أسلوب الإنذار والإعلان والدعوة تلقين قرآني جليل رائع ومستمر المدى: فكل ما ينبغي أن يطلبه المسلمون من أعدائهم الذين يقاتلونهم حينما يقابلونهم بالمثل أن يرعووا عن غيّهم وبغيهم وأن يسيروا في طريق الحق الذي فيه خيرهم ومصلحتهم فإذا فعلوا هذا سقط عنهم كل إثم ارتكبوه وصاروا من المسلمين لهم ما لهم وعليهم ما عليهم. وفي إحدى آيات سورة التوبة يأتي هذا المعنى أصرح حيث جاء فيها: فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (١١).
ولقد قال المفسرون في صدد الآيات [٣٨- ٤٠] وفي صدد كلمة (الفتنة) بعض ما قالوه في صدد آيات البقرة [١٩١- ١٩٣] التي تكاد تكون تكرارا لها، ولقد علقنا على آيات البقرة بما فيه الكفاية فلا نرى حاجة إلى التكرار والزيادة.
ومن الجدير بالتنبيه أن الآية قد أمرت النبي ﷺ والمؤمنين بما أمرتهم به بعد أن انتصروا على الكفار حيث ينطوي في هذا بالإضافة إلى ما قلناه من تسامح وتسام اتساق مع الهدف الجوهري القرآني وهو حملهم على الارعواء والاهتداء بنور الله والسير في طريق الحقّ الذي هو مصلحتهم.
ولقد أورد ابن كثير في سياق الآية حديثين وصفهما بالصحيح جاء في أحدهما: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أحسن في الإسلام لم يؤاخذ بما عمل في الجاهلية ومن أساء في الإسلام أخذ بالأول والآخر» وجاء في ثانيهما: «قال رسول الله ﷺ الإسلام يجبّ ما قبله والتوبة تجبّ ما قبلها». والحديث الأول من مرويات مسلم «١». وفي الحديثين تساوق مع التلقين القرآني كما هو المتبادر.
[سورة الأنفال (٨) : آية ٤١]
وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤١). (١) يوم الفرقان: المقصود هنا يوم النصر الذي يسّره الله للمؤمنين ففرّق بذلك بين أصحاب الحقّ وأصحاب الباطل.
شرح الآية وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ | وما ورد في صددها من تأويلات وأحاديث وتعليقات عليها |
وتخصيص التشريع بالخمس يؤكد كما قلنا الرواية المروية عن مجاهد التي أوردناها في سياق شرح الآيات الأولى من السورة من كون الخلاف والاعتراض كان على إفراز الخمس من الغنائم، فنزلت هذه الآية التشريعية بأسلوبها القوي لإقرار ذلك.
ومع أن الغنائم التي وقع عليها الخلاف واقتضت حكمة التنزيل إنزال هذا التشريع فيها هي غنائم بدر، فإن أسلوب التشريع جاء مطلقا ليكون خمس كل غنيمة يغتنمها المسلمون للجهات التي ذكرها التشريع حكما شرعيا مستمرا.
وقد وصفنا تشريع الخمس بالأولية لأن مصارف الزكاة لم تكن قد حددت بعد تحديدا قرآنيا لأن هذا التحديد إنما ورد في آية سورة التوبة هذه إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٦٠) وسورة التوبة مما نزل في أواخر عهد رسول الله. وإن كان هذا لا ينفي أن يكون النبي ﷺ كان يوزع الزكاة- وهي الصدقات- التي كان يأخذها من الذين عليهم الحق على المصارف المذكورة في الآية.
وفي كتب التفسير أحاديث وروايات عديدة ومتنوعة في فحوى الآية التشريعي:
أولا: إن المستفاد منها أن الجمهور من أهل السنة يؤولون الغنيمة بما يدخل في حوزة المسلمين من عدوهم من غنائم متنوعة نتيجة لحرب وقتال. أما ما يدخل
ولقد روى الطبري عن قتادة أن هذه الآية نسخت تشريع سورة الحشر.
وفنّد هذا القول. وهو حق وصواب، وقد يمكن أن يزاد إلى هذا أن سورة الحشر نزلت في صدد غنائم بني النضير التي كانت بعد وقعة بدر حيث يبدو قول النسخ غريبا.
وقد قيدنا الكلام لصفة الغنيمة بأنه مذهب جمهور أهل السنّة لأن من الشيعة من يذهب إلى أن الغنيمة هي كل فائدة وعائدة للمسلمين من تجارة وكنوز فضلا عما يأخذونه من أعدائهم بالحرب ويوجب على كل ذلك الخمس استنادا على ما يبدو إلى إطلاق التعبير في جملة وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ والتعبير وإن كان مطلقا حقا وكلمة الغنيمة وإن كانت تفيد لغة ما لغنيمة المرء مطلقا فإن من اليقين أن التشريع في صدد غنائم حرب بدر ثم صار عاما لغنائم الحرب. وهناك أحاديث صحيحة تحصر الغنائم بغنائم الحرب على ما سوف نورده بعد قليل ولم ترو رواية عن رسول الله وأصحابه فيما اطلعنا عليه بل وتابعيهم غير ذلك عن غير طرق شيعية مما يجعل قول جمهور أهل السنّة هو الوجه الحق. وقد يخطر للبال أن رؤساء الشيعة وأئمتهم قد توسعوا في الأمر لتوفير أكبر جباية ممكنة من مختلف ما يكسبه أتباعهم في الظروف التي كانوا شديدي النشاط فيها في سبيل دعوتهم ودعايتهم ومنافسة خصومهم الأمويين أولا والعباسيين بعدهم والحلول محلهم في السلطان. وقد وصل الأمر في هذا إلى أن يسجلوا حديثا عن علي بن الحسين رضي الله عنهما أنه قال إن جميع خمس الغنائم لأقارب رسول الله وأنه لما قيل له إن الله يقول: وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ قال: هم أيتامنا ومساكيننا» «١».
قال: لا، ولا السهم تستخرجه من جيبك لست أحق به من أخيك المسلم» «٢» وحديث رواه أبو داود والنسائي عن عمرو بن عبسة قال: «صلّى بنا رسول الله ﷺ إلى بعير من المغنم ولما سلّم أخذ وبرة من جنب البعير ثم قال: ولا يحلّ لي من غنائمكم مثل هذا إلّا الخمس والخمس مردود فيكم» «٣». وحديث رواه الأربعة عن ابن عمر قال: «إنّ رسول الله ﷺ قسم في النفل للفرس سهمين وللرجل سهما، وفي رواية (أسهم لرجل وفرسه ثلاثة أسهم سهما له وسهمين لفرسه) » «٤».
وهناك رواية يرويها الإمامان أبو عبيد وأبو يوسف في كتابيهما «الأموال والخراج» تفيد أن النبي كان يقسم للفرس سهما وللرجل سهما. ومما رواه المفسرون أن جميع النفل كان يؤتى به إلى النبي ﷺ فيخرج الخمس منه يرضخ لمن لا سهم له ممن يكونون شهدوا المعركة من النساء والعبيد والصبيان ولمن شاءت حكمته أن يرضخ له من ذوي البلاء المتميز ثم يقسم الباقي سهاما على المجاهدين حسب النسبة المذكورة التي اختلفت رواياتها بين ثلاثة أسهم للفارس وفرسه وسهم للراجل وبين سهمين للفارس وفرسه وسهم للراجل. والأحاديث
(٢) انظر المصدر نفسه.
(٣) التاج، ج ٤ ص ٣٣٧.
(٤) المصدر نفسه.
ولقد كان المسلمون في زمن النبي والخلفاء الراشدين يتجهزون ويتمونون للجهاد من أموالهم الخاصة. والمتبادر أن حكمة توزيع الأخماس الأربعة عليهم متصلة بذلك عدا ما يخولهم ذلك إقدامهم على الجهاد والتضحية. وقد يرد في المال تجاه ما أخذ يجري في القرون المتأخرة واليوم من التزام بيت المال بتجهيز المحاربين سلاحا ومؤونة وحمولة ونفقة ومرتبات ما إذا يصح أن يكون الأمر موضع نظر واجتهاد تبعا للقاعدة الشرعية بتغير الأحكام بتغير الأزمان. وقد أخذ حكام الدول الإسلامية يجرون على الاستيلاء على جميع الغنائم لبيت المال بناء على ذلك على ما هو المتبادر. وقد يكون الوارد والعمل في محله. وقد يكون التلقين المنطوي في آية الفيء في سورة الحشر التي جعلت جميع الفيء لبيت المال دون المسلمين لأنهم لم يوجفوا بخيل ولا ركاب مما يمكن أن يورد في سبيل تدعيم ذلك. والله تعالى أعلم.
ثالثا: هناك من قال إن عدد مصارف خمس الغنائم خمسة. وهي رسول الله وذو القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل. وإن ذكر الله للتشريف.
وهناك من روى أن النبي ﷺ كان يفرز سهما للكعبة ويقول هذا سهم الله وينفقه على شؤونها، وليس هناك حديث نبوي وثيق وصريح. وفي مصارف الزكاة ذكر سَبِيلِ اللَّهِ من مصارف الزكاة كما جاء في آية سورة التوبة هذه إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ [٦٠] والمتبادر أن كلمة اللَّهُ في آية الأنفال
رابعا: هناك من روى أن النبي ﷺ كان يأخذ سهما من الخمس فينفق منه ما هو في حاجة إليه ويضع الباقي حيث شاء. وهناك من روى أن رسول الله كان يعطي أقاربه ما بقي من سهمه. وليس من تعارض بين الروايتين. وتعددت الروايات في هذا السهم بعد وفاة رسول الله ﷺ منها أنه صار لخليفته ومنها أنه من حق أقاربه ومنها أن أبا بكر ردّه إلى بيت المال ومنها أنه جعله لشراء الكراع والسلاح وأن هذا تم بعد تشاور بينه وبين كبار أصحاب رسول الله وأن هذا هو الذي جرى الأمر عليه بعد أبي بكر. والمستفاد من ما أورده جمهور المفسرين من أهل السنة من روايات وأقوال أن سهم رسول الله ينفق على سبيل الله. ولقد اتفق أصحاب رسول الله على تخصيص نفقة لخليفته الأول وصار الخلفاء يأخذون نفقة من بيت المال، ولم يكن شيء من ذلك للنبي في حياته. فلم يكن من محل لتحويل سهم رسول الله لخليفته. والشيعة يذهبون إلى أن هذا السهم إرث يستحقه ورثة النبي ﷺ أو أبناء ابنته فاطمة رضي الله عنهم بخاصة. وهناك أحاديث معتبرة عند أهل السنة تتضمن دلائل قوية ضد هذا المذهب. والأحاديث تورد في صدد سهم رسول الله في الفيء الذي خصص جميعه لما خصص له خمس الغنائم ولكن دلالتها شاملة لسهم رسول الله في حياته وبعد وفاته كما هو المتبادر القوي منها. منها حديث رواه الخمسة عن عمر قال: «كانت أموال بني النضير مما أفاء الله على رسوله مما لم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب، فكانت للنبي خاصة ينفق على أهله منه وما بقي يجعله في الكراع والسلاح عدة في سبيل الله» «١». ومنها حديث رواه أبو داود عن
وهناك حديث آخر عن عائشة فيه شيء من هذا الحديث مع بعض فروق.
ويظهر أنها قالته في مجلس آخر ونصّه: «إن فاطمة والعباس أتيا أبا بكر يلتمسان ميراثهما من رسول الله يطلبان أرضهما من فدك وسهمهما من خيبر». فقال لهما أبو بكر سمعت رسول الله يقول لا نورث ما تركنا صدقة. إنما يأكل آل محمد من هذا المال. والله لا أدع أمرا رأيت رسول الله يصنعه إلّا صنعته. قال فهجرته فاطمة فلم تكلّمه حتى ماتت. وفي رواية: «لا يقتسم ورثتي دينارا مما تركت بعد نفقة نسائي ومؤونة عاملي فهو صدقة» «٣». وهناك حديث يرويه الطبري والبغوي في سياق تفسير آيات سورة الحشر في الفيء جاء فيه: «إن عمر بن الخطاب عهد بسهم
(٢) انظر المصدر نفسه.
(٣) التاج، ج ٢ ص ٢٤٠، وهذا الحديث مروي من الأربعة عن أبي هريرة أيضا انظر التاج ج ٢ ص ٣٤١.
وإلّا فلا تكلماني فيها، فقلتما ادفعها إلينا بذلك فدفعتها إليكما... أفتلتمسان قضاء غير ذلك. فو الله الذي تقوم السماء والأرض بإذنه لا أقضي فيها قضاء غير ذلك حتى تقوم الساعة فإن عجزتما عنها فادفعاها إليّ فإني أكفيكماها». وفي هذا الحديث توضيح لنقطة مبهمة في حديث عائشة الأول الذي رواه الأربعة وهي تسليم عمر عليا وعباسا رضي الله عنهم جميعا صدقة النبي في المدينة فالحديث يوضح أن هذا بمثابة تولية من عمر لعلي والعباس لإنفاق الصدقة على النحو الذي كان يفعله النبي وأبو بكر من بعده وليس على سبيل كونها إرثا لهما وحقا شخصيا.
والطبري والبغوي من أئمة الحديث والراجح أنهما تثبتا منه «١».
وخامسا: هناك روايات في سهم وَلِذِي الْقُرْبى منها أنه لقريش لأن جميعهم أقارب لرسول الله. ومنها أنه لأقارب رسول الله الأدنين بني هاشم أو بني هاشم وبني المطلب. وعلل الذين قالوا ذلك إن الصدقات كانت محرمة على آل محمد استنادا إلى أحاديث مروية عن النبي ﷺ منها حديث رواه مسلم والنسائي عن عبد الله بن الحارث عن رسول الله قال: «إن هذه الصدقات من أوساخ الناس وإنها لا تحلّ لمحمد ولا لآل محمد» «١»، ومنها حديث رواه مسلم وأبو داود عن أبي هريرة قال: «أخذ الحسن بن علي تمرة من تمر الصدقة فجعلها في فيه، فقال النبيّ: كخ كخ، ليطرحها. ثم قال: أما شعرت أنّا لا نأكل الصدقة، وفي رواية:
أما عملت أنّا لا تحل لنا الصدقة» «٢» ولذلك اقتضت حكمة الله أن يجعل سهما من خمس الغنائم لأقاربه الأدنين كما قالوا. وروي في صدد تأييد كون وَلِذِي الْقُرْبى هم أقارب رسول الله الأدنين حديثان رواهما البخاري وأبو داود عن جبير بن مطعم جاء في أحدهما: «مشيت أنا وعثمان بن عفان إلى النبي، فقلنا: يا رسول الله أعطيت بني عبد المطلب وتركتنا ونحن وهم منك بمنزلة واحدة، فقال: إنما بنو المطلب وبنو هاشم شيء واحد» «٣». وجاء في ثانيهما: «لم يقسم النبي ﷺ لبني عبد شمس ولا لبني نوفل، قال ابن إسحق وعبد شمس وهاشم والمطلب أخوة لأم وأمهم عاتكة بنت مرة. وكان نوفل أخاهم لأبيهم، ومن الروايات رواية عن
(٢) المصدر نفسه.
(٣) التاج، ج ٤ ص ١٣٩.
والمسلمون لهم حاجة إليه فقال له العباس إنك حرمتنا شيئا لا يرد علينا أبدا إلى يوم القيامة» «١».
ومن الروايات أن سهم ذي القربى كان رسول الله يضعه حسب ما يرى.
وصار بعد موته هو وسهم رسول الله لولي الأمر يضعهما حسب ما يرى أو ينفقهما في معونة الإسلام وأهله وأن هذا كان نتيجة تشاور بين أصحاب رسول الله وجرى عليه عمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم. وقد روى الإمام أبو عبيد عن عبد الله بن المبارك عن محمد بن إسحق قال: «سألت أبا جعفر محمد بن علي فقلت كيف صنع علي في سهم ذي القربى حين ولي الناس؟ قال: سلك به سبيل أبى بكر وعمر». وباستثناء الحديثين اللذين يرويهما البخاري وأبو داود عن جبير بن مطعم ليس شيء من الروايات واردا في كتب الصحاح وليس في الحديثين صراحة أن الذي أعطاه النبي لبني هاشم وبني عبد المطلب هو سهم ذي القربى. وكل ما يفيده أنه أعطاهم شيئا من الغنائم أو الفيء.
وعلى كل حال ليس هناك رواية وثيقة السند صريحة النصّ بأن سهما من خمس الغنائم كان يوزع على أقارب رسول الله أو بني هاشم في زمن النبي وخلفائه الراشدين الأربعة. ومعظم الأقوال تذكر أن الخلفاء جعلوا هذا السهم مع سهم رسول الله في بيت المال لينفق على السلاح ومعونة الإسلام وأهله. ونحن نعرف أن الشيعة يطعنون في أبي بكر وعمر وعثمان وسائر أصحاب رسول الله الذين
وينكرون أن يكون عليّ سلك مسلكهم. وفي كلامهم على أي حال اعتراف بما جرى عليه الخلفاء الثلاثة على الأقل على ملأ من جمهور أصحاب رسول الله وبخاصة السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار وإقرارهم، والمؤمن الحق الذي يعرف الخلفاء الثلاثة هم ممن مات النبي وهو راض عنهم وممن سجل الله رضاءه عنهم في آية سورة التوبة [١٠٠] لا يمكن أن يسلم بأنهم فعلوا غير ما عرفوا أنه الحق الموافق لسنة رسول الله وإلهام كتابه. ولا يجوز لمؤمن مخلص أن يقول أو يظن أن جمهرة أصحاب رسول الله وبخاصة السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار الذين سجل رسول الله رضاءه عنهم وهم مئات يمكن أن يتواطأوا على صرف هذا الحق عنهم لو كان لهم بنص القرآني أو حديث نبوي. وجملة «إنما يأكل آل محمد من هذا المال» الواردة في الحديث الذي يرويه الخمسة يقوي ذلك. فلو كان لآل محمد سهم في خمس الغنائم أو في الفيء لما كان من حكمة لهذا القول.
ولقد روى المفسرون أن الخلفاء الراشدين جعلوا أقارب رسول الله مثل سائر المسلمين فكان الذي يشهد المعركة منهم يأخذ نصيبا من الغنائم أسوة بمن شهدها، وحين رتبت المرتبات من بيت المال في زمن عمر رتبت لهم وفقا للمراتب التي رتبت عليها وجعل لهم أو لبعضهم ميزة القربى لرسول الله «١». وكان يعطى لفقرائهم من بيت المال أسوة بفقراء المسلمين واستمر ذلك في زمن عثمان وعلي رضي الله عنهما ثمّ في زمن الدولة الأموية ثم في نحو الخمسين سنة الأولى من زمن الدولة العباسية أيضا وفي هذا دليل آخر.
ولقد روي أن هذا الحق أقر ووزع لأقارب رسول الله في زمن المأمون سابع الخلفاء العباسيين. ولكن ليس هناك ما يفيد أن ذلك ظلّ معمولا به في هذه الدولة وما بعدها والله أعلم.
ويروي بعض مفسري الشيعة (الطبرسي والطوسي) مثلا أن جملة وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ في آية سورة الإسراء هذه وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً (٢٦)، وفي آية سورة الروم هذه: فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٣٨) هي قصدت أقارب رسول الله في الفيء والغنائم، والآيتان في سورتين مكيتين ويروي القائلون أن الآيتين أو إحداهما مدنيتان لتبرير قولهما لأن تشريع الفيء والغنائم مدني وليس لما رأوه سند وثيق. والآيتان منسجمتان في سياق الآيات المكية قبلهما وبعدهما كل الانسجام وآية سورة الإسراء في سلسلة طويلة فيها وصايا وأوامر وتحذيرات وبعد الآية الواردة في سورة الروم آية من شاكلتها وهي: وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (٣٩). وأسلوب الآيتين مثل أسلوب الآيات المكية التي قبلهما وبعدهما حثّ وتحذير وهو أسلوب مكي. ويتبادر لنا والله أعلم أنها بسبيل الحثّ على إعطاء الأقارب المستضعفين حقهم في الميراث حيث كان الأقوياء من رجال الأسر يأكلون حقوق النساء واليتامى والمستضعفين في الميراث أو يجحفون فيه. وفي سورة النساء آية تشير إلى ذلك بصراحة وهي:
وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ اللَّاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِهِ عَلِيماً (١٢٧) والله أعلم.
وقد يقول الشيعة إن عليا وفاطمة رضي الله عنهما كانا مع النبي بالإضافة إلى حمزة عمه الذي شهد بدرا وجعفر ابن عمه الذي كان مهاجرا في الحبشة حين نزول آيات الأنفال وهذا صحيح. ولكنّا لا نسلم أن جملة لِذِي الْقُرْبى في سورة الأنفال نزلت لتعنيهم حين نزولها على ضوء ما تقدم من أحاديث نبوية وصحابية وفهم وتطبيق خلفاء رسول الله الأربعة على ملأ وإقرار من كبار أصحاب رسول الله من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار. وإنه ليتبادر لنا أن موقف الشيعة متصل بما كان من منافسات ومنازعات في صدر الإسلام وبخاصة بين الهاشميين والأمويين. ولعلّ مما يحسن أن يقال في هذا المقام إن تخصيص سهم لأقارب رسول الله في خمس الغنائم ثم في خمس الفيء على ما سوف يأتي شرحه في سياق سورة الحشر فيه معنى الأجر المادي الذي نفاه القرآن مرة بعد مرة عن رسول الله بقوة وحسم لأنه لا يتفق مع عظمة النبوة وأخلاقها وأهدافها. ولقد حاول الشيعة أن يؤولوا آية الشورى التي جاء فيها قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى [٢٣] بمثل ما حاولوا تأويل الآية التي نحن في صددها وخالفهم جمهور المفسرين على ما شرحناه في سياق تفسيرها شرحا يغني عن التكرار.
ويجب أن نؤكد بهذه المناسبة مرة أخرى أننا نكنّ أعظم التكريم والإجلال لمن ينتسب إلى الدوحة الطاهرة النبوية وأن ما ننبه عليه هنا وفي أي مكان من التفسير هو في صدد تقرير ما يتبادر لنا أنه الأكثر اتساقا مع روح الآيات وفحواها وجلال المقام النبوي ووثيق الروايات، والله تعالى أعلم.
سادسا: وفي صدد شرح مدى الآية نقول: إن المسكين الذي اختصّ بالذكر في الآية ليس هو الفقير مطلقا وإنما هو كما وصفه النبي في حديث رواه الشيخان
سابعا: أما ابْنِ السَّبِيلِ فهو على ما هو المتبادر المجتاز من أرض إلى أرض وقد نفد ما في يده وأصبح محتاجا إلى مساعدة ولو كان في بلده غنيا على ما يستفاد من معظم الأقوال التي ذكرها المفسرون. وهناك من قال إنه الضيف إطلاقا. وروح الآية تجعل الرجحان للأول على أن القول الثاني لا يبعد وبخاصة إذا كان الضيف غريبا محتاجا كما هو واضح.
ثامنا: والأقوال متفقة على أن الْيَتامى الذين جعل لهم نصيب في الغنائم هم فقراء اليتامى الذين ليس لهم مال، وهو حق وصواب. وننبه على أن اليتامى لم يذكروا في مصارف الزكاة المذكورة في الآية [٦٠] من سورة التوبة. حيث نلمح اللفتة الربانية الكريمة في جعل نصيب لهذه الفئة في مال الغنيمة التي تدخل لبيت المال، وهي من نوع المساكين الذين قد لا يفطن إليهم ولا يقومون ليسألوا الناس.
تاسعا: يلحظ أن الآية ذكرت (المساكين واليتامى وابن السبيل) في حين أن آية التوبة [٦٠] التي ذكرت مصارف الزكاة ذكرت (الفقراء والمساكين وابن السبيل والغارمين) ولا ندري هل يصح القول إن هذا الفرق أسلوبي وإن ما ذكر في الآيتين يمثل الطبقات المعوزة من المسلمين عامة. وإن كنا نظن أن هذا هو المتبادر والله أعلم. ومع ذلك فإن من واجبنا أن نقول إن روعة حكمة التنزيل ومغزاها الجليل ملموحان إذا ما لوحظ أن كلا من المسكين واليتيم لا يسألون الناس عادة حيث
عاشرا: تعددت أقوال الفقهاء والمفسرين في كيفية توزيع سهام خمس الغنائم حيث قال بعضهم إنه يقسم إلى ستة أسهام متساوية ويصرف على كل مصرف حصته. وهناك من قال إن هذا متروك لولي أمر المؤمنين يتصرف فيه حسب المصلحة بمشاورة أهل الرأي مع واجب مراعاة جميع المصارف. وليس هناك حديث صحيح نبوي أو راشدي فيه حسم إلا ما كان في صدد سهم رسول الله حيث جاء في أحد الأحاديث الصحيحة أنه كان يفرزه فينفق منه ما ينفق على نفسه وبيته ويوجه ما بقي لوجوه البرّ ومصلحة الإسلام على ما ذكرناه قبل. ولقد أصبح هذا السهم بعد النبي لبيت المال على ما ذكرناه أيضا. والآية مطلقة لا تتحمل التقسيم والحصر، وهذا ما يجعل القول الثاني هو الأوجه والله أعلم.
وما قلناه في تعليقنا على الزكاة في سورة المزمل من أنه ليس ما يمنع أن تنشئ الدولة ببعض المال المخصص للفئات المحتاجة منشآت لمصلحتهم مثل مياتم ومشاف ومدارس وعيادات ودور عجزة وملاجىء ودور ضيافة يصح أن يقال في هذا المقام أيضا والله تعالى أعلم.
[سورة الأنفال (٨) : الآيات ٤٢ الى ٤٤]
إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَواعَدْتُمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ وَلكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (٤٢) إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٤٣) وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٤٤)
. (١) العدوة: المقصود هنا طرف الوادي أو معبره.
(٣) القصوى: البعيدة أي في الطرف الثاني لناحية مكة.
(٤) الركب: المقصود جيش قريش.
(٥) فشلتم: ضعفتم وتخاذلتم وجبنتم.
في الآيات:
١- تذكير استطرادي للمؤمنين بما كان يوم المعركة. فقد كانوا في طرف الوادي القريب للمدينة وكان الكفار في الطرف الثاني البعيد، وكان هؤلاء في مكان أوطأ من مكانهم. وكان كل من المؤمنين والكفار قد وصلوا إلى مكانهم على غير ميعاد وكان في هذا إصابة لم تكن على ما جاءت عليه لو كان بينهم ميعاد متفق عليه بينهم من قبل وكان هذا تدبيرا ربانيا ليتمّ أمر الله وقضاؤه فيهلك من هلك عن بينة ويحيى من حيّ عن بينة والله سميع لكل شيء عليم بكل شيء.
٢- إشارة إلى بعض ما وقع في ذلك اليوم وما كان من تدبير الله فيه. فقد أرى الله نبيه الأعداء في منامه قليلا فأخبر المسلمين بذلك فكان فيه تشجيع لهم ولو رآهم كثيرين لكان من الممكن أن يطرأ على قلوبهم ما يبعث فيهم التهيب ويجعلهم يتنازعون في الأمر فيؤدي ذلك إلى فشلهم وتخاذلهم. ولكن الله سلم فاقتضت حكمته أن يراهم النبي في منامه قليلا ليدفع عنهم ذلك وهو العليم بما يختلج في صدور الناس من نزعات وخطرات. ومن هذا التدبير الرباني أن جعل الله المؤمنين يرون الكفار قليلين، وجعل الكفار يرون المؤمنين قليلين حينما وقعت عيون بعضهم على بعضهم حتى يهون اللقاء على الفريقين ويتم أمر الله وقضاؤه وهو الذي ترجع إليه الأمور وتسير وفق حكمته.
والآيات متصلة بالسياق نظما وموضوعا. وهي استمرار للاستطراد كما هو واضح. ولقد قال الطبري في صدد توضيح وتأويل جملة لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ إنها بمعنى ليموت من يموت عن حجة لله قد أثبتت له وقطعت عذره قد عاينها ورآها. ويعيش من يعيش عن حجة لله أثبتت له وظهرت
ولقد احتوت الآيات بعض مشاهد ووقائع الوقعة ولكن أسلوبها يدل على أن القصة لم تكن المقصودة وإنما القصد هو بيان ما كان من عناية الله وتدبيره بحيث لم يكن نصر للمسلمين لولاها، وذلك بسبيل توطيد أوامر الله ورسوله وبخاصة في أمر الغنائم المختلف على قسمتها والتي كان الاختلاف عليها هو السبب المباشر لنزول السورة. وهذا يلحظ أيضا في الفصول السابقة على ما نبهنا عليه.
ولقد أوردنا خلاصة ما روي من مشاهد ووقائع المعركة. فلم يبق محل للإعادة ولا ضرورة للزيادة بمناسبة هذه الآيات. غير أن هناك رواية يرويها الطبري والبغوي في صدد الآية [٤٤] هنا محلها حيث رويا بالتسلسل عن ابن مسعود أنه قال «لقد قللوا في أعيننا يوم بدر حتى قلت للرجل إلى جانبي تراهم سبعين، قال أراهم مائة».
[سورة الأنفال (٨) : الآيات ٤٥ الى ٤٩]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٤٥) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (٤٦) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً وَرِئاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (٤٧) وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَقالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ وَقالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (٤٨) إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٤٩)
في هذه الآيات:
١- نداء موجّه للمسلمين يؤمرون به بالثبات في القتال حينما يلتحمون مع فئة من أعدائهم ويلقونها. وبذكر الله كثيرا آنذاك حيث يضمن لهم ذلك الروحانية والتأييد والفلاح. ويحثون به على طاعة الله ورسوله في كل موقف ويحذرون به من التنازع والاختلاف لأن فيهما فشلهم وإدبار أمرهم، ويؤمرون فيه بالصبر لأن ذلك يضمن لهم نصر الله وتأييده وينهون به عن أن يكونوا مثل الكفار الذين خرجوا من مكة يملأهم الفخر والزهو والبطر وحبّ التظاهر وهم يصدون عن سبيل الله، والله محيط بهم ومحبط لأعمالهم.
٢- وتذكير أو إخبار بما كان من موقف الشيطان وموقف المنافقين ومرضى القلوب في ظروف يوم بدر. فقد زيّن الشيطان للكفار الخروج وحثّهم عليه وألقى في روعهم أنهم من القوة بحيث لا يغلبهم أحد وأعلنهم أنه جار لهم ومناصرهم.
فلما تراءت الفئتان والتحمتا نكص على عقبيه تاركا الكفار وما يلقونه من ويل متبرئا من جوارهم معلنا أنه يرى ما لا يرون وأنه خائف من الله الشديد العقاب الذي هو حقيق بأن يخافه أعداؤه. أما المنافقون ومرضى القلوب في المدينة فقد أخذهم العجب وتولتهم الدهشة مما بدا من جرأة المسلمين وخروجهم لقتال قريش مع ما هو معروف من تفوق هؤلاء عليهم في العدد والعدد فأخذوا يقولون عنهم إنهم اغتروا بدينهم.
وقد انتهت الآيات بتقرير ينطوي على التنويه بما كان من نصر الله للمسلمين الذين توكلوا عليه، فهو العزيز الحكيم الذي ينصر من يتوكل عليه ويتمسك بحباله.
والآيات متصلة بسابقاتها سياقا وموضوعا كما هو المتبادر. وقد روى المفسرون روايات متنوعة الصيغ متفقة المدى في صدد الآية [٤٨] ومن أكثر ما توافقوا عليه منها أن قريشا تحسبت من بني كنانة وكان بينهم وبينهم عداء وكانوا في طريقهم وأن إبليس تجسّم لهم في صورة أحد أشرافهم «سراقة بن مالك» فقال لهم: أنا لكم جار من أن تأتيكم كنانة من خلفكم بشيء تكرهونه وجعل يحرضهم ويقوي من عزائمهم فكان ذلك مما جعلهم يسرعون إلى الخروج لإنقاذ القافلة.
ومما جاء في الرواية أنه كان معهم في المعركة فلما رأى من المسلمين ما رأى من استبسال وعزيمة وما استولى عليهم من روحانية انتزع يده من يد رفيق له وفرّ لا يلوي على شيء قائلا ما ذكرته الآيات «١». والذي نلاحظه على هذه الرواية أن في القرآن نصا صريحا بأن الناس لا يرون إبليس وقبيله وهو ما جاء في هذه الآية من سورة الأعراف: إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ [٢٧]، وليست الرواية المروية ذات سند قوي. ولذلك نقول إما أن تكون الآية قد عنت أحد صناديد الكفار وشياطينهم ممن كان أشدهم تثبيتا للقلوب وتسديدا للعزائم ثم كان من الناكصين المنهزمين. والقرآن أطلق كلمة الشيطان على الإنس أيضا كما جاء في آية سورة الأنعام هذه وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً [١١٢]، وإما أن تكون احتوت تصويرا معنويا للحال لتقرر أن الكفار بخروجهم مزهوين معتدّين بأنفسهم إنما انساقوا لتزيين الشيطان ووساوسه فوردوا مورد الهلاك استهدافا لتوكيد التحذير والدعوة إلى التأسي من
ويتبادر لنا أن الآيات انطوت على قصد المقارنة أيضا، فالكفار خرجوا بتزيين الشيطان وكان معتمدهم وجارهم فأخزاهم الله على ما كانوا عليه من كثرة عدد وعدد وزهو وبطر واعتداد بالنفس، والمسلمون خرجوا بإلهام الله متوكلين عليه فنصرهم على ما كانوا عليه من قلة عدد وعدد أثارت عجب المنافقين ومرضى القلوب وحملتهم على الغمز والاستخفاف بهم وتوقع الهزيمة لهم.
وروى المفسرون في صدد الآية [٤٧] أن أبا سفيان أرسل إلى جيش مكة يقترح عليه العودة وقد نجت القافلة فقال أبو جهل: والله لا نرجع حتى نرد بدرا فنقيم عليه ثلاثا ننحر الجزر ونطعم الطعام ونسقى الخمر وتعزف علينا القيان وتسمع بنا العرب فلا يزالون يهابوننا بعدها أبدا، وهو ما عبرت الآية عنه بتعبير بَطَراً وَرِئاءَ النَّاسِ فكان ذلك من أسباب الاشتباك الفعلي «١».
وروى المفسرون في صدد الآية [٤٩] روايات عديدة منها أنها عنت جماعة من أهل مكة تكلموا بالإسلام وخرجوا مع المشركين يوم بدر. فلما رأوا قلة المسلمين قالوا غرّ هؤلاء دينهم، ومنها أن بعض رجال من قريش خرجوا مع الجيش على ارتياب فلما رأوا قلة المؤمنين قالوا ذلك. ومنها أن جماعة من أهل مكة كانوا مسلمين حبسهم أهلهم عن الهجرة وأخرجوهم معهم قهرا إلى بدر فلما رأوا قلة المسلمين ارتدوا وقالوا ذلك القول. ولسنا نرى هذه الروايات مستقيمة مع الظروف، لأنه لم يكن يوجد في مكة بعد الهجرة من يصح أن يوصف بالنفاق ومرض القلب اللذين كان يوصف بهما الذين كانوا يتظاهرون بالإسلام من أهل المدينة. والأوجه أن يكون هذا القول صدر عن هؤلاء حينما رأوا عدد المسلمين الذين خرجوا إلى بدر قليلا وهم يعرفون كثرة قريش وقوتهم. وقد احتوت الآية
هذا، ومع خصوصية الآيات الزمنية فإنها احتوت تلقينات عامة جليلة مستمرة المدى بما فيها من علاج نفسي قوي في ذكر الله حين اشتداد الملحمة وما يثيره هذا من قوة وروحانية وثقة وأمل، وبما فيها من حثّ على الثبات والصبر كما في ذلك من ضمان النصر وكسب لرضاء الله وتأييده. وبما فيها من حكمة اجتماعية فيما في التنازع من فشل وإدبار. وفيما في التضامن والاتحاد من قوة وفلاح، وبما فيها من حثّ على طاعة الله ورسوله. وتتمثل طاعة الله في التزام ما في القرآن من مبادئ وأحكام وخطوط، وطاعة رسوله في التزام ما ثبت عنه من سنن قولية وفعلية تمثلا دائما.
ولقد أورد ابن كثير في سياق هذه الآيات حديثا رواه أيضا البخاري ومسلم والترمذي عن عبد الله بن أبي أو فى جاء فيه: «إنّ رسول الله في بعض أيامه التي لقيّ فيها العدوّ انتظر حتى مالت الشمس ثم قام في الناس فقال: أيّها الناس، لا تتمنّوا لقاء العدوّ وسلوا الله العافية. فإذا لقيتموهم فاصبروا واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف. ثم قال: اللهمّ منزل الكتاب ومجري السحاب وهازم الأحزاب اهزمهم وانصرنا عليهم» «١».
ومع تساوق الحديث مع التلقين القرآني فإن فيه نقطة هامة، وهي نهي المسلمين عن الاستعجال بلقاء العدو أو استعجال التحرش به. والمتبادر أن الحكمة في ذلك هي أن لا يكون الاستعجال بدون ضرورة محتمة، أو أن لا يؤدي إلى خطر وضرر وفي هذا تلقين جليل آخر والله أعلم.
[سورة الأنفال (٨) : الآيات ٥٠ الى ٥٤]
وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (٥٠) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (٥١) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ (٥٢) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٥٣) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كانُوا ظالِمِينَ (٥٤).
١- إشارة تنويهية وإنذارية خوطب بها النبي أو السامع إلى ما سوف يكون من أمر الكفار في الآخرة. فحينما يتوفى الملائكة الكفار سيضربون وجوههم وأدبارهم ثم يسوقونهم إلى النار ويقولون لهم ذوقوا عذاب الحريق الذي استحققتموه بما اقترفتم من آثام جزاء وفاقا دون ما ظلم. لأن الله لا يظلم عبيده وإنما يوفي كلا منهم جزاء ما عمل وقدّم.
٢- وتمثيل لحالة الكفار ومصيرهم بحالة أمثالهم الذين سبقوهم ومصيرهم:
فإن شأنهم كشأن قوم فرعون ومن كان قبلهم كفروا بآيات الله فعاقبهم الله على ذنوبهم حيث أهلكهم وكان مما كان أن أغرق آل فرعون. فهؤلاء وأولئك كانوا جميعهم ظالمين، فكانوا موضع تنكيل الله في الدنيا بالإضافة إلى عذابه في الآخرة، وإنه لقوي قاهر وإن عذابه لشديد قاصم.
٣- وتقرير لسنّة ربانية جارية في الأمم بسبيل التعقيب على ما ذكرته الآيات من مصير الكفار. فالله لا يغير نعمة أنعمها على قوم فيبدل أمنهم بخوف وغناهم بفقر وعزتهم بذلّ وسلامتهم بهلاك إلّا إذا غيروا ما بأنفسهم فانحرفوا عن الطريق القويم وضلّوا عن الهدى واقترفوا الآثام والمنكرات وإنه لسميع عليم يسمع كل شيء ويعلم بكل شيء فيعامل الناس بما يستحقونه.
والآيات استمرار على التعقيب على نتائج وقعة بدر ومتصلة بالسياق السابق كما هو المتبادر وقد انطوت على تقرير كون ما حلّ في الكفار هو مثل ما حلّ في قوم فرعون وغيرهم من عذاب الله الدنيوي، وبيان ما سوف يصيرون إليه في الآخرة
تلقين جملة ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ...
هذه الجملة جاءت في الآية [٥٣] المذكورة آنفا، ومع أنها متصلة المدى بالموقف الذي انتهت إليه معركة بدر مما جعلنا نقول إنها انطوت على التعليل البليغ الذي نبهنا عليه آنفا فإن أسلوبها المطلق التقريري يسوغ القول إنها انطوت على تلقين مستمر المدى وحكمة اجتماعية خالدة في تقريرها إناطة فقد الناس لما يكونون مستمتعين به من حالة حسنة ونعمة ربانية بتصرفاتهم المنحرفة الباغية المؤدية إلى ذلك. وهذه الحكمة جاءت مطلقة في آية سورة الرعد [٣٨] لتشمل تغير حالة الناس من سوء إلى حسن ومن حسن إلى سوء وتجعله منوطا بتصرفاتهم. وما قلناه في سياق هذه الآية من دلالتها على كون الله تعالى قد أودع في الناس القابلية لذلك وحملهم مسؤولية ما قد يكونون فيه أو يصيرون إليه من حالات حسنة وسيئة يصح أن يورد هنا بطبيعة الحال.
ولقد روى الطبري والبغوي عن السدي أن المقصودين بالآية قريش وبالنعمة رسالة النبي ﷺ فلما كذبوها نقلها عنهم إلى الأنصار | ولا يخلو التأويل من وجاهة بالنسبة للظرف الذي نزلت فيه الآية غير أن إطلاق العبارة يجعلها عامة مستمرة المدى والتلقين على النحو الذي شرحناه. |
[سورة الأنفال (٨) : الآيات ٥٥ الى ٦٤]
إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٥٥) الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ (٥٦) فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (٥٧) وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ (٥٨) وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ (٥٩)
وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (٦٠) وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦١) وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (٦٢) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٦٣) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٦٤)
. (١) تثقّفنّهم: تلقاهم وتتمكن منهم أو تظفر بهم.
(٢) فشرّد بهم من خلفهم: خوّف وشتّت بالتنكيل بهم من وراءهم من الأعداء.
(٣) فانبذ إليهم على سواء: أصل النبذ الطرح، وقد فسّر جمهور المفسرين هذه الجملة بإعلان المعاهدين الذين يبدو منهم أمارات النقض والغدر والخيانة بأن النبي يريد أن يقف منهم نفس الموقف حتى لا يكون النقض غدرا.
(٤) رباط الخيل: إعداد الخيل وجعلها جاهزة للحرب.
(٥) جنحوا: هنا بمعنى مالوا أو رغبوا.
١- نعي على الكفار الذين يصرون على الكفر ولا يؤمنون مع ما ظهر من الحق والهدى. فهؤلاء هم شرّ الدواب عند الله.
٢- وتفسير بياني للمقصودين، فهم أولئك الذين عاهدهم النبي ثم ينقضون عهدهم في كل مرة دون تورّع ولا خوف من العواقب.
٣- وأمر للنبي بالتنكيل بهم إذا ما لقيهم وتمكن منهم في الحرب بحيث يكون ذلك عبرة وإنذارا لمن خلفهم من الأعداء لعلهم يتذكرون ويتورعون ولا يقدمون على البغي والغدر والخيانة.
٤- وأمر آخر للنبي: فإذا ما شعر من قوم بينه وبينهم عهد بخيانة وغدر فله أن ينقض عهده معهم بعد معالنتهم بزوال العهد بينه وبينهم فالله لا يحبّ الخائنين.
٥- وإنذار للكفار الذين ينجون من التنكيل في موقف أو ظرف ما، فلا يحسبون أنفسهم أنهم نجوا من نكال الله بالمرة، فإنهم ملحوقون ولن يسبقوا الله أو يعجزوه.
٦- وأمر موجه للمسلمين بإعداد كل ما يقدرون عليه من قوة ووسيلة حربية وبالاستعداد للحرب ليبعثوا الخوف في قلوب أعدائهم الذين هم أعداء الله وفي قلوب غيرهم ممن يضمر العداء للمسلمين ويتربص بهم الدوائر، ولا يعرفونهم ولكن الله يعلمهم.
٧- وحثّ للمسلمين على الإنفاق في سبيل الله من أجل هذا الاستعداد. فما ينفقونه من شيء يوفيه الله لهم من دون نقص وبخس.
٨- أمر موجّه إلى النبي ﷺ يحثه فيه على الميل إلى المسالمة مع الأعداء الذين هم موضوع الكلام إذا مالوا إليها والتوكل على الله فهو السميع العليم الذي لا يغيب عن علمه وسمعه أي شيء.
٩- وتطمين له ودعوة للاعتماد على الله فيما إذا كان الأعداء يبيتون الخداع
١٠- وتطمين آخر له وللمؤمنين في الصدد نفسه، فإن الله هو حسبه وحسب الذين اتبعوه وكافيهم ومانعهم فلا ينبغي أن يكونوا في قلق من جراء ما يمكن أن يقفه الأعداء من مواقف ويبيتونه من نيات.
تعليق على الآية إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٥٥) والآيات التالية لها إلى آخر الآية [٦٣] وشرح وقعة بني قينقاع وما في الآيات من مبادئ وتلقينات
١- الآيات تبدو فصلا مستقلا عن السياق السابق إلّا التناسب وبين ذكر مصير الكفار الذي ذكر في الآيات السابقة لها وبين ذكر حالة الكفار فيها. وهي فصل متكامل جميعه في موضوع واحد. ولذلك جمعناها في هذه الطبعة وشرحناها في سياق واحد. وقد تكون نزلت بعد الآيات السابقة لها مباشرة فوضعت بعدها للتناسب الظرفي الموضوعي والله أعلم.
٢- وروايات المفسرين «١» متفقة على أن الآيات عنت اليهود في المدينة، وظروف نزولها التي كانت بعد قليل من وقعة بدر على ما سوف نشرحه بعد وأسلوبها يؤيد ذلك. فلم يكن بين النبي وبين أحد من الذين جحدوا رسالته عهد عدا اليهود في السنتين الأوليين من الهجرة. وروايات السيرة «٢» تذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم
(٢) انظر سيرة ابن هشام ج ٢ ص ١١٩- ١٢٣.
ومنحهم حرية الدين وأوجب عليهم نصرة المؤمنين والاتفاق معهم في الحرب كما أوجب على نفسه والمؤمنين نصرتهم غير مظلومين ولا تناصر عليهم إلّا من أثم وظلم فكان هذا عهد بينه وبينهم على تعدد كتلهم في المدينة وهي بنو قينقاع وبنو النضير وبنو قريظة.
٣- والمفسرون إلى قولهم إنها في صدد اليهود يروون روايات تخصيصية حيث يروون أن الآيتين الأوليين نزلتا في يهود بني قريظة أو عنتهم لنقضهم العهد ومظاهرتهم لقريش في وقعة الخندق. وروى الطبرسي مع إيراده الرواية السابقة أن الآية [٥٨] نزلت في صدد بني قينقاع وأن النبي ﷺ لما نزلت قال: إني أخاف بني قينقاع وسار إليها. والمناسبة بعيدة بين وقعتي بني قريظة وبني قينقاع لأن الأولى كانت في السنة الهجرية الخامسة والثانية في السنة الثانية وبعد قليل من وقعة بدر التي نزلت فيها سورة الأنفال. ووقعة الخندق ذكرت في سورة الأحزاب وليس من الوارد أن تذكر في سورة نزلت قبل وقوعها. وابن سعد يتوافق في طبقاته «١» مع رواية الطبرسي بأن النبي ﷺ سار إلى بني قينقاع بالآية [٥٨] ويروي المفسرون وكتب السيرة القديمة معا أن يهود بني قينقاع كانوا أول يهود نقضوا العهد ووقع الصدام بينهم وبين النبي والمسلمين. وأن آيات سورة آل عمران هذه: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ (١٢) قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (١٣) قد نزلت بسبيل إنذارهم ودعوتهم إلى الاعتبار بما حلّ في قريش الذين كانوا ضعف المسلمين وبنصر الله للمؤمنين. وذلك حينما بدت منهم أمارات الغدر والنقض بعد قليل من وقعة بدر. فجمعهم النبي وأنذرهم فقالوا له: «لا يغرنك أنك لقيت قوما
ومهما يكن من أمر فالملحوظ أن آيات سورة الأنفال عامة الشمول بحيث يتبادر لنا منها أنه لما بدأ يظهر من اليهود بوادر الغدر والخيانة بعد مواقف التعجيز والتشكيك والسخرية واللجاج والدسّ والتآمر التي حكتها سلسلة سورة البقرة اقتضت حكمة التنزيل الإيحاء بهذه الآيات كخطة عامة للنبي ﷺ تجاههم. ومن الجائز أن يكون بنو قينقاع ركبوا رؤوسهم ولم يرعوا فجمعهم النبي وأنذرهم فأجابوه بما حفظته الروايات، ويجوز أنهم استمروا في غيّهم ولم يرعووا فبادر إلى التنكيل بهم وطبق مبادرته على جملة وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ فقال ما حفظته الروايات إني أخاف بني قينقاع، والله أعلم.
٤- أما ما كان من أمر بني قينقاع فخلاصة ما روته كتب السيرة والتفسير أنهم كانوا يسكنون وسط المدينة، وكان لهم سوق خاص وأن امرأة من العرب جاءت بجلب لها فباعته في سوقهم ثم جلست إلى صائغ، فسألها بعضهم كشف وجهها فأبت فعمد الصائغ إلى طرف ثوبها فعقده إلى ظهرها فلما قامت انكشفت سوأتها فضحكوا عليها فصاحت فوثب مسلم حاضر على الصائغ فقتله فشدّ عليه اليهود فقتلوه فاستصرخ أهله فعظم الشرّ. وقد حصرهم النبي والمسلمون في محلتهم خمس عشرة ليلة وضيّق عليهم حتى نزلوا على حكمه. وكانوا حلفاء للخزرج فطلب عبد الله بن أبيّ أحد كبار زعمائهم وكان كبير المنافقين من النبي ﷺ أن
ويتبادر لنا من فحوى الآيات وروحها وقول النبي ﷺ إني أخاف بني قينقاع الذي أجمعت الروايات على ذكره ولو لم يرد حديث صحيح فيه أنه كان لبني قينقاع مواقف غدر ونقض عديدة فجاء حادث الامرأة والصائغ لتملأ الكأس وكان التنكيل مباشرة بعده، والله أعلم.
٥- ولقد تعددت الأقوال التي يرويها المفسرون في المعنيين بجملة وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ منها أنهم المنافقون استئناسا بآية سورة التوبة هذه وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ [١٠١] ومنها أنهم الفرس. ومنها أنهم كل عدو للمسلمين لم يكن ظاهرا أو معروفا بعدائه، ومنها أنهم الجن. وأوردوا في المقول الأخير حديثا أخرجه ابن أبي حاتم جاء فيه: «إنّ النبي ﷺ كان يقول في قول الله وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ هم الجنّ»، والحديث لم يرد في الصحاح ونرى التوقف فيه كما نرى الوقوف عند الآية والقول إنها هدفت إلى تنبيه المسلمين إلى ما يمكن أن يكون لهم من أعداء لا يعرفونهم ويعرفهم الله بسبيل التحذير وإيجاب الاستعداد وإعداد ما استطاعوا من قوة لإرهاب أعدائهم المعروفين وغير المعروفين، وقد يكون من جملة هؤلاء الطوائف اليهودية الأخرى التي كانت لم تظهر عداء صريحا ولكنها تبطنه والتي حكت سلسلة سورة البقرة ما كان لها من مواقف جحود ودسّ
٦- وجمهور المفسرين على أن المعنيين في الآية [٦٣] الذين ألّف الله بينهم هم الأوس والخزرج الذين كانوا غالبية عرب المدينة والذين صار اسمهم في الإسلام (الأنصار). وقد كان بينهم تنافس وحروب وثارات قبل الإسلام وكان بعض كتل اليهود يحالفون الأوس وبعضهم يحالفون الخزرج على ما شرحناه في سياق الآيات [٨٤ و ٨٥] من سورة البقرة. وقد ألّف الله قلوبهم على يد رسوله فدعا من اجتمع إليه منهم في مكة واستجابوا لدعوته ثم بعد أن هاجر النبي إلى المدينة فأصبحوا بنعمة الله إخوانا. وقد جاءت إشارة ثانية إلى هذا في آية سورة آل عمران هذه: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٠٣) وهذه الآية في ظرف حاول اليهود فيها أن يثيروا فتنة بين الأوس والخزرج بتذكيرهم بما كان بينهم من ثارات على ما سوف نشرحه في مناسبتها.
٧- ولقد روى البغوي عن سعيد بن جبير في صدد الآية الأخيرة من الآيات إلى [٦٤] أنها نزلت بعد إسلام عمر حيث كان أسلم قبله ثلاثة وثلاثون رجلا وست نسوة فكمل عددهم بإسلام عمر أربعين. وعلق ابن كثير على ذلك بقوله إن إسلام عمر كان في مكة وهذه الآية مدنية، وهو تعليق في محله. على أن جمهور المفسرين على أن هذه الآية جزء متمم للكلام وهو الحق المتبادر.
ولقد تعددت أقوال المفسرين والمؤولين في مدى الآية، منها أنها بمعنى (إن الله حسبك وحسب من اتبعك) وذلك بسبيل تهوين شأن أعدائهم. ومنها أنها بمعنى (الله هو حسبك، وحسبك كذلك متبعوك) فهذا كاف لك للانتصار على الأعداء، وكلا القولين وجيه.
وجملة هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (٦٢) في الآية السابقة لها قد تؤيد وجاهة التأويل الثاني وإن كان مقام الآية قد يجعل الرجحان للتأويل الأول من
التلقينات المنطوية في الآيات [٥٥- ٦٤]
والآيات كما قلنا احتوت خطة عامة للنبي ﷺ تجاه أعداء الإسلام والمسلمين، وقد انطوى فيها تلقينات جليلة عامة مستمرة المدى كذلك وهذا هو المتبادر من ذلك:
١- إن الذين لا يصدقون بالحق ويقفون منه موقف المكابرة والعناد ولا يتورعون عن نقض عهودهم مرة بعد مرة هم شرّ من الدواب.
٢- إن الحروب التي باشرها النبي والتي يصح أن يباشرها المسلمون بعده هي حروب دفاع وردع وإنذار وتذكير وعبرة للغير. وهدفها حمل الأعداء والبغاة على الارعواء وضمان أمن المسلمين وحرية الدعوة الإسلامية، وليست حروب عدوان وإبادة.
٣- إن الواجب يقضي بالتمسك بالعهود فلا يكون من المسلمين نقض بدءا في أي حال. وليس لهم إلّا المقابلة على العدوان بمثله. وعلى الخيانة بما يستحقه الخائن الغادر.
٤- إذا بدا من معاهد بوادر غدر أو خيانة صراحة أو سرا أو دسّا أو مظاهرة للأعداء فللمسلمين الحق حينئذ بنقض عهدهم معه والوقوف منه نفس موقفه. غير أن عليهم واجب إعلان بأنهم في حلّ من عهده ليكونوا وإياه في مركز متساو.
ويعلم كل منهما موقف الآخر وليس لهم أن يفاجئوه بالنقض والحرب دون إنذار وإعلان. ويمكن استدراك أمر وهو أن هذا يكون في حالة عدم اقتران غدر العدو
٥- إن من واجب المسلمين الاستعداد بالقوة بكل ما يستطيعون من أسباب وأساليب. لأن هذا قد يكون وسيلة لإرهاب العدو وكبح جماحه وتفادي القتال فيحصل بذلك المقصود. وهو قمع عدوان العدو. ومن تحصيل الحاصل أن يقال إن الأمر بالاستعداد والإنفاق عليه شامل لكل أنواع الاستعداد والوسائل التي من شأنها كفالة الغاية. والتمشي في ذلك مع كل ظرف وتطور. وإن التقصير فيه أو إهماله إثم ديني عظيم لأنه مخالف لأمر الله ومعرض للمسلين وبلادهم ودينهم للأخطار والأضرار المادية والمعنوية. وقد احتوى القرآن آيات كثيرة متنوعة الأساليب في هذا الأمر. وفي سورة البقرة آية تنبه بصراحة وقوة على ذلك وهي:
وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٩٥).
٦- في الآية [٥٩] معالجة روحية من شأنها بثّ القوة في نفوس المؤمنين وإثارة التحسّب في نفوس أعدائهم. فلا ينبغي الاعتقاد أن عدو المسلمين إذا نجا من نكال الله في موقف ما أنه يستطيع أن يفلت منه فهو محيط به. وكل ما هنالك أن حكمته اقتضت إمهاله. وهذه المعالجة انطوت في آيات كثيرة وفي سور سبق تفسيرها وفي سور آتية مع وعد رباني صريح بأن نصر المؤمنين حق على الله.
٧- على المسلمين مقابلة الميول السلمية من الأعداء بمثلها حتى في حال احتمال تظاهر العدو بهذه الميول خداعا. وكل ما يجب هو أن يكون المسلمون في حذر وتنبّه. وينسجم هذا مع المبدأ القرآني المقرر مكررا من كون حروب المسلمين هي حروب دفاع ومقابلة بمقدار الضرورة التي تكفل سلامة المسلمين وحرية الدين. والأمر القرآني السابق شرحه بالاستعداد الدائم لمقابلة العدو وإرهابه وللإنفاق على ذلك مع الاعتماد على الله هو الكافي لإحباط ما يحتمل أن يبيته العدو من خداع ولجعله يكفّ عنه. ولقد قال بعض المؤولين إن هذا منسوخ بأمر
٨- ويلحظ أن الأمر القرآني للمسلمين هو لمقابلة جنوح العدو إلى السلم بالمثل، وليس في هذه الآيات ولا في غيرها تسويغ لأن يكون الجنوح للسلم بدءا من المسلمين. بل في سورة محمد آية تنهى عن ذلك وهي: فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ (٣٥) أي لا ينبغي للمسلمين أن يضعفوا أمام عدوهم ويطلبوا منه السلم. فهم الأعلون بإيمانهم وتأييد الله لهم وهو مهم كما جاء في هذه الآيات وآيات عديدة أخرى مثل وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ [المنافقون: ٨] وانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ
[الروم: ٤٧] وغيرها وغيرها. وفي سورة النساء هذه الآيات المهمة الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً (٧٦) ووَ لا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ ما لا يَرْجُونَ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (١٠٤).
٩- وجنوح العدو للسلم معناه أنه شعر بضعفه وعجزه أمام المسلمين فرأى أن ينتهي من موقفه العدائي العدواني وفي هذا تحقيق لغاية الجهاد في سبيل الله على ما جاء في آية سورة البقرة هذه وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (١٩٣) فاقتضت حكمة الله أمر المسلمين بالجنوح للسلم إذا جنح لها عدوهم وعزم على الانتهاء من موقفه العدائي العدواني إزاءهم. وقد شرحنا هذه الآية وبينا ما هو مدى انتهاء العدو من موقفه العدائي في سياق تفسير الآية.
١٠- ومن واجبنا أن ننبه في هذا المقام على مسألة مهمة وهي الاستجابة لطلب دولة اليهود في فلسطين السلم أو جنوحها إليه. فالتلقين القرآني لا ينطبق عليها وإنما ينطبق على العدو الذي له دار ودولة خاصة به منذ الأصل. أما اليهود في فلسطين فهم أعداء معتدون على دار المسلمين والعرب. ومغتصبون لما احتلوه من فلسطين اغتصابا باغيا بمساعدة طواغيت دول الاستعمار أعداء المسلمين والعرب. وقامت دولتهم في فلسطين بعد أن حاربوا المسلمين والعرب فيها أشد حرب وآذوهم أشد أذى وطردوهم من مدنهم وقراهم واستولوا على بيوتهم ومزارعهم وبساتينهم وكرومهم وثرواتهم المنقولة وغير المنقولة. وهتكوا حرماتهم ودنسوا مقدساتهم وهدموا مساجدهم وأزالوا معالم الإسلام والعروبة ولم يكن بينهم وبين العرب والمسلمين سابق عداء قبل تفكيرهم في غزو فلسطين واغتصابها وإنشاء دولة لهم فيها على أنقاض العرب والمسلمين بل كان العرب والمسلمون في ظل السلطان الإسلامي يمنحون من كان في ظل هذا السلطان منهم الحرية والأمان والطمأنينة ومجال النشاط الاقتصادي والاجتماعي، في حين كانوا وظلوا معرضين للاضطهاد والمطاردة والمصادرة في جميع البلاد الأخرى التي كانوا يحلون فيها.
وهم حينما يعلنون رغبتهم في السلم مع العرب يريدون ذلك، مع احتفاظهم بما اغتصبوه من دار العرب والمسلمين ونسيان كل ما فعلوه فيهم. ومعنى الأمر للمسلمين بمقابلة ذلك الجنوح بمثله لا ينطبق عليهم، حتى لو تركوا بعض ما اغتصبوه واكتفوا بالقسم الذي قررته لهم هيئة الأمم، لأنه دار المسلمين والعرب وليس لهذه الهيئة أن تمنحهم جزءا مهما كان صغيرا من هذه الدار. وليس لأحد من المسلمين والعرب حقّ في قبول ذلك وهو خيانة لله ولرسوله وللمسلمين وعليهم واجب إعداد كل قوة يستطيعونها لمقاتلتهم وتضييق الخناق عليهم وحصارهم بدون هوادة ولا كلل إلى أن يقوضوا دولتهم وتعود البلاد كما كانت إلى حظيرة السلطان الإسلامي العربي وكل تهاون في ذلك إثم ديني عظيم.
هذا، ولقد أورد المفسرون أحاديث نبوية عديدة في سياق هذه الآيات
(٢) التاج، ج ٤ ص ٣١٩ و ٣٢٠.
(٣) المصدر نفسه. [.....]
(٤) المصدر نفسه.
(٥) المصدر نفسه.
(٦) المصدر نفسه ص ٣١١ و ٣١٢.
وأما التي هي له ستر فرجل ربطها في سبيل الله، فلم ينس حقّ الله في ظهورها ولا رقابها فهي له ستر، وأما التي هي له أجر فرجل ربطها في سبيل الله لأهل الإسلام» «٢».
ومن تحصيل الحاصل أن يقال إن ما في الأحاديث من تنويه بالرمي والخيل هو مستمد من ظروف الحياة في عصر النبي ﷺ وبيئته. والتلقين شامل في إيجاب الاستعداد الدائم والتدريب بكل الأسباب والوسائل حسب الظروف والتطورات المستمرة والمتجددة.
[سورة الأنفال (٨) : الآيات ٦٥ الى ٦٦]
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (٦٥) الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (٦٦)
. (١) علم أن فيكم ضعفا: هناك من قرأ ضعفا بصورة ضعفاء، وعلى كل فالمعنى غير متباعد.
وفي هذه الآيات:
١- أمر للنبي ﷺ بحثّ المؤمنين على قتال أعدائهم والثبات فيه. فهم إذا
(٢) المصدر نفسه.
٢- واستدراك لما سبق من تقرير كفاية الواحد من المؤمنين لعشرة من الكفار: فقد علم الله أن فيهم ضعفا فخفف عنهم، فهم إذا صبروا وثبتوا فتستطيع المائة منهم أن تغلب مائتين والألف ألفين بإذن الله الذي هو مؤيد للصابرين.
تعليق على الآية يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ... والآية التالية لها
الآيات متصلة بما سبقها سياقا وموضوعا ومعقبة عليها كما هو المتبادر.
والراجح أن المقصود من نعت الكفار بأنهم لا يفقهون هو بيان كون المؤمنين يقاتلون عن إيمان ويقين بنصر الله وحسن العاقبة على كل حال ويعرفون سموّ الغرض الذي يقاتلون في سبيله فيساعدهم كل هذا على الثبات مهما كان الهول وعدد الأعداء في حين أن الكفار ليس عندهم من ذلك شيء وهم محرومون من الروحانية التي تشمل المؤمنين الصابرين.
ولقد روى المفسرون أن الآية الثانية نزلت بعد فترة من نزول الآية الأولى وبسبب اعتبار المسلمين أن الآية الأولى فرضت عليهم لقاء عشرة أضعافهم وعدم جواز فرارهم ووجوب صبرهم إزاء ذلك فاستعظموا وتمنوا من الله التخفيف فنزلت الآية الثانية. وقد روى البخاري هذا عن ابن عباس بهذه الصيغة «لما نزلت الآية الأولى إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ... إلخ شقّ ذلك على المسلمين فجاء التخفيف في الآية الثانية الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ.... فلما خفف الله عنهم نقص من الصبر بقدر ما خفف عنهم» «١». وروح الآية ومضمونها يلهمان صحة الرواية
وعلى كل حال فإن روح الآيتين تدل على أن هدفها الرئيسي هو بثّ روح الصبر والثبات في المسلمين تجاه أعدائهم وإيذانهم بأنهم سيغلبون أعداءهم إذا ما صبروا مهما قلّ عددهم وكثر عدد أعدائهم لأنهم يقاتلون عن إيمان. وفي هذا ما فيه من علاج نفسي مستمر المدى.
ولقد قال بعض المفسرين إن في الآية [٦٦] أي الثانية نسخا للأولى. وقال بعضهم إن التخفيف ليس نسخا، وهذا هو الأوجه ولا سيما إن المبدأ المنطوي في الآية [٦٥] ظلّ ماثلا في الآية [٦٦] وهو أن المؤمنين يستطيعون أن يغلبوا إذا صبروا وثبتوا عددا أكثر من الأعداء ولو كانوا أضعافهم.
ولقد ظهر في معظم وقائع الفتح التي وقعت في عهد الخلفاء الراشدين بل وبعدهم مصداق كلام الله عز وجل قويا باهرا حيث تواترت الروايات إلى حدّ اليقين بأن المسلمين كانوا يلقون أعداءهم وهم أكثر منهم مرتين وثلاثا وأكثر وينتصرون عليهم بقوة ما كان من إيمانهم بأنهم يقاتلون في سبيل الله وبأن الله ناصرهم على أعدائهم وبأن لهم الفوز على كل حال بإحدى الحسنيين. النصر أو الاستشهاد.
والآيات على ضوء هذا الشرح والوقائع تظل مستمد مدد فيض للمسلمين في كل وقت.
[سورة الأنفال (٨) : الآيات ٦٧ الى ٦٩]
ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٦٧) لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٦٨) فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٦٩)
. (١) حتى يثخن: بمعنى حتى يقوى ويشتدّ أمره ويتمكن في الأرض.
١- بيان بأنه لا ينبغي لنبي أن يأسر أعداءه في الحرب ويستبقيهم أحياء إلّا بعد أن يشتدّ أمره ويقوى سلطانه وتتوطد رهبته.
٢- وإشارة موجهة إلى المؤمنين المخاطبين بأنهم في عملهم ما لا ينبغي قد أرادوا عرض الدنيا في حين أن الله إنما يريد لهم الآخرة وهو عزيز حكيم قادر قوي لا يريد إلّا ما فيه الخير والصواب.
٣- وخطاب موجّه إليهم أيضا بأن الله لو لم تقتض حكمته التسامح معهم لأصابهم بما أخذوه من فداء الأسرى عذاب رباني عظيم.
٤- وأمر موجه إليهم كذلك بإجازة الاستمتاع بما أخذوه حلالا طيبا، فالله غفور رحيم يتجاوز عن ذنوبهم ويشملهم برحمته مع التنبيه بوجوب تقوى الله واجتناب ما لا يرضاه.
تعليق على الآية ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ... إلخ والآيتين التاليتين لها
روى المفسرون في صدد هذه الآيات حديثا رواه مسلم والترمذي عن ابن عباس جاء فيه: «إنّ النبي ﷺ قال لأبي بكر وعمر يوم بدر ما ترون في هذه الأسارى. فقال أبو بكر هم بنو العمّ والعشيرة. أرى أن تأخذ منهم فدية فتكون لنا قوة على الكفّار وعسى الله أن يهديهم للإسلام، وقال عمر لا أرى والله ما رأى أبو بكر ولكن أرى أن تمكّننا من ضرب أعناقهم. فهؤلاء أئمة الكفر وصناديدها.
فهوي رسول الله ما قال أبو بكر: فلما كان من الغد جاء عمر فإذا رسول الله وأبو بكر قاعدان يبكيان فقال ما يبكيكما قال الذي عرض عليّ من أخذ الفداء وأنزل الله ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى الآيات» «١».
وفحوى الآيات مع حديث البخاري يفيد أن النبي ﷺ نفذ الرأي القائل بأخذ الفدية قبل نزول الآيات فنزلت الآيات منبهة إلى ما كان الأولى ومجيزة لما تمّ مع الإيذان بغفران الله.
ونرى من الواجب أن نبيّن أن التنفيذ النبويّ هو اجتهاد مأجور وأن التنبيه والعتاب هو على كونه خلافا لما هو الأولى في علم الله المغيب عن رسول الله ولقد تكرر الاجتهاد النبوي وتكرر العتاب القرآني مما مرّ منه أمثلة في سور سبق تفسيرها ومما ورد أمثلة منه في سور آتية. وفي هذا صورة من صور سيرة الرسول ﷺ حيث كان يجتهد فيما ليس فيه وحي فما كان صوريا أقرّه الله عليه سكوتا أو قرآنا وما كان خطأ عاتبه عليه ونبهه إلى ما هو الأولى وغفره له. وفي القرآن صور من ذلك. منها خروجه لقافلة قريش على ما شرحناه في سياق الآيات السابقة من السورة وليس في هذا مطعن في عصمة النبي ﷺ على ما نبهنا عليه في المناسبات السابقة التي فيها عتاب للنبي، فعصمته حق والإيمان بها واجب وهي متحققة فيما يبلغه عن الله وفي التزامه الشديد لأوامر الله ونواهيه وفي عدم وقوعه في إثم ومحظور. وليس في هذا وبين الموقف الذي نحن في صدده وأمثاله تعارض كما هو ظاهر.
والآيات والحديث تنطوي على دلالة جديدة تضاف إلى الدلالات الكثيرة مما مرّ منه أمثلة عديدة على كون القرآن وحيا ربانيا وعلى عصمة النبي ﷺ في تبليغ كل ما يوحى به إليه مهما احتوى من عتاب وتثريب له.
وفي استشارة النبي ﷺ لأصحابه صورة من الصور التي يجتهد فيها فيما ليس فيه وحي. وهي في الوقت نفسه تطبيق للوصف القرآني العام للمسلمين الوارد في آية سورة الشورى [٣٨] بأن المسلمين أمرهم شورى بينهم. ولقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم
ويورد المفسرون حديثا في هذا السياق عن النبي ﷺ فيه تقرير كون الله تعالى قد أحلّ له الغنائم دون غيره من الأنبياء وقد رواه الشيخان والترمذي والنسائي عن أبي هريرة جاء فيه «قال النبي ﷺ وفضّلت على الأنبياء بست، أعطيت جوامع الكلم ونصرت بالرعب، وأحلّت لي الغنائم وجعلت لي الأرض طهورا ومسجدا وأرسلت إلى الخلق كافّة وختم بي النبيّون» «٢».
ولقد تعددت تأويلات المؤولين في مدى جملة لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ من ذلك أنها بمعنى (لولا أن الله قضى في سابق علمه وحكمته أن تكون الغنائم حلالا لهم) أو بمعنى (لولا أن الله قضى أن لا يؤاخذ المجتهدون عن حسن نية فيما اجتهدوه خلافا لما هو الأولى في علم الله).
أو بمعنى (لولا أن الله قضى أن لا يؤاخذ الذين هداهم على أمر حتى يبين لهم ما يتقون فيه) أو بمعنى (لولا أن الله قضى أن لا يؤاخذ الناس على عمل ليس عندهم فيه بيان من الله) أو بمعنى (لولا أن الله قضى أن يغفر لأهل ما بدر من المواجه من أخطاء) وكل هذه التأويلات واردة، مع استبعادنا الأخير. والله تعالى أعلم.
(٢) التاج، ج ١ ص ٢٠٥.
ولقد روى المفسرون «١» في سياق هذا الحديث حديثا عن عمر بن الخطاب جاء فيه «أنه جاء إلى رسول الله غداة المشورة في أمر الأسرى وترجيح النبيّ اقتراح فدائهم فوجده مع أبي بكر قاعدين يبكيان فقال يا رسول الله أخبرني من أي شيء تبكي أنت وصاحبك فإن وجدت بكاء بكيت وإن لم أجد بكاء تباكيت، فقال رسول الله ﷺ أبكي للذي عرض لأصحابي من أخذهم الفداء ولقد عرض عليّ عذابكم أدنى من هذه الشجرة- لشجرة قريبة من رسول الله- فأنزل الله عزّ وجلّ الآيات» والحديث ذو مغزى في صدد الشعور النبوي والوحي القرآني معا.
والآيات لا تمنع الأسر والفداء بالمرة كما هو ملموح في صيغتها. وإنما هي بسبيل تقرير أن ذلك ما كان ينبغي إلا في حالة اشتداد قوة النبي والمسلمين وتوطيد هيبتهم ورهبتهم وسلطانهم. وينطوي في ذلك تقرير كون معاملة الأعداء بالشدة والصرامة مما يوطد هذه الرهبة والهيبة والسلطان ومما هو ضروري لمصلحة
وفي إجازة القرآن ما فعله النبي ﷺ اجتهادا توطيد لمبدأ الرأفة في الحروب الإسلامية. وفيها كذلك قرينة مؤيدة لصحة نقد قول من يقول إنه ليس لمشركي العرب إلا الإسلام أو القتل وكل هذا مما أيدته آيات قرآنية عديدة منها ما مرّ ومنها ما سوف يجيء بعد.
ولقد روى المفسرون وكتّاب السيرة روايات متنوعة في سياق هذه الآيات عما فعله النبي ﷺ بالأسرى يحسن إيرادها هنا لما فيها من سنن وتلقينات وصحتها إجمالا محتملة ولو لم ترد في الصحاح. من ذلك أنه أمر بقتل شخصين منهم كانا شديدي الأذى والنكاية في مكة وهما النضر بن الحرث وعقبة بن أبي معيط «١».
وأنه حينما وصل المدينة فرق الأسرى بين أصحابه ووصاهم بهم خيرا ونهى عن
هذا، ونقول في صدد جملة تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ إن إرادة عرض الدنيا مما نسب إلى الكفار في مواضع كثيرة من القرآن بحيث ينبغي صرفه بالنسبة إلى النبي ﷺ وأصحابه الأبرار إلى مفهوم آخر.
ويتبادر لنا أن الجملة بقصد تقرير كون النداء هو عرض دنيوي في حين أن الله إنما يريد للمسلمين العواقب الحسنة والتنزه التام عن أعراض الدنيا حينما يكون الظرف ظرف جهاد في سبيل الله وتوطيد هيبة المسلمين ورهبتهم في قلوب أعدائهم.
[سورة الأنفال (٨) : الآيات ٧٠ الى ٧١]
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٧٠) وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ فَقَدْ خانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٧١)
. في هاتين الآيتين أمر للنبي بمخاطبة الأسرى وتبشيرهم وإنذارهم: فإذا حسنت نياتهم وطهرت قلوبهم فالله معوضهم خيرا مما أخذ منهم من الفداء وغافر لهم ما أسلفوه وهو الغفور الرحيم. أما إذا أضمروا الخيانة لعهد النبي فليذكروا أنهم خانوا الله من قبل بوقوفهم موقف الكفر والأذى فمكّن الله المسلمين منهم فنكلوا بهم، وهو العليم بكل شيء الحكيم الذي يأمر بما فيه الصواب والحكمة.
(٢) نيل الأوطار ج ٨ ص ١٤٤ والذحل بمعنى الثأر. [.....]
وقد روى المفسرون «١» أن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه كان يقول:
إن هذه الآية نزلت فيّ حين ذكرت لرسول الله ﷺ إسلامي وقد أعطاني الله خيرا مما أخذ مني مائة ضعف وأبدلني بالعشرين أوقية من الذهب عشرين عبدا كلهم تاجر، مالي في يديه. وفي رواية أخرى أربعين عبدا بدل العشرين. وإنه كان يقول ما أحب أن هذه الآية لم تنزل فينا وإن لي الدنيا، فقد قال الله نؤتكم خيرا مما أخذ منكم. وقد أعطاني مائة ضعف ما أخذ مني. وقال يغفر لكم وأرجو أن يكون قد غفر لي. ورووا مع هذه الرواية رواية أخرى عن ابن عباس جاء فيها أن الأسرى بما فيهم العباس قالوا للنبي ﷺ آمنّا بما جئت ونشهد أنك رسول الله ولننصحن بذلك قومنا. والروايات لم ترد في الصحاح ويلحظ إلى هذا أن فحوى الآيتين يفيد أن المخاطبين أكثر من واحد أو بالأحرى جميع الأسرى. وأن الآية الثانية منهما احتوت تحذيرا من الخيانة وإنذارا قويا، وهذا لم يكن متوقعا من العباس بحيث يسوغ التوقف في الروايات وبكون الآيات نزلت في العباس. ونستبعد كذلك ما ذكرته الرواية الثانية من أن الأسرى أسلموا لأن روايات السيرة والمفسرين والمؤرخين متفقة على أن معظم الأسرى قد افتداهم أهلهم واستردوهم ولا بد أن يكون ذلك لو أنهم أسلموا حتى زوج بنت رسول الله فإنه لم يسلم ومنّ رسول الله عليه بتحبيذ من أصحابه حينما بعثت زوجته بعقدها لتفتديه على ما ذكرناه قبل قليل.
وعلى كل حال ففي الآيتين إيعاز رباني بما ينبغي أن يتصرف به النبي ﷺ تجاه الأسرى بعد أن أخذ الفداء من بعضهم ومنّ على بعضهم. ومن الجائز أن يكون النبي بهذا الإيعاز أخذ منهم عهدا بالمسالمة والكفّ، ولعلّه أخذ من بعضهم
[سورة الأنفال (٨) : الآيات ٧٢ الى ٧٥]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٧٢) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ (٧٣) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٧٤) وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٧٥)
. (١) الذين آووا ونصروا: كناية عن أنصار رسول الله ﷺ من أهل المدينة لأنهم آووا إليهم النبي والمهاجرين ونصروهم.
هذه الآيات تحتوي بيان صلات كل من المؤمنين والكافرين ببعضهم وموقف كل منهم تجاه بعضهم وتجاه الفريق الآخر:
١- فالذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله، وهم المهاجرون من مكة إلى المدينة من حيث ظروف التنزيل، والذين آووهم ونصروهم، هم المسلمون من أهل المدينة، بعضهم أولياء بعض. والأخوّة موطدة بينهم، يتناصرون في كل موقف ويتولى بعضهم بعضا.
٢- أما الذين آمنوا ولم يهاجروا إلى المدينة ليلتحقوا بالنبي والمؤمنين فيها
٣- وأما الكفار فإن بعضهم أولياء بعض. ولا يصح في أي حال أن يكون بينهم وبين المؤمنين المهاجرين والأنصار أي تضامن أو ولاء. ومخالفة هذا الحد مؤدية إلى الفتنة والفساد العظيم وهذا ما يجب على المؤمنين المخلصين أن يحذروه ويتوقوه.
٤- والمؤمنون المخلصون حقا هم الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين آووهم ونصروهم، فهؤلاء جميعهم لهم المغفرة من الله والرزق الكريم عنده.
٥- والذين يؤمنون بعد هذا ويلتحقون بالمهاجرين والأنصار ويجاهدون معهم فيصبحون منهم لهم ما لهم وعليهم ما عليهم.
٦- والذين تجمع بينهم رحم وقرابة من المؤمنين المهاجرين والأنصار هم أولى ببعضهم. وهذا هو حكم الله وكتابه وهو العليم بمقتضيات كل أمر وشأن.
تعليق على الآية إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إلخ والآيات التالية لها إلى آخر السورة
يبدو لأول وهلة أنه لا صلة بين هذه الآيات والسياق السابق. غير أن إنعام النظر يؤدي إلى لمس شيء من الاتصال فيما يتبادر لنا حيث إن وقعة بدر وطّدت أولا الأخوة بين المهاجرين والأنصار أشد من قبل لأنهما اشتركا في حرب وغدوا يتحملان تبعاتها الاجتماعية التي كانت شديدة في بيئة النبي وعصره. ووطّدت ثانيا
ولم يرو المفسرون رواية في نزول الآيات وإنما رووا عن ابن عباس وبعض التابعين أن التولي في الآيتين الأولى والثانية بمعنى التوارث. وأن الآية الأولى منهما في صدد تشريع التوارث بين المهاجرين والأنصار الذين آخى النبي ﷺ بينهم. وأن الآية الثانية في صدد منع التوارث بين المؤمنين والكفار. وإلى هذا روى المفسرون أيضا أن التولي في الآيتين بمعنى التضامن والتناصر «١». وروح الآيتين ومضمونهما في جانب القول الثاني فيما يتبادر لنا. ويقوي هذا ما جاء في الآية الأولى من بيان الموقف الذي يجب أن يقفه المهاجرون والأنصار من المؤمنين غير المهاجرين. وتعبير اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ وتعبير فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ يكادان يفسران مفهوم تعبير أَوْلِياءُ وتعبير وَلايَتِهِمْ اللذين جاءا قبل. ويقويه أيضا التنبيه الذي جاء في الآية الثانية على أن مخالفة ما جاء فيها بتبادل التولي بين الكفار والمؤمنين يؤديان إلى الفتنة والفساد الكبير. فهذا التعبير القوي أجدر أن يكون بسبيل التناصر والتولي بين ذوي العصبية والأرحام من المؤمنين والكفار أكثر منه بسبب التوارث.
وما جاء في الآية الأولى من بيان الموقف الواجب تجاه المؤمنين غير المهاجرين يدل على أنه كان في مكة أو في البادية مؤمنون ظلوا حيث هم ولم يهاجروا. وقد تكررت الإشارات في سور أخرى إلى هؤلاء أيضا. ومن هذه
[٢٥] ومنهم من كان مستسلما مقصرا عن الهجرة بدون عذر كما جاء في آية سورة النساء هذه: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً (٩٧).
وأسلوب الكلام في حقّ الأخيرين في آية الأنفال [٧٢] والتي نحن في صددها، ينطوي على شيء من التأنيب. كما أن أسلوب آية النساء [٩٧] جاء شديدا قاسيا في حقهم. وهذه حكمة التنزيل التي لم توجب على المهاجرين والأنصار نصرا لهؤلاء إلّا في حدود ضيقة. فحريتهم الدينية هي مما يجب نصرهم فيها لأن الأمر متعلق بكلمة الله ودينه وهذا مما ينطوي في تعبير وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ ومع ذلك جعل هذا الواجب في حدود ضيقة أيضا حيث جعله في حالة ما إذا كان الاستنصار على جماعة ليس بينهم وبين المسلمين ميثاق صلح وسلام. أما حقوقهم ومصالحهم الدنيوية وما ينشأ عن التضامن القبلي أو العائلي من تبعات وواجبات فلا شأن لهم به.
ولقد روى الشيخان وأحمد وأصحاب السنن حديثا نبويا جاء فيه: «لا هجرة بعد الفتح وإنما نيّة وجهاد. وإذا استنفرتم فانفروا» «١». حيث يسوغ القول إن هذا
«إن النبي ﷺ قال يوم الفتح لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية وإذا استنفرتم فانفروا... »
التاج، ج ٤ ص ٣٠٤.
ولقد أورد ابن كثير في سياق هذه الآيات حديثا رواه الإمام أحمد عن يزيد بن الخطيب الأسلمي جاء فيه فيما جاء في صدد الجهاد والدعوة من وصية النبي التي كان يوصي بها قواد سراياه ودعاته: «فإن أجابوك إلى الإسلام فاقبل منهم وكفّ عنهم ثم ادعهم إلى التحوّل من دارهم إلى دار المهاجرين وأعلمهم إن فعلوا ذلك أنّ لهم ما للمهاجرين وعليهم ما عليهم فإن أبوا واختاروا دارهم فاعلمهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين يجري عليهم حكم الله الذي يجري عليهم ولا يكون لهم في الفيء والغنيمة نصيب إلّا أن يجاهدوا مع المسلمين». والحديث من مرويات مسلم والترمذي وأبي داود والنسائي أيضا بفروق يسيرة «١». والراجح أنه صدر عن النبي ﷺ قبل فتح مكة فيكون بينه وبين الحديث السابق وبين الآيتين تساوق كما هو واضح.
ومع ذلك فإن في الآية الأولى تلقينا مستمر المدى بوجوب عدم بقاء المسلم في دار الظلم والبغي راضخا لحكم الظالمين البغاة وبوجوب هجرته إذا استطاع إلى حيث يكون له إخوان يقاسمهم السرّاء والضرّاء ويتضامن معهم على هدم البغي والظلم وإرغام البغاة والظالمين.
وفي الآية تلقين جليل آخر. وهو وجوب احترام المسلمين لعهودهم حتى ولو كانت حائلة أحيانا دون نصر مسلمين آخرين في بقعة أخرى. ولقد تكرر حثّ القرآن على الوفاء بالعهد بحيث يكون هذا مبدأ محكما من مبادئ القرآن. وننبّه
وأسلوب الآية الثانية قويّ شديد. وهذا ما اقتضته على ما هو المتبادر ظروف نزولها حيث كانت الوشائج بين مسلمي قريش وكفارهم قويّة، بينما غدا العداء مستحكما شديدا بين المسلمين عامة وبين هؤلاء الكفار، بحيث كان أقل تهاون أو تسامح أو تفكك يسبب فسادا عظيما ويهدد مصلحة المسلمين بأشد الأخطار. وقد تكرر التشديد في هذا الأمر في آيات عديدة أخرى لأن الحالة ظلت تقتضي ذلك مثل آية سورة المجادلة هذه: لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ [٢٢] ومثل آية سورة التوبة هذه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [٢٣].
وفي الآيات الثلاث الأولى توطيد للوحدة الإسلامية التي جمعت بين المسلمين على اختلاف قبائلهم، وإقامتها مقام عصبية القبيلة والأسرة الضيقة التي كانت هي ضابط الحياة الاجتماعية العربية قبل الإسلام والتي كانت تؤدي إلى العداء والحروب بين القبائل لأتفه الأسباب. كما أن فيها تلقينا جليلا مستمر المدى بإيجاب كبح جماع النفس والهوى الخاص: الشخصي والأسروي والقبلي في مواقف النضال وجعل المصلحة العامة هي السائدة العليا وتضحية كل اعتبار في سبيلها.
وحيث ورد في سورة الممتحنة آيات تحثّ المسلمين على البرّ والإقساط لغيرهم الذين يوادونهم ويسالمونهم وتحصر النهي في الذين يقاتلون المسلمين ويظاهرون عليهم أعداءهم كما ترى فيها: لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٨) إِنَّما يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٩).
والتنويه الذي احتوته الآية الثالثة قوي وعظيم. فالذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله دون تردد وتقصير والذين آووا المهاجرين ونصروهم وتضامنوا معهم وكبحوا جماع النفس ولم يدعوا لأي ميل وصلة سبيلا على أداء ما يجب عليهم من التضامن والتناصر والتواثق هم أولياء بعض حقا وهم المؤمنون حقا وهم أهل لتكريم الله ورضائه حقا. وفي هذا ما فيه من تلقين جليل نفساني واجتماعي وإيماني مستمر المدى وقد تكرر ثناء القرآن وتنويهه بهم مما مرّ منه أمثلة في سورة البقرة ومما ورد أمثلة أخرى في سور أخرى يأتي تفسيرها بعد.
والفقرة الأولى من الآية الرابعة فتحت الباب لاندماج من يؤمن ويهاجر ويجاهد بعد هجرة النبي ﷺ وأصحابه في صف المؤمنين المهاجرين المجاهدين السابقين. وهؤلاء وأمثالهم ممن عنتهم جملة وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ في آية سورة التوبة هذه:
وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ | [١٠٠] وفي هذا تلقين جليل يتصل بتوطيد الأخوة بين المسلمين حينما يجتمعون في ساحة واحدة من الإيمان والهجرة |