تفسير سورة العلق

تيسير التفسير

تفسير سورة سورة العلق من كتاب تيسير التفسير
لمؤلفه إبراهيم القطان . المتوفي سنة 1404 هـ
سورة العلق مكية وآياتها تسع عشرة، وتسمى ( اقرأ )، آياتها تسع عشرة آية، وهي أول ما نزل من القرآن. ففي الحديث الصحيح عن عائشة رضي الله عنها قالت : أول ما بُدئ به رسول الله من الوحي الرؤيا الصالحة، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح. ثم حُبّب إليه الخلاء، فكان يخلو بغار حراء فيتحنّث الليالي ذوات العدد ويتزود لذلك. ثم يرجع إلى خديجة رضي الله عنها فيتزود لمثلها. حتى جاء الحق وهو في غار حراء. فجاءه الملك فقال : اقرأ، قال : ما أنا بقارئ. قال : فأخذني فغطّني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني، فعل ذلك ثلاث مرات. فقال ﴿ اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، اقرأ وربك الأكرم، الذي علّم بالقلم علّم الإنسان ما لم يعلم ﴾. فرجع بها رسول الله يرجف فؤاده. رواه البخاري ومسلم وغيرهما.
فكانت هذه الآيات الخمس أول ما نزل من القرآن. أما بقية السورة فقد تأخر نزولها، يدل على ذلك ما فيها من ذكر أحوال المكذبين والذين يصدّون الناس عن الصلاة. وذلك بعد شيوع خبر البعثة، وظهور أمر النبوة، وتحرّش قريش بالنبي لإيذائه عليه الصلاة والسلام.
في هذه السورة الكريمة دعوة إلى العلم والتعلم. وقد ظلت هذه الدعوة أساسا قويما بُني عليه الإسلام، فأعطت ثمارها في مدة وجيزة حيّرت الباحثين والمؤرخين. إذ قام العرب والمسلمون بنشر هذا الدين متسلّحين بالعلم فقضوا على الجهل والظلم والشرك، وأخرجوا الناس من الظلمات إلى النور.
وفي السورة الكريمة تنبيه إلى أن الثراء والقوة قد يدفعان النفوس إلى الطغيان ومجاوزة حدود الله، وأن المصير إلى الله، حيث توجِّه الخطاب لكل من يصلح للخطاب، منذرة الصّادين عن الخير، مهددة إياهم بأخذهم بالنواصي والأقدام إلى النار.

الخطابُ موجَّه إلى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وفيه دعوة إلى القراءة والكتابة والعلم.. وهذا هو شِعارُ الإسلام. اقرأ يا محمد ما يوحَى إليك مستعيناً باسمِ ربك الذي خلَق هذا الكونَ العجيب وما فيه.
العلق : الدم الجامد.
خلق الإنسانَ الكامل الجسم والعلمِ على أحسنِ مثالٍ، ومن عَلَقَةٍ ليست أكثر من دمٍ جامد، ثم كرّمه بأن رفع قدر هذا العلق فجعل منه الإنسانَ الذي يعلَم فيتعلم.
ثم كرر الأمر بالقراءة لخُطورتها وأنها لا تُعلم إلا بالتكرار فقال :﴿ اقرأ وَرَبُّكَ الأكرم الذي عَلَّمَ بالقلم عَلَّمَ الإنسان مَا لَمْ يَعْلَمْ ﴾وربُّك أكرمُ لكلِّ من يَرتجي منه العونَ والعطاء.
فهو الذي علَّم الخط والكتابة بالقلم.
وعلَّم البشَرَ ما لم يكونوا يعرفونه من العِلم والمعرفة، وبذلك نَقَلَهم من ظلمة الجهل إلى نور العلم والإيمان.
إن هذه الآياتِ الباهرةَ التي ابتدأ الله تعالى بها كتابَه العظيم لهي أكبرُ دليل على احتفال الإسلام بالعِلم بجميع أنواعه. وقد أخذ بها سلفُنا الصالح، وأمتُنا المهتدون، ونشروا العلم في أرجاء العالم. ونحنُ الآن مدعوون للأخذ بالعلم الصحيح، وتمزيقِ تلك الحجُب التي حجبت عن أبصارنا نورَ العلم، والسيرِ على هدى كتاب الله وسنة رسوله، والجِدِّ في تحصيل العلم حتى نلحقَ بالركب ونشارك في بناء هذه الحضارة مشاركة فعالة. فلا نبقى، كما نحنُ الآن، تابعين خاملين.
بعد أن بيّن لنا الله تعالى طريقَ الهدى والخير أخبر عن سبب بطَرِ الإنسان وطغيانه فقال :
﴿ كَلاَّ إِنَّ الإنسان ليطغى أَن رَّآهُ استغنى إِنَّ إلى رَبِّكَ الرجعى ﴾.
حقاً إن الإنسان لَيتجاوز الحد في الطغيان، ويستكبر ويتجبرُ.
عندما يرى نفسه غنياً ذا ثروة طائلة ومالٍ كثير.
وليست الثروة مذمومةً في كل حال، فإنْ كان الإنسان مؤمناً تقيا وآتاه الله مالاً كثيرا وقام بحقّه، فإن ذلك خيْرٌ وأبقى، يعمُّ نفعُه ويرضى الله عنه ورسوله.
ثم حذّر من الطغيان.
الرُّجعى : الرجوع، المرجع، المصير.
وتوعّد أولئك الأشرارَ أصحابَ الأموال الذين يتكبرون ويتجبرون، فقال :﴿ إِنَّ إلى رَبِّكَ الرجعى ﴾، إن المرجعَ والمصير إلى الله وحده، فهو مالكُ الأمور، والمتصرف في هذا الكون.
أرأيتَ : أخبِرني.
وبعد ذلك ضَرب الله لنا مثلا من أمثلة الطغيان، وذكَره على طريقة الاستغراب والتعجيب.
ثم أعقبَ ذِكره بالوعيد والتهديد فقال :﴿ أَرَأَيْتَ الذي ينهى ﴾
أأبصرتَ يا محمد هذا الطاغي الذي ينهى الناس عن الصلاة، ويحُول دون عبادة الله !
أخبِرْني عن حاله إن كان ذلك الطاغي على الهُدى.
أو أمر بالتقوى، فكان نهيُه عن الصلاة ! أفما كان ذلك خيراً له وأفضل ؟ ؟
أخبرني عن حال هذا الطاغي إن كذّب بما جاء به الرسول، وأعرضَ عن الإيمان.
أفلا يخشَى أن تحلَّ به قارعة، ويصيبه عذابٌ شديد ! ؟ أَجَهِلَ أن الله يطّلع على أحواله فيجازيه بها ؟
وفي هذا تهديدٌ كبير للعصاة والجاحدين المتكبرين.
﴿ لَنسفعاً بالناصية ﴾ : لنأخذنّ بشعر جبهته، والناصية مقدّم الرأس، وشعرُ مقدم الرأس.
لِيرتدعْ هذا الطاغي المتجبر عن غَيِّه وضلاله، فإني أُقسِم لئن لم يكفّ عن هذا الطغيان وعن نهي المصلين عن صلاتهم، لنأخذنَّه بناصيته ونجَّره إلى النار.
النادي : المكان الذي يجتمع فيه القوم.
فلْيجمعَ أمثالَه من أهلِ ناديه ليمنعَ المصلّين ويؤذيهم.
الزبانية : أصل الكلمة الشُّرط، وسُمي بها بعضُ الملائكة لدفعِهم أهلَ النار إليها، مفردها زبنىّ. والزّبْنُ : الدفع والضرب.
سندعو جنودنا زبانيةَ جهنم لينصُروا محمداً ومن معه من المؤمنين.
لِيرتدعْ هذا الفاجر، فلا تطعْه يا محمد، فيما ينهاك عنه، بل داومْ على صلاتك وواظبْ على سجودك، وتقرّب بذلك إلى ربك.
وهنا عند قوله تعالى ﴿ واسجد واقترب ﴾ موضعُ سجدةٍ عند غيرِ الإمام مالك.
سورة العلق
معلومات السورة
الكتب
الفتاوى
الأقوال
التفسيرات

سورة (العَلَق) من السُّوَر المكية، وهي أولُ سورةٍ نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم، وقد بدأت بأمرِ النبي صلى الله عليه وسلم بالقراءة؛ ليُعلِّمَه اللهُ عز وجل هذا الكتابَ، وقد جاءت على ذِكْرِ عظمة الله، وتذكيرِ الإنسان بخَلْقِ الله له من عدمٍ، وخُتمت بتأييد الله للنبي صلى الله عليه وسلم، ونصرِه له، وكفايتِه أعداءَه.

ترتيبها المصحفي
96
نوعها
مكية
ألفاظها
72
ترتيب نزولها
1
العد المدني الأول
20
العد المدني الأخير
20
العد البصري
19
العد الكوفي
19
العد الشامي
18

* قوله تعالى: {كَلَّآ إِنَّ اْلْإِنسَٰنَ لَيَطْغَىٰٓ ٦ أَن رَّءَاهُ اْسْتَغْنَىٰٓ ٧ إِنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ اْلرُّجْعَىٰٓ ٨ أَرَءَيْتَ اْلَّذِي يَنْهَىٰ ٩ عَبْدًا إِذَا صَلَّىٰٓ ١٠ أَرَءَيْتَ إِن كَانَ عَلَى اْلْهُدَىٰٓ ١١ أَوْ أَمَرَ بِاْلتَّقْوَىٰٓ ١٢ أَرَءَيْتَ إِن كَذَّبَ وَتَوَلَّىٰٓ ١٣ أَلَمْ يَعْلَم بِأَنَّ اْللَّهَ يَرَىٰ ١٤ كَلَّا لَئِن لَّمْ يَنتَهِ لَنَسْفَعَۢا بِاْلنَّاصِيَةِ ١٥ نَاصِيَةٖ كَٰذِبَةٍ خَاطِئَةٖ ١٦ فَلْيَدْعُ نَادِيَهُۥ ١٧ سَنَدْعُ اْلزَّبَانِيَةَ ١٨ كَلَّا لَا تُطِعْهُ} [العلق: 13-19]:

عن أبي هُرَيرةَ رضي الله عنه، قال: «قال أبو جهلٍ: هل يُعفِّرُ مُحمَّدٌ وجهَه بَيْنَ أظهُرِكم؟ قال: فقيل: نَعم، فقال: واللَّاتِ والعُزَّى، لَئِنْ رأَيْتُه يَفعَلُ ذلك، لَأَطأنَّ على رقَبتِه، أو لَأُعفِّرَنَّ وجهَه في التُّرابِ، قال: فأتى رسولَ اللهِ ﷺ وهو يُصلِّي، زعَمَ لِيطأَ على رقَبتِه، قال: فما فَجِئَهم منه إلا وهو يَنكِصُ على عَقِبَيهِ، ويَتَّقي بيدَيهِ، قال: فقيل له: ما لكَ؟ فقال: إنَّ بَيْني وبَيْنَه لَخَنْدقًا مِن نارٍ، وهَوْلًا، وأجنحةً، فقال رسولُ اللهِ ﷺ: «لو دنَا منِّي، لَاختطَفَتْهُ الملائكةُ عضوًا عضوًا»، قال: فأنزَلَ اللهُ عز وجل - لا ندري في حديثِ أبي هُرَيرةَ، أو شيءٌ بلَغَه -: {كَلَّآ إِنَّ اْلْإِنسَٰنَ لَيَطْغَىٰٓ ٦ أَن رَّءَاهُ اْسْتَغْنَىٰٓ ٧ إِنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ اْلرُّجْعَىٰٓ ٨}؛ يَعني: أبا جهلٍ، {أَرَءَيْتَ اْلَّذِي يَنْهَىٰ ٩ عَبْدًا إِذَا صَلَّىٰٓ ١٠ أَرَءَيْتَ إِن كَانَ عَلَى اْلْهُدَىٰٓ ١١ أَوْ أَمَرَ بِاْلتَّقْوَىٰٓ ١٢ أَرَءَيْتَ إِن كَذَّبَ وَتَوَلَّىٰٓ ١٣ أَلَمْ يَعْلَم بِأَنَّ اْللَّهَ يَرَىٰ ١٤ كَلَّا لَئِن لَّمْ يَنتَهِ لَنَسْفَعَۢا بِاْلنَّاصِيَةِ ١٥ نَاصِيَةٖ كَٰذِبَةٍ خَاطِئَةٖ ١٦ فَلْيَدْعُ نَادِيَهُۥ ١٧ سَنَدْعُ اْلزَّبَانِيَةَ ١٨ كَلَّا لَا تُطِعْهُ} [العلق: 13-19]». زاد عُبَيدُ اللهِ في حديثِه قال: «وأمَرَه بما أمَرَه به». وزادَ ابنُ عبدِ الأعلى: «{فَلْيَدْعُ نَادِيَهُۥ}؛ يَعني: قومَهُ». أخرجه مسلم (٢٧٩٧).

* سورة (العَلَق):

سُمِّيت سورة (العَلَق) بهذا الاسم؛ لوقوع لفظ (العَلَق) في أولها؛ قال تعالى: {اْقْرَأْ بِاْسْمِ رَبِّكَ اْلَّذِي خَلَقَ ١ خَلَقَ اْلْإِنسَٰنَ مِنْ عَلَقٍ} [العلق: 1-2].

* وكذلك تُسمَّى بسورة {اْقْرَأْ}، و{اْقْرَأْ بِاْسْمِ رَبِّكَ}؛ للسبب نفسه.

1. الخَلْقُ والتعليم مُوجِب للشكر (١-٥).

2. انحرافُ صِنْفٍ من البشر عن الشكر (٦-٨).

3. صورة من صُوَر طغيان البشر (٩-١٩).

ينظر: "التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (9 /253).

يقول ابنُ عاشور عن مقاصدها: «تلقينُ مُحمَّدٍ صلى الله عليه وسلم الكلامَ القرآني وتلاوتَه؛ إذ كان لا يَعرِف التلاوةَ من قبل.
والإيماء إلى أنَّ عِلْمَه بذلك مُيسَّر؛ لأن اللهَ الذي ألهم البشرَ العلمَ بالكتابة قادرٌ على تعليم من يشاءُ ابتداءً.
وإيماء إلى أن أمَّتَه ستَصِير إلى معرفة القراءة والكتابة والعلم.
وتوجيهه إلى النظر في خلقِ الله الموجودات، وخاصةً خَلْقَه الإنسانَ خَلْقًا عجيبًا مستخرَجًا من علَقةٍ، فذلك مبدأ النظر.
وتهديد مَن كذَّب النبيَّ صلى الله عليه وسلم وتعرَّضَ ليصُدَّه عن الصلاة والدعوة إلى الهدى والتقوى.
وإعلام النبي صلى الله عليه وسلم أن اللهَ عالمٌ بأمرِ مَن يناوُونه، وأنه قامِعُهم، وناصرُ رسولِه.
وتثبيت الرسول على ما جاءه من الحقِّ، والصلاة، والتقرب إلى الله.
وألا يعبأ بقوةِ أعدائه؛ لأن قوَّةَ الله تقهرهم». "التحرير والتنوير" لابن عاشور (30 /434).