ﰡ
(مكية [إلا الآيات ٢٦ و ٣٢ و ٣٣ و ٥٧، ومن آية ٧٣ إلى غاية آية ٨٠ فمدنية] وآياتها ١١١ [نزلت بعد القصص] ) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الإسراء (١٧) : آية ١]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (١)سُبْحانَ علم للتسبيح كعثمان للرجل، وانتصابه بفعل مضمر متروك إظهاره، تقديره:
أسبح الله سبحان، ثم نزل سبحان منزلة الفعل فسد مسدّه، ودل على التنزيه البليغ من جميع القبائح التي يضيفها إليه أعداء الله «١». وأَسْرى وسرى لغتان. ولَيْلًا نصب على الظرف.
فإن قلت: الإسراء لا يكون إلا بالليل، فما معنى ذكر الليل؟ «٢» قلت: أراد بقوله لَيْلًا بلفظ التنكير: تقليل مدّة الإسراء، وأنه أسرى به في بعض الليل من مكة إلى الشأم مسيرة أربعين ليلة، وذلك أنّ التنكير فيه قد دلّ على معنى البعضية. ويشهد لذلك قراءة عبد الله
(٢). قال محمود: «فان قلت: الاسراء لا يكون إلا بالليل، فما معنى ذكر الليل... الخ» ؟ قال أحمد وقد قرن الاسراء بالليل في موضع لا يليق الجواب عنه بهذا، كقوله فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وكقوله تعالى فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلًا فالظاهر- والله أعلم- أن الغرض من ذكر الليل وإن كان الاسراء يفيده تصوير السير بصورته في ذهن السامع، وكأن الاسراء لما دل على أمرين، أحدهما: السير، والآخر: كونه ليلا. أريد إفراد أحدهما بالذكر تثبيتا في نفس المخاطب، وتنبيها على أنه مقصود بالذكر. ونظيره في إفراد أحد ما دل عليه اللفظ المتقدم مضموماً لغيره قوله تعالى وَقالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ، إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ فالاسم الحامل للتثنية دال عليها وعلى الجنسية، وكذلك المفرد، فأريد التنبيه لأن أحد المعنيين وهو التثنية مراد مقصود، وكذلك أريد الإيقاظ، لأن الوحدانية هي المقصودة في قوله إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ ولو اقتصر على قوله إِنَّما هُوَ إِلهٌ لأوهم أن المهم إثبات الالهية له، والغرض من الكلام ليس إلا الإثبات للوحدانية، والله أعلم.
وروى عن النبي ﷺ «بينا أنا في المسجد الحرام في الحجر عند البيت بين النائم واليقظان إذ أتانى جبريل عليه السلام بالبراق «١» » وقيل: أسرى به من دار أم هانئ بنت أبى طالب والمراد بالمسجد الحرام: الحرم، لإحاطته بالمسجد والتباسه به. وعن ابن عباس: الحرم كله مسجد. وروى أنه كان نائماً في بيت أم هانئ بعد صلاة العشاء فأسرى به «٢» ورجع من ليلته، وقص القصة على أم هانئ، وقال: مثل لي النبيون فصليت بهم وقام ليخرج إلى المسجد فتشبثت أم هانئ بثوبه فقال: مالك؟ قالت: أخشى أن يكذبك قومك إن أخبرتهم، قال: وإن كذبوني، فخرج فجلس إليه أبو جهل فأخبره رسول الله ﷺ بحديث الإسراء، فقال أبو جهل:
يا معشر بنى كعب بن لؤي، هلم فحدّثهم، فمن بين مصفق وواضع يده على رأسه تعجباً وإنكاراً.
وارتد ناس ممن كان قد آمن به، وسعى رجال إلى أبى بكر رضى الله عنه فقال: إن كان قال ذلك لقد صدق. قالوا: أتصدقه على ذلك؟ قال: إنى لأصدقه على أبعد من ذلك، فسمى الصدّيق.
وفيهم من سافر إلى ما ثمّ، فاستنعتوه المسجد فجلى له بيت المقدس، فطفق ينظر إليه وينعته لهم، فقالوا: أمّا النعت فقد أصاب، فقالوا: أخبرنا عن عيرنا، فأخبرهم بعدد جمالها وأحوالها، وقال:
تقدم يوم كذا مع طلوع الشمس، يقدمها جمل أورق، فخرجوا يشتدون ذلك اليوم نحو الثنية، فقال قائل منهم: هذه والله الشمس قد شرقت، فقال آخر: وهذه والله العير قد أقبلت يقدمها جمل أورق كما قال محمد، ثم لم يؤمنوا وقالوا: ما هذا إلا سحر مبين، وقد عرج به إلى السماء في تلك الليلة، وكان العروج به من بيت المقدس وأخبر قريشاً أيضاً بما رأى في السماء من العجائب وأنه لقى الأنبياء وبلغ البيت المعمور وسدرة المنتهى واختلفوا في وقت الإسراء فقيل كان قبل الهجرة بسنة. وعن أنس والحسن أنه كان قبل البعث واختلف في أنه كان في اليقظة أم في المنام فعن عائشة رضى الله عنها أنها قالت «والله ما فقد جسد رسول الله ﷺ ولكن عرج بروحه» «٣» وعن معاوية: إنما عرج بروحه. وعن الحسن، كان في المنام رؤيا رآها. وأكثر
(٢). ذكره الثعلبي عن ابن عباس بغير سند. وكأنه من رواية الكلبي عن أبى صالح عنه، ثم رأيته من رواية جويبر عن الضحاك عن ابن عباس. أخرجه الحاكم والبيهقي عنه. لكن لم يسبق لفظه، وقد رواه النسائي باختصار عن هذا من رواية عوف عن زرارة بن أوفى عن ابن عباس. وأورده ابن سعد وأبو يعلى والطبراني من حديث أم هانئ مطولا.
(٣). قال ابن إسحاق في المغازي: حدثني بعض آل أبى بكر عن عائشة بهذا «لكن أسرى» بدل «عرج» قال ابن إسحاق: وحدثني يعقوب بن عتبة عن ابن معاوية قال: كانت رؤيا من الله صادقة.
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٢ الى ٣]
وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلاً (٢) ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً (٣)
أَلَّا تَتَّخِذُوا قرئ بالياء على: لئلا يتخذوا، وبالتاء على: أى لا تتخذوا، كقولك:
كتبت إليه أن أفعل كذا وَكِيلًا ربا تكلون إليه أموركم ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا نصب على الاختصاص. وقيل: على النداء فيمن قرأ «لا تتخذوا» بالتاء على النهى، يعنى: قلنا لهم لا تتخذوا من دوني وكيلا يا ذرية من حملنا مَعَ نُوحٍ وقد يجعل وَكِيلًا ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مفعولي تتخذوا، أى لا تجعلوهم أرباباً كقوله وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً ومن ذرية المحمولين مع نوح عيسى وعزير عليهم السلام. وقرئ ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا بالرفع بدلا من واو تَتَّخِذُوا وقرأ زيد بن ثابت: ذرية، بكسر الذال. وروى عنه أنه قد فسرها بولد الولد، ذكرهم الله النعمة في إنجاء آبائهم من الغرق إِنَّهُ إن نوحاً كانَ عَبْداً شَكُوراً قيل: كان إذا أكل قال: الحمد لله الذي أطعمنى، ولو شاء أجاعنى. وإذا شرب قال: الحمد لله الذي سقاني، ولو شاء أظمأنى. وإذا اكتسى قال: الحمد لله الذي كسانى، ولو شاء أعرانى. وإذا احتذى قال: الحمد لله الذي حذانى، ولو شاء أحفانى. وإذا قضى حاجته قال: الحمد لله الذي أخرج عنى أذاه في عافية، ولو شاء حبسه. وروى أنه كان إذا أراد الإفطار عرض طعامه على من آمن به، فإن وجده محتاجاً آثره به. فإن قلت: قوله إنه كان عبداً شكوراً ما وجه ملاءمته لما قبله؟ قلت: كأنه قيل: لا تتخذوا من دوني وكيلا، ولا تشركوا بى، لأنّ نوحا عليه السلام كان عبدا شكورا، وأنتم ذرية من آمن به وحمل معه، فاجعلوه أسوتكم كما جعله آباؤكم أسوتهم.
ويجوز أن يكون تعليلا لاختصاصهم والثناء عليهم بأنهم أولاد المحمولين مع نوح، فهم متصلون به، فاستأهلوا لذلك الاختصاص. ويجوز أن يقال ذلك عند ذكره على سبيل الاستطراد.
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٤ الى ٦]
وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً (٤) فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ وَكانَ وَعْداً مَفْعُولاً (٥) ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً (٦)وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ وأوحينا إليهم وحيا مقضيا، أى مقطوعا مبتوتاً بأنهم يفسدون في الأرض لا محالة، ويعلون، أى: يتعظمون ويبغون فِي الْكِتابِ في التوراة، ولَتُفْسِدُنَّ جواب قسم محذوف. ويجوز أن يجرى القضاء المبتوت مجرى القسم، فيكون لَتُفْسِدُنَّ جوابا له، كأنه قال: وأقسمنا لتفسدن. وقرئ: لتفسدنّ، على البناء للمفعول. ولتفسدن، بفتح التاء من فسد مَرَّتَيْنِ أولاهما: قتل زكريا وحبس أرميا حين أنذرهم سخط الله، والآخرة: قتل يحيى بن زكريا وقصد قتل عيسى ابن مريم عِباداً لَنا وقرئ عبيداً لنا. وأكثر ما يقال:
عباد الله وعبيد الناس: سنحاريب وجنوده «١» وقيل بخت نصر. وعن ابن عباس: جالوت. قتلوا علماءهم وأحرقوا التوراة، وخربوا المسجد، وسبوا منهم سبعين ألفاً. فإن قلت: كيف جاز أن يبعث الله الكفرة «٢» على ذلك ويسلطهم عليه «٣». قلت: معناه خلينا بينهم وبين ما فعلوا ولم نمنعهم، على أنّ الله عزّ وعلا أسند بعث الكفرة عليهم إلى نفسه، فهو كقوله تعالى وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ وكقول الداعي. وخالف بين كلمهم. وأسند الجوس وهو التردّد خلال الديار بالفساد إليهم، فتخريب المسجد وإحراق التوراة من جملة الجوس المسند إليهم. وقرأ طلحة «فحاسوا» بالحاء. وقرئ: فجوّسوا. وخلل الديار. فإن قلت:
ما معنى وَعْدُ أُولاهُما؟ قلت: معناه وعد عقاب أولاهما وَكانَ وَعْداً مَفْعُولًا يعنى:
وكان وعد العقاب وعدا لا بد أن يفعل ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ أى الدولة والغلبة على الذين بعثوا عليكم حين تبتم ورجعتم عن الفساد والعلو. قيل: هي قتل بخت نصر واستنقاذ بنى إسرائيل أسراهم وأموالهم ورجوع الملك إليهم، وقيل: هي قتل داود جالوت أَكْثَرَ نَفِيراً مما كنتم.
(٢). قوله «فان قلت: كيف جاز أن يبعث الله الكفرة على ذلك» مبنى على أنه تعالى لا يفعل الشر ولا يريده، وهو مذهب المعتزلة. وعند أهل السنة كل كائن فهو فعله ومراده ولو شرا، فلا سؤال. (ع)
(٣). قال محمود: «إن قلت كيف جاز أن يبعث الله الكفرة... الخ» قال أحمد: هذا السؤال إنما يتوجه على قدرى يوجب على الله تعالى بزعمه رعاية ما يتوهمه بعقله مصلحة، وأما السنى إذا سئل هذا السؤال أجاب عنه بقوله لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ والله الموفق.
[سورة الإسراء (١٧) : آية ٧]
إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً (٧)
أى الإحسان والإساءة: كلاهما مختص بأنفسكم، لا يتعدى النفع والضرر إلى غيركم. وعن علىّ رضى الله عنه: ما أحسنت إلى أحد ولا أسأت إليه، وتلاها فَإِذا جاءَ وَعْدُ المرّة الْآخِرَةِ بعثناهم «١» لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ حذف لدلالة ذكره أوّلا عليه. ومعنى لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ ليجعلوها بادية آثار المساءة والكآبة فيها، كقوله سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وقرئ: ليسوء والضمير لله تعالى، أو للوعد، أو للبعث. ولنسوء: بالنون. وفي قراءة علىّ: لنسوأنّ: وليسوأنّ وقرئ لنسوأن، بالنون الخفيفة. واللام في لِيَدْخُلُوا على هذا متعلق بمحذوف وهو:
وبعثناهم ليدخلوا. ولنسوأن: جواب إذا جاء ما عَلَوْا مفعول ليتبروا، أى ليهلكوا كل شيء غلبوه واستولوا عليه. أو بمعنى: مدة علوّهم.
[سورة الإسراء (١٧) : آية ٨]
عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً (٨)
عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ بعد المرّة الثانية إن تبتم توبة أخرى وانزجرتم عن المعاصي وَإِنْ عُدْتُمْ مرة ثالثة عُدْنا إلى عقوبتكم وقد عادوا، فأعاد الله إليهم النقمة بتسليط الأكاسرة وضرب الأتاوة عليهم. وعن الحسن: عادوا فبعث الله محمدا، فهم يعطون الجزية عن يد وهم صاغرون. وعن قتادة: ثم كان آخر ذلك أن بعث الله عليهم هذا الحىّ من العرب، فهم منهم في عذاب إلى يوم القيامة حَصِيراً محبسا يقال للسجن محصر وحصير. وعن الحسن:
بساطا كما يبسط الحصير المرمول «٢»
(٢). قوله كما يبسط الحصير المرمول» أى المنسوج، أفاده الصحاح. (ع)
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٩ الى ١٠]
إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً (٩) وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٠)لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ للحالة التي هي أقوم الحالات وأسدّها. أو للملة. أو للطريقة. وأينما قدرت لم تجد مع الإثبات ذوق البلاغة الذي تجده مع الحذف، لما في إبهام الموصوف بحذفه من فخامة تفقد مع إيضاحه. وقرئ: ويبشر، بالتخفيف، فإن قلت: كيف ذكر المؤمنين الأبرار والكفار ولم يذكر الفسقة؟ قلت: كان الناس حينئذ إما مؤمن تقى، وإما مشرك، وإنما حدث أصحاب المنزلة «١» بين المنزلتين بعد ذلك. فإن قلت: علام عطف وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ؟ قلت:
على أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً على معنى: أنه بشر المؤمنين ببشارتين اثنتين: بثوابهم، وبعقاب أعدائهم ويجوز أن يراد: ويخبر بأن الذين لا يؤمنون معذبون.
[سورة الإسراء (١٧) : آية ١١]
وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً (١١)
أى: ويدعو الله عند غضبه بالشر على نفسه وأهله وماله، كما يدعوه لهم بالخير، كقوله وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ. وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولًا يتسرع إلى طلب كل ما يقع في قلبه ويخطر بباله، لا يتأنى فيه تأنى المتبصر. وعن النبي ﷺ أنه دفع إلى سودة بنت زمعة أسيرا، فأقبل يئن بالليل، فقالت له: مالك تئن؟ فشكا ألم «٢» القدّ، فأرخت من كتافه، فلما نامت أخرج يده وهرب، فلما أصبح النبي ﷺ دعا به فأعلم بشأنه، فقال ﷺ «اللهم اقطع يديها» فرفعت سودة يديها تتوقع الإجابة، وأن يقطع الله يديها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنى سألت الله أن يجعل لعنتي ودعائي على من لا يستحق من أهلى رحمة لأنى بشر أغضب كما يغضب البشر فلتردّ سودة يديها «٣» » ويجوز أن يريد بالإنسان الكافر، وأنه يدعو بالعذاب استهزاء ويستعجل به، كما يدعو بالخير إذا مسته الشدّة. وكان
(٢). قوله «فشكا ألم القد» في الصحاح «القد» بالكسر: سير يقد من جلد غير مدبوغ. (ع) [.....]
(٣). لم أجده من هذه الجهة. وقد أخرجه الواقدي في المغازي من رواية ذكوان عن عائشة، أن النبي ﷺ دخل عليها بأسير، وقال لها: احتفظي به. قالت: فلهوت مع امرأة فخرج ولم أشعر. فدخل يسأل عنه فقلت والله ما أدرى. فقال: قطع الله يدك، فذكر نحو ما تقدم. ورويناه في الجزء التاسع من حديث المخلص تخريج البقال. قال: حدثنا ابن أبى داود حدثنا أحمد بن صالح حدثنا ابن أبى فديك عن ابن أبى ذئب عن محمد بن عمرو بن عطاء عن ذكوان بهذا.
[سورة الإسراء (١٧) : آية ١٢]
وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلاً (١٢)
فيه وجهان، أحدهما: أن يراد أن الليل والنهار آيتان في أنفسهما، فتكون الإضافة في آية الليل وآية النهار للتبيين، كإضافة العدد إلى المعدود، أى: فمحونا الآية التي هي الليل وجعلنا الآية التي هي النهار مبصرة. والثاني: أن يراد: وجعلنا نيرى الليل والنهار آيتين، يريد الشمس والقمر. فمحونا آية الليل: أى جعلنا الليل ممحوّ الضوء مطموسه مظلما، لا يستبان فيه شيء كما لا يستبان ما في اللوح الممحوّ، وجعلنا النهار مبصرا أى تبصر فيه الأشياء وتستبان. أو فمحونا آية الليل التي هي القمر حيث لم يخلق لها شعاعا كشعاع الشمس، فترى به الأشياء رؤية بينة، وجعلنا الشمس ذات شعاع يبصر في ضوئها كل شيء لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ لتتوصلوا ببياض النهار إلى استبانة أعمالكم والتصرف في معايشكم وَلِتَعْلَمُوا باختلاف الجديدين عَدَدَ السِّنِينَ وَجنس الْحِسابَ وما تحتاجون إليه منه ولولا ذلك لما علم أحد حسبان الأوقات، ولتعطلت الأمور وَكُلَّ شَيْءٍ مما تفتقرون إليه في دينكم ودنياكم فَصَّلْناهُ بيناه بيانا غير ملتبس، فأزحنا عللكم، وما تركنا لكم حجة علينا.
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ١٣ الى ١٤]
وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً (١٣) اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً (١٤)
طائِرَهُ عمله وقد حققنا القول فيه في سورة النمل. وعن ابن عيينة: هو من قولك:
طار له سهم، إذا خرج، يعنى: ألزمناه ما طار من عمله. والمعنى أنّ عمله لازم له لزوم القلادة أو الغل لا يفك عنه، ومنه مثل العرب: تقلدها طوق الحمامة. وقولهم: الموت في الرقاب. وهذا ربقة في رقبته. عن الحسن: يا ابن آدم بسطت لك صحيفة إذا بعثت قلدتها في عنقك: وقرئ فِي عُنُقِهِ بسكون النون. وقرئ نُخْرِجُ بالنون. ويخرج، بالياء، والضمير لله عز وجل.
ويخرج، على البناء للمفعول. ويخرج من خرج، والضمير للطائر. أى: يخرج الطائر كتاباً، وانتصاب كِتاباً على الحال. وقرئ: يلقاه، بالتشديد مبنيا للمفعول. ويَلْقاهُ مَنْشُوراً
[سورة الإسراء (١٧) : آية ١٥]
مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً (١٥)
أى: كل نفس حاملة وزرا، فإنما تحمل وزرها لا وزر نفس أخرى وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ وما صحّ منا صحة تدعو إليها الحكمة أن نعذب «١» قوما إلا بعد أن نَبْعَثَ إليهم رَسُولًا فتلزمهم الحجة. فإن قلت: الحجة لازمة لهم قبل بعثة الرسل، لأنّ معهم أدلة العقل التي بها يعرف الله، وقد أغفلوا النظر وهم متمكنون منه، واستيجابهم العذاب لإغفالهم النظر فيما معهم، وكفرهم لذلك، لا لإغفال الشرائع التي لا سبيل إليها إلا بالتوقيف، والعمل بها لا يصح إلا بعد الايمان. قلت: بعثة الرسل من جملة التنبيه على النظر والإيقاظ من رقدة الغفلة، لئلا يقولوا:
كنا غافلين فلولا بعثت إلينا رسولا ينبهنا على النظر في أدلة العقل.
[سورة الإسراء (١٧) : آية ١٦]
وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً (١٦)
الخ» قال أحمد: وهذا السؤال أيضاً إنما يتوجه على قدرى يزعم أن العقل يرشد إلى وجوب النظر وإلى كثير من أحكام الله تعالى، وإن لم يبعث رسول فيكلف بعقله ويرتب على ترك امتثال التكليف استيجاب العذاب، إذ العقل كاف عندهم في إيجاب المعرفة بل في جميع الأحكام، بناء على قاعدة التحسين والتقبيح العقليين. وأما السنى فلا يتوجه عليه هذا السؤال، فان العقل عنده شرط في وجوب عموم الأحكام، ولا تكليف عنده قبل ورود الشرائع وبعث الأنبياء، وحينئذ يثبت الحكم وتقوم الحجة، كما أنبأت عنه هذه الآية التي يروم الزمخشري تحريفها فتعتاص عليه وتسد طرق الحيل بين يديه، لأنه الكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، نعم العقل عمدة في حصول المعرفة لا في وجوبها، وبين الحصول والوجوب بون بعيد، والله الموفق.
وإذا دنا وقت إهلاك قوم ولم يبق من زمان إمهالهم إلا قليل، أمرناهم «١» فَفَسَقُوا
أى أمرناهم بالفسق ففعلوا، والأمر مجاز، لأن حقيقة أمرهم بالفسق أن يقول لهم:
افسقوا، وهذا لا يكون فبقى أن يكون مجازاً «٢»، ووجه المجاز أنه صب عليهم النعمة صباً، فجعلوها ذريعة إلى المعاصي واتباع الشهوات، فكأنهم مأمورون بذلك لتسبب إيلاء النعمة فيه، وإنما خولهم إياها ليشكروا ويعملوا فيها الخير ويتمكنوا من الإحسان والبرّ، كما خلقهم أصحاء أقوياء، وأقدرهم على الخير والشرّ، وطلب منهم إيثار الطاعة على المعصية فآثروا الفسوق، فلما فسقوا حق عليهم القول وهو كلمة العذاب فدمّرهم. فإن قلت: هلا زعمت أن معناه أمرناهم بالطاعة ففسقوا؟ قلت: لأن حذف ما لا دليل عليه غير جائز، فكيف يحذف ما الدليل قائم على نقيضه، وذلك أن المأمور به إنما حذف لأن فسقوا يدل عليه، وهو كلام مستفيض.
يقال: أمرته فقام، وأمرته فقرأ لا يفهم منه إلا أن المأمور به قيام أو قراءة، ولو ذهبت تقدّر غيره فقد رمت من مخاطبك علم الغيب، ولا يلزم على هذا قولهم: أمرته فعصاني، أو فلم يمتثل أمرى. لأنّ ذلك مناف للأمر مناقض له، ولا يكون ما يناقض الأمر مأموراً به، فكان محالا أن يقصد أصلا حتى يجعل دالا على المأمور به، فكان المأمور به في هذا الكلام غير مدلول عليه ولا منوي، لأن من يتكلم بهذا الكلام فإنه لا ينوى لأمره مأموراً به، وكأنه يقول: كان منى أمر فلم تكن منه طاعة، كما أن من يقول: فلان يعطى ويمنع، ويأمر وينهى، غير قاصد إلى مفعول. فإن قلت: هلا كان ثبوت العلم بأن الله لا يأمر بالفحشاء وإنما يأمر بالقصد والخير، دليلا على أن المراد أمرناهم بالخير ففسقوا؟ قلت: لا يصحّ ذلك، لأن قوله فَفَسَقُوا
يدافعه، فكأنك أظهرت شيئاً وأنت تدعى إضمار خلافه، فكان صرف الأمر إلى المجاز هو الوجه، ونظير «أمر» شاء: في أن مفعوله استفاض فيه الحذف، لدلالة ما بعده عليه، تقول: لو شاء لأحسن إليك، ولو شاء لأساء إليك. تريد: لو شاء الإحسان ولو شاء الإساءة، فلو ذهبت تضمر خلاف ما أظهرت- وقلت: قد دلت حال من أسندت إليه المشيئة أنه من أهل الإحسان أو من أهل الاساءة، فاترك الظاهر المنطوق به وأضمر ما دلت عليه حال صاحب المشيئة- لم تكن على سداد. وقد فسر بعضهم أَمَرْنا
بكثرنا، وجعل أمرته فأمر من باب فعلته
(٢). قال محمود: «حقيقة أمرهم أن يقول لهم: افسقوا. ولا يكون هذا، فقى أن يكون مجازا... الخ» قال أحمد: نص حسن إلا قوله أنهم خولوا النعم ليشكروا، فانه فرعه، على قاعدة وجوب إرادة الله تعالى للطاعة. والحق أنهم خولوها وأمروا بالشكر، ففسقوا وكفروا على خلاف الأمر، والأمر غير الارادة على قاعدة أهل الحق، والله الموفق.
[سورة الإسراء (١٧) : آية ١٧]
وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (١٧)
وقرئ: آمرنا من أمر وأمره غيره. وأمّرنا بمعنى أمرنا، أو من أمر إمارة، وأمره الله.
أى: جعلناهم أمراء وسلطناهم كَمْ مفعول أَهْلَكْنا ومِنَ الْقُرُونِ بيان لكم وتمييز له، كما يميز العدد بالجنس، يعنى عاد وثمودا وقرونا بين ذلك كثيرا. ونبه بقوله وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً على أن الذنوب هي أسباب الهلكة لا غير، وأنه عالم بها ومعاقب عليها.
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ١٨ الى ١٩]
مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً (١٨) وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً (١٩)
من كانت العاجلة همه ولم يرد غيرها كالكفرة وأكثر الفسقة «٤»، تفضلنا عليه من منافعها بما نشاء لمن نريد، فقيد الأمر تقييدين، أحدهما: تقييد المعجل بمشيئته. والثاني: تقييد المعجل له بإرادته، وهكذا الحال: ترى كثيرا من هؤلاء يتمنون ما يتمنون ولا يعطون إلا بعضاً منه، وكثيرا منهم يتمنون ذلك البعض وقد حرموه، فاجتمع عليهم فقر الدنيا وفقر الآخرة، وأمّا
(٢). أخرجه حميد وإسحاق وابن أبى شيبة والحرث والطبراني وأبو عبيد من رواية مسلم بن بديل عن إياس بن زهير عن سويد بن هبيرة عن النبي ﷺ قال «خير مال المرء ميرة مأمورة أو سكة مأثورة. قال ابن إسحاق ومعه النضر بن شميل وغيره يرفعه.
(٣). لم أجده.
(٤). قال محمود: «أى من كانت العاجلة همه ولم يرد غيرها كالكفرة وأكثر الفسقة... الخ» قال أحمد: ومثل ذلك التقييد ورد في الآية الأخرى، وهو قوله تعالى مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ، وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ فأدخل «من» المبعضة على حرث الدنيا، ونحل الطالب حرث الآخرة مراده، وزاد عليه.
يشاء. وقيل: الضمير لله تعالى، فلا فرق إذاً بين القراءتين في المعنى ويجوز أن يكون للعبد، على أنّ للعبد ما يشاء من الدنيا، وأن ذلك لواحد من الدهماء «١» يريد به الله ذلك. وقيل: هو من يريد الدنيا بعمل الآخرة، كالمنافق، والمرائى، والمهاجر للدنيا، والمجاهد للغنيمة والذكر، كما قال ﷺ «فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه «٢» » مَدْحُوراً مطرودا من رحمة الله سَعْيَها حقها من السعى وكفاءها من الأعمال الصالحة. اشترط ثلاث شرائط في كون السعى مشكورا: إرادة الآخرة بأن يعقد بها همه ويتجافى عن دار الغرور، والسعى فيما كلف من الفعل والترك، والإيمان الصحيح الثابت. وعن بعض المتقدّمين: من لم يكن معه ثلاث لم ينفعه عمله: إيمان ثابت، ونية صادقة، وعمل مصيب. وتلا هذه الآية. وشكر الله:
الثواب على الطاعة.
[سورة الإسراء (١٧) : آية ٢٠]
كُلاًّ نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً (٢٠)
كُلًّا كل واحد من الفريقين، والتنوين عوض من المضاف إليه نُمِدُّ هم: نزيدهم من عطائنا، ونجعل الآنف منه مددا للسالف لا نقطعه، فنرزق المطيع والعاصي جميعا على وجه التفضل وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ وفضله مَحْظُوراً أى ممنوعا، لا يمنعه من عاص لعصيانه
[سورة الإسراء (١٧) : آية ٢١]
انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً (٢١)
انْظُرْ بعين الاعتبار كَيْفَ جعلناهم متفاوتين في التفضل. وفي الآخرة التفاوت أكبر، لأنها ثواب وأعواض وتفضل، وكلها متفاوتة. وروى أن قوما من الأشراف فمن دونهم اجتمعوا بباب عمر رضى الله عنه، فخرج الإذن لبلال وصهيب، فشق على أبى سفيان، فقال سهيل بن عمرو: إنما أُتينا من قبلنا، إنهم دعوا ودعينا يعنى إلى الإسلام، فأسرعوا وأبطأنا، وهذا باب عمر، فكيف التفاوت في الآخرة، ولئن حسدتموهم على باب عمر
(٢). متفق عليه من حديث عمر.
[سورة الإسراء (١٧) : آية ٢٢]
لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً (٢٢)
فَتَقْعُدَ من قولهم شحذ الشفرة حتى قعدت، كأنها حربة بمعنى صارت، يعنى: فتصير جامعا على نفسك الذم وما يتبعه من الهلاك من إلهك، والخذلان والعجز عن النصرة ممن جعلته شريكا له.
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٢٣ الى ٢٤]
وَقَضى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً (٢٣) وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً (٢٤)
وَقَضى رَبُّكَ وأمر أمراً مقطوعا به أَلَّا تَعْبُدُوا أن مفسرة ولا تعبدوا نهى. أو بأن لا تعبدوا وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وأحسنوا بالوالدين إحسانا. أو بأن تحسنوا بالوالدين إحسانا وقرئ: وأوصى. وعن ابن عباس رضى الله عنهما: ووصى. وعن بعض ولد معاذ بن جبل:
وقضاء ربك. ولا يجوز أن يتعلق الباء في بالوالدين بالإحسان، لأن المصدر لا يتقدّم عليه صلته إِمَّا هي «إن» الشرطية زيدت عليها «ما» تأكيدا لها، ولذلك دخلت النون المؤكدة في الفعل، ولو أفردت «إن» لم يصح دخولها، لا تقول: إن تكرمن زيداً يكرمك، ولكن إما تكرمنه.
وأَحَدُهُما فاعل يبلغنّ، وهو فيمن قرأ يبلغان بدل من ألف الضمير الراجع إلى الوالدين.
وكِلاهُما عطف على أحدهما فاعلا وبدلا. فإن قلت: لو قيل إما يبلغان كلاهما، كان كلاهما توكيدا لا بد لا، فمالك زعمت أنه بدل؟ قلت: لأنه معطوف على ما لا يصح أن يكون توكيدا للاثنين، فانتظم في حكمه، فوجب أن يكون مثله. فإن قلت: ما ضرّك لو جعلته توكيداً مع كون المعطوف عليه بدلا، وعطفت التوكيد على البدل؟ قلت: لو أريد توكيد التثنية لقيل:
كلاهما، فحسب، فلما قيل: أحدهما أو كلاهما، علم أنّ التوكيد غير مراد، فكان بدلا مثل الأول أُفٍّ صوت يدل على تضجر. وقرئ: أف، بالحركات الثلاث منوناً وغير منون: الكسر على أصل البناء، والفتح تخفيف للضمة والتشديد كثم، والضم إتباع كمنذ. فإن قلت: ما معنى عندك؟
قلت: هو أن يكبرا ويعجزا، وكانا كلا على ولدهما لا كافل لهما غيره، فهما عنده في بيته وكنفه، وذلك أشق عليه وأشدّ احتمالا وصبرا، وربما تولى منهما ما كانا يتوليان منه في حال الطفولة، فهو مأمور بأن يستعمل معهما وطأة الخلق ولين الجانب والاحتمال، حتى لا يقول لهما إذا أضجره ما يستقذر منهما أو يستثقل من مؤنهما: أف، فضلا عما يزيد عليه. ولقد بالغ سبحانه في التوصية
هو أن يقول: يا أبتاه، يا أماه، كما قال إبراهيم لأبيه: يا أبت، مع كفره، ولا يدعوهما بأسمائهما فإنه من الجفاء وسوء الأدب وعادة الدعار «١». قالوا: ولا بأس به في غير وجهه، كما قالت عائشة رضى الله عنها: نحلنى أبو بكر كذا «٢». وقرئ: جناح الذل، والذل: بالضم والكسر فإن قلت: ما معنى قوله جَناحَ الذُّلِّ؟ قلت: فيه وجهان، أحدهما: أن يكون المعنى: واخفض لهما جناحك كما قال وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ فأضافه إلى الذل أو الذلّ، كما أضيف حاتم إلى الجود على معنى: واخفض لهما جناحك الذليل أو الذلول. والثاني: أن تجعل لذله أو لذله لهما جناحا خفيضا، كما جعل لبيد للشمال «٣» يداً، وللقوّة زماما، مبالغة في التذلل والتواضع لهما مِنَ الرَّحْمَةِ من فرط رحمتك لهما وعطفك عليهما، لكبرهما وافتقارهما اليوم إلى من كان أفقر خلق الله إليهما بالأمس، ولا تكتف برحمتك عليهما التي لا بقاء لها وادع الله بأن يرحمهما رحمته الباقية، واجعل ذلك جزاء لرحمتهما عليك في صغرك وتربيتهما لك. فان قلت: الاسترحام لهما إنما يصح إذا كانا مسلمين. قلت: وإذا كانا كافرين فله أن يسترحم لهما بشرط الايمان، وأن يدعو الله لهما بالهداية والإرشاد، ومن الناس من قال: كان الدعاء للكفار جائزاً ثم نسخ. وسئل ابن عيينة عن الصدقة عن الميت فقال: كل ذلك واصل إليه، ولا شيء أنفع له من الاستغفار. ولو كان شيء أفضل منه لأمركم به في الأبوين. ولقد كرّر الله سبحانه في كتابه الوصية بالوالدين. وعن النبىّ ﷺ «رضا الله في رضا الوالدين، وسخطه في سخطهما «٤» » وروى «يفعل البارّ ما يشاء أن يفعل فلن يدخل النار، ويفعل
(٢). أخرجه في الموطأ عن الزهري عن عائشة قالت «إن أبا بكر كان نحلنى جداد عشرين وسقا من ماله بالعالية.
فلما حضرته الوفاة. قال: ما من الناس أحب إلى منك».
(٣). قوله «كما جعل لبيد الشمال يدا» في قوله:
وغداة ريح قد كشفت وقرة | إذ أصبحت بيد الشمال زمامها (ع) |
. وشكا رجل إلى رسول الله أباه وأنه يأخذ ماله، فدعا به فإذا شيخ يتوكأ على عصا، فسأله فقال: إنه كان ضعيفاً وأنا قوى، وفقيراً وأنا غنىّ، فكنت لا أمنعه شيئاً من مالى، واليوم أنا ضعيف وهو قوى، وأنا فقير وهو غنىّ، ويبخل علىّ بماله، فبكى رسول الله ﷺ وقال: ما من حجر ولا مدر يسمع هذا إلا بكى، ثم قال للولد:
أنت ومالك لأبيك، أنت ومالك لأبيك «٣». وشكا إليه آخر سوء خلق أمّه فقال «٤» : لم تكن سيئة الخلق حين حملتك تسعة أشهر؟ قال: إنها سيئة الخلق. قال: لم تكن كذلك حين أرضعتك حولين؟ قال إنها سيئة الخلق. قال: لم تكن كذلك حين أسهرت لك ليلها وأظمأت نهارها؟
قال: لقد جازيتها. قال: ما فعلت؟ قال: حججت بها على عاتقي. قال: ما جزيتها ولو طلقة «٥» وعن ابن عمر أنه رأى رجلا في الطواف يحمل أمّه ويقول:
إنِّى لَهَا مَطِيَّةٌ لَا تُذْعَرُ | إذَا الرِّكَابُ نَفَرَتْ لَا تَنْفِرُ |
مَا حَمَلَتْ وَأَرْضَعَتْنِى أَكْثَرُ | اللَّهُ رَبِّى ذُو الْجَلَالِ الأَكْبَرُ «٦» |
(٢). لم أجده.
(٣). لم أجده. قلت أخرجه في معجم الصحابة من طريق.
(٤). لم أجده.
(٥). قوله «قال ما جزيتها ولو طلقة» في الصحاح الطلق وجع الولادة اه فالطلقة المرة منه. (ع)
(٦). أنشده ابن عمر عن رجل يحمل أمه في الحج: شبه نفسه بالمطية تشبيهاً بليغا، و «إذا الركاب نفرت» صفة لها، يعنى أنه خافض لها جناح الذل من الرحمة، ولا يسأم منها كغيره، فان حملها إياه وإرضاعها إياه أكثر من بره بها، وذعر يذعر كتعب يتعب: خاف وفزع، والمراد لازم الفزع والنفرة وهو الجزع والضجر وعدم إقراره على ظهره، ثم كبر لأنه شعار الحج من يوم النحر إلى آخر أيام التشريق.
وعن حذيفة أنه استأذن النبىّ ﷺ في قتل أبيه وهو في صف المشركين، فقال:
دعه يليه غيرك «٥». وسئل الفصيل بن عياض عن برّ الوالدين فقال: أن لا تقوم إلى خدمتهما عن كسل. وسئل بعضهم فقال: أن لا ترفع صوتك عليهما، ولا تنظر شرراً إليهما «٦»، ولا يريا منك مخالفة في ظاهر ولا باطن، وأن تترحم عليهما ما عاشا، وتدعو لهما إذا ماتا، وتقوم بخدمة أودّائهما من بعدهما. فعن النبىّ صلى الله عليه وسلم: «إنّ من أبر البرّ أن يصل الرجل أهل ودّ أبيه «٧» ».
[سورة الإسراء (١٧) : آية ٢٥]
رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً (٢٥)
بِما فِي نُفُوسِكُمْ بما في ضمائركم من قصد البر إلى الوالدين واعتقاد ما يجب لهما من التوقير إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ قاصدين الصلاح والبر، ثم فرطت منكم- في حال الغضب، وعند حرج الصدر وما لا يخلو منه البشر، أو لحمية الإسلام- هنة تؤدّى إلى أذاهما، ثم أنبتم إلى الله واستغفرتم منها، فإن الله غفور لِلْأَوَّابِينَ للتوّابين. وعن سعيد بن جبير: هي في البادرة تكون من الرجل إلى أبيه لا يريد بذلك إلا الخير. وعن سعيد بن المسيب: الأوّاب الرجل
(٢). أخرجه ابن المبارك في البر والصلة: أخبرنا سعيد بن سعيد بن أبى بردة عن أبيه قال كان ابن عمر يطوف بالبيت فرأى رجلا- فذكره. وهذا إسناد صحيح وأخرجه البيهقي في الشعب في الخامس والخمسين وأخرجه البخاري في الأدب المفرد عن آدم عن سعيد مختصرا.
(٣). أخرجه ابن عدى من رواية محمد بن الفرات عن أبى إسحاق عن الحرث عن على بهذا وأتم منه. وفيه مسيرة خمسمائة بدل ألف. ورواه الطبراني في الأوسط من طريق جابر الجعفي عن أبى جعفر عن جابر بن عبد الله فذكره بلفظ «ألف عام» وجابر ومحمد بن الفرات متروكان.
(٤). قوله «لا يذهب بأبيه إلى البيعة» في الصحاح: البيعة بالكسر للنصارى. (ع)
(٥). لم أجده: ولا يصح عن والد حذيفة أنه كان في صف المشركين: فانه استشهد بأحد مع المسلمين بأبدى المسلمين خطأ. وهم يحسبونه من الكفار، كما في صحيح البخاري لكن نحو القصة المذكورة وردت لأبى عبيدة ابن الجراح.
(٦). قوله «ولا تنظر شررا إليهما» هو نظر الغضبان بمؤخر العين، كذا في الصحاح. (ع)
(٧). أخرجه مسلم من حديث ابن عمر مرفوعا وفيه قصة.
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٢٦ الى ٢٧]
وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً (٢٦) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً (٢٧)
وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وصى بغير الوالدين من الأقارب بعد التوصية بهما، وأن يؤتوا حقهم: وحقهم إذا كانوا محارم كالأبوين والولد، وفقراء عاجزين عن الكسب، وكان الرجل موسراً: أن ينفق عليهم عند أبى حنيفة. والشافعي لا يرى النفقة إلا على الولد والوالدين فحسب.
وإن كانوا مياسير، أو لم يكونوا محارم: كأبناء العمّ، فحقهم صلتهم بالمودّة والزيارة وحسن المعاشرة والمؤالفة على السراء والضراء والمعاضدة ونحو ذلك وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ يعنى وآت هؤلاء حقهم من الزكاة. وهذا دليل على أن المراد بما يؤتى ذوى القرابة من الحق: هو تعهدهم بالمال. وقيل: أراد بذي القربى أقرباء رسول الله صلى الله عليه وسلم.
التبذير. تفريق المال فيما لا ينبغي. وإنفاقه على وجه الإسراف. وكانت الجاهلية تنحر إبلها وتتياسر عليها وتبذر أموالها في الفخر والسمعة، وتذكر ذلك في أشعارها، فأمر الله بالنفقة في وجوهها مما يقرّب منه ويزلف. وعن عبد الله: هو إنفاق المال في غير حقه. وعن مجاهد:
لو أنفق مدّا في باطل كان تبذيرا وقد أنفق بعضهم نفقة في خير فأكثر، فقال له صاحبه: لا خير في السرف، فقال: لا سرف في الخير. وعن عبد الله بن عمرو: مرّ رسول الله ﷺ بسعد وهو يتوضأ فقال: ما هذا السرف يا سعد؟ قال: أو في الوضوء سرف؟ قال. نعم وإن كنت على نهر جار «١» إِخْوانَ الشَّياطِينِ أمثالهم في الشرارة وهي غاية المذمّة، لأنه لا شرّ من الشيطان. أو هم إخوانهم وأصدقاؤهم لأنهم يطيعونهم فيما يأمرونهم به من الإسراف.
أو هم قرناؤهم في النار على سبيل الوعيد وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً فما ينبغي أن يطاع، فإنه لا يدعو إلا إلى مثل فعله. وقرأ الحسن: إخوان الشيطان.
[سورة الإسراء (١٧) : آية ٢٨]
وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً (٢٨)
وإن أعرضت عن ذى القربى والمسكين وابن السبيل حياء من الردّ فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُوراً فلا تتركهم غير مجابين إذا سألوك. وكان النبي ﷺ «٢» إذا سئل شيئاً وليس عنده
(٢). أخرجه ابن حبان والحاكم عن أنس: قال كان النبي ﷺ لا يسأل شيئا إلا أعطاه أو سكت وفيه قصة: وفي الطبراني الأوسط عن على رضى الله عنه «كان النبي ﷺ إذا سئل شيئا فأراد أن يفعله قال: نعم. وإذا أراد أن لا يفعل سكت ولم يقل قط لشيء: لا. فذكر قصة. وإسناده ضعيف.
دعاء فيه يسر.
[سورة الإسراء (١٧) : آية ٢٩]
وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً (٢٩)
هذا تمثيلٌ لمنع الشحيح وإعطاء المسرف، وأمر بالاقتصاد الذي هو بين الإسراف والتقتير فَتَقْعُدَ مَلُوماً فتصير ملوما عند الله، لأنّ المسرف غير مرضى عنده وعند الناس، يقول المحتاج: أعطى فلاناً وحرمني. ويقول المستغنى: ما يحسن تدبير أمر المعيشة. وعند نفسك:
إذا احتجت فندمت على ما فعلت مَحْسُوراً منقطعاً بك لا شيء عندك، من حسره السفر إذا بلغ منه وحسره بالمسألة، وعن جابر: بينا رسول الله ﷺ جالس أتاه صبى فقال: إنّ أمى تستكسيك درعا، فقال من ساعة إلى ساعة يظهر، فعد إلينا، فذهب إلى أمّه فقالت له قل له: إن أمى تستكسيك الدرع الذي عليك، فدخل داره ونزع قميصه وأعطاه وقعد عرياناً، وأذن بلال وانتظروا فلم يخرج للصلاة «٣». وقيل أعطى الأقرع بن حابس مائة من الإبل وعيينة بن حصن «٤»، فجاء عباس بن مرداس، وأنشأ يقول:
وسعد بالضم فهو مسعود. (ع)
(٢). قوله «قولا ذا ميسور وهو اليسر» في الصحاح: المعسور ضد الميسور. وهما مصدران. وقال سيبويه:
هما صفتان. (ع)
(٣). لم أجده
(٤). قوله «مائة من الإبل وعيينة بن حصن» لعل بعده سقطا تقديره: مائة.
أَتَجْعَلُ نَهْبِى وَنَهْبَ الْعَبِيدِ بَيْنَ عُيَيْنَةَ وَالأَقْرَعِ | وَمَا كَانَ حِصْنٌ وَلَا حَابِسٌ |
يَفُوقَانِ جَدِّىَ فِى مَجْمَعِ | وَمَا كُنْتُ دُونَ امْرِىءٍ مِنْهُمَا |
فقال: يا أبا بكر، اقطع لسانه عنى، أعطه مائة من الإبل «٢» فنزلت.
[سورة الإسراء (١٧) : آية ٣٠]
إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (٣٠)
ثم سلى رسول الله ﷺ عما كان يرهقه من الإضافة، بأنّ ذلك ليس لهوان منك عليه، ولا لبخل به عليك ولكن لأنّ مشيئته في بسط الأرزاق وقدّرها «٣» تابعة للحكمة والمصلحة. ويجوز أن يريد أن البسط والقبض إنما هما من أمر الله الذي الخزائن في يده، فأما العبيد فعليهم أن يقتصدوا. ويحتمل أنه عزّ وعلا بسط لعباده أو قبض، فإنه يراعى أوسط الحالين، لا يبلغ بالمبسوط له غاية مراده، ولا بالمقبوض عليه أقصى مكروهه، فاستنوا بسنته.
[سورة الإسراء (١٧) : آية ٣١]
وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً (٣١)
ويحتمل أنه للإنكار، لكنه بعيد من الصحابي، أى: أتقسم نهى ونهب العبيد فرسي بين هذين، والحال أن أبويهما ما كانا يفوقان أبى مرداس بمنع الصرف للضرورة. وقد يروى «العبيد» مصغرا. ويروى بدله «جدي» وبروى «شيخي في مجمع» من مجامع الحرب، وأنا لست أقل من واحد منهما، فنحن سواء أصلا وفرعا، فكيف تفاوت بيننا الآن؟ مع أن من تخفض قدره لا يرتفع عمره. وروى «منهمو» أى من الأربعة. وروى «ومن يخفض» مبنيا للمجهول. وفي ذكر حصن وحابس بعد عيينة والأقرع: لف ونشر مرتب.
(٢). أخرجه مسلم من رواية عتبة بن رفاعة بن رافع عن رافع بن خديج قال «أعطى رسول الله ﷺ أبا سفيان بن حرب وصفوان بن أمية وعيينة بن حصن والأقرع بن حابس كل إنسان منهم مائة من الإبل.
وأعطي عباس بن مرداس دون ذلك. فقال عباس- فذكر الشعر. قال: فأتم له رسول الله ﷺ مائة» وأخرجه ابن إسحاق في المغازي حدثني عبد الله بن أبى بكر بن حزم وغيره- فذكر القصة وقال في آخرها:
ارهبوا فاقطعوا لسانه. فزادوه حتى رضى» وكذا ذكره موسى بن عقبة والواقدي وابن سعد وليس في شيء من طرقهم أن المخاطب بذلك كان أبا بكر
(٣). قوله «في بسط الأرزاق وقدرها» أى تضييقها. أفاده الصحاح. (ع)
[سورة الإسراء (١٧) : آية ٣٢]
وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلاً (٣٢)
فاحِشَةً قبيحة زائدة على حد القبح وَساءَ سَبِيلًا وبئس طريقا طريقه، وهو أن تغصب على غيرك امرأته أو أخته أو بنته من غير سبب، والسبب ممكن وهو الصهر الذي شرعه الله «٢».
[سورة الإسراء (١٧) : آية ٣٣]
وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً (٣٣)
إِلَّا بِالْحَقِّ إلا بإحدى ثلاث: إلا بأن تكفر، أو تقتل مؤمنا عمدا، أو تزنى بعد إحصان. مَظْلُوماً غير راكب واحدة منهنّ لِوَلِيِّهِ الذي بينه وبينه قرابة توجب المطالبة بدمه، فإن لم يكن له ولى فالسلطان وليه سُلْطاناً تسلطا على القاتل في الاقتصاص منه. أو حجة يثب بها عليه فَلا يُسْرِفْ الضمير للولي. أى: فلا يقتل غير القاتل، ولا اثنين والقاتل واحد، كعادة الجاهلية: كان إذا قتل منهم واحد قتلوا به جماعة، حتى قال مهلهل حين قتل بجير بن الحارث بن عباد: بؤ بشسع نعل كليب «٣». وقال:
كُلُّ قَتِيلٍ فِى كُلَيْبٍ غُرَّهْ | حَتَّي يَنَالَ الْقَتْلُ آلَ مُرَّهْ «٤» |
(٢). قوله «وهو الصهر الذي شرعه الله» أى التزوج. أفاده الصحاح. (ع)
(٣). قوله «بؤ بشع نعل كليب» في الصحاح يقال بؤ به أى كن ممن يقتل به وفيه البواء: السواء. وفيه الشسع: واحد شسوع النعل التي تشد إلى زمامها. وفيه الغرة: العبد أو الأمة. (ع)
(٤). الغرة: الرقيق، يعنى: كل قتيل قتلناه في هذه القبيلة ليس كفؤا لمن قتلوه منا، حتى يصل قتلنا آل مرة فهم كفؤه.
وفي قراءة أبىّ: فلا تسرفوا، ردّه على: ولا تقتلوا إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً الضمير إمّا للولي، يعنى حسبه أنّ الله قد نصره بأن أوجب له القصاص فلا يستزد على ذلك، وبأنّ الله قد نصره «١» بمعونة السلطان وبإظهار المؤمنين على استيفاء الحق، فلا يبغ ما وراء حقه. وإمّا للمظلوم، لأنّ الله ناصره وحيث أوجب القصاص بقتله، وينصره في الآخرة بالثواب. وإما للذي يقتله الولي بغير حق ويسرف في قتله، فإنه منصور بإيجاب القصاص على المسرف.
[سورة الإسراء (١٧) : آية ٣٤]
وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً (٣٤)
بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ بالخصلة أو الطريقة التي هي أحسن، وهي حفظه عليه وتثميره إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلًا أى مطلوبا يطلب من المعاهد أن لا يضيعه ويفي به «٢». ويجوز أن يكون تخييلا، كأنه يقال للعهد: لم نكثت؟ وهلا وفي بك؟ تبكيتا للناكث، كما يقال للموءودة: بأى ذنب قتلت؟ ويجوز أن يراد أنّ صاحب العهد كان مسئولا.
[سورة الإسراء (١٧) : آية ٣٥]
وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (٣٥)
وقرئ بِالْقِسْطاسِ بالضم والكسر، وهو القرسطون «٣». وقيل: كل ميزان صغر أو كبر من موازين الدراهم وغيرهما وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا وأحسن عاقبة، وهو تفعيل، من آل إذا رجع، وهو ما يؤول إليه.
[سورة الإسراء (١٧) : آية ٣٦]
وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً (٣٦)
(٢). قال محمود: «أى يطلب من المعاهد أن يفي به ولا ينكثه... الخ» قال أحمد، كلام حسن إلا لفظة التخييل فقد تقدم إنكارها عليه، وينبغي أن يعوض بالتمثيل. والظاهر التأويل الأول، ويكون المجرور الذي هو «عنه» حذف تخفيفا، وقد ذكر في بقية الآي كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا والله أعلم. وبعضد تأويل سؤال العهد نفسه على وجه التمثيل وقوف الرحم بين يدي الله وسؤالها فيمن وصلها وقطعها. وقد ورد ذلك في الحديث الصحيح، والله الموفق. [.....]
(٣). قوله «بالقسطاس بالضم والكسر وهو القرسطون» أى القبان، كذا في النسفي. (ع)
وَمِثْلُ الدُّمى شُمُّ الْعَرَانِينِ سَاكِنٌ | بِهِنَّ الحَيَاءُ لَا يُشِعْنَ التَّقَافِيَا «٤» |
وَلَا أرْمِى البَرِيَّ بِغَيْرِ ذَنْبٍ | وَلَا أَقْفُو الحَوَاصِنَ إنْ قُفِينَا «٥» |
(٢). قوله «حبسه الله في ردغة الخبال» في الصحاح الردغة- بالتحريك-: الماء والطين والوحل الشديد وكذلك الردغة بالتسكين. وفيه الخبال: العناء والفساد وأما الذي في الحديث من قفا مؤمنا بما ليس فيه وقفه الله تعالى في ردغة الخبال حتى يجيء بالمخرج منه، فيقال: هو صديد أهل النار.
(٣). لم أره بهذا اللفظ مرفوعا. وإنما ذكره أبو عبيد في الغريب من قول حسان بن عطية. فقال: حدثنا محمد بن كثير عن الأوزاعى عنه بهذا. وروى أحمد والطبراني من رواية معاذ بن أنس- رفعه «من قفا مؤمنا بما ليس فيه يريد شينه به حبسه الله على جسر جهنم حتى يخرج مما قال» وفي مسند الشاميين للطبراني من طريق مطر الوراق عن عطاء الخراساني عن نافع عن ابن عمر «من قذف مؤمنا أو مؤمنة حبس في ردغة الخبال حتى يأتى بالمخرج، وهو عند أبى داود من رواية يحيى بن راشد عن ابن عمر بلفظ «من قال في مؤمن ما ليس فيه أسكنه الله ردغة الخبال حتى يأتى بالمخرج. وهو يخرج مما قال» وأخرجه الحاكم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رفعه «من قال في مؤمن ما ليس فيه حبسه الله في ردغة الخبال حتى يأتى بالمخرج».
(٤). يصف نساء بأنهن جميلات مثل الدمى، جمع دمية بالضم، وهو الصنم والصورة من العاج المرصعة بالجواهر والشم، جمع شماء كحمر وحمراء، والعرانين: الأنوف، أى مرتفعات الأنوف كناية عن شرفهن وارتفاع قدرهن.
أو كناية عن كونهن كرائم حرائر، لأن انخفاض الأنف خاص بالعبيد والماء. وشبههن بالبيوت. وشبه الحياء بقوم يسكنونها على طريق المكنية والسكنى تخييل لذلك، وهو كناية ومبالغة في ملازمة الحياء لهن، لا يشعن: أى لا يظهرن التقافى، أى المتابعة بالقذف، من قفوته إذا أتبعته بالغيبة. وفي إشاعته: كناية عن نفيه، لأنها لازمة له، حيث أنه لا يكون إلا بين اثنين فأكثر.
(٥). يقال: حصنت المرأة بالضم حصانة، فهي حاصن وحصناء وحصان. والحواصن: جمع حاصن: أى عفت فهي عفيفة، يقول: لا أتهم البريء بشيء زور، بل بذنب محقق. والظاهر أن هذا في معنى الاستثناء المنقطع، لأن البريء ما دام بريئا لا ذنب له، ولا أتبع العفائف وأتكلم فيهن بفحش ما دمن عفائف إن قفاهن الناس، فتكلموا فيهن فكيف إذا لم يتكلم فيهن أحد؟.
وَالْعَيْشَ بَعْدَ أُولَئِكَ الأَيَّامِ «١»
وعَنْهُ في موضع الرفع بالفاعلية، أى: كل واحد منها كان مسئولا عنه، فمسئول: مسند إلى الجار والمجرور، كالمغضوب في قوله غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ يقال للإنسان: لم سمعت ما لم يحل لك سماعه، ولم نظرت إلى ما لم يحل لك النظر إليه، ولم عزمت على ما لم يحل لك العزم عليه؟ وقرئ وَالْفُؤادَ بفتح الفاء والواو، قلبت الهمزة واوا بعد الضمة في الفؤاد، ثم استصحب القلب مع الفتح.
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٣٧ الى ٣٨]
وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولاً (٣٧) كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً (٣٨)
مَرَحاً حال، أى: ذا مرح. وقرئ مَرَحاً وفضل الأخفش المصدر على اسم الفاعل لما فيه من التأكيد لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ لن تجعل فيها خرقا «٢» بدوسك لها وشدّة وطأتك.
لولا مراقبة العيون أريننا | مقل المها وسوالف الآرام |
هل ينهينك أن قتلن مرقشا | أو ما فعلن بعروة بن حزام |
ذم المنازل بعد منزلة اللوى | والعيش بعد أولئك الأيام |
والسالفة: مقدم العنق وصفحته. والآرام: جمع رئم بالكسر والهمز، وهو الغزال الأبيض، وأصله «أرآم» بهمز ممدود بعد الراء وزن أحمال، فقلب إلى ما قبلها. ويجوز أنه جمع ريم بالفتح وهو الغزال الأبيض، فهمز وقلب. وهل بمعنى قد. أو للتقرير. أى: أنه ينهاك عنهن مقتلهن مرقشا العاشق المشهور. أو فعلهن بعروة العاشق أيضا. وذم: فعل أمر، كأنه نذكر محبوبته في تلك الديار وتلك الأيام، فقال: ذم المنازل كلها حال كونها بعد، أى: غير منزلة اللوى. أو بعد مجاوزتك منزلة اللوى بلازم. واللوى: موضع بعينه من الرمل الملتوى، وذم الحياة كلها بعد حياتنا في تلك الأيام، أو ذم مدة الحياة كلها بعد تلك الأيام السابقة، وأشار لها بما للعقلاء لعظمتها عنده، ولأن تخصصه بالعقلاء طارئ في الاستعمال كما قيل ويجوز أن بعد ظرف المنازل والعيش وبعض النحاة جعل «ذم» مبنيا للمجهول، وما بعده مرفوع به على النيابة.
(٢). قال محمود: «معناه لن تجعل فيها خرقا... الخ» قال أحمد: وفي هذا التهكم والتقريع لمن يعتاد هذه المشية كفاية في الانزجار عنها، ولقد حفظ الله عوام زماننا عن هذه المشية، وتورط فيها قراؤنا وفقهاؤنا، بينا أحدهم قد عرف مسألتين أو أجلس بين يديه طالبين، أو شدا طرفا من رياسة الدنيا، إذ هو يتبختر في مشيه ويترجع، ولا يرى أنه يطاول الجبال، ولكن يحك بيافوخه عنان السماء، كأنهم يمرون عليها وهم عنها معرضون، وماذا يفيده أن يقرأ القرآن أو يقرأ عليه، وقلبه عن تدبره على مراحل، والله ولى التوفيق.
السيئة في حكم الأسماء بمنزلة الذنب والإثم زال عنه حكم الصفات، فلا اعتبار بتأنيثه. ولا فرق بين من قرأ سيئة وسيئا. ألا تراك تقول: الزنا سيئة، كما تقول: السرقة سيئة، فلا تفرق بين إسنادها إلى مذكر ومؤنث. فإن قلت: فما ذكر من الخصال بعضها سيئ وبعضها حسن، ولذلك قرأ من قرأ سَيِّئُهُ بالإضافة، فما وجه من قرأ سيئة؟ قلت: كل ذلك إحاطة بما نهى عنه خاصة لا بجميع الخصال المعدودة.
[سورة الإسراء (١٧) : آية ٣٩]
ذلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً (٣٩)
ذلِكَ إشارة إلى ما تقدم من قوله لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ إلى هذه الغاية. وسماه حكمة لأنه كلام محكم لا مدخل فيه للفساد بوجه. وعن ابن عباس: هذه الثماني عشرة آية كانت في ألواح موسى، أوّلها، لا تجعل مع الله إلها آخر، قال الله تعالى وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وهي عشر آيات في التوراة. ولقد جعل الله فاتحتها وخاتمتها النهى عن الشرك، لأن التوحيد هو رأس كل حكمة وملاكها، ومن عدمه لم تنفعه حكمه وعلومه وإن بذ فيها الحكماء «١» وحك بيافوخه السماء، وما أغنت عن الفلاسفة أسفار الحكم، وهم عن دين الله أضل من النعم.
[سورة الإسراء (١٧) : آية ٤٠]
أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً (٤٠)
أَفَأَصْفاكُمْ خطاب للذين قالوا «الملائكة بنات الله» والهمزة للإنكار. يعنى: أفخصكم ربكم على وجه الخلوص والصفاء بأفضل الأولاد وهم البنون، لم يجعل فيهم نصيباً لنفسه، واتخذ أدونهم وهي البنات؟ وهذا خلاف الحكمة وما عليه معقولكم وعادتكم، فإن العبيد لا يؤثرون بأجود الأشياء وأصفاها من الشوب، ويكون أردأها وأدونها للسادات إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيماً بإضافتكم إليه الأولاد وهي خاصة بالأجسام، ثم بأنكم تفضلون عليه أنفسكم حيث تجعلون له ما تكرهون، ثم بأن تجعلوا الملائكة وهم أعلى خلق الله وأشرفهم «٢» أدون
(٢). قوله «وهم أعلى خلق الله وأشرفهم» هذا على مذهب المعتزلة. أما عند أهل السنة فبعض البشر أفضل من الملاك. (ع)
[سورة الإسراء (١٧) : آية ٤١]
وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَما يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُوراً (٤١)
وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ يجوز أن يريد بهذا القرآن إبطال إضافتهم إلى الله البنات، لأنه مما صرفه وكرّر ذكره، والمعنى: ولقد صرفنا القول في هذا المعنى. أو أوقعنا التصريف فيه وجعلناه مكانا للتكرير. ويجوز أن يشير بهذا القرآن إلى التنزيل ويريد. ولقد صرفناه، يعنى هذا المعنى في مواضع من التنزيل، فترك الضمير لأنه معلوم. وقرئ: صرفنا بالتخفيف وكذلك لِيَذَّكَّرُوا قرئ مشدّدا ومخففاً، أى: كررناه ليتعظوا ويعتبروا ويطمئنوا إلى ما يحتج به عليهم وَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُوراً عن الحق وقلة طمأنينة إليه. وعن سفيان: كان إذا قرأها قال. زادني لك خضوعا ما زاد أعداءك نفورا.
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٤٢ الى ٤٣]
قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إِذاً لابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً (٤٢) سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً (٤٣)
قرئ: كما تقولون، بالتاء والياء. وإِذاً دالة على أن ما بعدها وهو لَابْتَغَوْا جواب عن مقالة المشركين وجزاء ل «لو». ومعنى لَابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا لطلبوا إلى من له الملك والربوبية سبيلا بالمغالبة، كما يفعل الملوك بعضهم مع بعض، كقوله لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا وقيل: لتقرّبوا إليه، كقوله أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ. عُلُوًّا في معنى تعاليا. والمراد البراءة عن ذلك والنزاهة. ومعنى وصف العلوّ بالكبر: المبالغة في معنى البراءة والبعد مما وصفوه به.
[سورة الإسراء (١٧) : آية ٤٤]
تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً (٤٤)
والمراد أنها تسبح له بلسان الحال «١»، حيث تدل على الصانع وعلى قدرته وحكمته، فكأنها
فالحمد لله الذي كان حليما غفورا.
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٤٥ الى ٤٨]
وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً (٤٥) وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً (٤٦) نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً (٤٧) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً (٤٨)
حِجاباً مَسْتُوراً ذا ستر كقولهم. سيل مفعهم ذو إفعام. وقيل: هو حجاب لا يرى فهو مستور. ويجوز أن يراد أنه حجاب من دونه حجاب أو حجب، فهو مستور بغيره. أو حجاب يستر أن يبصر، فكيف يبصر المحتجب به، وهذه حكاية لما كانوا يقولونه
أعلم وقت استماعهم بما به يستمعون وَإِذْ هُمْ نَجْوى وبما يتناجون به، إذ هم ذو ونجوى إِذْ يَقُولُ يدل من إذ هم مَسْحُوراً سحر فجنّ. وقيل: هو من السحر وهو الرئة، أى: هو يشر مثلكم ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ مثلوك بالشاعر والساحر والمجنون فَضَلُّوا في جميع ذلك ضلال من يطلب في التيه طريقا يسلكه فلا يقدر عليه، فهو متحير في أمره لا يدرى ما يصنع.
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٤٩ الى ٥١]
وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (٤٩) قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً (٥٠) أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتى هُوَ قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً (٥١)
لما قالوا: أئذا كنا عظاما قيل لهم كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً فردّ قوله: كونوا، على قولهم: كنا، كأنه قيل: كونوا حجارة أو حديدا ولا تكونوا عظاما، فإنه يقدر على إحيائكم والمعنى: أنكم تستبعدون أن يجدد الله خلقكم، ويردّه إلى حال الحياة وإلى رطوبة الحىّ وغضاضته بعد ما كنتم عظاما يابسة، مع أنّ العظام بعض أجزاء الحي، بل هي عمود خلقه الذي يبنى عليه سائره، فليس ببدع أن يردّها الله بقدرته إلى حالتها الأولى، ولكن لو كنتم أبعد شيء من الحياة ورطوبة الحىّ ومن جنس ما ركب منه البشر- وهو أن تكونوا حجارة يابسة أو حديدا مع أن طباعها الجسارة والصلابة- لكان قادرا على أن يردّكم إلى حال الحياة أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ يعنى أو خلقا مما يكبر عندكم عن قبول الحياة ويعظم في زعمكم على الخالق إحياؤه فإنه يحييه. وقيل: ما يكبر في صدورهم الموت. وقيل: السموات والأرض فَسَيُنْغِضُونَ
[سورة الإسراء (١٧) : آية ٥٢]
يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً (٥٢)
والدعاء والاستجابة كلامهما مجاز. والمعنى: يوم يبعثكم فتنبعثون مطاوعين منقادين لا تمتنعون. وقوله بِحَمْدِهِ حال منهم، أى حامدين، وهي مبالغة في انقيادهم للبعث، كقولك لمن تأمره بركوب ما يشقّ عليه فيتأبى ويتمنع، ستركبه وأنت حامد شاكر، يعنى: أنك تحمل عليه وتفسير قسرا حتى أنك تلين لين المسمح «١» الراغب فيه الحامد عليه، وعن سعيد بن جبير: ينفضون التراب عن رؤوسهم ويقولون: سبحانك اللهم وبحمدك وَتَظُنُّونَ وترون الهول، فعنده تستقصرون مدّة لبثكم في الدنيا، وتحسبونها يوما أو بعض يوم. وعن قتادة: تحاقرت الدنيا في أنفسهم حين عاينوا الآخرة.
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٥٣ الى ٥٤]
وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً (٥٣) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (٥٤)
وَقُلْ لِعِبادِي وقل للمؤمنين يَقُولُوا للمشركين الكلمة الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ وألين ولا يخاشنوهم، كقوله: وجادلهم بالتي هي أحسن. وفسر التي هي أحسن بقوله رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ يعنى يقولوا لهم هذه الكلمة ونحوها، ولا يقولوا لهم: إنكم من أهل النار وإنكم معذبون وما أشبه ذلك مما يغيظهم ويهيجهم على الشر. وقوله إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ اعتراض، يعنى يلقى بينهم الفساد ويغرى بعضهم على بعض ليقع بينهم المشارّة والمشاقة وَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا أى ربا موكولا إليك أمرهم تقسرهم على الإسلام وتجبرهم عليه، وإنما أرسلناك بشيرا ونذيرا فدارهم ومر أصحابك بالمداراة والاحتمال وترك المحاقة والمكاشفة، وذلك قبل نزول آية السيف. وقيل: نزلت في عمر رضى الله عنه: شتمه رجل فأمره الله بالعفو. وقيل: أفرط إيذاء المشركين للمسلمين، فشكوا إلى رسول الله ﷺ فنزلت. وقيل: الكلمة التي هي أحسن: أن يقولوا يهديكم الله، يرحمكم الله. وقرأ طلحة:
ينزغ، بالكسر وهما لغتان، نحو يعرشون ويعرشون.
[سورة الإسراء (١٧) : آية ٥٥]
وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (٥٥)
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٥٦ الى ٥٧]
قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً (٥٦) أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً (٥٧)
هم الملائكة. وقيل: عيسى ابن مريم، وعزير. وقيل نفر من الجن، عبدهم ناس من العرب ثم أسلم الجن ولم يشعروا، أى: ادعوهم فهم لا يستطيعون أن يكشفوا عنكم الضر من مرض أو فقر أو عذاب، ولا أن يحولوه من واحد إلى آخر أو يبدلوه. وأُولئِكَ مبتدأ، والَّذِينَ يَدْعُونَ صفته، ويَبْتَغُونَ خبره، يعنى: أن آلهتهم أولئك يبتغون الوسيلة وهي القربة إلى الله تعالى. وأَيُّهُمْ بدل من واو ببتغون، وأى موصولة، أى: يبتغى من هو أقرب منهم وأزلف الوسيلة إلى الله، فكيف بغير الأقرب. أو ضمن يبتغون الوسيلة معنى يحرصون، فكأنه قيل: يحرصون أيهم يكون أقرب إلى الله، وذلك بالطاعة وازدياد الخير والصلاح، ويرجون، ويخافون، كما غيرهم من عباد الله فكيف يزعمون أنهم آلهة؟ إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ حقيقا بأن يحذره كل أحد من ملك مقرّب ونبىّ مرسل، فضلا عن غيرهم.
[سورة الإسراء (١٧) : آية ٥٨]
وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوها قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوها عَذاباً شَدِيداً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً (٥٨)
الهلاك للصالحة، والعذاب للطالحة. وعن مقاتل: وجدت في كتب الضحاك بن مزاحم في تفسيرها: أما مكة فيخربها الحبشة، وتهلك المدينة بالجوع، والبصرة بالغرق، والكوفة بالترك، والجبال بالصواعق والرواجف. وأما خراسان فعذابها ضروب، ثم ذكرها بلدا بلدا فِي الْكِتابِ في اللوح المحفوظ.
[سورة الإسراء (١٧) : آية ٥٩]
وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلاَّ أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلاَّ تَخْوِيفاً (٥٩)
استعير المنع لترك إرسال الآيات من أجل صارف الحكمة. و «أن» الأولى منصوبة والثانية مرفوعة، تقديره: وما منعنا إرسال الآيات إلا تكذيب الأولين. والمراد: الآيات التي اقترحتها قريش من قلب الصفا ذهبا ومن إحياء الموتى وغير ذلك: وعادة الله في الأمم أن من اقترح منهم آية فأجيب إليها ثم لم يؤمن أن يعاجل بعذاب الاستئصال، فالمعنى: وما صرفنا عن إرسال ما يقترحونه من الآيات إلا أن كذب بها الذين هم أمثالهم من المطبوع على قلوبهم كعاد وثمود، وأنها لو أرسالات لكذبوا بها تكذيب أولئك وقالوا هذا سحر مبين كما يقولون في غيرها، واستوجبوا العذاب المستأصل. وقد عزمنا أن نؤخر أمر من بعثت إليهم إلى يوم القيامة. ثم ذكر من تلك الآيات- التي اقترحها الأولون ثم كذبوا بها لما أرسالات فأهلكوا- واحدة: وهي ناقة صالح، لأن آثار هلاكهم في بلاد العرب قريبة من حدودهم يبصرها صادرهم وواردهم مُبْصِرَةً بينة. وقرئ: مبصرة، بفتح الميم فَظَلَمُوا بِها فكفروا بها وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إن أراد بها الآيات المقترحة فالمعنى لا نرسلها إِلَّا تَخْوِيفاً من نزول العذاب العاجل كالطليعة والمقدّمة له، فإن لم يخافوا وقع عليهم وإن أراد غيرها فالمعنى: وما نرسل ما نرسل من الآيات كآيات القرآن وغيرها إلا تخويفا وإنذارا بعذاب الآخرة.
[سورة الإسراء (١٧) : آية ٦٠]
وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَما يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْياناً كَبِيراً (٦٠)
وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ واذكر إذ أوحينا إليك أن ربك أحاط بقريش، يعنى: بشرناك بوقعة بدر وبالنصرة عليهم. وذلك قوله سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ،
(٢). أخرجه مسلم من حديث أنس قال قال رسول الله ﷺ «هذا مصرع فلان ويضع يده على الأرض هاهنا. قال: فما ماط أحد عن موضع يده،
(٣). قال محمود: «افتتانهم بالشجرة أنهم حين سمعوا بقوله، إن شجرة الزقوم... الخ» قال أحمد: والعمدة في ذلك أن النار لا تؤثر إحراقا في شيء، ولكن الله تعالى أجرى العادة أنه يخلق الحرق عند ملاقاة جسم النار لبعض الأجسام، فإذا كان ذلك من فعل الله لا من فعل النار فلله تعالى أن لا يفعل الحرق في الشجرة التي في أصل الجحيم.
(٤). قوله «فما أنكروا أن يخلق» عبارة النسفي: فجاز أن يخلق. (ع)
(٥). عاد كلامه. قال: «وأما الرؤيا فقيل الاسراء، وتعلق من جعله مناما بهذه الآية. وقيل: إنما سماها رؤيا على زعم المكذبين... الخ» قال أحمد: ويبعد ذلك قوله تعالى طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ وقوله فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها والله أعلم.
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٦١ الى ٦٥]
وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ قالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً (٦١) قالَ أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً (٦٢) قالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً (٦٣) وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاَّ غُرُوراً (٦٤) إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلاً (٦٥)
طِيناً حال إما من الموصول والعامل فيه أسجد، على: أأسجد له وهو طين، أى أصله طين.
امض لشأنك الذي اخترته خذلانا وتخلية، وعقبه بذكر ما جرّه سوء اختياره في قوله فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ كما قال موسى عليه السلام للسامري فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ. فإن قلت: أما كان من حق الضمير في الجزاء أن يكون على لفظ الغيبة ليرجع إلى من تبعك؟ قلت: بلى، ولكن التقدير: فإنّ جهنم جزاؤهم وجزاؤك، ثم غلب المخاطب على الغائب فقيل: جزاؤكم. ويجوز أن يكون للتابعين على طريق الالتفات، وانتصب جَزاءً مَوْفُوراً بما في فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ من معنى تجازون. أو بإضمار تجازون. أو على الحال، لأنّ الجزاء موصوف بالموفور، والموفور الموفر. يقال: فر لصاحبك عرضه فرة.
استفزّه: استخفه. والفز: الخفيف وَأَجْلِبْ من الجلبة وهي الصياح «١». والخيل: الخيالة.
ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: «يا خيل الله اركبي» «٢». والرجل اسم جمع للراجل. ونظيره:
(٢). أخرجه أبو الشيخ في الناسخ والمنسوخ من طريق أبى حمزة السكرى عن عبد الكريم: حدثني سعيد بن جير عن قصة المحاربين قال «كان ناس أتوا النبي صلى الله عليه وسلم. فقالوا: نبايعك على الإسلام- وذكر القصة وفيها فأمر النبي ﷺ فنودي في الناس: يا حيل الله اركبي: فركبوا لا ينتظر فارس فارسا. روى ابن عائد في المغازي عن الوليد بن مسلم عن سعيد بن بشير عن قتادة قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم- يعنى يوم قريظة يوم الأحزاب مناديا ينادى: يا خيل الله اركبي» وعزا السهيلي في الروض في غزوة حنين هذه اللفظة في صحيح مسلم. فينظر فيه. وقال أبو داود في السنن: باب النداء عند النفير: يا خيل الله اركبي وساق في الباب حديث سمرة بن جندب «أن النبي ﷺ سمى خيلنا خيل الله» قلت أشكل هذا على المخرج فقال: فيه نظر لمن تأمله. فكأنه لم يتجه له مطابقة الحديث للترجمة. وهو ظاهرها لأن المراد صحة هذه الاضافة. وقد وردت عن على وخالد بن الوليد. ففي المستدرك للحاكم في قصة أويس من حديث أبى نضرة عن أسيد بن جابر فذكر القصة. فقال في آخرها فنادى على: يا خيل الله اركبي» وفي الردة للواقدي من رواية عاصم بن عمر عن محمود بن لبيد أن خالد بن الوليد قال لأصحابه يوم اليمامة «يا خيل الله اركبي فركبوا وساروا إلى بنى حنيفة.
يقال: رجل رجل. وقرئ: ورجالك ورجالك. فإن قلت: ما معنى استفزاز إبليس بصوته وإجلابه بخيله ورجله؟ قلت: هو كلام ورد مورد التمثيل، مثلت حاله في تسلطه على من يغويه بمغوار أوقع على قوم فصوّت بهم صوتا يستفزهم من أماكنهم ويقلقهم عن مراكزهم، وأجلب عليهم بجنده من خيالة ورجالة حتى استأصلهم. وقيل: بصوته، بدعائه إلى الشر. وخيله ورجله:
كلّ راكب وماش من أهل العيث «٢». وقيل: يجوز أن يكون لإبليس خيل ورجال. وأما المشاركة في الأموال والأولاد فكل معصية يحملهم عليها في بابهما، كالربا والمكاسب المحرّمة، والبحيرة والسائبة، والإنفاق في الفسوق، والإسراف، ومنع الزكاة، والتوصل إلى الأولاد بالسبب الحرام، ودعوى ولد بغير سبب، والتسمية بعبد العزى وعبد الحرث، والتهويد والتنصير، والحمل على الحرف الذميمة والأعمال المحظورة، وغير ذلك وَعِدْهُمْ المواعيد الكاذبة «٣»، من شفاعة الآلهة والكرامة على الله بالأنساب الشريفة، وتسويف التوبة ومغفرة الذنوب بدونها، والاتكال على الرحمة، وشفاعة الرسول في الكبائر والخروج من النار بعد أن يصيروا حمما «٤»، وإيثار العاجل على الآجل إِنَّ عِبادِي يريد الصالحين لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ أى لا تقدر أن تغويهم وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلًا لهم يتوكلون به في الاستعاذة منك، ونحوه قوله إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ فإن قلت: كيف جاز أن يأمر الله إبليس بأن يتسلط على عباده مغويا مضلا، داعيا إلى الشر، صادّا عن الخير؟ قلت: هو من الأوامر الواردة على سبيل الخذلان والتخلية، كما قال للعصاة: اعملوا ما شئتم.
(٢). قوله «العيث» في الصحاح «العيث» الإفساد. (ع)
(٣). قال محمود: «المراد وعدهم المواعيد الكاذبة... الخ» قال أحمد: وهذا من تجرى المصنف على السنة ومتبعيها، فانه جعل المغفرة المقرونة بالمشيئة وإن لم تكن توبة للمؤمنين من مواعيد الشيطان، مع العلم بأنها ثابتة بقواطع القرآن وعدا من الرحمن، وكذلك الشفاعة المتفق عليها بين أهل السنة والجماعة التي وعد بها الصادق المصدوق، وميزه الله تعالى بها على كل مخلوق، من مواعيد الشيطان الباطلة وأمانيه الماحلة. اللهم ارزقنا الشفاعة، واحشرنا في زمرة السنة والجماعة.
(٤). قوله «بعد أن يصيروا حمما» في الصحاح: الحمم: الرماد والفحم: الواحدة حممة، ثم ما أفاده من توقف المغفرة على التوبة وعدم الشفاعة في الكبائر، وعدم خروج أهلها من النار بعد احتراقهم هو مذهب المعتزلة. وأهل السنة على خلاف ذلك، كما تقرر في علم التوحيد. (ع)
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٦٦ الى ٦٧]
رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (٦٦) وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً (٦٧)يُزْجِي يجرى ويسبر. والضرّ: خوف الغرق ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ ذهب عن أوهامكم وخواطركم كلّ من تدعونه في حوادثكم إلا إياه وحده، فإنكم لا تذكرون سواه، ولا تدعونه في ذلك الوقت ولا تعقدون برحمته رجاءكم، ولا تخطرون ببالكم أنّ غيره يقدر على إغاثتكم، أو لم يهتد لإنقاذكم أحد غيره من سائر المدعوّين. ويجوز أن يراد: ضلّ من تدعون من الآلهة عن إغاثتكم، ولكنّ الله وحده هو الذي ترجونه وحده «١» على الاستثناء المنقطع.
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٦٨ الى ٦٩]
أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً (٦٨) أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تارَةً أُخْرى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قاصِفاً مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِما كَفَرْتُمْ ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعاً (٦٩)
أَفَأَمِنْتُمْ الهمزة للإنكار، والفاء للعطف على محذوف تقديره: أنجوتم فأمنتم، فحملكم ذلك على الإعراض. فإن قلت: بم انتصب جانِبَ الْبَرِّ؟ قلت: بيخسف مفعولا به، كالأرض في قوله فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ. وبِكُمْ حال. والمعنى: أن يخسف جانب البر، أى يقلبه وأنتم عليه. فإن قلت. فما معنى ذكر الجانب؟ قلت: معناه أنّ الجوانب والجهات كلها في قدرته سواء، وله في كل جانب برا كان أو بحرا سبب مرصد من أسباب الهلكة، ليس جانب البحر وحده مختصا بذلك، بل إن كان الغرق في جانب البحر، ففي جانب البر ما هو مثله وهو الخسف، لأنه تغييب تحت التراب كما أنّ الغرق تغييب تحت الماء، فالبرّ والبحر عنده سيان يقدر في البر على نحو ما يقدر عليه في البحر، فعلى العاقل أن يستوي خوفه من الله في جميع الجوانب وحيث كان أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً وهي الريح التي تحصب أى ترمى بالحصباء، يعنى: أو إن لم يصبكم بالهلاك من تحتكم بالخسف، أصابكم به من فوقكم بريح يرسلها عليكم فيها الحصباء يرجمكم بها، فيكون أشدّ عليكم من الغرق في البحر وَكِيلًا من يتوكل بصرف ذلك عنكم أَمْ أَمِنْتُمْ أن يقوّى دواعيكم ويوفر حوائجكم إلى أن ترجعوا
قرئت بالياء والنون. التبيع: المطالب، من قوله فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ أى مطالبة. قال الشماخ:
كَمَا لَاذَ الْغَرِيمُ مِنَ التَّبِيعِ «١»
يقال: فلان على فلان تبيع بحقه، أى مصيطر عليه مطالب له بحقه. والمعنى: أنا نفعل ما نفعل بهم، ثم لا تجد أحدا يطالبنا بما فعلنا انتصارا منا ودركا للثأر من جهتنا. وهذا نحو قوله وَلا يَخافُ عُقْباها. بِما كَفَرْتُمْ بكفرانكم النعمة، يريد: إعراضهم حين نجاهم.
[سورة الإسراء (١٧) : آية ٧٠]
وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً (٧٠)
قيل في تكرمة ابن آدم: كرّمه الله بالعقل، والنطق، والتمييز، والخط، والصورة الحسنة والقامة المعتدلة، وتدبير أمر المعاش والمعاد. وقيل بتسليطهم على ما في الأرض وتسخيره لهم.
وقيل: كل شيء يأكل بفيه إلا ابن آدم. وعن الرشيد: أنه أحضر طعاما فدعا بالملاعق وعنده أبو يوسف، فقال له: جاء في تفسير جدك ابن عباس قوله تعالى وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ جعلنا لهم أصابع يأكلون بها، فأحضرت الملاعق فردّها وأكل بأصابعه عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا هو ما سوى الملائكة، «٢» وحسب بنى آدم تفضيلا أن ترفع عليهم الملائكة وهم هم
هو الكشوث فلا أصل ولا ورق | ولا نسيم ولا ظل ولا ثمر (ع) |
يلوذ ثعالب الشرقين منها | كما لاذ الغريم من التبيع |
(٢). قال محمود: «المراد فضلناهم على ما سوى الملائكة... الخ» قال أحمد: وقد بلغ إلى حد من السفه يوجب الحد، ولسنا لمساجلته إلا من حيث العلم، لا من حيث السفه. والقدر الذي تختص به هذه الآية أن حمل كثير على الجميع غير مستبعد ولا مستنكر. ألا ترى أنه ورد حمل القليل على العدم. والزمخشري يختار ذلك في قوله تعالى فَقَلِيلًا ما يُؤْمِنُونَ وأشباهه كثير. وقد لمح الشاعر ذلك في قوله.
قليل بها الأصوات إلا بغامها
أى لا أصوات بها، ولنا أن نبقيه على ما هو عليه، ونقول: إن المخلوق قسمان: بنو آدم أحدهما وغيرهم من جميع المخلوقين القسم الآخر، ولا شك أن غيرهم أكثر منهم وإن لم يكونوا أكثر منهم كثيرا، فمعنى قوله وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا أى على غيرهم من جميع المخلوقين، وتلك الأغيار كثير بلا مراء، وذلك مرادف لقولك: وفضلناهم على جميع من عداهم ممن خلقنا، فظاهر الآية إذا مع الأشعرية الذين سماهم مجبرة، وتمشدق في سبهم وشقشق العبارات في ثلهم، وما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد، والله ولى التوفيق والتسديد. [.....]
ويدل لمذهبهم إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ وأما الذين كفروا فهم شر البرية، ودعوى العكس من فرط التعصب للمعتزلة. (ع)
(٢). قوله «قالت الملائكة ربنا إنك أعطيت بنى آدم الدنيا» صدره كما في الخازن: لما خلق الله آدم وذريته قالت الملائكة، وقوله «خلقت بيدي» في الخازن: ونفخت فيه من روحي. (ع)
(٣). أخرجه الطبراني في الأوسط من طريق محمد بن ماهان حدثنا طلحة بن زيد عن صفوان بن سليم عن عطاء بن يسار عن عبد الله بن عمر عن النبي ﷺ قال «إن الملائكة قالت رب أعطيت بنى آدم الدنيا يأكلون فيها ويشربون ويلبسون: ونحن نسبح بحمدك لا نأكل ولا نشرب ولا نلهو. فكما جعلت لهم الدنيا فاجعل لنا الآخرة. قال: لا أجعل ذرية من خلقت بيدي كمن قلت له. كن فكان» قال: لم يروه عن صفوان إلا طلحة وأبو غسان تفرد به طلحة محمد بن ماهان. وعن أبى غسان حجاج الأعور أخرج طريق حجاج في المعجم الكبير ورجاله ثقات. وله شاهد عند عبد الرزاق في تفسيره عن معمر عن زيد بن أسلم قال قالت الملائكة فذكر نحوه موقوفا عليه. وقال الدارقطني في العلل: روى عبد المجيد بن أبى داود عن معمر عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن ابن عمر. فذكر نحوه قال: ورواه شريح بن يونس عن عبد المجيد موقوفا. وهو أصح. وله شاهد آخر أخرجه الطبراني في مسند الشاميين والبيهقي في الأسماء والصفات من رواية عبد ربه بن صالح عن عروة بن رويح أنه سمعه يحدث عن جابر قال قال رسول الله ﷺ «لما خلق الله آدم وذريته قالت الملائكة يا رب خلقتهم يأكلون ويشربون وينكحون ويركبون فاجعل لهم الدنيا ولنا الآخرة. فقال تعالى لا أجعل من خلقت بيدي كمن قلت له: كن فكان» ومنها ما رواه عن أبى هريرة رضى الله عنه أنه قال «لمؤمن أكرم على الله من الملائكة الذين عنده» البيهقي في الشعب من رواية حماد بن سلمة عن أبى المهزم عن أبى هريرة موقوفا. وأخرجه ابن ماجة من هذه الطريق موقوفا. وأبو المهزم متروك: وله شاهد أخرجه الطبراني والبيهقي في الشعب من رواية عبيد الله بن عمر رضى الله عنهما قال قال رسول الله ﷺ «ما شيء أكرم على الله يوم القيامة من بنى آدم. قيل:
ولا الملائكة. قال: ولا الملائكة. الملائكة مجبورون كالشمس والقمر» قال البيهقي: تفرد به عبيد الله بن تمام يروى أحاديث معاوية وهو ضعيف.
(٤). قوله «قال لمؤمن أكرم على من الملائكة» في الخازن: المؤمن. (ع)
[سورة الإسراء (١٧) : آية ٧١]
يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (٧١)
قرئ: يدعو، بالياء والنون. ويدعى كل أناس، على البناء للمفعول. وقرأ الحسن: يدعوا كل أناس، على قلب الألف واوا في لغة من يقول: افعوا. والظرف نصب بإضمار اذكر.
ويجوز أن يقال: إنها علامة الجمع، كما في وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا والرفع مقدّر كما في:
يدعى، ولم يؤت بالنون، قلة مبالاة بها، لأنها غير ضمير، ليست إلا علامة بِإِمامِهِمْ بمن ائتموا به من نبىّ أو مقدّم في الدين، أو كتاب، أو دين «٢»، فيقال: يا أتباع فلان، يا أهل دين كذا وكتاب كذا. وقيل: بكتاب أعمالهم، فيقال: يا أصحاب كتاب الخير، ويا أصحاب كتاب الشرّ. وفي قراءة الحسن: بكتابهم. ومن بدع التفاسير: أن الإمام جمع أمّ، وأن الناس يدعون يوم القيامة بأمهاتهم، وأن الحكمة في الدعاء بالأمهات دون الاباء رعاية حق عيسى عليه السلام، وإظهار شرف الحسن والحسين، وأن لا يفتضح أولاد الزنا. وليت شعري أيهما أبدع؟ أصحة لفظه أم بهاء حكمته؟ فَمَنْ أُوتِيَ من هؤلاء المدعوّين كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ قيل أولئك، لأن من أوتى في معنى الجمع.
فإن قلت: لم خص أصحاب اليمين بقراءة كتابهم؟ كأن أصحاب الشمال لا يقرؤن كتابهم. قلت:
بلى، ولكن إذا اطلعوا على ما في كتابهم، أخذهم ما يأخذ المطالب بالنداء على جناياته، والاعتراف بمساويه، أما التنكيل به والانتقام منه، من الحياء والخجل والانخزال، وحبسة اللسان، والتتعتع، والعجز عن إقامة حروف الكلام، والذهاب عن تسوية القول، فكأن قراءتهم كلا قراءة. وأما أصحاب اليمين فأمرهم على عكس ذلك، لا جرم أنهم يقرؤن كتابهم أحسن قراءة وأبينها، ولا يقنعون بقراءتهم وحدهم حتى يقول القارئ لأهل المحشر: هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ
(٢). قال محمود: «بإمامهم معناه بمن ائتموا به من نبى أو كتاب أو دين... الخ» قال أحمد: ولقد استبدع بدعا لفظا ومعنى، فان جمع الأم المعروف أمهات، أما رعاية عيسى عليه السلام بذكر أمهات الخلائق ليذكر بأمه، فيستدعى أن خلق عيسى من غير أب غميزة في منصبه، وذلك عكس الحقيقة، فان خلقه من غير أب كان آية له، وشرفا في حقه، والله أعلم.
[سورة الإسراء (١٧) : آية ٧٢]
وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلاً (٧٢)
معناه: ومن كان في الدنيا أعمى، فهو في الآخرة أعمى كذلك وَأَضَلُّ سَبِيلًا من الأعمى. والأعمى مستعار ممن لا يدرك المبصرات لفساد حاسته، لمن لا يهتدى إلى طريق النجاة: أما في الدنيا فلفقد النظر. وأما في الآخرة، فلأنه لا ينفعه الاهتداء إليه، وقد جوزوا أن يكون الثاني بمعنى التفضيل «١». ومن ثم قرأ أبو عمرو الأوّل مما لا، والثاني مفخما «٢»، لأن أفعل التفضيل تمامه بمن، فكانت ألفه في حكم الواقعة في وسط الكلام «٣»، كقولك: أعمالكم وأما الأوّل فلم يتعلق به شيء، فكانت ألفه واقعة في الطرف معرضة للإمالة.
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٧٣ الى ٧٥]
وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَإِذاً لاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً (٧٣) وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً (٧٤) إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً (٧٥)
روى أنّ ثقيفا قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: لا ندخل في أمرك حتى تعطينا خصالا نفتخر بها على العرب: لا نعشر، ولا نحشر، ولا نجبى «٤» في صلاتنا، وكل ربا لنا فهو لنا، وكل ربا علينا فهو موضوع عنا، وأن تمتعنا باللات سنة، ولا نكسرها بأيدينا عند رأس الحول، وأن تمنع من قصد وادينا وجّ فعضد شجره، فإذا سألتك العرب: لم فعلت ذلك؟ فقل: إن الله أمرنى
(٢). عاد كلامه. قال: «ومن ثم أمال أبو عمرو الأولى وفخم الثانية... الخ» قال أحمد: يحتمل أن تكون هذه الآية قسيمة الأولى، أى: فمن أوتى كتابه بيمينه فهو الذي يبصره ويقرؤه، ومن كان في الدنيا أعمى غير مبصر في نفسه ولا ناظر في معاده، فهو في الآخرة كذلك غير مبصر في كتابه، بل أعمى عنه أو أشد عمى مما كان في الدنيا على اختلاف التأويلين، والله أعلم.
(٣). قوله «الواقعة في وسط الكلام» لعله الكلمة، كعبارة النسفي. (ع)
(٤). قوله «لا نعشر ولا نحشر ولا نجبى» في الصحاح «التجبية» أن يقوم الإنسان قيام الراكع. وقال أبو عبيدة: تكون في حالين، أحدهما: أن يضع يديه على ركبتيه، والآخر ينكب على وجهه باركا وهو السجود، وفيه «وجّ» بلد الطائف: وفيه أيضا: عضدت الشجر، أى قطعته. (ع)
لا يعشرون ولا يحشرون، فقالوا: ولا يجبون. فسكت رسول الله ﷺ ثم قالوا للكاتب: اكتب: ولا يجبون، والكاتب ينظر إلى رسول الله، فقام عمر بن الخطاب رضى الله عنه فسل سيفه وقال: أسعرتم قلب نبينا يا معشر ثقيف أسعر الله قلوبكم نارا، فقالوا: لسنا نكلم إياك، إنما نكلم محمدا «١». فنزلت. وروى أنّ قريشا قالوا له: اجعل آية رحمة آية عذاب، وآية عذاب آية رحمة، حتى نؤمن بك. فنزلت وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ إن مخففة من الثقيلة، واللام هي الفارقة بينها وبين النافية. والمعنى: أن الشأن قاربوا أن يفتنوك أى يخدعوك فاتنين عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ من أوامرنا ونواهينا ووعدنا ووعيدنا لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا لتقول علينا ما لم نقل، يعنى ما أرادوه عليه من تبديل الوعد وعيدا والوعيد وعدا، وما اقترحته ثقيف من أن يضيف إلى الله ما لم ينزله عليه وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ أى ولو اتبعت مرادهم لاتخذوك خَلِيلًا ولكنت لهم وليا وخرجت من ولايتى وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ ولولا تثبيتنا لك وعصمتنا لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ لقاربت أن تميل إلى خدعهم ومكرهم، وهذا تهييج من الله له وفضل تثبيت، وفي ذلك لطف للمؤمنين إِذاً لو قاربت تركن اليهم أدنى ركنة لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ أي لأذقناك عذاب الآخرة وعذاب القبر مضاعفين. فإن قلت: كيف حقيقة هذا الكلام؟ قلت: أصله لأذقناك عذاب الحياة وعذاب الممات، لأن العذاب عذابان: عذاب في الممات وهو عذاب القبر، وعذاب في حياة الآخرة وهو عذاب النار. والضعف يوصف به، نحو قوله فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ بمعنى مضاعفا، فكان أصل الكلام: لأذقناك عذابا ضعفا في الحياة، وعذابا ضعفا في الممات «٢». ثم حذف الموصوف
(٢). قال محمود: «المراد ضعف عذاب الحياة وضعف عذاب الممات... الخ» قال أحمد: أما تقليل الكيدودة فالذي ينبغي أن يحمل عليه كونه الواقع في علم الله تعالى، لأن الله عز وجل يعلم ما لم يكن لو كان كيف كان يكون، فعلم تعالى أن الركون الذي كاد يحصل منه عليه السلام وإن كان ما حصل أمر قليل وخطب يسير، فذلك إخبار من الله تعالى عن الواقع في علمه تقديرا، فلا يليق أن يحمل على المبالغة والتنبيه. فان ذلك لا يكون في الاخبار.
ألا ترى أنه لو كان الواقع كيدودة ركون كثير، لكان تقليله خلفا في الخبر، ولا ينكر أن الذنب يعظم بحسب فاعله على ما ورد: حسنات الأبرار سيئات المقربين. وأما نقل الزمخشري عن مشايخه استعظام نسبة الفواحش والقبائح إلى الله عز وجل، فلقد استعظموا عظيما حق على كل مسلم أن يستفظعه، ولكنهم جهلوا باعتقاد القبح وصفا ذاتيا للقبيح، فلزمهم على ذلك أن كل فعل استقبح من العبد استقبح من الله تعالى، وهم غالطون في ذلك، فمعنى كون الفعل قبحا أن الله تعالى نهى عنه عبده، وإن كان لله تعالى أن يفعله، وهو حسن بالنسبة إليه لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ ألا ترى أن الملك يصح منه أن يستقبح من عبده أن يجلس على كرسي الملك، ونهاه عن ذلك، ولا يستقبح ذلك من نفسه، بل هو منه حسن جميل. ولقد كان لمشايخه شغل باستعظام ما لزمهم من الاشراك، عن استعظام غيره مما هو توحيد محض وإيمان صرف، ولكنهم زين لهم سوء اعتقادهم فرأوه حسنا، والله الموفق.
عذاب الحياة الدنيا، وبضعف الممات: ما يعقب الموت من عذاب القبر وعذاب النار. والمعنى:
لضاعفنا لك العذاب المعجل للعصاة في الحياة الدنيا، وما نؤخره لما بعد الموت. وفي ذكر الكيدودة وتقليلها، مع إتباعها الوعيد الشديد بالعذاب المضاعف في الدارين- دليل بين على أن القبيح يعظم قبحه بمقدار عظم شأن فاعله وارتفاع منزلته، ومن ثم استعظم مشايخ العدل والتوحيد «١» رضوان الله عليهم نسبة المجبرة القبائح إلى الله- تعالى عن ذلك علوا كبيرا- وفيه دليل على أن أدنى مداهنة للغواة مضادة لله وخروج عن ولايته، وسبب موجب لغضبه ونكاله.
فعلى المؤمن إذا تلا هذه الآية أن يجثو عندها ويتدبرها، فهي جديرة بالتدبر، وبأن يستشعر الناظر فيها الخشية وازدياد التصلب في دين الله. وعن النبي ﷺ أنها لما نزلت كان يقول: «اللهم لا تكلني إلى نفسي طرفة عين» «٢»
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٧٦ الى ٧٧]
وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً (٧٦) سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلاً (٧٧)
وَإِنْ كادُوا وإن كاد أهل مكة لَيَسْتَفِزُّونَكَ ليزعجونك بعداوتهم ومكرهم مِنَ الْأَرْضِ من أرض مكة وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ لا يبقون بعد إخراجك إِلَّا زمانا قَلِيلًا فإن الله مهلكهم وكان كما قال، فقد أهلكوا ببدر بعد إخراجه بقليل. وقيل: معناه ولو أخرجوك لاستؤصلوا عن بكرة أبيهم. ولم يخرجوه، بل هاجر بأمر ربه. وقيل: من أرض العرب. وقيل: من أرض المدينة، وذلك أن رسول الله ﷺ لما هاجر حسدته اليهود وكرهوا قربه منهم، فاجتمعوا إليه وقالوا: يا أبا القاسم، إن الأنبياء إنما بعثوا بالشام وهي بلاد مقدّسة وكانت مهاجر إبراهيم، فلو خرجت إلى الشام لآمنا بك واتبعناك، وقد علمنا أنه لا يمنعك من الخروج إلا خوف الروم، فإن كنت رسول الله فالله مانعك منهم، فعسكر رسول الله ﷺ على أميال من المدينة وقيل بذي الحليفة، حتى يجتمع إليه
(٢). لم أجده، وذكره الثعلبي عن قتادة مرسلا [.....]
ما وجه القراءتين؟ قلت: أما الشائعة فقد عطف فيها الفعل على الفعل، وهو مرفوع لوقوعه خبر كاد، والفعل في خبر كاد واقع موقع الاسم. وأما قراءة أبىّ ففيها الجملة برأسها التي هي إذا لا يلبثوا، عطف على جملة قوله وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ. وقرئ: خلافك «٢». قال:
عفت الدّيار خلافهم فكأنّما | بسط الشّواطب بينهنّ حصيرا «٣» |
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٧٨ الى ٧٩]
أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً (٧٨) وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً (٧٩)
دلكت الشمس: غربت. وقيل: زالت. وروى عن النبي ﷺ «٤» : أتانى جبريل عليه السلام لدلوك الشمس حين زالت الشمس، فصلى بى الظهر. واشتقاقه من الدلك، لأن الإنسان يدلك عينه عند النظر إليها، فإن كان الدلوك الزوال فالآية جامعة للصلوات الخمس، وإن كان الغروب فقد خرجت منها الظهر والعصر. والغسق: الظلمة، وهو وقت صلاة العشاء وَقُرْآنَ الْفَجْرِ صلاة الفجر، سميت قرآنا وهو القراءة، لأنها ركن، كما سميت ركوعا وسجودا
(٢). قوله «وقرئ خلافك» كانت القراءة التي سبق تفسيرها: خلفك. (ع)
(٣). عفت: درست وهلكت، خلافهم: أى بعدهم. والشواطب: النساء يشققن شطب النخل: أى سعفه الأخضر، يعملنه حصيرا: بصف ديارهم بعدهم بدروسها وكثرة قمامتها لعدم كنسها.
(٤). أخرجه البيهقي من طريق أيوب بن عتبة عن أبى بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن عروة عن ابن مسعود قال «جاء جبريل إلى النبي ﷺ حين دلكت الشمس- يعنى حين زالت- فقال: قم فصل: فقام فصلى الظهر» قال إسحاق في مسنده: حدثنا بشر بن عمر حدثنا سليمان بن بلال حدثنا يحيى بن سعيد حدثني أبو بكر بن حزم عن ابن مسعود قال جاء جبريل إلى النبي ﷺ فقال له: قم فصل. وذلك لدلوك الشمس حين مالت. فقام فصلى الظهر أربعا ومن هذا الوجه أخرجه ابن مردويه. وهذا منقطع.
تسأل فتعطى، وتشفع فتشفع، ليس أحد إلا تحت لوائك. وعن أبى هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: هو المقام الذي أشفع فيه لأمّتى «١». وعن حذيفة يجمع الناس في صعيد واحد، فلا تتكلم نفس، فأوّل مدعوّ محمد ﷺ فيقول: «لبيك وسعديك والشرّ ليس إليك، والمهدىّ من هديت، وعبدك بين يديك وبك وإليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك، تباركت وتعاليت، سبحانك رب البيت» قال: فهذا قوله عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً «٢».
(٢). أخرجه النسائي والحاكم وابن أبى شيبة والطبري وأبو يعلى والبزار وأبو نعيم في ترجمة حذيفة في الحلية كلهم من طريق شعبة وإسرائيل كلاهما عن أبى إسحاق سمعت عتبة بن زفر يقول سمعت حذيفة يقول «يجمع الناس» فذكره.
[سورة الإسراء (١٧) : آية ٨٠]
وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً (٨٠)قرئ: مدخل ومخرج بالضم والفتح: بمعنى المصدر. ومعنى الفتح: أدخلنى فأدخل مدخل صدق، أى: أدخلنى القبر مدخل صدق: إدخالا مرضيا على طهارة وطيب من السيئات، وأخرجنى منه عند البعث إخراجا مرضيا، ملقى بالكرامة، آمنا من السخط، يدل عليه ذكره على أثر ذكر البعث.
وقيل: نزلت حين أمر بالهجرة، يريد إدخال المدينة والإخراج من مكة. وقيل: إدخاله مكة ظاهرا عليها بالفتح، وإخراجه منها آمنا من المشركين. وقيل: إدخاله الغار وإخراجه منه سالما. وقيل إدخاله فيما حمله من عظيم الأمر- وهو النبوّة- وإخراجه منه مؤديا لما كلفه من غير تفريط. وقيل: الطاعة. وقيل: هو عام في كل ما يدخل فيه ويلابسه من أمر ومكان سُلْطاناً حجة تنصرني على من خالفني، أو ملكا وعزا قويا ناصرا للإسلام على الكفر مظهرا له عليه، فأجيبت دعوته بقوله وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ، فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ، لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ، لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ ووعده لينزعنّ ملك فارس والروم، فيجعله له. وعنه صلى الله عليه وسلم: أنه استعمل عتاب بن أسيد على أهل مكة وقال «انطلق فقد استعملتك على أهل الله» فكان شديدا على المريب، لينا على المؤمن وقال: لا والله لا أعلم متخلفا يتخلف عن الصلاة في جماعة إلا ضربت عنقه، فإنه لا يتخلف عن الصلاة إلا منافق. فقال أهل مكة: يا رسول الله، لقد استعملت على أهل الله عتاب بن أسيد أعرابيا جافياً، فقال صلى الله عليه وسلم: «إنى رأيت فيما يرى النائم كأنّ عتاب بن أسيد أتى باب الجنة، فأخذ بحلقة الباب «١» فقلقلها قلقالا شديدا حتى فتح له فدخلها، فأعز الله به الإسلام لنصرته المسلمين على من يريد ظلمهم، فذلك السلطان النصير».
[سورة الإسراء (١٧) : آية ٨١]
وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً (٨١)
كان حول البيت ثلاثمائة وستون صنما صنم كل قوم بحيالهم. وعن ابن عباس رضى الله عنهما: كانت لقبائل العرب يحجون إليها وينحرون لها، فشكا البيت إلى الله عز وجل فقال:
أى رب، حتى متى تعبد هذه الأصنام حولي دونك، فأوحى الله إلى البيت: إنى سأحدث لك
ما رأينا رجلا أسحر من محمد «٢» صلى الله عليه وسلم. وشكاية البيت والوحى إليه: تمثيل وتخييل وَزَهَقَ الْباطِلُ ذهب وهلك، من قولهم: زهقت نفسه، إذا خرجت. والحق: الإسلام.
والباطل: الشرك كانَ زَهُوقاً كان مضمحلا غير ثابت في كل وقت.
[سورة الإسراء (١٧) : آية ٨٢]
وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَساراً (٨٢)
وَنُنَزِّلُ قرئ بالتخفيف والتشديد مِنَ الْقُرْآنِ من للتبيين، كقوله: من الأوثان.
أو للتبعيض، أى: كل شيء نزل من القرآن فهو شفاء للمؤمنين، يزدادون به إيمانا، ويستصلحون به دينهم، فموقعه منهم موقع الشفاء من المرضى. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «من لم يستشف بالقرآن فلا شفاه الله «٣» » ولا يزداد به الكافرون إِلَّا خَساراً أى نقصانا لتكذيبهم به وكفرهم، كقوله تعالى: فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ.
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٨٣ الى ٨٤]
وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ كانَ يَؤُساً (٨٣) قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلاً (٨٤)
وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ بالصحة والسعة أَعْرَضَ عن ذكر الله، كأنه مستغن عنه
(٢). قال: لم أجده. وروى النسائي والحاكم من طريق ابن أبى مريم عن على. قال «انطلقت مع النبي ﷺ حتى أتينا الكعبة فقال لي اجلس فجلست. وصعد على منكبى فنهضت به. فذكر الحديث» وليس فيه أن ذلك كان في فتح مكة. ولا تلاوة الآية. وروى النسائي [كذا بالأصلين اه مصححه]
(٣). أخرجه الثعلبي من طريق أحمد بن الحرث الغساني. حدثنا ساكنة بنت الجعد، قالت: سمعت رجاء الغنوي يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. فذكره.
[سورة الإسراء (١٧) : آية ٨٥]
وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً (٨٥)
الأكثر على أنه الروح الذي في الحيوان. سألوه عن حقيقته فأخبر أنه من أمر الله، أى مما استأثر بعلمه. وعن ابن أبى بريدة. لقد مضى النبي ﷺ وما يعلم الروح «١».
وقيل: هو خلق عظيم روحانى أعظم من الملك. وقيل: جبريل عليه السلام. وقيل: القرآن.
ومِنْ أَمْرِ رَبِّي أى من وحيه وكلامه، ليس من كلام البشر، بعثت اليهود إلى قريش أن سلوه عن أصحاب الكهف، وعن ذى القرنين، وعن الروح، فإن أجاب عنها أو سكت فليس بنبىّ، وإن أجاب عن بعض وسكت عن بعض فهو نبىّ، فبين لهم القصتين وأبهم أمر الروح وهو مبهم في التوراة، فندموا على سؤالهم «٢» وَما أُوتِيتُمْ الخطاب أم أنت معناه فيه؟ فقال:
بل نحن وأنتم لم نؤت من العلم إلا قليلا، فقالوا: ما أعجب شأنك: ساعة تقول وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وساعة تقول هذا «٣»، فنزلت: وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ
(٢). لم أجده هكذا. وذكره ابن هشام في السيرة عن زياد عن أبى إسحاق. وكذا أخرجه البيهقي في الدلائل من طريقه «أن أهل مكة بعثوا رهطا منهم إلى اليهود يسألونهم عن أشياء يمتحنون بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا لهم سلوه عن ثلاث، فإذا عرفها فهو نبى: سلوه عن أقوام ذهبوا في الأرض فلم يدر ما صنعوا... القصة بطولها»
(٣). ذكره الثعلبي في تفسير لقمان بغير سند ولا راو. وروى ابن مردويه من طريق على بن عاصم عن داود ابن أبى هند عن عكرمة. لا أعلمه إلا عن ابن عباس. قال «لما نزلت هذه الآية وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا قالت اليهود: أوتينا علما كثيرا. أوتينا التوراة ومن يؤت التوراة فقد أوتى خيرا كثيرا. فأنزل الله تعالى قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ.
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٨٦ الى ٨٧]
وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلاً (٨٦) إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً (٨٧)
لَنَذْهَبَنَّ جواب قسم محذوف مع نيابته عن جزاء الشرط. واللام الداخلة على إن موطئة للقسم. والمعنى: إن شئنا ذهبنا بالقرآن ومحوناه عن الصدور والمصاحف فلم نترك له أثرا وبقيت كما كنت لا تدرى ما الكتاب ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بعد الذهاب بِهِ من يتوكل علينا باسترداده وإعادته محفوظا مستورا إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إلا أن يرحمك ربك فيرده عليك، كأن رحمته تتوكل عليه بالرد، أو يكون على الاستثناء المنقطع بمعنى: ولكن رحمة من ربك تركته غير مذهوب به، وهذا امتنان من الله تعالى ببقاء القرآن محفوظا بعد المنة العظيمة في تنزيله وتحفيظه، فعلى كل ذى علم أن لا يغفل عن هاتين المنتين والقيام بشكرهما، وهما منة الله عليه بحفظ العلم ورسوخه في صدره، ومنته عليه في بقاء المحفوظ. وعن ابن مسعود:
إن أول ما تفقدون من دينكم الأمانة، وآخر ما تفقدون الصلاة، وليصلين قوم ولا دين لهم، وإن هذا القرآن تصبحون يوما وما فيكم منه شيء. فقال رجل: كيف ذلك وقد أثبتناه في قلوبنا وأثبتناه في مصاحفنا نعلمه أبناءنا ويعلمه أبناؤنا أبناءهم؟ فقال: يسرى عليه ليلا فيصبح الناس منه فقراء ترفع المصاحف وينزع ما في القلوب «١».
[سورة الإسراء (١٧) : آية ٨٨]
قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (٨٨)
لا يَأْتُونَ جواب قسم محذوف، ولولا اللام الموطئة، لجاز أن يكون جوابا للشرط، كقوله:
لأن الشرط وقع ماضيا، أى: لو تظاهروا على أن يأتوا بمثل هذا القرآن في بلاغته وحسن نظمه وتأليفه، وفيهم العرب العاربة أرباب البيان لعجزوا عن الإتيان بمثله، والعجب من النوابت «٢» ومن زعمهم أن القرآن قديم «٣» مع اعترافهم بأنه معجز «٤»، وإنما يكون العجز حيث تكون القدرة، فيقال: الله قادر على خلق الأجسام والعباد عاجزون عنه. وأما المحال الذي لا مجال فيه للقدرة ولا مدخل لها فيه كثانى القديم، فلا يقال للفاعل: قد عجز عنه، ولا هو معجز. ولو قيل ذلك لجاز وصف الله بالعجز، لأنه لا يوصف بالقدرة على المحال، إلا أن يكابروا فيقولوا هو قادر على المحال، فإن رأس ما لهم «٥» المكابرة وقلب الحقائق.
[سورة الإسراء (١٧) : آية ٨٩]
وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً (٨٩)
وَلَقَدْ صَرَّفْنا ردّدنا وكرّرنا مِنْ كُلِّ مَثَلٍ من كل معنى هو كالمثل في غرابته وحسنه.
والكفور: الجحود. فإن قلت: كيف جاز فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً ولم يجوز ضربت إلا زيدا؟ قلت: لأن أبى متأوّل بالنفي، كأنه قيل: فلم يرضوا إلا كفورا.
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٩٠ الى ٩٣]
وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً (٩٠) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً (٩١) أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً (٩٢) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلاَّ بَشَراً رَسُولاً (٩٣)
(٢). قوله «النوابت» في الصحاح «النوابت من الأحداث» الأغمار. وفيه: رجل غمر: لم يجرب. (ع)
(٣). قال محمود: «والعجب من النوابت ومن زعمهم أن القرآن قديم مع اعترافهم بأنه معجز... الخ» قال أحمد:
ومما يدلك على حيد المصنف عن سنن المنصف أنه تدلس على الضعفة في مثل هذه المسألة التي طبقت طبق الأرض ظهورا وشيوعا، ومع ذلك يرضى لنفسه أن يتجاهل فيها عن معتقد القوم، وذلك أن عقيدة أهل السنة أن مدلول العبارات صفة قديمة قائمة بذات الباري تعالى، يطلق عليها قرآن، ويطلق أيضا على أدلتها وهي هذه الكلمات الفصيحة والآي الكريمة قرآن، وأن المعجز عندهم الدليل لا المدلول، لكنهم يتحرزون من إطلاق القول بأنه مخلوق لوجهين. أحدهما: أنه إطلاق موهم. والثاني: أن السلف الصالح كفوا عنه فاقتفوا آثارهم واقتبسوا أنوارهم.
وكم من معتقد لا يطلق القول به خشية إيهام غيره مما لا يجوز اعتقاده، فلا ربط بين الاعتقاد والإطلاق، ولا كرامة لمعتقد ذلك والمتعنت بالزامه، والله يقول الحق وهو يهدى السبيل.
(٤). قوله «ومن زعمهم أن القرآن قديم» يريد بهم أهل السنة حيث يقولون: إن القرآن قديم، لكن لا بمعنى اللفظ الذي يسمعه بعضنا من بعض، فان هذا حادث بل بمعنى كلام الله الذي هو صفة له قائمة بذاته تعالى، فهذا هو القديم، كعلمه تعالى وإرادته. (ع)
(٥). قوله «فان رأس ما لهم المكابرة» ليس كما قال غفر الله له، بل رأس ما لهم التمسك بالكتاب والسنة، وتحرى الحقائق. (ع)
... كنت منه ووالدي... بريّا «١»...
فإنّى وقيّار بها لغريب «٢»
أو مقابلا، كالعشير بمعنى المعاشر، ونحوه لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا أو جماعة حالا من الملائكة مِنْ زُخْرُفٍ من ذهب فِي السَّماءِ في معارج السماء، فحذف المضاف.
يقال: رقى في السلم وفي الدرجة وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ ولن نؤمن لأجل رقيك حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً
رمانى بأمر كنت منه ووالدي | بريا ومن جول الطوى رمانى |
كصهيل وضجيج ونحيب ونسيب، وإن كان استعماله كذلك بمعنى فاعل قليلا. وجول الطوى- بالضم-: جانب البئر المطوى. والمعنى: أنه رمانى بأمر يرجع عليه هو، كأنه رمانى وهو في أسفل البئر بحجر فيرجع عليه، كناية عن مكافأته بأمر أعظم مما رماه به. ويجوز أن الأمر الذي رماه به متصف به الرامي، وهو أنسب بالتشبيه.
ويروى ومن أجل الطوى. فليحرر.
(٢). تقدم شرح هذا الشاهد بالجزء الأول ص ٦٢٩ فراجعه إن شئت اه مصححه.
لن نؤمن لك حتى تتخذ إلى السماء سلما. ثم ترقى فيه وأنا أنظر حتى تأتيها ثم تأتى معك بصك منشور، معه أربعة من الملائكة يشهدون لك أنك كما تقول. وما كانوا يقصدون بهذه الاقتراحات إلا العناد واللجاج، ولو جاءتهم كل آية لقالوا: هذا سحر، كما قال عز وجل وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ، وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ وحين أنكروا الآية الباقية التي هي القرآن وسائر الآيات وليست بدون ما اقترحوه- بل هي أعظم- لم يكن إلى تبصرتهم سبيل قُلْ سُبْحانَ رَبِّي وقرئ: قال سبحان ربى، أى قال الرسول. وسُبْحانَ رَبِّي تعجب من اقتراحاتهم عليه هَلْ كُنْتُ إِلَّا رسولا كسائر الرسل بَشَراً مثلهم، وكان الرسل لا يأتون قومهم إلا بما يظهره الله عليهم من الآيات، فليس أمر الآيات إلىّ، وإنما هو إلى الله فما بالكم تتخيرونها علىّ.
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٩٤ الى ٩٥]
وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلاَّ أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولاً (٩٤) قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولاً (٩٥)
أَنْ الأولى نصب مفعول ثان لمنع. والثانية رفع فاعل له. والْهُدى الوحى، أى:
وما منعهم الإيمان بالقرآن وبنبوة محمد ﷺ إلا شبهة تلجلجت في صدورهم، وهي إنكارهم أن يرسل الله البشر. والهمزة في أَبَعَثَ اللَّهُ للإنكار، وما أنكروه فخلافه هو المنكر عند الله، لأن قضية حكمته أن لا يرسل ملك الوحى إلا إلى أمثاله، أو إلى الأنبياء، ثم قرر ذلك بأنه لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ على أقدامهم كما يمشى الإنس ولا يطيرون بأجنحتهم إلى السماء «١» فيسمعوا من أهلها ويعلموا ما يجب علمه مُطْمَئِنِّينَ ساكنين في الأرض قارّين لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولًا يعلمهم الخير ويهديهم المراشد. فأما الإنس فما هم بهذه المثابة، إنما يرسل الملك إلى مختار منهم للنبوة، فيقوم ذلك المختار بدعوتهم وإرشادهم. فإن قلت: هل يجوز أن يكون بشرا وملكا، منصوبين على الحال من رسولا؟ قلت: وجه حسن، والمعنى له أجوب.
[سورة الإسراء (١٧) : آية ٩٦]
قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (٩٦)
وقد اشتمل كلامه هذا على جواب حسن عن سؤال مقدر، وهو قول القائل: إن مجرد وجود الملائكة في الأرض يناسب إرسال الملك إليهم، فما فائدة هذه الزيادة؟ فيكون جوابه ما تقدم، والله الموفق.
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٩٧ الى ٩٨]
وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً (٩٧) ذلِكَ جَزاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآياتِنا وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (٩٨)
وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ ومن يوفقه ويلطف به فَهُوَ الْمُهْتَدِي لأنه لا يلطف إلا بمن عرف أن اللطف ينفع فيه وَمَنْ يُضْلِلْ ومن يخذل فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ أنصارا. عَلى وُجُوهِهِمْ كقوله: يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ وقيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف يمشون على وجوههم قال: «إن الذي أمشاهم على أقدامهم، قادر على أن يمشيهم على وجوههم»
» عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا كما كانوا في الدنيا، لا يستبصرون ولا ينطقون بالحق، ويتصامّون عن استماعه، فهم في الآخرة كذلك: لا يبصرون ما يقرّ أعينهم، ولا يسماعون ما يلذ مسامعهم «٢» ولا ينطقون بما يقبل منهم. ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى. ويجوز أن يحشروا مؤفى الحواس من الموقف إلى النار بعد الحساب، فقد أخبر عنهم في موضع آخر أنهم يقرؤن ويتكلمون كُلَّما خَبَتْ كلما أكلت جلودهم ولحومهم وأفنتها فسكن لهبها، بدلوا غيرها، فرجعت ملهبة مستعرة، كأنهم لما كذبوا بالإعادة بعد الإفناء جعل الله جزاءهم أن سلط النار على أجزائهم تأكلها وتفنيها ثم يعيدها، لا يزالون على الإفناء والإعادة، ليزيد ذلك في تحسرهم على تكذيبهم البعث، ولأنه أدخل في الانتقام من الجاحد، وقد دل على ذلك بقوله ذلِكَ جَزاؤُهُمْ إلى قوله أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً.
قال: «أليس الذي أمشاه على رجليه في الدنيا قادرا على أن يمشيه على وجهه يوم القيامة» ؟.
(٢). قوله «ولا يسماعون ما يلذ مسامعهم» الذي في الصحاح: لذذت الشيء- بالكسر-: وجدته لذيذا. (ع)
[سورة الإسراء (١٧) : آية ٩٩]
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلاَّ كُفُوراً (٩٩)فإن قلت: علام عطف قوله وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا؟ قلت: على قوله أَوَلَمْ يَرَوْا لأن المعنى قد علموا بدليل العقل أنّ من قدر على خلق السموات والأرض فهو قادر على خلق أمثالهم من الإنس، لأنهم ليسوا بأشد خلقا منهن كما قال: أأنتم أشد خلقا أم السماء وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لا رَيْبَ فِيهِ وهو الموت أو القيامة، فأبوا مع وضوح الدليل إلا جحودا.
[سورة الإسراء (١٧) : آية ١٠٠]
قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً (١٠٠)
لَوْ حقها أن تدخل على الأفعال دون الأسماء، فلا بد من فعل بعدها في لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ وتقديره لو تملكون، فأضمر تملك إضمارا على شريطة التفسير، وأبدل من الضمير المتصل الذي هو الواو ضمير منفصل، وهو أنتم، لسقوط ما يتصل به من اللفظ، فأنتم: فاعل الفعل المضمر، وتملكون: تفسيره! وهذا هو الوجه الذي يقتضيه علم الإعراب. فأمّا ما يقتضيه علم البيان، فهو: أنّ أنتم تملكون فيه دلالة على الاختصاص، وأنّ الناس هم المختصون بالشح المتبالغ، ونحوه قول حاتم:
لو ذات سوار لطمتنى
وقول المتلمس:
ولو غير أخوالى أرادوا نقيصتى «١»
وذلك لأنّ الفعل الأول لما سقط لأجل المفسر، وبرز الكلام في صورة المبتدإ والخبر. ورحمة الله: رزقه وسائر نعمه على خلقه، ولقد بلغ هذا الوصف بالشح الغاية التي لا يبلغها الوهم.
وقيل: هو لأهل مكة الذين اقترحوا ما اقترحوا من الينبوع والأنهار وغيرها، وأنهم لو ملكوا خزائن الأرزاق لبخلوا بها قَتُوراً ضيقا بخيلا. فإن قلت: هل يقدر لَأَمْسَكْتُمْ مفعول؟
قلت: لا، لأن معناه: لبخلتم، من قولك للبخيل: ممسك.
ولو غير إخوانى أرادوا نقيصتى | جعفت لهم فوق العرانين ميسما |
وهل كنت إلا مثل قاطع كفه | بكف له أخرى عليه تقدما |
وهل: استفهام إنكارى، أى: لو كافأت إخوانى لا أكون إلا مثل من قطع كفه بكفه الأخرى، والكف يذكر ويؤنث، فلذلك وصفه بأنه تقدم على الكف الآخر واعتدى عليه ووصفه بأخرى. والمقابلة بين الكفين تؤيد رواية إخوانى بالنون.
[سورة الإسراء (١٧) : آية ١٠١]
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ إِذْ جاءَهُمْ فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً (١٠١)عن ابن عباس رضى الله عنهما: هي العصا، واليد، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، والحجر، والبحر، والطور الذي نتقه على بنى إسرائيل. وعن الحسن: الطوفان، والسنون، ونقص الثمرات: مكان الحجر، والبحر، والطور. وعن عمر بن عبد العزيز أنه سأل محمد بن كعب فذكر اللسان والطمس «١»، فقال له عمر: كيف يكون الفقيه إلا هكذا، أخرج يا غلام ذلك الجراب، فأخرجه فنفضه، فإذا بيض مكسور بنصفين، وجوز مكسور، وفوم «٢» وحمص وعدس، كلها حجارة. وعن صفوان بن عسال أنّ بعض اليهود سأل النبي ﷺ عن ذلك فقال: أوحى الله إلى موسى: أن قل لبنى إسرائيل: لا تشركوا بالله شيئا، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا النفس التي حرّم الله إلا بالحق، ولا تسحروا، ولا تأكلوا الربا، ولا تمشوا ببريء إلى ذى سلطان ليقتله، ولا تقذفوا محصنة، ولا تفرّوا من الزحف، وأنتم يا يهود خاصة لا تعدوا في السبت «٣» فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ فقلنا له: سل بنى إسرائيل، أى: سلهم من فرعون «٤» وقل له: أرسل معى بنى إسرائيل. أو سلهم عن إيمانهم وعن حال دينهم. أو سلهم أن يعاضدوك وتكون قلوبهم وأيديهم معك. وتدلّ عليه قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم: فسال بنى إسرائيل، على لفظ الماضي بغير همز، وهي لغة قريش. وقيل:
فسل يا رسول الله المؤمنين من بنى إسرائيل، وهم عبد الله بن سلام وأصحابه عن الآيات ليزدادوا يقينا وطمأنينة قلب، لأن الأدلة إذا تظاهرت كان ذلك أقوى وأثبت، كقول إبراهيم وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي. فإن قلت: بم تعلق إِذْ جاءَهُمْ؟ قلت: أمّا على الوجه الأول فبالقول المحذوف، أى فقلنا لهم سلهم حين جاءهم، أو بسأل في القراءة الثانية. وأمّا على الأخير فبآتينا. أو بإضمار
(٢). قوله «وفوم» في الصحاح «الفوم» الثوم. ويقال له: الحنطة. (ع)
(٣). أخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجة والحاكم. وأحمد وإسحاق وأبو يعلى والطبراني: كلهم من رواية عبد الله بن سلام عن صفوان بن عسال أن يهوديين قال أحدهما لصاحبه اذهب بنا إلى هذا النبي نسأله: فقال لا تقل له نبى فان سمعك صارت له أربعة أعين. فأتيا النبي ﷺ فسألاه. فذكر الحديث. ولم يقل أحد منهم «أوحى إلى موسى أن قل لبنى إسرائيل» والباقي سواء، عبد الله بن سلام كبر فساء حفظه وكان المسئول عنه العشر كلمات، لأن عددها عشرة لا التسع آيات. لأن العشر وصايا كهذه، والتسع حجج على فرعون وقومه. [.....]
(٤). قوله «سلهم من فرعون» يعنى اطلبهم منه. (ع)
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ١٠٢ الى ١٠٤]
قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلاَّ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً (١٠٢) فَأَرادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْناهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعاً (١٠٣) وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً (١٠٤)
لَقَدْ عَلِمْتَ يا فرعون ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ الآيات إلا الله عز وجل بَصائِرَ بينات مكشوفات، ولكنك معاند مكابر: ونحوه: وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا وقرئ «علمت» بالضم، على معنى: إنى لست بمسحور كما وصفتني، بل أنا عالم بصحة الأمر.
وأنّ هذه الآيات منزلها رب السموات والأرض. ثم قارع ظنه بطنه، كأنه قال: إن ظننتني مسحورا فأنا أظنك مَثْبُوراً هالكا، وظنى أصح من ظنك، لأن له أمارة ظاهرة وهي إنكارك ما عرفت صحته، ومكابرتك لآيات الله بعد وضوحها. وأما ظنك فكذب بحت، لأن قولك مع علمك بصحة أمرى، إنى لأظنك مسحورا قول كذاب. وقال الفرّاء: مَثْبُوراً مصروفا عن الخير مطبوعا على قلبك، من قولهم: ما ثبرك عن هذا؟ أى: ما منعك وصرفك؟
وقرأ أبىّ بن كعب: وإن إخالك يا فرعون لمثبورا، على: إن المخففة واللام الفارقة فَأَرادَ فرعون أن يستخف موسى وقومه من أرض مصر ويخرجهم منها، أو ينفيهم عن ظهر الأرض بالقتل والاستئصال، فحاق به مكره بأن استفزه الله بإغراقه مع قبطه اسْكُنُوا الْأَرْضَ التي أراد فرعون أن يستفزكم منها فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ يعنى قيام الساعة جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً جمعا مختلطين إياكم وإياهم، ثم يحكم بينكم ويميز بين سعدائكم وأشقيائكم: واللفيف: الجماعات من قبائل شتى.
[سورة الإسراء (١٧) : آية ١٠٥]
وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً (١٠٥)
وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وما أنزلنا القرآن إلا بالحكمة المقتضية لإنزاله، وما نزل إلا ملتبسا بالحق والحكمة لاشتماله على الهداية إلى كل خير. أو ما أنزلناه من السماء إلا بالحق محفوظا بالرصد من الملائكة، وما نزل على الرسول إلا محفوظا بهم من تخليط الشياطين وَما أَرْسَلْناكَ إلا لتبشرهم بالجنة وتنذرهم من النار، ليس إليك وراء ذلك شيء، من إكراه على الدين أو نحو ذلك.
[سورة الإسراء (١٧) : آية ١٠٦]
وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً (١٠٦)
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ١٠٧ الى ١٠٩]
قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً (١٠٧) وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولاً (١٠٨) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً (١٠٩)
قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا أمر بالإعراض عنهم واحتقارهم والازدراء بشأنهم، وأن لا يكترث بهم وبإيمانهم وبامتناعهم عنه، وأنهم إن لم يدخلوا في الإيمان ولم يصدّقوا بالقرآن وهم أهل جاهلية وشرك، فإن خيرا منهم وأفضل- وهم العلماء الذين قرءوا الكتب وعلموا ما الوحى وما الشرائع- قد آمنوا به وصدّقوه، وثبت عندهم أنه النبي العربىّ الموعود في كتبهم، فإذا تلى عليهم خرّوا سجدا وسبحوا الله تعظيما لأمره ولإنجازه ما وعد في الكتب المنزلة وبشربه من بعثة محمد ﷺ وإنزال القرآن عليه، وهو المراد بالوعد في قوله إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولًا...... وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً أى يزيدهم القرآن لين قلب ورطوبة عين- فإن قلت: إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ تعليل لماذا؟ قلت: يجوز أن يكون تعليلا لقوله آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا وأن يكون تعليلا لقل على سبيل التسلية لرسول الله ﷺ وتطييب نفسه، كأنه قيل: تسلّ عن إيمان الجهلة بإيمان العلماء. وعلى الأوّل: إن لم تؤمنوا به لقد آمن «١» به من هو خير منكم. فإن قلت: ما معنى الخرور للذقن؟ قلت: السقوط على الوجه، وإنما ذكر الذقن وهو مجتمع اللحيين، لأنّ الساجد أول ما يلقى به الأرض من وجهه الذقن. فإن قلت: حرف الاستعلاء ظاهر المعنى إذا قلت خرّ على وجهه وعلى ذقنه، فما معنى اللام في خرّ لذقنه ولوجهه؟ قال:
فخرّ صريعا لليدين وللفم «٢»
(٢).
فيوم الكلاب قد أزالت رماحنا | شرحبيل إذ آلى آلية مقسم |
لينتزعن أرماحنا فأزاله | أبو حنش عن ظهر شنقاء صلدم |
تناوله بالرمح ثم انثنى له | فخر صريعا لليدين وللفم |
أى حلف. والشنقاء: الطويلة من الخيل، والصلدم- بكسر المهملتين-: القوية. ويروى: ثم اثنى له. وأصله:
انثنى، فأدغمت النون بعد قلبها ثاء في الثاء. ولو قرئ: ثم ائتني، من أتانى وتمهل لجاز. ويروى: دلفت له بالرمح من تحت بزه. ويروى: شقفت له بالرمح جيب قميصه. ولعل اختلاف الروايات لاختلاف القائل. والتناول:
الأخذ، فالمعنى: لحقه فطعنه بالرمح، كأنه أخذه، ثم انثنى له: أى طعنه مرة أخرى، فسقط مطروحا، وجعل ذلك ليديه وفمه، لأنها التي يستقبل بها الأرض أولا حين سقوطه على وجهه، واللام هنا بمعنى على كما ذكره النحاة، وإن أنكره النحاس. ودلف دلفا كتعب تعبا: إذا تقدم بسرعة وقارب بين خطاه. وجيب قميصه: كناية عن صدره، لأنه إذا شق طوق القميص بالرمح فقد شق الصدر.
[سورة الإسراء (١٧) : آية ١١٠]
قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (١١٠)
عن ابن عباس رضى الله عنهما سمعه أبو جهل يقول: يا الله يا رحمن، فقال: إنه ينهانا أن نعبد إلهين وهو يدعوا إلها آخر. وقيل: إن أهل الكتاب قالوا: إنك لتقل ذكر الرحمن وقد أكثر الله في التوراة هذا الاسم فنزلت. والدعاء بمعنى التسمية لا بمعنى النداء، وهو يتعدّى إلى مفعولين، تقول: دعوته زيدا، ثم يترك أحدهما استغناء عنه فيقال: دعوت زيدا. والله والرحمن، المراد بهما الاسم لا المسمى. وأو للتخيير، فمعنى ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ سموا بهذا الاسم أو بهذا، واذكروا إما هذا وإما هذا. والتنوين في أَيًّا عوض من المضاف إليه. وما صلة للإبهام المؤكد لما في أىّ، أى: أىّ هذين الاسمين سميتم وذكرتم فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى والضمير في فَلَهُ ليس براجع إلى أحد الاسمين المذكورين، ولكن إلى مسماهما وهو ذاته تعالى، لأن التسمية للذات لا للاسم. والمعنى: أياما تدعوا فهو حسن، فوضع موضعه قوله فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى لأنه إذا حسنت أسماؤه كلها حسن هذان الاسمان: لأنهما منها، ومعنى كونهما أحسن الأسماء. أنها مستقلة بمعاني التحميد والتقديس والتعظيم بِصَلاتِكَ بقراءة صلاتك على حذف المضاف، لأنه لا يلبس، من قبل أن الجهر والمخافتة صفتان تعتقبان على الصوت لا غير، والصلاة أفعال وأذكار وكان رسول الله ﷺ يرفع صوته بقراءته، فإذا سمعها المشركون لغوا وسبوا، فأمر بأن يخفض من صوته، والمعنى: ولا تجهر حتى تسمع المشركين وَلا تُخافِتْ حتى لا تسمع من خلفك وَابْتَغِ بَيْنَ الجهر المخافتة سَبِيلًا وسطا. وروى أنّ أبا بكر رضى الله عنه كان يخفى صوته بالقراءة في صلاته ويقول:
[سورة الإسراء (١٧) : آية ١١١]
وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً (١١١)
فإن قلت: كيف لاق وصفه بنفي الولد والشريك والذل بكلمة التحميد «٢» ؟ قلت: لأنّ من هذا وصفه هو الذي يقدر على إيلاء كل نعمة، فهو الذي يستحق جنس الحمد، وكان النبي ﷺ إذا أفصح الغلام من بنى عبد المطلب علمه هذه الآية «٣».
عن رسول الله ﷺ «من قرأ سورة بنى إسرائيل فرقّ قلبه عند ذكر الوالدين كان له قنطار في الجنة، والقنطار ألف أوقية ومائتا أوقية». رزقنا الله بفضله العميم وإحسانه الجسيم.
(٢). قال محمود: «إن قلت: كيف لاق وصفه بنفي الولد والشريك... الخ» قال أحمد: وقد لاحظ الزمخشري هاهنا ما أغفله عند قوله تعالى الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ وقد رددت هذا الوجه فيما تقدم، بأن هذه الجملة لا يليق اقترانها بكلمة التحميد ولا تناسبها، فإنك لو قلت ابتداء: الحمد لله الذي الذين كفروا به يعدلون، لم يكن مناسبا، والله أعلم.
(٣). أخرجه ابن أبى شيبة وعبد الرزاق. قالا أخبرنا ابن عيينة عن عبد الكريم عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده.