تفسير سورة العلق

صفوة البيان لمعاني القرآن

تفسير سورة سورة العلق من كتاب صفوة البيان لمعاني القرآن
لمؤلفه حسنين مخلوف . المتوفي سنة 1410 هـ
مكية، وآياتها تسع عشرة.

بسم الله الرحمان الرحيم
﴿ اقرأ باسم ربك.. ﴾ في الحديث الصحيح : أن أول ما نزل به جبريل عليه السلام من القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يتحنث بغار حراء في شهر رمضان – صدر هذه السورة إلى قوله " ما لم يعلم ". ثم نزل آخرها بعد ذلك بما شاء الله تعالى. وبعد نزول صدرها فتر الوحي، ثم فاجأه الملك الذي جاءه بحراء ؛ فرعب منه صلى الله عليه وسلم، فرجع إلى أهله يقول :( زملوني زملوني ) وفي رواية ( دثروني ). فأنزل الله " يأيها المدثر – ثم – يأيها المزمل " ثم حمي الوحي وتتابع ؛ أي اقرأ ما يوحى إليك من القرآن، مفتتحا باسم ربك الذي له الخلق، أو الذي خلق كل شيء.
﴿ خلق الإنسان ﴾ أي جنس الإنسان من بني آدم. وخصه بالذكر لكونه أشرف المخلوقات ؛ وفيه من بدائع الصنع والتدبير ما فيه. ﴿ من علق ﴾ دم جامد، وهو الطور الثاني من أطوار تحلق المادة الإنسانية. والمراد : التنبيه إلى ما بين حالتيه الأولى والآخرة من التباين البين، وأن الذي خلقه من هذه المادة ثم سواه بشرا في أحسن تقويم، قادر على كل شيء.
﴿ اقرأ ﴾ امض لما أمرتك به من القراءة﴿ وربك الأكرم ﴾ الذي زاد كرمه وفضله على كل كرم وفضل.
﴿ الذي علم بالقلم ﴾ أي علم الإنسان الكتابة بالقلم، ولم يكن له علم بها ؛ فضبط بها العلوم، وعرف بها أخبار الماضين وعلومهم. وكانت أداة التفاهم والمعرفة، ولولاها ما استقام أمر الدين والدنيا ؛ فلم يقم دين، ولم يصح عيش.
﴿ علم الإنسان... ﴾ أي كما علمه بالقلم علمه بدونه ما لم يعلم من الأمور على اختلافها. فهو
سبحانه مفيض العلم على الإنسان، ومعلمه البيان بالقلم واللسان ؛ ومن ذلك تعليمك القراءة والعلوم التي لا تحيط بها العقول، وأنت أميّ لا تكتب ! وقد صرف الله نبيه عن الكتابة ليكون ذلك أثبت لمعجزته، وأقوى لحجته.
﴿ كلا ﴾ ردع للإنسان الكافر، الذي قابل تلك النعم الجليلة بالكفر والطغيان. قيل : نزلت هذه الآية إلى آخر السورة في أبي جهل بعد زمن من نزول ما قبلها. وفي الحديث الصحيح : أن أبا جهل حلف باللات والعزى لئن رأى محمدا [ صلى الله عليه وسلك ] يصلي ليطأن على رقبته وليعفرن وجهه. فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي ليفعل ؛ فما فاجأهم منه إلا وهو ينكص على عقبيه، ويتقي بيديه. فقيل له : مالك ؟ فقال : إن بيني وبينه لخندقا من نار ! وهولا وأجنحة ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( لو دنا مني لاحتطفته الملائكة عضوا عضوا ) فأنزل الله هذه الآية إلى آخر السورة. وقيل : " كلا " بمعنى ألا الاستفهامية. ﴿ إن الإنسان ليطغى... ﴾ أي ليجاوز الحد، ويستكبر على ربه، ويكفر به ! من أجل رؤية نفسه ذا غنى وثراء، وقوة وقدرة !
﴿ إن إلى ربك ﴾ يا محمد﴿ الرجعى ﴾ أي رجوع هذا الطاغي وأضرابه بالبعث، فذائقون من أليم عقابه ما لا قبل لهم به. مصدر بمعنى الرجعى. يقال : رجع إليه رجوعا ومرجعا ورجعى بمعنى واحد.
﴿ أرأيت الذي ينهى... ﴾ نهى أبو الجهل النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة في المسجد الحرام ؛ فلما رآه يصلي فيه قال : ألم أنهك عن هذا ؟ ! ألم أنهك عن هذا ؟ ! فانتهره النبي صلى الله عليه وسلم. فقال أبو جهل : أتهددني وأنا أكثر أهل الوادي ناديا ! أي أخبرني يا من يصلح للخطاب : هذا الطاغي الذي ينهى عبد الله عن الصلاة لربه ؟ ألم يعلم بأن الله يراه ويطلع عليه فيجازيه على هذا الفعل المنكر ! ؟ ورأى تتعدى لمفعولين أولهما " الذي "، وثانيهما محذوف دل عليه قوله تعالى : " ألم يعلم بأن الله يرى ".
﴿ أرأيت إن كان على الهدى ﴾ أي أخبرني ! هذا المصلي إن كان على الهدى أو أمر بالتقوى ! ألم يعلم ناهيه بأن الله يراه ! والمفعولان محذوفان تقديرهما ما ذكرنا، وجواب الشرط محذوف دل عليه قوله تعالى : " ألم يعلم بأن الله يرى ".
﴿ أرأيت إن كذب وتولى ﴾ أخبرني ! هذا الناهي عن الصلاة إن كذب الرسول وأعرض عن الإيمان.
﴿ ألم يعلم بأن الله يرى ﴾ فمفعول " أرأيت " الأول وجواب الشرط محذوفان. والمفعول الثاني : الجملة الاستفهامية المذكورة.
﴿ كلا ﴾ ردع للناهي اللعين﴿ لئن لم ينته ﴾ عما هو عليه وينزجر. ﴿ لنسفعن بالناصية ﴾ لنأخذن بناصيته، ولنسحبنه بها إلى النار، ولنذلنه بذلك الإذلال الشديد. والسفع : القبض على الشيء وجذبه بشدة. يقال : سفعت بالشيء، إذا قبضت عليه وجذبته جذبا شديدا. وقيل : هو الاحتراق ؛ من قولك : سفعته النار، إذا غيرت وجهه إلى حال تسويده. والناصية : شعر مقدم الرأس.
﴿ خاطئة ﴾ الخاطئ : هو الذي يأتي الذنب متعمدا، وهو الذي يؤخذ بالعقاب. والمخطئ : هو الذي يأتيه غير عامد. ووصف الناصية بالخاطئة على حد : نهار صائم ؛ أي صائم صاحبه.
﴿ فليدع ناديه ﴾ أي عشريته لنصرته في إيذاء الرسول صلى الله عليه وسلم، ومنعه من الصلاة في المسجد إن قدروا على ذلك. وهو أمر تعجيز ردا لتهديده النبي صلى الله عليه وسلم. والنادي والندي : المجلس الذي ينتدي فيه القوم ؛ أي يجتمعون للحديث. يقال : ندا القوم ندوا – من باب غزا – اجتمعوا.
﴿ سندع الزبانية ﴾ الملائكة الغلاظ الشداد الموكلين بالعذاب لإلقائه في النار. والزبانية في كلام العرب : الشرط ؛ جمع زبنية ؛ من الزبن وهو الدفع. وقيل : اسم جمع كأبابيل.
﴿ كلا لا تطعه... ﴾ فيما دعاك إليه من ترك الصلاة. وصل لله تعالى ما أمرك به، وتقرب إلى ربك بطاعته والدعاء له ؛ أي دم ذلك.
والله أعلم.
سورة العلق
معلومات السورة
الكتب
الفتاوى
الأقوال
التفسيرات

سورة (العَلَق) من السُّوَر المكية، وهي أولُ سورةٍ نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم، وقد بدأت بأمرِ النبي صلى الله عليه وسلم بالقراءة؛ ليُعلِّمَه اللهُ عز وجل هذا الكتابَ، وقد جاءت على ذِكْرِ عظمة الله، وتذكيرِ الإنسان بخَلْقِ الله له من عدمٍ، وخُتمت بتأييد الله للنبي صلى الله عليه وسلم، ونصرِه له، وكفايتِه أعداءَه.

ترتيبها المصحفي
96
نوعها
مكية
ألفاظها
72
ترتيب نزولها
1
العد المدني الأول
20
العد المدني الأخير
20
العد البصري
19
العد الكوفي
19
العد الشامي
18

* قوله تعالى: {كَلَّآ إِنَّ اْلْإِنسَٰنَ لَيَطْغَىٰٓ ٦ أَن رَّءَاهُ اْسْتَغْنَىٰٓ ٧ إِنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ اْلرُّجْعَىٰٓ ٨ أَرَءَيْتَ اْلَّذِي يَنْهَىٰ ٩ عَبْدًا إِذَا صَلَّىٰٓ ١٠ أَرَءَيْتَ إِن كَانَ عَلَى اْلْهُدَىٰٓ ١١ أَوْ أَمَرَ بِاْلتَّقْوَىٰٓ ١٢ أَرَءَيْتَ إِن كَذَّبَ وَتَوَلَّىٰٓ ١٣ أَلَمْ يَعْلَم بِأَنَّ اْللَّهَ يَرَىٰ ١٤ كَلَّا لَئِن لَّمْ يَنتَهِ لَنَسْفَعَۢا بِاْلنَّاصِيَةِ ١٥ نَاصِيَةٖ كَٰذِبَةٍ خَاطِئَةٖ ١٦ فَلْيَدْعُ نَادِيَهُۥ ١٧ سَنَدْعُ اْلزَّبَانِيَةَ ١٨ كَلَّا لَا تُطِعْهُ} [العلق: 13-19]:

عن أبي هُرَيرةَ رضي الله عنه، قال: «قال أبو جهلٍ: هل يُعفِّرُ مُحمَّدٌ وجهَه بَيْنَ أظهُرِكم؟ قال: فقيل: نَعم، فقال: واللَّاتِ والعُزَّى، لَئِنْ رأَيْتُه يَفعَلُ ذلك، لَأَطأنَّ على رقَبتِه، أو لَأُعفِّرَنَّ وجهَه في التُّرابِ، قال: فأتى رسولَ اللهِ ﷺ وهو يُصلِّي، زعَمَ لِيطأَ على رقَبتِه، قال: فما فَجِئَهم منه إلا وهو يَنكِصُ على عَقِبَيهِ، ويَتَّقي بيدَيهِ، قال: فقيل له: ما لكَ؟ فقال: إنَّ بَيْني وبَيْنَه لَخَنْدقًا مِن نارٍ، وهَوْلًا، وأجنحةً، فقال رسولُ اللهِ ﷺ: «لو دنَا منِّي، لَاختطَفَتْهُ الملائكةُ عضوًا عضوًا»، قال: فأنزَلَ اللهُ عز وجل - لا ندري في حديثِ أبي هُرَيرةَ، أو شيءٌ بلَغَه -: {كَلَّآ إِنَّ اْلْإِنسَٰنَ لَيَطْغَىٰٓ ٦ أَن رَّءَاهُ اْسْتَغْنَىٰٓ ٧ إِنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ اْلرُّجْعَىٰٓ ٨}؛ يَعني: أبا جهلٍ، {أَرَءَيْتَ اْلَّذِي يَنْهَىٰ ٩ عَبْدًا إِذَا صَلَّىٰٓ ١٠ أَرَءَيْتَ إِن كَانَ عَلَى اْلْهُدَىٰٓ ١١ أَوْ أَمَرَ بِاْلتَّقْوَىٰٓ ١٢ أَرَءَيْتَ إِن كَذَّبَ وَتَوَلَّىٰٓ ١٣ أَلَمْ يَعْلَم بِأَنَّ اْللَّهَ يَرَىٰ ١٤ كَلَّا لَئِن لَّمْ يَنتَهِ لَنَسْفَعَۢا بِاْلنَّاصِيَةِ ١٥ نَاصِيَةٖ كَٰذِبَةٍ خَاطِئَةٖ ١٦ فَلْيَدْعُ نَادِيَهُۥ ١٧ سَنَدْعُ اْلزَّبَانِيَةَ ١٨ كَلَّا لَا تُطِعْهُ} [العلق: 13-19]». زاد عُبَيدُ اللهِ في حديثِه قال: «وأمَرَه بما أمَرَه به». وزادَ ابنُ عبدِ الأعلى: «{فَلْيَدْعُ نَادِيَهُۥ}؛ يَعني: قومَهُ». أخرجه مسلم (٢٧٩٧).

* سورة (العَلَق):

سُمِّيت سورة (العَلَق) بهذا الاسم؛ لوقوع لفظ (العَلَق) في أولها؛ قال تعالى: {اْقْرَأْ بِاْسْمِ رَبِّكَ اْلَّذِي خَلَقَ ١ خَلَقَ اْلْإِنسَٰنَ مِنْ عَلَقٍ} [العلق: 1-2].

* وكذلك تُسمَّى بسورة {اْقْرَأْ}، و{اْقْرَأْ بِاْسْمِ رَبِّكَ}؛ للسبب نفسه.

1. الخَلْقُ والتعليم مُوجِب للشكر (١-٥).

2. انحرافُ صِنْفٍ من البشر عن الشكر (٦-٨).

3. صورة من صُوَر طغيان البشر (٩-١٩).

ينظر: "التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (9 /253).

يقول ابنُ عاشور عن مقاصدها: «تلقينُ مُحمَّدٍ صلى الله عليه وسلم الكلامَ القرآني وتلاوتَه؛ إذ كان لا يَعرِف التلاوةَ من قبل.
والإيماء إلى أنَّ عِلْمَه بذلك مُيسَّر؛ لأن اللهَ الذي ألهم البشرَ العلمَ بالكتابة قادرٌ على تعليم من يشاءُ ابتداءً.
وإيماء إلى أن أمَّتَه ستَصِير إلى معرفة القراءة والكتابة والعلم.
وتوجيهه إلى النظر في خلقِ الله الموجودات، وخاصةً خَلْقَه الإنسانَ خَلْقًا عجيبًا مستخرَجًا من علَقةٍ، فذلك مبدأ النظر.
وتهديد مَن كذَّب النبيَّ صلى الله عليه وسلم وتعرَّضَ ليصُدَّه عن الصلاة والدعوة إلى الهدى والتقوى.
وإعلام النبي صلى الله عليه وسلم أن اللهَ عالمٌ بأمرِ مَن يناوُونه، وأنه قامِعُهم، وناصرُ رسولِه.
وتثبيت الرسول على ما جاءه من الحقِّ، والصلاة، والتقرب إلى الله.
وألا يعبأ بقوةِ أعدائه؛ لأن قوَّةَ الله تقهرهم». "التحرير والتنوير" لابن عاشور (30 /434).