سورة الحجرات٢.
مقصودها الإرشاد إلى مكارم الأخلاق بتوقير النبي صلى الله عليه وسلم بالأدب معه في نفسه وفي أمته، وحفظ ذلك من إجلاله بالظاهر [ ليكون-٣ ] دليلا على الباطن فيسمى إيمانا، كما أن الإيمان [ بالله- ] يشترط فيه فعل٤ الأعمال الظاهرة والإذعان لفعلها بشرائطها وأركانها وحدودها لتكون٥ بينة على الباطن وحجة شاهدة له ﴿ ألم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا [ و-٦ ] هم لا يفتنون ﴾ فحاصل مقصودها مراقبة النبي صلى الله عليه وسلم في الأدب معه لأنها أول المفصل الذي هو٧ ملخص القرآن كما كان مقصود الفاتحة التي هي أول القرآن مراقبة الله، وابتدئي ثاني٨ المفصل بحرف من الحروف المقطعة كما ابتدئي ثاني٩ ما عداه بالحروف المقطعة، واسمها الحجرات واضح الدلالة على ذلك بما١٠ دلت عليه [ آيته-١١ ] ﴿ بسم الله ﴾ الملك الجبار المتكبر الذي من أخل بتعظيم رسوله صلى الله عليه وسلم لم يرض عنه عملا ﴿ الرحمن ﴾ الذي من عموم رحمته إقامة الآداب للتوصل إلى حسن المآب ﴿ الرحيم ﴾ الذي خص أولى الألباب بالإقبال على ما يوجب [ لهم-١٢ ] جميل الثواب١٣.
٢ التاسع والأربعون من سور القرآن الكريم، مدنية، وعدد آيها ١٨ بلا خلاف، ومن هنا ترافقنا نسخة مد فقط، وأما نسخة م فانقطعت عنا-كما نبهنا عليه- إلى سورة المجادلة، وأما نسخة ظ فهي الأخرى انقطعت من هنا إلى سورة الرحمن..
٣ زيد من مد..
٤ في مد: نقل..
٥ من مد، وفي الأصل: لكون..
٦ زيد من مد..
٧ زيد في الأصل: مقصود أنه، ولم تكن الزيادة في مد فحذفناها..
٨ من مد، وفي الأصل: أي..
٩ من مد، وفي الأصل: نافي..
١٠ من مد، وفي الأصل: ما..
١١ زيد من مد..
١٢ زيد من مد..
١٣ من مد، وفي الأصل: المنوال- كذا..
ﰡ
ولما كان السياق للنهي عن التقديم والتقدم، وكان مقتضى الرسالة إنفاذ الأوامر والنواهي عن الملك من غير أن يكون من المرسل
فإن آثاره كعينه، فمن بذل الجهد فيها هدي للأصلح، ﴿والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا﴾ [العنكبوت: ٦٩].
ولما استعار للدلالة على القدرة التعبير باليدين وصور البينة ترهيباً من انتقام القادر إذا خولف، صرح بذلك بقوله تعالى: ﴿واتقوا الله﴾ أي اجعلوا بينكم وبين غضب الملك الأعظم وقاية، فإن التقوى
ولما كان سبحانه مع كل بعلمه، وأقرب إليه من نفسه، فكان مع ذلك غيباً محضاً لكونه محتجباً برداء الكبر وإزار العظمة والقهر، وكان الإنسان لما غاب عنه نساء، ذكره مرهباً بقوله مستأنفاً أو معللاً مؤكداً تنبيهاً على ما في ذلك من الغرابة والعظمة التي يحق للإنسان مجاهدة نفسه لأجلها في الإيمان به والمواظبة على الاستمرار على استحضاره، لأن أفعال العاصي أفعال من ينكره: ﴿إن الله﴾ أي الذي له الإحاطة بصفات الكمال. ولما كان ما يتقدم فيه إما قولاً أو فعلاً قال: ﴿سميع﴾ أي لأقوالكم أن تقولوها ﴿عليم *﴾ أي بأعمالكم قبل أن تعملوها.
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير: لما وصف سبحانه عباده المصطفين صحابه نبيه والمخصوصين بفضيلة مشاهدته وكريم عشرته فقال ﴿محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم﴾ [الفتح: ٢٩] «إلى آخره»، فأثنى سبحانه عليهم وذكر وصفه تعالى بذلك في التوراة والإنجيل، وهذه
ولما ثبت إعظام الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأن لا يفتات عليه بأن يتأهب ما هو وظيفته من التقدم في الأمور وقطع المهمات، فلا يكلم إلا جواباً أو سؤالاً في أمر ضروري لا يمكن تأخيره، وكان من يكلمه لذلك ربما رفع صوته رفعاً الأولى به غيره مما هو دونه، وكان من جملة أحواله أن يوحى إليه بالأمور العظيمة، وكان رفع الصوت إذ ذاك من المشوشات في حسن التلقي للوحي مع ما فيه من قلة الاحترام والإخلاء بالإجلال والإعظام، قال ذاكراً لثاني الأقسام، وهو ما كان النظر فيه إلى مقامه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالقصد الأول،
ولما بين ما في ذلك لأجل النبوة، بين ما ينبغي في نفسه من المزية فقال: ﴿ولا تجهروا بالقول﴾ أي إذا كلمتموه سواء كان ذلك بمثل صوته أو أخفض من صوته، فإن ذلك غير مناسب لما يهاب به العظماء، ويوقر
ولما تقدم سبحانه في الإخلال بشيء من حرمته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ونهى عن رفع الصوت والجهر الموصوف، أنتج المخافة عنده على سبيل الإجلال، فبين ما لمن حافظ على ذلك الأدب العظيم، فقال مؤكداً لأن في المنافقين وغيرهم من يكذب بذلك، وتنبيهاً. على أنه لمحبة الله له ورضاه به أهل لأن يؤكد أمره ويواظب على فعله: ﴿إن الذين يغضون﴾ أي يخفضون ويلينون لما وقع عليهم من السكينة من هيبة حضرته، قال الطبري: وأصل الغض الكف في لين ﴿أصواتهم﴾ تخشعاً وتخضعاً
ولما كان المبلغ ربما أنساه اللغط ورفع الأصوات ما كان يريد أن يبلغه «إنه بينت لي ليلة القدر فخرجت لأخبركم بها فتلاحى رجلان فأنسيتها وعسى أن يكون خيراً لكم» قال: ﴿عند رسول الله﴾ أي الذي من شأنه أن يعلو كلامه على كل كلام، لأنه مبلغ من الملك الأعظم وعبر بعند التي للظاهر إشارة إلى أن أهل حضرة الخصوصية لا يقع منهم إلا أكمل الأدب.
ولما ابتدأ ذكرهم مؤكداً تنبيهاً على عظيم ما ندبوا إليه، زاده إعظاماً بالإشارة إليهم بأداة البعد فقال: ﴿أولئك﴾ أي العالو الرتب لما لهم من علو الهمم بالخضوع لمن أرسله مولاهم الذي لا إحسان عندهم إلا منه ﴿الذين امتحن الله﴾ أي فعل المحيط بجميع صفات الكمال فعل المختبر بالمخالطة البليغة بالشدائد على وجه يؤدي إلى المنحة باللين والخلوص من كل درن، والانشراح والاتساع ﴿قلوبهم﴾ فأخلصها ﴿للتقوى﴾ أي الخوف المؤدي إلى استعداد صاحبه بإقامة ما يقيه من كل مكروه، والامتحان: اختبار بليغ يؤدي إلى خبر، فالمعنى أنه طهر قلوبهم ونقاها
ولما كان الإنسان وإن اجتهد في الإحسان محلاًّ للنقصان، استأنف الإخبار عن جزائهم بقوله: معرباً له من فاء السبب، إشارة إلى أن ذلك بمحض إحسانه: ﴿لهم مغفرة﴾ أي لهفواتهم وزلاتهم ﴿وأجر عظيم *﴾ أي جزاء لا يمكن وصفه على محاسن ما فعلوه.
ولما كان الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من العظمة في نفسه وفي تبليغ رسالات الله في هيئتها بمكان من العظمة بحيث لا يخفى على أحد. فليس لأحد أن يفتات فيها عليه ولا أن يعجله عن شيء، وكان نداؤه لذلك من وراء حجرته واحدة كندائه من وراء كل حجرة جمع فقال: ﴿الحجرات﴾ ولم يضفها إليه إجلالاً له، وليشمل كوني في غيرها أيضاً، والمعنى: مبتدئين النداء من جهة تكون الحجرات فيها بينك وبينهم فتكون موازية لك منهم ولهم منك، وهي جمع حجرة، وهي ما حوط من قطع الأرض بحائط يمنع ممن يكون خارجه من أذى من يكون داخله بقول أو فعل، فإنه يكون فيما يختص به من الاجتماع بنسائه أو إصلاح شيء من حاله، لا يتهيأ له بحضور الناس فيما يتقاضاه المروءة، وأسند الفعل إلى الجمع وإن كان المنادي بعضهم للرضى به أو السكوت عن النهي.
ولما كان الساكت قد لا يكون راضياً قال: ﴿أكثرهم﴾ أي
ولما ذمهم بسوء عملهم، أرشدهم إلى ما يمدحون به من حسنه فقال: ﴿ولو أنهم﴾ أي المنادي والراضي ﴿صبروا﴾ أي حبسوا أنفسهم ومنعوها عن مناداتهم، والصبر حبس النفس عن أن تنازع إلى هواها وهو حبس فيه شدة، وصبر عن كذا - محذوف الفعل لكثرة دوره، أي نفسه ﴿حتى تخرج﴾ من تلقاء نفسك عند فراغ ما أنت فيه مما يهمك من واردات الحق ومصالح الخلق. ولما كان الخروج قد يكون إلى غيرهم من المصالح، فلا يسوغ في الأدب أن يقطع ذاك عليه قال: ﴿إليهم﴾ أي ليس لهم أن يكلموك حتى تفرغ لهم فتقصدهم فإنك لا تفعل شيئاً في غير حينه بمقتضى أمر الرسالة ﴿لكان﴾ أي الصبر.
ولما كان العرب أهل معال فهم بحيث لا يرضون إلا الأحسن فقال: ﴿خيراً لهم﴾ أي من استعجالهم في إيقاظك وقت الهاجرة وما لو قرعوا الباب بالأظافير كما كان يفعل غيرهم من الصحابة رضي الله عنهم،
ولما ذكر التقدير تأديباً لنا وتدريباً على الصفح عن الجاهل وعذره وتعليمه: ولكنهم لم يصبروا وأساؤوا الأدب فكان ذلك شراً لهم والله عليم بما فعلوا حليم حيث لم يعاجلهم بالعقوبة لإساءتهم الأدب على رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عطف عليه استعطافاً لهم مع إفهامه الترهيب: ﴿والله﴾ أي المحيط بصفات الكمال ﴿غفور﴾ أي ستور لذنب من تاب من جهله ﴿رحيم *﴾ يعامله معاملة الراحم فيسبغ عليه نعمه. ولما تابوا، أعتبهم الله في غلظتهم على خير خلقه أن جعلهم أغلظ الناس على شر الناس: الدجال، فإن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «إنهم
ولما أنهى سبحانه ما أراد من النهي عن أذى الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في نفسه، وكان من ذلك أذاه في أمته، فإنه عزيز عليه ما عنتوا وكان من آذاه فيهم فاسقاً، وكان أعظم الأذى فيهم ما أورث كرباً فأثار حرباً، وكان ربما اتخذ أهل الأغراض هذه الآداب ذريعة إلى أذى بعض المسلمين فقذفوهم بالإخلال بشيء منها فوقعوا هم فيها فيما قذفوا به غيرهم من الإخلال بحقه والتقيد بولائه ورقه، وكان لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الأخلاق الطاهرة والمعالي الظاهرة ما يؤمن معه أن يوقع شيئاً في غير محله، أن يأمر بأمر من غير حله - هذا مع ما له من العصمة، قال منبهاً على ما في القسم الثالث من مكارم الأخلاق من ترك العجز بالاعتماد على أخبار الفسقة، تخاطباً لكل من أقر بالإيمان على طريق الاستنتاج مما مضى، نادباً إلى الاسترشاد بالعقل الذي نفاه عن أهل الآية السالفة، والعفو عن المذنب والرحمة لعباد الله، منادياً بأداة البعد إشارة إلى أن من احتاج إلى التصريح بمثل هذا التنبيه غير مكتف بما أفاده من قواعد الشرع وضع نفسه في محل بعيد، وتنبيهاً على أن ما في حيزها كلام له خطب عظيم ووقع جسيم: ﴿يا أيها الذين آمنوا﴾ وعبر بالفعل الماضي الذي هو
ولما أمر بالتبين، ذكر علته فقال: ﴿أن﴾ أي لأجل كراهة أن ﴿تصيبوا﴾ أي بأذى ﴿قوماً﴾ أي هم مع قوتهم النافعة
ولما كان الإنسان إذا وضع شيئاً في غير موضعه جديراً بالندم، سبب عن ذلك قوله: ﴿فتصبحوا﴾ أي فتصيروا، ولكنه عبر بذلك لأن أشنع الندم ما استقبل الإنسان صباحاً وقت انتباهه وفراغه وإقباله على لذاته ﴿على ما فعلتم﴾ أي من إصابتهم ﴿نادمين *﴾ أي عريقين في الأسف على ما فات مما يوقع الله في نفوسكم من أمور ترجف القلوب وتخور الطباع، وتلك سنته في كل باطل، فإنه لكونه مزلزلاً في نفسه لا ينشأ عنه إلا الزلزال والندم على ما وقع من تمني أنه لم يقع، وهو غم يصحب الإنسان صحبة لها دوام بما تدور مادته عليه مما يرشد إليه مدن ودمن، وهو ينشأ من تضييع أثقال الأسباب التي أمر الإنسان بالسعي فيها كما أشار إليه حديث «احرص على ما ينفعك ولا تعجز فإن غلبك أمر فقل: قدر الله وما شاء فعل، ولا تقل: لو أني فعلت كذا، فإن» لو «تفتح عمل الشيطان» والفاسق المذكور في الآية المراد به الجنس، والذي نزل ذلك بسببه هو الوليد بن عقبة، ولم يزل كذلك حتى أن عثمان رضي الله عنه ولاه الكوفة فصلى بالناس وهو سكران صلاة الفجر أربعاً ثم قال: هل أزيدكم
ولما كان إقدامهم على كثير من الأمور من غير مشاورة لمن أرسله الله رحمة لعباده ليعلمهم ما يأتون وما يذرون عمل من لا يعلم أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قريب منه، وكان الإعراض عنه حياً وعن بذل الجهد في استخراج الأمور من شريعته بعد موته أمراً مفسداً للبين إن لم يعتبر ويتنبه له غاية التنبه، أخبرهم به منزلاً لهم منزلة من لا يعلم أنه موجود معه مشيراً بكلمة التنبيه إلى أن من أخل بمراعاة ذلك في عداد الغافلين فقال: ﴿واعلموا﴾ أي أيها الأمة، وقدم الخبر إيذاناً بأن بعضهم باعتراضه أو بإقدامه على ما لا علم له به يعمل علم من لا يعلم مقدار ما خصه الله به من إنعامه عليه به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فهو يفيد توبيخ من فعل ذلك: ﴿أن فيكم﴾ أي على وجه الاختصاص لكم ويا له من شرف ﴿رسول الله﴾ أي الملك الأعظم المتصف بالجلال والإكرام على حال هي أنكم تريدونه أن يتبع أذاكم، وذلك أمر شنيع جداً، فإنه لا يليق أن يتحرك إلا بأمر من أرسله، فيجب عليكم الرجوع عن تلك الحالة، فإنك تجهلون أكثر مما تعلمون، ولإرادتهم إن لا يطيعهم في جميع الأمور عبر بالمضارع فقال: ﴿لو يطيعكم﴾ وهو لا يحب عنتكم ولا شيئاً يشق عليكم
ولما كان التقدير حتماً بما هدى إليه السياق: ولو خالفتموه في الأمور التي لا يطيعكم فيها لعنتم، استدرك عنه قوله: ﴿ولكن الله﴾ أي الملك الأعظم الذي يفعل ما يريد ﴿حبب إليكم الإيمان﴾ فلزمتم طاعته وعشقتم متابعته. ولما كان الإنسان قد يحب شيئاً وهو يعلم فيه عيباً، فيكون جديراً بأن يتزلزل فيه، نفى ذلك بقوله:
ولما أرشد السياق إلى متابعتهم على هذا الوجه، أنتج قوله مادحاً لهم ثانياً الكلام عن خطابهم إلى خطابه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليدل على عظم هذه الأوصاف وبينه بأداة البعد على علو مقام المتصف: ﴿أولئك﴾ أي الذين أعلى الله القادر على كل شيء مقاديرهم ﴿هم﴾ أي خاصة ﴿الراشدون *﴾ أي الكاملون في الرشد وهو الهدى على أحسن سمت وتقدير، وفي تفسير الأصبهاني: الرشد الاستقامة على طريق الحق
ولما كان التقدير: فالله منعم بفضل، بيده كل ضر ونفع، عطف عليه قوله: ﴿والله﴾ أي المحيط بصفات الكمال ﴿عليم﴾ أي محيط العلم، فهو يعلم أحوال المؤمنين وما بينهم من التفاضل ﴿حكيم *﴾ بالغ الحكمة، فهو يضع الأشياء في أوفق محالها وأتقنها، فلذلك وضع نعمته من الرسالة
ولما كانت النميمة ونقل الأخبار الباطلة الذميمة ربما جرت فتناً وأوصلت إلى القتال، وكان العليم الحكيم لا ينصب سبباً إلا ذكر مسببه وأشار إلى دوائه، وكان لا ينهى عن الشيء إلا من كان متهيئاً له لما في جبلته من الداعي إليه، فكان قد يواقعه ولو في وقت، قال تعالى معلماً لنا طريق الحكمة في دفع ما جرت إليه الأخبار الباطلة من القتال، معبراً بأداة الشك إشارة إلى أن ما في حيزها لا ينبغي أن يقع بينهم، ولا أن يذكروه إلا على سبيل الفرض: ﴿وإن طائفتان﴾ أي جماعتان بالفعل أو القوة جدير كل جماعة منهما بأن يجتمع على ما دهمها من الأمير بحيث تصير من شدة مراعاته كالطائفة حوله والمتحلقة به، بحيث لا يدرى من شدة اجتماعها على ذلك أولها من آخرها ﴿من المؤمنين﴾ أي ممن هو معدود في عداد العريقين في الإيمان سواء كان هو عريقاً أو فاعلاً ما يطلق عليه به الاسم فقط.
ولما كانت الشناعة والفساد في قتال الجماعة أكثر، عبر بضمير الجمع دون التثنية تصويراً لذلك بأقبح صورة فقال: ﴿اقتتلوا﴾ أي فاختلطوا بسبب القتال حتى كانوا كالفرقة الواحدة ﴿فأصلحوا﴾ أي
ولما كان البغي من أشنع الأمور فكان ينبغي أن لم يلم به أحد، عبر بأداة الشك إرشاداً إلى ذلك فقال: ﴿فإن بغت﴾ أي أوقعت الإرادة السيئة الكائنة من النفوس التي لا تأمر بخير ﴿إحداهما﴾ أي الطائفتين ﴿على الأخرى﴾ فلم ترجع إلى حكم الله الذي خرجت عنه ولم تقبل الحق. ولما كان الإضمار هنا ربما أوهم لبساً فتمسك به متعنت في أمر فساد، أزال بالإظهار كل لبس فقال: ﴿فقاتلوا﴾ أي أوجدوا واطلبوا مقاتلة ﴿التي﴾.
ولما كان القتال لا يجوز إلا بالاستمرار على البغي، عبر بالمضارع إفهاماً لأنه متى زال البغي ولو بالتوبة من غير شوكة حرم القتال فقال: ﴿تبغي﴾ أي توقع الإرادة وتصر عليها، وأديموا القتال لها ﴿حتى تفيء﴾ أي ترجع مما صارت إليه من جر القطيعة الذي كأنه حر الشمس حين نسخه الظل إلى ما كانت فيه من البر والخير الذي هو كالظل الذي ينسخ الشمس، وهو معنى قوله
ولما كان الخصام يجر في الغالب من القول والفعل ما يورث للمصلحين إحنة على بعض المتخاصمين، فيحمل ذلك على الميل مع بعض على بعض، قال: ﴿بالعدل﴾ ولا يحملكم القتال على الحقد على المتقاتلين فتحيفوا. ولما كان العدل في مثل ذلك شديداً على النفوس لما تحملت من الضغائن قال تعالى: ﴿وأقسطوا﴾ أي وأزيلوا القسط - بالفتح وهو الجور - بأن تفعلوا القسط بالكسر وهو العدل العظيم الذي لا جور فيه، في ذلك وفي جميع أموركم، ثم علله ترغيباً فيه بقوله مؤكداً تنبيهاً على أنه من أعظم ما يتمادح به، وردّاً على من لعله يقول: إنه لا يلزم نفسه الوقوف عنده إلا ضعيف: ﴿إن الله﴾ أي الذي بيده النصر والخذلان ﴿يحب المقسطين *﴾ أي يفعل مع أهل العدل من الإكرام فعل المحب.
ولما أمر بما قد يفضي إلى القتال، وكان الباغي ربما كان أقرب إلى الصلح من جهة النسب من المبغيّ عليه فروعي، وكان القتال أمراً شاقاً ربما حمل على الإحجام عن الإصلاح، علل ذلك سبحانه بما قدم
ولما كانت الأخوة داعية ولا بد إلى الإصلاح، سبب عنها قوله: ﴿فأصلحوا﴾.
ولما كانت الطائفة قد تطلق على ما هو أصل لأن يطاف حوله كما يطلق على ما فيه أهلية التحليق والطواف، وكان أقل ما يكون ذلك في الأثنين، وأن مخاصمتهما يجر إلى مخاصمة طائفتين بأن يغضب لكل ناس من قبيلته وأصحابه، قال واضعاً الظاهر موضع المضمر مبالغة في تقرير الأمر وتأكيده، وإعلاماً بأن المراد بالطائفة القوة لا الفعل بحيث يكون ذلك شاملاً للاثنين فما فوقهما: ﴿بين أخويكم﴾ أي المختلفين بقتال أو غيره كما تصلحون بين أخويكم من النسب، إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير، بل الأمر كما نقل عن أبي عثمان الحيري أن أخوة الدين أثبت من أخوة النسب، وقرأ يعقوب ﴿إخوتكم﴾
ولما نهى عن الإسراع بالإيقاع بمجرد سماع ما يوجب النزاع، وختم بما ترجى به الرحمة، وكان ربما كان الخبر الذي أمر سبحانه بتبينه صريحاً، نهى عن موجبات الشر التي يخبر بها فتكون سبباً للضغائن التي يتسبب عنها الشر الذي هو سبب للنقمة رحمة لعباد الله وتوقعاً للرحمة منه،
ولما كانت السخرية تكون بحضرة ناس، قال معبراً بما يفهم أن من شارك أو رضي أو سكت وهو قادر فهو ساخر مشارك للقائل: ﴿قوم﴾ أي ناس فيهم قوة المحاولة، وفي التعبير بذلك هز إلى قيام الإنسان على نفسه وكفها عما تريده من النقائص شكراً لما أعطاه الله من القوة: ﴿من قوم﴾ فإن ذلك يوجب الشر لأن أضعف الناس إذا حرك للانتقاص قوي بما يثور عنده من حظ النفس.
ولما كان الذي يقتضيه الرأي الأصيل أنه لا يستذل الإنسان إلا من أمن أن يصير في وقت من الأوقات أقوى منه في الدنيا وفي الآخرة، علل بقوله: ﴿عسى﴾ أي لأنه جدير وخليق لهم ﴿أن يكونوا﴾ أي المستهزأ بهم ﴿خيراً منهم﴾ فينقلب الأمر عليهم ويكون لهم سوء العاقبة، قال ابن مسعود رضي الله عنه: البلاء موكل بالقول ولو سخرت من كلب خشيت أن أحول كلباً؛ وقال
«كم من أشعث أغبر ذي طمرين لا يؤبه له لو أقسم على الله لأبره».
ولما كان إطلاق القوم لمن كان فيه أهلية المقاومة وهم الرجال، قال معبراً ما هو من النسوة بفتح النون أن ترك العمل: ﴿ولا نساء من نساء﴾ ثم علل النهي بقوله: ﴿عسى﴾ أي ينبغي أن يخفن من ﴿أن يكن﴾ المسخور بهن ﴿خيراً منهن﴾ أي الساخرات.
ولما كانت السخرية تتضمن العيب، ولا يصرح فيها، وكان اللمز العيب نفسه، رقي الأمر إليه فقال: ﴿ولا تلمزوا﴾ أي تعيبوا على وجه الخفية ﴿أنفسكم﴾ بأن يعيب بعضكم بعضاً بإشارة أو نحوها، فكيف إذا كان على وجه الظهور، فإنكم في التواصل والتراحم كنفس واحدة، أو يعمل الإنسان ما يعاب به، فيكون قد لمز نفسه أو يلمز غيره فيكون لمزه له سبباً لأن يبحث عن عيوبة فيلمزه فيكون هو الذي لمز نفسه ﴿ولا تنابزوا﴾ أي ينبز بعضكم بعضاً، أي يدعو على وجه التغير والتسفل ﴿بالألقاب﴾ بأن يدعو المرء صاحبه بلقب يسوءه سواء
ولما كان الإيمان قيداً لأوابد العصيان، وكان النبز والسخرية قطعاً لذلك القيد، علل بما يؤذن فأنه فسق، معبراً بالكلمة الجامعة لجميع المذامّ تنفيراً من ذلك فقال: ﴿بئس الاسم الفسوق﴾ أي الخروج من ربقة الدين ﴿بعد الإيمان﴾ ترك الجارّ إيذاناً بأن من وقع في ذلك أوشك أن يلازمه فيستغرق زمانه فيه فإن النفس عشاقة للنقائص، ولا سيما ما فيه استعلاء، فمن فعل ذلك فقد رضي لنفسه أو يوسم بالفسق بعد أن كان موصوفاً بالإيمان.
ولما كان التقدير: فمن تاب فأولئك هم الراشدون، وكان المقام بالتحذير أليق، عطف عليه قوله: ﴿ومن لم يتب﴾ أي يرجع عما نهى الله عنه، فخفف عن نفسه ما كان شدد عليها ﴿فأولئك﴾ أي البعداء من الله ﴿هم﴾ أي خاصة ﴿الظالمون *﴾ أي العريقون في وضع الأشياء في غير مواضعها.
ولما نهى عن اتباع الظن، أتبعه ما يتفرع عنه فقال: ﴿ولا تجسسوا﴾ أي تمعنوا في البحث عن العورات ولا يكون ذلك إلا في المستورين.
ولما كانت الغيبة أعم من التجسس، قال: ﴿ولا يغتب﴾ أي يتعمد أن يذكر ﴿بعضكم بعضاً﴾ في غيبته بما يكره، قال القشيري: وليس تحصل الغيبة من الخلق إلا بالغيبة عن الحق، وقال أبو حيان: قال ابن عباس رضي الله عنهما: الغيبة إدام كلاب الناس.
ولما كان تمزيق عرض الناس كتمزيق أديمهم ولا يكون ذلك ساتر عظمة الذي به قوامه كما أن عرضه ساتر عليه، وكونه لا يرد عن نفسه بسبب غيبته كموته وأعمال الفم والجوف في ذلك كله،
ولما كان الجواب قطعاً: لا يحب أحد ذلك، أشار إليه بما سبب من قوله: ﴿فكرهتموه﴾ أي بسب ما ذكر طبعاً فأولى أن تكرهوا الغيبة المحرمة عقلاً، لأن داعي العقل بصير عالم، وداعي الطبع أعمى جاهل، وقد رتب سبحانه هذه الحكم أبدع ترتيب، فأمر سبحانه بالتثبت. وكان ربما أحدث ضغينة، نهى عن العمل بموجبه من السخرية واللمز والنبز والتمادي مع ما ينشره ذلك من الظنون، فإن أبت النفس إلا تمادياً مع الظن فلا يصل إلى التجسس والبحث عن المعايب، فإن حصل الاطلاع عليها كف عن ذكرها، وسعى في سترها، وفعل ذلك كله لخوف الله، لا شيء غيره، فإن وقع في شيء من ذلك بادر المتاب رجاء الثواب.
ولما ذكر سبحانه الأخوة الدينية تذكيراً بالعاطف الموجب للإكرام، المانع من الانتقام، ونهى عن أمور يجر إليها الإعجاب بالنفس من جهة التعظيم بالآباء والعراقة في النسب العالي، أسقط ذلك مبيناً أن لا نسب إلا ما يثمره الإيمان الي بدأ به من التقوى، وعبر بما يدل على الذبذبة والاضطراب إشارة إلى سفول رتبة من افتخر بالنسب، وإلى أن من لم يتعظ بما مضى فيعلو عن رتبة الذين آمنوا فقد سفل سفولاً عظيماً: ﴿يا أيها الناس﴾ أي كافة المؤمن وغيره ﴿إنا﴾ على عظمتنا وقدرتنا ﴿خلقناكم﴾ أي أوجدناكم عن العدم
ولما كان تفضيلهم إلى فرق لكل منهما تعرف به أمراً باهراً، عبر فيه بنون العظمة فقال: ﴿وجعلناكم﴾ أي بعظمتنا ﴿شعوباً﴾ تتشعب من أصل واحد، جمع شعب بالفتح وهو الطبقة الأولى من الطبقات الست من طبقات النسب التي عليها العرب ﴿وقبائل﴾ تحت الشعوب، وعمائر تحت القبائل، وبطوناً تحت العمائر، وأفخاذاً تحت البطون، وفصائل تحت الأفخاذ، والعشائر تحت الفصائل، خزيمة شعب، وكنانة قبيلة، وقريش عمارة، وقصيّ بطن، وعبد مناف فخذ، وهاشم فصيلة، والعباس عشيرة، قال البغوي: وليس بعد العشيرة حي يوصف به - انتهى. واقتصر على الأولين لأنهما أقصى ما يسهل على الآدمي معرفته فما دونه أولى، ثم ذكر علة التشعب ليوقف عندها فقال: ﴿لتعارفوا﴾ أي ليعرف الإنسان من يقاربه في النسب ليصل من رحمه ما يحق له، لا لتواصفوا وتفاخروا.
ولما كانت فائدة التفاخر بالتواصف عندهم الإكرام لمن كان
ولما كان هذا مركوزاً في طبائعهم مغروزاً في جبلاتهم متوارثاً عندهم أن الفخر إنما هو بالأنساب، وأن الكريم إنما هو من طاب أصله، وكان قلع ذلك من نفوسهم فيما أجرى به سبحانه العادة في دار الأسباب يتوقف على تأكيد، أكد سبحانه معللاً قوله لإخباره بالأكرم: ﴿إن الله﴾ أي المحيط علماً وقدرة ﴿عليم﴾ أي بالغ العلم بالظواهر ﴿خبير *﴾ محيط العلم بالبواطن والسرائر أيضاً، روى البغوي بسند من طريق عبد الله بن حميد عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طاف يوم الفتح على راحلته ليستلم الأركان بمحجنه، فملا خرج لم يجد مناخاً فنزل على أيدي الرجال، ثم قام فخطبهم ثم حمد الله وأثنى عليه وقال:
«الحمد لله الذي أذهب عنكم عبية الجاهلية وتكبرها بآبائها، إنما الناس رجلان: برّ تقي كريم على الله، وفاجر شقي هين على الله - ثم تلا» يا أيها الناس «الآية، ثم قال: أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم» وأخرجه أبو داود والترمذي وحسنة والبيهقي - قال المنذري، بإسناد حسن، واللفظ له - عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال قال: «إن الله عز وجل أذهب عنكم عبية الجاهلية وفخرها بالآباء، الناس بنو آدم وآدم من تراب، مؤمن تقي وفاجر شقي، لينتهين أقوام يفتخرون
ولما أمر سبحانه بإجلال رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإعظامه، ونهى عن أذاه في نفسه أو في أمته، ونهى عن التفاخر الذي هـ وسبب التقاطع والتداحر، وختم بصفتة الخبر، دل عليها بقوله مشيراً إلى أنه لا يعتد بشيء مما أمر به أو نهى عنه إلا مع الإخلاص فقال: ﴿قالت الأعراب﴾ أي أهل البادية من بني أسد وغيرهم الذين هم معدن الغلظة والجفاء الذين تقدم تأديبهم في سورة محمد، وألحق التاء في فعلهم إشارة إلى ضعفهم في العزائم، قال ابن برجان: هم قوم شهدوا شهادة الحق وهم لا يعلمون ما شهدوا به غير أن أنفسهم ليست تنازعهم إلى التكذيب: ﴿آمنا﴾ أي بجميع ما جئت به فامتثلنا ما أمرنا به في هذه السورة ولنا النسب الخالص، فنحن أشرف من غيرنا من أهل المدر.
ولما كان الإيمان التصديق بالقلب فلا اطلاع عليه لآدمي إلا بإطلاعه سبحانه فكانوا كاذبين في دعواه، قال: ﴿قل﴾ أي تكذيباً لهم مع مراعاة الأدب في عدم التصريح بالتكذيب: ﴿لم تؤمنوا﴾ أي لم تصدق قلوبكم لأنكم لو أمنتم لم تمنوا بإيمانكم لأن الإيمان التصديق بجميع
ولما كان التقدير ما كان الأصل في أن يكون الرد به وهو: فلا تقولوا: آمنا، فإنه كذب، وعدل عنه للاحتراز عن النهي عن القول بالإيمان، عطف عليه قوله: ﴿ولكن قولوا﴾ لأنكم أسلمتم للدنيا لا للدين، وعدل عنه لئلا تكون شهادة لهم بالإسلام في الجملة: ﴿أسلمنا﴾ أي أظهرنا الانقياد في الظاهر للأحكام الظاهرة فأمنا من أن نكون حزباً للمؤمنين وعوناً للمشركين، يقول: أسلم الرجل - إذا دخل في السلم، كما يقال: أشتى - إذا دخل في الشتاء، ولم يقل: ولكن أسلمتم، لما فيه من الشهادة لهم بالإسلام الملازم للإيمان المنفي عنه، فكان يكون تناقضاً، والآية من الاحتباك: نفي الإيمان الشرعي أولاً يدل على إثبات الإسلام اللغوي ثانياً، والأمر بالقول بالإسلام ثانياً يدل على النهي عن القول بالإيمان أولاً.
ولما كانت «لم» غير مستغرقة، عطف عليها ما يستغرق ما مضى من الزمان كله ليكون الحكم بعدم إيمانهم مكتنفاً بأمرهم بالاقتصاد على الإخبار بإسلامهم، فقال معلماً بأن ما يجتهدون في إخفائه منكشف لديه «ألا يعلم من خلق». ﴿ولما يدخل﴾ أي إلى هذا الوقت
ولما كان التقدير: فإن تؤمنوا يعلم الله ذلك من قلوبكم غنياً عن قولكم، عطف عليه قوله ترغيباً لهم في التوبة: ﴿وإن تطيعوا الله﴾ أي الملك الذي من خالفه لم يأمن عقوبته ﴿ورسوله﴾ الذي طاعته من طاعته على ما أنتم عليه من الأمر الظاهري فتؤمن قلوبكم ﴿لا يلتكم﴾ أي ينقصكم ويبخسكم من لاته يليته، وهي لغة أهل الحجاز، وقرأ البصريان: يألتكم من الألت وهو النقص أيضاً، وهي لغة أسد وغطفان، وهما المخاطبون بهذه الآية المعاتبون بها، قال أبو حيان: قال مجاهد: نزلت في بني أسد بن خزيمة - انتهى. فلذلك اختار أبو عمرو القراءة بها، وعدل عن لغة الحجاز ﴿من أعمالكم شيئاً﴾ فلا حاجة إلى إخباركم عن إيمانكم بغير ما يدل عليه من الأقوال والأفعال، قال ابن برجان: فعموم الناس وأكثر أهل الغفلة مسلمون غير مؤمنين، فإن يعلموا علم ما شهدوا وعقدوا عليه عقداً علماً ويقيناً لهم المؤمنون. وفي الآية احتباك من
ولما كان الإنسان مبنياً على النقصان، فلو وكل إلى عمله هلك، ولذهب عمله فيما يعتريه من النقص، قال مستعطفاً لهم إلى التوبة، مؤكداً تنبيهاً على أنه مما يحق تأكيده لأن الخلائق لا يفعلون مثله: ﴿إن الله﴾ أي الذي له صفات الكمال ﴿غفور﴾ أي ستور للهفوات والزلات لمن تاب وصحت نيته، ولغيره إذا أراد، فلا عتاب ولا عقاب ﴿رحيم *﴾ أي يزيد على الستر عظيم الإكرام.
ولما كان هذا عظيماً والثبات عليه أعظم، وهو عين الحكمة، أشار إلى عظيم مزية الثبات بقوله: ﴿ثم﴾ أي بعد امتطاء هذه الرتبة العظيمة ﴿لم يرتابوا﴾ أي ينازعوا الفطرة الأولى في تعمد التسبب إلى الشك ولم يوقعوا الشك في وقت من الأوقات الكائنة بعد الإيمان، فلا يزال على تطاوله الأمنة وحصول الفتن وصفهم بعد الريب غضاً جديداً، ولعله عبر بصيغة الافتعال إشارة إلى العفو عن حديث النفس الذي لا يستطيع الإنسان دفع أصله ويكرهه غاية الكراهة ويجتهد في دفعه، فإذا أنفس المذموم المشي معه والمطاولة منه حتى يستحكم.
ولما ذكر الأمارة الباطنة على وجه جامع لجميع العبادات المالية والبدنية قال: ﴿وجاهدوا﴾ أي أوقعوا الجهاد بكل ما ينبغي أن تجهد النفس فيه تصديقاً لما ادعوه بألسنتهم من الإيمان ﴿بأموالهم﴾ وذلك هو العفة ﴿وأنفسهم﴾ أعم من النية وغيرها، وذلك هو
ولما عرف بهم بذكر أمارتهم على سبيل الحصر، أنتج ذلك حصراً آخر قطعاً لأطماع المدعين على وجه أثنى عليهم فيه بما تعظم المدحة به عندهم ترغيباً في مثل حالهم فقال: ﴿أولئك﴾ أي العالو الرتبة الذين حصل لهم استواء الأخلاق والعدل في الدين بجميع أمهات الأخلاق ﴿هم﴾ أي خاصة ﴿الصادقون *﴾ قالاً وحالاً وفعالاً، وأما غيرهم فكاذب.
ولما كانوا كأنهم يقولون: نحن كذلك، أمره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالإنكار عليهم والتوبيخ لهم دلالة على ما أشار إليه ختام الآية إحاطة علمه الذي تميز به الصادق من غيره من جميع الخلق فقال:
ولما كان المقام للتعميم، أظهر ولم يضمر لئلا يوهم الاختصاص بما ذكر من الخلق فقال: ﴿والله﴾ أي الذي له الإحاطة الكاملة ﴿بكل شيء﴾ أي مما ذكر ومما لم يذكر ﴿عليم *﴾.
ولما كان قولهم هذا صورته صورة المنة، قال مترجماً له مبكتاً لهم عليه معبراً بالمضارع تصويراً لحاله في شناعته: ﴿يمنون عليك﴾ أي يذكرون ذكر من اصطنع عندك صنيعة وأسدى إليك نعمة، إنما فعلها لحاجتك إليها لا لقصد الثواب عليها، لأن المن هو القطع - قال في الكشاف: لأنه إنما يسديها إليه ليقطع بها حاجته لا غير، من
ولما كان المن هو القطع من العطاء الذي لا يراد عليه جزاء، قال: ﴿قل﴾ أي في جواب قولهم هذا: ﴿لا تمنوا﴾ معبراً بما من المن إشارة إلى أن الإسلام لا يطلب جزاؤه إلا من الله، فلا ينبغي عده صنيعة على أحد، فإن ذلك يفسده ﴿عليّ إسلامكم﴾ لو فرض أنكم كنتم مسلمين أي متدينين بدين الإسلام الذي هو انقياد الظاهر مع إذعان الباطن، أي لا تذكروه على وجه الامتنان أصلاً، فالفعل وهو ﴿تمنوا﴾ مضمن «تذكروا» نفسه لا معناه كما تقدم في ﴿ولتكبروا الله على ما هداكم﴾ ﴿بل الله﴾ أي الملك الأعظم الذي له المنة على كل موجود ولا منة عليه بوجه ﴿يمن عليكم﴾ أي يذكر أنه أسدى إليكم نعمه ظاهرة وباطنة منها ما هو ﴿أن﴾ أي بأن ﴿هداكم للإيمان﴾ أي بينة لكم أو وفقكم للاهتداء وهو تصديق الباطن مع الانقياد بالظاهر، والتعبير عن هذا بالمن أحق مواضعه، فإنه سبحانه غير محتاج إلى عمل فإنه لا نفع يلحقه ولا ضر، وإنما طلب الأعمال لنفع العاملين أنفسهم، ومن عليهم بأن أرسل رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
ولما كان المراد بهذا تجهيلهم وتعليمهم حقائق الأمور، لا الشهادة لهم بالهداية، قال منبهاً على ذلك: ﴿إن كنتم﴾ أي كوناً أنتم عريقون فيه ﴿صادقين *﴾ في ادعائكم ذلك، فإنه على تقدير الصدق إنما هو بتوفيق الله وهو الذي خلق لكم قدرة الطاعة، فهو الفاعل في الحقيقة فله المنة عليكم، قال الأستاذ أبو القاسم القشيري: من لاحظ شيئاً من أعماله وأحواله فإن رآها دون نفسه كان شركاً، وإن رآها لنفسه كان مكراً، فكيف يمن العبد بما هو شرك أو مكر، والذي يجب عليه قبول المنة كيف يرى لنفسه على غيره منة، هذا لعمري فضيحة، والمنة تكدر الصنيعة، إذا كانت من المخلوقين، وبالمنة تطيب النعمة إذا كانت من قبل الله.
ولما نفى عنهم ما هو باطن، وختم جدالهم سبحانه بهذه الشرطية، فكان ربما توهم قاصر النظر جامد الفكر عدم العلم بما هو عليه، أزال
ولما أريد التعميم من غير تقييد بالخافقين أظهر ولم يضمر قوله: ﴿والله﴾ أي الذي له الإحاطة بذلك وبغيره مما لا تعلمون ﴿بصير﴾ أي عالم أتم العلم ظاهراً وباطناً ﴿بما تعملون *﴾ من ظاهر إسلامكم وباطن إيمانكم في الماضي والحاضر والآتي سواء كان ظاهراً أو باطناً سواء كان قد حدث فصار بحيث تعلمونه أنتم أو كان مغروزاً في جبلاتكم وهو خفي عنكم - هذا على قراءة الخطاب التفات إليهم لاستنقاذ من توهم منهم هذا التوهم، وهي أبلغ، وعلى قراءة ابن كثير بالغيب يكون على الأسلوب الأول مما أمر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بإبلاغه لهم، فهو سبحانه عالم بمن انطوى ضميره على الإيمان، ومن هو متكيف بالكفران، ومن يموت على ما هو عليه، ومن يتحول حاله بإبعاد عنه أو جذب إليه، قال القشيري رحمه الله تعالى: ومن وقف ههنا تكدر عليه العيش إذ ليس يدري ما غيبه فيه، وفي المعنى قال:
أبكي وهل تدرين ما يبكيني | أبكي حذاراً أن تفارقيني |