تفسير سورة الحجرات

أحكام القرآن

تفسير سورة سورة الحجرات من كتاب أحكام القرآن
لمؤلفه إلكيا الهراسي . المتوفي سنة 504 هـ

قوله تعالى :﴿ يا أيُّها الّذينَ آمَنُوا لا تُقَدِّموا بَيْنَ يَدَي اللهِ وَرَسُولِهِ ﴾، الآية :[ ١ ] : قيل : إنها نزلت في قوم ذبحوا قبل النبي، فأمرهم أن يعيدوا الذبح. وعموم الآية النهي عن التعجيل في الأمر والنهي دونه١.
ويحتج بهذه الآية في اتباع الشرع في كل ورد وصدر، وربما احتج به نفاة القياس، وهو باطل منهم، فإن ما قامت دلالته فليس في فعله تقدم بين يديه. . وقد قامت دلالة الكتاب والسنة على وجوب القول بالقياس في فروع الشرع، فليس إذا تقدم بين يديه.
١ - ذكر ذلك السيوطي في لباب النقول، والواحدي النيسابوري في أسباب النزول..
قوله تعالى :﴿ إنْ جَاءَكُم فَاسِقٌ بنبإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ ﴾، الآية :[ ٦ ] : فيه دليل على أن خبر الفاسق لا يعمل به.
قيل : وقد استثنى الإجماع من جملة ذلك ما لا يتعلق بالدعوى والجحود، وإثبات حق مقصود على الغير، مثل قوله : هذا عبدي، فإنه يقبل قوله. . وكذلك قوله : وقد أنفذ فلان هذا إليك هدية، فإنه يقبل ذلك. . كذلك يقبل خبر الكافر في مثله.
قوله تعالى :﴿ فَإن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرى فَقَاتِلُوا التي تَبْغِي حَتَى تَفِيءَ إلَى أَمْرِ اللهِ ﴾، الآية :[ ٩ ] : فيه دلالة على جواز قتال البغاة، وأن ذلك من قبيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومنه أخذ علي رضي الله عنه قتال الفئة الباغية بالسيف، وكان معه كبار الصحابة : وقال صلى الله عليه وسلم لعمار :" ستقتلك الفئة الباغية١ ".
والذي ورد في الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال :" ستكون فتنة القائم فيها خير من الماشي والقاعد خير من القائم "، وإنما أراد به الفئة التي يقتل الناس فيها من جهة الدنيا والعصبية والحمية، من غير إمام تجب طاعته.
١ - أخرجه الإمام أحمد، والترمذي، والطبراني..
قوله تعالى :﴿ إنّمَا المُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُم ﴾، الآية :[ ١٠ ] :
يعني أنهم إخوة في الدين.
وقوله :﴿ فَأَصْلِحُوا ﴾ : يدل على وجوب الإصلاح عند التنازع بين المسلمين.
قوله تعالى :﴿ لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ ﴾، الآية :[ ١١ ] : نهى الله تعالى بهذه الآية عن عيب من لا يستحق أن يعاب تحقيراً له، لأن ذلك هو معنى السخرية به، فأخبر أنه وإن كان أرفع حالاً منه في الدنيا، فعسى أن يكون المسخور منه خيراً في الآخرة، وخيراً عند الله تعالى.
وقوله تعالى :﴿ ولاَ تَلْمِزُوا أَنْفسَكُم ﴾، الآية :[ ١١ ] : قال أبو بكر رحمه الله : هو كقوله تعالى :﴿ وَلاَ تَقْتُلُوا أنْفُسَكُم ﴾١ أي لا يقتل بعضكم بعضاً ولا يلمز بعضكم بعضاً لأن المؤمنين كنفس واحدة فكأنه بقتله أخيه قاتل نفسه، وكقوله :﴿ فَسَلمُوا عَلَى أَنْفُسِكُم ﴾٢ أي يسلم بعضكم على بعض.
واللمز : العيب، يقال لمزه إذا عابه، ومنه قوله :﴿ ومنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ في الصَّدَقَاتِ٣.
فأما من كان معنياً بالفجور فتعينه بما فيه جائز، قال الحسن في الحجاج : اللهم إنك أنت أمته فاقطع عنا سنته، وفي رواية شينه، فإنه أتانا أخفش أعيمش يمد بيد قصيرة البنان، والله ما عرق فيها عنان في سبيل الله تعالى برجل جمثة، ويخطر في مشيته، ويصعد المنبر فيهذر حتى تفوت الصلاة، لا من الله يتقى، ولا من الناس يستحي، فرقه الله تعالى وتحته مائة ألف أو يزيدون، لا يقول له قائل : الصلاة أيها الرجل. . ثم قال الحسن : هيهات والله، حال دون ذلك السوط والسيف.
قوله تعالى :﴿ وَلاَ تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ ﴾، الآية :[ ١١ ] :
ذكر عن الحسن أنه كان أبو ذر عند النبي عليه الصلاة والسلام، وكان بينه وبين رجل منازعه، فقال له أبو ذر :" يا ابن اليهودية، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام : أما ترى هاهنا بين أحمر وأسود ما أنت أفضل منه بالتقوى٤ "، قال فنزلت هذه الآية :﴿ وَلا تَنَابَزُوا بالألْقابِ٥.
قال قتادة : ذلك لأن لا تقول لأخيك المسلم يا فاسق يا منافق.
والنهي يختص بما يكرهه الإنسان، فأما الأوصاف الجارية غير هذا المجرى فغير مكروهة، وقد سمى النبي عليه الصلاة والسلام علياً أبا تراب٦ وقال لأنس : يا أبا الأذنين، وغير النبي عليه الصلاة والسلام أسماء قوم فسمى العاص عبد الله، وسمى شهاباً هشاماً، وسمى حزناً سهلاً.
١ - سورة النساء، آية ٢٩..
٢ - سورة النور، آية ٦١..
٣ - سورة التوبة، آية ٥٨..
٤ - أخرجه البخاري ومسلم، والإمام أحمد في مسنده..
٥ - انظر أسباب النزول للواحدي، وتفسير ابن كثير سورة الحجرات، ج ٤..
٦ - كما جاء في الحديث الذي أخرجه الإمام أحمد في مسنده، وابن عساكر في تاريخه والطبراني في معجمه الكبير..
قوله تعالى :﴿ ولا يَغْتَبْ بَعْضُكُم بَعْضاً ﴾، الآية :[ ١٢ ] :
روى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الغيبة فقال : هي ذكرك أخاك بما يكره. قال : أرأيت إن كان في أخي ما أقول ؟ فقال : إن كان فيه ما تقول فقد أغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته١.
وروى أبو هريرة أن الأسلمي جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشهد على نفسه بالزنا، فرجمه رسول الله، فسمع صلى الله عليه وسلم رجلين من أصحابه يقول أحدهما للآخر : أنظر إلى هذا الذي ستر الله عليه فلم يدع نفسه حتى رجم الكلاب، فسكت عنهما ثم سار ساعة حتى مر بجيفة حمار شار٢ شايل برجله فقال : أين فلان وفلان ؟ فقالا : نحن ذا يا رسول الله، فقال : انزلا وكلا من جيفة هذا الحمار. فقالا : يا رسول الله، من يأكل من هذا ؟ فقال : ما نلتما من عرض أخيكما أشد من الأكل منه والذي نفسي بيده إنه الآن في أنهار الجنة ينغمس فيها٣.
قوله تعالى :﴿ اجْتَنِبُوا كثيراً منَ الظَّنِ إنَّ بَعْضَ الظّنِّ إثْمٌ ﴾، الآية :[ ١٢ ] :
يدل على أنه لم ينه عن جميعه.
ففي الظنون ما هو محظور، مثل سواء الظن بالله تعالى، وسوء الظن بالمسلمين الذين ظاهرهم العدالة. وكل ظن استند العلم به إلى دليل يقيني، فالعمل به واجب، كالشهادات وقبولها وقيم المتلفات والأقيسة. وقد يكون الظن مباحاً، كقول أبي بكر لعائشة رضي الله عنها : ألقى في روعي أن ذا بطن خارجة جارية، فاستجاز هذا الظن لما وقع في قلبه. وأما الظن المندوب إليه، فهو حسن الظن بالأخ المسلم. ويجوز أن لا يظن الخير ولا الشر.
١ - أخرجه الحافظ ابن كثير في تفسير عن الإمام أحمد في مسنده، وعن ابن حميد أيضا..
٢ - مستخرج من مكانه وهذه اللفظة غير موجودة في كثير من الكتب التي نقلت هذا الحديث، والحديث أخرجه عبد الرزاق والبخاري في الأدب وأبو يعلى وابن المنذر والبيهقي في شعب الإيمان بسند صحيح..
٣ - انظر تفسير القرطبي، وأسباب النزول للواحدي، وتفسير ابن كثير، ج ٤..
سورة الحجرات
معلومات السورة
الكتب
الفتاوى
الأقوال
التفسيرات

سورةُ (الحُجُرات) من السُّوَر المدنية، جاءت ببيانِ أحكامٍ وتشريعات كثيرة، على رأسها وجوبُ الأدبِ مع النبي صلى الله عليه وسلم وتوقيرِه، كما أمرت السورةُ الكريمة بمجموعةٍ من الأخلاق والمبادئ التي تبني مجتمعًا متماسكًا؛ من تركِ السماع للشائعات، والنهيِ عن التنابُزِ بالألقاب، والتحذيرِ من الغِيبة والنميمة، وتصويرِ فاعلها بأبشَعِ صورة.

ترتيبها المصحفي
49
نوعها
مدنية
ألفاظها
353
ترتيب نزولها
106
العد المدني الأول
18
العد المدني الأخير
18
العد البصري
18
العد الكوفي
18
العد الشامي
18

* قوله تعالى: {يَٰٓأَيُّهَا اْلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيِ اْللَّهِ وَرَسُولِهِۦۖ وَاْتَّقُواْ اْللَّهَۚ إِنَّ اْللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٞ} [الحجرات: 1]:

عن ابنِ أبي مُلَيكةَ، أنَّ عبدَ اللهِ بن الزُّبَيرِ أخبَرَهم: «أنَّه قَدِمَ رَكْبٌ مِن بني تَمِيمٍ على النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فقال أبو بكرٍ: أمِّرِ القَعْقاعَ بنَ مَعبَدٍ، وقال عُمَرُ: بل أمِّرِ الأقرَعَ بنَ حابسٍ، فقال أبو بكرٍ: ما أرَدتَّ إلى - أو إلَّا - خِلافي، فقال عُمَرُ: ما أرَدتُّ خِلافَك، فتمارَيَا حتى ارتفَعتْ أصواتُهما؛ فنزَلَ في ذلك: {يَٰٓأَيُّهَا اْلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيِ اْللَّهِ وَرَسُولِهِۦۖ} [الحجرات: 1] حتى انقَضتِ الآيةُ». أخرجه البخاري (٤٨٤٧).

* قوله تعالى: {يَٰٓأَيُّهَا اْلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَرْفَعُوٓاْ أَصْوَٰتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ اْلنَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُواْ لَهُۥ بِاْلْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَٰلُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ} [الحجرات: 2]:

عن عبدِ اللهِ بن أبي مُلَيكةَ، قال: «كادَ الخَيِّرانِ أن يَهلِكَا: أبو بكرٍ وعُمَرُ رضي الله عنهما، رفَعَا أصواتَهما عند النبيِّ صلى الله عليه وسلم حين قَدِمَ عليه رَكْبُ بني تَمِيمٍ، فأشارَ أحدُهما بالأقرَعِ بنِ حابسٍ أخي بَني مُجَاشِعٍ، وأشارَ الآخَرُ برجُلٍ آخَرَ - قال نافعٌ: لا أحفَظُ اسمَه -، فقال أبو بكرٍ لِعُمَرَ: ما أرَدتَّ إلا خِلافي، قال: ما أرَدتُّ خِلافَك، فارتفَعتْ أصواتُهما في ذلك؛ فأنزَلَ اللهُ: {يَٰٓأَيُّهَا اْلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَرْفَعُوٓاْ أَصْوَٰتَكُمْ} [الحجرات: 2] الآيةَ، قال ابنُ الزُّبَيرِ: فما كان عُمَرُ يُسمِعُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآيةِ حتى يستفهِمَه، ولم يذكُرْ ذلك عن أبيه؛ يَعني: أبا بكرٍ». أخرجه البخاري (٤٨٤٥).

* قوله تعالى: {وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ اْلْمُؤْمِنِينَ اْقْتَتَلُواْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَاۖ} [الحجرات: 9]:

عن أنسِ بن مالكٍ رضي الله عنه، قال: «قيل للنبيِّ ﷺ: لو أتَيْتَ عبدَ اللهِ بنَ أُبَيٍّ، فانطلَقَ إليه النبيُّ ﷺ، ورَكِبَ حِمارًا، فانطلَقَ المسلمون يمشون معه، وهي أرضٌ سَبِخةٌ، فلمَّا أتاه النبيُّ ﷺ، فقال: إليك عنِّي، واللهِ، لقد آذاني نَتْنُ حِمارِك، فقال رجُلٌ مِن الأنصارِ منهم: واللهِ، لَحِمارُ رسولِ اللهِ ﷺ أطيَبُ رِيحًا منك، فغَضِبَ لعبدِ اللهِ رجُلٌ مِن قومِه، فشتَمَه، فغَضِبَ لكلِّ واحدٍ منهما أصحابُه، فكان بَيْنَهما ضَرْبٌ بالجَريدِ والأيدي والنِّعالِ، فبلَغَنا أنَّها أُنزِلتْ: {وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ اْلْمُؤْمِنِينَ اْقْتَتَلُواْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَاۖ} [الحجرات: 9]». أخرجه البخاري (٢٦٩١).

* قوله تعالى: {وَلَا تَنَابَزُواْ بِاْلْأَلْقَٰبِۖ} [الحجرات: 11]:

عن أبي جَبِيرةَ بن الضَّحَّاكِ الأنصاريِّ رضي الله عنه، قال: «كان الرَّجُلُ منَّا يكونُ له الاسمانِ والثلاثةُ، فيُدْعَى ببعضِها، فعسى أن يَكرَهَ، قال: فنزَلتْ هذه الآيةُ: {وَلَا تَنَابَزُواْ بِاْلْأَلْقَٰبِۖ} [الحجرات: 11]». سنن الترمذي (٣٢٦٨).

* سورةُ (الحُجُرات):

سُمِّيت سورةُ (الحُجُرات) بذلك؛ لأنَّه جاء فيها لفظُ (الحُجُرات)؛ قال تعالى: {إِنَّ اْلَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَآءِ اْلْحُجُرَٰتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} [الحجرات: 4].

1. القيادة للرسول الكريم، والأدب معه (١-٣).

2. بناء المجتمع الأخلاقي، أسسٌ ومحاذيرُ (٤-١٣).

3. الأساس الإيماني، نموذجٌ وإرشاد (١٤-١٧).

4. علمُ الغيب لله وحده (١٨).

ينظر: "التفسير الموضوعي لسورة القرآن الكريم" لمجموعة من العلماء (7 /341).

مقصودُ سورة (الحُجُرات) الأعظم هو توقيرُ النبي صلى الله عليه وسلم، وجعلُ ذلك علامةً للإيمان، وكذلك بناءُ مجتمع أخلاقي متماسكٍ؛ من خلال التحذير من شائنِ الأخلاق، والأمرِ بزَيْنِها.

ينظر: "مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور" للبقاعي (3 /6).