ﰡ
قوله: ﴿إِلاَّ مَا يتلى﴾ هذا مستثنى من بهيمة الأنعام، والمعنى: ما يتلى عليكم تحريمه، وذلك قوله: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الميتة﴾ [المائدة: ٣] إلى قوله: ﴿وَمَا ذُبِحَ عَلَى النصب﴾ [المائدة: ٣]. [وفيه قولان، أحدهما: أنه مستثنى متصل، والثاني:] أنه منقطعٌ حَسْبَ ما فُسِّر به المتلوُّ عليهم كا سيأتي بيانه، وعلى تقديرِ كونه استثناء متصلاً يجوز في محله وجهان، أظهرهما: أنه منصوبٌ لأنه استثناء متصل من موجب، ويجوز أن يُرْفَع على أنه نعتٌ ل» بهيمة «على ما قُرَّر في علم النحو. ونَقَل ابن عطية عن الكوفيين وجهين آخرين، أحدهما: أنه
قوله تعالى:» غيرَ «في نصبه خمسة أوجه/، أحدها: أنه حال من الضمير المجرور في» لكم «وهذا قول الجمهور، وإليه ذهب الزمخشري وابن عطية وغيرهما، وقد ضُعِّف هذا الوجهُ بأنه يلزم منه تقييد إحلال بهيمة الأنعام لهم بحالِ كونهم غيرَ مُحِلِّي الصيد وهم حرم، إذ يصير معناه:» أُحِلَّتْ لكم بهيمة الأنعام في حال كون انتفاء كونكم تُحِلّون الصيدَ وأنتم حرم «، والغرض أنهم قد أُحِلَّتْ لهم بهيمة الأنعام في هذه الحال وفي غيرها، هذا إذا أريد ببهيمة الأنعامِ الأنعامُ نفسها، وأما إذا غُنِي بها الظباءُ وحمر الوحش وبَقَره على ما فَسَّره بعضم فيظهر للتقييدِ بهذه الحال فائدةٌ، إذ يصير المعنى: أُحِلت
ولو أُريد هذا المعنى من الآية الكريمة لجاءت به على أحسن تركيب وأفصحه.
الوجه الثاني: - وهو قولُ الأخفشِ وجماعةٍ - أنه حالٌ من فاعل «أوْفوا» والتقدير: أوفوا بالعقود في حال انتفاء كونكم مُحِلِّين الصيد وأنتم حرم. وقد ضَعَّفوا هذا المذهبَ من وجهين، الأول: أنه يلزم منه الفصلُ بين الحال وصاحبها بجملة أجنبية، ولا يجوز الفصل إلا بجمل الاعتراض، وهذه الجملةُ وهي قوله: ﴿أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأنعام﴾ ليست اعتراضيةً، بل هي منشئةٌ أحكاماً ومُبَيِّنَةٌ لها، وجملةُ الاعتراض إنما تفيد تأكيداً وتسديداً. والثاني: أنه يلزمُ منه تقييد الأمر بإيفاء العقود بهذه الحالة فيصيرُ التقدير كما تقدَّم، وإذا اعتبرنا مفهومَه يصير المعنى: فإذا انتفت هذه الحالُ فلا تُوفوا بالعقود، والأمرُ ليس كذلك، فإنهم مأمورون بالإِيفاءِ بالعقودِ على كلِّ حالٍ من إحرامٍ وغيرِه.
الوجه الثالث: أنه منصوبٌ على الحالِ من الضمير المجرور في «عليكم» أي: إلاَّ ما يُتْلى عليكم حالَ انتفاءِ كونكم مُحِلِّين الصيد. وهو ضعيفٌ أيضاً بما تقدَّم من أنَّ المتلوَّ عليهم لا يُقَيَّد بهذه الحالِ دون غيرها بل هو متلو عليهم في هذه الحال وفي غيرها.
الوجه الرابع: أنه حالٌ من الفاعل المقدَّر، يعني الذي حُذف وأقيم المفعولُ مُقامه في قوله تعالى: ﴿أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ﴾ فإن التقدير عنده: أَحَلَّ الله لكم بهيمة الأنعام غيرَ محلٍ لكم الصيد وأنتم حرم. فحذفت الفاعلَ وأقامَ المفعولَ مقامه، وترك الحال من الفعل باقية. وهذا الوجهُ فيه ضعفٌ من وجوه. الأول أن الفاعلَ المنوبَ عنه صار نسياً منسيَّاً غيرَ ملتفَتٍ إليه، نصُّوا
الوجه الخامس: أنه منصوبٌ على الاستثناء المكرر، يعني أنه هو وقولَه «إلا ما يتلى» مستثنيان من شيء واحد، وهو «بيهمة الأنعام» نَقَل ذلك بعضُهم عن البصريين قال: «والتقديرُ: إلا ما يتلى عليكم إلا الصيدَ وأنتم محرمون، بخلاف قوله تعالى: ﴿إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إلى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ﴾ [الحجر: ٥٨] على ما يأتي بيانُه، قال هذا القائل:» ولو كان كذلك لوَجَبَ إباحةُ الصيد في الإِحرام لأنه مستثنى من الإِباحة. وهذا وجه ساقط، فإذن معناه: أُحِلَّتْ لكم بهيمةُ الأنعام غيرَ محلّي الصيد وأنتم حُرُمٌ إلا مايُتلى عليكم سوى الصيدِ «انتهى.
وقال الشيخ:» إنما عَرْضُ الإِشكالِ مِنْ جَعْلم «غير محلّي الصيد» حالاً من المأمورين بإيفاء العقود، أو مِن المحلِّل لهم وهو الله تعالى، أو من
١٦٨ - ٤- لَيْثٌ يعَثَّرَ يصطادُ الرجالَ إذا | ما الليثُ كَذَّب عن أقرانِه صَدَقَا |
١٦٨ - ٥- وقد ذَهَبَتْ سَلْمَى بعقلِك كلِّه | فهل غيرُ صيدٍ أَحْرَزَتْهُ حبائِلُهْ |
١٦٨ - ٦- وهِرُّ تصيدُ قلوبَ الرجالِ | وأَفْلَتَ منها ابنُ عمروٍ حُجُرْ |
إذ لا يمكن ذلك لتناقض الحكمِ، لأنَّ المستثنى من المُحَلَّل مُحَرَّم، والمستثنى من المحرم مُحَلَّل، بل إنْ كن المعنيُّ بقوله «بيهمة الأنعام» الأنعامَ أنفسها فيكونُ استثناء منقطعاً، وإن كان المرادُ الظباءَ وبقرَ الوحش وحمره، فيكون استثناء متصلاً على أحد تفسيري المُحِلّ، استثنى الصيد الذي بلغ الحِلَّ في حال كونهم مُحْرمين. فإن قلت: ما فائدةُ هذا الاستثناءِ بقيدِ بلوغِ الحِلِّ، والصيد الذي في الحرم لا يَحِلُّ أيضاً؟ قلت: الصيدُ الذي في الحَرَم لا يَحِلُّ للمحرم ولا لغير المحرم، وإنما يَحِلُّ لغير المحرم الصيدُ الذي في الحِلّ، فنبَّه بأنه إذا كان الصيد الذي في الحِلِّ على المُحْرِم - وإن كان حلالاً لغيره - فأحرى أن يَحْرُم عليه
وهذا الذي ذكره واختاره وغَلَّط الناس فيه ليس بشيء، وما ذكره من توجيه ثبوت الياء خطاً ووقفاً فخطأ محض؛ لأنه على تقدير تسليم ذلك في تلك اللغة فأين التنوينُ الذي في «مُحِل» ؟ وكيف يكون فيه تنوين وهوم ضاف حتى يقول: إنه قد يُوَجَّه بلغة الأزد، وما ذكره من كونه يحتمل مما يكونون قد كتبوه كما كتبوا تلك الأمثلة المذكورة فشيء لا يُعَوَّل عليه، لأنَّ خط المصحف سُنَّةٌ متبعة لا يقاس عليه فكيف يقول: يحتمل أن يقاس هذا على تلك الأشياء؟ وأيضاً فإنهم لم يُعْربوا «غير» إلا حالاً، حتى نقل بعضهم الإِجماع على ذلك، وإنما اختلفوا في صاحب الحال، فقوله: إنه استثناء ثان مع هذه الأوجه الضعيفة خرقٌ للإِجماع، إلا ما تقدم نَقْلَه عن بعضهم من أنه استثناء ثان، وعزاه للبصريين، لكن لا على هذا المَدْرَك الذي ذكره الشيخ. وقديماً وحديثاً استشكل الناسُ هذه الآية. قال ابن عطية: «وقد خَلَط الناس في هذا الموضع في نصب» غير «وقدَّروا تقديمات وتأخيرات، وذلك كله غير مُرْضِ، لأنَّ الكلام على اطراده فيمكن استثناء بعد استثناء» وهذه الاية مما اتضح للفصحاء البلغاء فصاحتُها وبلاغتها، حتى يُحْكَى أنه قيل للكندي: «أيها الحكيم اعمل لنا مثل هذا القرآن» فقال: «نعم أعملُ لكم مثلَ بعضِه»، فاحتجب أياماً كثيرة، ثم خَرَجَ فقال: «واللهِ لا يَقْدِرُ أحد على ذلك، إنني فتحت المصحفَ فخرجت سورةُ المائدة / فإذا هو قد نَطَقَ بالوفاء ونهى عن
والجمهور على نصب «غير»، وقرأ ابن أبي عبلة برفعه، وفيه وجهان، أظهرهما: أنه نعت ل «بهيمة الأنعام» والموصوف ب «غير» لا يلزم فيه أن يكونَ مماثلاً لما بعدها في جنسه، تقول: مررت برجلٍ غير حمار «هكذا قالوه، وفيه نظر، ولكن ظاهر هذه القراءة يدلُّ لهم. والثاني: أنه نعتٌ للضمير في» يُتْلى «قال ابن عطية:» لأنَّ «غير محلي الصيد» في المعنى بمنزلة «غير مُسْتَحَلٍ إذا كان صيداً» وقيه تكلُّفٌ.
والصيد في الأصل مصدر صاد يصيد ويُصاد، ويُطْلق على المصيد ك «درهمٌ ضَرْبُ الأميرِ» وهو في الآية الكريمة يحتمل الأمرين: أعني مِنْ كونِه باقياً على مصدريته، كأنه قيل: أَحَلَّ لكم بهيمةَ الأنعام غيرَ محلِّين الاصطيادَ وأنتم مُحْرِمون، ومن كونه واقعاً موقع المفعول أي: غيرَ محلِّين الشيء المصيدَ وأنتم مُحْرمون.
وقوله: ﴿وَأَنْتُمْ حُرُمٌ﴾ مبتدأ وخبر في محل نصب على الحال، وما هو صاحبُ هذه الحال؟ فقال الزمخشري: «هي حال عن» مُحِلّي الصيد «كأنه قيل: أَحْلَلْنا لكم بعضَ الأنعام في حال امتناعكم من الصيد وأنتم مُحْرِمون لئلا نتحرَّج عليكم» قال الشيخ «وقد بَيَّنَّا فساد هذا القول بأنَّ الأنعامَ مباحةٌ مطلقاً لا بالتقيد بهذه الحال». وهذا الردُّ ليس بشيء لأنه إذا أَحَلَّ لهم بعضَ الأنعام في حالِ امتناعِهم من الصيد فأنْ يُحِلِّها لهم وهم غيرُ
١٦٨ - ٧- فقلْتُ هلا فيئي إليك فإنني | حَرَامُ وإني بعد ذاك لبيبُ |
وقرأ يحيى بن وثاب وإبراهيم والحسن:» حُرْم «بسكون الراء، قال أبو الحسن:» هي لغة تميم «يعني يسكِّنون ضم» فُعُل «جمعاً نحو:» رُسْل «.
وقوله: ﴿يَبْتَغُونَ﴾ حالٌ من الضمير في» آمِّين «أي: حالَ كون الآمِّين مبتغين فَضْلاً، ولا يجوزُ أن تكونَ هذه الجملة صفة ل» آمّين «لأن اسم الفاعل متى وُصف بَطَل عمله على الصحيح، وخالف الكوفيون في ذلك، وأعرب مكي هذه الجملةَ صفةً ل» آمِّين «وليس بجيد لِما تقدم، وكأنه تبع في ذلك الكوفيين. وهنا سؤال: وهو أنه لِم لا قيل بجوازِ إعماله قبل وصفِه كما في هذه الآية قياساً على المصدر فإنه يَعْمل قبلَ أن يُوصف نحو: يعجبني ضربٌ زيداً شديدٌ؟ والجمهور على» يبتغون «بتاء الخطاب، على أنه خطاب للمؤمنين وهي قَلِقة لقوله: ﴿مِّن رَّبِّهِمْ﴾ ولو أريد خطاب المؤمنين لكان تمامُ المناسبة:» تبتغون فضلاً من ربكم «و» من ربهم «يجوز أن يتعلق بنفس الفعل، وأن يتعلق بمحذوف على أنه صفة ل» فضلاً «أي: فضلاً كائناً من ربهم. وقد تقدم الخلاف في ضم راء» رضوان «في آل عمران. وإذا عَلَّقنا» من ربهم «بمحذوفٍ على أنه صفة ل» فضلاً «فيكون قد حَذَفَ صفة» رضوان «لدلالةِ ما قبله عليه أي: ورضواناً من ربهم، وإذا عَلَّقناه بنفس الفعل لم يَحْتَجْ إلى ذلك.
قوله: ﴿وَإِذَا حَلَلْتُمْ فاصطادوا﴾ قُرئ:» أَحْللتم «وهي لغة في» حَلَّ «،
قوله: ﴿وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ﴾ قرأ الجمهور: «يَجْرِمَنَّكم» بفتح الياء من «جرم» ثلاثياً «ومعنى» جَرَمَ «عند الكسائي وثعلب: حمل، يقال:» جَرَمه على كذا «أي: حمله عليه، فعلى هذا التفسير يتعدَّى» جرم «لواحد، وهو الكاف والميم، ويكون قوله: ﴿أَن تَعْتَدُواْ﴾ على إسقاطِ حرف الخفض وهو» على «أي: ولا يَحْملنكم بُعْضكم لقوم على اعتدائكم عليهم، فيجيء في محلِّ» أَنْ «الخلافُ المشهور، وإلى هذا المعنى ذهب ابن عباس وقتادة. ومعناه عند أبي عبيد والفراء كسب، ومنه» فلان جريمةُ أهله «أي: كاسبهُم، وعن
وقرأ عبد الله:» يُجْرِمَنَّكم «بضم الياء من أجرم رباعياً، وقيل: هو بمعنى جَرَم كا تقدم نَقْلُه عن الكسائي، وقيل:» أجرم «منقول من» جرم «بهمزة التعدية. قال الزمخشري:» جَرَم يجري مجرى كسب في تعديتِه إلى مفعول واحد وإلى اثنين، تقول: «جَرَمَ ذنباً» نحو: كَسبه، وجرمته ذنباً أي: كَسَبته إياه، ويقال: أجرمته ذنباً على نقل المتعدي إلى مفعول بالهمزة إلى مفعولين كقولك: «أكسبته ذنباً» وعليه قراءةُ عبد الله: «ولا يُجْرمنكم»، وأولُ المعفولين على القراءتين / ضميرُ المخاطبين، والثاني: «أَنْ تعتدوا» انتهى وأصلُ هذه المادةِ - كما قال ابن عيسى الرماني - القطعُ، فجرم «حَمَل على الشيء» لقطعِه عن غيره، وجَرَم «كَسَب» لانقطاعه إلى الكسب، وجَرَم بمعنى «حَقّ» لأن الحق يُقطع عليه. قال الخليل: ﴿لاَ جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النار﴾ [النحل: ٦٢] أي: لقد حق، هكذا قال الرماني، فجَعَل بين هذه الألفاظ قَدْراً مشتركاً، وليس عنده من باب الاشتراك اللفظي.
و «شَنآنُ: معناه بُغْض، وهو مصدر شَنِئ أي: أبغض. وقرأ ابن عامر وأبو بكر عن عاصم:» شَنْآن «بسكونِ النون، والباقون بفتحها، وجَوَّزوا في كل
١٦٨ - ٨-.................. | كَتَيْسِ ظِباء الحُلَّبِ العَدَوانِ |
١٦٨ - ٩- وقبلَك ما هابَ الرجالُ ظُلامتي | وفَقَّأْتُ عينَ الأَشْوَسِ الأَبَيَانِ |
١٦٩ - ٠- وما الحبُّ إلا مَا تَلذُّ وتَشْتَهي | وإنْ لامَ فيه ذو الشَّنَانِ وفَنَّدا |
قوله تعالى: ﴿أَن صَدُّوكُمْ﴾ قرأ أبو عمرو وابن كثير بكسر «إنْ» والباقون بفتحها، فمَنْ كسر فعلى أنها شرطية، والفتح على أنها علة للشنآن أي: لا يكسبنَّكم أولا يَحْمِلَنَّكم بغضُكم لقوم لأجل صَدِّهم إياكم عن المسجد الحرام، وهي قراءةٌ واضحة.
وقد استشكل الناسُ قراءة الأبوين من حيث إنَّ الشرط يقتضي أنَّ الأمر المشروط لم يقع، والفرض أنَّ صَدَّهم عن البيت الحرام كان وقد وقع، ونزولُ هذه الآية متأخرٌ عنه بمدة، فإنَّ الصدَّ وقع عامَ الحديبية وهي سن ست، والآية نزلت سنة ثمان، وأيضاً فإنَّ مكةَ كانت عام الفتح في أيديهم فكيف يُصَدون عنها؟ قال ابن جريج والنحاس وغيرهما: «هذه القراءة منكرةٌ» واحتجوا بما تقدم من الإِشكال، ولا إشكالَ في ذلك. فالجواب عما قالوه من وجهين، أحدهما: أنَّا لا نُسَلِّم أن الصدَّ كان قبل نزول الآية فإنَّ نزولها عام الفتح ليس مُجْمعاً عليه. وذكر اليزيدي أنها نزلت قبل
١٦٩ - ١- أتغضَبُ إنْ أُذْنا قتيبةَ حُزَّنا | .................... |
ونَظْمُ هذه الآيات على ما هي عليه مِنْ أبلغ ما يكون وأفصحِه، وليس فيها تقديمٌ ولا تأخير كما زعم بعضهم فقال: / أصلُ تركيب الآية الأولى:»
وقوله: ﴿أَن تَعْتَدُواْ﴾ قد تقدَّم أنه من متعلقات «لا يجرمنكم» على أنه مفعولٌ ثانٍ أو على حذف حرف الجر، فَمَنْ كسر «إن صدوكم» يكونُ الشرطُ وجوابُه المقدر في محلِّ جر صفة ل «قوم» اي شنآن قوم هذه صفتُهم، ومَنْ فتحها فمحلُّها الجرُّ أو النصب، لأنها على حَذْفِ لام العلة كما تقدم. قال الزمخشري: «والمعنى: ولا يكسبنكم بغضُ قوم لأنْ صَدُّوكم الاعتداءَ ولا يَحْملنكم عليه» قال الشيخ: وهذا تفسيرُ معنى لا تفسير إعراب، لأنه يمتنع أن يكونَ مدلولُ «جرم» حمل وكَسَب في استعمال واحد لاختلافِ مقتضاهما، فيمتنعُ أن يكونَ « [أن] تعتدوا» في محلِّ مفعول به ومحلِّ مفعولٍ على إسقاط حرف الجر «وهذا الذي قال لا يُتَصَوَّر أن يتوهَّمه مَنْ له أدنى بصر بالصناعة حتى يُنَبِّه عليه.
وقد تقدَّم قراءة البزي في نحو:» ولا تَّعاوَنُوا «وأنَّ الأصل:» تتعاونوا «
١٦٩ - ٢- وسِباعُ الطيرِ تَغْدُو بِطاناً | تتخطَّاهُمُ فما تَسْتَقِلُّ |
١٦٩ - ٣- على أعراقهِ تَجْري المَذاكي | وليس على تقلُّبِه وجُهْدِهْ |
والثاني: هي على
١٦٩ - ٤- وذا النُّصُبَ المنصوبَ لا تَقْرَبَنَّه | ولا تَعْبُدِ الشيطانَ واللَّهَ فاعبُدا |
قوله: ﴿وَأَنْ تَسْتَقْسِمُواْ بالأزلام﴾ » أن «وما في حيزها في محلِّ رفع عطفاً على» المتية «والأزلام: القِداح، واحدُها» زَلْم «و» زُلْم «بفتح الزاي وضمها. والقِداح: سهام كانت العرب تطلب بها معرفة ما قُسم لها من خير وشر، مكتوبٌ على أحدها:» أمرني ربي «وعلى الآخر:» نهاني ربي «، والآخر غُفْل. وقيل: هي سهام الميسر أي: القِمار، ووجهُ ذكرها مع هذه المطاعم أنها كانت تُرفع عند البيت معها.
قوله: ﴿اليوم يَئِسَ الذين كَفَرُواْ﴾ » اليوم «ظرفٌ منصوبٌ ب» يئس «والألفُ واللام فيه للعهدِ، قيل: أرادَ به يوم عرفة، وهو يوم الجمعة عامَ حجة الوداع، نزلَتْ هذه الآيةُ فيه بعد العصر. وقيل: هو يومَ دخولِه عليه السلام مكة سنة تسع، وقيل: ثمان وقال الزجاج - وتبعه الزمخشري - إنها ليست للعَهد، ولم يُرد باليوم معيناً، وإنما أراد به الزمانَ الحاضر وما يدانيه من الأزمنة الماضية والآتية كقولك:» كنت بالأمس شاباً وأنت اليوم أشيب «لا تريد بالأمس الذي قبل يومك، ولا باليوم الزمنَ الحاضر فقط، ونحوه:» الآن «في قول الشاعر:
١٦٩ - ٥- الآن لَمَّا ابيضَّ مَسْربتي | وعَضَضْتُ مِنْ نابي على جِذْمِ |
١٦٩ - ٦- وأَعلم ما في اليومِ والأمسِ قبلَه | ولكنني عن علمِ ما في غَدٍ عَمِ |
واليأس: انقطاع الرجاء، وهو ضد الطمع. و «من دينكم» متعلق ب «يئس» ومعناها ابتداءُ الغاية، وهو على حَذْف مضاف أي: من إبطال أمر دينكم. والكلامُ في قوله: ﴿اليوم أَكْمَلْتُ﴾ كالكلامِ على «اليوم» قبله. و «عليكم» متعلقٌ ب «أَتْممت»، ولا يجوزُ تعلُّقه ب «نعمتي» وإن كان فعلُها يتعدَّى ب «على» نحو: ﴿أَنعَمَ الله عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ﴾ [الأحزاب: ٣٧] لأنَّ المصدرَ لا يتقدَّم عليه معمولُه، إلا أَنْ ينوبَ منابَه، قال أبو البقاء: «فإنْ جَعَلْته على التبيين، أي: أتممت أعني عليكم جازَ» ولا حاجةَ إلى ما ادَّعاه.
قوله: ﴿وَرَضِيتُ لَكُمُ الأسلام دِيناً﴾ في «رَضي» وجهان، أحدهما: أنه متعدٍّ لواحدٍ وهو الإِسلام. و «ديناً» على هذا حالٌ. وقيل: هو مُضَمَّن معنى صَيَّر وجَعَل، فيتعدَّى لاثنين أولهما «الإِسلام»، والثاني: «ديناً». و «لكم» يجوز فيه وجهان، أحدهما:: أنه متعلق ب «رضي»، والثاني: أنه متعلقٌ بمحذوفٍ لأنه حال من الإِسلام، ولكنه قُدِّم عليه. قوله: «فمن اضطر» قد تقدَّم الكلامُ على هذه الآيةِ وما قرئ فيها في البقرة فأغنى عن إعادته.
و «في مَخْمَصَةٍ» متعلقٌ ب «اضْطُرَّ»، والمَخْمَصَةُ: المجاعة لأنها تَخْمُصُ لها البطونُ أي: تَضْمُرُ، وهي صفةٌ محمودةٌ في النساء، يقال: رجلٌ خُمْصان
١٦٩ - ٧- تَبيتون في المَشْتى مِلاءً بطونُكم | وجارتُكم غَرْثَى يَبِتْنَ خمائصا |
١٦٩ - ٨- كُلوا في بعضِ بطنِكُمُ تَعِفُّوا | فإنَّ زمانَكم زمنٌ خَميصُ |
قوله: ﴿وَمَا عَلَّمْتُمْ﴾ في» ما «هذه ثلاثة أوجه، أحدها: أنها موصولةٌ بمعنى الذي، العائدُ محذوف أي: ما عَلَّمْتموه، ومحلها الرفع عطفاً على مرفوعِ ما لم يُسَمَّ فاعلُه أي وأُحِلَّ لكم صيدٌ أو أخذُ ما عَلَّمتم، فلا بد من حذف هذا المضاف. والثاني: أنها شرطية فمحلُّها رفع بالابتداء، والجوابُ قولُه:» فكُلوا «قال الشيخ:» وهذا أظهرُ لأنه لا إضمار فيه «والثالث: أنها موصولة أيضاً ومحلُّها الرفعُ بالابتداء، والخبر قوله:» فكُلوا، وإنما دخَلَتِ الفاء تشبيهاً للموصول باسم الشرط.
«مكلِّبين» حالٌ من فاعل «عَلَّمتم»، ومعنى «مكلِّبين» مؤدبين ومُضْرِين ومُعَوِّدين قال الشيخ «وفائدةٌ هذه الحالِ - وإنْ كانت مؤكدةً لقولِه:» عَلَّمتم «فكان يَسْتغنى عنها - أن يكون المعلمُ ماهراً بالتعليم حاذقاً فيه موصوفاً به» انتهى، وفي جَعْلِه هذه الحالِ مؤكدةً نظرٌ، بل هي مؤسسةٌ.
واشتُقَّت هذه الحالُ من لفظ «الكَلْب» هذا الحيوانِ المعروفِ وإن كانت الجوارحُ يندرج فيها غيرُه حتى سباعُ الطيور تغليباً له، لأنَّ الصيدَ أكثرُ ما يكون به عند العرب. أو اشتقت من «الكَلَب» وهو الضراوة، يقال: هو كَلِبٌ بكذا أي: حريص، وبه كَلَبٌ أي: حرص، وكأنه أيضاً مشتق من الكَلْبِ هذا الحيوانِ لحرصه، أو اشتقت الكَلْب، والكَلْبُ يُطْلق على السَّبُع أيضاً، ومنه الحديثُ: «اللهم سَلِّط عليه كَلْباً من كلابك» فأَكَله الأسد. قال الشيخ: وهذا الاشتقاقٌ لا يَصحُّ لأنَّ كونَ الأسدِ كلباً هو وصف فيه، والتكليبُ من
قوله: ﴿تُعَلِّمُونَهُنَّ﴾ فيه أربعة أوجه، أحدها: أنها جملة مستأنفة. الثاني: أنها جملة في محلِّ نصب على أنها حال ثانية من فاعل «عَلَّمتم» ومَنَع أبو البقاء ذلك لأنه لا يُجيز للعامل أن يَعْمل في حالين، وتقدَّم الكلامُ في ذلك. الثالث: أنها حال من الضمير المستتر في «مُكَلِّبين» فتكون حالاً من حال وتسمى المتداخلة، وعلى كلا التقديرين المتقدمين فهي حال مؤكدة، لأن معناها مفهوم من «عَلَّمْتُمْ» ومن «مُكَلِّبين» والرابع: أن تكون جملة اعتراضية، وهذا على جَعْل «ما» شرطية، أو موصولة خبرها «فكلوا» فيكون قد اعترض بين الشرط وجوابه أو بين المبتدأ وخبره. فإن قيل: هل يجوز وجهٌ خامس، وهو أن تكون هذه الجملةُ حالاً من الجوارح أي: من الجوارحِ حالَ كونِها تُعَلِّمونهن، لأنَّ في الجملةِ ضميرَ ذي الحال «فالجوابُ أن ذلك لا يجوز، لأنَّ ذلك يؤدِّي إلى الفصل بين هذه الحال وبين صاحِبها بأجنبي وهو» مكلِّبين «الذي هو حالٌ من فاعل» عَلَّمتم «.
والنونُ في «أمسكن» للجوارح. و «عليكم» متعلق ب «أمسكن» والاستعلاءُ هنا مجازٌ. قوله: «عليه» في هذه الهاء ثلاثةُ أوجه، أحدُها: أنها تعود على المصدرِ المفهومِ من الفعل وهو الأكلُ كأنه قيل: واذكروا اسم الله على الأكلِ، ويؤيده ما في الحديث «سَمِّ الله، وكُلْ مِمَّا يَليك» والثاني: أنه يعود على «ما عَلَّمْتم» أي: اذكروا اسمَ الله على الجوارح عند إرسالِها على الصيد، وفي الحديث: «إذا أَرْسَلْت كلبك وذكرت اسمَ الله» والثالثُ: أنَّها تعودُ على «ما أَمْسَكْن» أي: اذكروا اسمَ الله ما أَدْركتم ذكاته مما أَمْسَكَتُه عليكم الجوارح.
قوله: ﴿والمحصنات﴾ في رفعه أيضاً وجهان، أحدهما: أنه مبتدأٌ خبرُه محذوفٌ أي: المُحْصَنات حِلُّ لكم أيضاً، وهذا هو الظاهر. واختار أبو البقاء أن يكونَ معطوفاً على «الطيبات» فإنه قال: «مِن المؤمنات» حالٌ من الضمير في «المُحْصَنات» أو من نفس «المحصنات» إذا عَطَفَتْها على «الطيبات» و «حِلٌّ» : مصدر بمعنى الحال فلذلك لم يُوَنَّث ولم يُثَنَّ ولم يُجْمع، لأنه أحسن الاستعمالين في المصادر الواقعة صفةً للأعيان، ويُقال في الإِتباع: حِلُّ بِلُّ «وهو كقولهم:» حَسَن بَسَن «و» عَطْشان نَطْشان «و» من المؤمنات «حالٌ كما تقدم: إمَّا من الضمير في» المحصنات «أو من» المحصنات «/. وقد تقدَّم الكلامُ في اشتقاق هذه اللفظة واختلافِ القُرَّاء فيها في سورة النساء.
قوله: ﴿إِذَآ آتَيْتُمُوهُنَّ﴾ ظرفٌ العاملُ فيه أحدُ شيئين: إمَّا» أُحِلَّ «وإمَّا» حِلُّ «المحذوفُ على حَسَب ما قُرِّرَ. والجملة بعده في محلِّ خفضٍ
وقوله: ﴿وَمَن يَكْفُرْ بالإيمان﴾ تقدَّم له نظائر. وقيل: المراد بالإِيمان المؤمَنُ به، فهو مصدرٌ واقعٌ موقعَ المفعول ك «درهم ضَرْبُ الأمير» وقيل: ثَمَّ مضافٌ محذوف أي: بموجِبِ الإِيمان وهو الباري تبارك وتعالى.
قوله: ﴿وَهُوَ فِي الآخرة مِنَ الخاسرين﴾ الظاهرُ أنَّ الخبرَ قوله: «من الخاسرين» فيتعلَّقُ قولُه «في الآخرة» بما تعلَّق به هذا الخبر. وقال مكي: «العاملُ في الظرفِ محذوفٌ تقديرُه:» وهو خاسر في الآخرةِ «ودَلَّ على المحذوفِ قولُه:» من الخاسرين «. فإن جعلة الألف واللام في» الخاسرين «ليستا بمعنى الذين جاز أن يكونَ العامل في الظرف» من الخاسرين «يعني أنه لو كانَتْ موصولةً لامتنع أن يعمل ما بعدها فيما قبلها، لأنَّ الموصولَ لا يتقدم
قال الزمخشري: «فإنْ قلت: لِمَ جازَ أن يُعَبِّر عن إرادة الفعل بالفعل» قلت: لأن الفعل يوجَدُ بقدرة الفاعل عليه وإرادته له وهي قصدُه إليه وميلُه وخلوصُ داعيتهِ، فكما غَبَّر عن القدرة على الفعل بالفعل في قولهم: «الإِنسانُ لا يطير، والأعمى لا يبصر» أي: لا يَقْدران على الطير والابصار، ومنه قولُه تعالى: ﴿نُّعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَآ إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ﴾ [الأنبياء: ١٠٤] أي: قادرين على الإِعادة، كذلك عبر عن إرادة الفعل بالفعل؛ وذلك لأن الفعل مُسَبِّب عن
قوله: ﴿إِلَى المرافق﴾ في» إلى «هذه وجهان، أحدهما: أنها على بابها من انتهاء الغاية، وفيها حنيئذ خلاف، فقائلٌ: إنَّ ما بعدها لا يدخل فيما قبلها، وقائلٌ بعكس ذلك، وقائل: لا تَعَرُّضَ لها في دخولٍ ولا عدَمِه، وإنما يدور الدخولُ والخروج مع الدليل وعدمه. وقائل: إن كان ما بعدها من جنس ما قبلها دخل في الحكم وإلا فلا، ويُعْزى لأبي العباس. وقائل: إنْ كان ما بعدَها من غير جنس ما قبلها لم يَدْخُل، وإن كان من جنسِه فيحتمل الدخولَ وعَدَمه، وأول هذه الأقوالِ هو الأصحُّ عند النحاة. قال بعضُهم: وذلك أنَّا حيث وَجَدْنا قرينةً مع» إلى «فإن تلك القرينةَ تقتضي الإِخراجَ مما قبلها، فإذا وَرَدَ كلامٌ مجردٌ عن القرائن فينبغي أن يُحْمَلَ على الأمر الفاشي الكثير وهو الإِخراج، وفَرَّق هذا القائل بين» إلى «و» حتى «فجعل» حتى «تقتضي الإِدخالَ، و» إلى «تقتضي الإِخراج بما تقدم من الدليل، وهذه الأقوالُ دلائلها في غيرِ هذا الكتاب، وقد أوضَحْتُها في كتابي» شرح التسهيل «والقول الثاني: أنها بمعنى» مع «أي: مع المرافق، وقد تقدَّم الكلامُ في ذلك عند قوله: ﴿إلى أَمْوَالِكُمْ﴾ [النساء: ٢]. والمرافقُ: جمع» مَرْفِق «بفتح الميم وكسر الفاء
قوله: ﴿بِرُؤُوسِكُمْ﴾ في هذه الباء ثلاثةٌ أوجه، أحدها: أنها للإِلصاق أي: أَلْصِقوا المسحَ برؤوسكم. قال الزمخشري: «المراد إلصاقُ المسحِ بالرأس، وماسحُ بعضِه ومستوعبُه بالمسح كلاهما مُلْصِقٌ المسحَ برأسه» قال الشيخ: «وليس كما ذكر» يعني أنه لا يُطلق على الماسح بعضَ رأسِه أنه ملصقٌ المسحَ برأسِه/. وهذه مُشاحَّةٌ لا طائل تحتها. والثاني: أنها زائدةٌ، كقوله: ﴿وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ﴾ [البقرة: ١٩٥]، وقوله:
١٦٩ - ٩-........... | ......... لا يَقْرَأْنَ بالسُّوَرِ |
١٧٠ - ٠- شَرِبْنَ بماءِ البحرِ ثم ترفَّعَتْ | ................ |
قوله: ﴿وَأَرْجُلَكُمْ﴾ قرأ نافع وابن عامر والكسائي وحفص عن عاصم:»
وأمَّا قراءةُ الجر ففيها أربعةُ تخاريجَ، أحدها: أنه منصوبٌ في المعنى عطفاً على الأيدي المغسولة، وإنما خُفض على الجوار، كقولهم: «هذا جُحْرُ ضبٍّ خَرِبٍ» بجر «خرب» وكان مِنْ حَقِّه الرفعُ لأنه صفة في المعنى للجحر لصحة اتصافه به، والضَّبُّ لا يوصف به، وإنما جَرُّه على الجوار، وهذه المسألة عند النحويين لها شرط وهو أن يُؤْمَنَ اللبس كما تقدم تمثيله، بخلاف: «قام غلام زيد العاقل» إذا جعلت «العاقل» نعتاً للغلام امتنع جَرُّه على الجوار لأجل اللَّبْس، وأنشد أيضاً قول الشاعر:
١٧٠ - ١-
كأنما ضَرَبَتْ قُدَّامَ أعينِها | قُطْناً بمستحصِدِ الأوتارِ مَحْلوجِ |
١٧٠ - ٢- فأياكم وَحيَّةَ بَطْنِ وادٍ | هموزٍ النابِ ليس لكم بِسِيِّ |
١٧٠ - ٣- كأن ثَبيراً في عرانينِ وَبْلِه | كبيرُ أُناسٍ في بِجادٍ مُزَمَّلِ |
١٧٠ - ٤- كأنَّ نَسْجَ العنكبوتِ المُرْمَل... بجر «محلوج» وهو صفةٌ ل «قطنا» المنصوبِ، وبجر «هموز» وهو صفة ل «حية» المنصوبِ، وبجر «المزمل» وهو صفة «كبير» لأنه بمعنى الملتف، وبجرِّ «المُرْمل» وهو صفة «نَسْج»، وإنما جُرَّت هذه لأجلِ المجاورِة، وقرأ الأعمش: ﴿إنَّ الله هو الرزاقُ ذو القوةِ المتينِ﴾ بجر المتين مجاورَةً ل «القوة» وهو صفةٌ ل «الرزاق»، وهذا وإن كان وارداً، إلا ان التخريجَ عليه ضعيفٌ لضَعْفِ الجوارِ من حيث الجملةُ، وأيضاً فإنَّ الخفضَ على الجوارِ إنما وَرَدَ في
١٧٠ - ٥- يا صاحِ بَلَّغ ذوي الزوجاتِ كلِّهمِ | أَنْ ليسَ وَصْلٌ إذا انْحَلَّتْ عُرَى الذَّنَبِ |
١٧٠ - ٦- لم يَبْقَ إلاَّ أسيرٌ غيرُ مُنْفَلِتٍ | أو مُوْثَقٍ في حبال القومِ مَجْنُوبِ |
﴿فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا﴾ [الأنعام: ١٦٠] فحذف / التاءَ منْ «عشر» وهي مضافةٌ إلى الأمثال وهي مذكرةٌ، ولكنْ لَمَّا جاورت الأمثالُ ضميرَ المؤنث أَجْرى عليها حكمَه، وكذلك قوله:
١٧٠ - ٧- لَمَّا أتى خبرُ الزبيرِ تواضعتْ | سورُ المدينةِ والجبالُ الخُشَّعُ |
أمَّا قوله:» إنَّ ﴿وَحُورٌ عِينٌ﴾ من هذا الباب فليس بشيء، لأنه: إمَّا [أن] يقدَّر عطفهُما على ما تقدم بتأويلٍ ذكره الناس كما سيتأتي أو بغير تأويل، وإما أن لا يعطفَهما، فإنْ عَطَفَهما على ما تقدم وجب الجر، وإن لم يعطفهما لم يَجُز الجر، وأمّا جَرُّهما على ما ذكره الناس فقيل: لعطفهما على المجرور بالباء قبلهما على تضمين الفعلِ المتقدم «يتلذذون ويَنْعَمون بأكواب وكذا وكذا» أولا يُضَمَّن الفعلُ شيئاً ويكون لطواف الوالدانِ بالحورِ العين على أهل الجنة لذاذة لهم بذلك، والجواب إنما يكونُ حيث يستحقُ الاسمُ غيرَ الجر فيُجَرُّ لمجاورةِ ما قبله، وهذا - كما ترى - قد صَرَّح هو به أنه معطوفٌ على «بأكواب» غايةُ ما في الباب أنه جَعَلَه مختلفَ المعنى، يعنى أنه عنده لا يجوزُ عطفُهما على «بأكواب» إلا بمعنى آخرَ وهو تضمينُ الفعل، وهذا لا يَقدَحُ في العطفية. وأما البيتُ فجرُّ «موثقٍ» ليس لجواره «ل» منقلتٍ «وإنما هو مراعات للمجرور ب» غير «، لأنهم نَصُّوا على أنك إذا جئت بعد» غير «ومخفوضها بتابعٍ جاز أن يَتْبع لفظَ» غير «وأن يَتبع المضاف إليه، وأنشدوا البيت، ويروى:» لم يبق فيها طريدٌ غيرُ منفلتٍ «وأما باقي الأمثلة التي أوردها فليست من المجاوره التي تؤثر في تغيير الإِعراب، وقد تقدَّم أن النحويين خَصَّصوا ذلك بالنعت وأنه قد جاء في التوكيد ضرورةً.
قال أبو البقاء: «وحَذْفُ حرفِ الجر وإبقاءُ الجرِ جائزٌ كقوله:
١٧٠ - ٨- مشائيمُ ليسوا مُصْلِحينَ عشيرةً | ولا ناعبٍ إلا بِبَيْنٍ غرابُها |
وأمَّا قراءةُ الرفع فعلى الابتداء والخبر محذوف أي: وأرجلُكم مغسولةٌ أو ممسوحة على ما تقدم في حكمها. والكلام في قوله: «إلى الكعبين» كالكلام في «إلى المرفقين». والكعبان فيهما قولان مشهوران، أشهرهما: أنهما العَظْمان الناتئان عند مفصل الساق والقدم، في كل رِجْلٍ كعبان. والثاني: أنه العظم الناتئ في وجه القدم حيث يجتمع شِراك النعل، ومرادُ الآية هو الأول. والكعبة: كلُّ بيتٍ مربع، وسيأتي بيانُه في موضعِه.
قوله: «منه» في محلِّ نصبٍ متعلِّقاً ب «امسحوا» و «مِنْ» فيها وجهان أظهرهما: أنها للتبعيض. والثاني: انها لا بتداء الغايةِ، ولهذا لا يُشْترط عند هؤلاء أن يتعلق باليد غبارٌ. وقوله: «ليجعلَ» الكلامُ في هذه اللامِ كالكلامِ عليها في قوله:
﴿يُرِيدُ الله لِيُبَيِّنَ لَكُمْ﴾ [النساء: ٢٦]، إلا أنَّ مَنْ جَعَلَ مفعولَ الإِرادة محذوفاً وعَلَّقَ به اللامَ مِنْ «ليجعلَ» زاد «مِنْ» في الإِيجاب في قوله «من حرج»، وساغَ ذلك لأنه في حَيِّز النفي وإن لم يكن النفيُ واقعاً على فعل الحرج. و «من حرج» مفعول «ليجعل» والجعلُ
قوله: ﴿عَلَيْكُم﴾ فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أظهرُها: أنه متعلق ب «يتم». والثاني: «أنه متعلقٌ ب» نعمته «والثالث: أنه متعلق بمحذوفٍ على أنه حالٌ من» نعمته «ذكر هذين الوجهين الأخيرين أبو البقاء وهذه الآيةُ بخلاف التي قبلَها في قوله: ﴿وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي﴾ [المائدة: ٣] حيث امتنع تعلُّقُ الجارِّ بالنعمةِ لتقدُّم معمول المصدر عليه كما تقدَّم بيانه. قال الزمخشري» وقرئ فَأَطْهِروا أي: أَطْهروا أبدانَكم، وكذلك: «ليُطْهِركم» يعين أنه قُرِئ: «أَطِهِروا» أمراً من أَطْهَر رباعياً كَأَكْرم، ونسب الناسُ القراءة الثانية - أعني قوله «لِيُطهِرَكم» لسعيد بن المسيب.
قوله: ﴿لَئِنْ أَقَمْتُمُ﴾ هذه اللامُ هي الموطئة للقسم، والقسم معها محذوفٌ، وقد تقدَّم أنه إذا اجتمع شرطٌ وقسمٌ أجيب سابقهما، إلا أن يتقدَّم ذو خبرٍ فيُجاب الشرطُ مطلقاً. وقوله: ﴿لأُكَفِّرَنَّ﴾ هذه اللام هي جوابُ القسم لسبقه، وجوابُ الشرط محذوفٌ / لدلالة جواب القسم عليه، وهذا معنى قول الزمخشري أنَّ قوله «لأكفرنَّ» سادٌّ مسد جوابي القسم والشرط، لا كما فهمه بعضُهم، وردَّ عليه ذلك. ويجوز أن يكون «لأكفرن» جواباً لقوله تعالى قبل
والتعزير: التعظيم، قال:
١٧٠ - ٩- بدا ليَ أنِّي لستُ مُدْرِكَ ما مضى | ولا سابقٍ شيئاً إذا كان جائِيا |
١٧١ - ٠- وكم من ماجدٍ لهُمُ كريمٍ | ومِنْ لَيْثٍ يُعَزَّرُ في النَّدِيِّ |
١٧١ - ١- لها صَواهِلُ في صُمِّ السِّلام كما | صاحَ القَسِيَّات في أَيْدي الصياريفِ |
١٧١ - ٢- وما زَوَّدوني غيرَ سَحْقِ عِمامةٍ | وخمسَ مِئٍ منها قِسِيُّ زائفُ |
قوله: ﴿يُحَرِّفُونَ﴾ في هذه الجملة أربعة أوجه، أنها مستأنفة بيانٌ لقسوة قلوبهم، لأنه لا قسوةَ أعظمُ من الافتراء على الله تعالى. والثاني: أنها حال من مفعول «لعنَّاهم» أي: لعنَّاهم حالَ اتصافهم بالتحريف. والثالث: - قال أبو البقاء - أنه حال من الضمير المستتر في «قاسية»، وقال: «ولا يجوزُ أن يكون حالاً من القلوب، لأن الضمير في» يُحَرِّفون «لا يرجع إلى القلوب» وهذا الذي قاله فيه نظر، لأنه من حيث جَوَّز أن يكونَ حالاً من الضمير في «قاسية» يلزَمُه أن يُجَوِّز أن يكون حالاً من «القلوب» لأنَّ الضميرَ المسترر في «قاسية» يعودُ على القلوب، فكما يمتنع أن يكونَ حالاً مِنْ ظاهره،
ولقائل أن يقولَ: المرادُ بالقلوبِ نفسُ الأشخاص، وإنما عَبَّر عنهم بالقلوب لأن هذه الأعضاءَ هي محلُّ التحريف أي: إنه صادرٌ عنها بتفكُّرها فيه، فيجوزُ على هذا أن يكونَ حالاً من القلوب. والرابع: أن تكون حالاً من «هم» قال أبو البقاء: «وهو ضعيفٌ» يعني لأنَّ الحالَ من المضاف إليه لا تجوزُ، وغيرُه يجوِّزُ ذلك في مثلِ هذا الموضعِ؛ لأنَّ المضاف بعضُ المضاف إليه. / وقرأ الجمهورُ بفتح الكافِ وكسرِ اللامِ وهو جمعُ «كلمة» وقرأ أبو رجاء: «الكِلْمِ» بكسر الكافِ وسكونِ اللام، وهو تخفيفُ قراءة الجماعة، وأصلُها أنه كَسَرَ الكافَ إتباعاً ثم سكَّن العينَ تخفيفاً، وقرأ السُلمي والنخغي: «الكلام» بالألف. «وعن مواضِعه» قد ذُكِر مثلُه في النساء.
قوله: ﴿على خَآئِنَةٍ﴾ في «خائنة» ثلاثةُ أوجه، أحدها: أنها اسمُ فاعل والهاء للمبالغة كراوية ونسَّابة أي: على شخص خائن، قال الشاعر:
١٧١ - ٣- حَدَّثْتَ نفسَك بالوفاءِ ولم تَكُنْ | للغدرِ خائنةً مُغِلَّ الإصبَعِ |
قوله: ﴿إِلاَّ قَلِيلاً﴾ منصوبٌ على الاستثناء، وفي المستنثى منه أربعةُ أقوالٍ، أظهرُها: أنه لفظ خائنة، وهمُ الأشخاصُ المذكورون في الجملة قبله أي: لا تزالُ تَطَّلع على مَنْ يَخْون منهم إلى القليلَ، فإنه لا يخون فلا تَطَّلِعُ عليه، وهؤلاء هم عبد الله بن سلام وأصحابه. قال أبو البقاء «ولو قرئ بالجر على البدل لكان مسقيماً» يعني على البدل من «خائنة» فإنه في حَيِّز كلام غير موجب. والثاني: ذكره ابن عطية أنه الفعل أي: لا تزال تطَّلع على فِعْل الخيانة إلا فعلاً قليلاً، وهذا واضح إنْ أُريد بالخيانة أنها صفة للفعلة المقدرة كما تقدَّم، ولكن يُبْعِدُ ما قاله ابنُ عطية قولُه بعدَه «منهم»، وقد تقدَّم لنا نظيرُ ذلك في قوله ﴿مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ﴾ [النساء: ٦٦]، حيث جَوَّز الزمخشري فيه أن يكونَ صفةً لمصدرٍ محذوفٍ. الثالث: أنه «قلوبهم» في قوله: ﴿وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً﴾ قال صاحبُ هذا القول: «والمرادُ بهم المؤمنون لأن القسوة زالَتْ عن قلوبهم» وهذا فيه بُعْدٌ كبير، لقوله «لعنَّاهم» الرابع: أنه الضمير في «منهم» مِنْ قوله تعالى: ﴿على خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ﴾ قاله مكيّ.
قوله: ﴿بَيْنَهُمُ﴾ فيه وجهان، أحدهما: أنه ظرفٌ ل «أغرينا». والثاني: أنه حالٌ من «العداوة» فيتعلق بمحذوف، ولا يجوز أن يكون ظرفاً للعداوة، لأنَّ المصدر لا يتقدم معموله عليه. «وإلى يوم القيامة» أجاز فيه أبو البقاء أن يتعلَّق بأغرينا، أو بالعداوة، أو بالبغضاء، أي: أغرينا إلى يوم القيامة بينهم العداوة والبغضاء، أو أنهم يتعادَون إلى يوم القيامة، أو يتباغضون إلى يوم القيامة. وعلى مأ أجازه أبو البقاء تكونُ المسألةُ من باب الإعمال، ويكون قد وُجد التنازع بين ثلاثة عوامل، ويكون من إعمال الثالث للحذف من الأول والثاني، وتقدم تحرير ذلك. و «أغرينا» مِنْ أغراه بكذا أي: ألزمه إياه، وأصلُه من الغِراء الذي يُلْصَقُ به ولامه واو، فالأصل: أَغْرَوْنا، وإنما قُلِبت الواو ياء لوقوعها رابعة كأغوينا، ومنه قولُهم: «سَهْمٌ مَغْرُوُّ» أي معمول بالغِراء، يقال «غَرِيَ بكذا يَغْرى غَرَاء وغِراء، فإذا أريد / تعديتُه عُدِّي بالهمزة، فقيل:» أغريته بكذا «. والضميرُ في» بينهم «يحتمل أن يعود على» الذين قالوا إنَّا نصارى «وأن يعودَ على اليهود المتقدمين الذكر، وبكلٍ قال جماعةٌ، وهذا الكلامُ معطوف على الكلام قبله من قوله: ﴿وَلَقَدْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ بني إِسْرَآئِيلَ﴾
والضميرُ في «به» يعودُ على مَنْ جَعَلَ «يَهْدي» حالاً منه أو صفة له، قال أبو البقاء: «فلذلك أُفْرِد، أي: إنَّ الضمير في» به «أتى به مفرداً، وقد تقدَّمه شيئان، وهما نورٌ وكتابٌ، ولكنْ لَمَّا قَصَد بالجملة من قوله» يهدي «الحالَ أو الوصفَ من أحدهما أفردَ الضمير، وقيل: الضمير في» به «يعودُ على الرسول. وقيل: يعودُ على السلام، وعلى هذين القولين لا تكونُ الجملة من قوله» يهدي «حالاً ولا صفةً لعدم الرابط. و» مَنْ «موصولةٌ أو نكرة موصوفة، وراعى لفظَها في قوله» اتَّبع «فلذلك أفرد الضمير، ومعناها، فلذلك جَمَعَه في قوله: ﴿وَيُخْرِجُهُمْ﴾.
وقرأ عبيد بن عمير ومسلم بن جندب والزهري:» بهُ «بضمِّ الهاء حيث وقع، وقد تقدم أنه الأصل. وقرأ الحسن:» سُبْل «بسكون الباء، وهو تخفيف قياسي به كقولهم في» عُنُق «:» عُنْق «، وهذا أولى لكونه جمعاً، وهو مفعول ثاني ل» يهدي «على إسقاط حرف الجر أي: إلى سبل، وتقدم تحقيق نظيره، ويجوز أن ينتصب على أنه بدلٌ من» رضوانه «: إمَّا بدلُ كل مِنْ كل؛ لأن» سبل السلام «هي رضوان الباري تعالى، وإمَّا بدل اشتمال لأن الرضوان مشتمل على سبل السلام، أو لأنها مشتملة على رضوان الله تعالى، وإما بدل بعض من كل، لأنَّ سبل السلام بعض الرضوان. و» بإذنه «متعلق
قوله: ﴿أَنْعَمَ الله عَلَيْهِمَا﴾ في هذه الجملةِ خمسةُ أوجه، أظهرهم: أنها صفةٌ ثانيةٌ فمحلُّها الرفعُ، وجِيء هنا بأفصحِ الاستعمالين من كون قَدَّم الوصفَ بالجارِّ على الوصف بالجملةِ لقُربه من المفرد. والثاني: أنها معترضةٌ، وهو أيضاً ظاهرٌ. الثالث: أنها حالٌ من الضمير في «يَخافون» قاله مكي. الرابع: أنها حالٌ من «رجلان» وجاءت الحالُ من النكرةِ لتخصُّصِها بالوصفِ. الخامس: أنها حالٌ من الضمير المستتر في الجارِّ والمجرورِّ، وهو «مِنَ الذين» لوقوعِه صفةً لموصوف، وإذا جَعَلْتَها حالاً فلا بُدَّ من إضمارِ «قد» مع الماضي على خلافٍ سلف في المسألة.
قوله: ﴿وَرَبُّكَ﴾ فيه أربعة أوجه، أحدهما: أنه مرفوع عطفاً على الفاعل المستتر في» اذهب «وجازَ ذلك للتأكيد بالضمير. الثاني: أنه مرفوعٌ بفعل محذوف أي: وليذهب ربك، ويكون من عطف الجمل، وقد تقدم لي نقلُ هذا القول والردُّ عليه ومخالفتهُ لنصِّ سيبويه عند قوله تعالى: ﴿اسكن أَنْتَ وَزَوْجُكَ الجنة﴾ [البقرة: ٣٥]. الثالث: أنه مبتدأ والخبرُ محذوفُ والواوُ للحالِ. الرابع: أن الواوَ للعطفِ وما بعدها مبتدأ محذوفُ الخبرِ أيضاً، ولا محلَّ لهذه الجملة لكونِها دعاءً، والتقدير: وربُّك يعينُك. قوله:» ههنا قاعدون «» هنا «وحدَه هو الظرف المكاني الذي لا يتصرَّفُ إلا بجرِّه ب» مِنْ «و» إلى «، و» ها «قبله للتنبيه كسائر أسماءِ الإِشارة، وعاملُه» قاعدون «وقد أُجيز أن يكونَ خبرَ» إنَّ «،» وقاعدون «خبرٌ ثان وهو بعيدٌ، وفي غير القرآن إذا اجتمع ظرف يصلح الإِخبار به مع وصفٍ آخرَ يجوزُ أن يُجْعَلَ الظرفُ خبراً والوصفُ حالاً، وأن يكونَ الخبرُ الوصفَ والظرفُ منصوبٌ به كهذه الآية.
والحسن البصري يقْرأ فتحِ ياء» نفسي «و» أخي «وقرأ يوسف ابن
١٧١ - ٤- يا ربِّ فافرُقْ بينه وبيني | أشدَّ مَا فرَّقْتَ بين اثنَيْنِ |
١٧١ - ٥- بتَيْهاءَ قَفْرٍ والمَطِيُّ كأنها | قَطا الحَزْن قد كانَتْ فراخاً بيوضُها |
والأسى: الحُزْن، يقال: أَسِي - بكسر العين - يَأْسَى، بفتحها ولامُ الكلمة تحتمل أن تكونَ من واوٍ، وهو الظاهرُ لقولهم:» رجل أَسْوان «بزنة سَكْران، أي: كثير الحزنِ، وقالوا في تثنية الأسى: أَسَوان، وإنما قُلبت الواوُ في» أَسِيَ «ياءً لانكسارِ ما قبلَها، ويُحْتمل ان تكون ياءً فقد حُكى» رجل أسْيان «أي: كثيرُ الحزن، فتثنيتُه على هذا» أَسَيان «.
وعادةُ الناسِ يسْأَلُون هنا سؤالاً: وهو - كما قال الزمخشري -» كيف نُوَفِّقُ بين قوله تعالى: ﴿فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ﴾ وبين قوله: ﴿الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ﴾ ؟ وأجابَ بوجهين، أحدُهما: أن يكونَ كَتَبها لهم بشرط أن يجاهدوا فلم [يجاهدوا]، والثاني: أنَّ التحريم كان مؤقتاً بمدة الأربعين، فلما انتهت دَخَلُوها/.
قوله: ﴿إِذْ قَرَّبَا﴾ فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها - وبه بدأ الزمخشري وأبو البقاء - أن يكونَ متعلقاً بنفسِ النبأ، أي: قصتُهما وحديثهما في ذلك الوقتِ، وهذا واضحٌ. الثاني: أنه بدلٌ من «نبأ» على حذف مضافٍ تقديرُه: واتلُ عليهم النبأَ نبأَ ذلك الوقتِ، كذا قَدَّره الزمخشري. قال الشيخ: «ولا يجوزُ ما ذَكَر لأنَّ» إذ «لا يُضافُ إليهما إلا الزمانُ، و» نبأ «ليس بزمان. الثالث: ذكَره أبو البقاء - أنه حالٌ من» نبأ «وعلى هذا فيتعلَّقُ بمحذوفٍ، لكن هذا الوجهَ غيرُ واضحٍ، قال أبو البقاء:» ولا يكونُ ظرفاً ل «اتلُ» قلت: لأنَّ الفعلَ مستقبل و «إذ» وقتٌ ماضٍ فيكف يتلاقيان؟
والقُرْبان: فيه احتملان، احدُهما: وبه قال الزمخشري - أنه اسمٌ لِما يُتَقَرَّب به، قال: «كما أنَّ الحُلْوان اسم ما يُحَلِّي أو يُعْطي يقال:» قَرَّبَ
لأنَّ المعنى - كما قاله أبو علي الفارسي - إذ قَرَّبَ كلُّ واحدٍ منهما قرباناً كقوله تعالى: ﴿فاجلدوهم ثَمَانِينَ جَلْدَةً﴾ [النور: ٤] أي: كلَّ واحدٍ منهم.
وقوله: ﴿قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ﴾ أي: قال الذي لم يُتَقَبَّلْ منه للمقبول منه. وقرأ الجمهور: «لأقتلنَّك» بالنون الشديدة. وهذا جوابُ قسم محذوف، وقرأه زيد بالخفيفة. قال: إنما يتقبَّل الله «مفعولُه محذوفٌ لدلالةِ المعنى عليه أي: قرابينَهم وأعمالَهم، ويجوز ألاَّ يُراد له مفعول كقوله: {فَأَمَّا مَنْ أعطى
وقال الزمخشري: «فإنْ قلت: لِمَ جاء الشرطُ بلفظِ الفعلِ، والجزاء بلفظِ اسمِ الفاعلِ وهو قوله: ﴿لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَآ أَنَاْ بِبَاسِطٍ﴾ ؟ قلت: ليفيدَ أنه
و» له «متعلقٌ ب» طَوَّعت «على القراءتين. قال الزمخشري: و» له «لزيادة الربط، كقولك: حَفِظْتُ لزيدٍ مالَه» يعني أنه الكلام تام بنفسه لو قيل: فَطَوَّعَتْ نفسُه قتلَ اخيه، كما كانَ كذلك في قولك «حَفِظْتُ مالَ زيد» فأتى بهذه اللامِ لقوةِ ربطِ الكلام. وقال أبو البقاء «وقال قوم: طاوَعَتْ تتعدَّى بغير لام، وهذا خطأ، لأنَّ التي تتعدى بغير اللام تتعدَّى لمفعولٍ واحد، وقد عَدَّاه هنا إلى قَتْل أخيه، وقيل: التقدير: طاوعَتْه نفسُه على قَتْلِ أخيه، فزادَ اللامَ وحَذَفَ» على «أي: زاد اللام في المفعولِ به وهو الهاء، وحَذَفَ» على «الجارَّة ل» قتل أخيه «.
١٧١ - ٦-................. | يالقَومي لِلسَّوْءَة السَّوْآءِ |
قوله: ﴿يَاوَيْلَتَا﴾ قلب ياءَ المتكلم ألفاً وهي لغةٌ فاشية في المنادى المضافِ إليها، وهي إحدى اللغاتِ الست، وقد تقدَّم ذكرها، وقُرئ كذلك على الأصل، وهي قراءةُ الحسن البصري. والنداء وإن كان أصلُه لِمَنْ يتأتَّى منه الإِقبالُ وهم العقلاءُ، إلا أن العرب تتجَوَّز فتنادي ما لا يعقل، والمعنى: يا ويلتي احْضُري فهذا أوانُ حضورك، ومثله: ﴿ياحسرة عَلَى العباد﴾ [يس: ٣٠] /، و ﴿ياحسرتا على مَا فَرَّطَتُ﴾ [الزمر: ٥٦]. وأمال حمزة والكسائي وأبو عمرو في رواية الدوري ألف «حسرتا» والجمهورُ قرأ «أعَجْزْتَ» بفتح الجميم وهي اللغة الفصحية يقال: «عَجَزت» - بالفتح في الماضي - «أعجِزُ» بكسرِها في المضارع. وقرأ الحسن والفياض وابن مسعود وطلحة بكسرها وهي لُغَيَّةٌ شاذة، وإنما المشهور أن يقال: «عَجِزت المرأة» بالكسر، أي كَبُرت عجيزتُها. و «أن أكون» على اسقاطِ الخافضِ أي عَنْ أكونَ، فلمَّا حُذِف جَرَى فيه الخلافُ المشهور.
قوله: ﴿فَأُوَارِيَ﴾ قرأ الجمهورُ بنصب الياء، وفيها تخريجان أصحُّهما: أنه عطفٌ على «أكونَ» المنصوبةِ «ب» أَنْ «منتظماً في سلكه أي: أعجَزْت عن كوني مشبهاً للغراب فموارياً. والثاني: - ولم يذكر الزمخشري غيره - أنه منصوبٌ على جواب الاستفهام في قوله:» أعجَزْتُ يعني فيكونُ من باب
وردَّ الشيخ على أبي القاسم بما تقدَّم، وجعله غلطاً فاحِشاً، وهو مسبوقٌ إليه كما رأيت، فأساءَ عليه الأدبَ بشيءٍ نقله عن غيرِه، اللَّهُ أعلمُ بصحتِه.
وقرأ الفياضُ بن غزوان وطلحة بن مصرف بسكون الياء، وخَرَّجَها الزمخشري على أحدِ وجهين: إمَّا القطعِ، أي: فأنا أواري، وإمَّا على التسكين في موضعِ النصب تخفيفاً. وقال ابن عطية: «هي لُغَيَّةٌ لتوالي الحركاتِ» قال الشيخ: «ولا يَصِحُّ أَنْ تعلل القراءة بهذا ما وُجِد عنه
وقوله: ﴿فَأَصْبَحَ﴾ بمعنى صار، قال ابنُ عطية: «قوله:» فأصبح «عبارةٌ عن جميعِ أوقاته أٌقيم بعضُ الزمانِ مُقامَ كله، وخُصَّ الصباحُ بذلك لأنه بَدْءُ النهارِ والانبعاثِ إلى الأمور ومَظَنَّةُ النشاط، ومنه قولُ الربيع:
١٧١ - ٧- وإنْ يَرَاوسَيَّةً طاروا بها فَرحاً | مني وما سَمِعُوا من صالحٍ دفَنُوا |
١٧١ - ٨- أصبحتُ لا أحملُ السلاح ولا | ................... |
١٧١ - ٩-
وأهلِ خباءٍ صالحٍ ذاتُ بينِهم | قد احتربوا في عاجلٍ أنا آجِلُهْ |
١٧٢ - ٠- أَجْلَ أنَّ اللهَ قد فَضَّلكمْ | ..................... |
والجمهورُ على فتح همزة «أجل»، وقرأ أبو جعفر بكسرها، وهي لغة كما تقدم، ورُوي عنه حذفُ الهمزة وإلقاءُ حركتها وهي الكسرة على نون «من»، كما ينقل ورش فتحتها إليها. والهاء في «أنه» ضمير الأمر والشأن،
قوله: ﴿أَوْ فَسَادٍ﴾ الجمهور على جره، عطفاً على «نفس» المجرور بإضافةِ «غير» إليها. وقرأ الحسن بنصبه، وفيه وجهان، أظهرهما: أنه منصوبٌ على المفعولِ به بعاملٍ مضمرٍ يَليقُ بالمحلِّ أي: أو أتى - أو عمل - فساداً والثاني: أنه مصدرٌ، والتقدير: أو أَفْسَدَ فساداً بمعنى إفساداً، فهو اسمُ مصدرٍ كقوله:
١٧٢ - ١-..................... | وبعد عطائِكَ المئةَ الرِّتاعا |
و «جميعاً» إمَّا حال أو توكيد.
قوله: ﴿بَعْدَ ذلك فِي الأرض﴾ هذا الظرفُ والجارُّ بعده يتعلقان بقولِه: «لمُسْرِفون» الذي هو خبر «إنَّ» ولا تَمْنَعُ من ذلك لامُ الابتداء فاصلةً بين
قوله: ﴿فَسَاداً﴾ في نصبه ثلاثةُ أوجه، أحدُها: أنه مفعول من أجلِه أي: يحاربُون ويَسْعون لأجل الفاسد، وشروطُ النصبِ موجودة الثاني: أنه مصدرٌ واقعٌ موقعَ الحال، أي: ويسعون في الأرض مفسدين، أو ذوي فساد، أو جُعِلوا نفسَ الفساد مبلغة، ثلاثةٌ مذاهبَ مشهورةٌ تقدَّم تحريرها. الثالث: أنه منصوبٌ على المصدر اي: إنه نوع من العامل قبله، فإن معنى «يَسْعَون» هنا
قوله: «من خِلافٍ» في محلِّ نصب على الحال من «أيديهم» و «أرجلُهم» أي بقَطْعٍ مختلِف، بمعنى أن تُقْطَعَ يَدُه اليمنى ورجلُه اليسرى. والنفي: الطرد، والأرض: المراد بها هنا ما يريدون الإِقامة بها، أو يُرادُ مِنْ أرضهم، وأل عوضٌ من المضاف إليه عند مَنْ يراه. قوله: ﴿ذلك لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدنيا﴾ :«ذلك» [إشارةٌ إلى الخبر المتقدم أيضاً]، وهو مبتدأُ. وقوله: ﴿لَهُمْ خِزْيٌ﴾ فيه ثلاثة أوجه، أحدها: أن يكونَ «لهم» خبراً مقدماً، و «خِزْيٌ» مبتدأ مؤخراً و «في الدنيا» صفةً له، فيتعلَّق بمحذوف، أو يتعلق بنفس «خزي» على أنه ظرفُه، والجملةُ في محل رفع خبراً ل «ذلك» الثاني: أن يكون «خزي خبراً ل» ذلك «، و» لهم «متعلقٌ بمحذوف على أنه حالٌ من» خِزْي «؛ لأنه في الأصلِ صفةٌ له، فلمَّا قُدِّم انتصب حالاً.
وأما «في الدنيا» فيجوزُ فيه الوجهان المتقدمان مِنْ كونِه صفةً ل «خزي» أو متعلقاً به، ويجوز فيه أن يكونَ متعلقاً بالاستقرار الذي تعلَّق به «لهم» الثالث: أنه يكونَ «لهم»
١٧٢ - ٢-....................... فإني وقَيَّارٌ بها لَغَريبُ
أي: لو أنَّ لهم ما في الأرض ليفتدوا به ومثله معه ليفتدوا به، وإمَّا لإِجراء الضمير مُجْرى اسم الإِشارة كقوله:
١٧٢ - ٣- كأنَّه الجِلْدِ................... وقد تقدَّم في البقرة. و «عذاب» بمعنى تعذيب، وبإضافته إلى «يوم» خَرج «يوم» عن الظرفية. و «ما» نافيةٌ، وهي جوابُ «لو» / وجاء على الأكثر من كونِ الجوابِ المنفيِّ بغير لام، والجملةُ الامتناعية في محل رفعٍ خبراً ل «إنَّ».
وجَعَل الزمخشري توحيدَ الضيمرِ في «به» لمَدْركٍ آخرَ، وهو أن الواوَ في «ومثلَه» واوُ «مع»، قال بعد أن ذكر الوجهين المتقدمين: «ويجوز أن تكونَ الواوُ في» ومثلَه «بمعنى» مع «فيتوحَّد المرجوع إليه. فإن قلت: فبِمَ يُنْصَبُ المفعول معه؟ قلت: بما تستدعيه» لو «من الفعل، لأن التقدير: لو ثبت أن لهم ما في الأرض» يعني أن حكمَ ما قبل المفعول معه في الخبر والحالِ
١٧٢ - ٤- وكان وإيَّاها كحَرًَّان لم يُفِقْ | عن الماءِ إذ لاقَاه حتى تَقَدَّدا |
وقد رَدَّ الشيخ على أبي القاسم وطَوَّل معه، فلا بُدَّ من نَقْل نَصِّه قال: «وقولُ الزمخشري:» ويجوزُ أَنْ تكونَ الواوُ بمعنى «مع» لأنه يصيرُ التقدير: مع مثلِه معه أي: مع مثلِ ما في الأرض مع ما في الأرض، إنْ جَعَلْتَ الضميرَ في «معه» عائداً على «ما» يكون «معه» حالاً من مثلَه «، وإذا كان ما في الأرض مع مثله كان مثلُه معه ضرورةً، فلا فائدة ي ذِكْر» معه «لملازمةِ معيَّة كلٍّ منهما للآخر، وإنْ جَعَلْتَ الضمير عائداً على» مثله «أي: مع مثلِه مع ذلك المثلِ، فيكونُ المعنى مع مثلين، فالتعبير في هذا المعنى بتلك العبارة عِيُّ، إذ الكلامُ المنتظمُ أَنْ يكونَ التركيب إذا أُريد ذلك المعنى مع مِثْلَيْه، وقول الزمخشري:» فإنْ قلت «إلى آخرِ الجواب هذا السؤالُ لايَرِدُ، لأنَّا قد بَيَّنَّا فسادَ أن تكونَ الواو واوَ مع، وعلى تقديرِ ورودِه فهذا بناءً منه على أن» أنَّ «إذا جاءت بعد» لو «كانت في محل رفع بالفاعلية، فيكون التقدير على
ومع هذا الاعتراضِ الذي ذكره فقد يظهرُ عنه جواب وهو أنَّا نقول: نختار أن يكونَ الضميرُ في قوله: ﴿معه﴾ عائداً على «مثلَه» ويصيرُ المعنى: مع مِثْلين، وهو أبلغُ من أَنْ يكونَ مع مثل واحد، وقوله: «تركيبٌ عِيُّ» فَهْمٌ قاصر. ولا بد من جملة محذوفة قبل قوله: ﴿مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ﴾ تقديره: «وبذلوه أو وافتدوا به» ليصِحَّ الترتيب المذكور، إذ لا يترتب على استقرار ما في الأرض جميعاً ومثلِه معه لهم عدمُ التقبل، إنما يترتب عدمُ التقبل على البذل والافتداء. والعامةُ على «تُقُبِّل» مبنياً للمفعول حُذِف فاعله لعظمته وللعلم به. وقرأ يزيد بن قطيب: «ما تَقَبَّل» مبنياً للفاعل، وهو ضميرُ الباري تبارك وتعالى.
قوله: ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ﴾ مبتدأٌ وخبرُه مقدَّم عليه. و «أليم» صفتُه بمعنى مُؤْلم. وهذه الجملةُ أجازُوا فيها ثلاثةَ أوجهٍ، أحدُها: أَنْ تكونَ حالاً، وفيه ضَعْفٌ مِنْ حيثُ المعنى. الثاني: أَنْ تكونَ في محل رفع عطفاً على خبر «أنَّ» أخبر عن الذين كفروا بخبرين: لو استقر لهم جميع ما في الأرض مع مثله فبذلوه لم يُتَقَبَّلْ منهم، وأن لهم عذاباً أليماً. الثالث أن تكون معطوفةً على الجملة من قوله: ﴿إِنَّ الذين كَفَرُواْ﴾ وعلى هذا فلا محلَّ لها لعطفها على ما محلَّ له.
وإنما اختار سيبويه أنَّ خبرَه محذوف كما تقدَّم تقديرُه دون الجملة الطلبية بعده لوجهين، أحدُهما: أنَّ النصبَ في مثله هو الوجه في كلام العرب نحو: «زيداً فاضربه» لأجلِ الأمر بعده، قال سيبويه في هذه الآية: «الوجهُ في كلامِ العربِ النصبُ، كما تقول:» زيداً فاضربه «ولكن أَبَت العامةُ إلا الرفعَ» والثاني: دخولُ الفاءِ في خبره، وعنده أن الفاءَ لا تدخلُ إلا في خبر الموصول الصريح كالذي و «مَنْ» بشروط أُخَرَ ذكرْتُها في كتبي النحوية؛ وذلك لأنَّ الفاءَ إنما دخلت لشبه المبتدأ بالشرط، واشتَرطوا في صلتِه أَنْ تصلح لأداة الشرط من كونها جملةً فعلية مستقبلة المعنى، أو ما يقوم مقامَها من ظرفٍ
وأمَّا قراءةُ عيسى بن عمر وإبراهيم فالنصبُ بفعلٍ مضمر يفسِّره العامل في سببِّيهما نحو: «زيداً فأكرم أخاه» والتقدير: فعاقبوا السارق والسارقة، تقدِّره فعلاً من معناها نحو: «زيداً ضربْتُ غلامه» أي: أهنتُ زيداً، ويجوز أن يقدَّرَ العاملُ موافقاً لفظاً لأنه يُساغ أَنْ يقال: «قطعت السارق» وهذه قراءةٌ واضحةٌ لمكانِ الأمر بعد الاسم المشتغل عنه.
قال الزمخشري «وفَضَّلها سيبويه على قراءة العامة لأجل الأمر؛ لأنَّ» زيداً فاضربه «أحسنُ مِنْ» زيدٌ فاضربه «وفي نقله تفضيلَ النصب على قراءة العامة نظر، ويظهر ذلك بنصِّ سيبويه، قال سيبويه:» الوجه في كلام العرب النصبُ كما تقول: «زيداً اضربه» ولكن أَبت العامة إلا الرفعَ «، وليس في هذا ما يقتضي تفضيلَ النصب، بل معنى كلامه أن هذه الآية ليست في الاشتغال في شيء، إذ لو كانت من باب الاشتغال لكن الوجهُ النصبَ، ولكن لم يَقْرأها الجمهورُ إلا بالرفع، فدلَّ على أن الآية محمولةٌ على كلامَيْنِ كما تقدَّم، لا على كلامٍ واحدٍ، وهذا ظاهرٌ.
وقد ردَّ الفخر الرازي على سبيويه بخمسة أوجه، وذلك أنه فَهم كما فهم صاحب» الكشاف «من تفضيل النصب، قال الفخر الرازي،» الذي ذهبَ إليه سيبويه ليس بشيء، ويدلُّ على فساده وجوهٌ، الأول: أنه طعن في القراءة المتواترة المنقولةِ عن الرسول وعن أعلام الأمة، وذلك باطلٌ قطعاً، فإن قال سيبويه: لا أقول إن القراءة بالرفع غير جائزة، ولكني أقول: القراءةُ بالنصب أَوْلى، فنقول: رديء أيضاً لأنَّ ترجيحَ قراءةٍ لم يقرأ بها إلا عيسى بن عمر على قراءةِ الرسول وجميعِ الأمة في عهد الصحابة والتابعين أمرٌ منكرٌ وكلامٌ مردودٌ. الثاني: لو كانت القراءةُ بالنصبِ أَوْلى لوجَبَ أن يكونَ في القراء مَنْ يقرأ ﴿واللذان يأتيانِها منكم فآذوهما﴾ بالنصب، ولمَّا لم يوجد في القُرَّاء مَنْ يقرأ كذلك عَلِمْنا سقوطَ هذه القول. الثالث: أنَّا إذا جعلنا «السارق والسارقة» مبتدأً وخبرُه مضمرٌ وهو الذي يقدِّره: «فيما يتلى عليكم» بقي شيء آخر تتعلَّق به الفاء في قوله: ﴿فاقطعوا﴾ فإنْ قال:
الرابع: أنَّا إذا اختَرْنا القرءاةَ بالنصب لم تدلَّ على أنَّ السرقةَ علةٌ لوجوب القطع، وإذا اخترنا القراءةَ بالرفع افادت الآيةُ هذا المعنى، ثم إنَّ هذا المعنى متأكدٌ بقوله: ﴿جَزَآءً بِمَا كَسَبَا﴾ فثبت أنَّ القراءةَ بالرفعِ أَوْلى. الخامس: أن سيبويه قال: «وهم يقدِّمون الأهمَّ والذي هم ببيانِه أَعْنى» فالقراءةُ بالرفعِ تقتضي تقديمَ ذِكْرِ كونه سارقاً على ذِكْرِ وجوب القطع، وهذا يقتضي أن يكون أكبر العناية مصروفاً إلى شرح ما يتعلق بحال السارق من حيث إنه سارق، وأما القراءة بالنصب فإنها تقتضي أن تكونَ العنايةُ بيان القطع أتمَّ من العناية بكونه سارقاً، ومعلوم أنه ليس كذلك فإن المقصود في هذه الآية تقبيحُ السرقة والمبالغةُ في الزجر عنها، فثبت أن القراءة بالرفع هي المتعينة «انتهى ما زعم أنه ردُّ على إمام الصناعة.
والجوابُ عن الوجه الأول ما تقدَّم جواباً عما قاله الزمخشري، وقد تقدم، ويؤيده نص سيبويه فإنه قال:» وقد يَحْسُن ويستقيم: «عبدُ الله فاضربه»
١٧٢ - ٥- وقائلةٍ:
خَوْلانُ فانكِحْ فتاتَهُمْ | وأُكْرومةُ الحَيَّيْنِ خِلْوٌ كما هِيا |
قوله: ﴿أَيْدِيَهُمَا﴾ جمعٌ واقعٌ موقعَ التثنيةِ لأمْنِ اللَّبْس، لأنه معلومٌ أنه يُقْطَعُ مِنْ كلِّ سارقٍ يمينه، فهو من باب ﴿صَغَتْ قُلُوبُكُمَا﴾ [التحريم: ٤]، ويدل على ذلك قراءةُ عبد الله: «فاقطعوا أيمانَهما» واشترط النحويون في وقوعِ الجمع موقعَ التثنية شروطاً، ومن جملتها: ان يكون ذلك الجزءُ المضافُ مفرداً من صاحبِه نحو: «قلوبكما» و «رؤوس الكبشين» لأمن الإِلباس بخلافِ العينين واليدين والرجلين، لو قلت: «فَقَأْتُ أعينَهما» / وأنت تعني عينيهما، و «كَتَّفْتُ أيديَهما» وأنت تعني «يديهما» لم يَجُزْلِلَّبْسِ، فلولا أنَّ الدليل دَلَّ على أن المراد اليدان اليمنيان لَما ساعَ ذلك، وهذا مستفيضٌ في لسانهم - أعني وقوعَ الجمعِ موقعَ التثنيةِ بشروطِه - قال تعالى: ﴿فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا﴾ [التحريم: ٤].
وَلْنذكر المسألةَ فنقول: كلُّ جزأين أضيفا إلى كُلَّيْهما لفظاً أو تقديراً وكانا مفردَيْنِ من صاحبيهما جازَ فيهما ثلاثةُ أوجهٍ: الأحسنُ الجمعُ، ويليه
١٧٢ - ٦- ومَهْمَهَيْنِ قَذَفَيْنِ مَرْتَيْنْ | ظهراهُما مثلُ ظهورِ التُّرْسَيْنْ |
١٧٢ - ٧- رأيت بني البكري في حومة الوغى | كاغِرَي الأفواهِ عند عَرِين |
١٧٢ - ٨- هما نَفَثا في فِيَّ مِنْ فَمَوَيْهِما | على النابحِ العاوي أشدَّ رِجامِ |
١٧٢ - ٩- حمامةَ بطنِ الواديَيْن تَرَنَّمي | سَقاكِ من الغُرَِّ الغوادِي مطيرُها |
قوله: ﴿جَزَآءً﴾ فيه أربعة أوجه، أحدها: أنه منصوب على المصدر بفعلٍ مقدر أي: جازوهما جزاءً. الثاني: أنه مصدر أيضاً لكنه منصوب على معنى نوع المصدر، لأنه قوله:» فاقطعوا «في قوة: جازُوهما بقطع الأيدي جزاء» الثالث: أنه منصوب على الحال، وهذه الحالُ يُحْتمل أن تكونَ من الفاعل أي: مُجازِين لهما بالقطع بسببِ كسبِهما، وأن تكونَ من المضافِ إليه في «أيديهما» أي: في حالِ كونها مجازَيْن، وجاز مجيءُ الحالِ من المضاف
﴿أَن يَكْفُرُواْ بِمَآ أنَزَلَ الله بَغْياً﴾ [البقرة: ٩٠] أن يكون «بغياً» مفعولاً له، ثم ذكروا في
قوله: ﴿وَمِنَ الذين هِادُواْ﴾ فيه وجهان، أحدُهما: ما تقدم، وهو أن يكونَ معطوفاً على «من الذين قالوا» بياناً وتقسيماً. والثاني: ان يكونَ خبراً مقدماً، و «سَمَّاعون» مبتدأ والتقدير: «ومن الذين هادوا قومٌ سَمَّاعون» فتكونُ جملةً مستأنفة، إلا أنَّ الوجه الأول مُرَجَّح بقراءة الضحاك: «سَمَّاعين» على الذم بفعل محذوف، فهذا يدل على أن الكلامَ ليس جملةً مستقلة، بل قوله: ﴿وَمِنَ الذين هِادُواْ﴾ عطفٌ على «من الذين قالوا». وقوله «سَمَّاعون» مثال مبالغة، و «للكذب» فيه وجهان، أحدُهما أن اللامَ زائدةٌ، و «الكذب» هو المفعول، أي: سَمَّاعون الكذب، وزيادةُ اللامِ هنا مطردةٌ لكونِ العاملِ فَرْعاً فَقَوِي باللام، ومثلُه: ﴿فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ﴾ [هود: ١٠٧]. والثاني: على بابها من التعليل، ويكون مفعول «سَمَّاعون» محذوفاً، أي: سَمَّاعون أخباركم وأحاديثم ليكذبوا فيها بالزيادةِ والنقصِ والتبديلِ بأَنْ يُرْجِفوا بقتل المؤمنين في السرايا كما
قوله: ﴿يُحَرِّفُونَ﴾ يجوز أن يكونَ صفةً ل «سَمَّاعون» أي: سَمَّاعون مُحَرِّفون، ويجوز أن يكون حالاً من الضمير في «سَمَّاعون» ويجوز أن يكون مستأنفاً لا محل له، ويجوز أن يكونَ خبر مبتدأ محذوف أي: هم مُحَرِّفون، ويجوزُ أَنْ يكونَ في محلِّ جر صفة ل «قوم» أي: لقوم محرفين. و «من بعد مواضعِه» قد أتقنته في النساء و «يقولون» ك «يحرفون» ويجوز أن يكون حالاً من ضمير «يحرفون». والجملة الشرطية من قوله: ﴿إِنْ أُوتِيتُمْ﴾ مفعولةٌ بالقول، و «هذا» مفعولٌ ثان لأوتيتم، والأول قائمٌ مقامَ الفاعل، والفاءُ جوابُ الشرطِ وهي واجبةٌ لعدم صلاحيةِ الجزاء لأن يكونَ شرطاً، وكذلك الجملةُ من قوله: ﴿وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ﴾ وقوله: ﴿وَمَن يُرِدِ﴾ «مَنْ» مفعول مقدم وهي شرطية. وقوله: ﴿فَلَن تَمْلِكَ﴾ جوابه، والفاء أيضاً واجبةٌ لما تقدم، و «شيئاً» مفعولٌ به أو مصدر. و «من الله» متعلقٌ ب «تملكَ»، وقيل: هو حالٌ من «شيئاً» لأنه صفتُه في الأصل. قوله: ﴿أولئك﴾ مبتدأ، و ﴿لَمْ يُرِدِ الله﴾ جملة فعلية خبره.
١٧٣ - ٠- وعضُّ زمانٍ يابنَ مروانَ لم يَدَعْ | من المالِ إى مُسْحَتاً أو مُجَلَّفُ |
قوله: ﴿لِلَّذِينَ هَادُواْ﴾ في هذه اللامِ ثلاثةُ أقوالٍ، أظهرُهما: أنها متعلقةٌ ب «يحكم» فعلى هذا معناها الاختصاصُ، وتشمل مَنْ يحكم له ومَنْ يحكم عليه، ولهذا ادَّعى بعضُهم أنَّ في الكلام حَذْفاً تقدره: «يحكم بها النبيون
قوله: ﴿والربانيون﴾ عطفٌ على «النبيون» أي: إنَّ الربانيين - وقد تقدَّم تفسيرُهم في آل عمران - يَحْكُمون أيضاً بمقتضى ما في التوراةِ. والأحبارُ: جمع «حَبرْ» بفتح الحاء وكسرها وهو العالم، وأنكر أبو الهيثم الكسر، والفراء والفتح، وأجاز أبو عبيد الوجهين، واختار الفتحَ، فأمَّا «الحِبْر» الذي يُكْتَبُ به فالبكسر فقط، وأصلُ المادةِ الدلالةُ على التحسين والمسرَّة، وسُمِّي ما يكتب به حِبراً لتحسينِ الخط، وقيل: لتأثيره، ويدلُّ للأول قولُه تعالى: ﴿أَنتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ﴾ [الزخرف: ٧٠] أي: تفرحون وتُزَيَّنون وقال أبو البقاء: «وقيل الربانيون [مرفوع] بفعل محذوف أي: ويحكم الربانيون والأحبار بما استُحْفِظوا» انتهى. يعني أنه لَمَّا اختلف متعلَّقٌ الحكم غاير بين الفعلين أيضاً فإنَّ النبيين يحكمُون بالتوارة، والأحبارُ والربانيون يحكمون بما ساتحفظهم اللهُ، وهذا بعيدٌ عن الصواب؛ لأنَّ الذي استحفظهم الله هو مقتضى ما في التوراة، فالنبيون والربانيون حاكمون بشي واحد، على أنه سيأتي أنَّ الضميرَ في «استُحْفِظوا» عائدٌ على النبيين فَمَنْ بعدهم.
قوله: ﴿بِمَا استحفظوا﴾ أجاز أبو البقاء فيه ثلاثة أوجه، أحدُهما: أنَّ «
وقوله: ﴿مِن كِتَابِ الله﴾ قال الزمخشري: «و» مِنْ «في» مِنْ كتاب الله «للتبين» يعني أنها لبيانِ الجنسِ المبهمِ في «بما» فإن «ما» يجوز أن تكونَ موصولةً اسمية بمعنى الذي والعائد محذوف أي: بما استحفظوه، وأن تكونَ مصدريةً أي: باستحفاظهم. وجَوَّز أبو البقاء أن تكونَ حالاً من أحدِ شيئين: إمَّا من «ما» الموصولةِ أو مِنْ عائدها المحذوفِ، وفيه نظرٌ من حيث المعنى. وقوله: «وكانوا» داخل في حَيِّز الصلة أي: وبكونِهم شهداءَ عليه أي: رُقَبَاء لئلا يُبَدِّل، ف «عليه» متعلقٌ ب «شهداء» والضميرُ في «عليه» يعودُ على «كتاب الله» وقيل: على الرسولِ، أي: شهداءَ على نبوتِه ورسالتِه، وقيل: على الحُكْم، والأولُ هو الظاهرُ.
الوجه الثاني من توجيه الفارسي: أن تكونَ الواوُ عاطفةً جملةً اسمية على الجملة من قوله: ﴿أَنَّ النفس بالنفس﴾ لكنْ من حيث المعنى لا من حيث اللفظُ، فإنَّ معنى» كَتَبْنا عليهم أنَّ النفس بالنفس «قلنا لهم النفس بالنفس، فالجملُ مندرجةٌ تحت الكَتْبِ من حيث المعنى لا من حيث اللفظُ.
وقال ابنُ عطية: «ويُحْتمل أن تكونَ الواوُ عاطفةً على المعنى، وذكر ما تقدم، ثم قال:» ومثلُه لَمَّا كان المعنى في قوله: ﴿يُطاف عليهم بكأسٍ من مَعين﴾ يُمْنحون عَطَفَ «وحوراً عينا» عليه، فنظَّر هذه الآية بتلك لا شتراكِهما في النظرِ إلى المعنى دونَ اللفظِ وهو حسنٌ. قال الشيخ: «وهذا من العطف على التوهُّم، إذ توهَّم في قوله ﴿أَنَّ النفس بالنفس﴾ : النفسُ بالنفسِ / وضعَّفه بأن العطفَ على التوهُّمِ لا ينقاس. والزمخشري نحا إلى هذا المعنى، ولكنه عَبَّر بعبارةٍ آخرى فقال:» الرفع [للعطف] على محلِّ «أنَّ النفسَ» لأن المعنى: «وكتبنا عليهم النفسُ: إمَّا لإِجراء» كتبنا «» مُجْرى «قُلْنا، وإمَّا أن معنى الجملة التي هي» النفس بالنفس «مِمَّا يقع عليه الكَتْب كما تقع عليه القراءة
قال الشيخ شهاب الدين أو شامة:» فمعنى الحديثِ: قُلْنا لهم: النفسُ بالنفسُ، فَحَمَل «العين بالعين» على هذا، لأنَّ «أنَّ» لو حُذِفت لاستقام المعنى بحذفِها كما اسقام بثبوتِها، وتكون «النفس» مرفوعةً فصارت «أنَّ» هنا ك «إنَّ» المكسورة في أنَّ حَذْفَها لا يُخِلُّ بالجملةِ، فجاز العطفُ على محل اسمِها كما يجوزُ على محلِّ اسم المكسورة، وقد حُمِل على ذلك: ﴿أَنَّ الله برياء مِّنَ المشركين وَرَسُولُهُ﴾ [التوبة: ٣] قال الشيخ أبو عمرو - يعني أن الحاجب - ورسولُه بالرفع معطوف على اسم «انَّ» وإنْ كانت مفتوحة لأنها في حكم المكسورة،
١٧٣ - ١- وإلا فاعلموا أنَّا وأنتمْ | بُغاةٌ ما بَقِينا في شقاق |
الوجه الثالث: أنَّ «العين» عطفٌ على الضمير المرفوع المستتر في الجارِّ الواقعِ خبراً، إذ التقديرُ: أنَّ النفسَ بالنفس هي والعينُ، وكذا ما بعدها، والجارُّ والمجرور بعدها في محل نصب على الحال مبينةً للمعنى، إذ المرفوعُ هنا مروفوعٌ بالفاعلية لعطفِه على الفاعل المستتر، وضُعِّفَ هذا بأنّ هذه أحوالٌ لازمةٌ، والأصلُ أن تكون منتقلةً، وبأنه يلزَمُ العطفُ على الضميرِ المرفوع المتصلِ من غير فصلٍ بين المتعاطفينِ ولا تأكيدٍ ولا فصلٍ ب «لا» بعد حرف العطف كقوله: ﴿مَآ أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا﴾ [الأنعام: ١٤٨] وهذا لا يجوزُ عند البصريين إلا ضرورةً، قال أبو البقاء: «وجاز العطفُ من غيرِ توكيدٍ كقوله: ﴿مَآ أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا﴾ [الأنعام: ١٤٨] قلت: قام الفصلُ ب» لا «بين حرف العطف والمعطوف مقامَ التوكيدِ فليس نظيرَه. وللفارسي [بحثٌ في قوله: ﴿ما أشركنا ولا آباؤنا﴾ مع سيبويه، فإنَّ سيبويه يجعلُ طولَ الكلامِ ب» لا «عوضاً عن التوكيد بالمنفصل،
واختار أبو عبيد قراءةَ رفعِ الجميع، وهي روايةٌ الكسائي، لأن أَنَساً رواها قراءةً للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ورَوَى أنس عنه السلام أيضاً» أنْ النفسُ بالنفس «تبخفيف» أَنْ «ورفعِ النفس وفيها تأويلان، أحدهما: أَنْ تكونَ» أَنْ «مخففةً من الثقيلة واسمُها ضميرُ الأمر والشأن محذوفٌ، و» النفسُ بالنفس «مبتدأ وخبر، في محلِّ رفع خبراً ال» أَنْ «المخففة، كقوله: ﴿أَنِ الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين﴾ [يونس: ١٠]، فيكون المعنى كمعنى المشددة. والثاني: أنها» أَنْ «المفسرةُ لأنها بعدما هو بمعنى القولِ لا حروفِه وهو» كَتَبْنا «والتقديرُ: أي النفسُ بالنفس، ورُجِّح هذا على الأول بأنه يلزَمُ من الأولِ وقوعُ المخففةِ بعد غيرِ العلمِ وهو قليل أو ممنوعٌ، وقد يُقال: إن» كتبنا «لَمَّا كان بمعنى» قضينا «قَرُبَ من أفعال اليقين.
وأمَّا قراءةُ نافع ومَنْ معه فالنصبُ على اسم «أَنَّ» لفظاً وهي النفس والجارُّ بعدَه خبرُه، و «قصاصٌ» خبر «الجروح» أي: وأنَّ الجروحَ قصاص، وهذا من عطفِ الجملِ، عَطَفنا الاسمَ على الاسم والخبرَ على الخبر،
وأمَّا قراءة أبي عمرو ومَنْ معه فالمنصوبُ كما تقدَّم في قراءة نافع، لكنهم لم يَنْصِبُوا «الجروح» قطعاً له عَمَّا قبله، وفيه أربعة أوجه: الثلاثة المذكورة في توجيهِ قراءة الكسائي، وقد تقدَّم إيضاحُه. والرابع: أنه مبتدأ وخبره «قصاص» يعني أنه ابتداءُ تشريعٍ، وتعريفُ حكمٍ جديد، قال أبو عليّ «فأمَّا والجروحُ قصاص: فمن رفعه يَقْطَعْه عما قبله، فإنه يحتمل هذه الأوجهَ الثلاثةَ التي ذكرناها في قراءة مَنْ رفع» والعينُ بالعين «ويجوز أن يُستأنف:» والجروحُ قصاص «ليس على أنه مما كُتِب عليهم في التوراة، ولكنه على الاستئناف وابتداءِ تشريع» انتهى. إلا أنَّ أبا شامة قال: قبل أن يَحْكي عن الفارسي هذ الكلامَ - «ولا يستقيم في رفع الجروح الوجهُ الثالث وهو أنه عطفٌ على الضمير الذي في خبر» النفس «وإنْ جاز فيما قبلها، وسببُه استقامةُ المعنى في قولك: مأخوذةٌ هي بالنفس، والعينُ هي مأخوذة بالعين، ولا يَسْتقيم: والجروحُ مأخوذةٌ قصاص، وهذا معنى قولي» لَمَّا خلا قولُه «الجروح قصاص» عن الباءِ في الخبر خالَف الأسماءَ التي قبلها فخولِفَ
وقال بعضُهم:» إنما رُفِع «الجروح» ولم يُنْصَبْ تَبَعاً لِما قبله فرقاً بين المجملِ والمفسرِ «يعني أنَّ قَولَه» النفس بالنفس والعينَ بالعين «مفسَّرٌ غيرُ مجملٍ، بخلاف» الجروح «فإنها مجملةٌ؛ إذ ليس كلُّ جرح يَجْرَي فيه قصاصٌ: بل ما كان يُعْرَفُ فيه المساواةُ وأمكن ذلك فيه، على تفصيل معروف في كتب الفقه. وقال بعضُهم: خُولِف في الإِعراب لاختلافِ الجراحات وتفاوتِها، فإذن الاختلافُ في ذلك كالخلاف المشارِ إليه، وهذان الوجهان لا معنى لهما، ولا ملازمةَ بين مخالفة الإِعراب ومخالفةِ الأحكامِ المشار إليها بوجهٍ من الوجوهِ، وإنما ذَكَرْتُها تنبيهاً على ضَعْفِها.
وقرأ نافع: «والأذْن بالأذْن» سواء كان مفرداً أم مثنى كقوله: ﴿كَأَنَّ في أُذُنَيْهِ وَقْراً﴾ [لقمان: ٧] بسكون الذال وهو تخفيفٌ للمضوم كعُنْق في «عُنُق» والباقون بضمِّها، وهوا لأصل، ولا بد من حذف مضاف في قوله: ﴿والجروح قِصَاصٌ﴾ : إمَّا من الأول، وإمَّا من الثاني، وسواءً قُرئ برفعه أو بنصبِه تقديرُه: وحكمُ الجروحِ قصاصٌ، أو: والجروحُ ذاتُ قصاص.
والقِصاص: المُقاصَّةُ، وقد تقدَّم الكلامُ عليه في البقرة وقرأ أُبي بنصب «النفس» والأربعة بعدها و «أنِ الجروحُ» بزيادة «أن» الخفيفة، ورفع «الجروحُ، وعلى هذه القراءة يتعيِّن أَنْ تكونَ المخففةَ، ولا يجوز أن تكونَ المفسرةَ، بخلافِ ما تقدَّم من قراءةِ أنس عنه عليه السلام بتخفيف» أن «ورفعِ»
قوله: ﴿فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ﴾ أي: بالقصاصِ المتعلِّق بالنفس أو بالعين أو بما بعدَها، فهو أي: فذلك التصدقُ عاد الضمير على المصدر لدلالة فعلِه عليه، وهو كقوله تعالى: ﴿اعدلوا هُوَ أَقْرَبُ﴾ [المائدة: ٨]. والضميرُ في» له «فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها - وهو الظاهر -: أنه يعود على المتصدِّق والمرادُ به مَنْ يستحِقُّ القِصاصَ مِنْ مصابٍ أو وليّ، أي: فالتصدقُ كفارةٌ لذلك المتصدِّق بحقه، وإلى هذا ذهب جماعة كثيرة من الصحابة فمَنْ بعدَهم. والثاني: أنَّ الضميرَ يُراد به الجاني، والمراد بالمتصدِّق كما تقدم مستحقُ القصاص، والمعنى: انه إذا تصدَّق المستِحقُّ على الجاني كان ذلك التصدُّقُ كفارةً للجاني حيث لم يُؤَاخَذْ به. قال الزمخشري:» وقيل: فهو كفارةٌ له أي: للجاني إذا تجاوز عنه صاحبُ الحق سَقَط عنه ما لَزِمه «وإلى هذا ذهب ابن عباس في آخرين. والثالث: أن الضميرَ يعودُ على المتصدِّق أيضاً، لكن المرادَ به الجاني نفسه، ومعنى كونِه متصدِّقاً أنه إذا جنى جنايةً ولم يَعْرِفْ به أحدٌ فَعَرَّف هو بنفسه كان ذلك الاعترافُ بمنزلةِ التصدُّق الماحي لذنبِه وجنايِته، قاله
قلت: الأول واضح، والثاني معناه أنه يتَكَلَّفُ الصدق، لأن ذلك مما يَشُقُّ. وقوله: ﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم﴾ يجوزُ في «مَنْ» أن تكونَ شرطيةٌ، وهو الظاهر، وأن تكون موصولةً، والفاءُ في الخبر زائدةٌ لشبهِه بالشرط. و «هم» في قوله: ﴿هُمُ الكافرون﴾ ونظائرهُ فصلٌ أو مبتدأٌ، وكلُّه ظاهرٌ مِمَّا تقدَّم في نظائره.
والضمير في «آثارهم» إمَّا للنبيين لقولِه: ﴿يَحْكُمُ بِهَا النبيون﴾، وإمَّا لِمَنْ كُتبت عليهم تلك الأحكام، والأول أظهر لقوله في موضع آخر: ﴿بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابن مَرْيَمَ﴾ [الحديد: ٢٧] و «مصدقاً» حال من «عيسى» قال ابن
و «لِما» متعلق به، وقوله: ﴿مِنَ التوراة﴾ حال: إمَّا من الموصول وهو «ما» المجرورةُ باللام، وإمَّا من الضمير المستكنِّ في الظرف لوقوعِه صلةً، ويجوز ان تكونَ لبيانِ جنس الموصول.
قوله: ﴿وَآتَيْنَاهُ﴾ يجوزُ فيها وجهان، أحدُهما: أَنْ تكونَ عطفاً على قوله: ﴿وَقَفَّيْنَا﴾ فلا يكونُ لها محلُّ، كما أنا المعطوف عليه لا محلَّ له، ويجوز أن تكونَ في محلِّ نصبٍ على الحالِ عطفاً على «مصدقاً» الأول إذا جُعل «مصدقاً» الثاني حالاً مِنْ «عيسى» أيضاً كما سيأتي، ويجوز ان تكون الجملةُ حالاً وإنْ لم يكن «مصدقاً» الثاني حالاً من «عيسى». وقوله: ﴿فِيهِ هُدًى﴾ يجوزُ أَنْ يكونَ «فيه» وحدَه حالاً من الإِنجيل «، و» هُدى «فاعل به، لأنه لَمَّا اعتمد على ذي الحال رَفَعَ الفاعل، ويجوز أن يكون» فيه «خبراً مقدماً، و» هدى «مبتدأ مؤخرٌ والجملةُ حال،» ومصدقاً «حالٌ عطفاً على محل» فيه هدى «بالاعتبارين: أعني اعتبار أنيكون» فيه «وحدَه هو الحالَ فعطفْتَ هذه الحال عليه، وأن يكون» فيه هدى «جملةً اسميةً محلُّها النصب، و» مصدقاً «عَطْفٌ على محلها، وإلى هذا ذهب ابن عطية، إلا أنَّ هذا مرجوحٌ من وجهين، أحدهما: أنَّ أصلَ الحال أن تكونَ مفردةً والجارُّ أقربُ إلى المفرد من الجمل. الثاني: أنَّ الجملةَ الاسمية والقعة حالاً الأكثرُ أَنْ تأتيَ فيها بالواوِ وإنْ كان فيها ضميرٌ، حتى زعم / الفراء - وتَبِعه الزمخشري - أنَّ ذلك لا يجوز إلا شاذاً وكونُ» مصدقاً «هذا حالاً مِنَ» الإِنجيل «هو الظاهرُ وأجاز
وقوله: ﴿وَهُدًى﴾ الجمهورُ على النصب وهو على الحال: إمَّا من الإِنجيل، عطفْتَ هذه الحال على ما قبلها، وإمَّا من» عيسى «أي: ذا هدى وموعظة أو هادياً، أو جُعِل نفسُ الهدى مبالغة. وأجاز الزمخشري أن ينتصبا على المفعول من أجله، وجعل العاملَ فيه قولَه تعالى: ﴿آتيناه﴾ قال:» وأَنْ نتصِبا مفعولاً لهما لقوله: ﴿وليحكمَ﴾ كأنه قيل: وللهدى وللموعظةِ آتنياه الإِنجيل وللحكم.
وجَوَّز أبو البقاء وغيرُه أن يكونَ العاملُ فيه: «قَفَّينا» أي: فقينا للهدى والموعظة، وينبغي إذا جُعِلا مفعولاً من أجله أَنْ يُقَدَّر إسنادها إلى الله تعالى لا إلى الإِنجيل ليصِحَّ النصبُ، فإنَّ شرطَه اتحادُ المفعول له مع عاملِه فاعلاً وزماناً، ولذلك لَمَّا اختلف الفاعلُ في قوله: «وليحكم أهل الإِنجيل» عُدِّي إليه باللام، ولأنه خالفَة أيضاً في الزمان، فإنَّ زمنَ الحكم مستقبلٌ وزمنَ الأنبياءِ ماضٍ، بخلاف الهداية والموعظة فإنهما مقارنان في الزمان للإِيتاء. و «للمتقين» يجوز أن يكونَ صفة ل «موعظة» ويجوز ان تكونَ اللامُ زائدةً مقويةً، و «المتقين» مفعول «ب» موعظة، ولم تمنع تاءُ التأنيث من عمله لأنه مبنيٌّ عليها كقوله:
١٧٣ - ٢-...................
وقد تقدَّم الكلام على «الإِنجيل» واشتقاقُه وقراءةُ الحسن فيه بما أغنى عن إعادته. وقرأ الضحاك بن مزاحم: «وهدى وموعظة» بالرفع، ووجهُها أنها خبرُ ابتداء مضمر أي: وهو هدى وموعظة.
وقد خُتِمت الآيةُ الأولى ب» الكافرون «والثانية ب» الظالمون «والثالثة ب» الفاسقون «لمناسباتٍ ذكرَها الناس، وأحسنُ ما قيل فيها ما ذكره الشعبي من أن الأولى في المسلمين، والثانية في اليهود، والثالثة في النصارى، وذلك أنَّ قبل الأولى» فإنْ جاؤوك فاحكُمْ «وكيف» يُحَكِّمونك «ويَحْكُم بها النبيون» وقبل الثانية: «وكَتَبْنا عليهم» وهم اليهود، وقبل الثالثة: «وليحكم أهل الإِنجيل» وهم النصارى، فكأنه خصَّ كلَّ واحدة بما يليه. وقرأ أُبيّ: «وأن ليحكم» بزيادة «أن»، وليس موضعَ زيادتِها.
قوله: ﴿وَمُهَيْمِناً﴾ الجمهورُ على كسر الميم الثانية، اسمَ فاعل وهو حال من «الكتاب» الأول لعطفِه على الحال منه وهي «مصدقاً»، ويجوز في «مصدقاً» و «مهيمناً» أن يكونا حالين من كافِ «إليك» وسيأتي تحقيقُ ذلك عند ذِكْرِ قراءةِ مجاهد رحمه الله. و «عليه» متعلق «بمهيمِن» والمهيمِن: الرقيب: قال:
١٧٣ - ٣- إنَّ الكتابَ مهيمِنٌ لنبيِّنا | والحقُّ يعرِفُه ذَوُو الأَلْبابِ |
١٧٣ - ٤- مليكٌ على عرشِ السماء مهيمِنٌ | لعزته تَعْنُو الوجوهُ وتَسْجُدُ |
إلاَّ أنَّ الزجاج قال: «وهذا حسنٌ على طريقِ العربية، وهو موافقٌ لِما جاء في التفسير من أنَّ معنى مُهَيْمن: مُؤْمن» وهذا الذي قال الزجاج [واستحسنه أنكره الناسُ عليه وعلى المبرد ومَنْ تَبِعَهما]، ولما بلغ أبا العباس ثعلباً هذا القولُ أنكره أشدَّ إنكار وأنحى على ابن قتيبة وكتب إليه: أَنِ اتقِ الله فإن هذا كفرٌ أوما أشبهه، لأن أسماء الله تعالى لا تُصَغَّر وكذلك كل اسمٍ معظَّم شرعاً. وقال ابن عطية: «إن النقاش حَكَى أنَّ ذلك لَمَّا بلغ ثعلباً فقال: إنَّ ما قاله ابنُ قتيبة رديءٌ باطل، والوثوبُ على القرآن شديد، وهو ما سمع الحديث من قوي ولا ضعيف، وإنما جمع الكتب من هَوَسٍ غلبه» [وقال أبو البقاء: «وأصل مُهَيْمن: مُؤْيْمِن لأنه مشتق من
وقرأ ابن محيصن ومجاهد: «ومُهَيْمَنا» بفتح الميم الثانية على أنه اسمُ معفولٍ بمعنى أنه حوفظ عليه من التبديل والتغيير، والفاعل هو الله تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [الحجر: ٩] أو لحافظ له في كل بلد، حتى إنه إذا غُيِرت منه الحركةُ تنبَّه لها الناسُ ورَدُّوا على قارئِها بالصواب، والضمير في «عليه» على هذه القراءة عائد على الكتاب الأول، وعلى القراءةِ المشهورة عائد على الكتاب الثاني. وروي ابن أبي نجيح عن مجاهد قراءته بالفتح وقال: «معناه: محمد مُؤْتَمَنٌ على القرآن» قال الطبري: «فعلى هذا يكون» مهيمناً «حالاً من الكاف في» إليك «وطَعَن على هذا القول لوجود الواو في» ومهيمنا «لأنها عطف على» مصدقاً «و» مصدقاً «حال من الكتاب لا حال من الكاف؛ إذ لو كان حالاً منها لكان التركيب:» لما بين يديك «بالكاف.
قال الشيخ:» وتأويلُه على أنه من الالتفات من الخطاب إلى الغيبة بعيدٌ عن نظم القرآن، وتقديره: «وجعلناك يا محمد مهيمناً» أبعدُ «يعني أن هذين التأويلين يصلحان أن يكونا جوابين عن قول مجاهد، لكن الأول بعيدٌ والثاني
قال: و «كذلك مشى مكي رحمه الله» قلت: وما قاله أبو محمد ليس فيه ما يَرُدُّ على الطبري، فإنَّ الطبري استشكل كونَ «مهيمنا» حالاً من الكاف على قراءة مجاهد، وأيضاً فقد قال ابن عطية بعد ذلك: «ويحتمل أن يكون» مصدقاً ومهيمناً «حالَيْن من الكاف في» إليك «، ولا يَخُصُّ ذلك قراءةَ مجاهد وحده كما زعم مكي، فالناس إنما استشكلوا كونَهما حالين من كاف» إليك «لقلق التركيب، وقد تقدَّم ما فيه وما نقله الشيخُ من التأويلين، وقوله:» لا يخص ذلك «كلامٌ صحيح، وإنْ كان مكي التزمه وهو الظاهر.
و» عليه «في موضع رفع على قراءة ابن محيصن ومجاهد لقيامِه مقامَ الفاعل، كذا قال ابن عَطية، قلت: هذا إذا جعلنا» مهيمناً «حالاً من الكتاب، أمَّا إذا جعلناه حالاً من كاف» إليك «فيكونُ القائمُ مقامَ الفاعلِ ضميراً مستتراً يعودُ على النبي عليه السلامِ، فيكون» عليه «أيضاً في محلِّ نصبٍ كما لو قُرِئ به اسمَ فاعل. قوله: ﴿عَمَّا جَآءَكَ﴾ فيه وجهان، أحدهما: -
قوله: ﴿مِنَ الحق﴾ فيه أيضاً وجهان، أحدُهما: أنه حالٌ من الضمير المرفوع في» جاءك «والثاني: أنه حالٌ من نفس» ما «الموصولة، فيتعلق بمحذوفٍ، ويجوز أَنْ تكونَ للبيانِ. قوله:» لكل «» كل «مضافة لشيء محذوف، وذلك المحذوفُ يُحتمل أن يكونَ لفظة» أمة «أي: لكل أمة، ويراد بهم جميعُ الناس من المسلمين واليهود والنصارى، ويحتمل أن يكونَ ذلك المحذوفُ» الأنبياء «أي: لكل الأنبياء المقدَّمِ ذكرُهم. و» جَعَلْنا «يُحتمل أن تكونَ متعديةً لاثنين بمعنى صَيَّرْنا، فيكون» لكل «مفعولاً مقدماً، و» شِرْعة «مفعولٌ ثان. وقوله: ﴿منكم﴾ متعلقٌ بمحذوفٍ، أي: أعني منكم، ولا يجوزُ أَنْ يتعلَّق بمحذوف على أنه صفةٌ ل» كل «لوجهين، أحدُهما: أنه يلزمُ منه الفصلُ بين الصفة والموصوف بقوله» جَعَلْنا «وهي جملةٌ أجنبية ليس فيها تأكيدٌ ولا تسديدٌ، وما شأنه كذلك لا يجوز الفصلُ به.
والثاني: أنه يلزم منه الفصلُ بين «جَعَلْنا» وبين معمولِها وهو «شِرْعةً» قاله أبو البقاء وفيه نظر، فإن العامل في «لكل» غيرُ أجنبي، ويدل على ذلك قوله: ﴿أَغَيْرَ الله أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ﴾ [الأنعام: ١٤] ففصل بين الجلالة وصفتِها بالعمل في المفعول الأول، وهذا نظيره. وقرأ إبراهيم النخعي ويحيى بن وثاب: «شَرْعة» بفتح الشين، كأن المكسور
والشِرْعة في الأصل: السُّنَّةُ، ومنه: ﴿شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدين﴾ [الشورى: ١٣] أي: سَنَّ والشارع: الطريق، وهو من الشريعةِ التي هي في الأصل الطريقُ المُوصِلُ إلى الماء، ومنه قوله:
١٧٣ - ٥- وفي الشرائعِ منْ جِلاَّنَ مُقْتَنِصٌ | بالي الثيابِ خَفيُّ الصوتِ مُنْزَرِبُ |
١٧٣ - ٦- مَنْ يَكُ ذا شَكٍّ فهذا فَلْجُ | ماءٌ رُواءٌ وطريقٌ نَهْجُ |
[وكقوله:]
١٧٣ - ٧-.................. | وهند أتى مِنْ دونِها النَّأْيُ والبُعْدُ |
١٧٣ - ٨-................... | وأَلْفَى قولَها كَذِباً ومَيْنا |
قوله: ﴿ولكن لِّيَبْلُوَكُمْ﴾ متعلقٌ بمحذوف فقدَّره أبو البقاء «ولكنْ فَرَّقكم ليبلوكَم» وقدَّره غيرُه: «ولكن لم يَشَأْ جَعْلَكم أمةً واحدة» وهذا أحسنُ لدلالة اللفظ والمعنى عليه. و «جميعاً» حال من «كم» في «مرجعكم»، والعاملُ في هذه الحال: إمَّا المصدرُ المضافُ إلى «كم» فإنَّ «كم» يحتمل أَنْ يكونَ فاعلاً، والمصدرُ يَنْحَلُّ لحرف مصدري وفعل مبنيٍ للفاعل، والأصلُ: «تَرْجعون جميعاً» ويحتمل أن يكونَ معفولاً لم يُسَمَّ فاعله على أن المصدر ينحلُّ لفعل مبني للمفعول أي: يُرْجِعُكم الله، وقد صُرِّح بالمعنيين في مواضع، وإمَّا أن يعملَ فيها الاستقرارُ المقدرفي الجار وهو «إليه»، و «إليه مَرْجِعُكم» يُحتمل أن يكونَ من بابِ الجمل الفعلية أو الجمل الاسمية، وهذا واضحٌ بما تقدَّم في نظائره، و «فَيُنَبِّئُكم» هنا من «نَبَّا» غيرَ متضمنةٍ معنى «أعلم» فلذلك تَعَدَّت لواحدٍ بنفسها وللآخر بحرف الجر.
قوله: ﴿أَن يَفْتِنُوكَ﴾ فيه وجهان، أظهرُهما: أنه معفولٌ من أجله أي: احْذَرهم مخافةَ أَنْ يَفْتِنوك. والثاني: أنها بدلٌ من المفعول على جهةِ الاشتمال كأنه [قال] :«واحْذَرْهُمْ فتنتهم» كقولك: «أعجبني زيد علمُه» وقوله: {فَإِن
ثم قال ابن عطية:» وهو قبيحٌ - يعني حَذْفَ العائد من الخبر - وإنما يُحْذَفُ الضمير كثيراً من الصلة، ويُحْذَفُ أقلَّ من ذلك من الصفة، وحَذْفُه من الخبرِ قبيحٌ «ولكن رجَّح البيتَ على هذه القراءةِ بوجهين، أحدُهما: أنه ليس في صدرِ قوله ألفُ استفهام تطلب الفعل كما هي في» أفحكم «، والثاني: أن في البيت عوضاً من الهاء المحذوفة / وهو حرفُ الاطلاق، أعني الياء في» اصنعي «فتضعفُ قراءة مَنْ قرأ» أفحكمُ الجاهلية يبغون «وهذا الذي ذكره ابن عطية في الوجه الثاني كلامٌ لا يعبأ به، وأمَّا الأول فهو قريبٌ من الصواب، لكنه لم ينهضْ في المنعِ ولا في التقبيح، وإنما ينهضُ دليلاً عن الأحسنيَّة أوعلى أن غيرَه أَوْلى منه، وهذه المسألَةُ ذكر بعضُهم الخلافَ فيها بالنسبة إلى
وتعالى بعضُهم فقال: «لا يجوزُ ذلك» وأطلق، إلا في ضرورة شعر كقوله:
١٧٣ - ٩- قد أصبحَتْ أمُّ الخيارِ تَدَّعي | عليَّ ذنباً كلُّه لم أَصْنَعِ |
١٧٤ - ٠- وخالدٌ يَحْمَدُ ساداتُنا | بالحقِّ، لا يُحْمَدُ بالباطلِ |
والوجه الثاني من التوجيهين المتقدمين أن يكونَ «يبغون» ليس خبراً للمبتدأ، بل هو صفةٌ لموصوفٍ محذوف وذلك المحذوفُ هو الخبر، والتقدير: ﴿أَفَحُكْمَ الجاهلية يَبْغُونَ﴾ وحَذْفُ العائِد هنا أكثرُ لأنه كما تقدَّم يكثُر حَذْفُه من الصلةِ، ودونَه من الصفةِ، ودونَه من الخبر، وهذا ما اختاره ابنُ عطية وهو تخريجٌ ممكنٌ، ونَظَّره بقوله تعالى: {مِّنَ الذين
١٧٤ - ١- وما الدهرُ إلا تارتانِ: فمنهما... أموتُ وأُخْرى أبتغي العيشَ أكدحُ
أي: تارةً أموت فيها. وقال الزمخشري:» وإسقاطُ الراجع عنه كإسقاطِه في الصلة، كقوله: ﴿أهذا الذي بَعَثَ الله رَسُولاً﴾ [الفرقان: ٤١] وعن الصفةِ: «في الناس رجُلان: [رجلٌ] أهنْتُ، ورجلٌ أكرمت» أي: رجلٌ أهنته ورجلٌ أكرمته، وعن الحالِ في نحو: «مررت بهند يضرب زيد» قال الشيخ: «إنْ عَنَى التشبيه في الحذف والحسن فليس كذلك لِما تقدَّم ذكرُه، وإن عنى في مطلق الحذفِ فَمَسَلَّم».
وقرأ الأعمش وقتادة: «أَفَحَكَمَ» بفتح الحاء والكاف ونصب الميم، وهو مفردٌ يراد به الجنس لأن المعنى: أحُكَّامَ الجاهلية، ولا بد من حذف مضاف في هذه القراءة هو المُصَرَّحُ به في المتواترة تقديره: أَفَحُكْمَ حُكَّام الجاهليةِ.
والقُرَّاء غيرَ ابنِ عامر على «يَبْغُون» بياء الغيبة نسقاً على ما تقدَّم من الأسماء الغائبة. وقرأ هو بتاء الخطاب على الالتفاتِ ليكون أبلغَ في زَجْرهم
و «حُكْماً» نصباً على التمييز. وقوله: ﴿لقوم﴾ في هذه [اللام] ثلاثةُ أوجهٍ أحدها: أن يتعلَّقَ بنفسِ «حكماً» إذ المعنى أنَّ حكمَ اللَّهِ للمؤمن على الكافر، والثاني: أنا للبيانِ فتتعلَّقُ بمحذوف كهي في «سُقْياً لك» ﴿هَيْتَ لَكَ﴾ [يوسف: ٢٣] وهو رأي الزمخشري، وابن عطية قال شيئاً قريباً منه، وهو أن المعنى: «يُبَيِّن ذلك ويُظْهِرُه لقوم» الثالث: أنها بمعنى «عند» أي: عند [قوم] وهذا ليس بشي. ومتعلَّقُ «يوقنون» يجوز أن يُراد، وتقديرُه: يوقنون بالله وبحكمه، أو بالقرآن، ويجوز ألاَّ يُرادَ على معنى وقوع الإِيقان، وإليه ميلُ الزجاج فإنه قال: «يوقنون: يتبيِِّنون عَدْلَ اللِّهِ في حكمه».
١٧٤ - ٢- ألا أيُّهذا الزاجري أَحْضُرُ الوَغى | ..................... |
وأمَّا قراءة الواو والرفع فواضحة أيضاً لأنها جملة ابتُدئ بالإِخبار بها، فالواوُ استئنافيةٌ لمجرد عطف جملة على جملة، فالواو ثابتة في مصاحف الكوفة والمشرق، والقارئُ بذلك هو صاحبُ هذا المصحف، والكلام كما تقدَّم أيضاً. وأمَّا قراءةُ أبي عمرو فهي التي تحتاج إلى فَضْلِ نظر، واختلف الناسُ في ذلك على ثلاثةِ أوجه، أحدُها: أنه منصوب عطفاً على «فيصحبوا» على أحد الوجهين المذكورين في نصبِ «فيُصْبحوا» وهو الوجه الثاني، أعني كونَه منصوباً بإضمار «أَنْ» في جوابِ الترجِّي بعد الفاء إجراءً للترجِّي مُجْرى التمني، وفيه خلافٌ مشهور بين البصريين والكوفيين، فالبصريون يمنعونَه والكوفيون يُجيزونه مستدلِّين على ذلك بقراءِة نافع: ﴿لعله يزَّكى أو يَذَّكَّرُ فتنفعَه﴾ بنصب «تنفعه» وبقراءة عاصم في رواية حفص: «لعلي أبلغُ الأسبابَ أسبابَ السماواتِ فأطَّلِعَ» بنصب «فأطَّلِعَ» وسيأتي الجوابُ عن الآيتين الكريمتين في موضعِه. وهذا الوجهُ - أعني عطفَ «ويقول» على «فيصبحوا» قال الفارسي وتبعه جماعةٌ، ونقله عنه أبو محمد بن عطية، وذكرَه أبو عمرو بن الحاجب أيضاً، قال الشيخ شهابُ الدين أبو شامة بعد ذكره الوجهَ المتقدِّم: «وهذا وجهٌ جيد أفادنيه الشيخ أبو عمرو بن الحاجب ولم أَرَه لغيرِه، وذكروا وجوهاً كلُّها بعيدةٌ متعسِّفة» انتهى. قلت: وهذا - كما رأيتَ -
الثاني: أنه منصوبٌ عطفاً على المصدر قبلَه وهو الفتحُ كأنه قيل: فعسى اللَّهُ أن يأتِيَ بالفتحِ وبأَنْ يقولَ، أي: وبقولِ الذين آمنوا، وهذا الوجهُ ذكره أبو جعفر النحاس، / ونظَّره بقول الشاعر:
١٧٤ - ٣- لَلُبْسُ عباءةٍ وتَقَرَّ عيني | أحبُّ إليَّ مِنْ لُبْسِ الشُّفوفِ |
١٧٤ - ٤- لقد كانَ في حَوْلٍ ثَواءٍ ثويتُه | تَقَضِّي لُباناتٍ ويَسْأَمَ سائِمُ |
الثالث- من أوجه نصبِ «ويقول» -: أنه منصوبٌ عطفاً على قوله: «
وبعضُ الناسِ يُكْثِرُ هذه الأوجه ويوصلُها إلى سبعة وأكثر، وذلك باعتبار تصحيحِ كلِّ وجهٍ من الأوجه الثلاثة التي ذكرتها لك، ولكن لا يخرج حاصلُها عن ثلاثة، وهو النصبُ: إمَّا عطفاً على «أن يأتي» وإما على «فيصبحوا» وإمَّا على «بالفتح»، وقد تقدَّم لك تحقيقها.
قوله: ﴿جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ﴾ في انتصابِه وَجْهان، أظهرُهما: أنه مصدرٌ مؤكِّدٌ ناصبُه «أَقْسموا» فهو من معناه، والمعنى: أَقْسَموا إقسامَ اجتهادٍ في اليمين. والثاني - أجازُه أبو البقاء وغيره - أنه منصوبٌ على الحالِ كقولهم: «افعَلْ ذلك جَهْدَك» أي: مجتهداً، ولا يُبالي بتعريفه لفظاً فإنه مؤولٌ بنكرة على ما ذكرته لك، وللنحْويين في هذه المسألة أبحاث، والمعنى هنا: أقسموا بالله مجتهدين في أيمانهم.
قوله: ﴿إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ﴾ هذه الجملةُ لا محلَّ لها من الإِعراب فإنها تفسيرٌ وحكاية لمعنى القسم لا لألفاظِهم، إذ لو كانَتْ حكايةً لألفاظهم لقيل: إنَّا معكم، وفيه نظرٌ، إذ يجوزُ لك أن تقول: «حَلَفَ زيدٌ لأفعَلَنَّ» أو «ليفعلن»، فكما جاز أن تقولَ: «لَيَفْعَلنَّ» جاز أن يقال: «إنهم لمعكم» على الحكايةِ.
قوله: ﴿حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ﴾ فيها أوجهٌ، أحدُها: أنها جملةٌ مستأنفة والمقصودُ بها الإِخبارُ من الباري تعالى بذلك. الثاني: أنها دعاءٌ عليهم بذلك وهو قولُ الله تعالى نحو: ﴿قُتِلَ الإنسان مَآ أَكْفَرَهُ﴾ [عبس: ١٧]. الثالث: أنها في محلِّ نصبٍ لأنها من جملة قول المؤمنين، ويَحْتمل معنيين كالمعنيين في الاستئناف، أعني كونَه إخباراً أو دعاءً. الرابع: أنها في محل رفعٍ على أنَّها خبرُ المبتدأ وهو «هؤلاء» وعلى هذا فيحتمل قوله ﴿الذين أَقْسَمُواْ﴾ وجهين،
قوله تعالى: ﴿يُحِبُّهُمْ﴾ في محلِّ جر لأنها صفة ل «قوم» و «يُحِبُّونه» فيه وجهان، أظهرُهما: أنه معطوفٌ على ما قبلَه، فيكون في محلِّ جرٍّ أيضاً فوصفَهم بصفتين: وصفَهم بكونِه تعالى يحبُّهم وبكونهم يحبونه. والثاني أجازه أبو البقاء: أن يكون في محل نصب على الحال من الضمير المنصوب في «يحبهم» قال: «تقديره: وهم يحبونه» قلت: وإنما قَدَّر أبو البقاء لفظة «هم» ليخرجَ بذلك من إشكال: وهو أن المضارعَ المثبتَ متى وقع حالاً وجب تَجَرُّدُه من الواو نحو: «قمت أضحك» ولا يجوز: «وأضحك» وإنْ وَرَدَ شيء أُوِّل بما ذكره أبو البقاء كقولهم: «قمت وأصك عينه» وقوله:
١٧٤ - ٥-......................... | نَجَوْتُ وأَرْهنُهُمْ مالِكا |
قوله: ﴿أَذِلَّةٍ عَلَى المؤمنين أَعِزَّةٍ عَلَى الكافرين﴾ هاتان صفتان أيضاً لقوم، واستدلَّ بعضُهم على جوازِ تقديمِ الصفة غير الصريحة على الصفة
١٧٤ - ٦- وفَرْعٍ يُغَشِّي المَتْنَ أسودَ فاحِمٍ | أثيثٍ كقِنْوِ النَّخْلة المُتَعَثْكِلِ |
وأَذِلَّة جمعُ ذليل بمعنى متعطف، ولا يراد به الذليل الذي هو ضعيف خاضع مُهان، ولا يجوز أن يكون جمع «ذَلُول» لأنَّ / ذلولاً يجمع على «ذُلُل» لا على «أَذِلة» وإن كان كلام بعضهم يوهم ذلك. قال الزمخشري: «ومَنْ زعم أنه من الذُّل الذي هو نقيض الصعوبة فقد غَبِي عنه أن ذَلُولا لا يُجمع على أَذِلة» وأَذِلّة وأَعِزة جمعان لذليل وعزيز وهما مثالا مبالغة، وعَدَّى «أذلة» ب «على» وإن كان أصلُه أن يتعدى باللام لِما ضُمِّن من معنى الحُنُوِّ والعطف، والمعنى: عاطفين على المؤمنين على وجهِ التذلُّلِ لهم والتواضعِ، ويجوزُ أَنْ يكون المعنى: أنهم مع شرفهم وعلوِّ طبقتهم وفَضْلِهم على المؤمنين خافضون لهم أجنحتهم، ونحوه قولُه تعالى:
﴿أَشِدَّآءُ عَلَى الكفار رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ﴾ [الفتح: ٢٩] ذكر هذين الوجهين أبو القاسم الزمخشري. قال الشيخ: «قيل: أو لأنه على حَذْفِ مضاف، التقدير: على فَضْلِهم على المؤمنين،
ووقع الوصفُ في جانب المحبة بالجملةِ الفعلية لأنَّ الفعلَ يَدُلُّ على التجدُّدِ والحدوثِ، هو مناسبٌ فإنَّ محبَّتهم للهِ تعالى تُجَدِّدُ طاعاتِه وعبادتَه كلَّ وقتٍ، ومحبةُ اللهِ إياهم تُجَدِّدُ ثوابَه وإنعامَه عليهم كل وقت. ووقع الوصفُ في جانبِ التواضعِ للمؤمنين والغِلْظَةِ على الكافرين بالاسم الدالِّ على المبالغة دلالةً على ثبوتِ ذلك واستقراره وأنه عزيزٌ فيهم، والاسمُ يَدُلُّ على الثبوتِ والاستقرارِ، وقَدَّم الوصفَ بالمحبة منهم ولهم على وصفِهم بأذلَّة وأَعِزِّة لأنهما ناشِئتان عن المحبتين، وقَدَّم وصفَهم المتعلِّق بالمؤمنين على وصْفِهم المتعلق بالكافرين لأنه آكدُ وألزمُ منه، ولشرفِ المؤمنِ أيضاً.
والجمهورُ على جَرِّ «أَذِلَّة - أَعِزَّة» على الوصفِ كما تقدم، قال الزمخشري: «وقُرئ» أَذِلَّةً وأَعِزِّةً «بالنصبِ على الحال» قلت: الذي قرأ «أَذِلَّة» هو عبد الله بن مسعود، إلا أنه قرأ بدل «أعزة» :«غُلَظاءَ على الكافرين» وهو تفسيرٌ، وهي حالٌ من «قوم» وجاز ذلك وإن كان «قوم» نكرةً لقُرْبِه من المعرفة إذ قد تخصَّص بالوصف.
قوله تعالى: ﴿يُجَاهِدُونَ﴾ يحتمل ثلاثة أَوجه، أحدها: أن يكونَ صفةً أخرى ل «قوم» ولذلك جاء بغيرِ واو، كما جاءَتِ الصفتان قبلَه بغيرها. الثاني: أنه في محلِّ نصبٍ على الحال من الضمير المسكن في «أعزة» أي: يَعُزُّون مجاهدين، قالَه أبو البقاء، وعلى هذا فيجوزُ أن تكونَ حالاً من الضمير في «
قوله تعالى: ﴿وَلاَ يَخَافُونَ﴾ فيه أوجه، أحدها: أن يكون / معطوفاً على «يُجاهِدُون» فتجري فيه الأوجهُ السابقة فيما قبله. الثاني: أن تكونَ الواوُ للحال، وصاحبُ الحالِ فاعلٌ «يجاهدون» قال الزمخشري: أي: يجاهِدُون وحالُهم في المجاهدةِ غيرُ حالِ المنافقين «وتَبِعه الشيخ ولم يُنْكِرْ عليه، وفيه نظرٌ؛ لأنَّهم نصُّوا على أن المضارع المنفي ب» لا «أو» ما «كالمثبت في أنه لا يجوز أن تباشِرَه واوُ الحال، وهذا كما ترى مضارعٌ منفي ب» لا «إلا أَنْ يُقال: إن ذلك الشرطَ غير مُجْمَعٍ عليه، لكنَّ العلةَ التي مَنَعوا لها مباشرةَ الواوِ للمضارع المثبتِ موجودةٌ في المضارعِ المنفيِّ» ب «لا» و «ما» وهي: أنَّ المضارعَ المثبتَ بمنزلةِ الاسمِ الصريحِ، فإنك إذا قلت: «جاز زيدٌ لا يضحكُ» [كان] في قوةِ «ضاحكاً»، و «ضاحكاً» لا يجوز دخولُ الواوِ عليه فكذلك ما أشبهه وهو في قوتِه، وهذه موجودةٌ في المنفي، فإنَّ قولك «جاء زيدٌ لا يضحك» في قوةِ «غيرَ ضاحك» و «غيرَ ضاحك» لا تدخلُ عليه الواوُ، إلاَّ أن هذا يُشْكِلْ بأنهم نَصُّوا على أن المنفي ب «لم» و «لما» يجوزُ فيه دخولُ الواو، مع أنه في قولِك: «قام زيد لم يضحكْ» بمنزلةِ «غيرَ ضاحك» ومِنْ دخول الواو قولُه تعالى:
﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الجنة وَلَمَّا يَأْتِكُم﴾ [البقرة: ٢١٤] ونحوُه. الثالث: أن تكون الواوُ للاستئنافِ، فيكونَ ما بعدها جملةً مستأنفة مستقلة بالإِخبار،
واللَّوْمَةُ: «المَرَّةُ من اللَّوْم، قال الزمخشري» وفيها وفي التنكير مبالغتان كأنه قيل: لا يَخافون شيئاً قَطُّ من لومِ أحدٍ من اللُّوُّام، و «لومة» مصدرٌ مضافٌ لفاعله في المعنى، فإن قيل: هل يجوزُ أن يكونَ مفعولُه محذوفاً، أي: لا يخافون لومةَ لائمٍ إياهم؟ فالجواب أن ذلك لا يجوز عند الجمهور، لأنَّ المصدرَ المحدودَ بتاء التأنيث لا يعملُ، فلو كان مبنياً على التاء عَمِلَ كقوله:
١٧٤ - ٧- فولا رجاءُ النصر منك ورهبةٌ | عقابَك قد كانوا لنا بالموارِدِ |
١٧٤ - ٨- يُحايي به الجَلْدُ الذي هو حازمٌ | بضربةِ كَفَّيهِ المَلا وَهُو راكِبُ |
و «ذلك» في المشار إليه به ثلاثةُ أوجه، أظهرُها: أنه جميع ما تقدَّم من الأوصافِ التي وُصِف بها القومُ من المحبةِ والذلةِ والعزةِ والمجاهدة في سبيلِ
﴿عَوَانٌ بَيْنَ ذلك﴾ [البقرة: ٦٨]. والثاني: أنه مشارٌ به إلى حُبِّ الله لهم وحُبِّهم له. والثالث: أنه مشارٌ به إلى قوله: «أَذِلَّة» أي: لِين الجانب وتَرْكُ الترفُّع، وفي هذين تخصيصٌ غيرُ واضحٍ، وكأنَّ الحاملَ على ذلك مجيءُ اسمِ الإِشارة مفرداً. و «ذلك» مبتدأٌ، و «فَضْلُ الله» خبرُه، و «يؤتيه» يحتملُ ثلاثةَ أوجه، أظهرُها: أنه خبرٌ ثاني، والثاني: أنه مستأنف والثالث: أنه في محلِّ نصبٍ على الحال كقوله. ﴿وهذا بَعْلِي شَيْخاً﴾ [هود: ٨٩].
قوله تعالى: ﴿الذين يُقِيمُونَ الصلاوة﴾ في خمسةُ أوجه، أحدها: أنه
قوله: ﴿وَهُمْ رَاكِعُونَ﴾ في هذه الجملةِ وجهان، أظهرُهما: أنها معطوفةٌ على ما قبلَها من الجملِ فتكونُ صلةً للموصولِ، وجاء بهذه الجملةِ اسميةً دونَ ما قبلَها، فلم يَقُلْ» ويركعون «اهتماماً بهذا الوصفِ؛ لأنه أظهرُ أركانِ الصلاة. والثاني: أنها واوُ الحال وصاحبُها هو واو» يُؤْتون «والمرادُ بالركوعِ الخضوعُ أي: يؤتون الصدقة وهم متواضِعُون للفقراءِ الذين يتصدَّقون عليهم، ويجوز أَنْ يُرادَ به الركوع حقيقةً؛ كما رُوي عن علي أميرِ المؤمنين أنه تصدَّقَ بخاتَمِة وهو راكعٌ.
قوله: ﴿والكفار﴾ قرأ أبو عمرو والكسائي:» والكفارِ «بالخفض، والباقون بالنصب، وهما واضحتان، فقراءةُ الخفض عَطْفٌ على الموصول المجرور ب» من «ومعناها أنه نهاهم أن تيخذوا المستهزئين أولياءَ، وبيَّن أن المستهزئين صنفان: أهلُ كتاب متقدم وهم اليهود والنصارى، وكفارٌ عبدةُ أوثان، وإن كانَ اسمُ الكفر ينطلق على الفريقين، إلا أنه غَلَب على عبدة الأوثان: الكفار، وعلى اليهود والنصارى: أهل الكتاب. قال الواحدي:» وحجةُ هذه القراءة من التنزيلِ قولُه تعالى: ﴿مَّا يَوَدُّ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب وَلاَ المشركين﴾ [البقرة: ١٠٥] اتفقوا على جَرِّ «المشركين» عطفاً على أهل الكتاب، ولم يُعْطَفْ على العامل الرافعِ «يعني بذلك أنه قد أَطْلَق الكفار على أهل الكتاب وعلى عبدة الأوثان: المشركين، ويدل على أنَّ المرادَ بالكفار في آية المائدة المشركون قراءةُ عبد الله: ﴿ومن الذين أشركوا﴾ ورُجِّحت قراءةُ أبي عمرو وأيضاً بالقرب، فإن المعطوفَ عليه قريبٌ، ورُجِّحت أيضاً بقراءة أُبَيّ:» ومن الكفار «بالإِتيان ب» من «وأمَّا قراءةُ الباقين فوجهُها أنه عطفٌ على الموصول الأول أي: لا تتخذوا المستهزئين ولا الكفار أولياء، فهو كقوله تعالى: ﴿لاَّ يَتَّخِذِ المؤمنون الكافرين أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ المؤمنين﴾ [آل عمران: ٢٨]، إلا أنه ليس في هذه القراءة تعرُّضٌ للإِخبار باستهزاءِ المشركين»، وهم مستهزئون أيضاً،
فإن قيل: تكون حالاً
قوله تعالى: ﴿وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ﴾ قرأ الجمهورُ: «أَنَّ» مفتوحةَ الهمزة، وقرأ نعيم بن ميسرة بكسرها. فأمَّا قراءةُ الجمهور فتحتمل «أنَّ» فيها أنْ تكونَ في محل رفع أو نصب أو جر، فالرفعُ من وجه واحد وهو أن تكونَ مبتدأً والخبر محذوف. قال الزمخشري: «والخبر محذوف أي: فسقُكم ثابت معلومٌ عندكم، لأنكم علمتم أنَّا على الحق وأنتم على الباطل، إلا أنَّ حبَّ الرئاسة وجمع الأموال لا يَدَعُكم فتنصفوا» فقدَّر الخبر مؤخراً. قال الشيخ: «ولا ينبغي أن يُقَدَّر الخبرُ إلا مقدماً لأنه لا يُبْتَدَأ ب» أَنَّ «على الأصحِّ إلا بعد» أمَا «انتهى. ويمكن أن يقال: يُغْتفر في الأمور التقديرية ما لايُغْتفر في اللفظية، لاسيما أن هذا جارٍ مَجْرى تفسير المعنى، والمرادُ إظهار ذلك الخبر كيف يُنْطَق به، إذ يقال إنه يرى جواز الابتداء ب» أنَّ «مطلقاً، فحصل في تقدير الخبر وجهان بالنسبة إلى التقديم والتأخير.
وأمَّا النصبُ فمِنْ ستة أوجه، أحدها: أن يُعْطَفُ على» أن آمَنَّا «، واستُشْكل هذا التخريج من حيث إنه يصير التقديرُ: هل تكرهون إلا إيماننا وفسقَ أكثرهم، وهم لا يَعْترفون بأن أكثرَهم فاسقون حتى يكرهونه وأجيب عن ذلك، فأجاب الزمخشري وغيرُه بأنَّ المعنى: وما تنقمون منا إلا الجمعَ بين
ونقل الواحدي عن بعضهم أنَّ ذلك من باب المقابلة والازدواج، يعني أنه لَمَّا نقم اليهود عليهم الإِيمان بجميع الرسل وهو مما لا يُنْقَم ذكَرَ في مقابلته فِسْقَهم، وهو مِمَّا يُنْقِم، ومثلُ ذلك حسنٌ في الازدواج، يقول القائل: «هل تنقم مني إلا أني عَفَوْتُ عنك وأنك فاجر» فَيَحْسُن ذلك لإِتمامِ المعنى بالمقابلة. وقال أبو البقاء: «والمعنى على هذا: إنكم كرهتم إيماننا وامتناعكم، أي: كرهتم مخالفتَنا إياكم، وهذا كقولك للرجل: ما كرهتَ مني إلا أني مُحَبِّبٌ للناس وأنك مُبْغَضٌ» وإن كان لا يعترف بأنه مُبْغَض.
وقال ابن عطية: وأنَّ أكثركم فاسقون / هو عند اكثر المتأوِّلين معطوفٌ على قوله: ﴿أَنْ آمَنَّا﴾ فيدخُل كونُهم فاسقين فيما نَقَموه، وهذا لا يتِّجِهُ معناه «ثم قال بعد كلام:» وإنما يتجه على أن يكون معنى المحاورة: هل تَنْقِمون منا إلا مجموعَ هذه الحال من أنَّا مؤمنون وأنتم فاسقون، ويكون ﴿وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ﴾ مِمَّا قَرَّره المخاطب لهم، وهذا كما تقولُ لِمَنْ يخاصِمُ: «هل تَنْقِم عليَّ إلا أن صدقتُ أنا وكَذَبْتَ أنت» وهو لا يُقِرُّ بأنه كاذب ولا يَنْقِم ذلك، لكن معنى كلامك: هل تَنْقِم إلا مجموعَ هذه الحال «وهذا هو مجموعُ ما أجاب به الزمخشري والواحدي.
الوجه الثاني من أوجه النصب: أن يكونَ معطوفاً على» أن آمنَّا «أيضاً، ولكنْ في الكلامِ مضافٌ محذوفٌ لصحةِ المعنى، تقديرُه:» واعتقادَ أن أكثركم فاسقون «وهو معنى واضح، فإنَّ الكفار يِنقِمون اعتقاد المؤمنين انهم فاسقون، الثالث: أنه منصوبٌ بفعل مقدَّر تقديرُه: هل تنقمون منا إلا إيمانا، ولا تنقمون
الوجه السادس: أنه في محلِّ نصبٍ على أنه مفعول من أجله لتنقِمون، والواوُ زائدةٌ كما تقدَّم
وأمَّا الجرُّ فمن ثلاثةِ أوجهٍ، أحدُها: أنه عطفٌ على المؤمَنِ به، قال الزمخشري: «أي: وما تَنْقِمون منا إلا الإِيمانَ بالله وبما أُنْزِل، وبأن أكثركم فاسقون» وهذا معنى واضح، قال ابن عطية: «وهذا مستقيمُ المعنى، لأنَّ إيمانَ المؤمنين بأنَّ أهلَ الكتابِ المستمرين على الكفر بمحمدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَقه هو مما ينقمونه» الثاني: أنه مجرورٌ عطفاً على علةٍ محذوفةٍ
ووجهُ الإِشكالِ أنه يصيرُ التقديرُ:» هل أنبِّئكم يا أهلَ الكتاب بشرٍّ من ذلك، و «ذلك» يُراد به المنقومُ وهو الإِيمان، وقد عُلِم أنه لا شرَّ في دينِ الإِسلام البتةَ، وقد أجابَ الناسُ عنه، فقال الزمخشري عبارةً قَرَّر بها الإِشكالَ المتقدمَ، وأجابَ عنه بعد أَنْ قال: «فإنْ قلت: المثوبةُ مختصةٌ بالإِحسان فكيف وَقَعَتْ في الإِساءةِ؟ قلت: وُضِعَتْ موضعَ عقوبةٍ فهو كقوله:
١٧٤ - ٩-...................... | تحيةُ بينِهم ضَربٌ وَجيعُ |
و «مثوبةً» نصبٌ على التمييز، ومميِّزُها «شَرٌّ» وقد تقدم في البقرة الكلامُ على اشتقاقِها ووزنِها فَلْيلتفت إليه. وقوله: ﴿عِندَ الله﴾ فيه وجهان، أحدُهما: أنه متعلقٌ بنفسِ «مَثُوبة» إنْ قُلْنا إنها بمعنى الرجوع، لأنك تقول: «رَجَعْتُ عنده» والعندية هنا مجازية. والثاني: أنه متعلق بمحذوف لأنه صفة ل «مثوبة»، وهو في محلِّ نصبٍ إنْ قلنا: إنها اسمٌ محض، وليست بمعنى الرجوع بل بمعنى عقوبة.
وقرأ الجمهور: ﴿أُنَبِّئكم﴾ بتشديد الباء من «نَبَّأ» وقرأ إبراهيم النخعي ويحيى بن وثاب: «أُنْبِئُكم» بتخفيفها من «أنبأ» وهما لغتان فصيحتان. والجمهور أيضاً على «مَثُوبة» بضم الثاء وسكون الواو، وقرأ الأعرج وابن بريدة ونبيح وابن عمران: «مَثْوبة» بسكون الثاء وفتح الواو،
قوله تعالى: ﴿مَن لَّعَنَهُ﴾ في محل [ «مَنْ» ] أربعة أوجه، أحدها: أنه في محل رفع على خبر مبتدأ مضمر تقديره: هو مَنْ لعنه الله، وقَدَّر مكي قبله مضافاً محذوفاً، قال: «تقديرُه: لَعْنُ مَنْ لعنه الله» ثم قال: وقيل: «مَنْ» في موضعِ خفضٍ على البدلِ مِنْ «بشرِّ» بدلِ الشيء من الشيء وهو هو، وكان ينبغي له أن يقدِّر في هذا الوجه مضافاً محذوفاً كما قَدَّره في حالة الرفع، لأنه إنْ جَعل «شراً» مراداً به معنًى لزمه التقدير في الموضعين، وإن جعله مراداً به الأشخاصُ لَزمه ألاَّ يُقَدِّر في الموضعين. الثاني: أنه في محل جر كما تقدَّم بيانُه عن مكي. الثالث: أنه في محلِّ نصبٍ على البدل من محل «بشر». الرابع: أنه في محلِّ نصبٍ على منصوبٌ بفعلٍ مقدَّر يدل عليه «أُنَبِّئكم» تقديره: أُعَرِّفكم مَنْ لعنه الله، ذكره أبوالبقاء، و «مَنْ» يُحْتَمل أن تكونَ موصولة وهو الظاهرُ، ونكرةً موصوفة. فعلى الأول لا محلَّ للجملة التي بعدها، وعلى الثاني لها محلٌّ بحسب ما يُحْكَمُ على «مَنْ» بأحد الأوجه السابقة، وقد حَمَل على لفظِها أولاً في قوله «لعنه» و «عليه» ثم على معناها في قوله: ﴿مِنْهُمُ القردة﴾، ثم على لفظها في قوله: ﴿وَعَبَدَ الطاغوت﴾ ثم على لفظِها في قوله: ﴿أولئك﴾ فجَمَع في الحمل عليها أربع مرات.
و «جَعَل» هنا بمعنى «صَيَّر» فيكون «منهم» في محل نصب مفعولاً ثانياً، قُدِّم على الأول فيتعلق بمحذوف أي صَيَّر القردة والخنازير كائنين منهم،
قوله: ﴿وَعَبَدَ الطاغوت﴾ في هذه الآية أربعٌ وعشرون قراءةً اثنتان في السبع، وهما» وعَبَد الطاغوتَ «على أن» عَبَد «فعلٌ ماضٍ مبني للفاعل، وفيه ضميرٌ يعودُ على» مَنْ «كما تقدم، وهي قراءة جمهور السبعة غيرَ حمزة. والثانية: و» عَبُدَ الطاغوتِ «بضم الباء وفتح الدال وخفض الطاغوت، وهي قراءةُ حمزة - رحمه الله - والأعمش ويحيى بن وثاب. وتوجيههُا كما قال الفارسي وهو أن» عَبُداً «واحدٌ يُراد به الكثرةُ مثلَ قوله تعالى: {وَإِن تَعُدُّواْ
١٧٥ - ٠- أبني لُبَيْنَى إنَّ أمَّكُمُ | أَمَةٌ، وإنَّ أباكُمُ عَبُدُ |
-أبني لُبَيْنَى إنَّ أُمَّكُمُ | أَمَةٌ، وإنَّ أباكُمُ عَبُدُ |
١٧٥ - ١-.................. | ولا ذاكرَ اللهَ إلا قليلا |
١٧٥ - ٢- وما كلُّ مغبونٍ ولو سَلْفَ صَفْقُهُ | ................... |
وقرأ الحسن أيضاً في روايةٍ أخرى كهذه القراءة، إلا أنه جَرَّ» الطاغوت «وهي واضحةٌ فإنه مفرد يُراد به الجنسُ أُضيف إلى ما بعده. وقرأ الأعمش والنخعي وأبو جعفر:» وعُبِد «مبنياً للمفعول،» الطاغوتُ «رفعاً. وقرأ عبد الله كذلك إلا أنَّه زادَ في الفعلَ تاءَ التأنيث، وقرأ:» وعُبِدَتِ الطاغوتُ «والطاغوت يذكر ويؤنث، قال تعالى: ﴿والذين اجتنبوا الطاغوت أَن يَعْبُدُوهَا﴾ [الزمر: ١٧]، وقد تقدَّم في البقرة قال ابن عطية:» وضَعَّفَ الطبري هذه القراءةَ، وهي متجهةٌ «يعني قراءةَ البناءِ للمعفول، ولم يبيِّنْ وجهَ الضعفِ ولا توجيهَ القراءة، ووجهُ الضعفِ أنه تخلو الجملة المعطوفة على الصلةِ من رابطٍ يربُطها
وقرأ ابن مسعود في روايةِ عبد الغفار عن علقمة عنه: ﴿وعَبُدَ الطاغوتُ﴾ بفتح العين وضمِّ الباء وفتحِ الدالِ ورفعِ الطاغوت، وفيها تخريجان، أحدُهما: - ما ذكرَه ابن عطية - وهو أن يصيرَ له أَنْ عُبِد كالخُلُقِ والأمرِ المعتاد المعروف، فهو في معنى فَقُه وشَرُف وظَرُف، قلت: يريد بكونِه في معناه أي: صار له الفقهُ والظرفُ خُلُقاً معتاداً معروفاً، وإلاَّ فمعناه مغايرٌ لمعاني هذه الأفعالِ والثاني: - ما ذكرَه الزمخشري - وهو أَنْ صارَ معبوداً من دونِ الله ك» أمُر «أي: صار أميراً، وهو قريبٌ من الأولِ وإنْ كان بينهما فرقٌ لطيفٌ.
وقرأ ابن عباس في رواية عكرمة عنه ومجاهد / ويحيى بن وثاب: و ﴿وعُبُدَ الطاغوتِ﴾ بضم العين والباء وفتح الدال وجر «الطاغوت» وفيها أقوال، أحدها: وهو قول الأخفش - أنَّ عُبُداً جمع عبيد، وعبيد جمعُ عَبْد فهو جمعٌ الجمعِ، وأنشد:
١٧٥ - ٣- إنما شِعْريَ مِلْحٌ | قد خُلْطَ بجُلْجُلانْ |
١٧٥ - ٤- أنسُبِ العبدَ إلى آبائِه | أسودَ الجِلْدَةِ من قومٍ عُبُدْ |
١٧٥ - ٥- ألا يا حَمْزُ للشُّرُفِ النَّواءِ | فهنَّ مُعَقِّلاتٌ بالفِناءِ |
وقرأ الأعمش: «وعُبَّدَ» بضمِّ العينِ وتشديدِ الباءِ مفتوحةً وفتحِ الدال، «الطاغوت» بالجرِّ، وهي جمع عابِد كضُرَّب في جمع ضارِب وخُلَّص في جمع خالِص. وقرأ ابنُ مسعود أيضاً في رواية علقمة: ﴿وعُبَدَ الطاغوت﴾ بضمِّ العين وفتح الباء والدالِ. و «الطاغوتِ» جَرَّا، وتوجيهُها أنه بناءُ مبالغةٍ كحُطَم ولُبَد وهو اسمُ جنسٍ مفردٍ يُراد به الجمعُ، والقولُ فيه كالقول في قراءةِ حمزة وقد تقدَّمَتْ.
وقرأ ابن مسعود في رواية علقمةَ أيضاً: و ﴿وعُبَّدَ الطاغوتَ﴾ بضمِّ العين وبشد الباء مفتوحة وفتح الدال ونصب «الطاغوت» وخَرَّجها ابن عطية على
١٧٥ - ٦-................ | ولا ذاكرَ اللهَ إلا قليلا |
وقرأ بعضُ البصريين: «وعِبادَ الطاغوتِ» بكسرِ العين، وبعد الباء المخففة ألف، ونصب الدال وجَرِّ «الطاغوت» وفيها قولان: أحدهما: أنه جمع عابِد كقائِم وقِيام، وصائِم وصِيام. والثاني: أنها جمعُ عَبْد، وأنشد سيبويه:
١٧٥ - ٧- أتوعِدُني بقومِك يابنَ حَجْلٍ | أُشاباتٍ يُخالُون العِبادَا |
وقرأ عون العقيلي في روايةِ العَبَّاس بن الفضل عنه: «وعابِدُ الطاغوتِ» بضمِّ الدالِ وجَرِّ الطاغوت كضاربِ زيدٍ. قال أبو عمرو: تقديرُه: «وهم عابدُ الطاغوت» قال ابن عطية: «فهو اسمُ جنسٍ» قلت: يعني انه أرادَ ب «عابِد» جماعةً، قتل: وهذه القراءةُ يجوز أن يكونَ أصلُها: «وعابدو الطاغوت» جَمْعَ عابد جمعَ سلامةٍ، فلمَّا لَقِيت الواوُ لامَ التعريف حُذِفَتْ لالتقاء الساكنين، فصار اللفظُ بدالٍ مضمومةٍ، ويؤيِِّد فَهْمَ هذا أنَّ أبا عمرو قَدَّر المبتدأ جَمْعاً فقال: «تقديرُه: هم عابدو» اللهم إلا أَنْ ينقلُوا عن العقيلي أنه نَصَّ علي قراءتِه أنها بالإِفراد، أو سمعوه يقف على «عابد» أو رَأَوْا مصحفَه بدالٍ دونَ واوٍ، وحينئذ تكونُ قراءتُه كقراءةِ ابن عباس: ﴿وعابدو﴾
وقرأ ابنُ عباس في روايةٍ أخرى لعكرمة: «وعابِدُوا» بالجمعِ، وقد تقدَّم ذلك. وقرأ ابن بُرَيْدة: «وعابد» بنصبِ الدالِ كضاربِ زيدٍ، وهو أيضاً مفردٌ يُراد به الجنسُ. وقرأ ابن عباس وابن أبي عبلة: ﴿وعَبَد الطاغوتِ﴾ بفتحِ العينِ والباءِ والدال وجَرِّ الطاغوت، وتخريجُها أنَّ الأصلَ: «وعبدةً الطاغوت» وفاعِل يُجْمَعُ على فَعَلَة كفاجِر وفَجَرة، وكافِر وكَفَرة، فحُذِفَتْ تاءُ التأنيثِ للإِضافة كقوله:
١٧٥ - ٨- قام وُلاها فسقَوْه صَرْخَدا... أي: ولاتُها، وكقوله:
١٧٥ - ٩-............... | وأَخْلَفُوك عِدَ الأمرِ الذي وَعَدُوا |
وقرأ عبيد بن عمير: «وأعْبُد الطاغوت» جمع عبد كفَلْس وأَفْلُس وكَلْب وأَكْلُب. وقرأ ابن عباس: «وعبيد الطاغوت» جمع عبدٍ كفَلْس وأَفْلُس وكَلْب وأَكْلُب. وقرأ ابن عباس: «وعبيد الطاغوت» وجمعَ عبدٍ ايضاً وهو نحو: كلب وكليب «قال:
١٧٦ - ٠-
تَعَفَّق بالأَرْطَى لها وأرادَها | رجالٌ فَبَذَّتْ نبلَهُمْ وكَلِيبُ |
وطريقُ ضبطِ القراءةِ في هذا الحرفِ بعدَما عُرِفَ القراء أن يقال: سبع قراءات مع كونِ» عَبَد «فعلاً ماضياً وهي: وعَبَد وعَبَدُوا ومَنْ عَبَدوا وعُبِد وعُبِدَت وعَبُدَ وعَبْدَ في قولِنا: إنَّ الباء سَكَنَتْ تخفيفاً كسَلْفَ في سَلَف، وتسعُ قراءاتٍ مع كونِه جمعَ تكسيرٍ وهي: وعُبُدَ وعُبَّد مع جَرِّ الطاغوت وعُبَّد مع نصبه وعُبَّاد وعِباد وعَبَدَ على حَذْفِ التاءِ للإِضافةِ وعَبَدَة وأَعْبُد وعبيد، وست مع المفرد: وعَبُدَ وعُبَدَ وعابدَ الطاغوت وعابدُ الطاغوت بضم الدال وعابد الشيطان وعَبْدَ الطاغوت، وثنِتان مع كونه جمعَ سلامة: وعابِدوا بالواو وعابدي بالياء. فعلى قراءةِ الفعل يجوز في الجملةِ وجهان، أحدهما: أن تكونَ معطوفةً على الصلة قبلها والتقدير: مَنْ لعنَه الله وعَبَد الطاغوت. والثاني: أنه ليس داخلاً في حَيِّز الصلةِ، وإنما هو على تقديرِ مَنْ أي: ومَنْ عَبَد، ويدلُّ له قراءة عبد الله بإظهارِ» مَنْ «إلاَّ أنَّ هذا - كما قال الواحدي - يؤدِّي إلى حَذْفِ الموصولِ وإبقاءِ صلتِه، وهو ممنوعٌ عند البصريين، جائزٌ عند
وأما قراءة جمع السلامة فَمَنْ قرأ بالياء فهو منصوبٌ عطفاً على القردةِ، ويجوزُ فيه وجهان آخران، أحدُهما: أنه منصوبٌ عطفاً على «مَنْ» في ﴿مَن لَّعَنَهُ الله﴾ إذا قلنا إنَّ محلَّها نصبٌ كما مَرَّ. والثاني: أنه مجرورٌ عطفاً على ﴿مَن لَّعَنَهُ الله﴾ أيضاً إذا قُلنا بأنَّها في محلِّ جر بدلاً من «بشرِّ» كما تقدمَّ إيضاحُه. وهذه أوجهٌ واضحةٌ عَسِرة الاستنباطِ واللهُ أعلمُ. ومَنْ قَرأ بالواو فرفعُه: إمَّا على إضمارِ مبتدأ أي: هم عابدُو الطاغوت، وإمَّا نسقٌ على «مَنْ» في قولِه تعالى: ﴿مَن لَّعَنَهُ الله﴾ كما تقدَّم.
قوله تعالى: ﴿أولئك شَرٌّ﴾ مبتدأ وخبر، و «مكاناً» نصب على التمييز، نَسَب الشَّر للمكان وهو لأهلِه، كنايةً عن نهايتهِم في ذلك، و «شرّ» هنا على بابه من التفضيل، والمفضَّل عليه فيه احتمالان، أحدهما: أنهم المؤمنون، فيقال: كيف يُقال ذلك والمؤمنون لا شَرَّ عندهم البتة؟ فَأُجيب بجوابين، أحدُهما: - ما ذكره النحاس - وهو أنَّ مكانَهم في الآخرة شَرٌّ مِنْ مكانِ
قوله تعالى: ﴿وَقَدْ دَّخَلُواْ بالكفر﴾ هذه جملةٌ حاليةٌ / وفي العامل فيها وجهان أحدُهما: وبه بدأ أبو البقاء - أنه «قالوا» أي: قالوا كذا في حالِ دخولِهم كفرةً وخروجِهم كفرةً وفيه نظرٌ، إذ المعنى يَأباه. والثاني: أنه «آمنَّا»،
١٧٦ - ١- ومُسْتَنَّةٍ كاسْتنانِ الخَرُو | فِ قد قَطَعَ الحَبْل بالمِرْوَدِ |
وقوله: ﴿وهم﴾ مبتدأٌ، و «قد خَرَجُوا» خبرُه، والجملةُ حالٌ أيضاً عطفٌ على الحالِ قبلَها، وإنما جاءتِ الأولى فعليةً والثانيةُ اسميةً تنبيهاً على فرطِ تهالكِهم في الكفر، وذلك أنهم كان ينبغي لهم إذا دخلوا على الرسولِ عليه السلام أَنْ يُؤمنوا، لِما يَرَوْن من حسنِ سَمْتِه وهَيْبَته وما يظهرُ على يديهِ
والواوُ في قوله تعالى: ﴿وَهُمْ قَدْ خَرَجُواْ﴾ تحتمل وجهين أحدهما: أن تكونَ عاطفةً لجملةِ حالٍ على مثلِها، والثاني: أن تكونَ هي نفسُها واوَ الحال، وعلى هذا يكونُ في الآية الكريمة حجةٌ لمن يُجيز تعدُّدَ الحالِ لذي حالٍ مفردٍ من غير عطف ولا بدل إلا في أفعلِ التفضيل، نحو: «جاء زيدٌ ضاحكاً كاتباً» وعلى الأول لا يجوزُ ذلك إلا بالعطفِ أو البدلِ، وهذا شبيهٌ بالخلاف في تعدُّد الخبر.
١٧٦ - ٢- لو عُصْرَ منه البانُ والمسكُ انعصَرْ... والظاهر أن الضميرَ في «كانوا» عائدٌ على الأحبار والرهبان، ويجوز أن يعودَ على المتقدمين.
وقول تعالى حكايةً عن اليهود: ﴿يَدُ الله مَغْلُولَةٌ﴾ فيه قولان، أحدُهما:
١٧٦ - ٣- يداك يدا مجدٍ، فكفٌّ مفيدةٌ | وكفٌ إذا ما ضُنَّ بالمالِ تُنْفِقُ |
١٧٦ - ٤- تعوَّد بَسْطَ الكفِّ حتى لَوَ أنَّه | دعاها لقَبْضٍ لم تُطِعْه أنامِلُهْ |
١٧٦ - ٥-.............. | إذْ أصبحَتْ بيدِ الشَمالِ زِمامُها |
١٧٦ - ٦- جادَ الحِمَى بَسْطُ اليدين بوابلٍ | شَكَرتْ نداه تِلاعُه ووِهادُهْ |
قوله: ﴿يُنفِقُ كَيْفَ يَشَآءُ﴾ في هذه الجملة خمسةُ أوجه، أحدها: - وهو الظاهر - أنْ لا محلَّ لها من الإِعراب لأنها مستأنفة والثاني: أنها في محلِّ رفع لأنها خبر ثان ل «يداه» والثالث: أنها في محل نصبٍ على الحال من الضميرِ المستكنِّ في «مبسوطتان» وعلى هذين الوجهين فلا بُدَّ من ضمير مقدَّرٍ عائدٍ على المبتدأ، أو على ذي الحال أي: ينفق بهما، وحَذْفُ مثلِ ذلك قليلٌ.
وقال أبو البقاء: «ينفق كيف يشاء» مسأنفٌ، ولا يجوزُ ان يكونَ حالاً من الهاء - يعني في «يداه» - لشيئين، أحدُهما: أنَّ الهاءَ مضاف إليها. والثاني: أنَّ الخبرَ يَفْصِل بينهما: ولا يجوزُ أن تكونَ حالاً من اليدين، إذ ليس فيها ضمير يعود إليهما «قلت: قوله:» أحدُهما: أنَّ الهاء مضاف إليها «ليس ذلك بمانع؛ لأن الممنوع إنما هو مجيءُ الحال من المضافِ إليه إذا لم يكن
الرابع: أنها حالٌ من» يداه «وفيه خلافٌ - أعني مجيءَ الحال من المبتدأ - ووجهُ المنعِ أنَّ العامل في الحالِ هو العاملُ في صاحبها، والعاملُ في صاحبها أمرٌ معنوي لا لفظيٌ وهو الابتداء، وهذا على أحدِ الأقوال في العاملِ في الابتداء. الخامس: أنها حال من الهاء في» يداه «ولا اعتبارَ بما منعه أبو البقاء لِمَا تقدَّم من تصحيحِ ذلك.
و» كيف «في مثلِ هذا التركيبِ شرطيةٌ نحو:» كيف تكون أكون «ومفعولُ المشبه محذوفٌ، وكذلك جوابُ هذا الشرط أيضاً محذوفٌ مدلولٌ عليه بالفعلِ السابق ل» كيف «والمعنى: ينفق كما يشاء أن ينفق ينفق، ويبسطُ في السماء كيف يشاء أن يبسطَه يبسطه، فحذف مفعول» يشاء «وهو» أَنْ «وما بعدها، وقد تقدم أن مفعول» يشاء «و» يريد «لا يُذْكران إلا لغرابتهِمها، وحَذَفَ أيضاً جوابَ» كيف «وهو» ينفق «المتأخرُ» ويبسط «المتأخرُ لدلالة» ينفق ويبسط «الأولين، وهو نظيرُ قولك:» أقوم إنْ يقم زيد «، ولا جائزٌ أن يكونَ» ينفق المتقدُم عاملاً في «كيف» لأنَّ لها صدرَ الكلامِ،
قوله: ﴿مَّآ أُنزِلَ﴾ «ما» هنا موصولةٌ اسمية في محل رفع، لأنها فاعل بقوله: ﴿وَلَيَزِيدَنَّ﴾ ولا يجوزُ ان تكونَ «ما» مصدريةً، و «إليك» قائمٌ مقام الفاعل ل «أُنْزل» ويكون التقديرُ: «وليزيدَنَّ كثيراً الإِنزالُ إليك» لأنه لم يُعْلَمْ نفسُ المُنَزَّل، والذي يزيدهم إنما هو المُنَزَّل لا نفسُ الإِنزال.
وقوله: «منهم» صفةٌ ل «كثيراً» فيتعلَّقُ بمحذوف و «طغياناً» مفعولٌ ثان ل «يَزيد» وقوله: ﴿إلى يَوْمِ القيامة﴾ متعلقٌ ب «أَلْقينا»، ويجوز أن يتعلَّق بقوله: «والبغضاء» اي: إنَّ التباغضَ بينهم إلى يوم القيامة، ولا يجوزُ أن يتعلَّقَ بالعداوةِ لئلا يَلْزَمَ الفصلُ بين المصدرِ ومعمولِه بالأجنبي وهو المعطوفُ، وعلى هذا فلا يجوزُ أن تكونَ المسألةُ من التنازع، لأن شرطَه تسلُّطُ كلٍ من العاملين، والعاملُ الأولُ هنا لو سُلِّط على المتنازع فيه لم يَجُزْ للمحذورِ المذكور. وقد نَقَل بعضُهم أنه يجوز التنازع في فِعْلَي التعجب مع التزامِ إعمالِ الثاني؛ لأنه لا يُفْصَلِّ بين فعل التعجب ومعمولِه، وهذا مثلُه، أي: يُلْتَزَمُ إعمالُ العامل الثاني، وهو خارج عن قياسِ التنازع، وتقدَّم لك نظيره. والفرقُ بين العداوة والبغضاء أن العداوة كل شيء مشتهر يكون عنه عملٌ وحرب، والبغضاء لا تتجاوزُ النفوس، قال ابن عطية وقال الشيخ: «العداوةُ أخَصُّ من البغضاء لأنَّ كل عدو مُبْغَضٌ، وقد يُبْغَضُ مَنْ ليس بعدو».
و «ساءَ» هذه يجوزُ فيها ثلاثة أوجه، أحدها: أن تكونَ تعجباً كأنه قيل: ما أسوأ عملَهم، ولم يذكر الزمخشري غيرَ هذا الوجه، ولكن النحاة لَمَّا ذكروا صيغَ التعجب لم يَعُدُّوا فيها «ساء»، فإن أراد من جهةِ المعنى لا من [جهة] التعجب المبوبِ له في النحو فقريب. الثاني: أنها بمعنى «بِئْس» فتدلُّ على الذَّمِّ كقوله تعالى: ﴿سَآءَ مَثَلاً القوم﴾ وعلى هذين القولين ف «ساءَ» غيرُ متصرفة، لأن التعجب والمدح والذم لا تتصرَّفُ أفعالُهما. الثالث: أن تكون «ساء» المتصرفة نحو: ساء يسوء، ومنه ﴿لِيَسُوءُواْ وُجُوهَكُمْ﴾ [الإِسراء: ٧] ﴿سِيئَتْ وُجُوهُ الذين كَفَرُواْ﴾ [الملك: ٢٧]، والمتصرفةُ متعديةٌ، قال تعالى: ﴿لِيَسُوءُواْ وُجُوهَكُمْ﴾ فأين مفعولُ هذه؟ قيل: هو محذوفٌ تقديره: ساء عملُهم المؤمنين، والتي بمعنى «بئس» لا بد لها من مميِّز، وهو هنا محذوفٌ تقديره: ساء عملاً الذي كانوا يعملونه. والحرب مؤنثةٌ، وهي في الأصل مصدر، وقد تقدَّم الكلامُ عليها في البقرة.
وقوله: ﴿ما﴾ يحتملُ أن تكونَ اسميةً بمعنى الذي، ولا يجوز أن تكون موصوفةً لأنه مأمورٌ بتبليغِ الجميع كما مَرَّ، والنكرةُ لا تَفِي بذلك فإن تقديرها:» بَلِّغْ شيئاً أُنزل إليك «وفي» أُنزل «ضمير مرفوعٌ يعودُ على ما قام مقامَ الفاعل، وتحتمل على بُعْدٍ أن تكون» ما «مصدريةً، وعلى هذا فلا ضميرَ في» أُنْزل «لأنَّ» ما «المصدريةَ حرفٌ على الصحيح فلا بُدَّ من شيءٍ يقومُ مقامَ الفاعلِ وهو الجارُّ بعده، وعلى هذا فيكونُ التقديرُ: بَلِّغِ الإِنزالَ، ولكنَّ الإِنزال لا يُبَلِّغُ فإنه معنى، إلا أن يُراد بالمصدر أنه واقعٌ موقعَ المفعول به، ويجوز أن يكونَ المعنى:» اعلَمْ بتبليغِ الإِنزالِ «فيكونُ مصدراً على بابه.
قوله تعالى: ﴿وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ﴾ أي: وإنْ لم تفعل التبليغَ، فحذَف المفعولَ به ولم يقل:» وإن لم تبلِّغْ فما بَلَّغت «لِما تقدم في قوله تعالى: ﴿فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ﴾ [الآية: ٢٤] في البقرة، والجوابُ لا بد أن يكون مغايراً للشرط لتحصُل الفائدةُ، ومتى اتَّحدا اختلَّ الكلام، لو قلت:» إن أتى زيد فقد
وأجاب ابن عطية فقال:» أي: وإن تركت شيئاً فقد تركت الكل وصار ما بَلَّغْت غيرَ معتد به، فمعنى «وإن لم تفعل» :«وإن لم تستوفِ» نحوُ هذا قولُ الشاعر:
١٧٦ - ٧- سُئِلْتَ فلم تبخَلْ، ولم تُعْطِ نائلاً | ، فسِيَّان لا حمدٌ عليك ولا ذَمٌّ |
وقد أفسد ابن الخطيب الرازي الجوابَ المتقدم واختار جواباً مِنْ عنده فقال: «أجاب الجمهور ب» إنْ لم تبلِّغ واحداً منها كنت كمن لم يبلِّغْ شيئاً «وهذا ضعيفٌ، لأنَّ مَنْ ترك البعضَ وأتى بالبعض فإن قيل: إنه تَرَكَ الكلَّ كان كذباً، ولو قيل: إن مقدارَ الجُرْم في ترك البعض مثلُ الجرم في ترك الكل فهذا هو المُحالُ الممتنع، فسقط هذا الجوابُ، والأصحُّ عندي أن يقالَ: خَرَجَ هذا الجوابُ على قانون قوله:
١٧٦ - ٨- أنا أبو النجمِ وشِعْري شِعْري... ومعناه: أنَّ شعري قد بَلَغَ في الكمال والفصاحة والمتانة إلى حيث متى قيل إنه شعري فقد انتهى مدحُه إلى الغاية التي لا يزاد عليها، وهذا الكلامُ يفيد المبالغةَ التامةَ من هذا الوجه، فكذا هنا كأنه قال: فإن لم تبلِّغْ رسالاتِه فما بلَّغْتَ رسالاته، يعني أنه لا يمكن أن يوصفَ تَرْكُ التبليغ بتهديدٍ أعظمَ من أنه تَرَكَ التبليغَ، فكان ذلك تنبيهاً على غايةِ التهديد والوعيد.
قال الشيخ:» وما ضَعَّفَ به جوابَ الجمهور لا يضعف به لأنه قال: «فإنْ قيل إنه تركَ الكل كان كذباً» ولم يقولوا ذلك، إنما قالوا إنَّ بعضها ليس أَوْلى بالأداء من بعضٍ، فإن لم تؤدِّ فكأنك أَغْفَلتَ أداءَها جميعَها، كما
وتمامُ كلام الزمخشري أن قال بعد قوله: «غير مؤمَنٍ» وعن ابن عباس رضي الله عنه: «إنْ كتمت آيةً لم تبلِّغْ رسالاتي» وروى عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «بَعَثَني الله برسالاته فضِقْتُ بها ذَرْعاً، فأوحى الله إليّ إنْ لم تبلِّغْ رسالاتي عَذَّبْتُك وضَمِن لي العِصمةَ فقويتُ» قال الشيخ: «وأما ما ذكر من أن مقدار الجُرم في تَرْكِ البعضُ مثلُ الجرم في ترك الكل مُحال ممتنع فلا استحالةَ فيه؛ لأن الله تعالى أن يرتِّب على الذنب اليسير العقابَ العظيم وبالعكس، ثم مَثَّل بالسارق الآخذِ خفيةً يُقْطَع ويُرَدُّ ما أخذ، وبالغاضبِ يؤخذ منه ما أخذ دونَ قطعٍ.
وقال الواحدي:» أي: إنْ يتركْ إبلاغَ البعضِ كان كَمَنْ لم يبلِّغْ، لأنَ تَرْكه البعضَ محبطٌ لإِبلاغِ ما بلَّغ، وجرمَه في كتمان البعض كجرمه في كتمان الكل في انه يستحقٌّ العقوبة مِنْ ربِّه، وحاشا لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يكتُمَ شيئاً مِمَّا أَوْحى الله إليه، وقد قالت عائشة رضي الله عنها: «مَنْ زَعَم أنَّ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَم شيئاً من الوحي فقد أَعْظَمَ على الله الفِرْيَةَ، والله تعالى يقول: ﴿ياأيها الرسول بَلِّغْ﴾ ولو كَتَم رسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شيئاً من الوحي لكتم قوله تعالى: ﴿وَتُخْفِي فِي نِفْسِكَ مَا الله مُبْدِيهِ﴾ » [الأحزاب: ٣٧] الآية. وهذا قريب من الأجوبة المتقدمة. هذا ما وقفتُ عليه في الجواب في هذه الآية الكريمةِ. ونظيرُ هذه الآيةِ في السؤال المتقدمِ الحديثُ
وقرأ نافع وابن عامر وعاصم في رواية أبي بكر:» رسلاتِه «جمعاً، والباقون:» رسالتَه «بالتوحيد، ووجهُ الجمع أنه عليه السلام بُعِث بأنواع شتى من الرسالة كأصول التوحيد والأحكام على اختلاف أنواعها، والإِفرادُ واضحٌ لأنَّ اسمَ الجنسِ المضافَ يَعُمُّ جميعَ ذلك، وقد قال بعض الرسل: ﴿أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي﴾ [الأعراف: ٦٢]، وبعضُهم قال: ﴿رِسَالَةَ رَبِّي﴾ [الأعراف: ٧٩] اعتباراً للمعنيين.
١٧٦ - ٩-
نحنُ بما عِنْدنا وأنت بما | عندك راضٍ والرأيُ مختلفُ |
١٧٧ - ٠-........................ | فإني وقَيَّار بها لَغَريبُ |
١٧٧ - ١- وإلاَّ فاعلَمُوا أنَّا وأنتمْ | بُغاةٌ ما بَقِينا في شِقاقِ |
الوجه الثاني: أن «إنَّ» بمعنى نعم فهي حرفُ جوابٍ، ولا محلَّ لها حينئذ، وعلى هذا فما بعدها مرفوعُ المحلِّ على الابتداء، وما بعده معطوفٌ عليه بالرفع، وخبرُ الجميع قوله: ﴿مَنْ آمَنَ﴾ إلى آخره، وكونُها بمعنى «نعم» قولٌ مرجوح، قال به بعضُ النحويين، وجَعَل من ذلك قول تعالى: ﴿إِنْ هذان لَسَاحِرَانِ﴾ [طه: ٦٣] في قراءةِ مَنْ قرأه بالألف، وفي الآية كلامٌ طويل يأتي إنْ شاء الله تعالى في موضعِه، وجعل منه أيضاً قولَ عبد الله بن الزبير: «إنَّ وصاحبُها» جواباً لمن قال له: «لَعَن الله ناقة حملتني إليك» أي: نعم وصاحبُها، وجَعَلَ منه قولَ الآخر:
الوجه الثالث: / أن يكون معطوفاً على الضميرِ المستكنِّ في» هادوا «أي: هادوا هم والصابئون، وهذا قول الكسائي، ورَدَّه تلميذه الفراء والزجاج قال الزجاج:» هو خطأ من جهتين «إحداهما: أن الصابئ في هذا القول يشارك اليهودي في اليهودية، وليس كذلك، فإن الصابئ هو غيرُ اليهودي، وإن جُعِل» هادوا «بمعنى تابوا من قوله تعالى: ﴿إِنَّا هُدْنَآ إِلَيْكَ﴾ [الأعراف: ١٥٦] لا من اليهودية، ويكون المعنى: تابوا هم والصابئون، فالتفسيرُ قد جاء بغير ذلك؛ لأنَّ معنى» الذين آمنوا «في هذه الآية إنما هو إيمانٌ بأفواههم لأنه يريد به المنافقين، لأنه وصفُ الذين آمنوا بأفواهِهم ولم تؤمِنْ قلوبُهم، ثم ذَكَر اليهود والنصارى فقال: مَنْ آمنَ منهم بالله فله كذا، فجعَلَهم يهوداً ونصارى، فلو كانوا مؤمنين لم يحتجْ أَنْ يقال:» مَنْ آمنَ فلهم أجرهم «. قلت: هذا على
وهذا القولُ قد نقله مكي عن الفراء، كما نَقَله غيرُه عن الكسائي، وردَّ عليه بما تقدَّم، فيحتمل أن يكونَ الفراء كان يوافق الكسائي ثم رجَع، ويحتمل أن يكون مخالفاً له ثم رجع إليه، وعلى الجملةِ فيجوز أن يكونَ في المسألة قولان.
الوجه الرابع: أنه مرفوعٌ نسقاً على محلِّ اسم «إنَّ» لأنه قبل دخولها مرفوعٌ بالابتداء، فلمَّا دخلَتْ عليه لم تغيِّر معناه بل أكَّدته، غايةُ ما في الباب أنها عَمِلَتْ فيه لفظاً، ولذلك اختصَّتْ هي و «أن» بالتفح، ولكن على رأي بذلك دون سائر أخواتها لبقاء معنى الابتداء فيها، بخلافِ ليت ولعل وكأن، فإنه خَرَج إلى التمني والتَّرَجي والتشبيه، وأجرى الفراء البابَ مُجرى واحداً، فأجاز ذلك في ليت ولعل، وأنشد:
١٧٧ - ٣- يا ليتني وأنتِ يا لميسُ... في بلدٍ بها أنيسُ
فأتى ب «أنت»، وهو ضميرُ رفعٍ نسقاً على الياء في «ليتني»، وهل يَجْري غيرُ العطف من التوابع مَجْراه في ذلك؟ فذهَبَ الفراء ويونس إلى جوازِ
١٧٧ - ٢- بَرَزَ الغواني في الشبا | بِ يَلُمْنَني وألومُهُنَّهْ |
ويَقُلْنَ شَيْبٌ قد عَلا | كَ وقد كَبِرْتَ فقلتُ إنَّهْ |
١٧٧ - ٤- فَمَنْ يَكُ أمسى بالمدينةِ رحلُه | فإني وقَيَّارٌ بها لغريبُ |
١٧٧ - ٥- يا ليتنا وهما نَخْلُو بمنزلةٍ | حتى يَرى بعضُنا بعضاً ونَأْتَلِفُ |
١٧٧ - ٦- وإلاَّ فاعلموا أنَّا وأنتمْ | .................. |
١٧٧ - ٧- يا ليتني وأنتِ يا لميسُ... وبقولهم: «إنك وزيدٌ ذاهبان» وكلُّ هذه تَصْلُح أن تكونَ دليلاً للكسائي والفراء معاً، وينبغي أن يوردَ الكسائي دليلاً على جوازِ ذلك مع ظهور إعرابِ الاسم نحو: «إنَّ زيداً وعمروٌ قائمان» وردَّ الزمخشري الرفع على المحل فقال: «فإنْ قلت: هَلاَّ زَعَمْتَ أن ارتفاعه للعطف على محل» إنَّ «واسمها.
قلت: لا يَصِحُّ ذلك قبل الفراغ من الخبر، لا تقول: «إنَّ زيداً وعمرو منطلقان» فإنْ قلت: لِمَ لا يَصِحُّ والنيةُ به التأخيرُ، وكأنك قلت: إنَّ زيداً منطلق وعمرو؟ قلت: لأني إذا رفعته رفعتُه على محل «إنَّ» واسمِها، والعاملُ في محلهما هو الابتداء، فيجب أن يكون هو العاملَ في الخبر؛ لأنَّ الابتداءَ ينتظم الجزأين في عمله، كما تنتظِمُها «إنَّ» في عمِلها، فلو رَفَعْتَ «الصابئون» المنويَّ به التأخيرُ بالابتداء وقد رفَعْتَ الخبرَ ب «إنَّ» لأَعْمَلْتَ فيهما رافعين مختلفين «وهو واضحٌ فيما رَدَّ به إلا أنه يُفْهِمُ كلامُه أن يُجيز ذلك بعد استكمال الخبر، وقد تقدَّم أنَّ بعضَهم نَقَل الإِجماعَ على جوازِه.
الخامس: قال الواحدي:» وفي الآيةِ قولٌ رابعٌ لهشام بن معاوية: وهو أَنْ تُضْمِرَ خبرَ «إنَّ» وتبتدئ «الصابئون» والتقدير: «إنَّ الذين آمنوا والذين هادوا يُرْحَمُون» على قولِ مَنْ يقولُ إنَّهم مسلمون، و «يُعَذَّبون» على قولِ مَنْ يقول إنهم كفار، فيُحْذَفُ الخبرُ إذ عُرِف موضِعُه، كما حُذِف مِنْ قولِه: {إِنَّ الذين كَفَرُواْ
السادس: أنَّ» الصابئون «مرفوعٌ بالابتداء وخبرُه محذوفٌ كمذهب سيبويه والخليل، إلا انه لا يُنْوى بهذا المبتدأِ التأخيرُ، فالفرقُ بينه وبين مذهبِ سيبويه نيةُ التأخيرِ وعدمُها. قال أبو البقاء» وهو ضعيفٌ أيضاً؛ لِما فيه من لزومِ الحذفِ والفصلِ «أي: لِما يلزمُ من الجمع بين الحذفِ والفصلِ، ولا يَعْني بذلك أنَّ المكانَ من مواضع الحذف اللازمِ، لأنَّ القرآنَ يلزمُ أَنْ يُتْلَى على ما أُنْزِل، وإنْ كان ذلك المكان في غيره يجوزُ فيه الذكرُ والحذفُ.
السابع: أنَّ» الصابئون «منصوبٌ، وإنما جاء على لغةِ بني الحرث وغيرِهم الذين يَجْعَلون المثَّنى بالألفِ في كل حال نحو:» رأيت الزيدان ومررت بالزيدان «نقلَ ذلك مكي بن أبي طالب وأبو البقاء، وكأنَّ شبهةَ هذا القائلِ على ضَعْفِها أنه رأى الألفَ علامةَ رفعِ المثنى، وقد جُعِلَتْ في هذه اللغةِ نائبةً رفعاً ونصباً وجراً، وكذا الواو هي علامةُ رفعِ المجموعِ سلامةً، فيبقى في حالةِ النصب والجر كما بَقِيت الألف، وهذا ضعيفٌ بل فاسدٌ.
١٧٧ - ٨- وكان لنا أبو حسن عليٌّ | أباً بَرّاً ونحنُ له بنينُ |
وقال:
١٧٧ - ٩- دعانيَ مِنْ نجدٍ فإنَّ سنينَه | لَعِبْنَ بنا شِيباً وشَيَّبْنَنا مُرْدَا |
التاسع: قال مكي: «وإنما رفع» الصابئون «لأن» إنَّ «لم يظهر لها عملٌ في» الذين «فبقي المعطوفُ على رفعه الأصلي قبل دخول» إنَّ «على الجملةَ» قلت: هذا هو بعينه مذهب الفراء، أعني أنه يجيز العطف على محل اسم «إنَّ» إذا لم يظهر فيه إعراب، إلا أن عبارة مكي لا توافق هذا ظاهراً.
وقرأ أُبي بن كعب وعثمان بن عفان وعائشة والجحدري وسعيد بن جبير وجماعة: «والصابئين» بالياء، ونقلها صاحب «الكشاف» عن ابن كثير، وهذا غير مشهور عنه، وهذه القراءة واضحةُ التخريجِ عطفاً على لفظِ اسم «إنَّ» وإن كان فيها مخالفةٌ لسوادِ المصحفِ فهي مخالفةٌ يسيرة، ولها نظائرُ كقراءة قنبل عن ابن كثير: ﴿سراط﴾ وبابِه بالسين، وكقراءة حمزة إياه في روايةٍ بالزاي، وهم مرسومٌ بالصاد في سائر المصاحف، ونحو قراءةِ الجميع: ﴿إيلافهم﴾ بالياء، والرسم بدونها في الجميع.
وقرأ الحسن البصري والزهري: ﴿والصابِيُون﴾ بكسر الباء بعدها ياء خالصة، وهو تخفيف للهمزة كقراءة من قرأ ﴿يَسْتهزِيُون﴾ بخلوص الياء، وقد تقدم قراءة نافع في
قوله تعالى: ﴿مَنْ آمَنَ﴾ يجوز في «مَنْ» وجهان، أحدهما: أنها شرطيةٌ، وقوله: «فلا خوفٌ» إلى آخره جواب الشرط، وعلى هذا ف «آمن» في محل جزم بالشرط، و «فلا خوف» في محل جزم بكونه جوابَه، والفاءُ لازمةٌ. والثاني: أن تكونَ موصولةً والخبر «فلا خوف»، ودخلت الفاءُ لشبهِ المبتدأ بالشرطِ، ف «آمَنَ» على هذا لا محلَّ له لوقوعه صلةً، و «فلا خوفٌ» محلُّه الرفعُ لوقوعِه خبراً، والفاءُ جائزةُ الدخولِ لو كان في غير القرآن، وعلى هذين الوجهين فمحلُّ «مَنْ» رفعٌ بالابتداء، ويجوز على كونِها مصولةً أن تكونَ في محل نصب بدلاً من اسم «إنَّ» وما عُطِف عليه، أو تكون بدلاً من المعطوف فقط، وهذا الخلافِ في «الذين آمنوا» : هل المرادُ بهم المؤمنون حقيقةً، أو المؤمنون نفاقاً؟ وعلى كلِّ تقدير من التقادير المتقدمة فالعائدُ من هذه الجملة على «مَنْ» محذوفٌ تقديرُه: مَنْ آمَنَ منهم «كما صَرَّح به في موضعٍ آخرَ وتقدَّم إعرابُ باقي الجملة فيما مضى.
قال الزمخشري: «فإنْ قلت: لِمَ جيء بأحد الفعلين ماضياً وبالآخر مضارعاً؟ قلت: جِيء ب» يقتلون «على حكايةِ الحالِ الماضية استفظاعاً للقتلِ، واستحضاراً لتلك الحال الشنيعة للعجبِ منها» انتهى. وقد يقال: فلِمَ لا حُكِيت حالُ التكذيب أيضاً فيُجاء بالفعل مضارعاً لذلك؟ ويُجاب بأنَّ
١٧٨ - ٠- حَسِبْتُ التقى والجودَ خيرَ تجارةٍ | رَباحاً إذا ما المرءُ أصبحَ ثاقِلاً |
١٧٨ - ١- أرجو وآمُل أَنْ تدنُو مودتُها | وما إخالُ لدينا منكِ تنويلُ |
١٧٨ - ٢- يا صاحبيَّ فَدَتْ نفسي نفوسَكما | وحيثما كنتما لُقِّيتُما رَشَدا |
أَنْ تَحْمِلا حاجةً لي خَفَّ مَحْمَلُها | تستوجبا نعمةً عندي بها ويَدا |
أَنْ تقرآنِ على أسماءَ ويحكما | مني السلامَ وألاَّ تُشْعِرا أحدا |
١٧٨ - ٣- إني زعيمٌ يا نُوَيْ | قَةُ إن نجوْتِ من الرَّزاحِ |
ونجوتِ من وَصَبِ العدو | و [من الغدو] إلى الرَّواحِ |
أَنْ تهبطين بلادَ قَوْ | مٍ يَرْتَعُون من الطِّلاحِ |
والثاني من وجهي الجواب: أنَّ رجاءه وأملَه قَوِيا حتى قربا من اليقين فأجراهما مُجْراه في ذلك. وأما قول الشاعر:
١٧٨ - ٤-
عَلِموا أَنْ يُؤَمَّلون فجادُوا | قبلَ أَنْ يُسْألوا بأعظمِ سُؤْلِ |
وجاء هنا على الواجبِ - عند بعضِهم - أو الأحسنِ - عند آخرين - وهو الفصلُ بين «أَنْ» الخفيفةِ وبين خبرِها إذا كان جملةً فعلية متصرفة غيرَ دعاءٍ، والفاصلُ: إمَّا نفيٌ كهذه الآية، / وإمَّا حرفُ تنفيس كقوله تعالى:
﴿عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُمْ مرضى﴾ [المزمل: ٢٠]، ومثلُه: «عَلِمْت أن سوف تقومُ» وإمَّا «قد» كقوله تعالى: ﴿وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا﴾ [المائدة: ١١٣] وإمَّا «لو» - وهي غريبة - كقوله: ﴿وَأَلَّوِ استقاموا﴾ [الجن: ١٦] ﴿أَن لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ الغيب﴾ [سبأ: ١٤]. وتَحرَّزْتُ بالفعلية من الاسمية فإنها لا تحتاج إلى فاصل، كقولِه تعالى: ﴿وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين﴾ [يونس: ١٠] وكقوله:
ومَنْ نصب «تكونَ» ف «أَنْ» عنده هي الناصبة للمضارع دخلت على فعل منفي ب «لا»، و «لا» لا يمنعُ أن يعملَ ما بعدها فيما قبلها من ناصبٍ ولا جازم ولا جارّ، فالناصبُ كهذه الآية، والجازم كقوله تعالى: ﴿إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ﴾ [الأنفال: ٧٣] ﴿إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ الله﴾ [التوبة: ٤٠]، والجارُّ نحو:: جئت بلا زادٍ «.
و» حَسِب «هنا على بابها من الظن، فالناصبة لا تقع بعد علم، كما أنَّ المخففة لا تقع بعد غيرِه، وقد شَذَّ وقوعُ الناصبة بعد يقين وهو نصٌّ فيه كقوله:
١٧٨ - ٥- في فتيةٍ كسيوفِ الهندِ قد عَلِموا | أَنْ هالِكٌ كلُّ مَنْ يَخْفَى ويَنْتَعِلُ |
١٧٨ - ٦- نَرْضَى عن الناسِ إنَّ الناسَ قد عَلِموا | أَنْ لا يدانِيَنا من خَلْقِه بشرُ |
﴿وَيَعْلَمُونَ أَنَّ الله هُوَ الحق المبين﴾ [النور: ٢٥] ﴿أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [البقرة: ١٠٦] ﴿أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله لَهُ مُلْكُ السموات والأرض﴾ [البقرة: ١٠٧] إلى غير ذلك، والنوعُ الذي لا يدلُّ على ثبات واستقرارٍ / تقع بعده الناصبة كقوله تعالى: {والذي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ
قوله تعالى: ﴿ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ كَثِيرٌ مِّنْهُمْ﴾ في هذا الكتاب خمسة أوجه، أحدها: أنَّ الواوَ علامةُ جمع الفاعل، كما يَلْحق الفعلَ تاءُ التأنيث ليدلَّ على تأنيث الفاعل، ك» قامت هند «وهذه اللغة جاريةٌ في المثنى وجمعِ الإِناث أيضاً فيقال:» قاما أخواك، وقمن أخواتك «كقوله:
١٧٨ - ٧-............. | وقد أَسْلَماه مُبْعَدٌ وحَميمٌ |
١٧٨ - ٨- ولكنْ دِيافِيٌّ أبوه وأمُّه | بِحَوْرانَ يَعْصِرنَ السَّليطَ أقاربُهْ |
الوجه الثاني: أنَّ الواوَ ضميرٌ عائدٌ على المذكورين العائدِ عليهم واو «حسبوا» و «كثير» بدلٌ من هذا الضمير، كقولك: «إخوتك قاموا كبيرُهم وصغيرُهم» ونحوه.
الوجه الثالث: أن الواو ضمير أيضاً، و «كثيرٌ» بدلٌ منه، والفرقُ بين هذا الوجه والذي قبله أن الضمير في الوجهِ الأولِ مفسَّر بما قبلَه وهم بنو إسرائيل، وأمَّا في هذا الوجه فهو مفسَّر بما بعده، وهذا أحدُ المواضع التي يُفَسَّر فيها الضميرُ بما بعده، وهو أن يُبْدَلَ منه ما يفسِّرهُ، وهي مسألةُ خلاف وقد تقدم تحريرها. الوجه الرابع: أن الضميرَ عائدٌ على مَنْ تقدَّم، و «كثير» خبر مبتدأ محذوف، وقَدَّره مكي تقديرين، أحدهما: قال: «تقديرُه العُمْيُ والصُّمُّ كثير منهم» والثاني: العَمَى والصَّمَمُ كثيرٌ منهم، ودلَّ على ذلك قوله: ﴿ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ﴾ فعلى تقديره الأول: يكون «كثير» صادقاً عليهم و «منهم» صفة ل «كثير»، وعلى التقدير الثاني يكون «كثير» صادقاً على العَمَى
والجمهورُ على «عَمُوا وَصمُّوا» بفتح العين والصاد، والأصل: عَمِيُوا وصَمِمُوا كشَرِبُوا، فأُعِلَّ الأولُ بالحذفِ، والثاني: بالإِدغام. وقرأ يحيى بن وثاب وإبراهيم النخعي بضم العين والصاد وتخفيف الميم من «عَمُوا» قال الزمخشري: «على تقدير / عماهم الله وصَمَّهم أي: رماهم وضربهم بالعَمَى والصَّمم، كما يقال: نَزَكْتُه إذا ضربته بالنَّيْزَك وَركَبْتُه إذا ضربته بركبتِك» ولم يَعْترض عليه الشيخ، وكان قد قال قبل ذلك بعد أَنْ حكى القراءة: «جَرَتْ مَجْرى زُكِم الرجلُ وأَزْكَمَه الله، وحُمَّ وأَحَمَّه الله، ولا يقال: زَكَمه الله ولا حمَّه، كما لا يقال: عَمَيْتُه ولا صَمَمْته، وهي أفعالٌ جاءت مبنيةً
وقرأ ابن أبي عبلة «كثيراً» نصباً على أنه نعت لمصدر محذوف، وتقدم غيرَ مرة أنه عند سيبويه حالٌ. وقال مكي: «ولو نَصَبْتَ» كثيراً «في الكلام لجازَ أن تجعلَه نعتاً لمصدر محذوف، أي: عمًى وصمماً كثيراً» قلت: كأنه لم يطَّلِعْ عليها قراءةً، أو لم تَصِحَّ عنده لشذوذها.
وقوله: ﴿فَعَمُواْ﴾ عطفَه بالفاء وقوله: ﴿ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ﴾ عطفه ب «ثم»، وهو معنى حسن، وذلك أنهم عَقِيبَ الحسبانِ حَصَل لهم العَمَى والصَّمَمُ مِنْ غير تراخٍ، وأسند الفعلين إليهم، بخلافِ قولِه: ﴿فَأَصَمَّهُمْ وأعمى أَبْصَارَهُمْ﴾ [محمد: ٢٣] لأنَّ هذا فيمن لم يَسْبِقْ له هدايةٌ، وأسند الفعل الحسنَ لنفسِه في قوله: ﴿ثُمَّ تَابَ الله عَلَيْهِمْ﴾ وعطف قوله: ﴿ثُمَّ عَمُواْ﴾ بحرفِ التراخي دلالةً على أنهم تمادَوا في الضلالِ إلى وقت التوبة.
قوله: ﴿وَمَا مِنْ إله﴾ «مِنْ» زائدة في المبتدأ لوجود الشرطين، وهما كونُ الكلامِ غيرَ إيجابٍ، وتنكيرُ ما جَرَّتْهُ، و «إلهٌ» بدل من محل «إلهٍ» المجرورِ
قال مكي: «واختار الكسائي الخفضَ على البدل من لفظ» إله «وهو بعيدٌ لأنَّ» مِنْ «لا تُزَاد في الواجب». قلت: ولو ذهبَ ذاهبٌ إلى أنَّ قوله «إلا إلهٌ» خبر المبتدأ، وتكونُ المسألة من الاستثناءِ المفرغِ، كأنه قيل: ما إلهٌ إلا إلهٌ متصفٌ بالواحدِ لَمَا ظهر له منعٌ، لكني لم أرَهم قالوه. وفيه مجالٌ للنظر.
قوله: ﴿لَيَمَسَّنَّ﴾ جوابُ قسمٍ محذوفٍ، وجوابُ الشرطِ محذوفٌ لدلالةِ هذا عليه، والتقديرُ: واللَّهِ إنْ لم ينتهوا ليمسَّنَّ، وجاء هذا على القاعدةِ التي قَرَّرْتُها: وهو أنه إذا اجتمعَ شرطٌ وقسمٌ أُجيب سابقُهما ما لم يسبقْهما ذو خبر، وقد يجابُ الشرطُ مطلقاً، وقد تقدَّم أيضاً أن فعلَ الشرطِ حينئذ لا يكون
وقوله: ﴿مِنْهُمْ﴾ في محلِّ نصبٍ على الحال. قال أبو البقاء: «إمَّا من الذين، وإمَّا من ضميرِ الفاعل في» كفروا «قلت: لم يتغير الحكمُ في المعنى، لأنَّ الضميرَ الفاعل هو نفسُ الموصول، وإنما الخلاف لفظي. وقال الزمشخري:» مِنْ «في قوله: ﴿لَيَمَسَّنَّ الذين كَفَرُواْ مِنْهُمْ﴾ للبيانِ كالتي في قوله: ﴿فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان﴾ [الحج: ٣٠] قلت: فعلى هذا يتعلقُ» منهم «بمحذوفٍ، فإنْ قلت: هو على جَعْلِه حالاً متعلقٌ أيضاً بمحذوفٌ. قلت: الفرقُ بينهما أنَّ جَعْلَه حالاً يتعلَّقُ بمحذوفٍ، ذلك المحذوفُ هو الحالُ في
وقوله: ﴿كَانَا يَأْكُلاَنِ الطعام﴾ لا محلَّ له لأنه اسئنافٌ وبيان لكونِهما كسائرِ البشرِ في احتياجِهما إلى مايَحْتاج إليه كلُّ جسمٍ مُولَدٍ، والإلهُ الحقُّ منزَّهٌ عن ذلك. وقال بضعهم: «هو كناية عن احتياجهما إلى التغَوُّطِ» ولا حاجة إليه. قوله: «كيف» منصوب بقوله: «نُبَيِّن» بعده، وتقدم ما فيه في قوله: ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ﴾ [البقرة: ٢٨] وغيرِه، ولا يجوز أن يكونَ معمولاً لِما قبله لأن له صدرَ الكلام، وهذه الجملةُ الاستفهامية في محلِّ نصب لأنها معلقةٌ للفعل قبلها. وقوله: ﴿ثُمَّ انظر أنى يُؤْفَكُونَ﴾ كالجملةِ قبلَها، «وأَنَّى» بمعنى كيف، و «يُؤْفكون» ناصبٌ ل «أنَّى» ويُؤْفكون: بمعنى يُصْرَفُون.
قوله: ﴿والله هُوَ السميع العليم﴾ «هو» : يجوزُ أن يكونَ مبتدأ ثانياً، و «السميعُ» خبرُه، و «العليمُ» خبرٌ ثانٍ أو صفةٌ، والجملةُ خبرُ الأول، ويجوزُ أَنْ يكونَ فصلاً، وقد عُرِف ما فيه، ويجوزُ أَنْ يكونَ بدلاً. وهذه الجملةُ الظاهرُ فيها أنها لا محلَّ لها من الإِعراب، ويحتمل أن تكونَ في محلِّ نصبٍ
وذكر الواحدي فيه الحالَ والاستثناء فقال:» وانتصابُ «غيرَ الحق» من وجهين، احدُهما: الحالُ والقطعُ من الدين كأنه قيل: لا تغُلُوا في دينكم مخالفين للحقِّ، لأنهم خالفوا الحقَّ في دينهم ثم غَلَوا فيه بالإِصرار عليه. والثاني: أن يكونَ منصوباً على الاستثناء، فيكون «الحق» مستثنًى من المَنْهِيِّ عن الغلوِّ فيه بأَنْ يجوزَ الغلوُّ فيما هو حق على معنى اتباعِه والثباتِ عليه. وهذا نصٌّ فيما ذكرْتُ لك من أنَّ المستثنى هو «دينُكم».
وتقدَّم معنى الغلوِّ في سورة النساء وظاهرُ هذه الأعاريب المتقدمةِ أنَّ «تَغْلُوا» فعلٌ لازم، وكذا نصَّ عليه أبو البقاء، إلا أن أهلَ اللغةِ يفسِّرونه بمعنى متعدٍّ، فإنهم قالوا: معناه لا تتجاوزوا الحد. قال الراغب: «الغلو تجاوزُ الحَدِّ، يقال ذلك إذا كان في السعر» غلاءً «وإذا كان في القَدْر والمنزلة» غُلُوَّا «وفي السهم» غَلْوا «وأفعالها جميعاً غلا يغلو، فعلى هذا يجوز أن ينتصب» غير الحق «مفعولاً به أي: لا تتجازوا في دينِكم غير الحق، فإنْ فَسَّرنا» تغلوا «بمعنى تتباعدوا من قولهم:» غلا السهمُ «أي: تباعدَ كانَ قاصراً، فيحتمل أن يكونَ مَنْ قال بأنه لازم أخذه من هذا لا من الأول.
قوله: ﴿كَثِيراً﴾ في نصبِه وجهان، أحدُهما: أنه / مفعولٌ به، وعلى هذا اكثرُ المتأوِّلين، فإنهم يفسِّرونه بمعنى: وأضَلُّوا كثيراً منهم أو من المنافقين.
وفي النفسِ من كونِ المرادِ باللسان الجارحةَ شيءٌ، ويؤيد ذلك ما قاله
والوجه الثالث من أوجهِ» أَنْ سَخِطَ «: أنه في محل رفع على البدلِ من» ما «وإلى ذلك ذهب مكي وابنُ عطية، إلا أن مكِّيّاً حكاه عن غيره، قال:» وقيل: في موضعِ رفعٍ على البدلِ من «ما» في «لبئس» على أنها معرفةٌ «قال الشيخ - بعد ما حكى هذا الوجهَ عن ابن عطية -: ولا يَصِحُّ هذا سواءً كانت» ما «تامةً أو موصولةً لأنَّ البدلَ يَحُلُّ محلَّ المبدلِ منه، و» أَنْ سَخِطَ «لا يجوزُ أَنْ يكونَ فاعلاً ل» بِئْسَ «لأنَّ فاعل» بِئْس «لا يكونُ أَنْ والفعل» وهو إيرادٌ واضِحٌ كما قاله.
الوجه الرابع: أنه في محلِّ نصبٍ على البدلِ من «ما» إذا قيل بأنها تمييزٌ، ذَكَر مكي وأبو البقاء، وهذا لا يجوزُ البتة؛ وذلك لأنَّ شرطَ
١٧٨ - ٩- لو أنَّ بالعلمِ تُعْطَى ما تعيشُ به | لَمَا ظَفِرْت من الدنيا بثُفْرُوْقِ |
١٧٩ - ٠-...........
ويجوزَ أن يكونَ «للذين» صفةً ل «عداوة» فيتعلَّقَ بمحذوف، و «اليهودَ» مفعولٌ ثانٍ. وقال أبو البقاء: «ويجوُ أن يكونَ اليهود هو الأولَ، و» أشدَّ «هو الثاني، وهذا هو الظاهرُ، إذ المقصودُ أَنْ يخبرَ الله تعالى عن اليهودِ والمشركين بأنَّهم أشدٌّ الناسِ عداوة للمؤمنين، وعن النصارى بأنهم أقربُ الناسِ مودةً لهم، وليس المرادُ أَنْ يخبرَ عن أشدِّ الناس وأقربهم بكونِهم من اليهودِ والنصارى. فإن قيل: متى استويا تعريفاً وتنكيراً وَجَب تقديمُ المفعولِ الأولِ وتأخيرُ الثاني كما يجب في المبتدأ والخبرِ وهذا من ذاك. فالجوابُ: أنه إنما يجب ذلك حيث أَلْبس، أما إذا دَلَّ دليلٌ على ذلك جاز التقديمُ والتأخيرُ ومنه قوله:
١٧٩ - ١- بَنُونا بنو أبنائِنا، وبناتُنا... بنوهُنَّ أبناءُ الرجالِ الأباعدِ
ف» بنوا أبناء «هو المبتدأ، و» بَنُونا «خبره، لأنَّ المعنى على تشبيهِ أولادِ الأبناء بالأبناء، ومثلُه قول الآخر:
١٧٩ - ٢- قبيلةٌ ألأَمُ الأحياءِ أكرمُها... وأَغْدُر الناسِ بالجيرانِ وافِيها
أكرمُها» هو المبتدأُ، و «ألأمُ الأحياءِ» خبرُه، وكذا «وافيها» مبتدأ و «أغدرُ الناس» خبره، والمعنى على هذا، والآيةُ من هذه القبيلِ فيما ذَكَرْتُ لك.
١٧٩ - ٣- أَصْبَحْنَ عن قَسِّ الأذى غَوافِلا | يَمْشِين هَوْناً خُرُداً بَهالِلا |
١٧٩ - ٤- لو عَرَضَتْ لأيْبُلِيٍّ قَسِّ | اشعثَ في هيكلهِ مُنْدَسِّ |
١٧٩ - ٥- لو كان مُنْفَلَتٌ كانت قساوسةٌ | يُحْيِيهم الَّهُ في أَيْديهم الزُّبُرُ |
١٧٩ - ٦- لما خَبَّرْتَنا مِنْ قولِ قَسٍّ | من الرهبانِ أكرُه أَنْ يَبُوحا |
والرُّهْبان: جمعُ راهبٍ كراكب ورُكْبان، وفارِس وفُرْسان. وقال أبو الهيثم.» إنَّ رهباناً يكون واحداً ويكون جمعاً «وأنشد على كونِه مفرداً قولَ الشاعر:
١٧٩ - ٧- لو عايَنَتْ رهبانَ دَيْرٍ في القُلَلْ | لأَقْبَلَ الرُّهبانُ يَعُدُوا ونَزَلْ |
١٧٩ - ٨- وطابَ البانُ اللِّقاحِ وبَرَدْ... في» برد «ضميرٌ يعودُ على» أَلْبان «وقالوا:» هو أحسنُ الفتيانِ وأجملُه «.
وقال الآخر:
١٧٩ - ٩-
لو أنَّ قوميَ حين أَدْعُوهمْ حَمَلْ | على الجبالِ الشُّمِّ لانهدَّ الجَبَلْ |
١٨٠ - ٠- رُهْبانُ مَدْيَنَ والذين عَهِدْتُهُمْ | يبكون من حَذَرِ العقابِ قُعودا |
لو يَسْمعون كما سَمِعْتُ كلامَها | خَرُّوا لِعَزَّةَ رُكَّعاً وسُجودا |
١٨٠ - ١- رُهبانُ مَدْيَنَ لو رَأَوْكِ تَنَزَّلُوا | والعُصْمُ مِنْ شَعَفِ العَقُولِ الفادِرِ |
قوله تعالى: ﴿وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ﴾ نسقٌ على» أنَّ «المجرورةِ بالباء أي: ذلك بما تقدَّم وبأنَّهم لا يستكبرون.
و «ما» في «ما أُنْزل» تحتمل الموصولةَ والنكرةَ الموصوفةَ، و «ترى» بصَريةٌ، فيكون قولُه «تَفيض من الدمع» جملةً في محلِّ نصب على الحال.
١٨٠ - ٢- ففاضَتْ دموعُ العينِ مني صَبابةً | على النَّحْرِ حتى بَلَّ دَمْعِيَ مَحْمِلي |
١٨٠ - ٣- قوارِصُ تأتيني وتَحْتَقِرُونها | وقد يَمْلأَ الماءُ الإِناءَ فَيَفْعُمُ |
و «من الدمع» فيه أربعةُ أوجه، أحدُها: أنه متعلِّقٌ ب «تَفيض»، ويكون معنى «مِنْ» ابتداءَ الغاية، والمعنى: تَفِيضُ من كثرة الدمع. والثاني: أنه متعلقٌ بمحذوفٍ على أنه حالٌ من الفاعلِ في «تفيضُ» قالهما أبو البقاء،
﴿تَوَلَّوْا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدمع﴾ [التوبة: ٩٢]، ولا بد من نقلِ نصه لتعرفه، قال رحمه الله تعالى: «تفيضُ من الدمعِ كقولك:» تفيضُ دمعاً «وهو أبلغ من قولِك: يفيضُ دمعُها، لأنَّ العينَ جُعِلَتْ كأنها دمعٌ فائض، و» من «للبيان، كقولك:» أَفْديك من رجلٍ «ومحلُّ الجارِّ والمجرور النصبُ على التمييز» وفيه ما قد عَرَفْتَه من المانِعَيْنِ، وهو كونُه معرفةً، وكونُه جُرَّ ب «مِنْ» وهو فاعلٌ في الأصل، وسيأتي لهذا مزيدٌ بيانٍ، فعلى هذا تكونُ هذه الآيةُ كتلك عنده، وهو الوجهُ الثالث. الرابع: انَّ «مِنْ» بمعنى الباء، أي: تفيضُ بالدمع، وكونُها بمعنى الباءِ رأيٌ ضعيف، وجعلوا منه أيضاً قوله تعالى: ﴿يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِيٍّ﴾ [الشورى: ٤٥] أي: بطرف، كما أنَّ الباءَ تأتي بمعنى مِنْ، كقوله: >
قوله: ﴿مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الحق﴾ «مِنْ» الأولى لابتداءِ الغاية وهي متعلقةٌ ب «تَفِيضُ» والثانيةُ يُحْتمل أن تكونَ لبيانِ الجنس، أي: بَيَّنت جنسَ الموصولِ قبلَها، ويُحتمل أن تكونَ للتبعيضِ، وقد أوضح أبو القاسم هذا غايةَ الإِيضاح، قال رحمه الله: «فإنْ قلت: أيُّ فرقٍ بينَ» مِنْ «و» مِنَ «في قوله: ﴿مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الحق﴾ ؟ قلت: الأولى لابتداء الغاية، على أنَّ الدمع ابتدأ ونَشَأ من معرفة الحق، وكان من أجله وبسببِه، والثانيةُ لبيان الموصول الذي هو» ما عرفوا «وتحتمل معنى التبعيض، على أنهم عَرَفوا بعضَ الحقِّ فأبكاهم وبَلَغَ منهم، فكيف إذا عَرَفوه كلَّه وقرؤوا القرآن وأحاطُوا بالسنة» انتهى. ولم يتعرض لما يتعلَّق به الجارَّان وهو يمكن أَنْ يُؤْخَذَ من قوةِ كلامه، وَلْنزد ذلك إيضاحاً و «مِنْ» الأولى متعلقةٌ بمحذوفٍ على أنها حال من «الدمع» أي: في حالِ كونه ناشئاً ومبتدئاً من معرفةِ الحق، وهو معنى قول الزمخشري، على أنَ الدمعَ ابتدأ ونشَأَ من معرفة الحق، ولا يجوزُ أَنْ يتعلق ب «تفيض» لئلا يلزَم تعلُّقُ حرفين مُتَّحِدَيْن، لفظاً ومعنىً بعامل واحد، فإنَّ «مِنْ» في «من الدمع» لابتداءِ الغاية كما تقدَّم، اللهم إلا أن يُعتقد كونُ «مِنْ» في «من الدمع» للبيانِ، أو بمعنى الباء فقد يجوز ذلك، وليس معناه في الوضوحِ كالأول.
وأمَّا «من الحق» فعلى جَعْلِه أنها للبيان تتعلَّقُ بمحذوف أي: أعني من كذا، وعلى جَعْلِه أنها للتبعيض تتعلق ب «عَرَفوا» وهو معنى قولِه: «عَرَفوا بعض الحق».
وقال أبو البقاء في «مِن الحق» إنه حالٌ من العائد المحذوف «على الموصول، أي: مِمَّا عرفوه كائناً من الحق، ويجوزُ أن تكون» من «في قوله
قوله: ﴿يَقُولُونَ﴾ فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنه مستأنف فلا محل له، أخبر الله تعالى عنهم بهذه المقالةِ الحسنةِ، الثاني: أنها حال من الضمير المجرور في» أعينهم «، وجاز مجيءُ الحال من المضاف إليه لأنَّ المضافَ جزؤهُ فهو كقولِه تعالى: ﴿مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَاناً﴾ [الحجر: ٤٧]. الثالث: أنه حالٌ من فاعل» عَرَفوا «والعاملُ فيها» عرفوا «قال الشيخ لَمَّا حكى كونَه حالاً:» كذا قاله ابن عطية وأبو البقاء، ولم يُبَيِّنا ذا الحال ولا العاملَ فيها «قلت: أمَّا أبو البقاء فقد بَيَّنَ ذا الحال فقال:» يقولون «حالٌ من ضميرِ الفاعل في» عَرَفوا «فقد صَرَّح به، ومتى عُرِف ذو الحال عُرِف العاملُ فيها، لأنَّ العاملَ في الحال من العامل في صاحبها، فالظاهر أنه أطَّلع على نسخةٍ مغلوطةٍ من إعراب أبي البقاء سقط منها ما ذكرته لك، ثم إنَّ الشيخَ رَدَّ كونَها حالاً من الضمير في» أعينهم «بما معناه أن الحَال لا تَجيءُ من المضافِ إليه وإن كان
قوله: ﴿وَمَا جَآءَنَا﴾ في محلِّ» ما «وجهان، أحدهما: أنه مجرور نسقاً على الجلالة أي: بالله وبما جاءَنا، وعلى هذا فقوله:» من الحق «فيه احتملان، أحدُهما: أنه حالٌ من فاعل» جاءنا «أي: جاء في حال كونِه من جنسِ الحقِّ. والاحتمال الآخر: أن تكونَ» مِنْ «لابتداء الغاية، والمرادُ بالحقِّ الباري تعالى، وتتعلَّقُ» مِنْ «حينئذ ب» جاءنا «كقولك» جاءَنا فلانُ من عند زيد «، والثاني: أنَّ محلَّه رفعٌ بالابتداء، والخبر قوله: ﴿مِنَ الحق﴾ والجملةُ في موضع الحال، كذا قاله أبو البقاء ويصيرُ التقدير: وما لنا لا نؤمِنْ بالله
قوله: ﴿وَنَطْمَعُ﴾ في هذه الجملة ستة اوجه، أحدها: أنها منصوبة المحلِّ نسقاً على المحكيِّ بالقَول قبلَها أي: يقولون كذا ويقولون نطمع وهو معنىً حسن. / الثاني: أنها في محلِّ نصب على الحال من الضمير المستتر في الجارِّ الواقعِ خبراً وهو» لنا «لأنه تضمَّنَ الاستقرارَ، فرفع الضمير وعَمِلَ في الحال، وإلى هذا ذهبَ أبو القاسم فإنه قال:» والواو في «ونطمعُ» واو الحال، فإنْ قلت: ما العاملُ في الحال الأولى والثانية؟ قلت: العاملُ في الأولى ما في اللام من معنى الفعلِ كأنه قيل: أيُّ شيء حَصَل لنا غيرَ مؤمنين، وفي الثانية معنى هذا الفعل ولكن مقيداً بالحال الأولى لأنك لو أَزَلْتَها وقلت: «ما لنا ونطمعُ» لم يكنْ كلاماً «. وفي هذا الكلامِ نظرٌ وهو قولُه:» لأنَّك لو أَزَلْتَها إلى آخره «لأنَّا إذا أَزَلْناها وأتينا ب» نطمع «لم نأتِ بها مقترنةً بحرفِ العطف، بل مجردةٌ منه لنحُلَّها محلَّ الأولى، ألا ترى أنَّ النحويين إذا وضعوا المعطوفَ موضعَ المعطوف عليه وضعوه مجرداً من حرفِ العطف، ورأيتُ في بعض نسخ الكشاف:» ما لنا نطمعُ «من غير واوٍ مقترنةٍ ب» نطمعُ «ولكن أيضاً لا يَصِحُّ لأنك لو قلت:» ما لنا نطمعُ «كان كلاماً كقوله تعالى:
﴿فَمَا لَهُمْ عَنِ التذكرة مُعْرِضِينَ﴾ [المدثر: ٤٩]، ف «نطمع» واقعٌ موقعَ مفردٍ هو حال، كما لو قلت: ما لك طامعاً، وما لنا طامعين. وردَّ الشيخ عليه هذا الوجه بشيئين، أحدهما: أن العامل لا يقتضي أكثرَ من حالٍ واحدة إذا كان صاحبُه مفرداً دونَ بدل أو عطف إلا أفعلَ التفضيل على الصحيح.
الثالث: أنها في محل نصبٍ على الحال من فاعل «نؤمن» فتكون الحالان متداخلتين. قال الزمخشري: «ويجوز أن يكون» ونطمع «حالاً من» لا نؤمن «على معنى: أنهم أَنْكروا على أنفسهم انهم لا يوحِّدون الله ويطمعون مع ذلك أن يصحبوا الصالحين» وهذا فيه ما تقدم من دخول واو الحال على المضارع المثبت، وأبو البقاء لَمَّا أجاز هذا الوجهَ قَدَّر مبتدأ قبل «نطمع»، وجعل الجملةَ حالاً من فاعل «نؤمن» ليخلصَ من هذا الإِشكال فقال: «ويجوز أن يكون التقديرُ:» ونحن نطمع «، فتكون الجملةُ حالاً من فاعل لا نؤمن» الرابع: أنها معطوفةٌ على «لا نؤمن» فتكون في محلِّ نصب على الحال من ذلك الضميرِ المستترِ في «لنا»، والعاملُ فيها هو العاملُ في الحال قبلها. فإنْ قلت: هذا هو الوجه الثاني المتقدم، وذكرتَ عن الشيخِ هناك أنه منع مجيء الحالين لذي حال واحدة، وبأنه يلزمُ دخولُ الواو على المضارع فما الفرق بين هذا وذاك؟ فالجواب أنَّ الممنوعَ تعدُّدُ الحال دون عاطف، وهذه الواوُ عاطفةٌ، وأن المضارعَ إنما يتمنع دُخولُ واوِ الحال عليه وهذه عاطفةٌ لا واوُ حالٍ فحصل الفرقُ بينهما من جهةِ الواو، حيث كانت في الوجه الثاني واوَ الحال وفي هذا الوجه واوُ عطف، وهذا وإن كان واضحاً فقد يَخْفى على كثير من المتدربين في الإِعراب، ولَمَّا حكى أبو القاسم هذا الوجهَ أبدى له معنيين حسنين فقال - رحمه الله -: «وأن يكونَ معطوفاً على» لا نؤمن «على معنى: وما لنا نجمعُ بين التثليث وبين الطمعِ في صحبةِ الصالحين، أو على معنى: وما لنا لا نجمعُ بينهما بالدخولِ في الإِسلام، لأنَّ الكافرَ
الخامس: أنها جملة استئنافية. قال الشيخ: «الأحسنُ والأسهلُ أن يكونَ استئنافَ إخبارٍ منهم بأنهم طامعون في إنعامِ الله عليهم بإدخالهم مع الصالحين، فالواوُ عاطفةُ هذه الجملةَ على جملة» وما لنا لا نؤمن «قلت: وهذا المعنى هو ومعنى كونها معطوفةً على المَحْكِيِّ بالقول قبلها شيءٌ واحدٌ، فإن فيه الإِخبارَ عنهم بقولهم كيتَ وكيتَ.
السادس: أن يكون «ونطمعُ» معطوفاً على «نؤمن» أي: وما لنا لا نطمع. قال الشيخ هنا: «ويظرُ لي وجهُ غيرُ ما ذكروه وهو أن يكونَ معطوفاً على» نؤمن «التقدير: وما لنا لا نؤمنُ ولا نطمعُ، فيكونُ في ذلك إنكارٌ لانتفاء إيمانهم وانتفاءِ طمعهم مع قدرتِهم على تحصيلِ الشيئين: الإِيمانِ والطمعِ في الدخول مع الصالحين» قلت: قوله: «غيرُ ما ذكروه» ليس كما ذكره، بل ذكر أبو البقاء فقال: «ونطمعُ يجوز أن يكونَ معطوفاً على» نؤمن «أي: وما لنا لا نطمع»، فقد صَرَّح بعطفه على الفعل المنفي ب «لا» غايةُ ما في الباب أن الشيخَ زاده بسطاً.
والطمع قال الراغب: «هو نزوعُ النفسِ إلى الشيء شهوة له» ثم قال: ولَمَّا كان أكثرُ الطمعِ من جهة الهوى قيل: الطَمَعُ طَبَعٌ والطَمَعُ يدنِّس الإِهابَ «وقال الشيخ:» الطمعُ قريبٌ من الرجاء / يقال منه: طَمِع يطمَعُ طَمَعاً، قال تعالى: ﴿خَوْفاً وَطَمَعاً﴾ [السجدة: ١٦] وطَماعَة وطماعِيَة كالكراهية، قال:
١٨٠ - ٥-....................
فالتشديدُ فيها خطأ، واسمُ الفاعل منه طَمِع ك «فَرِح» و «أَشِر» ولم يَحْكِ الشيخُ غيرَه، وحكى الراغب: طَمِعٌ وطامعٌ، وينبغي أن يكون ذلك باعتبارين كقولِهم «فَرِح» لمن شأنه ذلك، و «فارح» لمن تجدَّد له فرحٌ.
قوله: ﴿أَن يُدْخِلَنَا﴾ أي: في أن، فمحلُّها نصب أو جر على ما تقدَّم غيرَ مرة. و «مع» على بابِها من المصاحبة، وقيل: هي بمعنى «في» ولا حاجةَ إليه لاستقلالِ المعنى مع بقاءِ الكلمةِ على موضوعها.
وقد تَجَرَّأ أبو عبيد على هذه القراءةِ وزيَّفَها فقال: «التشديد للتكرير [مرةً] من بعد مرة، ولست آمنُ أن توجِبَ هذه القراءةُ سقوطَ الكفارةِ في اليمين الواحدة لأنها لم تكرَّرْ» وقد وَهَّموه الناسُ في ذلك، وذكروا تلك المعاني المتقدمة، فَسَلِمَتِ القراءةُ تلاوةً ومعنى ولله الحمدُ.
وأمَّا «عاقدت» فيُحتملُ أن يكونَ بمعنى المجردِ نحو: «جاوزت الشيء وجُزْتُه» وقال الفارسي: «عاقَدْتم» يحتمل أمرين، أحدهما: أن يكونَ بمعنى
وقد تعقَّب الشيخُ على أبي علي كلامَه / فقال: «قوله: إنه مثل» طارَقْتُ النعل «و» عاقبت اللص «ليس مثلَه، لأنك لا تقول: طَرَقْتُ
وقال أيضاً: «تقديرُه حَذْفَ حرفِ الجر ثم الضمير على التدرج بعيدٌ، وليس بنظير:» فاصدَعْ بما تؤمر «لأن» أمر «يتعدَّى بنفسِه تارةً وبحرف الجر أخرى، وإن كان الأصلُ الحرفَ، وأيضاً ف» ما «في» فاصدَعْ بما «لا يتعيَّن أن تكونَ معنى الذي، بل الظاهر أنها مصدريةٌ، وكذلك ههنا الأحسنُ أن تكونَ مصدريةً لمقابلتِها بالمصدرِ وهو اللَّغْوُ».
وقد تقدَّم في سورة النساء قولُه تعالى: ﴿والذين عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾ [الآية: ٣٣] و «عَاقَدْت» وذكرت لك ما فيهما فصارَ في ثلاثُ قراءاتٍ في المشهور، وفي تِيْكَ قراءاتان، وكنت قد ذَكَرْتُ أنه رُوي عن حمزة في سورة النساء: «عَقَّدت» بالتشديد، فيكون فيها أيضاً ثلاث قراءات، إلا أنه اتفاقٌ غريبٌ فإنَّ حمزة من أصحاب التخفيف في هذه السورة، وقد رُوي عنه التثقيلُ في النساء.
قوله تعالى: ﴿فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ﴾ مبتدأ وخبر، والضميرُ في «فكفارته» فيه أربعةُ أوجه، أحدها: أنه يعودُ على الحِنْثِ الدالِّ عليه سياقُ الكلام، وإنْ لم يَجْرِ له ذكرٌ، أي: فكفَّارةُ الحِنْثِ. الثاني: أنه يعود على «ما» إنْ جَعَلْناها موصولةً اسميةً، وهو على حذفِ مضافٍ، أي: فكفارة نُكْثه، كذا قدَّره الزمخشري والثالث: أنه يعودُ على العَقْدِ لتقدُّمِ الفعلِ الدالِّ عليه. الرابع: أن يعودَ على اليمين، وإن كانت مؤنثة لأنها بمعنى الحَلْف، قالهما أبو البقاء، وليسا بظارهرين. و «إطعامُ» مصدرٌ مضافٌ لمفعوله وهو مقدَّرٌ
قوله: ﴿مِنْ أَوْسَطِ﴾ فيه وجهان، أحدُهما: أنه في محلِّ رفع خبراً لمبتدأ محذوفٍ يبيِِّنه ما قبلَه تقديرُه: طعامُهم في أوسطِ، ويكون الكلامُ قد تَمَّ عند قوله: ﴿مساكين﴾ وسيأتي إيضاحُ هذا بزيادةٍ قريباً إن شاء الله تعالى. والثاني: أنه في موضعِ نصبٍ لأنه صفةٌ للمفعول الثاني، والتقديرُ: قوتاً أو طعاماً كائناً من أوسط، وأما المفعول الأول فهو «عشرة» المضافُ إليه المصدرُ، و «ما» موصولة اسميةٌ والعائد محذوفٌ أي: من أوسطِ الذي تطعمونه، وقَدَّره
و «أهليكم» مفعولٌ أول ل «تُطْعِمُون» والثاني محذوف كما تقدم أي: تُطْعمونه أهليكم. «وأهليكم» جمعُ سلامةٍ ونقصه من الشروط كونُه ليس علماً ولا صفةً، والذي حَسَّن ذلك أنه كثيراً ما يُستعمل استعمال «مستحق لكذا» في قولِهم: «هو أهلُ لكذا» أي: مستحق له فأشبه الصفاتِ فجُمع جمعَها. وقال تعالى: ﴿شَغَلَتْنَآ أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا﴾ [الفتح: ١١] ﴿قوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً﴾ [التحريم: ٦]، وفي الحديث: «إنَّ لله أهلين» قيل: يا رسول الله: مَنْ هم؟ قال: قُرَّاء القرآن هم أهل الله وخاصَّتُه «فقوله:» أهلُوا الله «جمعٌ حُذِفَتْ نونُه للإِضافة، ويُحتمل أن يكونَ مفرداً فيكتب:» أهلُ الله «فهو في اللفظِ واحدٌ.
وقرأ جعفر الصادق:» أهالِيكم «بسكونِ الياءِ، وفيه تخريجان / أحدُهما: أنَّ» أهالي «جمعُ تكسيرٍ ل» أَهْلَة «فهو شاذٌّ في القياس
١٨٠ - ٤- شَرِبْنَ بماءِ البحرِ ثم ترفَّعَتْ | متى لُجَجٍ خُضْرٍ لهنَّ نَئيجُ |
١٨٠ - ٦- وأَهْلَةُ وُدٍّ قد سُرِرْتُ بوُدِّهم | ..................... |
والثاني: أنَّ هذا اسمُ جمعٍ لأَهْل. قال الزمخشري: «كاليالي في جمع ليلة والأراضي في جمع أرض» قوله «في جمع ليلة وجمع أرض» أرادَ بالجمعِ اللغويَّ لأنَّ اسمَ الجمع جمعٌ في المعنى، ولا يريد أنه جمعُ «ليلة» و «أرض» صناعةً، لأنه قد فَرَضَه أنه اسمُ جمعٍ فكيف يجلعُه جمعاً اصطلاحاً؟
وكان قياسُ قراءةِ جعفر تحريكَ الياءِ بالفتحة لخفتها، ولكنه شَبَّه الياء بالألف، فقدَّر فيها الحركةَ، وهو كثيرٌ في النظم كقول النابغة:
١٨٠ - ٧- رَدَّتْ عليه أقاصِيه ولَبَّده | ضَرْبُ الوليدةِ بالمِسْحاةِ في الثَّأَدِ |
١٨٠ - ٨- كأنَّ أيدِيهنَّ بالقاعِ القَرِقْ | أيدي جوارٍ يتعاطَيْنَ الوَرِقْ |
قوله تعالى: ﴿أَوْ كِسْوَتُهُمْ﴾ فيه وجهان، أحدهما: أنه نسقٌ على «إطعام» أي: فكفارتُه إطعامُ عشرةٍ أو كسوة تلك العشرة. والثاني: أنه عطفٌ على محل «من أوسط» كذا قاله الزمخشري، وهذا الذي قاله إنما يتمشَّى على وجهٍ سَبَقَ لك في قوله «من أوسط» وهو أن يكونَ «من أوسط» خبراً لمبتدأ محذوفٍ يَدُلُّ عليه ما قبلَه، تقديرُه: طعامُهم من أوسط، فالكلامُ عنده تامٌّ على قولِه: ﴿عَشَرَةِ مَسَاكِينَ﴾ ثم ابتدأَ إخباراً آخرَ بأن الطعامَ يكونُ من أوسطِ كذا، وأمَّا إذا قلنا: إنَّ «مِنْ أوسط» هو المفعولُ الثاني فيستحيل عطف «كسوتهم» عليه لتخلفهما إعراباً.
وقرأ الجمهور: «كِسوتهم» بكسر الكاف. وقرأ إبراهيم النخعي وأبو عبد الرحمن السلمي وسعيد بن المسيب بضمها، وقد تقدم في البقرة أنهما لغتان في المصدر وفي الشيء المكسوِّ، قال الزمخشري: «كالقِدوة في القُدوة، والإِسوةُ في الأُسوة، إلا أن قرأ في البقرة بضمِّها هو طلحة فلم يذكروه هنا، ولا ذكروا هؤلاء هناك.
إلاَّ أنَّ هذه القراءة تنفي الكسوةَ من الكَفَّارة، وقد اجمع الناس على أنها إحدى الخصالِ الثلاث، لكن لصاحبِ هذه القراءةِ أن يقول: «استُفيدت الكسوةُ من السنَّة» أمَّا لو قام الإِجماع على أن مستندَ الكسوة في الكفارة من الآية فإنه يَصِحُ الردُّ على هذا القارئ.
قوله: ﴿أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ﴾ عطف على «إطعامُ» وهو مصدر مضاف لمفعوله، والكلامُ عليه كالكلامِ على «إطعامُ عشرة» من جوازِ تقديره بفعلٍ مبني للفاعل أو للمفعول وما قيل في ذلك. وقوله: ﴿فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ﴾ كقوله في النساء: ﴿فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ﴾ [الآية: ٩٢] وقد تقدَّم ذلك مُحَرَّراً.
قوله: ﴿إِذَا حَلَفْتُمْ﴾ قال أبو البقاء: «منصوبٌ على الظرف وناصبُه» كفارة «أي: ذلك الإِطعامُ، / أو ما عُطِف عليه يُكَفِّر عنكم حِنْثَ اليمينِ وقتَ
والأنصابُ جمع» نَصَب «، وقد تقدم ذلك أول السورة والأزلام تقدمت أيضاً، والرِّجْسُ قال الراغب:» هو الشيء القَذِرُ، رجل رِجْس، ورجالٌ أَرْجاس «ثم قال:» وقيل: رِجْس ورِجْز للصوت الشديد، يقال: بعير رَجَّاس: شديد الهدير، وغمام راجِس ورجَّاس: شديد الرعد «وقال الزجاج:» وهو اسمُ لك ما استُقذر من عمل قبيح، يقال: رَجِس ورَجَس بكسر الجيم وفتحها يَرْجُسُ رِجْساُ إذا عمل عملاً قبيحاً، وأصلح من الرِّجْس بفتح الراء وهو شدة صوت الرعد، قال:
١٨٠ - ٩- وكلُّ رَجَّاسٍ يسوقُ الرَّجْسا...
وقوله: ﴿مِّنْ عَمَلِ الشيطان﴾ في محلِّ رفعٍ لأنه صفةٌ ل «رجس» والهاء في «فاجتَنُبِوه» تعودُ على الرجس أي: فاجتنبوا الرجسَ الذي أخبر به عَمَّا تقدَّم من الخمر وما بعدها. وقال أبو البقاء: «إنها تعود على الفعل» يعني الذي قَدَّره مضافاً إلى الخمر وما بعدها، وإلى ذلك نحا الزمخشري أيضاً، قال: «فإنْ قلت: إلامَ يَرْجِعُ الضمير في قوله:» فاجتنبوه؟ قلت: إلى المضافِ المحذوف، أو تعاطِيهما أو ما أشبه ذلك، ولذلك قال: ﴿رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشيطان﴾ وقد تقدَّم أن الأحسن أن هذه الأشياء جُعِلَتْ نفسَ الرجس مبالغة.
قوله: ﴿فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ﴾ هذا الاستفهامُ فيه معنى الأمر أي: انتهوا، ولذلك لَمَّا فهم عمر بن الخطاب الأمرية، قال: «انتهَيْنا يا رب انتهينا يا رب» ويدلُّ على ذلك أيضاً عطفُ الأمرِ الصريح عليه في قوله «وأطيعوا» كأنه قيل: انتهو عن شرب الخمر وعن كذا وأطيعوا، فمجيءُ هذه الجملةِ الاستفهاميةِ المصدَّرِة باسمٍ مُخْبَرٍ عنه باسمِ فاعل دالٍّ على ثبوتِ النهي واستقراره أبلغُ من صريحِ الأمر. قال الزمخشري: «فإن قلت: لِمَ جُمع الخمرُ والميسرُ مع الأنصابِ والأزلام أولاً ثم أفردهما آخراً؟ قلت: لأنَّ الخطابَ مع المؤمنين، وإنما نهاهم عَمَّا كانوا يتعاطَوْنه من شرب الخمرِ واللعبِ بالميسرِ وذِكْرِ الأنصابِ والأزلام لتأكيدِ تحريمِ الخمر والميسر وإظهارِ أنَّ ذلك جميعاً من أعمال أهل الجاهلية وأهل الشرك» انتهى. ويظهرُ شيءٌ آخرُ وهو أنه لم يُفْرِدِ الخمرَ والميسرَ بالذكر آخراً، بل ذَكَر معهما شيئاً يلزُم منه عدمُ الأنصاب والأزلام فكأنه ذكر الجميع آخراً، بيانه أنه قال: «في الخمر والميسر ويَصُدُّكم عن ذكر الله» بعبادة الأنصاب أو بالذبح عليها للأصنام على حَسَبِ ما تقدم تفسيره أول السورة، و «عن الصلاة» باشتغالِكم بالأزلام، وقد تقدَّم تفسيرها أيضاً، فَذِكْرُ الله والصلاة مُنَبِّهان على الأنصاب والأزلام، وهذا وجه حسن.
قوله: ﴿تَنَالُهُ﴾ في محلِّ جر لأنه صفةٌ ثانيةٌ ل «شيء»، وأجاز أبوالبقاء
قوله تعالى: ﴿لِيَعْلَمَ الله﴾ اللامُ متعلقةٌ ب «لَيبلونَّكم» والمعنى: ليتميَّزَ أو ليظهرَ لكم، وقد مضى تحقيقُه في البقرة، وأنَّ هذه تسمَّى لام كي، وقرأ بعضُهم: «لِيُعْلِم» بضم الياء وكسر اللام من أعلم، والمفعول الأول على هذه القراءة محذوفٌ أي: لِيُعْلِم اللَّهُ عبادَه، والمفعول الثاني هو قوله: ﴿مَن يَخَافُهُ﴾ ف «أَعْلَمَ» منقولةٌ بهمزة التعدية من «علم» المتعدية لواحد بمعنى «
وجَوَّز أبو البقاء فيه ثلاثة أوجه، أحدها: ما ذكرته، والثاني: أنه حالٌ من «مَنْ» في «من يخافه»، والثالث: أنَّ الباءَ بمعنى «في» والغيب مصدرٌ واقعٌ موقعَ غائبٍ أي: يخافه في المكانِ الغائبِ عن الخَلْقِ، فعلى هذا يكونُ متعلقاً بنفس الفعل قبله، وعلى الأَوَّلَيْن يكونُ متعلقاً بمحذوفٍ على ما عُرِف.
قوله: ﴿مُّتَعَمِّداً﴾ حالٌ أيضاً من فاعل «قَتَلَه» فعلى رَأْي مَنْ يجوِّزُ تعدُّدَ الحال يُجيز ذلك هنا، ومَنْ مَنَعَ يقول: إنَّ «منكم» للبيانِ حتى لا تتعدَّد الحالُ، و «مَنْ» يُجَوِّزُ أَنْ تكونَ شرطيةً وهو الظاهرُ، وموصولةً، والفاءُ لشبهِها بالشرطيةِ، ولا حاجةَ إليه وإنْ كانوا فعلوه في مواضع. قوله: «فجزاء» الفاءُ جوابُ الشرطِ أو زائدةٌ لشبه المبتدأ بالشرط، فعلى الأول الجملةُ بعدها في محلِّ جزمٍ، وعلى الثاني في محلِّ رفعٍ، وما بعد «مَنْ» على الأولِ في محلِّ
فأمَّا قراءةُ الكوفيين فلأنَّ «مثل» صفةٌ ل «جزاء» أي: فعليه جزاءٌ موصوفٌ بكونه «مثلَ ما قتله» أي مماثِلَه. وجَوَّز مكي وأبو البقاء وغيرُهما أَنْ يرتفعَ «مثل» على البدلِ، وذكر الزجاج وجهاً غريباً وهو أن يرتفعَ «مثل» على أنه خبرٌ ل «جزاء» ويكونُ «جزاء» مبتدأً قال: «والتقديرُ: فجزاءُ ذلك الفعلِ مثلُ ما قتل» قلت: ويؤيد هذا الوجهَ / قراءةُ عبد الله: «فجزاؤُه مثلُ» إلا أن الأحسنَ أن يقدِّر ذلك المحذوفُ ضميراً يعودُ على المقتول لا أَنْ يُقَدِّره: «فجزاءُ ذلك الفعل» و «مثل» بمعنى مماثل قاله جماعةٌ: الزمخشري وغيره، وهو معنى اللفظِ، فإنِّها في قوةِ اسمِ فاعل، إلاَّ أنَّ مكّياً تَوَهَّم أنَّ «مِثْلاً» قد يكون بمعنى غير مماثل فإنه قال: «ومثل» في هذه القراءة - يعني قراءة الكوفيين - بمعنى مُماثِل، والتقديرُ: فجزاءٌ مماثلٌ لِما قَتَل يعني في القيمةِ أو في الخِلْقة على اختلافِ العلماء، ولو قَدَّرْتَ مِثْلاً على لفظه لصار
قلت: «مثل» بمعنى مُماثِل أبداً فكيف يقول «ولو قَدَّرْتَ مِثْلاً على لفظه» ؟ وأيضاً فقوله: «لصار المعنى إلى آخره» هذا الإِشكالُ الذي ذكره لا يُتَصَوَّرُ مجيئُه في هذه القراءةِ أصلاً، وإنما ذَكَره الناسُ في قراءةِ الإِضافة كما سيأتي، وكأنه نَقَل هذا الإِشكالَ من قراءةِ الإِضافة إلى قراءةِ التنوين.
وأمَّا قراءةُ باقي السبعة فاستبعَدها جماعةٌ، قال الواحدي: «ولا ينبغي إضافةُ الجزاءِ إلى المِثْلِ لأنَّ عليه جزاءَ المنقولِ لا جزاءَ مثله فإنه لا جزاءَ عليه لَمَّا لم يقتلْه» وقال مكي بعد ما قَدَّمْتُه عنه: «ولذلك بَعُدَت القراءةُ بالإِضافة عند جماعةٍ لأنها تُوجِبُ جزاءً مثلَ الصيدِ المقتول» قلت: ولا التفاتَ إلى هذا الاستبعادِ فإنَّ أكثرَ القراء عليها. وقد أجاب الناسُ عن ذلك بأجوبةٍ سديدةٍ، لَمَّا خفيت على أولئك طَعَنوا في المتواتر، منها: أنَّ «جزاء» مصدرٌ مضافٌ لمفعوله تخفيفاً، والأصل: فعليه جزاءٌ مثلُ ما قتل، أي: أن يَجزي مثلَ ما قتل، ثم أُضيف، كما تقول: «عجبت من ضربٍ زيداً» ثم «من ضرب زيدٍ» ذَكَر الزمخشري وغيره، وبَسْطُ ذلك أنَّ الجزاءَ هنا بمعنى القضاء والأصل: فعليه أن يُجْزَى المقتولُ من الصيد مثلَه من النعم، ثم حُذِف المفعولُ الأول لدلالة الكلامِ عليه وأُضيف المصدرُ إلى ثانيهما، كقولك: «زيدٌ فقيرٌ ويعجبني إعطاؤك الدرهمَ» أي: إعطاؤك إياه. ومنها: أنَّ «مثل» مقحمةٌ كقولهم: «مِثْلُك لا يفعل ذلك» أي: أنت لا تفعل ذلك، ونحو
فَمَنْ رفع «جزاء» فيه أربعة أوجه، أحدُها: أنه مرفوع بالابتداء، والخبرُ محذوفٌ تقديرُه: فعليه جزاء. والثاني: أنه خبرٌ لمبتدأ محذوف تقديرُه: فالواجبُ جزاءُ: والثالث: أنه فاعلٌ بفعل محذوف أي: فيلزَمُه أو يَجِبُ عليه جزاءٌ.
الرابع: أنه مبتدأ وخبره «مثل»، وقد تقدَّم أن ذلك مذهبُ أبي إسحاق الزجاج، وتقدم أيضاً رفع «مثل» في قراءة الكوفيين على أحدِ ثلاثةِ أوجه: النعتِ والبدلِ والخبرِ حيث قلنا: «جزاء» مبتدأٌ عند الزجاج.
وأمَّا قراءةُ ﴿فجزاؤه مثلُ﴾ فظاهرةٌ أيضاً. وأمَّا قراءة «فجزاءٌ مثلَ» برفع «جزاء» وتنوينه ونصب «مثل» فعلى إعمال المصدر المنونِ في مفعولِه، وقد تقدَّم أنَّ قراءةَ الإِضافةِ منه، وهو نظيرُ قولِه تعالى: ﴿أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً﴾ [البلد: ١٤١٥] وفاعلُه محذوف أي: فجزاءُ أحدِكم أو القاتلِ، أي: أن يُجْزى القاتلُ للصيد. وأما قراءة: «فجزاءً مثلَ» بنصبهما فجزاءً منصوب على المصدر أو على المفعول به، «ومثلَ» صفتُه بالاعتبارين، والتقدير: فليَجْزِ جزاءً مثلَ، أو: فليُخْرِجْ جزاءً، أو فليُغَرَّم جزاءً مثلَ.
قوله: ﴿مِنَ النعم﴾ فيه ثلاثةُ وجه، أحدُها: أنه صفةٌ ل «جزاء» مطلقاً، أي: سواءً رُفِع أم نُصِبَ، نُوِّن أم لم يُنَوَّنْ، أي: إنَّ ذلك الجزاء يكونُ من
قوله: ﴿يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا﴾ في موضعِ رفعٍ صفةً ل» جزاء «أو في موضع نصبٍ على الحال منه أو على النعتِ ل» جزاء «فيمَنْ نَصَبه، وخَصَّصَ أبو البقاء كونَه صفةً بقراءةِ تنوين» جزاء «والحالَ بقراءةِ إضافته، ولا فرقَ،
والثاني: أنه حين جَعَلَ «من النَّعم» صفةً عَلَّقها بالخبرِ المحذوفِ لِما تضمَّنه مِن الاستقرار، وليس كذلك؛ لأنَّ الجارَّ إذا وَقَع صفةً تعلَّق بمحذوفٍ، ذلك المحذوفُ هو الوصفُ في الحقيقةِ، وهذا الذي جَعَلَه متعلِّقاً لهذه الصفةِ ليس صفةً للموصوف في الحقيقةِ بل هو خبرٌ عنه، ألا ترى أنك لو قلت: «عندي رجلٌ من بني تميم» أنَّ «مِنْ بين» متعلِّقٌ بوصفٍ محذوفٍ في الحقيقة لا بقولِك «عندي» ويمكن أَنْ يقال: - وهو بعيدٌ جداً - إنه أراد التعلُّقَ المعنوي، وذلك أنَّ العاملَ في الموصوفِ عاملٌ في صفتِه، و «عليه» عاملٌ في «جزاء» فهو عاملٌ في صفتِه، فالتعلقُ من هذه الحيثيةِ، ولكن إنما يتأتَّى ذلك حيث جَعَلْنا الخبرَ عاملاً في المبتدأ، أو قلنا: إنَّ الجارَّ يرفع الفاعلَ ولو لم يعتمدْ، وإنما أذكرُ هذه التوجيهاتِ لأنَّ القائلين بذلك مِمَّنْ لا يُلْغَى قولُهم بالكلية.
والألفُ في «ذوا» علامةٌ الرفعِ مثَّنى، وقد تقدَّم الكلامُ في اشتقاقِ هذه اللفظةِ وتصاريفِها وقرأ الجمهورُ: ﴿ذَوا﴾ بالألف، وقرأ محمد بن جعفرٍ الصادقٍ /: «ذو» بلفظِ الإِفراد قالوا: «ولا يريدُ بذلك الوحدةَ بل يريدُ:
قوله: ﴿هَدْياً﴾ فيه ستةُ أوجهٍ، أظهرُها: أنه حالٌ من الضمير في» به «قال الزجاج:» وهو منصوبٌ على الحالِ، المعنى: يحكم به مقدراً أن يُهْدَى «يعني أنه حال مقدرةٌ ولا مقارنةٌ، وكذا قال الفارسي كقولِك:» معه صقرٌ صائداً به غداً «أي مُقَدِّراً الصيدَ.
الثاني: أنه حالٌ من «جزاء» سواءً قُرئ مرفوعاً أم منصوباً، منوناً أم مضافاً. وقال الزمخشري «» هَدْياً «حالٌ من» جزاء «فيمَنْ وصَفَه بمثل، لأنَّ الصفةَ خَصَّصَتْه فَقَرُبَ من المعرفة، وكذا خَصَّصه الشيخ، وهذا غير واضح، بل الحاليةُ جائزةٌ مطلقاً كما تقدَّم. الثالث: أنه منصوبٌ على المصدرِ أي: يُهديه هَدْياً، ذكره مكي وأبو البقاء الرابع: أنه منصوبٌ على التمييزِ، قاله أبو البقاء ومكي، إلا أنَّ مكياً قال:» على البيان «، وهو التمييز في المعنى، وكأنهما ظَنَّا أنه تمييزٌ لِما أُبْهِم في المِثْلية، إذ ليس هنا شيءٌ يَصْلُحُ للتمييزِ غيرَها. وفيه نظرٌ من حيث إنَّ التمييزَ إنما يرفع
١٨١ - ٠- يا رُبَّ غابِطِنا لو كان يَطْلُبُكُمْ | لاقَى مباعَدةً منكم وحِرْمانا |
قوله: ﴿أَوْ كَفَّارَةٌ﴾ عطفٌ على قولِه: ﴿فَجَزَآءٌ﴾ و» أو «هنا للتخييرِ، ونُقِل عن ابن عباس أنها ليسَتْ للتخيير، بل للترتيب، وهذا على قراءةِ مَنْ رفع» فجزاءٌ «وأمَّا مَنْ نَصَبَه فقال الزمخشري» جَعَلَها خبرَ مبتدأ محذوفٍ كأنه قيل: أو الواجبُ عليه كفارةٌ، ويجوزُ أَنْ تُقَدِّر: فعليه ان يَجْزي جزاءً أو كفارةً، فتَعْطِفَ «كفارة» على «أَنْ يَجْزي» يعني أنَّ «عليه» يكونُ خبراً مقدماً، وأَنْ يَجْزي «مبتدأً مؤخراً، فَعَطَفْتَ» الكفارة «على هذا المبتدأ. وقرأ نافع وابن عامر بإضافة ﴿كفارة﴾ لِما بعدها، والباقون بتنوينِها ورفعِ ما بعدها.
أي: هي طعام أي: تلك الكفارة. وأمَّا قراءة نافع وابن عامر فوجهُها أنّ الكفارة لَمَّا تنوَّعت إلى تكفير بالطعام وتكفير بالجزاء المماثل وتكفير بالصيام حَسُن إضافتها لأحدِ أنواعها تبييناً لذلك، والإِضافةُ تكون بأدنى ملابسه كقوله:
١٨١ - ١- إذا كوكبُ الخَرْقاءِ لاحَ بسُحْرَةٍ | سهيلٌ أذاعَتْ غَزْلَها في القَرائبِ |
قوله: ﴿أَو عَدْلُ﴾ نسقٌ على «فجزاء» والجمهورُ على فتحِ العين، وقرأ ابن عباس وطلحة بن مصرف والجحدري بكسرِها، وقد بَيَّنْتُ معناهما في أولَ هذا التصينف عند قوله تعالى: ﴿وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ﴾ [البقرة: ٤٨]. و «ذلك» إشارةٌ إلى الطعام، وكيفيتُه مذكورةٌ في «التفسيرِ الكبيرِ». و «صياماً» نصبٌ على التمييزِ لأنَّ المعنى: أو قَدْرُ ذلك صِياماً فهو كقولك: «لي مِلْؤُه عسلاً» وأصلُ «صِياماً» :«صِواماً» فَأُعِلَّ لِما عُرِف غيرَ مرة.
قلت: وكذا لو جَعَلَه بدلاً أيضاً أو خبراً لِما تقدم من أنه يلزمُ أن يُتَبع الموصول أو يخبرَ عنه قبل تمامِ صلتِه وهو ممنوعٌ، وقد أَفْهَمَ كلامُ الشيخ بصريحه أنه على قراءةِ إضافة الجزاءِ إلى «مثل» يجوزُ ما قاله أبو القاسم، وأنا أقول: لا يجوزُ ذلك أيضاً لأنَّ «ليذوقَ» من تمامِ صلةِ المصدرِ، وقد عُطِف عليه قولُه «أو كفارةٌ أو عَدْلٌ» فيلزمُ أَنْ يُعْطَفَ على الموصولِ قبل تمام صلتِه، وذلك لا يجوزُ لو قلت: «جاء الذي ضَرَبَ وعمروٌ زيداً» لم يَجُزْ للفصل بين الصلة - أو أبعاضِها - والموصولِ بأجنبي، فتأمَّلْه فإنه موضعٌ حسن.
الثاني: أنه متعلقٌ بفعلٍ محذوفٍ يَدُلُّ عليه قوةُ الكلامِ كأنه قيل: جُوزي بذلك ليذوقَ. الثالث: أنه متعلقٌ بالاستقرار المقدَّرِ قبل قولِه: ﴿فجزاء﴾ إذ التقديرُ فعليه جزاءٌ ليذوقَ. الرابع: أنه متعلق ب «صيام» أي: صومُه ليذوقَ الخامس: أنه متعلِّقٌ ب «طعام» أي: طعام ليذوقَ، ذكره هذه الأوجهَ الثلاثةَ أبو البقاء وهي ضعيفةٌ جداً، وأجودُها الأولُ. السادسُ: أنها تتعلَّقُ ب «عَدْل ذلك» نَقَله الشيخ عن بعضِ المُعْرِبين قال: - وهو كما قال - «غلطٌ».
قوله: ﴿وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ﴾ » مَنْ «يجوز أن تكونَ شرطيةً، فالفاءُ جوابُها، و» ينتقمُ «خبرٌ لمبتدأٍ محذوفٍ أي: فهو ينتقمُ، ولا يجوز الجزمُ مع الفاءِ البتة، ويجوز أن تكونَ موصولةً، ودخلت الفاءُ في خبر المتبدأ لَمَّا اشبه الشرطَ، فالفاءُ زائدةٌ، والجملةُ بعدها خبرٌ، ولا حاجة إلى إضمارِ مبتدأ بعد الفاءِ بخلافِ ما تقدَّم. قال أبو البقاء:» حَسَّن دخولَ الفاءِ كونُ فعلِ الشرط ماضياً لفظاً «.
قوله: ﴿مَتَاعاً﴾ في نصبِه وجهان، أحدُهما: أنه منصوبٌ على المصدر وإليه ذهب مكي وابن عطيَة وأبو البقاء وغيرهم، والتقدير: مَتَّعكم به متاعاً تنتفعون وتَأْتَدِمون به، وقال مكي: «لأنَّ قولَه» «أُحِلَّ لكم» بمعنى أَمْتَعْتُكم به إمتاعاً، كقوله: ﴿كِتَابَ الله عَلَيْكُمْ﴾ [النساء: ٢٤]. والثاني: أنه مفعول من أجله، قال الزمشخري: «أي: أحلَّ لكم تمتيعاً لكم، وهو في المفعول له بمنزلة قولِه تعالى: ﴿وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً﴾ [الأنبياء: ٧٢] في باب الحالِ، لأنَّ قوله ﴿مَتَاعاً لَّكُمْ﴾ مفعولٌ له مختصٌّ بالطعام كما أنَّ» نافلةً «حالٌ مختص بيعقوب، يعني أُحِلَّ لكم طعامُه تمتيعاً لتنائكم تأكلونَه طريَّا ولسيَّارتكم يتزودونه قَديداً» انتهى. فقد خصَّص الزمخشري كونه مفعولاً له بكون الفعلِ وهو «أُحِلَّ مسنداً لقوله: ﴿وَطَعَامُهُ﴾ وليس علة لحِلِّ الصيد، وإنما علةٌ لحِلِّ الطعام فقط، وإنما حَمَلَه على ذلك مذهبُه - وهو مذهبُ أبي حنيفة - من أنَّ صيدَ البحرِ منقسمٌ إٍلى ما يُؤْكل وإلى ما لا يؤكل، وأنَّ طعامَه هو المأكولُ منه، وأنه لا يقع التمثيلُ إلا المأكول منه طريّاً وقديداً، وقوله» نافلةً «يعني أنَّ هذه الحالَ
قوله: ﴿مَا دُمْتُمْ﴾ «ما» مصدريةٌ «، و» دمتم «صلتُها وهي مصدريةٌ ظرفيةٌ أي: حُرِّم عليكم صيدُ البر مدةَ دوامِكم مُحْرمين. والجمهور على ضمِّ دال» دمتم «من لغة من قال: دام يدوم. وقرأ يحيى: ﴿دِمتم﴾ بكسرها من لغة مَنْ يقول: دام يدام كخاف يخاف، وهما كاللغتين في مات يموتُ ويَمات، وقد تقدَّم والجمهورُ على» وحُرِّم «مبنياً للمفعول،» صيدُ «رفعاً على قيامه مَقامَ الفاعل، وقرئ:» وحَرَّم «مبنياً» للفاعل، «صيدَ» نصباً على المفعول به. والجمهورُ أيضاً على «حُرُماً» بضم الحاء والراء جمعُ «حَرام» بمعنى مُحْرِم «ك» قَذال «و» قُذُل «. وقرأ ابن عباس ﴿حَرَماً﴾ بفتحهما، أي: ذوي حَرَم أي
والكعبة لغةً: كلُّ بيت مربع، وسُمِّيَتْ الكعبةُ كعبةً لذلك، وأصل اشتقاق ذلك من الكَعْب الذي هو أحد أعضاء الآدمي. قال الراغب:» كَعْبُ الرجل « [العظم] الذي عند مُلْتقى الساق والقدم، والكعبة كلُّ بيتٍ على هيئتِها في التربيع، وبها سُمِّيَتِ الكعبة، وذُو الكَعَبات: بيتٌ كان في الجاهلية لبني ربيعة، وامرأة كاعِب: تكعَّب ثدياها» وقد تقدَّم القولُ في هذه المادةِ أولَ السورة.
والجمهور قرؤوا هنا: «قياماً» بألفٍ بعد الياء، وابن عامر: «قِيَماً» دون ألف بزنة «عِنَب»، والقيام هنا يحتمل أن يكون مصدراً ل «قام - يقوم» والمعنى: أنَّ اللَّهَ جعل الكعبةَ سبباً لقيامِ الناس إليها، أي: لزيارتِها والحجِّ إليها، أو لأنَّها يَصْلُح عندها أمرُ دينهم ودنياهم، فيها يَقُومون، ويجوزُ أَنْ يكونَ القيامُ بمعنى القِوام فَقُلبت الواوُ ياءً لانكسارِ ما قبلها، كذا قالَ الواحدي، وفيه نظرٌ إذ لا موجبَ لإِعلاله إذ هو ك «السِّواك» فينبغي أن يقال: إن القِيام والقِوام بمعنى واحد، قال:
١٨١ - ٢- قِوامُ دنيا وقِوامُ دينِ... فأمَّا إذا دخَلَها تاءُ التأنيث لَزِمَتِ الياءُ نحو: «القيامة» وأمَّا قراءةُ
قوله: ﴿والشهر الحرام والهدي والقلائد﴾ عطف على «الكعبة»، والمفعول الثاني أو الحال محذوفٌ لفهم المعنى أي: جَعَلَ الله أيضاً الشهرَ والهَدْيَ والقلائدَ قياماً. و «ذلك» فيه ثلاثة أوجه، أحدها: أنه خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ أي: الحُكْمُ الذي حَكَمْناه ذلك لا غيرُه. والثاني: أنه مبتدأ وخبره محذوف أي: ذلك الحكمُ هو الحقُّ لا غيره. الثالث: أنه منصوبٌ بفعلٍ مقدَّرٍ يَدُلُّ عليه السِّياقُ أي: شَرَعَ اللَّهُ ذلك، وهذا أقواها لتعلُّقِ لام العلة به. و «تعلموا» منصوبٌ بإضمار «أَنْ» بعد لام كي، لا بها. و «أَنَّ الله» وما في حَيِّزها سادَّةٌ مسدَّ المفعولين أو أحدِهما على حَسَبِ الخلاف المتقدم. و ﴿وَأَنَّ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ نسقٌ على «أنَّ» قبلها/.
١٨١ - ٣- وكان أَوْلاها كِعابُ مُقامِرٍ | ضُرِبَتْ على شَزَنٍ فهنَّ شَواعِي |
وأمَّا المذاهبُ الآتية فإنه يَرِدُ عليها إشكالاتٌ، هذا المذهب سالمٌ منها فلذلك اعتبره الجمهورُ دونَ غيره.
المذهب الثاني - وبه قال الفراء -: أن أشياء جمع ل «شيء» والأصل في شيء: شَيِّئ على فَيْعِل ك «لَيِّن» ثم خُفِّف إلى «شيء» ما خففوا لَيّناً وهَيّناً ومَيّتاً إلى لَيْن وهَيْن ومَيْت، ثم جَمَعَه بعد تخفيفِه، وأصله أَشْيِئاء بهمزتين بينهما ألف بعد ياءٍ بزنة أَفْعِلاء فاجتمع همزتان: لام الكلمة والتي للتأنيث، والألف تشبه الهمزة والجمع ثقيل: فَخَفَّفُوا الكلمة بأن قلبوا الهمزة الأولى ياءً لانكسار ما قبلها، فيجتمع ياءان أولاهما مكسورة، فحذفوا الياء التي هي عينُ الكلمة تخفيفاً فصارت أَشْياء، ووزنها الآن بعد الخلاف أَفْلاء، فمَنْعُ الصرفِ لأجل ألف التأنيث، وهذه طريقة بعضِهم في تصريف هذا المذهب كمكي بن أبي طالب. وقال بعضهم كأبي البقاء: لَمَّا صارت إلى أَشْيئاء حُذِفت الهمزة الثانية التي هي لام الكلمة لأنَّها بها حَصَلَ الثِّقَلُ،
المذهب الثالث - وبه قال الأخفش -: انَّ أَشْياء جمعُ «شَيْء» بزنة فَلْس، أي: ليس مخففاً من شَيِّئ كما يقوله الفراء، بل جمع شيء وقال «إن فَعْلاً يجمع على أَفْعِلاء فصار أَشِْيئاء بهمزتين بينهما ألف بعد ياء، ثم عُمِل فيه ما عُمِل في مذهب الفقراء، والطريقان المذكوران عن مكي وأبي البقاء في تصريف/ هذا المذهب جاريان هنا، وأكثر المصنفين يذكرون مذهب الفراء عنه وعن الأخفش قال مكي:» وقال الفراء والأخفش والزيادي: أَشْياء وزنها أَفْعِلاء، وأصلها أَشْيِئاء، كهيِّن وأَهْوِناء، لكنه خُفِّف «ثم ذَكر تصريفَ الكملةِ إلى آخر.
وقال ابو البقاء: «وقال الأخفشُ والفراء: أصلُ الكلمةِ شَيِّئ مثل هَيِّن، ثم خُفِّف بالحذف»، وذكر التصريف إلى آخره فهؤلاء نقلوا مذهبهما شيئاً واحداً، والحق ما ذكرته عنهما، ويدل على ما قلته ما قاله الواحدي فإنه قال: «وذهب الفراء في هذا الحرف مذهب الأخفش» غير أنه خَلَط حين ادَّعى أنها كهيْن ولَيْن حين جمعا على أَهْوناء وأَلْيِناء، وهَيْن تخفيف «هيِّن» فلذلك جاز جمعُه على أَفْعِلاء، وشَيء ليس مخففاً من «شَيِّئ» حتى يُجْمع على أَفْعِلاء، وهذان المذهبان - أعني مذهب الفراء والأخفش - وإن سَلِما من منع الصرف بغيرِ علة فقد رَدَّها الناس، قال الزجاج: «وهذا القولُ غلطٌ لأنَّ» شَيْئاً «فَعْل، وفَعْل لا يجمع على أَفْعِلاء،
رجَعْنا إلى أشياء فتصيغرُهم لها على لفظِها يَدُلُّ على أنها اسم جمع، لأن اسم الجمع يُصِغَّر على لفظه نحو: «رُهَيْط» و «قُوَيْم» وليست بجمع تكسر إذ هي من جموعِ الكثرة ولم ترَدَّ إلى واحدها، وهذا لازمٌ للأخفش لأنه بصري، والبصري لا بدَّ
المذهب الرابع - وهو قول الكسائي وأبي خاتم - أنها جمع شيء على أَفْعال ك» بَيْت «و» أبيات «و» ضيف «و» أضياف «واعترض الناس هذا القول بأنه يَلْزَم منه منعُ الصرف بغير علته إذ لو كان على» أَفْعال «لا نصرفَ كأبيات. قال الزجاج:» أجمع البصريون وأكثر الكوفيين على أن قولَ الكسائي خطأ، وألزموه ألاَّ يَصْرف أنباء وأسماء «قلت: والكسائي قد استشعر بهذا الردِّ فاعتذر عنه ولكن بما لا يُقبل، قال الكسائي - رحمه الله-:» هي - أي أَشْياء - على وزن أَفْعال ولكنها كَثُرت في الكلام فَأَشْبهت فَعْلاء فلم تُصْرَفْ كما لم يُصْرَفْ حَمْراء «قال:» وجَمَعوها أَشاوَى كما جمعوا عَذْراء وعذارى، وصَحْراء وصحارى، وأَشْياوات كما قيل حَمْراوات «، يعني أنهم عامَلوا» أَشْياء «وإن كانت على أفعال معاملةَ حَمْراء وعَذْراء في جمعي التكسير والتصحيح. إلا أن
المذهب الخامس: أنَّ وزنها أَفْعِلاء ايضاً جمعاً ل «شَيِيْءٌ بزنة ظريف، وفَعيل يجمع على أَفعلاء ك نَصيب وأنْصِباء، وصَدِيق وأًصْدقاء، ثم حُذِفت الهمزة الأولى التي هي لامُ الكلمة، وفُتحت الياءُ لتسلمَ ألفُ الجمع فصارت أَشْياء ووزنُها بعد الحذف أَفْعاء، وجعله مكياً في التصريف
وقد تلخص القول في أشياء: أنها هل هي اسم جمع وأصلها شَيْئاء كطَرْفاء، ثم قُلِبت لامُها قبل فائِها فصارَ وزنُها لَفْعاء أو جمعٌ صريح؟ وإذا قيل بأنها جمع صريح فهل أصلها أَفْعِلاء، ثم تحذف، فتصير إلى أَفْعاء أو أَفلاء، أو أنَّ وزنَها أفعال كأبيات.
ولولا خلف الخروج عن المقصود لذكرت المسألة بأطرافِها متسوفاةً، ولكنَّ في هذا كفايةً لائقةً بهذا الموضوع.
قوله تعالى: ﴿إِن تُبْدَ﴾ شرط، وجوابه «تَسُؤكم»، وهذه الجملة الشرطية في محل جر صفة ل «أشياء»، وكذا الشرطية المعطوفة ايضاً. وقرأ ابن عباس: «إن تَبءدُ لكم تَسُؤْكم» ببناء الفعلين للفاعل مع كون حرف
قوله: ﴿حِينَ يُنَزَّلُ القرآن﴾ في هذا الظرف احتمالان، احدهما: - وهو الذي يَظْهَرُ، ولم يَقُل الزمخشري - غيرَه-: أنه منصوبٌ ب «تسألوا»، قال الزمخشري: «وإنْ تَسْألوا عنها: عن هذه التكاليفِ الصعبةِ، حين يُنَزَّلُ القرآن: في زمانِ الوَحْي، وهو ما دام الرسولُ بين أَظْهُرِكم يُوحى إليه تَبْدُ لكم تلك التكاليفُ التي تَسُؤكم وتُؤْمروا بتحمُّلها. فَتُعَرِّضوا أنفسَكم لغضبِ اللَّهِ
قوله: ﴿عَفَا الله عَنْهَا﴾ فيه وجهان، أحدُهما: أنه في محلِّ جر لأنه صفةٌ أخرى ل «أشياء» والضميرُ على هذا في «عنها» يعود على «أشياء» ولا حاجةَ إلى ادِّعاء التقديمِ والتأخير في هذا كما قال بعضهم، قال: «تقديرُه: لا تَسْأَلوا عن اشياءَ عفا الله عنها إنْ تُبْدَ لكم إلى آخر الآية/، لأنَّ كلاً من الجملتين الشرطيتين وهذه الجملة صفةٌ ل» أشياء «فمن أين أنَّ هذه الجملة مستحقةٌ للتقديم على ما قبلَها؟ وكأنَّ هذا القائل إنَّما قَدَّرها متقدمةً ليتضحَ أنها صفةٌ لا مستأنفةٌ. والثاني: أنها لا محل لها لاسئنافِها، والضميرُ في» عنها «على هذا يعودُ على المسألةِ المدلولِ عليها ب» لا تَسْألوا «ويجوزُ أَنْ تعودَ على» أشياء «وإنْ كان في الوجه الأولِ يتعيَّن هذا لضرورة الربطِ بين الصفةِ والموصوفِ.
١٨١ - ٤- وكلُّ أُناسٍ قاربوا قَيْدَ فَحْلِهِمْ | ونحنُ خَلَعْنا قيدَه فَهْوَ سارِبُ |
والبَحيرة: فَعِلية بمعنى مَفْعولة، فدخولُ تاءِ التأنيث عليها/ لا ينقاس، ولكن لَمَّا جَرَتْ مَجْرى الأسماءِ الجوامدِ أُنِّثت، وهذا قد أوضَحْتُه في قولِه ﴿والنطيحة﴾ [المائدة: ٣]. واشتقاقُها من البَحْر، والبَحْر: السَّعَةُ، ومنه» بَحْرُ الماءِ «لسَعَتِه. واختلف أهلُ اللغة في البَحِيرة عند العرب ما هي؟ اختلافاً كثيراً. فقال أبو عبيد:» هي الناقةُ التي تُنْتِج خمسةَ أبطنٍ في آخرها ذَكَرٌ فتُشَقُّ أذنُها وتُتْرَكُ فلا تُرْكَبُ ولا تُحْلَبُ ولا تُطْرَدُ عن مَرْعَى ولا ماءٍ، وإذا لَقِيها المُعْيي لم يركبها. وروي ذلك عن ابن عباس، إلا أنه لم يذكر في آخرها ذكَرا وقال بعضهم: «إذا أنتجت الناقة خمسة أبطن نُظر في الخامس: فإن كان ذكرا ذبحوه وأكلوه، وإن كان أنثى شَقُّوا أذنها وتركوها تَرْعى وتَرِدُ ولا تُرِكَبُ
وقيل: البحيرة السِّقْبُ إذا وُلِد نحروا أذنه، وقالوا: اللهم إن عاش فَقَنِيّ وإن مات فَذَكيّ، فإذا مات أكلوه. ووجه الجمع بين هذه الأقوالِ الكثيرةَ أنَّ العربَ كانت تختلف أفعالُها في البحيرة.
والسائبة قيل: كان الرجلُ إذا قَدِم من سفر أو شكر نعمة سَيِّبَ بعيراً فلم يُرْكَبْ ويفعل به ما تقدم في البحيرة، وهذا قول أبي عبيد. وقيل: هي
والسائِبَةُ هنا: فيها قولان، أحدُهما: أنها اسم فاعل على بابه من ساب يَسِيب أي يَسْرَح، كسَيِّب الماء، وهو مطاوعُ سِبْتُه، يقال: سَيَّبْتُه فساب وانساب. والثاني: أنه بمعنى مَفْعول نحو: «عيشةٌ راضية» ومجيءُ فاعِل بمعنى مَفْعول قليلٌ جداً نحو: «ماء دافق» والذي ينبغي أَنْ يُقال: إنه فاعل بمعنى ذي كذا أي: بمعنى النسب، نحو قولهم: لابن أي: صاحبُ لبن، ومنه في أحدِ القولين: «عيشةٌ راضية وماء دافق» أي: ذات رضى وذا دفق، وكذا هذا، أي: ذات سَيْبٍ.
والوصيلةُ هنا فَعِيلة بمعنى فاعِله على ما سيأتي تفسيره، فدخول التاءِ قياسٌ. واختلف أهلُ اللغةِ فيها هل هي من جنسِ الغنم أو من جنس الإِبل؟ ثم اختلفوا بعد ذلك أيضاً، فقال الفراء: «هي الشاةُ تُنْتِجُ سبعةَ أبطن عَنَاقَيْن عَناقَيْن، فإذا وَلَدَت في آخرها عَناقاً وجَدْياً قيل: وصلت أخاها فَجَرّتْ مَجْرى السائبة» وقال الزجاج: «هي الشاة إذا وَلَدتْ ذكراً كان لآلهتهم، وإذا ولدت أنثى كانت لهم» وقال ابن عباس: - رضي الله عنه - هي الشاةُ تُنْتِجُ سبعة أبطن، فإذا كان السابع أنثى لم تنتفع النساءُ منها بشيء، إلا أَنْ تموتَ فيأكلَها الرجال والنساء، وإنْ كانت ذكراً ذبحوه وأكلوه جميعاً، وإنْ كان
وقيل: هي الشاة تنتج خمسةَ أبطن أو ثلاثةً، فإن كان جَدْياً ذبحوه، وإن كان أنثى أَبْقَوْها، وإن كان ذكراً وأنثى قالوا: وصلت أخاها هذا كلُّه عند مَنْ يَخُصُّها بجنس الغنم. وأما من قال إنها من الإِبل فقال: «هي الناقة تبتكر فتلد أنهى ثم تُثَنَّي بولادة أنثى أخرى ليس بينهما ذكر فيتركونها لآلهتهم، ويقولون: قد وَصَلَت أنثى بأنثى ليس بينهما ذكر».
والحامي: اسمُ فاعل من حَمَى يَحْمي أي: منع، واختلف فيه تفسير أهل اللغة، فعن الفراء: «هو الفحل يُولد لولدِ ولدِه» فيقولون: قد حَمَى ظهرَه، فلا يُرْكب ولا يُستعمل ولا يُطْرَدُ عن ماء ولا شجر «وقال بعضهم:» هوالفحل يُنْتِجُ من يبن أولاده ذكورها وإناثها عشرَ إناث «روى ذلك ابن عطية وقال بعضُهم:» هوالفحل يولَدُ من صلبِه عشرةُ أبطن، فيقولون قد حمى ظهره، فيتركونه كالسائبة فيما تقدم، وهذا قول ابن عباس وابن مسعود
١٨٤ - ٥- مُحَرَّمَةٌ لا يَطْعَمُ الناسُ لحمَها | ولا نحن في شيءٍ كذاك البحائرُ |
١٨١ - ٦- وسائبةٍ لله مالي تشكُّرا | إنِ اللهُ عافَى عامراً أو مجاشعا |
١٨١ - ٧- أجِدَّك أمَّا كنت في الناسِ ناعقاً | تراعي بأَعْلى ذي المجازِ الوَصايلا |
وقوله: ﴿أَوَلَوْ كَانَ﴾ قد تقدم إعراب هذا في البقرة وما قالوا فيه: وأنَّ «لو» هنا معناها الشرط وأنَّ الواوَ للحال، وتقدم تفسيرُ ذلك كله فأغنى عن إعادته، إلا أنَّ ابنَ عطية قال هنا. «ألف التوقيف دخلت على واو العطف» قلت: «تسميةُ هذه الهمزةِ للتوقيف فيه غرابةٌ في الاصطلاح. وجَعَل الزمخشري هذه الواوَ للحال، وابنُ عطية جعلها عاطفةً، وتقدَّم الجمعُ بين كلامهما في البقرة فعليك بالالتفات إليه، واختلاف الألفاظ في هاتين الآيتين - أعني أية البقرة وآية المائدة - من نحو قولِه هناك:» اتبعوا «وهنا» تعالَوْا «وهناك» أَلْفَيْنا «وهنا» وجدنا «من باب التفنّن في البلاغة، فلا تُطْلَبُ له مناسبةٌ، وإن كنتُ قد تكلَّفْتُ ذلك ونقلته عن الناس في كتاب» التفسير الكبير «.
وقرأ نافع بن أبي نعيم:» أنفسُكم «رفعاً فيما حكاه عنه صاحب» الكشاف «وهي مُشْكَلِةٌ وتخريجُها على أحد وجهين: إما الابتداء، و» عليكم «خبره مقدم عليه، والمعنى على الإِغراء أيضاً، فإن الإِغراء قد جاء بالجملة الابتدائية، ومنه قراءةُ بعضِهم ﴿ناقةُ الله وسُقْياها﴾ [الشمس: ١٣] وهذا تحذيرٌ
قوله: ﴿لاَ يَضُرُّكُمْ﴾ قرأ الجمهور بضم الراء مشددة. وقرأ الحسن البصري: ﴿لا يَضُرْكم﴾ بضم الضاد وسكون الراء، وقرأ إبراهيم النخعي: ﴿لا يَضِرْكم﴾ بكسر الضاد وسكون الراء، وقرأ أبو حيوة: ﴿لا يَضْرُرُكم﴾ بسكون الضاد وضم الراء الأولى والثانية. فأمَّا قراءة الجمهور فتحتمل وجهين، أحدهما: أن يكونَ الفعلُ فيها مجزوماً على جواب الأمر في» عليكم «وإنما ضُمَّت الراءُ إتباعاً لضمةِ الضاد، وضمةُ الضادِ هي حركةُ الراء الأولى نُقِلَتْ للضادِ لأجلِ إدغامها في الراء بعدها، والأصل: ﴿لا يَضْرُرْكم﴾، ويجوز أن يكونَ الجزمُ لا على وجه الجواب للأمرِ، بل على وجهِ أنه نهيٌ مستأنف، والعملُ فيه ما تقدَّم، وينصُر جوازَ الجزم هنا على المعنيين المذكورَيْن من الجواب والنهي قراءةُ الحسن والنخعي فإنهما نَصٌّ في الجزم ولكنهما محتملتان للجزمِ على الجوابِ أو النهي.
والوجه الثاني: أن يكونَ الفعلُ مرفوعاً وليس جواباً ولا نهياً، بل هو مستأنفٌ سِيقَ للإِخبار بذلك، وينصرُه قراءةُ أبي حيوة المتقدمة.
وأمَّا قراءةُ الحسنِ فَمِنْ ﴿ضارَه يَضُوره﴾ كصانَه يصونه. وأما قراءة النخعي فمِنْ ﴿ضاره يضيره﴾ كباعة يَبيعه، والجزم فيهما على ما تقدم في قراءة العامة من الوجهين. وحَكَى أبو البقاء: «لا يَضُرَّكم» بفتح الراء، ووجهها على الجزم، وأن الفتح للتخفيف وهو واضح، والجزم على ما تقدم أيضاً من
و ﴿مَّن ضَلَّ﴾ فاعل، و «إذا» ظرفٌ ناصبُه «يَضُرُّكم» أي: لا يَضُرَّكم الذي ضلَّ وقتَ اهتدائِكم، ويجوز أَنْ تكونَ شرطيةً وجوابُها محذوفٌ لدلالةِ الكلام عليه. وقال أبو البقاء: «ويبعد أن تكون ظرفاً ل» ضَلَّ «لأنَّ المعنى لا يَصِحُّ معه». قلت: لأنه يصير المعنى على نفي الضرر الحاصل مِمَّن يضل وقت اهتدائهم، فقد يُتَوَهَّم أنه لا ينفي عنهم ضرر مَنْ ضَلَّ في غيرِ وقتِ اهتدائهم، ولكنَّ هذا لا ينفي صِحَّة المعنى بالكليةِ كما ذَكَرَه.
قرأ الجمهور ﴿شهادةُ بينكم﴾ برفع «شهادة» مضافة ل «بينكم». وقرأ الحسن والأعرج والشعبي برفعها منونة، «بينَكم» نصباً. والسلمي والحسن والأعرج - في رواية عنهما - «شهادةً» منونةً منصوبة، «بينَكم» نصباً. فأمَّا قراءة الجمهور ففي تخريجهما خمسة أوجه، أحدها: أنها مرفوعةٌ بالابتداء، وخبرُها «اثنان» ولا بد على هذا الوجهِ من حذف مضافٍ: إمَّا من الأول، وإمَّا من الثاني، فتقديرُه من الأول: ذوا شهادةِ بينكم اثنان، أي صاحبا شهادةِ بينكم اثنان، وتقديرُه من الثاني: شهادةُ بينِكم شهادُة اثنين، وإنما اضطررنا إلى حذفٍ من الأول أو الثاني ليتصادقَ المبتدأ والخبر على شيء واحد، لأنَّ الشهادةَ معنًى والاثنان جثتان، ولا يجيء التقديران المذكوران في نحو: «زيدٌ عدلٌ» وهما جعله نفسَ المصدر مبالغةً أو وقوعُه اسم الفاعل، لأنَّ المعنى يأباهما هنا، إلا أنَّ الواحدي نقل عن صاحب «النظم» أنه قال: «شهادة» مصدرٌ وُضِع مَوْضِع الأسماء «يريد بالشهادة الشهود، كما يقال: رجلٌ عَدْلٌ ورِضا، ورجالٌ عدلٌ ورِضا وزَوْر، وإذا قَدَّرْتها بمعنى الشهود كان على حذف المضاف، ويكون المعنى: عدةُ شهودٍ بينكم اثنان، واستشهد بقوله: ﴿الحج أَشْهُرٌ﴾ [البقرة: ١٩٧] أي: وقت الحج، ولولا ذلك لنصب أشهراً على تأويل: الحج في اشهر». قلت فعلى ظاهر أنه جَعَلَ المصدر نفسَ الشهود مبالغةً، ولذلك مَثَّله ب «رجال عدل» وفيه نظر. الثاني: أن ترتفع على أنها مبتدأ أيضاً، وخبرها
الثاني: أنه منصوبٌ بنفسِ الموت أي: يقع الموت وقت الوصية، ولا بُدَّ من تأويله بأسبابِ الموت؛ لأنَّ وقتَ الموت الحقيقي لا وصيةَ فيه. الثالث: انه منصوبٌ ب «حَضَر» أي: حَضَر أسبابَ الموت حين الوصية.
الثالث: أنَّ «شهادةُ» مبتدأ وخبره: «إذا حضر» أي وقوعُ الشهادة في وقتِ حضور الموت/، و «حين» على ما تقدم فيه من الأوجه الثلاثة آنفاً، ولا يجوزُ فيه والحالةُ هذه أن يكونَ ظرفاً للشهادة لئلا يلزَم الإِخبارُ عن الموصولِ قبل تمامِ صلتِه وهو لا يجوز، وقد عرفت شرح ذلك مِمَّا مَرًَّ. ولَمَّا ذكر الشيخ هذا الوجهَ لم يستدرك هذا، وهو عجيب منه. الرابع: أنَّ «شهادة» مبتدأُ، وخبرُها «حين الوصية» و «إذا» على هذا منصوبٌ بالشهادة، ولا يجوز أن ينتصِبَ بالوصية وإن كان المعنى عليه؛ لأنَّ المصدرَ المؤولَ لا يَسْبقه معمولُه عند البصريين ولو كان ظرفاً، وأيضاً فإنه يلزمُ منه تقديمُ المضافِ إليه على المضافِ؛ لأنَّ تقديم المعمول يُؤْذِنُ بتقديمِ العامل والعاملُ لا يتقدَّم فكذا معمولُه، ولم يجوِّزوا تقديمَ معمولِ المضاف إليه على
١٨١ - ٨- حَماها أبو قابوسَ في عِزِّ ملكِه | كما قد حَمَى أولادَ أولادهِ الفحلُ |
١٨١ - ٩- إنَّ أمرأً خَصَّني عمداً مودَّتَه | على التنائي لَعندي غيرُ مكفورِ |
الخامس: أنَّ «شهادةُ» مبتدأ، و «اثنان» فاعلٌ سدَّ مسدَّ الخبر، ذكره أبو البقاء وغيره وهو مذهبُ الفراء، إلا أنَّ افراء قَدَّر الشهادةَ واقعةً موقعَ فعلِ الأمر كأنه قال: «ليشهد اثنان» فجعله من باب نيابةِ المصدرِ عن فعل الطلب، وهو مثل «الحمدُ لله»
و ﴿قَالَ سَلاَمٌ﴾ [هود: ٦٩] من حيث المعنى، وهذا مذهبٌ لبعضهم في نحو: «ضَرْبي زيداً قائماً» يَدَّعي أن الياء فاعل سَدَّتْ مسد الخبر، وهذا مذهب ضعيفٌ ردَّه النحويون، ويخصون ذلك بالوصفِ المعتمدِ على نفي أو استفهام نحو: «قام أبواك» وعلى هذا المذهب ف «إذا» و «حين» ظرفان منصوبان على ما تقرَّر فيهما في غير هذا الوجه. وقد تحصَّلْنا
وأمَّا قراءةُ النصبِ ففيها ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها - وإليه ذهب ابن جني -: أنها منصوبةٌ بفعل مضمر، و «اثنان» مرفوع بذلك الفعل، والتقدير: لِيُقِمْ شهادةَ بينكم اثنان، وتبعه الزمشخري على هذا فذكره. وقد ردَّ الشيخ هذا بأن حَذْفَ الفعل وإبقاء فاعله لم يُجِزْه النحويون إلا أن يُشْعِرَ به ما قبله كقوله تعالى: ﴿يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بالغدو والآصال رِجَالٌ﴾ [النور: ٣٦٣٧] في قراءة ابن عامر وأبي بكر أي: يسبحه رجال، ومثله،:
١٨٢ - ٠- ليُبْكَ يزيدُ ضارعٌ لخصومةٍ | ومُخْتَبِطٌ مِمَّا تُطِيح الطَّوائِحُ |
١٨٢ - ١- تَجَلَّدْتُ حتى قيل: لم يَعْرُ قلبَه... من الوجدِ شيءٌ قلتُ: بل أعظمُ الوَجْدِ
١٨٢ - ٢- ألا هَلْ أتى أمَّ الحويرثِ مُرْسِلي | نعم خالدٌ إنْ لم تُعِقْه العوائِقُ |
١٨٢ - ٣-..................... | فَنَدْلاً زُرَيْقُ المالَ نَدْلَ الثَّعالِبِ |
١٨٢ - ٤-.................. | ولا ذاكرَ اللَّهَ إلا قليلا |
١٨٢ - ٥- وقوفاً بها صَحْبي عليَّ مَطِيَّهم | .............................. |
وأمَّا قراءةُ الجر فيها فَمِنْ باب الاتساع في الظروف أي بجعل الظرفِ كأنه مفعولٌ لذلك الفعلِ، ومثلُه: ﴿هذا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ﴾ [الكهف: ٧٨] وكقوله تعالى: ﴿لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ﴾ [الأنعام: ٩٤] فيمن رفع قال الشيخ: «وقال الماتريدي - وتبعه الرازي إنَّ الأصلَ» ما بينكم «فحذف» ما «. قال الرازي:» وبينكم «كنايةٌ عن التنازع، لأنه إنما يُحتاج إلى الشهود عند التنازع، وحَذْفُ» ما «جائزٌ عند ظهورِه، ونظيرُه كقوله تعالى: ﴿لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكَمْ﴾ في قراءة من نصب». قال الشيخ: «وحَذْفُ» ما «الموصولة غيرُ جائز عند البصريين، ومع الإِضافة لا يَصِحُّ تقدير» ما «البتة، وليس قولُه ﴿هذا فِرَاقُ بَيْنِي﴾ نظيرَ ﴿لقد تقطَّع بينكم﴾ لأن هذا مضافٌ، وذلك باقٍ على ظرفيتِه فيُتَخَيَّلُ فيه حَذْفُ» ما «بخلاف» هذا
﴿وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِِ﴾ [الرحمن: ٤٦] أي: مقامه بين يدي ربه، والعربُ تَحْذِفُ كثيراً ذِكْرَ «ما» و «مَنْ» في الموضع الذي يُحتاج إليهما فيه كقوله: ﴿وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ﴾ [الإِنسان: ٢٠] أي: ما ثَمَّ، وكقوله: ﴿هذا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ﴾ و ﴿لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ﴾ أي ما بيني، وما بينكم «، وقول الشيخ» لا يُتَخَيَيَّل فيه تقدير «ما» إلى آخره «ممنوعٌ لأنَّ حالة الإِضافة لا تَجْعَلُها صلةً للموصول المحذوف، ولا يَلْزم من ذلك أَنْ تُقَدِّرَها من حيث المعنى لا من حيث الإِعرابُ نظراً إلى الأصلِ، وأمَّا حَذْفُ الموصولِ فقد تقدَّم تحقيقُه.
وقوله: ﴿ذوا﴾ صفةٌ لاثنين أي: صاحبا عدل، وكذلك قولُه» منكم «صفة أيضاً لاثنين، وقوله: ﴿أَوْ آخَرَانِ﴾ نسقٌ على اثنين، و» من غيركم «صفةٌ لآخَرَين والمراد ب» منكم «من قرابِتكم وعِتْرَتِكم، ومن غيركم من المسلمينَ الأجانبِ وقيل:» منكم «من أهل دينكم،» ومن غيركم «من أهل الذمة. ورجَّح النحاسُ الأولَ، فقال:» هذا يَنْبني على معنىً غامضٍ في العربية، وذلك أنَّ معنى «آخر» في العربية من جنس الأولِ تقولُ: «مررت بكريمٍ وكريم آخر» ولا يجوز «وخسيس آخرَ» ولا: «مررت بحمارٍ ورجلٍ آخرَ»، فكذا هنا يجب أن يكون «أو آخَران» : أو عَدْلان آخران، والكفارُ لا يكونون عُدولاً.
١٨٢ - ٦- كانوا فريقين يُصْفون الزِّجاجَ على | قُعْسِ الكواهلِ في أَشْداقِها ضَخَمُ |
وآخَرين تَرَى الماذِيَّ فوقَهُمُ | مِنْ نَسْجِ داودَ او ما أَوْرَثَتْ إرَمُ |
قوله: ﴿إِنْ أَنتُمْ﴾ «أنتم» مرفوعٌ محذوفٍ يفسِّره ما بعده وهي مسألة الاشتغال، والتقديرُ: إنْ ضَرَبْتُم، فلمَّا حُذِفَ الفعلُ انفصلَ الضميرُ، وهذا مذهبُ جمهور البصريين، وذهب الأخفشُ منهم والكوفيون إلى جواز وقوعِ المبتدأ بعد «إنْ» الشرطية كما أجازوه بعد «إذا» أيضاً، ف «ضربتم» لا محلَّ له عند الجمهور لكونه مفسِّراً، ومحلُّه الرفعُ عند الكوفيين والأخفش لكونه خبراً، ونحوُه: ﴿وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ المشركين استجارك﴾ [التوبة: ٦]، ﴿إِذَا الشمس كُوِّرَتْ﴾ [التكوير: ١]. وجوابُ الشرطِ محذوفٌ يدل عليه قوله تعالى: ﴿اثنان ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ﴾ ولكنَّ تقديرَ هذا الجوابِ يتوقف على خلافٍ في هذا الشرط: هل هو قيدٌ في أصلِ الشهادة أو قيدٌ في «آخران مِنْ غيركم» فقط؟ بمعنى أنه لا يجوزُ العدولُ في الشهادة على الوصية إلى أهلِ الذمةِ إلا بشرطِ الضربِ في الأرض وهو السفر. فإن قيل: هو شرطٌ في أصلِ الشهادةِ فتقديرُ الجوابِ: إنْ ضَرَبْتُم في الأرضِ فليشهد اثنانِ منكم أو مِنْ غيركم، وإنْ كان شَرَطاً في العدول إلى آخَرَين من غير الملَّة فالتقدير: فأشْهِدُوا آخَرَيْن من غيركم، أو فالشاهد آخران من غيركم، فقد ظهر انَّ الدالَّ على جواب الشرط:
والفاء في «فأصابتكم» عاطفةٌ هذه الجملةَ على نفس الشرط، وقوله تعالى: ﴿تَحْبِسُونَهُمَا﴾ فيه وجهان: أحدُهما: أنها في محلِّ رفع صفةَ ل «آخران» وعلى هذا فالجملةُ الشرطيةُ وما عُطِفَ عليها معترضةٌ بين الصفةِ وموصوفِها، فإنَّ قوله «تَحْبسونهما» صفةٌ لقوله «آخران» وإلى هذا ذهب الفارسي ومكي بن أبي طالب والحوفي وأبو البقاء وابن عطية وقد أوضح الفارسي ذلك بعبارةٍ خاصةٍ فقال: «تحبسونهما صفةُ ل» آخران «واعترض بقوله: ﴿إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأرض﴾ وأفاد الاعتراضُ أنَّ العُدولَ إلى آخرين من غير المِلَّة أو القرابة حَسَبَ اختلاف العلماء فيه إنما يكون مع ضرورة السفر وحلول الموت فيه، واستغنى عن جواب» إنْ «لِما تقدَّم في قولِه» آخران من غيركم «قلت: فقد ظهر من كلامه أن يجعلُ الشرطَ قيداً في» آخران من غيركم «فقط لا قيداً في أصل الشهادة، فتقديرُ الجوابِ على رأيه كما تقدم:» فاستشهدوا آخَرَين من غيركم «أو» فالشاهدان آخران من غيركم «.
والثاني: أنه لا محلَّ له لاستئنافِه، وإليه ذهب الزمخشري قال: «فإنْ قلت: ما موقعُ قولِه: ﴿تَحْبِسُونَهُمَا﴾ ؟ قلت: هو استئناف كلام، كأنه قيل: بعد اشتراطِ العدالة فيهما: فكيف نعمل إنْ ارتَبْنا فيهما؟ فقيل: تَحْبِسونهما». وهذا الذي ذكرَه أبو القاسم أوفقُ للصناعة؛ لأنه يلزمُ في الأولِ الفصلُ بكلام
قال الشيخ: «في قوله:» إن أنتم ضربتم «إلى آخره التفاتٌ من الغيبة إلى الخطاب، إذ لو جَرَى على لفظ» إذا حضَر أحدَكم الموتُ «لكان التركيب: إن هو ضرب في الأرض فاصابته، وإنما جاء الالتفات جمعاً لأنَّ» أحكم «معناه: إذا حضر كلَّ واحد منكم الموتُ». وفيه نظرٌ لأن الخطاب جارٍ على أسلوب الخطاب الأول من قوله: ﴿يِا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ﴾ إلى آخره. وقال ابن عباس: «في الكلامِ حذفٌ تقديرُه: فأصابتكم مصيبةُ الموت وقد أشهدتموهما على الإِيصاءِ». وعن سعيد بن جبير: تقديره «وقد أوصيتم». قال بعضُهم: «هذا أَوْلى لأنَّ الوصِيَّ يحلف والشاهدَ لا يَحْلِفُ». والخطابُ في «تحبسونهما» لولاةِ الأمور لا لِمَنْ خوطب بإصابتِه الموتَ لأنه يتعذَّر ذلك فيه. و «من بعد» متعلق ب «تحبسونهما» ومعنى الحَبْسِ: المنعُ، يقال: حَبَسْتُ وأَحَبَسْتُ فرسي في سبيل الله فهو مُحْبَسٌ وحبيس. ويقال لمصنعِ الماءِ: «حَبَسْ» لأنه يمنعه، ويقال: «حَبَّست» بالتشديد ايضاً بمعنى وقَفْتُ وسَبَلْتُ؛ وقد يكون التشديدُ للتكثير في الفعل نحو: «حَبَّسْتُ الرجال» والأف واللام في «الصلاة» فيها قولان، أحدهما: أنها للجنس أي: بعد أيِّ صلاة كانت. والثاني - وهو الظاهر- أنها للعهد، فقيل: العصر، وقيل غيرُ ذلك.
قوله: ﴿فَيُقْسِمَانِ﴾ في هذه الفاء وجهان، أظهرهما: انها عاطفة هذه الجملةَ على جملةِ قوله: ﴿تَحْبِسُونَهُمَا﴾ فتكون في محل رفع، أو لا محلَّ لها حَسْبما تقدَّم من الخلاف.
والثاني: فاءُ الجزاءِ أي: جوابُ شرطٍ مقدرٍ.
١٨٢ - ٧- وإنسانٌ عيني يَحْسِر الماءُ تارةً | فيبدو، وتاراتٍ يَجُمُّ فيَغْرَقُ |
و» بالله «متعلِّقٌ بفعلِ القسم، وقد تقدَّم أنه لا يجوز إظهار فعل القسمِ إلا معها لأنها أمُّ. الباب. وقوله: ﴿لاَ نَشْتَرِي بِهِ﴾ جواب القسمِ المضمرِ في» يُقْسِمان «فتُلُقِّي بما يُتَلَقَّى به. وقوله: ﴿إِنِ ارتبتم﴾ شرطٌ/ وجوابُه محذوفٌ تقديرُه: إن ارتبتم فيهما فحلِّفوهما، وهذا الشرط وجوابُه المقدَّرُ معترضٌ بين القسمِ وجوابِه، وليس هذه الآيةُ مِمَّا اجتمع فيه شرطٌ وقسمٌ فأُجيب سابقُهما،
قوله:» به «في هذه الهاءِ ثلاثةُ أقوالٍ، إحدُهما: أنها تعودُ على الله تعالى الثاني: أنها تعودُ على القسمِ. الثالث: - وهو قول أبي علي - أنها تعودُ على تحريفِ الشهادةِ، وهذا قَويٌّ من حيث المعنى. وقال أبو البقاء» تعودُ على اللهِ أو القسمِ أو الحَلْفِ أو اليمينِ أو تحريفِ الشهادةِ أو على الشهادِة لأنها قولٌ.
قلت: قوله «أو الحَلْف أو اليمين» لا فائدةٌ فيه إذ هما شيءٌ واحدٌ، وكذلك قولُ مَنْ قال: إنه تعودُ على الله تعالى، لا بد أن يقدِّر مضافاً محذوفاً أي: لا نشتري بيمينِ الله أو قسمِه ونحوِه، لأن الذاتَ المقدسة لا يُقال فيها ذلك. وقال مكي: «وقيل: الهاءُ تعودُ على الشهادة لكن ذُكِّرَتْ لأنها قولُ كما قال: ﴿فارزقوهم مِّنْهُ﴾ [النساء: ٨] فردَّ الهاءَ على المقسومِ لدلالة القسمة على
وقال مكي: «معناه ذا ثمن، لأنَّ الثمن لا يُشْترى، وإنما يُشْتَرى ذو الثمن، وهو كقوله: ﴿اشتروا بِآيَاتِ الله ثَمَناً﴾ [التوبة: ٩] أي ذا ثمن». وقال غيرُه: «إنه لا يَحْتاج إلى حذف مضاف» قال أبو البقاء: «ولا حَذْفَ فيه لأنَّ الثمنَ يُشْترى كما يُشْتَرَى به، وقيل: التقدير: ذا ثمن»، وقال بعضُهم: «لا نَشْتري: لا نبيعُ بعهدِ الله بغرضٍ ناخذُه، كقولِه تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ الله وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً﴾ [آل عمران: ٧٧]، فمعنى ﴿لاَ نَشْتَرِي بِهِ﴾ لا نأخذُ ولا نستبدِلُ، ومَنْ باع شيئاً فقد اشترى، ومعنى الآية: لا نأخذُ بعهدِ الله ثمناً بأن نبيعَه بعَرَضٍ من الدنيا. قال الواحدي:» ويُستغنى بهذا عن كثيرٍ من تكلُّفِ أبي علي، وهذا معنى قولِ القتيبي والجرجاني «.
قوله: ﴿وَلَوْ كَانَ ذَا قربى﴾ الواوُ هنا كالتي سَبَقَتْ في قولِه: {أَوَلَوْ كَانَ
قوله: ﴿وَلاَ نَكْتُمُ﴾ الجمهورُ على رفعِ ميم» نكتُم «على أنَّ» لا «نافية، والجملةُ تحتمل وجهين، أحدُهما: - وهو الظاهرُ- كونُها نسقاً على جواب القسمِ فتكونُ ايضاً مقسماً عليها. والثاني: أنه إخبارٌ من أنفسهم بأنهم لا يكتُمون الشهادة، ويتأيَّدُ بقراءة الحسن والشعبي:» ولا نَكْتُمْ «على النهي، وهذه القراءةُ جاءت على القليل من حيث إنَّ دخولَ» لا «الناهية على فعلِ المتكلم قليلٌ، ومنه.
١٨٢ - ٨- إذا ما خَرَجْنا مِنْ دمشقَ فلا نَعُدْ | بها أبداً ما دامَ فيها الجَراضِمُ |
وقرأ عليٌّ أمير المؤمنين والسلمي والحسن البصري: «شهادةً» بالتنوين والنصب، «الله» بمدِّ الألفِ التي للاستفهام دَخَلَتْ للتقرير وتوقيف نفوسِ الحالفين، وهي عوضٌ من حرفِ القسمِ المقدَّرِ، وهل الجرُّ بها أم بالحرف المحذوف خلافٌ؟ وقرأ الشعبي في رواية وغيره: «شهادة» بالهاء ويقف عليها، ثم يَبْتدئ «آللهِ» بقطع همزة الوصل وبمدِّ الهمزة على أنها للاستفهام بالمعنى المتقدم، وجَرِّ الجلالة، وهمزةً القطعِ تكون عوضاً من حرف القسم في هذا الاسم الشريف خاصة، تقول: «يا زيدُ آللهِ لأفعلن»، والذي يُعَوَّض من حرف القسم في هذا الاسم الشريف خاصة ثلاثةٌ: ألفُ الاستفهامِ وقطعُ همزةِ الوصلِ وها التي لتنبيه، نحو: «ها اللَّهِ» ويجوزُ مع «ها» قطعُ همزةِ الجلالة ووصلُها. وهل الجرُّ بالحرف المقدر أو بالعوض؟ تقدَّم أنَّ فيه خلافاً، ولو قال قائل: إن قولَهم «أللهِ لأفعلنَّ» بالجر وقطع الهمزة بأنها همزة استفهام لم يُرَدَّ قولُه. فإن قيل: همزةُ الاستفهام إذا دخلت على همزة الوصل التي مع لام التعريف أو ايمن في القسم وجب ثبوت همزة الوصل، وحينئذ إمَّا: أَنْ تُسَهَّلَ وإمَّا أَنْ تُبْدَلَ الفاً، وهذه لم تَثْبُتْ بعدَها همزةُ وصل فتعيَّن أن تكونَ همزةَ وصل قُطِعَتْ عوضاً عن حرف القسم. فالجواب: أنهم إنما أَبْدلوا ألفَ
قال ابن جني في هذه القراءة: «الوقفُ على» شهادة «بسكون الهاء واستئنافُ القسم، حسن، لأنَّ استئنافَه في أولِ الكلام أَوْجَهُ له وأشدُّ هيبةً مِنْ يدخُلَ في عَرَضِ القول» ورُوِيَتْ هذه القراءةُ - أعني ألله بقطع الألفِ من غير مَدِّ وجرِ الجلالة - عن أبي بكر عن عاصم وقرئ: شهادةً اللهِ «بنصب الشهادة منونة وجر الجلالة موصولة الهمزةِ، على أن الجر بحرفِ القسمِ المقدِّرِ من غير عوضٍ منه بقطعٍ ولا همزةِ استفهام، وهو مختصٌّ بذلك.
وقوله تعالى: ﴿إِنَّآ إِذَاً لَّمِنَ الآثمين﴾ هذه الجملةُ لا محلَّ لها لأنها استئنافيةٌ، أخبروا عن أنفسِهم بأنهم من الآثمين إنْ كتموا الشهادة، ولذلك أتوا ب» إذَنْ «المؤذنة بالجزاء والجواب. وقرأ الجمهور: ﴿لمن الآثمين﴾ من غير نقل ولا إدغام. وقرأ ابن محيصن والأعمش: ﴿لَمِلاَّثِمين﴾ بإدغام نون» من «في لام التعريف بعد أن نقل إليها حركة الهمزة في» آثمين «فاعتدَّ بحركة النقل فأدغم، وهي نظيرُ قراءةِ مَنْ قرأ: ﴿عَاداً الأولى﴾ بالإِدغام، وهناك إن شاء الله يأتي تحقيق ذلك وبه القوة.
قوله تعالى: ﴿فَآخَرَانِ﴾ فيه أربعةُ أوجه، [الأول] : أن يرتفع على أنه خبر مبتدأ مضمر تقديره: فالشاهدان آخران، والفاء جواب الشرط، دَخَلَتْ على الجملة الاسمية، والجملةُ من قوله: ﴿يقومان﴾ محلِّ رفعٍ صفةً ل آخران. الثاني: أنه مرفوعٌ بفعلٍ مضمرٍ تقديرُه: فليشهد آخران، ذكره مكي وأبو البقاء وقد تَقَدَّم أن الفعلَ لا يُحْذَفُ وحدَه إلا في مواضعَ ذكرتُها عند قوله: ﴿حِينَ الوصية اثنان﴾ [المائدة: ١٠٦]. الثالث: أنه خبرٌ مقدم، و «الأَوْلَيان» مبتدأٌ
وفي هذا الوجهِ ضعفٌ من حيث إنه إذا اجتمع معرفةٌ ونكرةٌ جَعَلْتَ المعرفةَ محدِّثاً عنها والنكرةَ حديثاً، وعكسُ ذلك قليلٌ جداً أو ضرروةٌ كقوله:
١٨٢ - ٩-.................. | يكونُ مزاجَها عسلٌ وماءُ |
قوله: ﴿استحق﴾ قرأ الجمهورُ: «استُحِقَّ» مبنياً للمفعول، «الأَوْليان» رفعاً، وحفص عن عاصم: «اسْتَحَقَّ» مبنياً للفاعل، «الأوليان» كالجماعة، وهي قراءة عبد الله بن عباس وأمير المؤمنين علي رضي الله عنهم، ورُوِيَتْ عن ابن كثير أيضاً، وحمزة وأبو بكر عن عاصم: «استُحِقَّ» مبنياً للمفعول كالجماعة، «الأَوَّلِين» جمعَ «أَوَّل» جمعَ المذكرِ السالم، والحسن البصري: «اسْتَحَقَّ» مبنياً للفاعل، «الأوَّلان» مرفوعاً تثنية «أَوَّل» وابن سيرين كالجماعة، إلا أنه نصب الأوْلَيَيْن تثنيةَ «أَوْلى» وقرئ: «الأَوْلَيْنَ» بسكون الواو وفتح اللام وهو جمع «أَوْلى» كالأعلَيْنَ في جمعِ «أَعْلى» ولما وصل أبو إسحاق الزجاج إلى هذا الموضوع: قال: «هذا موضع من أصعب ما في القرآن إعراباً» قلت: ولَعَمْري إنّ القول ما قالت حَذامِ، فإن الناس قد دارَتْ رؤوسُهم في فَكِّ هذا التركيب، وقد اجتهدْتُ - بحمد الله تعالى - فلخَّصْتُ الكلام فيها أحسنَ تلخيصٍ، ولا بد من ذِكْرِ شيءٍ من معاني الآية لنستضيء به على الإِعراب فإنه خادِمٌ لها.
فأمَّا قراءةُ الجمهورِ فرفُع «الأَوْلَيان» فيها من اوجه، أحدها: أنه مبتدأ، وخبره «آخران» تقديره: فالأَوْلَيان بأمر الميت آخران، وقد تقدَّم شرحُ هذا. الثاني: أنه خبر مبتدأ مضمر أي: هما الأَوْلَيان، كأنَّ سائلاً سأل فقال: «مَنِ الآخران» ؟ فقيل: هما الأَوْلَيان. الثالث: أنه بدلٌ من «آخران» وهو بدلٌ في
وأمَّا الزمخشري فإنه لا يشترط ذلك - أعني التوافق - وقد نَصَّ هو في سورة آل عمران على أن قوله تعالى: ﴿مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ﴾ [الآية: ٩٧] عطفُ بيان لقوله ﴿فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ﴾ و ﴿آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ﴾ نكرةٌ لكنها لَمَّا تخصَّصَتْ بالوصفِ قَرُبَتْ من المعرفة، كما قَدَّمْتُه عنه في موضعِه، وكذا «آخَران» قد وُصِف بصفتين فَقَرُب من المعرفة أشدَّ من «آياتٌ بيناتٌ» من حيث وُصِفَتْ بصفةٍ واحدة. الخامس: أنه بدلٌ من فاعلِ «يَقُومان».
السادس: أنه صفةٌ ل «آخران»، أجازَ ذلك الأخفشُ قال أبو عليّ: «وأجازَ أبو الحسن فيها شيئاً آخرَ، وهو أن يكونَ» الأَوْلَيان «صفةً ل» آخران «لأنه لَمَّا وُصِفَ تخصَّص، فَمِنْ أجلِ وصفِه وتخصيصِه وُصِفَ بوصف المعارف» قال الشيخ: «وهذا ضعيفٌ لاستلزامِه هَدْمَ ما كادوا أن
١٨٣ - ٠- وإنَّ حراماً أَنْ أسُبَّ مجاشِعاً | بآبائي الشمِّ الكرامِ الخَضارمِ |
١٨٣ - ١- ولقد أَمُرُّ على اللئيمِ يَسُبُّني | فَمَضَيْتُ ثُمًّتَ قُلْتُ لا يَعْنيني |
السابع: أنه مرفوعٌ على ما لم يُسَمَّ فاعلُه ب «استُحِقَّ» إلاَّ أنَّ كلَّ مَنْ أعربه كذا قَدَّره قبلَه مضافاً محذوفاً. واختلفت تقديراتُ المُعْرِبين، فقال:
وهذا الذي منعه الفارسي ظاهراً هو الذي حَمَل الناسَ على إضمار ذلك المضافِ، وتقديرُه الزمخشري ب «انتداب الأوليين» أحسنُ من تقدير غيرِه، فإنَ المعنى يُساعِدُه، وأمَّا إضمارُ «الإِثم» فلا يَظْهر أصلاً إلا بتأويل بعيدٍ.
وأجازَ ابن عطية أن يرتفعَ «الأَوْلَيان» ب «استُحِقَّ» أيضاً، ولكنْ ظاهرُ عبارتِه أنه لم يُقَدِّر مضافاً فإنه استشعر باستشكالِ الفارسي المتقدم فاحتالَ في الجوابِ عنه وهذا نَصُّه، قال ما ملخصُه: إنه «حُمِل» استُحِقَّ «هنا على الاستعارة فإنه ليس استحقاقاً حقيقةً لقوله: ﴿استحقآ إِثْماً﴾ وإنما معناه أنَهم غَلَبوا على المالِ بحكمِ انفرادِ هذا الميت وعدمِه لقرابته أو أهلِ دينهِ فَجَعَل تسوُّرَهم عليه استحقاقاً مجازاً، والمعنى: من الجماعة التي غابت وكان مِنْ حَقِّها أَنْ تُحْضِرَ وليِّها، فلمَّا غابَتْ وانفرد هذا الموصي استحقَت هذه
واعلم أنَّ مرفوعَ» استُحِقَّ «في الأوجهِ المتقدِّمة - أعني غير هذا الوجهِ وهو إسنادُه إلى» الأَوْلَيان «- ضميرٌ يعودُ على ما تقدَّم لفظاً أوسياقاً، واختلفت عباراتُهم، فيه، فقال الفارسي والحوفي وأبو البقاء والزمخشري: أنه ضميرُ الإِثم، والإِثمُ قد تقدَّم في قوله: ﴿استحقآ إِثْماً﴾ وقال الفارسي والحوفي ايضاً:» استحق هو الإِيصاءُ أو الوصيةُ «قالت: إضمارُ الوصية مُشْكِلٌ؛ لأنه إذا أُسْنِد الفعلُ إلى ضميرِ المؤنثِ مطلقاً وَجَبَتِ التاءُ إلا في ضرورة، ويونس لا يَخُصُّه بها، ولا جائز أَنْ يقال أَضْمرا لفظَ الوصية لأنَّ ذلك حُذِفَ، والفاعلُ عندهما لا يُحْذَفُ. وقال النحاس مستحسناً لإِضمارِ الإِيصاء:» وهذا أحسنُ ما قيل فيه؛ لأنه لم يُجْعل حرفٌ بدلاً من حرفٍ «يعني أنه لا يقولُ إنَّ» على «بمعنى» في «، ولا بمعنى» مِنْ «كما قيل بهما، وسيأتي ذلك إن شاء الله تعالى.
وقد جَمَع الزمخشري غالبَ ما قُلْتُه وحَكَيْتُه من الإِعرابِ والمعنى بأوجزِ عبارةٍ فقال: «ف» آخران «أي: فشاهدان آخَران يَقُومان مقامَهما من الذين
وقوله ﴿عَلَيْهِمُ﴾ : في «على» ثلاثةُ أوجهٍ، أحدها: أنها على بابها، قال ابو البقاء: «كقولك:» وَجَبَ عليه الاثمُ «وقد تقدَّم عن النحاس أنه لَمَّا أَضْمر الإِيصاء بَقَّاها على بابها، واستحسن ذلك. والثاني: أنها بمعنى» في «أي: استُحِقَّ فيهم الإِثمُ فوقَعَتْ» على «موقعَ» في «كما تقعُ» في «موقعَها كقوله تعالى: ﴿وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النخل﴾ [طه: ٧١] أي: على جذوعِ، وكقولِه:
١٨٣ - ٢- بَطَلٌ كأنَّ ثيابَه في سَرْحَةٍ | يُحْذَى نِعالَ السِّبْتِ ليس بتوءمِ |
فقد تقرَّر أنَّ في مرفوع «استُحِقَّ خمسةَ أوجه، أحدُها:» الأَوْلَيان «، الثاني: ضميرُ الإِيصاء، الثالث: ضيرُ الوصية، وهو في المعنى كالذي قبلَه وتقدَّم إشكالُه، الرابع: أنه ضميرُ الإِثمِ، الخامس: انه ضميرُ المال، ولم أَرَهم أجازوا أن يكونَ» عليهم «هو القائمَ مقامَ الفاعلِ نحو: ﴿غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِم﴾ [الفاتحة: ٧] كأنهم لم يَرَوْا فيه فائدةً.
وأمَّا قراءةُ حفص ف ﴿الأَوْلَيان﴾ مرفوعٌ ب» استُحَقَّ «ومفعولُه محذوفٌ، قَدَّره بعضهم» وصيتَهما «وقَدَّره الزمخشري ب» أن يجرِّدوهما للقيام بالشهادة «فإنه قال:» معناه من الورثة الذين استَحَقَّ عليهم الأَوْلَيان من بينهم بالشهادة أن يُجَرِّدوهما للقيام بالشهادة، ويُظْهِروا بها كذبَ الكاذبين «وقال ابنُ عطية:» الأَوْلَيان «رفعٌ ب» اسَتَحَقَّ «وذلك أن يكون المعنى: من الذين استَحَقَّ عليهم مالَهم وتَرِكَتهم شاهدا الزور فسُمِّيا أَوْلَيَيْنِ أي: صَيَّرهما عدمُ الناس أَوْلَيَيْنِ بالميتِ وتَرِكَتِه فخانا وجارا فيها، أو يكونُ المعنى: مِن الذين حَقَّ
وممن ذهبَ إلى أن «استَحَقَّ» بمعنى «حَقَّ» المجردِ الواحدي فإنه قال: واستحقَّ هنا بمعنى حَقَّ، أي وَجَبَ، والمعنى: فآخران من الذين وَجَبَ عليهم الإِيصاءُ بتوصيته بينهم وهم وَرَثَتُه «وهذا التفسير الذي ذكره الواحدي أوضحُ من المعنى الذي ذكره ابو محمد على هذا الوجهِ وهو ظاهرٌ.
وأمَّا قراءةُ حمزة وأبي بكر فمرفوعُ» استُحِقَّ «ضميرُ الإِيصاء أو الوصية أو المال أو الإِثم حَسْبما تقدَّم، وأمَّا» الأَوَّلين «فجمعُ» أوّل «المقابِل ل» آخِر «وفيه أربعةُ أوجهٍ، أحدُها: أنه مجرورٌ صفةً ل» الذين «. الثاني: أنه بدلٌ منه وهو قليلٌ لكونِه مشتقاً. الثالث: أنه بدلٌ من الضميرِ في» عليهم «، وحَسَّنَه هنا وإنْ كان مشتقاً عدمُ صلاحية ما قبلَه للوصف، نَقَل هذين الوجهين الأخيرين مكي الرابع: أنه منصوبٌ على المدح، ذكره الزمخشري، قال:» ومعنى الأوَّلِيَّة التقدُّمُ على الأجانب في الشهادة لكونِهم أحقَّ بها «، وإنما
ونحا ابن عطية هذا المنحى قال: «معناه من القوم الذين استُحِقَّ عليهم أمرُهم أي: غُلِبوا عليه، ثم وصفَهم بأنهم أَوَّلون أي: في الذكر في هذه الآية».
وأمَّا قراءة الحسن فالأولان مرفوعان ب «استَحَقَّ» فإنه يقرؤه مبنياً للفاعل. قال الزمخشري: و «يَحْتَجُّ به مَنْ يرى ردَّ اليمين على المُدِّعي»، ولم يبيِّن مَنْ هما الأوَّلان، والمرادُ بهما الاثنان المتقدِّمان في الذكر. وهذه القراءةُ كقراءةِ حفص، فيُقَدَّر فيها ما ذُكِر، ثم مما يليقُ من تقديرِ المفعولِ.
وأما قراءة ابن سيرين فانتصابُها على المَدْحِ ولا يجوزُ فيها الجر، لأنه: إمَّا على البدل وإمَّا على الوصف بجمع، والأَوْلَيَن في قراءته مثنى فتعذر فيها ذلك. وأمَّا قراءة «الأَوْلَيْن» كالأعلَيْن فحكاها أبو البقاء قراءةً شاذة لم يَعْزُها، قال: «ويُقْرأ» الأَوْلَين «جمعَ الأَوْلَى، وإعرابه كإعراب الأَوْلَين» يعني في قراءة حمزة، وقد تقدَّم أنّ فيها أربعةَ أوجه وهي جارية هنا.
قوله: ﴿أَوْ يخافوا﴾ في نصبه وجهان، أحدهما: أنه منصوب عطفاً على «يَأْتوا» وفي «أو» على هذا تأويلان، أحدُهما: أنها على بابِها من كونِها لأحدِ الشيئين، والمعنى: ذلك الحكمُ أقربُ إلى حصول الشهادة على ما ينبغي أو خوفِ رَدِّ الأيمان إلى غيرِهم فتسقطُ أَيْمانهم. والتأويلُ الآخر: أن تكونَ بمعنى الواو، أي: ذلك الحكم كله أقربُ إلى أَنْ يأتُوا، وأقربُ إلى أن يَخافوا، وهذا مفهومٌ من قول ابن عباس. الثاني من وجهي النصب: أنه منصوبٌ بإضمار «أَنْ» بعد «أو» ومعناها «إلا» كقولهم: «لألزمنَّك أو تقضيَني حَقِّي» تقديره: إلاَّ أَنْ تقضِيني، ف «أو» حرفُ عطفٍ على بابها، والفعلُ بعدَها
وكأن «إلا» في عبارته على ما فهمه الشيخ ليسَتْ «إلا» الاستثنائيةَ، بل أصلُها «إنْ» شرطيةً دَخَلَتْ على «لا» النافيةِ فأُدغمت فيها، فإنه قال: «أو تكون» أو «بمعنى» إلاَّ إنْ «، وهي التي عَبَّر عنها ابن عطية بتلك العبارةِ من تقديرِها بشرطٍ - محذوفٍ فعلُه - وجزاء انتهى. وفيه نظرٌ من وجهين، أحدُهما: أنه لم يَقُلْ بذلك أحدٌ، أعني كونَ» أو «بمعنى الشرط. والثاني: انه بعد أَنْ حَكَم عليها بأنها بمعنى» إلاَّ إنْ «جَعَلها بمعنى شرطٍ حُذِفَ فعلُه.
و ﴿أَن تُرَدَّ﴾ في محلِّ نصبٍ على المفعولِ به اي: أو يَخافُوا رَدَّ أَيْمانهم. و» بعد أَيْمانهم «إمَّا ظرفٌ ل» تُرَدَّ «أو متعلِّقٌ بمحذوفٍ على أنها صفةٌ ل» أَيْمان «وجُمِع الضميرُ في قولِه» يَأْتُوا «وما بعده وإنْ كان عائداً في المعنى على مثَّنى وهو الشاهدان، فقيل: هو عائدٌ على صنفي الشاهدين. وقيل: بل عائدٌ على الشهودِ من الناسِ كلِّهم، معناه: ذلك أَوْلى وأجدرُ أَنْ يحذرَ الناسُ الخيانةَ فيَتَحَرَّوا في شهادتِهم خوفَ الشناعةِ عليهم والفضحيةِ في رَدِّ اليمين على المُدَّعي. وقوله: ﴿واتقوا الله﴾ لم يذكرْ معلِّق التقوى: إمَّا للعلمِ به أي: واتقوا اللَّهَ في شهادتِكم وفي الموصِين عليهم بأن لا تَخْتَلِسوا لهم شيئاً؛ لأن القصةَ كانت بهذا السببِ، وإمَّا قصداً لإِيقاعِ التقوى، فيتناولُ كلَّ ما يُتَّقى
وكأن " إلا " في عبارته على ما فهمه الشيخ ليسَتْ " إلا " الاستثنائيةَ، بل أصلُها " إنْ " شرطيةً دَخَلَتْ على " لا " النافيةِ فأُدغمت فيها، فإنه قال :" أو تكون " أو " بمعنى " إلاَّ إنْ "، وهي التي عَبَّر عنها ابن عطية بتلك العبارةِ من تقديرِها بشرطٍ - محذوفٍ فعلُه - وجزاء انتهى. وفيه نظرٌ من وجهين، أحدُهما : أنه لم يَقُلْ بذلك أحدٌ، أعني كونَ " أو " بمعنى الشرط. والثاني : انه بعد أَنْ حَكَم عليها بأنها بمعنى " إلاَّ إنْ " جَعَلها بمعنى شرطٍ حُذِفَ فعلُه.
و ﴿ أَن تُرَدَّ ﴾ في محلِّ نصبٍ على المفعولِ به اي : أو يَخافُوا رَدَّ أَيْمانهم. و " بعد أَيْمانهم " إمَّا ظرفٌ ل " تُرَدَّ " أو متعلِّقٌ بمحذوفٍ على أنها صفةٌ ل " أَيْمان " وجُمِع الضميرُ في قولِه " يَأْتُوا " وما بعده وإنْ كان عائداً في المعنى على مثَّنى وهو الشاهدان، فقيل : هو عائدٌ على صنفي الشاهدين. وقيل : بل عائدٌ على الشهودِ من الناسِ كلِّهم، معناه : ذلك أَوْلى وأجدرُ أَنْ يحذرَ الناسُ الخيانةَ فيَتَحَرَّوا في شهادتِهم خوفَ الشناعةِ عليهم والفضحيةِ في رَدِّ اليمين على المُدَّعي. وقوله :﴿ وَاتَّقُوا اللَّهَ ﴾ لم يذكرْ معلِّق التقوى : إمَّا للعلمِ به أي : واتقوا اللَّهَ في شهادتِكم وفي الموصِين عليهم بأن لا تَخْتَلِسوا لهم شيئاً ؛ لأن القصةَ كانت بهذا السببِ، وإمَّا قصداً لإِيقاعِ التقوى، فيتناولُ كلَّ ما يُتَّقى منه. وكذا مفعولُ " اسمعوا " إنْ شئتَ حذفتَه اقتصاراً أو اختصاراً أي : اسمعوا أوامَره ونواهَيه من الأحكام المتقدمة، وما أفصحَ ما جيء بهاتين الجملتين الأمريتين، فتباركَ اللَّهُ أصدقُ القائلين.
السابع: أنه مفعولٌ به وناصبُه «اسمعوا» ولا بد من حذف مضاف حينئذ لأنَّ الزمان لا يسمع، فقدَّره أبو البقاء: «واسمعوا خبر يوم يجمع» ولم يذكر أبو البقاء غيرَ هذين الوجهين وبدأ بأولهما. وفي نصبِه ب «لا يَهْدي» نظر من حيث إنه لا يهديهم مطلقاً لا في ذلك اليوم ولا في الدنيا، أعني المحكومَ عليهم بالفسق، وفي تقدير الزمخشري «لايهديهم إلى طريق الجنة» نُحُوٌّ إلى مذهبه من أنّ نَفْي الهداية المطلقة لا يجوز على الله تعالى، ولذلك خَصَّص المُهْدَى إليه ولم يذكر غيره، والذي سَهَّل ذلك عنده أيضاً كونُه في يومٍ لا تكليفَ فيه، وأما في دار التكليف فلا يُجيز المعتزلي أن يُنْسَبَ إلى الله تعالى نَفْيُ الهدايةِ مطلقاً البتة.
الثامن: أنه منصوبٌ ب «اسمعوا» قاله الحوفي، وفيه نظرٌ لأنهم ليسوا مكلِّفين بالسماعِ في ذلك اليومِ، إذ المرادُ بالسماع السماعُ التكليفي. التاسع: أنه منصوبٌ بإضمارِ فعلٍ متأخرٍ أي: يوم يَجْمَعُ اللَّهُ الرسلَ كان كيتَ وكاتَ، قاله الزمخشري. العاشر: قلت: يجوز أن تكونَ المسألة من باب الإِعمال، فإنَّ كُلاً من هذه العوامل الثلاثة المتقدمة
قوله: ﴿مَاذَآ أُجِبْتُمْ﴾ فيه أربعةُ أقوال، أحُدها: أنَّ» ماذا «بمنزلةِ اسمٍ واحدٍ، فَغَلَب فيه جانبُ الاستفهام ومحلُّه النصبُ على المصدرِ بما بعده، والتقديرُ: أيَّ إجابةٍ أُجِبْتُم. قال الزمشخري:» ماذا أُجِبْتُم «منتصبٌ انتصابَ مصدرهِ على معنى: أيَّ إجابة أُجِبْتُم، ولو أُريد الجوابُ لقيل: بماذا أُجبتم» أي: لو أُريد الكلامُ المجابُ لقيل: بماذا. ومِنْ مجيء «ماذا» كلِّه مصدراً قوله:
١٨٣ - ٣- ماذا يَغِيرُ ابنَتَيْ ربعٍ عويلُهما | لا تَرْقُدانِ ولا بُؤْسَ لِمَنْ رَقَدا |
﴿وَخُضْتُمْ كالذي خاضوا﴾ [التوبة: ٦٩] أي: في أحد أوجهه، وقوله: ﴿فاصدع بِمَا تُؤْمَرُ﴾ [الحجر: ٩٤] في أحد وجهيه، وعلى الجملةِ فهو ضعيف. الثالث: أنَّ «ما» مجرورةٌ بحرفِ جَرٍّ مقدَّرٍ، لَمَّا حُذِف بقيت في محل نصب، ذكره أبو البقاء وضَعَّف الوجه الذي قبله - أي كونَ ذا موصولةً - فإنه قال: «ماذا» في موضعِ نصبٍ ب «أُجِبْتُم» وحرفُ الجرِّ محذوفٌ، و «ما» و «ذا» هنا بمنزلةِ اسمٍ واحدٍ، ويَضْعُفُ أَنْ تُجْعَلَ «ما» بمعنى الذي لأنه لا عائدَ هنا، وحذفُ العائدِ مع حرفِ الجَرِّ ضعيفٌ «قلت: أمَّا جَعْلُه حذفَ العائدِ المجرورِ ضعيفاً فصحيحٌ تقدَّم شرحُه والتنبيهُ عليه، وأمَّا حذفُ حرفِ الجر وانتصابُ مجرورِه فهو ضعيفٌ أيضاً، لا يجوزُ إلا في ضرورة كقولِه:
١٨٣ - ٤- فَبِتُّ كأنَّ العائداتِ فَرَشْنَنِي | ..................... |
١٨٣ - ٥-........................... | وأُخْفي الذي لولا الأَسَى لقَضاني |
١٨٣ - ٦- تَمُرُّون الديارَ ولم تَعُوجُوا | ........................ |
والجمهور على» أُجِبْتم «مبنياً للمفعول، وفي حذف الفاعل هنا ما لا يُبْلَغُ كُنهُه من الفصاحة والبلاغة حيث اقتصر على خطاب رسله غيرَ مذكورٍ معهم غيرُهم، رفعاً من شأنهم وتشريفاً واختصاصاً. وقرأ ابن عباس
وقوله: ﴿إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الغيوب﴾ كقوله: ﴿إِنَّكَ أَنْتَ العليم الحكيم﴾ [الآية: ٣٢] في البقرة. والجمهورُ على رفع» عَلاَّمُ الغيوب «وقرئ بنصبِه وفيه أوجهٌ ذَكَرها أبو القاسم وهي: الاختصاصُ والنداءُ وصفةٌ لاسم» إنَّ «قال:» وقُرئ بالنصب على أنّ الكلامَ تَمَّ عند قوله «إنك أنت» أي: إنك الموصوف بأوصافِك المعروفة من العلم وغيرِه، ثم انتصَبَ «عَلاَّم الغيوب» على الاختصاصِ أو على النداء أو هو صفةٌ لاسم «إنَّ» قال الشيخ: «وهو على حَذْفِ الخبر لفهم المعنى، فَتَمَّ الكلامُ بالمقدَّرِ في قوله» إنك أنتَ «اي: إنَّك الموصوفُ بأوصافِك المعروفةِ من العلم وغيره» ثم قال: «قال الزمخشري: ثم انتصب فذكره إلى آخره» فزعم أنَّ الزمخشري قَدَّر ل «إنك» خبراً محذوفاً، والزمخشري لا يريد ذلك البتةَ ولا يَرْتضيه، وإنما يريد أنَّ هذا الضمير بكونه لله تعالى هو الدالُّ على تلك الصفات المذكورة لا انفكاكَ لها عنه، وهذا المعنى هو الذي تقضيه البلاغةُ والذي غاص [عليه أبو القاسم، لا ماقدَّره] الشيخُ مُوِهماً أنه أتى به من عنده.
ويعني بالاختصاص النصبَ على المدحِ لا الاختصاصَ الذي هو شبيه بالنداء، فإنَّ شرطه ان يكون حشواً، ولكنَّ الشيخَ قد رَدَّ على أبي القاسم قوله «إنه يجوز أن يكون صفةً لاسم» إنَّ «بأنَ اسمها هنا ضمير مخاطب، والضمير لا يوصف مطلقاً عند البصريين، ولا يوصَف منه عند الكسائي إلا ضميرُ الغائبِ لإِبهامه في قولهم» مررت به
١٨٣٧ - إنَّ العجوزَ خَبَّةً جَرُوزاً... [وقوله] :
١٨٣ - ٨-.................. | ....... إنَّ حُرَّا سَنا أُسْدا |
١٨٣ - ٩- ليتَ الشبابَ هو الرَّجِيعُ على الفتى | ...................... |
و» عَلاَّمُ «مثالُ مبالغة فهو ناصب لما بعده تقديراً، وبهذا ايضاً يُرَدُّ على الزمخشري على تقدير تسليم صحة وصف الضمير من حيث إنه نكرة؛ لأن إضافَته غيرُ محضة وموصوفَه معرفةٌ. والجمهور على ضمِّ العين من» الغيوب «وهو الأصل، وقرأ حمزة وأبو بكر بكسرها، والخلافُ جارٍ في ألفاظٍ أُخَرَ نحو:» البيوت والجيوب والعيون والشيوخ «وقد تقدَّم تحرير هذا كله في البقرة عند ذكر ﴿البيوت﴾ [الآية: ١٨٩]، وستأتي كلٌّ لفظةٍ من هذه الألفاظِ مَعْزُوَّةً لقارئِها في سورها إن شاء الله تعالى. وجُمِع الغيبُ هنا وإنْ كان مصدراً لاختلافِ أنواعِه، وإن أريد به الشيء الغائب، أو قلنا إنه مخففٌ من فَيْعِل كما تقدم تحقيقه في البقرة فواضح.
قوله: ﴿ياعيسى ابن مَرْيَمَ﴾ تقدَّم الكلام في اشتقاق هذه المفردات ومعانيها و «ابن» صفة ل «عيسى» نُصِب لأنه مضاف، وهذه قاعدةٌ كلية مفيدة، وذلك أنَّ المنادى المفردَ المعرفة الظاهرَ الضمةِ إذا وُصف ب «ابن» أو ابنة ووقع الابن أو الابنة بين علمين أو اسمين متفقين في اللفظ ولم يُفْصَل بين الابن وبين موصوفه بشيء تثبت له أجكامٌ منها: أنه يجوزُ إتباعُ المنادى المضمومِ لحركةِ نون «ابن» فيُفتح نحو: «يا زيدَ بن عمرو، ويا هندَ ابنة بكر» بفتح الدال من «زيد» و «هند» وضمِّها، فلو كانت الضمةُ مقدرةً نحو ما نحن فيه، فإنَّ الضمة مقدرة على ألف «عيسى» فهل يُقَدَّر بناؤه على الفتح إتباعاً كما في الضمة الظاهرة؟ خلاف: الجمهورُ على عَدَمِ جوازِه، إذ لا فائدة في ذلك، فإنه إنما كان للإِتباع وهذا المعنى مفقود في الضمة المقدرة. وأجاز الفراء ذلك إجراءً للمقدر مُجْرى الظاهر، وتبعه أبو البقاء فإنه قال: «يجوز أن يكونَ على الألف من» عيسى «فتحةٌ، لأنه قد وُصِف ب» ابن «وهو بين عَلَمين، وأن يكونَ علهيا ضمةٌ، وهو مثلُ قولِك:» يا زيد بن عمرو «بفتح الدال وضمها».
وهذا الذي قالاه غيرُ بعيدٍ، ويَشْهَدُ له مسألة عند الجميعِ:
وقال الواحدي في «يا عيسى» : ويجوزُ أن يكونَ في محل النصب [لأنه في نية الإِضافة، ثم جَعَلَ الابنَ توكيداً له، وكل ما كان] مثلَ هذا جاز فيه الوجهان نحو: «يا زيد بن عمرو» وأنشد:
١٨٤ - ٠- كأنَّ أُذْنيه إذا تَشَوَّفا | قادِمةً أو قَلَماً مُحْرَّفا |
١٨٤ - ١- يا حَكَمُ بنُ المنذرِ بن الجارودُ | أنتَ الجوادُ بنُ الجوادِ بنُ الجودْ |
١٨٤ - ٢- أحارِ بن عمروٍ كأني خَمِرْ | ..................... |
وقولي: «المفرد» تحرُّزٌ من المُطَوَّل. وقولي «المعرفة» تحرز من النكرة نحو: «يا رجلاً ابن رجل» إذا لم تَقْصِدْ به واحداً بعينه. وقولي: «الظاهرَ الضمةِ» تحرُّزٌ من نحو: «يا موسى بن فلان» وكالآية الكريمة. وقولي: ب «ابن» تحرُّزٌ من الوصف بغيرِه نحو: «يا زيدُ صاحبَنا» وقولي: «بين علمين أو متفقين لفظاً» تحرُّزٌ من نحو: «يا زيد بن أخينا» وقولي: «غيرَ مفصولٍ» تحرُّزٌ من نحو: «يا زيدُ العاقلُ ابنَ عمرو» فإنه لا يجوز في جميع ذلك إلا الضم. وقولي: «أحكام» قد تقدَّمتْ منها ما ذكرتُه من جوازِ فتحِه إتباعاً، ومنها: حَذْفُ ألفِه خطاً، ومنها: حَذْفُ تنويِنه في غيرِ النداء؛ لأنَّ المنادَى لا تنوينَ فيه.
وقولي: «وصفٌ» تحرُّزٌ من أن يكون الابن خبراً لا صفة نحو: «زيدٌ ابنُ عمرو» وهل يجوزُ إتباعُ «ابن» فيُضمَّ نحو: «يا زيد بن ُ عمرو» بضم «ابن» ؟ فيه خلافٌ.
قوله: ﴿إِذْ أَيَّدتُّكَ﴾ في «إذ» أوجهٌ، أحدُها: أنه منصوبٌ ب «نعمتي» كأنه قيل: اذكرُ إذ أنعمتُ عليك وعلى أمِّك في وقت تأييدي لك. والثاني: أنه بدلٌ من «نعمتي» بدلُ اشتمال، وكأنه في المعنى تفسيرٌ للنعمة. والثالث: أنه حالٌ من «نعمتي» قاله أبوالبقاء والرابع: أن يكون مفعولاً به على السِّعَة قاله أبو البقاء أيضاً. قلت: هذا هو الوجهُ الثاني - أعني البدليةَ - وقرأ الجمهور «أيَّدتك» بتشديد الياء، وغيرهم «آيَدْتُك» وقد تقدَّم الكلام على ذلك وعلى مَنْ قرأ بها وما قاله الزمخشري وابن عطية والشيخ في سورة البقرة فليُنْظر ثَمَّ.
قوله: ﴿تُكَلِّمُ الناس فِي المهد﴾ إلى آخرها: تقدَّم ايضاً في آل عمران، وما فائدةُ قوله: ﴿فِي المهد وَكَهْلاً﴾ إلا أنَّ هنا بعضَ زياداتٍ لابدَّ من التعرض لها. قرأ ابن عباس: «فتنفخُها» بحذف حرف الجر اتساعاً. والجمهور: «فتكونُ» بالتاء منقوطةً فوق، وأبو جعفر منقوطةً تحتُ، أي: فيكونُ المنفوخ فيه. والضمير في «فيها» قال ابن عطية: «اضطربت فيه أقوال المفسرين» قال مكي: «هو في آل عمران عائدةٌ على الطائر، وفي المائدة عائدٌ على الهيئة» قال: «وَيصِحُّ عكس هذا». وقال غير مكي: «الضمير المذكور عائد على الطين». قال ابن عطية: «ولا يَصِحُّ عودُ هذا الضمير على الطير ولا على الطين ولا على الهيئة، لأنَّ الطير أو الطائر الذي يَجِيء الطين على هيئته لا يُنْفَخُ فيه البتةَ، وكذلك لا نفخَ في هيئته الخاصة به، وكذلك الطينُ إنما هو الطينُ العام ولا نفخَ في ذلك». وقال الزمخشري: «ولا يَرْجِعُ الضميرُ إلى الهيئةِ المضافِ إليها لأنها ليست مِنْ خَلْقِه ولا مِنْ نفخِه في شيء، وكذلك الضميرُ في» فتكون «. ثم قال ابن عطية:»
وهذا القولُ هو عينُ ما قبله، فإنَّ الكافَ أيضاً بمعنى مِثْل، وكونُها اسماً في غير الشعرِ لم يَقُلْ به غيرُ الأخفش.
استشكل الناسُ قولَ مكي المتقدم كما قَدَّمْتُ حكايتَه عن ابن عطية، ويمكنُ أَنْ يُجابَ عنه بأنَّ قولَه «عائدٌ على الطائر» لا يريدُ به الطائر الذي أُضيفت إليه الهيئةُ بل الطائرُ المُصَوَّرُ، والتقدير: وإذ تخلق من الطين طائراً
قوله: ﴿إِلاَّ سِحْرٌ﴾ قرأ الأخَوان هنا وفي هود وفي الصف» إلا ساحر «اسم فاعل، والباقون:» إلا سحرٌ «مصدراً في الجميع، والرسمُ يحتمل القراءتين، فأمَّا قراءةُ الجماعةِ فتحتمل أن تكون الإِشارة إلى ما جاءَ به من البينات أي: ما هذا الذي جاء به من الآيات الخوارقِ إلى سحرٌ، ويُحْتمل ان تكونَ الإِشارةُ إلى عيسى، جَعَلُوه نفسَ السحر مبالغةً نحو:» رجلٌ عدلٌ «، أو على حَذْفِ مضافٍ أي: إلا ذو سحر. وخَصَّ مكي هذا الوجهَ بكون المرادِ بالمشارِ إليه محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال:» ويجوزُ أن تكونَ إشارةً إلى النبي محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على تقدير حَذْفِ مضافٍ أي: إنْ هذا إلا ذو سحر «. قلت: وهذا جائزٌ، والمرادُ بالمشار إليه عيسى عليه السلام، وكيف يكونُ المرادُ النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو لم يكن في زمنِ عيسى
﴿ولكن البر مَنْ آمَنَ﴾ [البقرة: ١٧٧] وقالوا: «إنما أنت سيرٌ» و «ما أنت إلا سيرٌ» و:
١٨٤ - ٣-................... | فإنما هي إقبالٌ وإدبارُ |
قوله: ﴿هَلْ يَسْتَطِيعُ﴾ قرأ الجمهورُ «يَسْتَطيع» بياء الغيبة «ربك» مرفوعاً بالفاعلية، والكسائي: «تَسْتَطيع» بتاء الخطاب لعيسى، و «ربَّك» بالنصب على التعظيم، وقاعدتُه أنه يُدْغِم لام «هل» في أحرف منها هذا المكان، وبقراءة الكسائي قرأت عائشة، وكانت تقول: «الحواريُّونَ أعرفُ بالله من أن يقولوا: هل يستطيع ربك» كأنها - رضي الله عنها - نَزَّهَتْهم عن هذه المقالةِ الشنيعة أَنْ تُنْسَبَ إليهم، وبها قرأ معاذ أيضاً وعلي وابن عباس وسعيد بن جبير في آخرين، وحينئذ فقد اختلفوا في هذه القراءة: هل تحتاجُ إلى حَذْفِ مضاف أم لا؟ فجمهورالمُعْربين / يقدِّرون: هل تستطيعُ سؤالَ ربك، وقال الفارسي: «وقد يمكن أَنْ يُسْتغنى عن تقدير» سؤالَ «على أن يكون المعنى: هل تستطيع أن يُنَزَّل ربُّك بدعائك، فيُرَدُّ المعنى - ولا بد - إلى مقدَّر يدل عليه ما ذُكِر من اللفظ» قال الشيخ: «وما قاله غيرُ ظاهرٍ لأنَّ فعلَه تعالى وإنْ كان مسبباً عن الدعاءِ فهو غيرُ مقدورٍ لعيسى» واختار أبو عبيد هذه القراءةَ قال: «لأنَّ القراءةَ الأخرى تُشْبه أن يكونَ الحواريُّون شاكِّين، وهذه لا تُوهِمُ ذلك». قلت: وهذا بناء من الناسِ على أنهم كانوا مؤمنين، وهذا هو الحقُّ.
ومنها: أن المعنى هل يفعلُ ذلك وهل يقع منه إجابةٌ لذلك؟ ومنه ما قيل لعبد الله بن زيد: هل تستطيعُ أن تُرَيَني كيف كان رسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يتوضأ؟ أي هل تُحِبُّ ذلك؟ وقيل: المعنى: هل يطلب ربُّك الطاعة من نزول المائدة؟ قال أبو شامة: «مثلُ ذلك في الإِشكال ما رواه الهيثم - وإن كان ضعيفاً - عن ثابت عن أنس» أنّ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عادَ أبا طالب في مرض فقال: يا بنَ أخي ادعُ ربَّك الذي تعبده فيعافيَني. قال: اللهم اشفِ عمي، فقام أبو طالب كأنما نَشِط من عِقال. فقال: يابنَ أخي إنّ ربك الذي تعبدُ لَيطيعُك. قال: وأنت يا عَمَّاه لو أَطَعْتَه، أو: لئن أطعتَ اللهَ ليطيعَنَّك اي: لَيجيبَنَّك إلى مقصودك «. قلت: والذي حَسَّن ذلك المقابلةُ منه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للفظِ عَمِّه كقوله: ﴿وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ الله﴾ [آل عمران: ٥٤] وقيل: التقدير: هل يُطيع؟ فالسينُ زائدة كقولهم: استجاب وأجاب، قال:
١٨٤ - ٤- وداعٍ دعا يا مَنْ يُجيب إلى النَّدى | فلم يَسْتِجَبْه عند ذاك مُجيبُ |
١٨٤ - ٥- على ما قام يَشْتِمُني لئيمٌ | كخنزيرٍ تَمَرَّغَ في رَمادِ |
قوله ﴿أَن يُنَزِّلَ﴾ في قراءةِ الجماعة في محل نصب مفعولاً به أي: الإِنزالَ. وقال أبو البقاء: «والتقدير: على أن ينزَّل، أو في أن ينزَّل، ويجوز ألاَّ يُحتاجَ إلى حرف جر على أن يكون» يَسْتطيع «بمعنى» يُطيق «. قلت: إنما احتاج إلى تقديرِ حَرْفَي الجرِّ في الأول لأنه حَمَل الاستطاعةَ على الإِجابة، وأمَّا قولُه أخيراً» إنَّ يستطيع بمعنى يُطِيق «فإنما يَظْهَرُ كلَّ الظهورِ على رأي الزمخشري من كونهم ليسوا بمؤمنين. وأمَّا في قراءةِ الكسائي فقالوا: هي في محلِّ نصبٍ على المفعولية بالسؤالِ المقدَّر أي: هل يستطيع أنت أن تسألَ ربَّك الإِنزالَ، فيكون المصدرُ المقدرُ مضافاً لمفعوله الأول وهو» ربّك «فلمَّا حُذِفَ المصدرُ انتصب. وفيه نظرٌ من أنهم أعملوا المصدرَ مضمراً، وهو لا يجوزُ عند البصريين، يُؤَوِّلون ما ورد ظاهرُه ذلك. ويجوز أن يكونَ» أن
و» مائدة «مفعول» يُنَزِّلُ «والمائدة: الخِوُان عليه طعامٌ، فإن لم يكن عليه طعامٌ فليست بمائدةٍ، هذا هو المشهور، إلا أن الراغب قال:» والمائدةُ: الطبقُ الذي عليه طعام، ويقال لكل واحدٍ منها مائدةٌ «وهو مخالِفٌ لما عليه المُعْظَمُ، وهذه المسألة لها نظائرٌ في اللغة، لا يقال للخِوان مائدةٌ إلا وعليه طعامٌ وإلا فهو خِوان، ولا يقال كأسٌ إلا وفيها خَمْرٌ وإلا فهي قَدَحٌ، ولا يقال ذَنوب وسَجْل إلا وفيه ماء، وإلا فهو دَلْو، ولا يقال جِراب إلا وهو مدبوعٌ وإلا فهو إهاب، ولا قَلَمٌ إلا وهو مَبْرِيٌّ وإلا فهو أنبوب.
واختلف اللغويون في اشتقاقها فقال الزجاج: «هي من مادَ يَميدُ إذ تحرك، ومنه قوله: ﴿رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِهِمْ﴾ [الأنبياء: ٣١] ومنه: مَيْدُ البحر» وهو ما يُصيب راكبَه، فكأنها تَميد بما عليها من الطعام، قال: «وهي فاعِله على الأصل» وقال أبو عبيد: «هي فاعلة بمعنى مَفْعولة مشتقةٌ من مادَهُ بمعنى أعطاه، وامتادَهُ بمعنى استعطاهُ فهي بمعنى مَفْعولة» قال: «كعِيشة راضِية» وأصلُها أنها مِيدَ بها صاحبُها أي: أُعْطِيها، والعربُ تقول: ما دَني فلان يَميدني إذا أحسنَ إليَّ وأعطاني «وقال أبو بكر بن الأنباري:» سُمِّيت مائدةً لأنها غياثٌ وعطاءٌ، من قولِ العرب: مادَ فلانٌ فلاناً إذا أَحْسَنَ إليه، وأنشدَ:
١٨٤ - ٦-
قال ابن الأنباري :" لا يجوزُ لأحد أن يتَوَهَّم على الحواريين أنهم شَكُّوا في قدرة الله تعالى " وبهذا يَظْهَرُ أنَّ قول الزمخشري أنهم ليسا مؤمنين ليس بجيدٍ وكأنه خارقٌ للإِجماع. قال ابن عطية :" ولا خلاف أحفظُه أنهم كانوا مؤمنين ". وأمَّا القراءةُ الأولى فلا تَدُلُّ له لأن الناس أجابوا عن ذلك باجوبةٍ منها : أنَّ معناه : هل يَسْهُل عليك أن تسأل ربَّك، كقولِك لآخر : هل تستطيع أن تقومَ ؟ وأنت تعلم استطاعته لذلك. ومنها : أنهم سألوه سؤالَ مستخبرٍ : هل يُنَزَّل أم لا، فإن كان يُنَزِّلُ فاسأله لنا.
ومنها : أن المعنى هل يفعلُ ذلك وهل يقع منه إجابةٌ لذلك ؟ ومنه ما قيل لعبد الله بن زيد : هل تستطيعُ أن تُرَيَني كيف كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ ؟ أي هل تُحِبُّ ذلك ؟ وقيل : المعنى : هل يطلب ربُّك الطاعة من نزول المائدة ؟ قال أبو شامة :" مثلُ ذلك في الإِشكال ما رواه الهيثم - وإن كان ضعيفاً - عن ثابت عن أنس " أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم عادَ أبا طالب في مرض فقال : يا بنَ أخي ادعُ ربَّك الذي تعبده فيعافيَني. قال : اللهم اشفِ عمي، فقام أبو طالب كأنما نَشِط من عِقال. فقال : يابنَ أخي إنّ ربك الذي تعبدُ لَيطيعُك. قال : وأنت يا عَمَّاه لو أَطَعْتَه، أو : لئن أطعتَ اللّهَ ليطيعَنَّك اي : لَيجيبَنَّك إلى مقصودك ". قلت : والذي حَسَّن ذلك المقابلةُ منه صلى الله عليه وسلم للفظِ عَمِّه كقوله :﴿ وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللَّهُ ﴾ [ آل عمران : ٥٤ ] وقيل : التقدير : هل يُطيع ؟ فالسينُ زائدة كقولهم : استجاب وأجاب، قال :
وداعٍ دعا يا مَنْ يُجيب إلى النَّدى | فلم يَسْتِجَبْه عند ذاك مُجيبُ |
على ما قام يَشْتِمُني لئيمٌ | كخنزيرٍ تَمَرَّغَ في رَمادِ |
قوله ﴿ أَن يُنَزِّلَ ﴾ في قراءةِ الجماعة في محل نصب مفعولاً به أي : الإِنزالَ. وقال أبو البقاء :" والتقدير : على أن ينزَّل، أو في أن ينزَّل، ويجوز ألاَّ يُحتاجَ إلى حرف جر على أن يكون " يَسْتطيع " بمعنى " يُطيق ". قلت : إنما احتاج إلى تقديرِ حَرْفَي الجرِّ في الأول لأنه حَمَل الاستطاعةَ على الإِجابة، وأمَّا قولُه أخيراً " إنَّ يستطيع بمعنى يُطِيق " فإنما يَظْهَرُ كلَّ الظهورِ على رأي الزمخشري من كونهم ليسوا بمؤمنين. وأمَّا في قراءةِ الكسائي فقالوا : هي في محلِّ نصبٍ على المفعولية بالسؤالِ المقدَّر أي : هل يستطيع أنت أن تسألَ ربَّك الإِنزالَ، فيكون المصدرُ المقدرُ مضافاً لمفعوله الأول وهو " ربّك " فلمَّا حُذِفَ المصدرُ انتصب. وفيه نظرٌ من أنهم أعملوا المصدرَ مضمراً، وهو لا يجوزُ عند البصريين، يُؤَوِّلون ما ورد ظاهرُه ذلك. ويجوز أن يكونَ " أن ينزَّل " بدلاً من " ربك " بدلَ اشتمالٍ، والتقدير : هل تستطيع أي : هل تُطيق إنزالَ الله تعالى مائدةً بسبب دعائك ؟ وهو وجهٌ حسن.
و " مائدة " مفعول " يُنَزِّلُ " والمائدة : الخِوُان عليه طعامٌ، فإن لم يكن عليه طعامٌ فليست بمائدةٍ، هذا هو المشهور، إلا أن الراغب قال :" والمائدةُ : الطبقُ الذي عليه طعام، ويقال لكل واحدٍ منها مائدةٌ " وهو مخالِفٌ لما عليه المُعْظَمُ، وهذه المسألة لها نظائرٌ في اللغة، لا يقال للخِوان مائدةٌ إلا وعليه طعامٌ وإلا فهو خِوان، ولا يقال كأسٌ إلا وفيها خَمْرٌ وإلا فهي قَدَحٌ، ولا يقال ذَنوب وسَجْل إلا وفيه ماء، وإلا فهو دَلْو، ولا يقال جِراب إلا وهو مدبوعٌ وإلا فهو إهاب، ولا قَلَمٌ إلا وهو مَبْرِيٌّ وإلا فهو أنبوب.
واختلف اللغويون في اشتقاقها فقال الزجاج :" هي من مادَ يَميدُ إذ تحرك، ومنه قوله :﴿ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِهِمْ ﴾ [ الأنبياء : ٣١ ] ومنه : مَيْدُ البحر " وهو ما يُصيب راكبَه، فكأنها تَميد بما عليها من الطعام، قال :" وهي فاعِله على الأصل " وقال أبو عبيد :" هي فاعلة بمعنى مَفْعولة مشتقةٌ من مادَهُ بمعنى أعطاه، وامتادَهُ بمعنى استعطاهُ فهي بمعنى مَفْعولة " قال :" كعِيشة راضِية " وأصلُها أنها مِيدَ بها صاحبُها أي : أُعْطِيها، والعربُ تقول : ما دَني فلان يَميدني إذا أحسنَ إليَّ وأعطاني " وقال أبو بكر بن الأنباري :" سُمِّيت مائدةً لأنها غياثٌ وعطاءٌ، من قولِ العرب : مادَ فلانٌ فلاناً إذا أَحْسَنَ إليه، وأنشدَ :
إلى أميرِ المؤمنين المُمْتادْ ***
أي : المُحْسِنُ لرعيَّته، وهي فاعِلَة من المَيْد بمعنى مُعْطِية فهو قريب من قولِ أبي عبيد في الاشتقاق، إلا أنَّها عنده بمعنى فاعِله على بابها. وابنُ قتيبة وافق أبا عبيد في كونها بمعنى مفعولة، قال :" لأنها يُمادُ بها الآكلون أي يُعْطَوْنها ". وقيل : هي من المَيْد وهو الميل، وهذا هو معنى قول الزجاج. قوله :" من السماء " يجوز أَنْ يتعلَّقَ بالفعلِ قبلَه، وأَنْ يتعلَّق بمحذوف على أنه صفةٌ ل " مائدة " أي : مائدةً كائنةً من السماء أي : نازلةً منها.
وأَنْ «في» أَنْ قد صَدَقْتَنا «مخففةٌ واسمُها محذوفٌ، و» قد «فاصلةٌ لأنَّ الجملة الواقعةَ خبراً لها فعليةٌ متصرفةٌ غيرُ دعاءٍ، وقد عَرَفْتَ ذلك مما تقدم في قوله: ﴿أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ﴾ [المائدة: ٧١]، و» أن «وما بعده سادَّةٌ مسدَّ المفعولين أو مسدَّ الأول فقد والثاني محذوف. و» عليها «متعلقٌ بمحذوف يَدُلُّ عليه» الشاهدين «ولا يتعلَّقُ بما بعده لأن» أل «لا يَعْمل ما بعدَها فيما قبلَها عند الجمهورِ، ومَنْ يُجيز ذلك يقول:» هو متعلقٌ بالشاهدين، قُدِّم للفواصل «. وأجاز الزمخشري أن تكونَ» عليها «حالاً فإنه قال:» أو نكونُ من الشاهدين لله بالواحدنية ولك بالنبوةِ عاكفين عليها، على أن «عليها» في موضع الحال «قلت: قوله» عاكفين «تفسيرُ معنىً؛ لأنه لا يُضْمر في هذه الأماكن إلا الأكوانُ المطلقة، وبهذا الذي قلته لا يَرد عليه ما قاله الشيخ فإنه غاب عليه ذلك، وجعله متناقضاً من حيث إنه لَمَّا علَّقه ب» عاكفين «كان غير حال؛ لأنه إذا كان حالاً تعلَّق بكون مطلق، ولا أدري ما معنى التناقض وكيف يَتَحَمَّلُ عليه إلى هذا الحَدِّ؟
وقرأ عبد الله: ﴿تَكُنْ﴾ بالجزم على جواب الأمر في قوله: «أَنْزل» قال الزمخشري: «وهما نظير ﴿يَرِثُنِي وَيَرِثُ﴾ [مريم: ٦] يريد قوله تعالى: ﴿فَهَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً يَرِثُنِي﴾ بالرفع صفةً، وبالجزم جواباً، ولكنْ القراءتان هناك متواترتان، والجزمُ هنا في الشاذ.
١٨٤ - ٧- فواكبدي من لاعجِ الحُبِّ والهَوى | إذا اعتاد قَلْبي من أُمَيْمَة عيدُها |
١٨٤ - ٨- يا عيدُ ما لكَ مِنْ شوقٍ وإيراقِ | ........................ |
١٨٤ - ٩- عادَ قلبي من الطويلةِ عيدُ | .......................... |
١٨٥ - ٠-
على لاحِبٍ لا يُهْتَدى بمنارِه | إذا سافَه العَوْدُ النباطِيُّ جَرْجَرا |
قوله: ﴿لأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا﴾ فيه وجهان أحدُهما: أنه متعلقٌ بمحذوف لأنه وقعَ صفةً ل «عيداً» الثاني: أنه بدلٌ من «ن» في «لنا» قال الزمخشري: «لأولنا وآخرنا» بدلٌ من «لنا» بتكرير العاملِ «ثم قال:» وقرأ زيد بن ثابت والجحدري لأَولانا وأُخْرانا والتأنيثُ على معنى الأمة. «وخَصَّص أبو البقاء كلَّ وجه بشيء وذلك أنه قال:» فأمَّا «لأولنا وآخرنا» فإذا جعلت «لنا» خبراً وحالاً من فاعل «تكون» فهو صفةٌ ل «عيداً»، وإن جعلت «لنا» صفة ل «عيد» كان «لأولنا» بدلاً من الضمير المجرور بإعادة الجارِّ «.
قلت: إنما فعل ذلك لأنه إذا جعل «لنا» خبراً كان «عيداً» حالاً، وإن جعله حالاً كان «عيداً» خبراً، فعلى التقديرين لا يمكنُه جَعْلُ «لأولنا» بدلاً من «لنا» لئلا يلزَم الفصلُ بين البدلِ والمبدلِ منه: إمَّا بالحال وإما بالخبر وهو «عيد» بخلافِ ما إذا جُعِل «لنا» صفةً ل «عيد»، هذا الذي يظهر في تخصيصِه ذلك بذلك، ولكن يُقال: قولُه «فإنْ جعلت لنا صفة لعيداً كان لأولنا بدلاً» مُشْكل أيضاً، لأنَّ الفصلَ فيه موجود، لا سيما أنَّ قولَه لا يُحْمل على ظاهره لأنَّ «لنا» ليس صفةً بل هو حالٌ مقدمة، ولكنه نظر إلى الأصل، وأنَّ التقدير: عيداً لنا لأوَّلنا،
واعلم أن البدلَ من ضميرِ الحاضر سواءً كان متكلماً أم مخاطباً لا يجوز عند جمهورِ البصريين من بدلِ الكل من الكلّ لو قلت: «قمتُ زيدٌ» يعني نفسَك، و «ضربتُك عَمْراً» لم يَجُزْ، قالوا: لأنَّ البدلَ إنما يؤتي به للبيانِ غالباً، والحاضرُ متميِّزٌ بنفسِه فلا فائدةَ في البدلِ منه، وهذا يَقْرُبُ من تعليلِهم في منعِ وصفِه. وأجازَ الأخفشُ ذلك مطلقاً مستدِلاً بظاهر هذه الآية وبقوله:
١٨٥ - ١- أنا سيفُ العشيرةِ فاعرِفوني | حُمَيْداً قد تَذَرَّيْتُ السِّناما |
١٨٥ - ٢- وشوهاءَ تَغْدو بي إلى صارخ الوغى | بمُسْتَلْئِمٍ مثلِ الفنيق المُدَجَّلِ |
١٨٥ - ٣- بكم قريشٍ كُفينا كُلَّ مُعْضِلَةٍ | وأَمَّ نهج الهُدى مَنْ كان ضِلِّيلا |
١٨٥ - ٤- سلامُ اللَّهِ يا مطرٌ عليها | وليسَ عليك يا مطرُ السَّلامُ |
١٨٥ - ٥- فما بَرِحَتْ أقدامُنا في مقامِنا | ثلاثتِنا حتى أُزيروا المَنائِيَا |
قوله تعالى: ﴿بَعْدُ﴾ : متعلق ب «يكفر»، وبُني لقَطْعِه عن الإِضافة، إذ الأصل: بعد الإِنزالِ. و «منكم» متعلقٌ بمحذوفٍ؛ لأنه حال من فاعل «يَكْفُرْ» وقوله: ﴿عَذَاباً﴾ فيه وجهان، أظهرهما: أنه اسمُ مصدرٍ بمعنى التعذيب، أو مصدرٌ على حَذْفَِ الزوائد نحو: «عطاء ونبات» ل «أعطى» وأنبت «، وانتصابُه على المصدرية بالتقديرين المذكورين. والثاني - أجازه أبو البقاء - أن يكون مفعولاً به على السِّعَة، يعني جَعَلَ الحَدَثَ مفعولاً به مبالغةً، وحينئذ يكون نصبه على التشبيه بالمفعول به، والمنصوبُ على التشبيه بالمفعولِ به عند النحاة ثلاثةُ أنواع: معمولُ الصفةِ المشبهة، والمصدرُ، والظرفُ المتسع فيهما، أمَّا المصدرُ فكما تقدَّم، وأمَّا الظرفُ فنحو:» يوم الجمعة صُمتُه «، ومنه قوله:
قوله: ﴿لاَّ أُعَذِّبُهُ﴾ الهاءُ فيها ثلاثة أوجه، أظهرها: أنها عائدة على» عذاب «الذي تقدم أنه بمعنى التعذيب، التقدير: فإني أعذَّبه تعذيباً لا أعذِّبُ مثلَ ذلك التعذيب أحداً، والجملة في محلِّ نصب صفة ل» عذاباً «وهذا وجه سالم من تَكَلُّفٍ ستراه في غيره. ولَمَّا ذكره أبو البقاء هذا الوجه - أعني عودَها على» عذاباً «المتقدم - قال:» وفيه على هذا وجهان، أحدُهما: على حَذْفِ حرف الجر، أي: لا أعذب به أحداً، والثاني: أنه مفعولٌ به على السَّعة. قلت: أمَّا قوله «حُذِف الحرف» فقد عرفت أنه لا يجوز إلا فيما استثني. الثاني من أوجه الهاء: أنها تعود على «مَن» المتقدمة في قوله: ﴿فَمَن يَكْفُرْ﴾ والمعنى: لا أعذَّبُ مثلَ عذاب الكافر أحداً، ولا بد من تقدير هذين المضافين ليصِحَّ المعنى. قال أبو البقاء في هذا الوجه: «وفي الكلام حذفٌ أي: لا أعذب الكافر أي: مثل الكافر، أي: مثل عذاب الكافر» الثالث: أنها ضمير المصدر المؤكد نحو: «ظَنَنْتُهُ زيداً قائماً» ولَمَّا ذكر أبو البقاء هذا الوجهَ اعترض على نفسِه فقال: «فإنْ قلت:» لا أعذِّبه «صفةٌ ل» عذاب «وعلى هذا التقدير لا يعودُ من الصفة على الموصوف شيءٌ.
قيل: إنَّ الثاني لما كان واقعاً موقعَ المصدرِ والمصدرُ جنس و «عذاباً» نكرةٌ كان الأول داخلاً في
قوله: ﴿أَأَنتَ قُلتَ﴾ دَخَلَتِ الهمزةُ على المبتدأ فائدةٍ ذكرها أهل البيان وهو: أن الفعلَ إذا عُلِم وجودُه وشُكَّ / في نسبته إلى شخص أُولِي الاسمُ المشكوكُ في نسبة الفعل إليه للهمزة فيقال: «أأنت ضرب زيداً» فَضَرْبُ زيدٍ قد صدر في الوجود وإنما شُكَّ في نسبته إلى المخاطب، وإنْ شُكَّ في اصل وقوع الفعل أُولِي الفعلُ للهمزة فيقال: «أضربْتَ زيداً» لم تَقْطَعْ بوقوعِ الضرب بل شَكَكْتَ فيه، والحاصل: أنَّ الهمزةَ يليها المشكوك فيه، جئنا إلى الآية الكريمة فالاستفهامُ فيها يُراد به التقريعُ والتوبيخُ بغيرِ عيسى عليه السلام
قوله: ﴿سُبْحَانَكَ﴾ أي: تنزيهاً، وتقدَّم الكلامُ عليه في البقرة مشبعاً، ومتعلَّقُه هنا محذوفٌ فقدَّره الزمخشري: سبحانك من أن يكونَ لك شريكٌ «وقَدَّره ابن عطية:» عن أَنْ يُقال هذا وينطق به «ورجَّحه الشيخ لقوله بعد: ﴿مَا يَكُونُ لي أَنْ أَقُولَ﴾ قوله: ﴿أَنْ أَقُول﴾ في محلِّ رفع لأنه اسمُ» يكون «، والخبرُ في الجار قبله، أي: ما ينبغي لي قولُ كذا. و» ما «يجوزُ أن تكونَ موصولةً أن نكرةً موصوفة. والجملةُ بعدها صلةٌ فلا محلَّ لها، أو صفةٌ فمحلُّها النصبُ، فإنّ» ما «منصوبةٌ ب» اقول «نصبَ المفعول به لأنها متضمنةٌ لجملة فهو نظيرُ» قلت كلاماً «، وعلى هذا فلا يُحتاج أن يُؤَوَّل» أقول «بمعنى أَدَّعِي أو أذكر، كما فعله أبو البقاء. وفي» ليس «ضميرٌ يعودُ على ما هو اسمُها، وفي خبرِها وجهان، أحدهما: أنه» لي «أي: ما ليس مستقراً لي وثابتاً، وأمَّا» بحق «على هذا ففيه ثلاثةُ أوجه، ذكر أبو البقاء منها وجهين، احدُهما أنه حالٌ من الضمير في» لي «قال: والثاني: أن يكونَ مفعولاً به
قلت: وهذا ليس بجيدٍ لأنه قَدَّر متعلَّق الخبرِ كوناً مقيداً ثم حَذَفه وأبقى معموله. الوجه الثالث: أنَّ قوله «بحق» متعلقٌ بقوله: «عَلِمْتَه» ويكون الوقف على هذا على قوله «لي» والمعنى: فقد عَلِمْتَه بحق. وقد رُدَّ هذا بأن الأصل عدم التقديم والتأخير، وهذا لاينبغي أن يُكتفى به في ردِّ هذا، بل الذي منع من ذلك أنَّ معمولَ الشرطِ أو جوابِه لا يتقدَّم على أداة الشرط لا سيما المرويُّ عن الأئمة القُرَّاء الوقفُ على «بحق»، ويَبْتدئون ب «إنْ كنت قلتُه» وهذا مَرِويٌّ عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [فوجَبَ اتِّباعه] والوجهُ الثاني في خبرِ «ليس» أنه «بحق»، وعلى هذا ففي «لي» ثلاثةُ أوجه، أحدُها: أنه «يتبين» كما في قولهم: «سُقْياً له» أي: فيتعلَّقُ بمحذوف، والثاني: أنه حال من «بحق» لأنه لو تأخَّر لكانَ صفةً له، قال أبو البقاء: «وهذا يُخَرَّج على قولِ مَنْ يجوِّزُ تقديمَ حالِ المجرور عليه» قلت: قد تقدم لك خلافُ الناسِ فيه وما أوردوه من الشواهِد، وفيه أيضاً تقديمُ الحال على عامِلها المعنوي: فإنَّ «بحق» هو العاملُ إذ «ليس» لا يجوز أن تعملَ في شيء، وإنْ قلنا: إنَّ «كان» أختها قد تعمل لأن «ليس» لا حدَثَ لها بالإِجماع. والثالث: أنه متعلِّقٌ بنفسِ «حق» لأنَّ الباءَ زائدةٌ، وحَقّ بمعنى مُسْتحق أي: ما ليس مستحِقَّاً لي.
قوله: ﴿إِن كُنتُ﴾ :«كنت» وإن كانت ماضية اللفظ فهي مستقبلة في المعنى، والتقدير: إن تَصِحَّ دعواي لِما ذُكر، وقَدَّره الفارسي بقوله: «إن أكن الآن قلتُه فيما مضى» لأنَّ الشرطَ والجزاء لايقعان إلا في المستقبل «وقولُه: ﴿فَقَدْ عَلِمْتَهُ﴾ أي: فقد تبيَّن وظهرَ عِلمُك به كقوله: ﴿فَصَدَقَتْ﴾ [يوسف: ٢٦]
قوله: ﴿تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي﴾ هذه لا يجوزُ أن تكونَ عرفانيةً، لأنَّ العرفان كما قَدَّمْتُه يستدعي سَبْقَ جهل، او يُقْتَصَرُ به على معرفةِ الذات دونَ أحوالها حَسْبَ ما قاله الناس، فالمفعولُ الثاني محذوفٌ، أي: تعلمُ ما في نفسي كائناً وموجَداً على حقيقتِه لا يَخْفَى عليك منه شيءٌ، وأمَّا:» ولا أعلم «فيه وإنْ كان يجوزُ أن تكونَ عرفانيةً، إلا أنها لَمَّا صارَتْ مقابلةً لما قبلها ينبغي أن يكونَ مثلَها، والمرادُ بالنفسِ هنا على ما قاله الزجاج» انها تُطْلَقُ ويُراد بها حيققةُ الشي، والمعنى في قوله ﴿تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي﴾ إلى آخره واضحٌ، وقال: «المعنى: تعلمُ ما أُخْفيه من سِرِّي وغيبي، أي: ما غابَ ولم أُظْهِرْه، ولا أعلمُ ما تُخفِيه أنت ولا تُطْلِعُنا عليه، فذكرالنفس مقابلةً وازداجاً، وهذا منتزع من قول ابن عباس، وعليه حام الزمخشري فإنه قال:» تعلمُ معلومي ولا أعلمُ معلومَك «، وأتى بقوله: ﴿مَا فِي نَفْسِكَ﴾ على جهةِ المقابلةِ والتشاكلِ لقوله: ﴿مَا فِي نَفْسِي﴾ فهو كقوله:
﴿وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ الله﴾ [آل عمران: ٥٤]، وكقوله: ﴿إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ الله يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ﴾ [البقرة: ١٤١٥].
وتعقَّب عليه الشيخ كلامَه فقال: «أمَّا قولَه» وأمَّا فعلُ الأمر إلى آخر المنع وقوله: «لأنَّ الله لا يقول اعبدوا الله ربي وربكم» فإنما لم يستقمْ لأنه جَعَلَ الجملةَ وما بعدها مضمومةً إلى فعلِ الأمر، ويستقيم أن يكونَ فعلُ الأمر مفسَّراً بقوله: «اعبدوا الله» ويكون «ربي وربكم» من كلام عيسى على إضمار «أعني» أي: «أعني ربي وربكم»، لا على الصفة التي فَهمها الزمخشري فلم يستقم ذلك عندَه، وأمَّا قولُه: «لأنّ العبادة لا تُقال» فصحيحٌ، لكن يَصِحُّ ذلك على حَذْفِ مضاف أي: ما قلت لهم إلا القولَ الذي امرتني به قولَ عبادة الله أي: القولَ المتضمن عبادة الله، وأمَّا قوله «لبقي الموصول بغير راجع إليه من صلته» فلا يلزمُ في كل بدل أن يَحُلَّ المبدل منه، «ألا ترى إلى تجويز النحويين:» زيد مررت به أبي عبدِ الله «ولو قلت:» زيدٌ مررت بأبي عبد الله «لم يجز إلا على رأي الأخفش. وأما قولُه» عطفاً على بيان
قلت: أمَّا قوله: «إنّ ربي وربكم من كلام عيسى» ففي غايةِ ما يكون من البُعْد عن الأفهام، وكيف يَفْهم ذلك الزمخشري والسياق والمعنى يقودان إلى أنَّ «ربي» تابعٌ للجلالة؟ لا يتبادر للذهن - بل لا يُقْبل - إلا ذلك، وهذا أشدٌّ من قولهم «يؤدي إلى تهيئة العامل للعمل وقطع عنه» فآل قولُ الشيخ إلى أنَّ «اعبدوا الله» من كلام الله تعالى و «ربي وربكم» من كلام عيسى، وكلاهما مفسِّرٌ ل «أمرتَ» المسند للباري تعالى. وأمَّا قولُه «يَصِحُّ ذلك على حَذْف مضاف» ففيه بعض جودة، وأما قولُه: «إنَّ حلولَ البدل محلَّ المبدل منه غيرُ لازم» واستشهاده بما ذكر فغيرُ مُسَلِّم، لأنَّ هذا معارَضٌ بنصِّهم، على أنه لا يجوز «جاء الذي مررت به أبي عبد الله» بجرِّ «عبد الله» بدلاً من الهاء، وعَلَّلوه بأنه يلزمُ بقاءُ الموصول بلا عائدٍ، مع أنَّ لنا أيضاً في الربط بالظاهر في الصلة خلافاً قَدَّمْتُ التنبيه عليه، ويكفينا كثرةُ قولهم في مسائل: «لا يجوزُ هذا لأنّ البدل يَحُلُّ محل المبدل منه» فيجعلون ذلك علةً مانعةً، يَعْرف ذلك مَنْ عانى كلامَهم، ولولا خوفُ الإِطالة لأوردْتُ منه مسائل شتى.
وأمَّا قوله: «وكلُّ ما كان بعد» إلا «المستثنى به إلى آخره» فكلامٌ صحيح لأنها إيجابٌ بعد نفي فيستدعى تسلُّط ما قبلها على ما بعدها.
ويجوز في «أَنْ» الكسرُ على أصل التقاء الساكنين والضمُّ على الإِتباع، وقد تقدَّم تحقيقُه ونسبتُه إلى مَنْ قرأ به في قوله: ﴿فَمَنِ اضطر﴾ [الآية: ١٧٣] في
قوله: ﴿شَهِيداً﴾ خبر «كان» و «عليهم» متعلق به، و «ما» مصدريةٌ ظرفيةٌ أي: تتقدَّر بمصدر مضاف إليه زمان، و «دام» صلتها، ويجوز فيها التمامُ والنقصان، فإنْ كانت تامةً كان معناها الإِقامةَ، ويكون «فيهم» متعلقاً بها، ويجوزُ أن يتعلَّقَ بمحذوف على أنه حال، والمعنى: وكنتُ عليهم شهيداً مدة إقامتي فيهم، فلم يُحْتج هنا إلى منصوب، وتكون حينئذٍ متصرفةً، وإنْ كانت الناقصةَ لزمت لفظ المضيِّ ولم تكتفِ بمرفوع، فيكون «فيهم» في محلِّ نصب خبراً لها، والتقديرُ: مدةَ دوامي مستقراً فيهم، وقد تقدم أنه يقال: «دِمْتَ تَدام» كخِفْتَ تَخاف. قوله: ﴿كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ﴾ يجوز في «أنت» أن تكون فصلاً وأن تكونَ تأكيداً. وقرئ «الرقيب» بالرفع على أنه خبر ل «أنت» والجملةُ خبرٌ «ل كان»، كقوله:
١٨٥ - ٦- ويومٍ شَهِدْناه سُلَيْماً وعامراً | قليلٌ سوى الطعنِ النِّهالِ نوافِلُهْ |
١٨٥ - ٧-..................... | وكنتَ عليها بالمَلا أنْتَ أَقْدَرُ |
١٨٥ - ٨- على حينَ عاتبتُ المشيبَ على الصِّبا... فقلتُ: أَلمَّا أًصْحُ والشيبُ وازعُ
وخَرَّجوا هذه القراءةَ على أن «يوم» منصوبٌ على الظرف، وهو متعلق في الحقيقةِ بخبر المبتدأ أي: واقعٌ أو يقع في يوم ينفع، فيستوي هذا مع تخريج القراءة الأولى والثانية أيضاً في المعنى، ومنهم مَنْ خَرَّجه على أنَّ «هذا» منصوبٌ ب «قال» وأُشير به إلى المصدرِ فنصبُه على المصدر، وقيل: بل أُشير به إلى الخبر والقِصَص المتقدمةِ فيجري في نصبه خلافٌ:
قوله: ﴿صِدْقُهُمْ﴾ مرفوع بالفاعلية، وهذه قراءة العامة، وقُرِئ شاذاً بنصبه وفيه أربعة أوجه، أحدها: أنه منصوب على المفعول من أجله، أي: ينفعهم لأجلِ صِدْقِهم، ذكر ذلك أبو البقاء وتبعه الشيخ وهذا لا يجوزُ لأنه فاتَ شرطٌ من شروط النصب، وهو اتحاد الفاعل، فإنَّ فاعلَ النفعِ غيرُ فاعلِ الصدقِ، وليس لقائلٍ أن يقولَ: «يُنْصب بالصادقين فكأنه قيل: الذين يَصْدُقون لأجل صدقهم فيلزمُ اتحادُ الفاعل» لأنه يؤدي إلى أنَّ الشيء علة لنفسِه، وللقولِ فيه مجال. الثاني: على إسقاطِ حرف الجر أي: بصدقِهم، وهذا قد عَرَفْتَ ما فيه أيضاً من أنّ حَذْف الحرفَ لا يطَّرد. الثالث: أنه منصوب على المفعول به، والناصب له اسم الفاعل في «الصادقين» أي: الذين صَدَقوا صدقهم، مبالغةً نحو: «صَدَقْت القتال» كأنك وَعَدْتَ القتالَ